شروط اتِّباع المسيح

إنجيل يوم الثلاثاء من الأسبوع الرابع من الصوم المقدس

المزمـور: «6أَنَا دَعَوْتُكَ لأَنَّكَ تَسْتَجِيبُ لِي يَا اَللهُ. أَمِلْ أُذُنَيْكَ إِلَيَّ. اسْمَعْ كَلاَمِي» (مز 17: 6).

الإنجيل: «57وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ فِي الطَّرِيقِ قَالَ لَهُ وَاحِدٌ: ”يَا سَيِّدُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي“. 58فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: ”لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأَسَهُ“. 59وَقَالَ لآِخَرَ: ”اتْبَعْنِي“. فَقَالَ: ”يَا سَيِّدُ، ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي“. 60فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: ”دَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ فَاذْهَبْ وَنَادِ بِمَلَكُوتِ اللهِ“. 61وَقَالَ آخَرُ أَيْضاً: ”أَتْبَعُكَ يَا سَيِّدُ، وَلكِنِ ائْذَنْ لِي أَوَّلاً أَنْ أُوَدِّعَ الَّذِينَ فِي بَيْتِي“. 62فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: ”لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى الْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ اللهِ“» (لو 9: 57-62).

للأب متى المسكين

بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين

إنجيل القداس:

إنجيل قدَّاس هذا الصباح عن الدعوة، عن اتِّباع الرب، فهو يخصُّنا في الصميم. طَرَح الرب ثلاثة نماذج للدعوة، نبلورها في بداية الكلام عن هذا الإنجيل، لكي تكونوا على وعي وإدراك ب‍ها، وكلها واقعة تحت الخداع، وهي:

الأول: واقع تحت خداع المظاهر.

الثاني: واقع تحت خداع المجاملات.

الثالث: واقع تحت خداع العواطف.

النموذج الأول:

«وفيما هم سائرون في الطريق، قال له واحدٌ: ”يا سيِّد، أَتْبعُكَ أينما تمضي“». جاءت في الأصل اليوناني بمعنى: ”أينما تسير أسيرُ معك“.

بدأ المنظر وهم سائرون في الطريق، وكانت الرُّفقة تسير مع المسيح وهم مُلتفُّون حوله في حالة سعادة لا تُدانيها سعادة. كانوا يسألون، والمسيح يُجيب على تساؤلات‍هم بأحاديث لا يمكن أن تُجاريها أحاديث أخرى، وقد قيل عن الرب يسوع في إنجيل القديس متى: «… أنه كان يتكلَّم كمَن له سُلطانٌ وليس كالكتبة» (مت 7: 29). وعندما أرسل الفرِّيسيُّون ورؤساء الكهنة خُدَّاماً ليمسكوه، رجع الخُدَّام إليهم وهم لم يقدروا أن يمسكوه، وعندما سألهم رؤساء الكهنة والفرِّيسيُّون: «لماذا لم تأتوا به؟»، أجاب الخُدَّام: «لم يتكلَّم قطُّ إنسانٌ هكذا مِثْلَ هذا الإنسان» (يو 7: 46،45،32).

فعندما استمع أحد السائرين مع المسيح إلى كلامه عن ملكوت الله، وارتسم الفرح والسعادة على وجوه السائرين؛ انذهل من هذا المظهر المُبدع، وكأنه تحاوَرَ مع نفسه قائلاً: ”ما لي أنا بكل ما في الناموس من تعقيدات. ومالي بالهمِّ الذي أنا فيه وبكل هذه القوانين الموضوعة عليَّ. فما أسمعه من كلام، فهو يُفرحني! وما هذه الحرية التي أستمع إليها لأول مرة؟ أنا أُريد هذه الحرية. ومَن هو هذا المُعلِّم الذي يقول هذا الكلام؟ فهذا الكلام عجيبٌ! لابد أن أتبع هذا المُعلِّم لأنه مُعلِّمٌ عجيبٌ وعظيمٌ“. هذا ما كان يدور في خَلَده، ولكنه لم يكن يدري أن هذا الفرح وهذه البهجة هي ثمرة نباتُها مُرٌّ عَلْقَم، نباتُها اسمه: الضيقة. وبدون الضيقة لا يمكن للإنسان أن يذوق فرحاً أو بهجة سماوية.

فقد انخدع هذا الإنسان بالمظاهر، وخلط ما بين الفرح السماوي والفرح الأرضي. والإنسان الذي تغرُّه وتخدعه المظاهر، لا يمكن أن يتعمَّق ويسأل عن الجذور وعن الأتعاب التي وراء هذه المظاهر. فالرب يسوع المُعلِّم العظيم والعجيب، وراؤه صليب.

وهذا الإنسان هو رجلٌ يهودي، مربوطٌ بالأرض، مربوط بالعوائد، مربوط بالميراث والختان والتسلسُل الأبوي، وكلها رباطات جسديـة لا نهاية لها. ولا ننسى أنَّ رؤساء الكهنة والفرِّيسيين تآمروا على الرب حتى لا تضيع منهم الأرض وميراثها: «إنْ تركناه هكذا يؤمن الجميع به» (يو 11: 48). ولذلك فرَّطوا في المسيح حتى لا يُفرِّطوا في أرض إسرائيل.

كان ردُّ المسيح على هذا الإنسان المربوط بالأرض والعادات والتقاليد: «للثعالب أَوْجِرة ولطيور السماء أوكارٌ، وأمَّا ابنُ الإنسان فليس له أين يُسْنِدُ رأسَه» (لو 9: 58). لم يقصد المسيح من ردِّه أن ييأس هذا الإنسان، بل أن يُنبِّهه بأنه إذا كان حقّاً يطلب الفرح الحقيقي الذي يدوم معه إلى الأبد، ويلتمس التعليم السماوي الذي ابتهج به؛ فلابد له أن يُفرِّط في كلِّ شيء، لابد أن يُفرِّط في الأرض التي يتمسَّك بها، وكذلك بكلِّ العوائد والمواريث والحنين إلى القديم والتسلسُل الأبوي… إلخ.

فالرب يسوع «ليس له أين يُسْنِد رأسه»! ولا يوجد مكانٌ على الأرض يرتاح فيه الرب، فراحة المسيح هي في حضن الآب. ولذلك فكأن المسيح يردُّ على هذا الشاب قائلاً: ”إن كنتَ ترى فيَّ إنساناً يستطيع أن يُعطيك ما تطلبه وترتاح إليه، فأنت مُخطئ! أمَّا إذا لم يكن لك جُحرٌ تعيش فيه، أو عشٌّ تأوي إليه؛ فمن الممكن أن تصير طيراً سماويّاً، تسمو فوق الأرض كلها، وتحيا مثلما يحيا ابن الإنسان“.

هنا يضع المسيح حدّاً فاصلاً بين أهداف مربوطة بالأرض وذات أصولٍ أرضية؛ وبين أهداف مربوطة بالسماء وذات أصولٍ سمائية. الإنسان، من جهة غرائزه الطبيعية، لا يفترق كثيراً عن الحيوانات والطيور، من جهة حنينها للوطن، حنينها للجماعة التي تحيا في كَنَفها، حنينها لأوكارها وجحورها. فالطيور وبعض الكائنات الأخرى، عندما تُهاجر من أوطانها في موسم الشتاء وبسبب برودة الجو؛ تقطع آلاف الأميال إلى أن تَحُطَّ في الأماكن الدافئة، وهي تعرف هذه الأماكن من خلال الغريزة. وعندما تعود إلى أوطانها بعد انقضاء موسم الشتاء، تأخذ نفس المسار الذي سلكته سابقاً، إلى أن تستقرَّ في نفس الكهف أو الوكر الذي كانت فيه دون غيره، ولا يمكنها أن تُخطئ لا في المسار ولا في المسكن. فغريزتها هي التي تقودها في رحلة الذهاب ورحلة العودة، وهي غريزة عجيبة لا يمكن لإنسانٍ أن يَسْبُر أغوارها.

والإنسان على نفس المنوال، بل وأكثر. تقوده غريزته إلى الوطن والعشيرة والأسرة والأصدقاء، وتُسيطر على عقله وإرادته وكل عواطفه. لذلك عندما أراد الله أن يفرز شعباً لنفسه يأتي منه المسيَّا، قال لإبراهيم: «اذهبْ من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك» (تك 12: 1). فالوطن يحوي مُثلثاً: ”أرضك“، و”عشيرتك“، و”بيت أبيك“. الوطن الأكبر: الأرض؛ والوطن المتوسِّط: العشيرة (أي الأُسرة أو الانتساب للدين)؛ والوطن الأصغر: البيت. فالأرض والعشيرة والبيت، يمكنها أن تحجب الإنسان عن الله، وتعوقه عن المسيرة السماوية. ولذلك قال الرب لإبراهيم: ”اذْهَبْ“ أو ”اُخْرُج“ أو ”اتْرُك“ أرضك وعشيرتك وبيت أبيك؛ فاستجاب إبراهيم لأَمر الله. وبالرغم من أن الغريزة قد تفوق العقل والإرادة، ولا يمكن للإنسان أن يضبطها؛ إلاَّ أن إبراهيم ترك فعلاً أرضه وعشيرته وبيت أبيه!

أعجب ما في الإنسان أنه يحوز في أعماقه غريزة أقوى من الغريزة التي تربطه بالأرض، وهي غريزة الخلود، غريزة الحياة الأبدية، غريزة الوطن السماوي، أهل بيت الله وعشيرته في السماء. هذه الغريزة أفضل وأقوى من أية غريزة أخرى، إذا بزغت بقوةٍ في أيِّ إنسان تُخْمِد أية غريزة جسدية!

فإبراهيم أبو الآباء عندما سمع أَمر الله، استجاب وأطاع، لماذا؟ لأن صوت الله أحيا فيه الحنين إلى ما فوق. وعندما يتحرَّك في أعماق الإنسان الإحساس بالوطن السماوي، الإحساس بالحياة الأبدية؛ يشعر في الحال بغربته على هـذه الأرض وحنينه إلى الوطن السماوي الأبقى: «ويلي لغربتي» (مز 120: 5)، «لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح، ذاك أفضل جدّاً» (في 1: 23). وحينئذٍٍ ينطلق من أَسْر الجسد إلى سماء الله، ينسلخ من الحياة الأولى والأرض وكل ما فيها من مسرَّات إلى الحياة مع الله.

النموذج الثاني:

الرب هنا هو الذي يدعو: «وقال لآخر: ”اتبعني“». الشاب الأول أغرته المظاهر، وهو الذي ركض نحو الرب قائلاً له: «أتبعك أينما تمضي». أما ردُّ هذا الشاب في هذا النموذج الثاني: «يا سيِّد، ائْذَنْ لي أن أمضي أولاً وأدفن أبي». كلمة ”أولاً“، لم يتقبَّلها المسيح. ونُلاحِظ أنَّ الرب لا يُقدِّم الدعوة جُزافاً. فقد أدرك المسيح أنَّ هـذا الإنسان جديـرٌ بالدعوة واتِّباعه؛ إلاَّ أنَّ الرب يَعْلَم أنَّ هذا الشاب ما زال مربوطاً بالأرض رباطات لا تجعله قط قادراً أو مُهيَّأً لملكوت الله. ولكن الرب تواجَه معه في لحظةٍ فارقة، وفي محكٍّ شديد وصعب للغاية. فقد تركه حتى مات أبوه وجثته مُسجَّاةٌ في البيت، وعند هذا الموقف الصعب قال للشاب: «اتبعني».

عندما أجاب الشابُ دعوة الرب بأنْ «ائْذَنْ لي أن أمضي أولاً وأدفن أبي»، كان يدور في ذهنه الوصية: «أكرم أباك وأُمك» (خر 20: 12)، وإكرام الميت دفنه. ولكن دعوة الرب له أسمى من الأب والأُم، فهي دعوة سماوية، وهذا هو المحكُّ! وهنا وضع المسيحُ الشابَ في موقف مُحرج: ما بين المضيِّ لدفن أبيه، أو الاستجابة للدعوة السماوية! ولكن كان قَصْد الرب هو أن يُحرِّر هذا الشاب من رباطات الواجبات والمُجاملات التي كانت كفيلة أن تطمس معالم الحياة الأبدية المنغرسة في قلبه. وهذا المحكُّ كان ولا يزال هو أصعب محكٍّ يمكن أن توزَن به الدعوة، ويُوزَن به ضمير الإنسان، وهو محكٌّ كفيلٌ بمنع الإنسان من الاستجابة إلى الدعوة العُليا. وقد نجح القديس أنطونيوس في اجتياز هذا المحكِّ – كما نقرأ في بستان الرهبان – إذ ترك أباه الميت، وانطلق يستجيب للدعوة العُليا ويطلب ملكوت السموات.

لاحظوا كيف أنَّ المسيح رَفَضَ أن يأتي في المرتبة الثانية، بعد الأب الجسدي. فحنين هذا الشاب نحو أبيه الميِّت، لابد أن نفحص أُصولها: فهي بقايا انجذاب شديد منذ أيام الطفولة نحو الأب والأُم، ما زال هذا الانجذاب يُراوده من حينٍ لآخر في كِبَره، ولكن بنوعٍ من الخداع، فهو نكوصٌ إلى زمن الطفولة! فحنين الطفولة حينما يصحو على كِبَر، ويُشيع في النفس اضطراب الخداع، فهـو يُبعِد الإنسان عن الحقيقة السماوية. وقد وقع الكثيرون في هذا الخداع.

أمَّا ردُّ المسيح على هـذا الشاب فكـان: «دَع الموتى يدفنون موتاهم، وأمَّا أنت فاذهبْ ونَادِ بملكوت الله». فواجبات دفن الموتى يقع على عاتق الموتى، وليس على عاتق الأحياء. كيف للمدعوِّين الذين يَحْيَوْنَ القيامة منذ الآن، أن يعودوا أدراجهم ليعملوا للموت وللموتى؟ فأقدر الناس على إكرام الموتى هم الموتى! أقدر البشر على ذرف الدموع ونَدْب الأجساد هم العائشون في الموت!

أمَّا إنسان الله، إنسان القيامة، الناظر إلى فوق، والذي يحيا كل يوم في نور المسيح ومجده، طالباً الأمجاد السماوية! هذا الإنسان المدعو دعوةً سماوية، كيف يمكنه أن يعود ويعمل وسط الأموات، أو أمام جسد ميِّت مُسجَّى أمامه! إنها خدعة، بكاءٌ على ميِّت، ندبٌ وحُزنٌ ودموع على جثة. بينما، في الحقيقة، أنَّ صاحب هذا الجسد المُسجَّى، يقف بروحه ناظراً إلى كلِّ الباكين والحزانى، وكأنه يقول لهم: ”ما هذا الذي تفعلونه؟ أنا حيٌّ! الذي مات هو الجسد فقط، بينما أنا حيٌّ! أنا لم أَمُتْ“! ولذلك قال المسيح للشاب: «دَعْ الموتى يدفنون موتاهم».

? تحضُرني قصةٌ حقيقية مُبدعة، رواها لي طبيبٌ مشهور: كان أبوه رجلاً تقيّاً من أهل الصعيد، وعندما ماتت زوجته، سار وراء نعشها في الشوارع، وهـو يُردِّد كـل 3 أو 4 دقائق كلمة ”هلليلوياه“. وكان أولاده يستغربون من هذا التصرُّف ويستنكرونه. أمَّا ردُّه عليهم فكان: ”اصمُتْ أنت وهو، والدتكم ارتفعت إلى فوق، هلليلوياه“! وهم بدورهم يحاولون أن يمنعوه من ترديد هذه الكلمة، قائلين له: ”إنَّ الأَمر قد انتهى، لا توجد فائدة من كل هذا“!

فقد شعر هذا الإنسان التَّقي بأنَّ نفس زوجته تُحلِّق فوق الجسد الميِّت، وكأنه يقول: ”المسيح قام! ما شأنُنا وشأن الأجساد الميِّتة والسير وراءَها“. هذا الإنسان ضَرَبَ عصفورين بحجرٍ واحد: سار وراء النَّعش، ومجَّد قيامة الرب!

ويستكمل المسيح كلامه مع الشاب الذي دعاه قائلاً: «… وأمَّا أنت فاذهَبْ ونادِ بملكوت الله». فعِوَض أثقال وهموم الجسد، يُعطي المسيح الإنسان المولود جديداً جناحَيْن، كجناحَي الطائر، يطير بهما بعيداً عن مناطق الظلمة والموت، ويُبشِّر بالنور لأبناء النور!

النموذج الثالث:

شابٌ ركض وراء الرب وهو يقول له: «أتبعك، يا سيِّد، ولكن ائذَنْ لي أولاً أن أُوَدِّع الذين في بيتي». فهذا الشاب مربوطٌ بالعواطف، بينما الشاب الثاني كان مربوطاً بالمُجاملات التي حرَّره المسيح منها. أمَّا العواطف الجيَّاشة فهي لا تنفكُّ. العواطف المربوط ب‍ها الإنسان لا تُمجِّد الله، وتجعل الإنسان يحب أهـل بيته أكثر مـن محبته لله: «محبة العالم عداوة لله» (يع 4: 4). محبة العالم تتركَّز – أساساً – في البيت وأهل البيت، وقد قالها المسيح: «وأعداء الإنسان أهل بيته» (مت 10: 36). وهذا الشاب يُريد أن يعود أَدراجه للبيت ليُودِّع أهل بيته!

? تحضُرني قصة بنت يفتاح الجلعادي، في العهد القديم، فقد نَذَر يفتاح نَذْراً للرب قائلاً: «إنْ دَفَعْتَ بني عَمُّونَ ليدي، فالخارج الذي يخرج من أبواب بيتي للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند بني عَمُّون، يكون للربِّ وأُصْعِدُه مُحرقةً… ثمَّ أتى يفتاح إلى المِصْفاة إلى بيته، وإذا بابنته خارجةً للقائه بدُفُوفٍ ورَقْصٍ، وهي وحيدة، لم يكن له ابنٌ ولا ابنةٌ غيرها. وكان لَمَّا رآها أنه مَزَّق ثيابه، وقال: ”آهِ، يا بِنْتي، قد أَحْزَنْتِني وصِرْتِ بين مُكدِّريَّ، لأني قد فتحتُ فمي إلى الربِّ ولا يمكنني الرجوع“… قالت لأبيها: ”… اترُكني شهرين، فأذهب وأنزِل على الجبال، وأبكي عذراويَّتي أنا وصاحباتي“. فقال لها: ”اذهبي“… وكان عند نهاية الشهرين أنها رجعتْ إلى أبيها، ففعل بها نَذْرَه الذي نَذَرَ» (قض 11: 30-39).

نعود مرَّةً أخرى إلى الشاب الذي يُريد أن يتبع الرب، فكأنِّي به يُريد أن يبكي عذراويَّته، يبكي موته. وهنا الأَمر معكوسٌ تماماً، فالمسيح لا يدعو للموت، بل هو يدعو إلى الحياة. فهنا عواطف الشاب ما زالت مربوطة بالجسد والجسديات، وربما يُريد أن يعود إلى البيت ليتلقَّى قُبلة من أُمِّه، فتكون كالسهم المغروس في قلبه إلى الأبد، لا يستطيع منه فِكَاكاً. فعواطف الإنسان ورباطات الجسد والأُسرة، موضوعٌ خطير لِمَن يُريد أن يسعى إلى ملكوت السموات.

حينما يُمسَك الإنسان من عواطفه ويُغذِّيها، فإنها تكون بمثابة جِِذر جسدي يغذِّي كل الفروع والاشتياقات الجسدية؛ ومهما حاول الإنسان تقليم هذه الفروع، فإنَّ فروعاً أرضية جسدية جديدة تنبت وتتشعَّب بدلاً منها طالما أنَّ الجذر ما زال موجوداً، وهذه الفروع تكون بمثابة إزهاقٍ للروح.

كان ردُّ المسيح على هذا الشاب أشد الردود التي قالها، وأكثرها قطعاً ومنعاً: «ليس أحدٌ يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلُح لملكوت الله». فالمحراث هو الإنجيل؛ والفلاَّح الذي يحرث، يكون نظره دائماً إلى فوق وإلى الأمام، حتى تكون خطوط أرضه مستقيمة، «فإنَّ سيرتنا نحن هي في السموات، التي منها ننتظر مُخلِّصاً هو الرب يسوع المسيح» (في 3: 20). نحن نحرث لسيرةٍ سماويَّة، والنظر إلى الوراء معناه أنَّ المحراث سينحرف، وبالتالي لا يستطيع الإنسان أن يحرث حرثاً مستقيماً، فيكون حرثه منحرفاً ومنحنياً يعود به إلى البيت وإلى الأُسرة.

لقد وضع الرب بُعْدَيْن: بُعْدٌ وراء، وبُعْدٌ قدَّام. فعندما قال للشاب: «ليس أحدٌ يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلُح لملكوت الله»، فهو يعني أن تنظر وتتقدَّم إلى الأمام. فالبُعد الأمامي هو ملكوت الله؛ أمَّا البُعْد الخلفي، فهو البيت وأهل البيت. فإذا أراد إنسانٌ أن يسلك سلوكاً مستقيماً إلى الأمام، لابد له أن يترك ما هو وراء. فإذا ترك من كل قلبه، سيأخذ قوَّة للاندفاع إلى الأمام، كما يقول بولس الرسول: «ولكني أفعل شيئاً واحداً: إذ أنا أَنسى ما هو وراء وأمتدُّ إلى ما هو قُدَّام» (في 3: 13).

عندما يسلك الإنسان في طريق الملكوت بإخلاص، ويبدأ أول خطوة، فإنَّ هذه الخطوة الأولى ستدفعه إلى الأمام، وتَهَب له قوَّةً على التَّرك، وكلما ترك يمتدُّ أكثر إلى الأمام. والبُعْدان لا يمكن أن يتلاقيا، فإذا نظر الإنسان إلى الوراء، يتعثَّر إلى الأبد، ولا يصلح لملكوت الله. وكما يقول بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس: «أَمسِك بالحياة الأبدية التي إليها دُعيتَ أيضاً» (1تي 6: 12).

ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.

زر الذهاب إلى الأعلى