تفسير المزمور 12 للقديس أغسطينوس

عظة في المزمور الحادي عشر(بحسب السبعينية)
المختارون في الأرض

الصديقون في هذه الدنيا تعترضُهم أحابيل المنافقين المشينة. فيشجعهم الربّ واعداً إياهم بالمخلص الذي يضع نهاية لوجع المظلومين .

لإمام الغناء داود، لليوم الثامن 

1 – قلنا في المزمور السادس إنّ اليوم الثامن يُمكن أن يعني يوم الدينونة. كما يُمكن أن يُقال أيضًا عن ذلك الدهر الأبدي الذي خص به الله القديسين، عندما ينقضي هذا الدهر الذي يسير من سبعة أيام إلى سبعة أيام .

2 – «خلصني يا ربّ لأنّ الصدّيق انقرض» (12: 1) أي أننا لم نعد نجده . كذلك نقول عن القمح إذا فرغ أو عن المال إذا نضب. “لأن الحقائق قلّت في بني البشر” (12: 1). ولا شك في أنه لا توجد سوى حقيقة واحدة تنير النفوس القدّوسة. لكن لما كان ثمة نفوس كثيرة، فبوسعنا أن نقول إنّ فيها حقائق كثيرة، مثلما تظهر الصورة نفسها : في مرايا كثيرة .

3- كلّ امرئٍ يُكلّم صاحبه بالباطل» (12: 2). يجب أن نفهم بالقريب كلّ إنسان، لأنه ليس بمسموح أن نسيء إلى أحد، و«لأنّ المحبة لا تصنع شرًا بالقريب» (رو 13: 10). «شفاههم متملّقة، وبقلب وقلب يتكلمون (12: 2)، أي بالبطل والنفاق. وعبارة بقلب وقلب تدلّ على الرياء.

4- «قطع الرب جميع الشفاه المتملقة، واللسان الناطق بمدح نفسه» (12: 3). جميع الشفاه، يقول النبي، لئلا يظنّنَّ أحد أنّه فوق الشبهات. مثلما يُحذِّرُ الرسول في قوله : «الشدّة والضيق على نفس كلّ إنسان يصنع السوء، من اليهود أوّلاً ثمّ من الوثنيين» (رومة ٢ : ٩). واللسان الناطق بمدح نفسه هو لسان المتكبر .

5 – «قالوا : لنمتدح أقوالنا إنّ شفاهنا لنا فمن يسود علينا؟» (12: 4). هذه اللغة هي لغة المتكبّرين ،المرائين، المتمردين على الله، والذين يأملون أن تُغوي الناس أقوالهم.

6 – «إني لأجل اغتمام المقهورين وتنهد البائسين، أقوم الآن، يقول الرب ، » (12: 5) . هكذا في الإنجيل يشمل الربّ برحمته ذاك الشعب المستعد للطاعة المفتقد لراع، فيقول: «الحصاد كثير والفعلة قليلون (مت 9: 37) بوسعنا أن نعزو هذه الكلمات الله الآب الذي تنازل وأرسل ابنه ليُبشِّر الفقراء والمساكين أي الذين كانوا مفتقرين إلى الخيور الروحية. لأجل ذلك، بدأ موعظته على الجبل فهتف: طوبى لمساكين الروح فإنّ لهم ملكوت السموات» (مت 5: 3). وأجعل من يُستَخَفْ به في رُحُب» . «الرُحُب» هو الخلاص، أي يسوع المسيح بحسب قول الإنجيل : لقد أبصرت عيناي خلاصك» (لو 2: 30). وعليه، يجب أن نفهم أنه جعل في المخلّص ما هو ضروري لوضع نهاية لاغتمام المقهورين وتنهد البائسين. وسأعاملهم بأمانة»، على ما قيل في الإنجيل عن يسوع : لأنّه كان يُعلمهم كمن له سلطان، لا مثل كتبتهم» (مت 7: 29).

7- أقوال الربّ أقوال نقيّة (12: 6) باسمِه يُثمّن النبي أقوال الرب بأنها أقوال نقيّة. وأقوال الربّ نقيّة لأنها لا تشوبها شائبة. كثيرون يبشرون بالحقيقة، لكن لا بطريقة نقية، لأنهم يستبدلونها بمنافع هذا العالم عن هؤلاء قال الرسول إنهم يُبشّرون بالمسيح عن منازعة، لا بنية صافية (في 1: 17) . إنّها فضَّةٌ صفتها النار من كلّ تراب». لأن جور الأثمة اختبر كلمة الربّ . صفيت سبع مرات ، بمخافة الله، والتقوى، والمعرفة، والقوة، والمشورة، والفهم والحكمة (إش 11: 2). ومنازل الطوبى سبعة أيضًا، ويذكرها الربّ في موعظة واحدة على الجبل، يوردها القديس متى : طوبى لمساكين الروح، طوبى للودعاء، طوبى للحزاني طوبى للجياع والعطاش إلى البر، طوبى للرحماء، طوبي لأنقياء القلوب، طوبى لصانعي السلام (مت 5: 3- 9). نحن أمام سبعة عناوين لا يمكن أن يُنظر إلى العظة إلا كتوسع فيها . لأنّ الطوبى الثامنة : طوبى للمضطهدين من أجل البر» تعني تلك النار التي صفّت الفضة بسبع مرات. وفي آخر العظة، يقول متى عن يسوع المسيح إنّه كان يُعلمهم كمن له سلطان، لا ككتبتهم (مت 7: 29)، وهذا ما يتصل بقول النبي : وأعاملهم بأمانة» (11: 5).

8- «لك يا ربّ ،تحفظنا، وتُنجينا من هذا الجيل إلى الأبد» (12: 7)، في هذه الدنيا كمقهورين وبائسين، وفي الآخرة كأغنياء وموسرين .

9 – «المنافقون يُطوّفون» (12: 8) أي أنّهم لا يرتوون من الخيور الزمنية، وعطشهم هذا مثل عَجَلةٍ تُكمل دورانها في سبعة أيام، ولا تبلغ اليوم الثامن أو الأبدية عنوان هذا المزمور. قال سليمان أيضًا : الملك الحكيم يُبدّد المنافقين ويُطوّقهم بالويلات» (أم 20: 26). بعمق أحكامك ، تُكَثّرُ بني البشر» ذاك أنّها كثيرة أمور الدهر التي تُبعدنا عن وحدة الله. إذ الجسد الفاسد يُثقل النفس، والمسكن الأرضي يُخفض العقل الكثير الهموم (حكمة  9: 15) والحال، فإنّ الصدّيقين يكثرون بحسب عمق الله عندما يرتفعون من قوّة إلى قوّة (مز 48: 8).

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى