تفسير سفر العدد ١٦ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح السادس عشر
اغتصاب الكهنوت
لم يقف الأمر عند تذمر الشعب نفسه بل تسرَّب إلى بعض اللاويّين والرؤساء الذين أرادوا اغتصاب الكهنوت متهمين موسى وهرون بالكبرياء على الشعب وتمييزهما لأنفسهما عن بقية الجماعة.
- قورح وجماعته 1-3.
- موقف موسى 4-14.
- فرز الكهنوت الحقيقي 15-19.
- تأديب المزيفين 20-35.
- مجامر قورح وجماعته 36-40.
- تذمر الشعب 41-50.
- قورح وجماعته:
أراد قورح وداثان وأبيرام اغتصاب الكهنوت ومعهم 250 من رؤساء الجماعة ذوي اسم، قائلين: “إن كل الجماعة مقدَّسة وفي وسطها الرب، فما بالكما ترتفعان على جماعة الرب؟” [3]. لقد رأوا في تسلم موسى النبوة وهرون رئاسة الكهنوت تمييزًا لهما عن الجماعة المقدَّسة، فأرادوا أن يكون الكهنوت مشاعًا لا يقف عند سبط دون آخر أو إنسان دون غيره.
إن كان عامة الشعب غالبًا ما يُضرب بروح التذمر بسبب الأكل والشرب وشهوات الجسد، فإن أصحاب الاسم والعظماء يحاربون بضربة أقسى وأمَرّ ألا وهي “الكبرياء”. فقورح وهو من بني قهات الذين ميَّزهم الرب بحمل المقدَّسات الإلهيّة الثمينة روحيًا دفع به الكبرياء لاغتصاب الكهنوت ليس خدمة للآخرين بل عطشًا إلى الكرامة، إذ قال لموسى وهرون: “لماذا ترتفعان على جماعة الرب؟”، وكأن نظرته إلى الرتب الكنسية ليست نظرة خدمة وأبوة بل تسلط وكرامة!
استطاع قورح أن يثير داثان وأبيرام ومائتين وخمسين من رؤساء الشعب ذوي اسم، بل وأثار الجماعة كلها ضد موسى وهرون. للأسف أن المبتدعين والمنشقين على الكنيسة غالبًا ما يكونوا ذوي اسم ومواهب تنحرف بهم للهدم عِوَض البنيان، والانشقاق عِوَض الوحدة.
كانت نهاية قورح المتكبر وأيضًا داثان وأبيرام انشقاق الأرض وابتلاعهم أحياء، أي سقطوا إلى الهاوية. لهذا يُعلِّق القدِّيس إغريغوريوس أسقف نيصص قائلاً:
[يعلِّمنا الكتاب المقدَّس- كما أظن- إنه إذ يرفع الإنسان نفسه بعجرفة ينتهي بسقوطه أسفل الأرض! لهذا فليس بدون سبب تُعرَّف الكبرياء أنها صعود إلى أسفل[108]].
[إن كان الذين يرفعون أنفسهم فوق الآخرين بطريقة ما ينحطون إلى أسفل، إذ فتحت الأرض هوتها لتبتلعهم، فإنه ليس لأحد أن يناقش تعريف الكبرياء أنه سقوط دنيء[109]].
[إن نظرت إنسانًا يظهر نفسه طاهرًا يعلو فوق ألم الملذات، وبحماس عظيم يحسب في نفسه أفضل من غيره، متعطشًا نحو الكهنوت، فتحقق أن الذي تراه إنسان ساقط إلى الأرض بكبريائه المتشامخ[110]].
ويُعلِّق القدِّيس إكليمندس الروماني على موقف هؤلاء الرجال هكذا: [ألقى الحسد داثان وأبيرام حيين في الجحيم لأنهما أشعلا ثورة ضد موسى خادم الله[111]]. [من الأفضل أن يعترف الإنسان بخطاياه بدلاً من أن يقسو قلبه كما قست قلوب الذين ثاروا ضد موسى خادم الله فكان عقابهم علانية، إذ نزلوا أحياء في الجحيم وابتلعهم الموت[112]].
- موقف موسى:
“فلما سمع موسى سقط على وجهه” [2]. إذ تسلم رسالته من الله لا يقدر أن يتصرف إلاَّ بالرجوع إليه في اتضاع وانسحاق. بينما يرتفع قلب قورح وجماعته بالكبرياء يتضع موسى جدًا، وكأن الاتضاع يفرز الخادم الحقيقي من المزيف.
سلَّم موسى الأمر في يدي الله طالبًا منهم- حسب شهوة قلوبهم- أن يقدموا بخورًا بعد أن حذَّرهم من اغتصاب العمل الكهنوتي (ع 10). تقدَّم قورح في كبرياء قلبه مع المئة والعشرين رئيسًا يقدمون البخور، أما داثان وأبيرام فلم يقبلا أن يأتيا لمقابلة موسى متهمين إياه أنه يترأس على الشعب وقد جاء بهم إلى البريّة ليميتهم، ولم يأتِ بهم إلى الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً.
- فرز الكهنوت الحقيقي:
موسى النبي الحليم جدًا “اغتاظ جدًا، وقال للرب: لا تلتفت إلى تقدمتهما. حمارًا واحدًا لم آخذ منهم، ولا أسأت إلى أحدٍ منهم” [15]. لم يكن موسى مدافعًا عن نفسه، بل كان غيورًا على كهنوت الرب المغتصب وعلى شعب الله الذي يتعرض للتذمر بسبب كلامهم.
- تأديب المزيفين:
اعتزلت الجماعة مسكن قورح وداثان وابيرام، حيث انفتحت الأرض وابتلعت الرجال وكل ما لهم من نساء وأطفال، فهبطوا إلى الهاوية أحياء، أما المائتان وخمسون رئيسًا فخرجت نار من عند الرب وأكلتهم.
ليس شيء يحزن قلب الله مثل اغتصاب العمل الكهنوتي وإثارة انشقاق وسط الكنيسة، لهذا كان تأديب قورح وجماعته أقسى أنواع التأديبات، إذ انشقت الأرض لتبتلعهم، وكأنهم قد صاروا من جملة الشياطين التي تهبط تحت الأرض! يقول القدِّيس إيرينيئوس: [حقًا يجلب الهراطقة نارًا غريبة إلى مذبح الله، أي يجلبون تعاليم غريبة، لهذا يحترقون بنار من السماء كما حدث مع ناداب وأبيهو (لا 10: 1-2). أما الذي يقف ضد الحق، ويثير الآخرين ضد كنيسة الله، ويدخل مع الذين في الجحيم، إذ يبتلعه زلزال كما حدث مع قورح وداثان وأبيرام. أما الذين يشقون الكنيسة ويمزقون وحدتها فيتقبلون ذات العقوبة التي سقط فيها يربعام[113] (1 مل 14: 10)].
وللقديس كبريانوس تعليق على هذا الأمر وهو يتحدَّث عن الهراطقة ومسببي الانشقاق إذ يقول: [لقد عرف قورح وداثان وأبيرام الله ذاته الذي عرفه هرون الكاهن وموسى، وعاشوا تحت نفس الناموس الذي لهما وذات الإيمان، وكانوا يتضرعون لله الواحد الحقيقي ويسألونه متعبدين له، ومع هذا إذ تعدوا خدمة وظيفتهم ضد هرون الكاهن الذي قَبِل الكهنوت الحقيقي… وادعوا لأنفسهم سلطان تقديم الذبيحة ضُربوا ضربة إلهيّة وسقطوا في الحال تحت العقاب بسبب تصرفاتهم غير اللائقة وتقديمهم ذبائح مملوءة تجديفًا غير قانونيّة ضد الحق الإلهي، ولم تستطع الأمور الأولى أن تعفيهم من العقاب أو تفيدهم[114]].
ويرى القدِّيس كبريانوس أن عنف التأديب وقسوته كان لأجل تعليم الآتين من بعدهم[115]. هكذا يستخدم الله الشدة في بدء كل كسر لوصيّة معينة ليعلن مرارة كسرها ويحذِّر الأجيال القادمة بطريقة ماديّة ملموسة.
وللقديس كبريانوس أيضًا تعليق على هذا الأمر إذ يُحذِّرنا من خطيّة التذمر قائلاً: [يليق بنا أيها الإخوة الأحباء ألاَّ نتذمر، بل نحتمل بصبر وشجاعة كل ما يحدث، فقد كتب “الذبيحة لله روح منسحق؛ القلب المنكسر والمتواضع لا يرذله الله” (مز 51: 17)، وجاء في سفر التثنية: “لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم[116]” (تث 13: 3)…].
أما المائتان وخمسون رئيسًا فإذ أحرقوا بخورًا بغير استحقاق نزلت نار من عند الرب وأكلتهم.
لماذا أمر الرب أن تعتزلهم الجماعة؟ يجيب القدِّيس كبريانوس قائلاً: [أمر الرب موسى أن ينفصل الشعب عنهم لئلا بخلطتهم بالأشرار يسقطون معهم في الشر[117]].
ولماذا ابتلعت الأرض الرجال الأشرار ونساءهم وأولادهم وأطفالهم؟ إنه يمثل اقتلاع كل جذور الخطيئة العاملة في النفس (الرجال) والجسد (النساء) وطاقات الإنسان ومواهبه (الأطفال) فالخطيئة إذ تفسد النفس والجسد وطاقات الإنسان ومشاعره وعواطفه… الخ، يخسر الإنسان كل شيء!
لاحظ القدِّيسان ﭽيروم وأغسطينوس أن قورح يعني “جلجثة calvary” لهذا وإن كان قورح قد مات بخطيته مع زوجته وأولاده، لكن كان له أحفاد مباركين هم أبناء العريس المصلوب على الجلجثة، صاروا فرقة للتسبيح للرب، جاءت مزاميرهم كلها مملوءة فرحًا. يقول القدِّيس أغسطينوس: [أولاد قورح هم أولاد العريس المصلوب في موضع الجلجثة[118]]، ويقول القدِّيس ﭽيروم: [أي مزمور يرد فيه ذكر أبناء قورح في عنوانه يكون مزمورًا مفرحًا، ليس فيه شيء من الحزن. فإن كان الرب قد عاقب قورح وداثان وأبيرام بسبب مقاومتهم موسى، لكن لكن أبناء قورح إذ لم يقاوموا مثل أبيهم تباركوا بالفرح الأبدي[119]].
- مجامر قورح وجماعته:
إن كان الله قد أدَّب الكهنة المزيفين، أو مغتصبي الكهنوت، لكنه يرى في المجامر التي استُخدِمت لتقديم بخور باسمه القدوس قد تقدَّست. لهذا طلب من موسى النبي أن تُطرق هذه المجامر النحاسيّة ويُغشى بها المذبح النحاسي.
لماذا أمر الرب بذلك؟ يُجيب العلامة أوريجينوس بأن المجامر تشير إلى الكتاب المقدَّس الذي يسيء الهراطقة والمنشقون استخدامه، فيقدمون بخورًا مرذولاً. كأن العيب ليس في المجامر أو البخور وإنما فيمن يستخدمه. أما كونها من النحاس وليس من الذهب أو الفضة (مز 12: 6)، ذلك لأنها تقدم صدى الكلمات بغير قوة الروح، كقول الرسول بولس: “صرت نحاسًا يطن أو صنجًا يرن” (1 كو 13: 1). إذ تُطرق المجامر ويُغشى بها المذبح يظهر بالأكثر لمعان المذبح وبهاؤه، ويعلن العمل الشرير، ينكشف الحق من الباطل، الإيمان السليم من الهرطقات. [من كان يدرك أن النور حسن مالم يختبر ظلمة الليل؟ ومن الذي يُقدِّر حلاوة العسل مالم يذق شيئًا مُرًا؟… هكذا لا يمكن مجد الكهنة المخلصين أن يتلألأ إلاَّ بظهور عقاب الأردياء. كما قرأنا كل بار يبدو في أكبر عظمة أمام الله بمقارنته بغيره، فقد كُتب عن نوح أنه كان بارًا كاملاً في أجياله (تك 6: 9). بهذا يظهر أنه لا يوجد إنسان كامل بطريقة مطلقة، إنما يحسب بارًا “في أجياله”. يعلن أنه بار بمقارنته مع الآخرين. في رأيي بالنسبة للوط، كلما عظم فساد سدوم من يوم إلى يوم كان برّ لوط يتعظم. وفي السفر الذي بين أيدينا في دعوة الجواسيس للأرض الموعود بها عندما دفع العشرة الشعب إلى اليأس… بينما أعلن الاثنان الآخران- كالب ويشوع- الأخبار الحسنة وشجعا الشعب (عد 14: 6) على الاستمرار بعزيمة قويّة نالا مكافاة لا تفنى من قِبَل الرب… ما كان لقوة روحيهما أن تلألأ بهذه العظمة لو لم يظهر جبن العشرة الآخرين المملوءة خزيًا. أقول هذا كله من أجل مجامر المذنبين، فإنه يجب أن توضع على المذبح لكي يظهر مجد الأبرار أكثر ارتفاعًا بالمقارنة بانحطاط هؤلاء. بهذا تصير المجامر مثالاً للأجيال القادمة فلا يتكبر أحد ويعتد بذاته ويأخذ الاستحقاق الحبري دون أن يتسلمه من قِبَل الله… فلا يُغتصب المركز بالرشوة بل يصعد حسب ضمير استحقاقاته حسب إرادة الله[120]].
- تذمر الشعب:
مرة أخرى يتذمر الشعب على موسى وهرون بسبب تأديب الرب لهؤلاء الرجال المغتصبين للعمل الكهنوتي. هاج الكل على موسى وهرون واتهموهما بالقتل (ع 41)، الأمر الذي يكشف أولاً عن مدى تأثير قورح وجماعته على الجماعة كلها حتى أنها لم ترتدع بالرغم مما رأوه من تأديب إلهي يصدر من السماء (نارًا) ومن الأرض (تفتح فاها)، كما تكشف عن طبيعة هذا الشعب أو طبيعة الإنسان- خارج النعمة- أنه دائم التذمر.
إذ رأى الشعب كله في هذا الحال المُرّ طلب من موسى وهرون أن يخرجان عن الجماعة لكي يفنيها في لحظة (ع 45)، لكن الاثنان خرا على وجهيهما أمام الله، فتراءى مجد الرب وشفع موسى عن شعبه، وطلب من هرون أن يبخر بسرعة وسط الجماعة ليتوقف الوبأ!
لست أريد أن أكرر أن هذا السفر وهو يكشف طبيعة الإنسان المتذمر يكشف قلب موسى الملتهب حبًا، الدائم الشفاعة عن شعبه.
يلاحظ في هذه الأحداث الاتي:
أولاً: إذ اقترب الأذى من موسى وهرون بواسطة الشعب غطت السحابة الخيمة وتراءى مجد الرب. يقول العلامة أوريجينوس: [ما كان يظهر لهما مجد الرب لو لم يصيرا هدفًا للاضطهاد والشدائد ويحدق بهما الخطر حتى قاربا من الموت. إذن لا تأمل أن ترى مجد الرب وأنت نائم في راحة! أليس وسط هذه الصعوبات استحق الرسول أيضًا أن يرى مجد الله؟ ألا تذكر أنه دخل أكثر من مرة في ضيقات وأتعاب وسجون (2 كو 11: 23-27) وضُرب بالعصي ثلاث مرات ورُجم مرة وعانى من الغرق واحتمل أخطارًا في البحر، أخطارًا في الأنهار، أخطار لصوص، أخطارًا من إخوة كذبة. كلما كثرت الآلام ظهر مجد الله للذين يعانون منها بشجاعة[121]].
ثانيًا: شفاعة موسى وهرون عن الشعب واستجابة الرب لهما، إنما تشير إلى عمل الكلمة الإلهيّة أو الوصيّة (موسى مستلم الشريعة) وعمل العبادة (هرون الكاهن) في حياتنا، ففي المسيح يسوع كلمة الله والكاهن الأعظم نتمتع بالخلاص ويُنزع الغضب الإلهي عنا إن تمسكنا بوصاياه ومارسنا العبادة كما يليق.
ثالثًا: أحب موسى مقاوميه ومضطهديه، وطلب من هرون الكاهن أن يسرع ويقدم بخورًا وسط الجماعة لخلاصهم، وكأن موسى وهو يمثل عصر الناموس حمل فيه قوة الإنجيل (حب المقاومين مت 5: 44).
رابعًا: وقف هرون بين الموتى والأحياء يقدم بخورًا لكي يوقف عمل الموت في حياة الأحياء. إنها لحظات سعيدة عاشها هرون حين وقف رمزًا للمسيح غالب الموت. وكما يقول القدِّيس إمبروسيوس:[ماذا عن هرون؟ أي وقت كان فيه أكثر غبطة من ذلك الذي فيه وقف بين الأحياء والأموات، وبحضرته أوقف الموت عن العبور من أجساد الموتى إلى حياة الأحياء[122]].
خامسًا: ظهر البخور هنا كرمز للصلاة، لهذا يتنبأ ملاخي النبي عن تقديمه في كنيسة العهد الجديد قائلاً: “وفي كل مكان يقرب لاسمي بخور وتقدمة طاهرة” (مل 1: 11)، كما رأى القدِّيس يوحنا في العبادة السماويّة ملاكًا يقدم بخورًا في مجمرة من الذهب[123] (رؤ 8: 3-4).