تفسير سفر الحكمة ١٨ للقس أنطونيوس فكري

الإصحاح الثامن عشر

الآيات (1-4): “1 أما قديسوك فكان عندهم نور عظيم وكان أولئك يسمعون أصواتهم بغير أن يبصروا أشخاصهم ويغبطونهم على انهم لا يقاسون مثل حالهم. 2ويشكرونهم على انهم لا يؤذون الذين قد ظلموهم ويستغفرونهم من معاداتهم لهم. 3 وبازاء ذلك جعلت لهؤلاء عمود نار دليلا في طريق لم يعرفوه شمسا لتلك الضيافة الكريمة لا أذى بها. 4 أما أولئك فكان جديرا بهم أن يفقدوا النور ويحبسوا في الظلمة لأنهم حبسوا بنيك الذين بهم سيمنح الدهر نور شريعتك الغير الفاني.”

مقارنة بين شعب الله والمصريين. فالمصريين لشرهم في رعب وظلمة وشعب الله في نور عظيم. والمصريون يسمعون أصواتهم= أصوات شعب الله بغير أن يبصروا أشخاصهم بسبب الظلمة التي هم فيها. ويغبطونهم على أنهم لا يعانوا مثل ظلمتهم. ويشكرونهم أنهم لا ينتقمون منهم. بل يستغفرونهم مما سبق وعملوه بهم من ظلم. سعادة الأبرار هي مصدر جذب للأشرار ليحيوا مثلهم حياة التوبة. والله لم يجعلهم فقط في نور بل أعطاهم عمود نار ليرشدهم في طريقهم الذي لم يعرفوه قبلاً أي خلال رحلتهم في سيناء. بل كان عمود النار لهم كالشمس= شمساً لتلك الضيافة الكريمة= وكأن الله إستضافهم عنده وكان لهم مرشداً وهادياً في أرضه التي لا يعرفونها هم. وهذه الشمس أي عمود النار= لا أذى بها هي لا تؤذي شعب الله، بل كان في الصباح كعمود سحاب يظلل عليهم فلا تحرقهم شمس سيناء. لكن المصريين كانوا يستحقون ما هم فيه لسابق ظلمهم لشعب الله. شعب الله هذا الذي سيسلمه الله شريعته لموسى. وكان عمود النور أو النار الذي يرافق الشعب ليهديه إشارة للشريعة التي سيستلمها الشعب وتهديه بعد ذلك بل تهدي العالم كله “سراج لرجلي كلامك” (مز105:119). وهنا نلمس مشاعر الشعب المصري الذي كان شاعراً بقسوة ملكه على اليهود. هذه المشاعر بأن اليهود ظلموا جعلت المصريين يعطون الشعب عند خروجهم ذهباً ومجوهرات تعويضاً عما كابدوه من ظلم فرعون.

 

الآيات (5-9): “5 ولما ائتمروا أن يقتلوا أطفال القديسين وعرض واحد منهم لذلك ثم خلص عاقبتهم أنت بإهلاك جمهور أولادهم ثم دمرتهم جميعا في الماء الغامر. 6 وتلك الليلة قد اخبر بها آباؤنا من قبل لكي تطيب نفوسهم لعلمهم اليقين ما الأقسام التي يثقون بها. 7 ففاز شعبك بخلاص الصديقين وهلاك الأعداء. 8 فان الذي عاقبت به المقاومين هو الذي جذبتنا به إليك ومجدتنا. 9فان القديسين بني الصالحين كانوا يذبحون خفية ويوجبون على أنفسهم شريعة الله هذه أن يشترك القديسون في السراء والضراء على السواء وكانوا يرنمون بتسابيح الآباء.”

لما ائتمروا أن يقتلوا أطفال القديسين= إشارة لأمر فرعون بقتل الأطفال الذكور. وعرض واحد منهم= وتعرض واحد منهم لذلك وهو موسى. ثم خلص= نجا من الموت. عاقبتهم بإهلاك جمهور أولادهم= أي موت الأبكار. ثم دمرتهم في الماء الغامر= غرق الجيش عندما عاد البحر الأحمر إلى أصله، بعد أن مر الشعب بسلام. وتلك الليلة= هي ليلة موت الأبكار أخبر الله بها شعبه ليدهنوا أبوابهم بدم خروف الفصح فينجوا من الموت= تطيب نفوسهم لعلمهم اليقين ما الأقسام التي يثقون بها= هم وثقوا في وعود الله وأقسامه أن يخلصهم وطابت نفوسهم ونجوا من الملاك المهلك بينما هلك المصريون= هلاك الأعداء. فإن الذي عاقبت به المقاومين= أي البحر الذي غرقوا فيه هو الذي جذبتنا به إليك ومجدتنا= هو الذي إنشق لنعبر إليك ونصير شعبك وأنت في وسطنا مجداً (زك5:2). والماء الذي أنقذ موسى إذ كان السفط الذي به موسى طافياً عليه هو الماء الذي غرق فيه جيش فرعون.

فإن القديسين.. كانوا يذبحون (الفصح) خفية= بينما المصريون لا يعرفون ماذا يفعل هؤلاء، ولا ماذا سيحدث لهم في تلك الليلة. وصارت هذه الشريعة عيداً في إسرائيل يذبحون فيه الفصح سنوياً= يوجبون على أنفسهم شرعية الله هذه أن يشترك القديسون.. وسط الأناشيد والتهليل= وكانوا يرنمون بتسابيح الآباء.

 

الآيات (10-12): “10 وقد رفع الأعداء جلبة أصواتهم بالبكاء والنحيب على أطفالهم. 11وكان قضاء واحد على العبد والمولى وضربة واحدة نالت الشعب والملك. 12وكان لكلهم أجمعين أموات لا يحصون قد ماتوا ميتة واحدة حتى أن الأحياء لم يكفوا لدفن الموتى إذ في لحظة أبيد نسلهم الأعز.”

من ضربة الأبكار= النسل الأعز= رفعوا أصواتهم بالبكاء. لاحظ تصاعد الضربات مع إزدياد العناد. ولو تابوا مبكراً ما حدث هذا. وقارن بين بني إسرائيل وهم يسبحون فرحين وبين المصريين الذين يبكرون بحسرة ويدفنون موتاهم.

 

الآيات (13-19): “13 وبعد أن أبوا بسبب السحر أن يؤمنوا بشيء اعترفوا عند هلاك الأبكار بان الشعب هو ابن لله. 14 وحين شمل كل شيء هدوء السكوت وانتصف مسير الليل. 15 هجمت كلمتك القديرة من السماء من العروش الملكية على ارض الخراب بمنزلة مبارز عنيف. 16 وسيف صارم يمضي قضاءك المحتوم فوقف وملا كل مكان قتلا وكان رأسه في السماء وقدماه على الأرض. 17 حينئذ بلبلتهم بغتة أخيلة الأحلام بلبلة شديدة وغشيتهم أهوال مفاجئة. 18 وكان كل واحد عند صرعه بين حي وميت يعلن لأي سبب يموت. 19 لأن الأحلام التي أقلقتهم أنبأتهم بذلك لئلا يهلكوا وهم يجهلون مجلبة هلاكهم.”

السحر والسحرة الذين خدعوهم، منعوا المصريين من الإعتراف بأن الشعب هو إبن الله، بل منعوهم بأن يؤمنوا بقوة الله فإزداد عنادهم لعماهم. حتى أتت هذه الضربة فآمنوا بقوة يهوه. بل صار لهم يهوه كمبارز عظيم يحاربهم ويقتلهم. وكان رأسه في السماء= فالله في السماء. وقدماه على الأرض= لكنه موجود وسط شعبه يحميهم ويحارب أعدائهم. ومن رعبهم بغتتهم أخيلة الأحلام. ولكن الله من رحمته كان يعلن لكل واحد عند صرعه بين حي وميت لأي سبب يموت= ربما ندم وقدم توبة= لئلا يهلكوا وهم يجهلون مجلبة (ما الذي جلب) هلاكهم ولكن هذه الآيات لها بعد آخر فالسحر أي الشيطان منع الناس من أن يؤمنوا بالله. جاء المسيح كلمة الله القدير من السماء، جاء من العروش الملكية متجسداً كمبارز عنيف بصليبه= سيف صارم يمضي قضاءك المحتوم. وكان رأسه في السماء فهو الله السماوي جاء من السماء وموجود في السماء وفي كل مكان، ولكنه إتخذ له جسداً ظهر به على الأرض= قدماه على الأرض. وأهلك وهزم عدوه الشيطان. وهكذا قيل بفم داود أن الهيكل حيث تابوت العهد هو “موطئ قدمي الله” (1أي2:28) + (مز5:99) + (مز7:132) والهيكل هو إشارة لجسد المسيح (يو18:2-21).

 

الآيات (20-25): “20 والصديقون أيضاً مستهم محنة الموت ووقعت الضربة على جم منهم في البرية لكن الغضب لم يلبث طويلا. 21 لأن رجلا لا عيب فيه بادر لحمايتهم فبرز بسلاح خدمته الذي هو الصلاة والتكفير بالبخور وقاوم الغضب وأزال النازلة فتبين انه خادمك. 22فانتصر على الجمع لا بقوة الجسد ولا بأعمال السلاح ولكنه بالكلام كف المعاقب مذكرا الأقسام والعهود للأباء. 23 فانه إذ كان القتلى يتساقطون جماعات وقف في الوسط فحسم السخط وقطع المسلك إلى الأحياء. 24 لأنه كان على ثوبه السابغ العالم كله وأسماء الأباء المجيدة منقوشة في أربعة اسطر من الحجارة الكريمة وعظمتك على تاج رأسه. 25 فهذه خضع المهلك لها وهابها وكان مجرد اختبار الغضب قد كفى.”

الحديث هنا عما حدث في فتنة قورح وداثان وأبيرام (عد16) وكيف أنه حين إبتدأ الوبأ أمر موسى هرون بوضع بخور في مجمرته ليكفر عن الشعب ويصلي عنهم ووقف هرون بملابسه الكهنوتية ومجمرته بين الأحياء والأموات فإمتنع الوبأ. وكان عدد الموتي 14700نفس. فالله عادل ويعاقب شعبه كما يعاقب الآخرين. وكأن الحكيم يريد أن يقول أنه حتى أولاد الله فهم يموتون في ضربات تأديب. ولكننا نرى هنا قوة الصلاة وشفاعة الكهنوت فصلاة الكاهن أمام الله هي صلاة عن الشعب كله وهذا يمثل المسيح في عمله الكهنوتي وشفاعته الكفارية. ومع شعب الله فالضربة محدودة فهي للتأديب= الغضب لم يلبث طويلاً. رجلاً لا عيب فيه= هو هرون وهو يرمز لشخص المسيح الذي بلا خطية. فبرز بسلاح خدمته الذي هو الصلاة والتكفير بالبخور= رمزاً لشفاعة المسيح الكفارية. وأزال النازلة (الموت) فتبين أنه خادمك= والمسيح ظهر أنه إبن الله بقيامته التي هزم بها الموت (رو4:1). لأنه كان على ثوبه السابغ أي الطويل إشارة للملابس الكهنوتية التي هي إشارة لكهنوته. أسماء الأباء منقوشة= على الأحجار المرصعة للصدرة إشارة لأن المسيح يحمل شعبه على كتفه وفي قلبه. وعظمتك على تاج رأسه= منقوش على الصفيحة التي تزين عمامته “قدس للرب” . وكان مجرد إختبار الغضب قد كفى= إختبر الشعب غضب الله وماذا يعني غضب الله حتى لا يعودوا يخطئوا ثانية. بالكلام كف المعاقب= هذه إشارة لصلوات هارون، لكنها إشارة للإبن الكلمة الذي بصليبه ربط الشيطان وقيده. مذكراً الأقسام والعهود للأباء= هذه العهود التي بدأت بقول الله لحواء “هو يسحق رأسك” (تك15:3). وكان هرون في صلواته يذكر الرب بعهوده. وليس معنى يذكره أن الله قد نسى، بل هو يستعطفه ويتمسك بهذه العهود حتى يرحم الله شعبه، مع أن الشعب أخطأ ولا يستحق الرحمة.

 

زر الذهاب إلى الأعلى