تفسير المزمور ٣٣ للقمص تادرس يعقوب

المزمور الثالث والثلاثون

ترنيمة نصرة وفرح

ارتباطه بالمزمور السابق:

من الواضح أن هذا المزمور كُتب كتكملة للفكر الوارد في المزمور السابق، حيث يكشف عن أسباب إضافية لتهليل الأبرار وفرحهم في الرب.

في المزمور السابق يعلن المرتل التطويب لمن نال المغفرة عن خطاياه خلال المعمودية كما بالتوبة المستمرة والاعتراف، وقد خُتم المزمور بدعوة شعب الله المتكل عليه أن يفرحوا بالرب ويبتهجوا ويهتفوا؛ الآن يقدم لنا مزمور تسبحة يتحدث فيه عن حال المؤمن التائب وقد تفجرت في داخله ينابيع التسبيح والفرح الداخلي كعطية إلهية. يقول السيد المسيح: “الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية” (يو 4: 14). وكأننا لا نستطيع أن نختبر عذوبة التسبيح ما لم نسلك طريق التوبة ونعيشها.

إن كان المزمور السابق هو مزمور التوبة فأنه ينتهي بالدعوة إلى الفرح والبهجة والهتاف، أي إلى حياة التسبيح؛ بينما هذا المزمور وهو مزمور تسبيح ينتهي بالطلبة: “فلتكن رحمتك يارب علينا” [19]، أي طلب رحمة الله غافر الخطايا. وكأنه لا انفصال بين حياة التوبة وحياة التسبيح؛ هما حياة واحدة متكاملة، طريق الله الملوكي الواحد!

مزمور تسبيح حكمي ليتورجي:

إن كان أنقى أنواع الترنم هو التسبيح لله لأجل ذاته ومن أجل معاملاته مع شعبه، فإن هذا المزمور يُحسب مثلاً رائعًا للتسبيح. إنه سيمفونية تسبيح مجيدة مقدمة للرب الخالق والسيد والديّان والمخلّص[634].

رُبما قدم المزمور كتسبحة شكر من أجل التمتع بغلبة أو نصرة؛ أو تذكارًا لأعمال الله المجيدة في البرية بعد عبور البحر الأحمر، وذراعه الرفيعة مع شعبه. إنه أغنية حب يترنم بها كل قلب يختبر أعمال الله العجيبة معه، ورعايته الخاصة… يتطلع من السماء منشغلاً بمن هم في الأرض، يحتضنهم بالحب ليحملهم إلى سمواته!

اعتاد عازفوا الموسيقى في الهيكل أن يسبحوا بهذا المزمور كما على لسان السمائيين والأرضيين؛ يُعلنون عن فرح السمائيين بخالقهم واهب القوة، وعن إيمان الأرضيين الذين يمجدون الخالق المهتم بهم. تتناغم أعمال الخلق بكلمة الله مع أعماله عبر التاريخ ليخلص بذراعه الرفيعة.

يبدأ المزمور كما ينتهي بتقديم عنصرين من عناصر العبادة: تقديم ذبيحة شكر لله الملك العظيم والمجيد، والثقة فيه حيث يترجى الكل باتضاع في خلاصه.

ويمكن اعتبار مزمور التسبيح هذا حِكمي تعليمي، وفي نفس الوقت ليتورجي. يرى البعض أنه تسبحة خاصة بالأعياد، وُضع من أجل العيد الخاص بعقد ميثاق مع الله، يُحتفل به في بدء السنة الجديدة. إنه يمجد خطة الله العظيم في عنايته بشعبه، الأمر الذي يهب رجاءً في المستقبل. أنه تسبحة جديدة [3] تستخدم في المناسبات الخاصة بتجديد العهد مع الله.

كلمة الله في العهد القديم:

كلمة الله – كما هو مُعلن هنا – كائن يُعتمد عليه، محب، وأمين، يحقق كل مطالب واحتياجات الكون المخلوق خلال كنيسته. يجدد الكلمة حياتنا، خاصة خلال كلمات كتابه المقدس التي تُتلى مرة فأخرى في الاجتماعات الليتورجية.

البنية الليتورجية:

يقترح البعض البنية الليتورجية التالية:

«  دعوة للتسبيح ترنمها الجماعة كلها [1].

«  آيات [2-3] يتغنى بها خورس أول.

«  بواعث التسبيح:

    آيات [4-5] يرنمها خورس ثانٍ.

    آيات [6-9] يرنمها الخورس الأول.

    آيات [10-12] يرنمها الخورس الثاني، مُقتبسة عن التاريخ البشري بخصوص الأمم.

    الآيات [13-19] يرنمها الخورس الأول، مقتبسة عن التاريخ البشري بخصوص أشخاص.

« الآيات [20-21] خاتمها يرنمها الخورسان [1، 2].

« الآية [22] خاتمة ترنمها الجماعة كلها معًا.

الإطار العام:

  1. دعوة للتسبيح            [1-3].
  2. أمانة الله                 [4-5].
  3. عدالة الله مع الأمم       [6-9].
  4. صلاح الله              [20-22].
  5. دعوة للتسبيح:

أُختتم المزمور السابق بالحث على التسبيح لله بفرح وبهجة وافتخار، الآن يُفتتح المزمور بذات الدعوة، مقدمًا المرتل أسبابًا إضافية كبواعث للتسبيح.

“ابتهجوا أيها الصديقون بالرب،

للمستقيمين ينبغي التسبيح.

اعترفوا للرب بقيثار،

وبكينارة ذات عشرة أوتار رتلوا له.

سبحوا له تسبيحًا جديدًا؛

ورتلوا له حسنًا بتهليل” [1-3].

يلاحظ في هذه الدعوة الآتي:

  1. يرى البعض أن الكلمة العبرية المقابلة للفعل “ابتهجوا” هي في الأصل تعني: “ارقصوا فرحًا”، وهو تعبير قوي جدًا عن التهليل الحيّ[635]، حيث يهتز كيان الإنسان الداخلي طربًا من أجل اللقاء مع الله، كما رقص داود النبي أمام تابوت العهد (2 صم 6: 14؛ 1 أي 15: 29)، وكما ارتكض (رقص) الجنين في أحشاء القديسة أليصابات عند زيارة القديسة مريم لها.

هذا التسبيح أو رقص الكيان الداخلي هو هبة إلهية كثمر للروح القدس الواهب الفرح.

  1. سرّ البهجة أو التسبيح هو الرب: “ابتهجوا… بالرب“؛ نفرح به لا بذواتنا، نفرح بحضرته لا ببركاته الزمنية. فالفرح بالأمور الزمنية زائل، والفرح بالخطية مُهلك، أما الفرح بالرب فأبدّي، هو عمل السمائيين ولغتهم. من يُريد مشاركتهم أمجادهم فليتعلم لغتهم ويبدأ هنا بالفرح الداخلي وتسبيح القلب واللسان.
  2. للمستقيمين ينبغي التسبيح“: إن كان التسبيح هو هبة إلهية، عطية الروح القدس للمؤمنين ليمارسوا الحياة السماوية المفرحة، فإنه في نفس الوقت التزام، إذ يليق بالمؤمن الذي يمارس الحياة التقوية أن يتمتع بامتيازه، فيسبح الله كملاك متهلل.

التسبيح الصادر عن قلب مقدس للرب هو ثوب العرس الذي يرتديه المؤمن أمام العرش الإلهي، أما الصادر عن قلب شرير فيشبه خزامة من ذهب في فنطيسة خنزيرة (أم 11: 22).

  1. استخدام آلات التسبيح الداخلية“: يُطالبنا المرتل أن نستخدم قيثارة وكينارة ذات عشرة أوتار.

ربما يثور السؤال هنا: هل تستخدم كنيسة العهد الجديد الآلات الموسيقية في العبادة الليتورجية؟

يقول وليم بلامر W. Plumer:

[من المؤكد أن المسيحيين الأوائل لم يستخدموا أية آلات عزف موسيقية في عبادتهم العامة. وهذا واضح من تعاليم الشهيد يوستين وذهبي الفم وثيؤدورت. في حديث ذهبي الفم على المزمورين 143، 149، وثيؤدورت على مزمورنا الحالي الآية [2] يُقدمان شهادة حاسمة في هذا الأمر… يقول ذهبي الفم: [(كانت الآلات الموسيقية) مسموحة فقط لليهود، حيث كانت الذبيحة قائمة، وذلك بسبب ثقل نفوسهم وغلاظتها. تنازل الله إلى ضعفهم، لأنهم كفوا مؤخرًا عن عبادة الأوثان، أما الآن فنحن نستخدم أجسادنا عوض الأرغن، لنسبحه].

كان من المؤكد عدم استخدام الأرغن في الكنائس المسيحية في أي موضع، حتى استخدمت مؤخرًا في منتصف القرن الثالث عشر. عبّر عن ذلك توما الأكويني بقوله: [لا تستخدم كنيستنا آلات موسيقية كالعود والقيثارة، في التسبيح لله حتى لا تبدو متهودة]. يقر كل من البروتستانت والكاثوليك بهذه الشهادة كأمر قاطع عن حقيقة عدم استعمال الآلات حتى زمان شولمان العظيم عام 1250 م.

واضح جدًا من الكتاب المقدس أن الآلات الموسيقية كانت تُستخدم قبل زمن موسى لتعبر عن مشاعر القلب الفرحة (أي 30: 31)[636].

كيف إذن نسبح الله روحيًا بقيثارة وكنارة ذات عشرة أوتار؟

أ. عرفت الكنيسة منذ بدء انطلاقها اسم “يسوع” بكونه مصدر الفرح والقوة، يرددونه بالروح والحق لينعموا بحضرته، وكان الاسم هو قيثارة الروح التي يُعزف عليها لحن البهجة والخلاص.

v   ما هذه القيارة ذات العشرة أوتار إلا كلمة “يسوع” التي أُعلنت خلال حرف عشرة (وهو حرف اليوتا الذي يمثل رقم 10 في اليونانية، أول حروف كلمة إيسوس)[637].

القديس أكليمندس الاسكندري

ب. يذكر المرتل آلتين موسيقيتين هما القيثارة والكينارة ذات العشرة أوتار، ربما ليعلن أنه يلزمنا أن نسبح الله بأجسادنا كما بنفوسنا؛ أو بألسنتنا كما بقلوبنا، أو جهارًا كما سرًا.

يسبح الصديقون الرب بأجسادهم التي يقدمونها ذبيحة حية مبقبولة لديه (رو 12: 1). يقول القديس أغسطينوس: [استخدموا أعضاءكم الجسدية لخدمة محبة الله والقريب، ومن ثم تنفذون الوصايا الثلاث (الخاصة بمحبة الله) والوصايا السبعة (الخاصة بمحبة القريب)]، [ليته لا يفكر أحد في الآلات الموسيقية التي للمسارح، فالأمر هنا يشير إلى أمور داخلية، كما قيل في موضع آخر: “فيّ يا الله أرّد لك التسبيح”].

تشير القيثارة إلى الجسد المقدس الذي يمجد الله، يشكره ويسبحه لا باللسان فحسب، بل وبكل كيان الإنسان: الجسد بحواسه الخمس والنفس بحواسها أو قدراتها الداخلية الخمس. وكأن رقم 10 يشير إلى الجسد والنفس والعقل والعواطف والأحاسيس الخ… الكل يسبح الله بتناغم وانسجام بقيادة الروح القدس خلال القدرات المنظورة وغير المنظورة.

يرى القديس ديديموس الضرير أن نغمة القيثارة تصدر عن أسفل أطرافها فتشبه الجسد الذي وُجد من الأرض، أما الكينارة فيُنغّم بها من أعلى أطرافها لتشير إلى النفس المحلقة في السماويات بروح الشكر.

ج. رأينا العشرة أوتار تشير إلى الوصايا العشرة، فمن لا يطيع الوصية يكون أشبه بقيثارة بلا أوتار لا يمكن أن تقدم تسبحة عذبة تفرح السماء!

د. تشير القيثارة ذات العشرة أوتار إلى الكنيسة التي يتمتع أعضاؤها بمواهب متعددة، كأوتار متباينة، تصدر نغمات مختلفة لكنها منسجمة معًا، تقدم سيمفونية عذبة بالروح القدس واهب الوحدة والتناغم.

  1. تسبحة جديدة: “سبحوا له تسبيحًا جديدًا” [3].

كثيرًا ما نقرأ عن التسبحة الجديدة في سفر المزامير (96: 1؛ 98: 1؛ 149: 1)؛ كما نسمع عن الترنيمة الجديدة في السماء (رؤ 5: 9؛ 14: 3).

إن كانت الجبال ترنم للرب (إش 55: 12)، وأيضًا الأودية (مز 65: 13)، وأشجار الوعر (1 أي 16: 33) وكواكب الصبح مع بني الله (أي 38: 7)، إذ الكل، السمائيون والأرضيون؛ الخليقة العاقلة والجامدة، يسبحونه بكونه خالقهم المهتم بالكل؛ فإننا نحن الذين تمتعنا بعمله الخلاصي كمراحم جديدة نختبرها كل يوم في معاملاته معنا، نسبحه تسبيحًا جديدًا.

يشير هنا إلى “تسبحة جديدة” دون إشارة إلى آلات موسيقية، لأنها تسبحة سماوية لا تحتاج إلى آلات موسيقية أرضية.

يسألنا المرتل أن نسبحه تسبيحًا جديدًا ينبع عن الإنسان الداخلي، دائم التجديد بعمل الروح القدس. نسبحه من أجل مراحمه الجديدة كل صباح، إذ يشرق شمس البر فينا، واهبًا إيانا إستنارة روحية؛ نسبحه بإنساننا الجديد إذ صُلب الإنسان القديم بأعماله الشريرة!

الجِّدة هنا تُفهم حرفيًا على أنها دور جديد يُعطى للتسابيح القديمة، أو خبرة جديدة لرعاية الله الواهب الخلاص جديدًا في حياتنا خلال الصليب.

v   أنتم الآن تعرفون الأغنية الجديدة: الإنسان الجديد، العهد الجديد، الأغنية الجديدة!

لا تنتمي الأغنية الجديدة إلى الإنسان العتيق؛ فأنه لا يقدر أن يتعلمها إلا الإنسان الجديد، ذاك الذي كان منتميًا قبلاً للقديم وقد وُلد ثانية للعهد الجديد الذي هو ملكوت السموات.

v   غنوا تسبحة نعمة الإيمان… غنوا بملء الحيوية له من أجل الفرح ذاته.

القديس أغسطينوس

يليق بمن يترنم بتسبحة الخلاص الجديدة أن يتهيأ لها بالحياة المقدسة كآلة عزف لائقة، وألا يمارسها بتراخٍ بل بقوة الروح، بهتاف القلب. لذا يوصينا المرتل: “رتلوا له حسنًا بتهليل“. بقوله “حسنًا” يعني تهيئة القلب مع كل طاقات الإنسان لتُصدر نغمات روحية تفرح السماء؛ وبقوله “بتهليل” يعني هتاف النصرة والبهجة برؤية الملك الغالب حاّلاً في قلوبنا!

  1. أمانة الله:

“لأن كلمة الرب مستقيمة،

وكل أعماله بالأمانة.

يحب الرحمة والحكم.

امتلأت الأرض من رحمة الرب” [4-5].

يقدم لنا أحد الدوافع التي تبعث فينا روح التسبيح ألا وهو تمتعنا بكلمة الله. فالكلمة الإلهي – كما يقدمه المزمور، ليس صوتًا أو حروفًا منزلة، إنما كائن حيّ له السّمات الإلهية، فهو مستقيم، عامل بالأمانة، محب للرحمة والعدل، خالق السماء والأرض [6]. أنه يستحق كل تسبيح من خليقته التي تلتقي به خلال أعماله العادلة المملؤة حنانًا وحبًا.

v   كلمة الرب صادقة، إنها قادرة أن تجعلكم على حال لا تقدرون أن تكونوا عليه من ذواتكم… يجب ألا يتصور إنسان ما أنه ينال إيمانًا بفضل أعماله الذاتية، فإنه بالإيمان ذاته يمكن لعمل ما أن يكون مرضيًا لدى الله.

القديس أغسطينوس

v   “كل أعماله بالأمانة”؛ ماذا يعني هذا؟ إن السموات وأنظمتها تجدها “مرشدًا إلى الإيمان”، فإنها تشهد لصانعها. وإن رأيتم نسق الأرض، فأنها تزيد إيمانكم بالله. مع هذا فأنه ليس من خلالنا نحن بعيوننا الجسدية نؤمن به، وإنما بقوة العقل ندرك غير المنظور خلال دلائل المنظورات[638].

القديس باسيليوس الكبير

“يحب الرحمة والحكم (العدل)” [5].

استعلن حبه وعدله في الخليقة، وفي تدبيره الإلهي للكون كله، وبالأكثر يسطعان ببهاء لا ينطق به في عمله الخلاصي.

ما أعجب كلمة الله المستقيم، لم يخلق شيئًا دنسًا أو منحرفًا! كل انحراف هو بسبب خطايانا، وكل فساد هو من صنع إرادتنا الذاتية! إن رجعنا إليه عادت الاستقامة إلى حياتنا، بل وإلى أرضنا؛ فإنه رحوم ينتظر إعلان حبه وحنانه دون إلزامنا أو قهرنا بالعودة إليه. عندما اجتاز مجد الرب أمام موسى تلامس النبي مع مراحم الله العجيبة وعدله، فقد قيل: “الرب إله رحيم، ورؤوف، بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء! حافظ الإحسان إلى ألوف! غافر الإثم والمعصية والخطية؛ ولكنه لن يبرئ إبراءً” (خر 34: 5). تحققت رحمة الله وأيضًا عدله على الصليب، حيث قدم كلمة الله حياته مبذولة لأجلنا، وقد دفع الثمن بالكامل. بالصليب “امتلأت الأرض من رحمة الله” [5]، إذ لم يعد الإيمان قاصرًا على شعب معّين، بل قبلت الشعوب الإنجيل، وتهللت برحمة الله الفائقة. صار ممكنًا لكل إنسان أن يدعو الرب فيخلص، ملتقيًا مع مخلصه أينما وُجد.

رحمة الله وعدله لا يفترقان؛ هو كلّي الرحمة وفي رحمته عادل؛ وكلّي العدل، وفي عدله رحوم. غير أنه يمكننا القول بإننا نعيش في عهد النعمة حيث تتجلى مراحم الله لتنتشلنا من هوة الهلاك ليحمل هو بعدله ثمن خطايانا، أما في الدهر الآتي فيحكم كديّانٍ ليجازي بعدله كل واحد حسب أعماله. من يقتني الرحمة الآن يفلت من الحكم، ومن يتهاون بالرحمة يسقط تحت العدل الإلهي.

v   “يحب الرحمة والعدل“. لأنه يحب، يجب عليكم أن تختبروا تلك الرحمة وذاك العدل. الآن هو زمان رحمة؛ أما فيما بعد فيكون العدل.

القديس أغسطينوس

v   إنه رحوم، لكنه هو ديان أيضًا، لأن الرب “يحب الرحمة والحكم” كما يقول المرتل…

أنتم ترون كيف بفطنة يهب الرحمة؛ لكنه ليس رحومًا دون عدل، ولا هو عادل دون الرحمة، لأن الرب رحوم وعادل (مز 115: 5)[639].

القديس باسيليوس الكبير

  1. عدالة الله:
  2. عدالة الله مؤسس السموات وواهبها القوة:

إن كانت الأرض قد امتلأت من رحمة الرب [5]، فإنه يليق بالأرضيين ألا يستهينوا بطول أناته ورحمته، إنما يجب أن يتَّقوه بخشية [8] بكونه خالق السماء وكل جنودها [7]، يأمر فيكون [9].

“بكلمة الرب تشدّدت السموات،

وبروح فيّه كل قواتها” [6].

الله الذي يُطيل أناته على الإنسان الترابي هو خالق السموات العلوية بكل قواتها؛ بمعنى أنه ليس في عوز إلى خدمة الإنسان، إنما في تنازله يحب الإنسان ويهتم بخلاصه وأبديته. وربما أراد المرتل أن يؤكد للإنسان أنه لن يفلت من العدالة الإلهية، فأن السموات بكل علوها وكل إمكانياتها وقدراتها هي من صنعه… إلى أين يهرب؟ وأية قوة تسنده إن قاوم الخالق؟

يرى القديسون أثناسيوس الرسولي وباسيليوس وغريغوريوس أسقف نيصص وأمبروسيوس وأغسطينوس في هذه العبارة إشارة إلى الثالوث القدوس: الرب وكلمته وروحه.

v   عليكم إذن أن تدركوا ثلاثة: الرب الذي يُعطي أمرًا، والكلمة الذي يخلق، والروح الذي يُثبت[640].

القديس باسيليوس الكبير

v   يوجد هنا تلميح للثالوث القدوس معلنًا!

البابا أثناسيوس الرسولي

كلمة الله المخلص الذي نزل إلينا هو خالق السموات… “بكلمة الرب تشدَّدت السموات”.

v   و”قال الله” مشروحة في “الكلمة”، إذ قيل: “كل شيء بحكمة صنعت” (مز 104: 24)؛ “بكلمة الرب تشددت السموات”، “رب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء ونحن به”

(1 كو 8: 6)[641].

البابا أثناسيوس الرسولي

v   لأن العناية بكل الأشياء تُنتسب طبيعيًا إلى ذاك الذي به خُلقت، ومن هو هذا (الذي خلق كل الأشياء) إلا كلمة الله الذي قيل عنه في مزمور آخر (مز 8؛ 33: 6): “بكلمة الرب صُنعت السموات وبروح فيّه كل قواتها”. فقد أخبرنا أن كل شيء به وفيه كان[642].

البابا أثناسيوس الرسولي

v   “كل شيء به كان”؛ ويقول داود: “بكلمة الرب تأسست السموات” [6]. إذن ذاك الذي يدعو ابن الله خالقًا حتى للسموات، يوضح أن كل شيء صُنع بالإبن، حتى لا يفصل الإبن عن الآب بأية وسيلة في تجديد خلائقه، بل يوحَّده مع الآب[643].

البابا أثناسيوس الرسولي

v   لا شك أن كل الأمور في السموات تستمد قوتها في الروح القدس، حيث نقرأ “بكلمة الرب تشدّدت السموات، وبروح فيّه كل قواتها” [6]. فهو إذن فوق الكل، الذي منه تصدر كل قوة الأشياء السماوية والأرضية.

إذن، الذي هو فوق الجميع لا يخدم (يُستبعد)، ومن لا يخدم فهو حرّ، ومن هو حرّ فله ميزة السيادة (الربوبية)[644].

القديس أمبروسيوس

v   الله لا يحتاج إلى شيء من كل هذه الأمور؛ ولكنه هو ذاك الذي بكلمته وروحه يخلق ويدبر كل شيء ويحكمها، ويأمر فتُوجد[645]

القديس إيريناؤس

v   كل شيء، سواء كانت ملائكة أو رؤساء ملائكة أم عروشًا أم سلاطين، جميعها تأسست وخُلقت بواسطة ذاك الذي هو الله فوق الجميع، وذلك خلال كلمته، كما أشار يوحنا. فإنه عندما تحدث عن كلمة الله بكونه في الآب، أضاف: “كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان” (يو 1: 3). أيضًا عندما عدَّد داود تسابيح (الله)، ذكر بالاسم كل ما اشرت إليه: السموات وقواتها. فإنه “أمر فخُلقوا؛ هو قال فكانوا”. من الذي أمر؟ بلا شك، الكلمة! إذ يقول: “به تأسست السموات، وبروح فيّه كل قواتها”[646].

القديس إيريناؤس

الثالوث القدوس هو الخالق وهو الذي جدد خليقته خلال العمل الخلاصي، والذي يتحقق في مياه المعمودية بالدفن مع السيد المسيح والتمتع بعمل الروح القدس (يو 3: 3-6).

v   خلق الإنسان مرة أخرى بالمعمودية، لأنه إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة[647].

القديس باسيليوس الكبير

v   ليس بأم وأب، ليس باجتماع بشر، ولا بالآم المخاض نولد ثانية، ولكن من الروح القدس تُصنع أنسجة طبيعتنا الجديدة، وفي الماء نُشكَّل، ومن الماء نولد سرًا كما من الرحم…

الرحم يحتاج إلى زمن كثير يتشكل فيه الجسد، أما الماء والروح فمنهما تتشكل حياة الروح، في لحظة، في طرفة عين[648].

القديس يوحنا الذهبي الفم

إذ يتحدث المرتل عن كلمة الله كخالق ومؤسس للسموات لا يرفع القديس أغسطينوس عينيه إلى جلد السماء بل يدخل بنظراته إلى أعماق نفسه ليرى السموات الداخلية التي أسسها السيد المسيح بدمه الثمين، فيقول: [من نفس الإنسان البار ينظر ربنا بالرحمة إلى كل الذين يولدون في جدَّة الحياة].

  1. الله ضابط أعماق المحيطات وحافظ مياهها كما في زق صغير:

“الجامع مياه البحار كأنها في زق،

ووضع الأعماق في كنوز” [7].

إن كانت مراحم الله التي ملأت الأرض تحثنا على تسبيحه، فأن رحمته كما قلنا لا تُعزل عن عدله، فهو الإله المخوف العادل؛ إن حاول إنسان أن يهرب إلى السماء بارتفاعها وقدرتها يجد الله مؤسسها وواهبها القوة، وإن غاص إلى أعماق المحيطات لعله يختفي من وجه الديان يجد كل أعماق البحار والمحيطات في عيني الله أشبه بقليل ماء في زق صغير تحت بصره. إن كانت المياه سهلة السكب والتسرب لكنها في قبضة يدّ الله القوية. الله هو جامع المياه والعارف أحجامها.

تُشير مياه البحار هنا إلى الاضطهاد القائم ضد الكنيسة، الذي تثور أمواجه وتياراته ضدها. أما رب الكنيسة الجامع المياه فلا يمنع الضيق لكنه يضبط سطوته ويحوّل مرارته إلى عذوبة تستحق أن تجمع في زق كشيء ثمين وتُحسب كنوزًا ثمينة.

v   بينما كان البحر قبلاً في هياج بلا ضابط، إذا بمرارته تتوقف… لأن ذاك الذي غلب في الرسل، والذي وضع للبحر حدًا… جعل فيضانه (تياراته) تلتقي مع بعضها البعض لتحطم الواحدة الأخرى.

القديس أغسطينوس

إن كان الله يسمح بالضيقات فهي كمياه البحار أو المحيطات التي يمكن أن تبتلع تياراتها كثيرين، لكنها هي بركة في حياة البشرية التي تعرف كيف تنتفع منها، وقد وضع الله لها حدودًا لا تتجاوزها، إذ قيل:

“أإياي لا تخشون يقول الرب أو لا ترتعدون من وجهي، أنا الذي وضعت الرمل تخومًا للبحر فريضة أبدية لا يتعداها، فتتلاطم ولا تستطيع، وتعج أمواجه ولا تتجاوزها؟!” (إر 5: 22).

“من حجز البحر بمصاريع حين اندفق فخرج من الرحم؟!” (أي 38: 8).

“صنعت (للمياه) حدًا فلا تتعداه، ولا ترجع فتغطي الأرض” (مز 103: 9).

اليوم يرى العلماء أنه لو أختل توازن المسافة بين الأرض والقمر لحدث مدّ وجزر في المحيطات تغرق كل الكرة الأرضية… لقد وضع الله للمياه حدودًا!

إن كانت أعماق المحيطات مرعبة للغاية، حتى حسب القدماء أن مركز الشيطان في المياه، ومملكته تقوم في الأعماق، فدعوه بالتنين العظيم، لكن المرتل يرى في المياه مخازن خيرات أقامها الله لمحبوبه الإنسان. وفي العهد الجديد نرى مياه نهر الأردن ينبوع الميلاد الجديد حيث فتح لنا الرب فيها أبواب المعمودية ككنز ثمين! الآن نفهم قول المرتل: “وضع الأعماق في كنوز” [7].

  1. الله مستحق كل خشوع:

الله خالق السماء العلوية وواهبها القوة، وضابط أعماق المياه ومحوّل مرارتها إلى عذوبة، هو بالحق كائن مخوف جدًا، سيد مهوب للغاية، مجده لا نهائي. يجب أن تقدم له العبادة بوقار؛ إحساناته نباركها بغير فتور؛ سخطه غير المدرك مرهب. يقول المرتل:

“فلتتق الرب كل الأرض،

ولتتزعزع منه كل سكان المسكونة.

لأنه هو قال فكانوا.

هو أمر فخُلقوا” [8-9].

v   فليرتعد كل سكان الأرض بسبب حالهم السابق، إذ كانوا يخدمون الأوثان.

القديس أثناسيوس الرسولي

لنخشه كخالق السماء والأرض بحكمة وعدل؛ ولنخشه أيضًا كمخلص أقامنا أولادًا وبنينًا للآب؛ نخاف أن نجرح مشاعر أبّوته الحانية أو نسيء إلى بره الأبدي.

أخيرًا يترنم المرتل لأن الله يخلق بكلمته.

v   هذه (الأرض) أيضًا خُلقت بكلمته، كما يخبرنا الكتاب المقدس في سفر التكوين، أنه صنع كل شيء، لاصقًا كلمتنا بكلمته[649].

القديس إيريناؤس

معاملات الله مع الأمم:

إذ يتحول المزمور إلى التأمل في التاريخ يبرز جلال قوة الله ليس بأقل مما يبرزه عمل الخلق في الطبيعة. الله القدير في خلقه للسماء والأرض هو القدير في رعايته وعنايته بالإنسان عبر التاريخ. ترى عينا الإيمان يدّ الله خلف صراعات الأمم وارتباطاتها، هذه اليد التي تشكل تاريخ العالم حسب غايته الأبدية[650]. التاريخ هو امتداد لعمل

الخلق، يُظهر بأكثر كمال عدالة الله بتذكر وعود حبه الثابت.

في هذا المزمور، بعد تقديم قدرة الخلق التي تخبرنا عن عظمة وجوده، يشير إلى معاملاته مع خلائقه كموضوع تسبيح وحمد، بكونه كلّي الحكمة، الناظر إلى كل شيء، وحاكم الأمم جميعًا.

“الرب يُشتت آراء الأمم،

ويرذل أفكار الشعوب،

ويرذل مؤامرة الرؤساء.

وأما رأي الرب فهو يكون إلى الأبد؛

وأفكار قلبه من جيل إلى جيل” [10-11].

الله لم يخلق العالم بكل قوانينه الطبيعية الجبارة ليتركه ويعتزله، إنما خلقه ليحركه بقوانينه، واهبًا الإنسان كمال الحرية، ويبقى الخالق راعيًا ومدبرًا لخليقته… قد يترك الأشرار يفكرون ويخططون وربما يبدأون مؤامراتهم عمليًا، لعلهم يرجعون عن شرهم ويتوبون. فإن أصرّوا يتدخل في اللحظة الحاسمة إما ليحوّل شرهم إلى بركات لأولاده أو يوقف المؤآمرات ويبددها، وكما جاء في إشعياء النبي:

“هكذا يقول السيد الرب: لا تقوم، لا تكون” (7: 7).

“هيجوا أيها الشعوب وانكسروا، واصغي يا جميع أقاصي الأرض. احتزموا وانكسروا. تشاوروا مشورة فتبطل. تكلموا كلمة لا تقوم، لأن الله معنا” (8: 9-10).

لقد سبق فأبطل مشورة أخيتوفل ضد داود النبي (2 صم 17: 23)، وتدبير هامان ضد مردخاي وشعبه (إس 6، 7)، وخطة دقلديانوس ضد الكنيسة في العالم كله! في كل جيل يُقاوَم الله في أولاده، لكن لن تدوم المقاومة، إذ ينتهي الضيق ويتمجد أولاد الله إلى الأبد. تنتهي حكمة الأشرار إلى لا شيء أما خطة الله للخلاص فتتحقق وتثبت، إذ قيل لنفوس الذين قُتلوا من أجل كلمة الله “أن يستريحوا زمانًا يسيرًا أيضًا حتى يكمل العبيد رفقاؤهم واخوتهم أيضًا العتيدون أن يُقتلوا مثلهم” (رؤ 6: 11). يحقق الله خطته بكل الطرق، حتى وإن كان بعضهم يستشهدون! عيناه على أولاده حتى في لحظات آلامهم واستشهادهم.

أولاد الله لا يرتبكون بسبب مؤامرات الأشرار وخططهم، فإن التاريخ هو في يديْ الله أبيهم كلّي الحكمة وكلّي القدرة وكلّي الحب. هو قادر أن يُحطم مشورتهم بإبطالها أو تحويلها إلى الخير حتى وإن سمح لهم بقتل أولاده… إنما ما يشغلهم هو “الطوبى” التي صارت لهم لا عن برّهم الذاتي وإنما عن إختيار الله لهم ليكونوا شعبه وأولاده وهو يكون لهم إلهًا وأبًا.

“طوبى للأمم التي الرب إلهها،

والشعب الذي اختاره ميراثًا له” [13].

لنفرح ولنبتهج باختيار الله لنا، ليكون نصيبنا، ونحن نكون نصيبه، نُحسب شعبه، يشهد المرتل بفرح أن الله يعلن ذاته لنا بكونه إلهنا. نقتنيه كمصدر بركتنا، حمايتنا، إرشادنا، سلامنا، فرحنا، نجاحنا، إستقرارنا، فلا نعتاز إلى شيء.

v   “طوبى للأمة التي الرب إلهها” [12]. سمعتم أن أمته تمتلكه… الآن تسمعون أنه يمتلكهم: “الشعب الذي اختاره ميراثًا له“.

طوبى للأمة فيما تمتلكه، وطوبى للميراث فيمن يمتلكه.

القديس أغسطينوس

هكذا يسِّبح المرتل الله من أجل الملكية المتبادلة: نحن نمتلكه نصيبًا لنا، وهو يمتلكنا ميراثًا له!

ليكن الرب هو إلهي، أمتلكه فلا أطلب شهوة جسد، ولا محبة غنى العالم، ولا مجدًا باطلاً، ولا نظرة عطف بشري؛ وليقبلني ميراثًا له، يُسر بعمله فيّ، وبره الساكن فيّ، وفرح ملكوته في أعماقي. ليتني أصير عبدًا له فلا أستعبد لسادة كثيرين. عبوديتي له هي كمال الحرية الداخلية!

إذ نتبادل الحب والملكية عيناه لا تفارقانني، إذ يقول المرتل:

“نظر الرب من السماء فرأى جميع بني البشر؛

من مسكنه المهيأ نظر إلى جميع سكان الأرض” [13-14].

حينما نتحدث عن تطلع الله للبشر يلزم أن نميز بين نوعين من النظرات، نظرة الله كخالق وفاحص كل الأمور، ونظرته الواهبة النعم للنفوس التي تقبلت البنوة له. الله عارف الكل، فاحص القلوب والكلى جميعها، لكن له معرفة الالتصاق والاتحاد بمن قبلوه أبًا ومخلصًا. الله حاضر في كل مكان لكن له الحضرة الواهبة النعم في قلوب مؤمنيه العاملين بالمحبة.

الله ينظر إلى كنيسته، يعرفها كعروس له، حاضر فيها بكونها مملكته على الأرض؛ وهو أيضًا ينظر ويفحص دقائقه الخفية، ويعرف أسراره، وحاضر في كل موضع؛ لكن شتان بين معاملاته مع طالبيه ومعاملاته مع جاحديه.

يتطلع الله إلى شعبه كأب نحو أولاده المحبوبين وليس كمتفرج سلبي. إنه يرانا في إبنه الحبيب، فيجدنا نحمل بر المسيح، ونُحسب موضع سروره.

إنه يتطلع “من السماء“، “من مسكنه المهيأ“؛ أي من قلوب مؤمنيه والكارزين به بكونهم موضع سكناه. ليس فقط ينظر إلينا كأب، وإنما يسكن فينا متطلعًا من خلالنا إلى الغير.

v   “من مسكنه المهيأ نظر إلى جميع سكان الأرض” [13]. يتطلع إلينا من خلال الكارزين بالحق. ينظر إلينا من خلال الملائكة الذين أرسلهم، بكونهم جميعًا بيته. إنهم جميعًا مسكنه الدائم، بكونهم السموات التي تُظهر مجد الله.

القديس أغسطينوس

إذ يتطلع إلينا ينظر إلى الأعماق، إلى سرائر القلب الخفية بكونه خالق النفس الداخلية، يعرف أعمالنا لا كبني البشر يحكمون حسب الظاهر، وإنما من خلال النية الداخلية، دون محاباة لملك أو عظيم.

“الذي هو وحده خلق قلوبهم؛

الذي يفهم جميع أعمالهم.

لا يخلص ملك من أجل عظم قوة.

لا ينجو جبار بكثرة جبروته.

خلاص الفرس كاذب

وبكثرة قوته لا يخلص” [15-17]

صانع القلب يعرف كل أسراره، وكما يقول الحكيم: “قلب الملك في يدّ الرب كجداول مياه حيثما شاء يميله؛ كل طرق الإنسان مستقيمة في عينيه، والرب وازن القلوب” (أم 21: 1-2). ويقول المرتل: “يارب قد جربتني وعرفتني؛ أنت عارف جلوسي وقيامي؛ أنت فهمت أفكاري من البعد… لم يختفِ عنك عظمي الذي صنعته بالخفاء” (مز 139).

v   “الذي هو وحده خلق قلوبهم” [15]. بيد نعمته، بيد رحمته صنع قلوبنا وشكّلها وصنعها قلبًا فقلبًا، معطيًا لكل واحد قلبًا منفردًا، دون أن يفقدنا الوحدة معًا…

الذي يفهم جميع أعمالهم“… يرى الإنسان عمل آخر بتصرفاته الجسدية (الظاهرة) أما الله فيرى عمق القلب. فأنه إذ يرى ما بالداخل قيل “الذي يفهم جميع أعمالهم”.

القديس أغسطينوس

إنه الخالق العارف أسرارنا والقادر على خلاصنا، إذ يقيمنا ملوكًا، مخلصًا إيّانا لا بقوتنا الذاتية ولا بجبروتنا ولا بالخيل والمركبات ولا بإمكانياتنا العقلية أو المادية أو الفنية وإنما بذراعه الرفيعة، بسكناه فينا.

لقد وهبنا بعطية الروح القدس نعمة الملوكية، لنصير ملوكًا روحيين، متحدين بملك الملوك، متكلين عليه.

الخلاص حتى من الموت يمكن أن يتحقق بالله وحده. حياتنا في يديه، وهو قادر أن يحفظها حتى في وسط الضيق الذي لا يقهره إنسان. إنه يمنحنا ذاته قوة لنا، فنتكل عليه، لا لنكون سلبيين، وإنما في إيجابية نجاهد به بكونه قوتنا. لقد قيل: “الفرس مُعد للحرب؛ أما النصرة فمن الرب” (أم 21: 31).

v   ليكن الله هو رجاءكم، قدرتكم على الاحتمال، قوتكم. ليكن كفارتكم، تسبيحكم، غايتكم وموضع راحتكم، وعونكم في جهادكم…

الجبار هو الإنسان المتغطرس الذي يرفع نفسه (متشامخًا) على الله، كما لو كان شيئًا في ذاته وما يخصه. مثل هذا الإنسان لا ينجو بقوته الذاتية.

الآن، لديه فرس رشيق وقوي، سليم وسريع الخُطى، إذا ما حدث هجوم أما يستطيع أن ينجي راكبه من الخطر الملحق به؟ ليسمع: “خلاص الفرس كاذب”… يلزم ألا يعدك الفرس بالنجاة…

يمكننا أن نأخذ الفرس رمزًا لأية ممتلكات في هذا العالم، أو لأي نوع من الكرامة نتكل عليها في كبرياء، حاسبين خطًأ أنكم كلما ارتفعتم يزداد آمانكم وعلوكم. ألا تدركون بأي عنف سوف تُلْقَون، كلما ارتقيتم إلى أعلى يكون سقوطكم بأكثر ثقلٍ… فكيف إذن يتحقق الأمان؟ إنه لا يتحقق بالقوة ولا بالسلطة ولا بالكرامة ولا بالمجد ولا بالفرس.

القديس أغسطينوس

كانت المركبات هي سند الجيوش، من يركبها يظن أنه في أمان، إذا ما أحدق به الخطر يلوذ بالفرار، لكن كثيرين هلكوا وهم على مركباتهم أو ممتطين خيلاً مدربةً على الحرب. لم يقدر سنحاريب بجيشه الجرار أن يقف أمام ملاك واحد، وفرعون بكل مركباته غرق في البحر… أما من يتكئ على صدر الرب فيكون آمنًا حتى من الموت. وكما قال الرب: “من آمن بي ولو مات فسيحيا” (يو 11: 25).

يرى العلامة أوريجانوس أن الخيل تشير هنا إلى الشيطان وملائكته، إذ يقول: [الخيل والفرس يمثلون صورة الذين كانوا في السماء وانحدروا منها بسبب كبريائهم وتشامخهم… هؤلاء الذين تبعوا القائل: “أصعد فوق مرتفعات الرب (السحاب)، أصير مثل العَليّ” (إش 14: 14). لهذا السبب على ما أظن يقول النبي: “باطل هو الفرس لأجل الخلاص، وبشدة قوته لا ينجي” [17]. هكذا أيضًا قيل عن الذين يثقون في الشيطان: “هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل، وأما نحن فأسم الرب إلهنا نذكر” (مز 20: 8)].

لنترك مركبات العالم ولنمتطِ مخافة الرب، تلك المركبة الإلهية القادرة أن ترفعنا فوق كل الأزمات والضيقات، تجتاز بنا فوق الموت، ولا يحاصرنا غلاء أو وباء، وكما يقول المرتل:

“هوذا عينا الرب على خائفيه والمتكلين على رحمته.

لينجي من الموت أنفسهم ويعولهم في الغلاء” [18-19]

  1. صلاح الله:

“أنفسنا تنتظر الرب في كل حين،

لأنه هو معيننا وناصرنا.

وبه يفرح قلبنا،

لأننا على إسمه القدوس اتكلنا.

فلتكن رحمتك يارب علينا،

كمثل اتكالنا عليك” [20-22].

يتمتع خائفوا الرب بنظرات الله الحانية، الواهبة النعم، التي تكشف عن اهتمام شخصي وتقديره للنفس البشرية… الأمر الذي يفرح قلب المؤمنين.

مع تمتعه بالخلاص، وإدراكه لقوة إسم الله القدوس، لا يكّف المرتل عن الصراخ طالبًا رحمة الله، حتى وسط تسبيحه، مدركًا أن ما يناله هنا هو عربون لأمجاد لا يُعبَّر عنها في الحياة الأبدية. وكأنه مع كل نصرة، وكل نجاح، وكل شبع يزداد الحين نحو الشبع الكامل في الملكوت الأبدي فيمتزج الفرح بصرخات القلب الخفية وأنينه نحو التمتع باللقاء الأبدي مع الله وجهًا لوجه.

 

 

 


 

أيها الحب الأبدي

v   يا منبع الحب علمني كيف أحبك!

لتُجدد أعماقي على الدوام فأنشد لك بقيثارة الروح!

وأضرب في أعماقي بالطاعة على أوتار وصاياك العشرة!

v   بكلمتك شددت السموات، وبروحك كل قواتها.

لتعمل أيها الكلمة الإلهي في قلبي، سمواتك الجديدة.

ولتضرم كل ما وهبتني فتحمل قوتك وإمكانياتك بروحك القدوس!

v   هب لي خوفك، مركبة إلهية تسندني وقت الضيق!

فإنه ليس لي خيل ولا مركبات، لكن مخافتك هي قوتي!

ليحملني خوفك فوق تيارات الضيق، ويجتاز بي القبر فأحيا أبديًا!

v   لتتطلع بعينيك إليّ، فإنني في حاجة إلى حبك!

لتنظر إليّ فأترك كل شيء وأجري وراءك!

 

زر الذهاب إلى الأعلى