نش ٢،١:٨ ليتك كأخٍ لي الراضع ثديي أمي فأجدك في الخارج وأقبلك ولا يخزونني
١ لَيْتَكَ كَأَخٍ لِي ٱلرَّاضِعِ ثَدْيَيْ أُمِّي، فَأَجِدَكَ فِي ٱلْخَارِجِ وَأُقَبِّلَكَ وَلَا يُخْزُونَنِي. ٢ وَأَقُودُكَ وَأَدْخُلُ بِكَ بَيْتَ أُمِّي، وَهِيَ تُعَلِّمُنِي، فَأَسْقِيكَ مِنَ ٱلْخَمْرِ ٱلْمَمْزُوجَةِ مِنْ سُلَافِ رُمَّانِي. (نش ٢،١:٨)
+++
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
يقول القديس أمبروسيوس أنه لما تأكدت الألفة بين العروس ومحبوبها أخذت تفاوضه في أمر أهلها، وأوصته بأختها الصغيرة[177]، التي تمثل البشرية غير المؤمنة. وفي نفس الوقت التهب حنين العروس لحياة الوحدة أو الاتحاد الأعمق مع عريسها، وكأن ختام المناجاة أو نشيد الأناشيد هو دخول المؤمن إلى خدمة الآخرين مع التهاب القلب بالانطلاق نحو الفردوس. إنهما إشتياقان وقد ظهرا متعارضان لكنهما في الحقيقة متكاملان ومتلازمان. يحيا المؤمن بقلب محترق من أجل كل نفس لم تتعرف على خلاصها، وفي نفس الوقت لا ينحرف قلبها عن شوقه للانطلاق ليكون مع المسيح وجها لوجه.
في بدء النشيد بدأت العروس بالإلحاح في الدخول إلى حياة الشركة معه، تود أن تختلي به أكثر فأكثر في البرية، وأخرى في الحديقة، وثالثة في الحقل والقرى، ورابعة في بيت أمها لتسقيه من خمر حبها كما أرواها هو بحبه الأبدي، لهذا تُناجيه قائلة:
“لَيْتَكَ كَأَخٍ لِيّ الرَّاضِعِ ثَدْيَيْ أُمِّي،
فَأَجِدَكَ فِي الْخَارِجِ، وَأُقَبِّلَكَ، وَلاَ يُخْزُونَنِي.
وَأَقُودُكَ وَأَدْخُلُ بِكَ بَيْتَ أُمِّي، وحجرة من حبلت بيّ[178]،
وَأنتَ[179] تُعَلِّمُنِي[180]،
فَأَسْقِيكَ مِنَ الْخَمْرِ الْمَمْزُوجَةِ مِنْ سُلاَفِ رُمَّانِي” [١-٢].
إن كان هذا الأصحاح في جوهره حديث عن الخدمة، فإن أساس الخدمة وأساسها تمتع الخادم أولًا بعريس الكنيسة، حتى متى ألتقي بأخوته يشتمّون فيه رائحة “الحياة” ويتقبلون العضوية في الكنيسة جسد المسيح الحيّ.
في هذا الحديث أيضًا نلاحظ الآتي:
- أنها تود أن تقبّله كأخ لها، الراضع ثدييّ أمها… فإنه بحسب التقاليد الشرقية القديمة ما كان يليق ممارسة القبلات علانية حتى بين الرجل وزوجته، ولا يستثنى من هذا إلاَّ الأقرباء من الدرجات الأولى كالوالدين والأخوة. لهذا تُريده كأخ لها الراضع ثدييّ أمها، فتأخذه بين ذراعيها، وتظهر معه علانية، وتقبله في حضرة البشرية كلها ولا يلومها أحد.
- لعل سرّ دعوتها له برجاء “ليتك كأخ ليّ…” إنما تعلن عن شهوة كنيسة العهد القديم التي كانت تنظر إلى الله كمن هو في الخارج، إذ تقول “أجدك في الخارج”، تطلب إليه أن ينزل إلى جنس البشر ولا يبقى منعزلًا، بل يصير أخًا بكرًا باشتراكه معنا في طبيعتنا وحلوله في وسطنا، فنستطيع أن نتعرف عليه، ونقبله بقبلات العبادة العلنية، وندخل به إلى حياتنا الداخلية.
- وهو أيضًا حديث كنيسة العهد الجديد التي أدركت في نضوح حبها أن السيد المسيحالأخ البكر -وهو ربها وسيدها وعريسها- يُقبله المؤمنون بقبلات العبادة الحية، ويدخلون به إلى بيت أمهم -أورشليم السماوية- ليعيشوا معه وجهًا لوجه في أحضانه الأبدية.
- أما قولها “أنت تعلمني”… فهو كشف بطبيعة المسيحي الحقيقي والخادم الأمين، فإن كانت النفس تلتقي بعريسها وتقبله وتعيش معه في بيت أمها -الكنيسة أو أورشليم السماوية- وهناك تسقيه من خمر بهجتها الممزوجة من عصير رمانها، لكنها تبقى في أتضاع تُريد أن تتعلم… إنها في حاجة إليه ليعلمها أسراره السماوية، حتى في الأبدية حين تبقى في أحضانه تراه على الدوام جديدًا في عينيها… وكأنها من لحظة إلى أخرى -إن صح هذا التعبير إذ لا يوجد في الأبدية لحظات أو زمن- تتعلم شيئًا جديدًا عن أسراره الإلهية.
الخادم الحقيقي يبقى على الدوام في الكنيسة -بيت أمه- عند قدمي المخلص يطلب أن يتعلم، حتى إن دُعي “معلمًا” أو “أبًا” لكثيرين! في هذا يقول القديس أمبروسيوس[181]: [إننيّ أرغب الجهاد في التعلم حتى أكون قادرًا على التعليم. لأنه يوجد سيد واحد (الله) الذي وحده لا يتعلم ما يعلمه للجميع. أما البشر فعليهم أن يتعلموا قبل أن يعلموا ويتقبلوا من الله معلمهم ما يعلمون به الآخرين]. كما يقول القديس إيرونيموس: [إن الفكر الذي يتوق إلى التعلم يستحق المديح ولو لم يوجد له معلم[182]].
- التعلم في الكنيسة -بيت الأم- ليس مجرد معرفة عقلية أو حفظ تعاليم عن ظهر قلب، لكنه في جوهره دخول إلى ممارسة “الحياة مع المسيح” لذلك تقول العروس: “فَأَسْقِيكَ مِنَ الْخَمْرِ الْمَمْزُوجَةِ مِنْ عصير رُمَّانِي“…هذا هو ما أتعلمه أن أرد حبك بالحب.
- حين يدخل الإنسان الكنيسة في صحبة الرب، وهنا يجلس عند قدمي المخلص يتعلم، يُقدم الإنسان خمرًا ممزوجة بعصير الرمان… ماذا يعني هذا؟ رأينا الخمر كرمز الحياة الفرحوالبهجة… فالكنيسة هي البيت المفرح الذي يستقبل الخطاة التائبين فيعطيهم الرب فرحًا داخليًا وبهجة لا تقدر الأحداث الزمنية أن تنزعها. أما الرمان فيُشير إلى حياة الجهاد، فشجر الرمان مملوء أشواكًا، وغلافه مرّ، وفي داخله بذور كثيرة، لكن عصيره يحمل نكهة جميلة وطعمًا لذيذًا. فالفرح في المسيحية يمتزج بالأتعاب والجهاد الروحي حتى النهاية.
تفسير القمص أنطونيوس فكري
آية (1): “ليتك كأخٍ لي الراضع ثديي أمي فأجدك في الخارج وأقبلك ولا يخزونني.“
ليتك كأخٍ لي= إذ كان هذا الإصحاح هو إصحاح الخدمة، نجد أن الخادم عليه أولاً أن يتمتع بمسيحه عريس الكنيسة. وهذا النداء هو نداء كنيسة العهد القديم للرب يسوع ليتجسد. “ويكون بكراً بين أخوة كثيرين” (رو29:8). وهو نفس النداء الذي ردده إشعياء بعد ذلك “ليتك تشق السموات وتنزل” (إش1:64). الراضع ثديي أمي= أي العروس تشتاق أن يكون الرب المتجسد شقيقاً لها (رو29:8). وقد حدث هذا فعلاً وَوُلِد المسيح متجسداً وصار إنساناً كاملاً ورضع من العذراء مريم التي صارت أماً للكنيسة جسد المسيح. وأقبلك ولا يخزونني= فبعد التجسد وبعدما رأيناه من عمل المسيح العجيب دخلنا معه في علاقة حب. والبنت لا يصلح لها أن تقبل غريباً أمام الناس في الخارج. والآن بعد عمل المسيح صارت الكنيسة كارزة بهذا الحب أمام الجميع الذين في الخارج. فكنيسة العهد القديم كانت كنيسة منغلقة غير كارزة أما كنيسة العهد الجديد فأعلنت حبها لمن تجسد لأجلها أمام الجميع بدون خزي.
آية (2): “وأقودك وادخل بك بيت أمي وهي تعلمني فأسقيك من الخمر الممزوجة من سلاف رماني.“
بيت أمها= الكنيسة. فهناك تتعلم كيف تقابل حب المسيح بحبها. وهناك تنكشف لها أسراره السماوية. فحين ترد الحب بالحب فكأنها تسقي المسيح من خمر حبها ليفرح. وحبها هذا ممزوج بعصير= سلاف رماني= أي استعدادها لبذل حياتها حتى الدم مثله. وإذا كانت ثمارها رمان (13:4) فما يفرح المسيح محبتها الباذلة أي تتشبه به.