تفسير رسالة رومية اصحاح 8 للقديس يوحنا ذهبي الفم

لقد مضى الرسول في موضوع آخر، بينما ترك موضوع الخلاص كأمر مسلم به مكتفيا بما بينه لنا. هذا الموضوع، هو أننا لم نتحرر فقط من الأشياء السابقة (العتيقة)، بل أيضا سنفوز من الآن فصاعدا. لأنه:

“.. لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح ” (رو۱:۸).

لم يشر إلى هذا من قبل، إلى أن تذكر الحالة السابقة مرة أخرى. لأنه بعدما قال: ” إذا أنا نفسي بذهني أخدم ناموس الله ولكن بالجسد ناموس الخطية ” أضاف “لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع “. ولأنه كان ضد الكثيرين الذين يخطئون بعدما نالوا المعمودية، لذا نجده يتناول هذا الأمر، فلم يقل فقط ” الذين هم في المسيح يسوع “، بل ” السالكين ليس حسب الجسد “، لكى يبرهن على أن كل شيء يسبينا إلى ناموس الخطية بعد ذلك، هو نتيجة خمولنا. إذ علينا الآن أن نسلك ليس حسب الجسد ، وهذا ما كان يصعب تحقيقه قبل ذلك.

6 ـ ثم يثبت ذلك بطريقة مختلفة قائلاً:

” لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت ” (رو۲:۸).

وهو هنا يدعو الروح القدس، بلقب الروح، لأنه كما قال عن الخطية “ناموس الخطية”، هكذا يقول عن الروح القدس “ناموس الروح”. ومن المؤكد أنه تحدث عن الناموس الموسوي، ووصفه أيضا قائلا: “فإننا نعلم أن الناموس روحي”. إذا ما هو الفرق؟ يوجد فرق كبير وغير محدود. لأن الناموس الموسوى يعتبر روحي، ولكن الآخر هو “ناموس الروح”. فما هي أوجه الاختلاف بينهما؟ أن أحدهما (الناموس الموسوي) قد أعطي بواسطة الروح القدس، بينما الآخر (ناموس الروح)، منح روح الحياة وبوفرة لكل من قبله. ولهذا دعاه “ناموس روح الحياة” من حيث تمييزه عن “ناموس الخطية”، وليس عن الناموس الموسوي . لأنه عندما يقول “أعتقني من ناموس الخطية والموت “، لا يقصد هنا الناموس الموسوي، لأنه لم يصفه في أي موضع بناموس الخطية . لأنه كيف يدعو ناموس موسى هكذا، وهو الذي وصفه 4 مرات كثيرة بأنه عادل ومقدس، وقادر على إبادة الخطية؟ لكنه يقصد ذلك الناموس الذي يحارب ناموس الذهن. هذه الحرب المخيفة إذا قد أوقفتها نعمة الروح القدس، بعدما أماتت الخطية، وجعلت جهادنا أسهل بعدما توجتنا أولاً وقادتنا بعد ذلك بمعونة كبيرة إلى حلبة المصارعات.

وكما إعتاد الرسول بولس، فقد انتقل بعد ذلك من الحديث عن الابن ليتحدث عن الروح القدس، ثم من الروح القدس إلى الابن، ثم إلى الآب، مقدما بإيمان وثقة كل ما يخص أمورنا ويضعها أمام الثالوث، وهذا ما يفعله هنا أيضا. لأنه بالحق حين يقول ” من ينقذني من جسد هذا الموت “؟ فهو يشير إلى الآب مع الابن في تتميم هذا الأمر. ثم بعد ذلك يشير إلى الروح القدس مع الابن لأنه يقول ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني “. وبعد ذلك يذكر الآب مع الابن، لأنه يقول:

” لأنه ما كان الناموس عاجزا عنه في ما كان ضعيفا بالجسد فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد” (رو۳:۸).

مرة أخرى يبدو أنه يدين الناموس، ولكن بشيء من التدقيق يتضح أنه يمتدح الناموس جدا، مظهرا أنه يتفق مع المسيح، وأنه يشتهي نفس الأمور. لأنه لم يقل: ” شر الناموس” بل “ضعف الناموس”، وأيضا ” فيما كان ضعيفا” ليس بسبب أنه هو ضار أو أنه يدبر مكائد. وأيضا لا ينسب له الضعف في حد ذاته بل للجسد قائلاً: ” فيما كان ضعيفا بالجسد ” قاصدا بكلمة “جسد” التدبير الجسدي، وليس طبيعة وجوهر الجسد نفسه. وهو من خلال كل هذا قد برأ الجسد والناموس من أي إدانة.

وهو لم يبرأ الناموس بهذه الأقوال فقط، بل وبالأقوال التي تأتي بعد ذلك. لأنه لو كان الناموس مخالفا، فكيف أتى المسيح ليعين ضعفه ويكمله، إذ مد له يد العون، مدينا للخطية في جسده؟! وهذا كان منتظر أن يحدث، لأن الناموس دان الخطية في النفس قديما . ماذا إذا؟ هل أتم الناموس العمل الأكبر، ولم يقم ابن الله وحيد الجنس إلا بالجانب الأقل؟ إطلاقا هذا العمل الأكبر أيضا قد فعله الله، الذي أعطي الناموس الطبيعي وأضاف الناموس المكتوب، إلا أنه ليس هناك أية فائدة من العمل الأكبر، إن لم يوجد العمل الأقل. فما الفائدة وراء معرفة ما يجب أن نفعله دون أن تنفذه؟ لا يوجد أي نفع، بل أن الإدانة تكون أكبر. فالذي خلق النفس، هو نفسه الذي جعل الجسد خاضعا. لأنه من السهل أن يعلم المرء”، لكن أن يظهر طريقة معينة بها تُصبح هذه الأمور سهلة، فإن هذا هو ما يستحق المدح”. ولهذا تحديدا أتى وحيد الجنس، ولم يصعد إلى السماء إلا بعد أن خلصنا من هذه المعضلة. والأكثر عظمة هو طريقة النصرة. لأنه لم يأخذ جسدا مغايرا، بل نفس الجسد الذي سقط. تماما مثل شخص رأى إمرأة من عامة الشعب وهي تُضرب في السوق، ولكي ينقذها قال للجمع إنه ابنها، بينما هو في الحقيقة ابن ملك، وبهذه الطريقة خلصها من أيدي الذين كانوا يضربونها. هذا ما صنعه المسيح، معترفا بأنه ابن الإنسان، فأعان الجسد ودان الخطية.

لم تعد الخطية فيما بعد تجرؤ على ضرب الجسد. أو من الأفضل أن نقول إنها ضربته ضرية الموت، ولكن الخطية قد أدينت وانتهت بنفس الضربة التي ضربت بها، وليس الجسد، الأمر الذي يستحق الإعجاب أكثر من كل شيء، لأنه بالحقيقة، لو أن النصرة لم تظهر في الجسد، لكان هذا أمر عادي، طالما أن الناموس قد فعل هذا، لكن المدهش هو أن تُصب النصر أقيم مع الجسد، وأن ذلك الجسد الذي هزم من الخطية مرات عديدة، قد ربح نصرة مبهرة ضد الخطية. ها أنت ترى إذا كم من الأمور العجيبة قد حدثت.

أولا إن الخطية لم تنتصر على الجسد.
ثانيا أنها هزمت، وهزمت من الجسد، لأنه ليس هو نفس الأمر أن لا يهزم الجسد ، بل أن ينتصر على تلك التي كانت دائما تنتصر عليه.

ثالثا إن الجسد لم ينتصر فحسب، بل وأدان الخطية أيضا.

وكونه لا يخطئ، فهذا معناه أنه لم يهزم، ولكن كونه أدان الخطية ، فهذا معناه أنه انتصر عليها مظهرا المهابة التي فيه، وهو الذي كان مهائا من قبل. هكذا أبطل المسيح قوة الخطية، وأباد الموت الذي أوجدته هذه الخطية . لأنه حتى ذلك الحين الذي فيه كانت تنقض على الخطاة، كان الموت جزاء لهم عن حق، لكن عندما وجد جسد بلا خطية، وسلم للموت، أدينت لأنها مارست عملا لكنه ليس عن حق.

أرأيت مدى حجم مكافآت النصرة؟ إنها تستعلن في عجز الخطية على هزيمة الجسد، بل هو الذي يهزمها ويدينها، ولا يدينها فقط، بل ويدينها كما لو كانت قد فعلت أمرا خاطئا ومخالفا. لأنه بعدما هاجمها أولاً، كفاعلة للجرم، هكذا أدانها، ليس بقوته وسلطانه، بل أدانها بالعدل لأن هذا ما أعلنه بقوله: “ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد “. كما لو أنه قال، بكتها لأنها أخطأت كثيرا، وبعد ذلك أدانها. أرأيت كيف أنه في كل موضع يدين الخطية وليس الجسد، بل أن هذا الجسد يتوج، وقرار الإدانة ضد الخطية يعلن؟ ولكن عندما يقول إنه أرسل ابنه في شبه جسد الخطية، فلا تعتقد أنه يحمل جسدا آخر، ذلك لأنه قال جسد الخطية، لهذا ذكر كلمة “شبه”. لأن المسيح لم يكن يحمل جسدا خاطئا، لكن شبه جسد الخطية، شبيه بجسدنا، ولكن بلا خطية، وله نفس طبيعة جسدنا. ومن هنا يبدو واضحا أن طبيعة الجسد ليست شريرة. لأن المسيح لم يأخذ جسدا آخرا بلا خطية، ولا غير جوهر الجسد، وذلك لكي يهيئه للحرب ضد الخطية. بل على النقيض أبقاه في طبيعته وجعله يربح إكليل النصرة ضد الخطية، وبعد ذلك أقامه منتصرا وجعله خالدا.

7 ـ لكن ما هي علاقة هذا بنا، إن كانت هذه الأمور قد حدثت في ذلك الجسد (أي جسد المسيح)؟ بالطبع له علاقة خاصة بي وبك، ولهذا أضاف: 

” لكي يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح ” (رو4:8).

ما معنى “حكم”؟ يعني النهاية، الهدف، الإنجاز . إذا ماذا أراد الناموس، وبماذا أمر؟ لقد أراد أن تكون أنت بلا خطية. هذا قد تحقق الآن فينا بالمسيح. والمؤكد أن المقاومة والنصرة ترجع إلى المسيح، بينما التمتع بالنصرة هو لنا نحن. لكن هل معنى هذا أننا لن نخطيء من الآن فصاعدا؟ نعم لن تخطئ، إن كنا غير خاملين، وإن لم نكن جبناء. ولهذا أضاف: “السالكين ليس حسب الجسد “. لكي لا تهمل الاستعداد الكامل عندما تسمع أن المسيح خلصك من الحرب ضد الخطية، وأن حكم الناموس قد اكتمل فيك، مادامت الخطية قد أدينت في الجسد، ولهذا بعدما قال قبلاً “لا شيء من الدينونة الآن ” أضاف “السالكين ليس حسب الجسد “، وهنا يقول لكي يتم حكم الناموس فينا ” نفس الشيء أضافه هنا. أو من الأفضل أن نقول، ليس هذا فقط، بل وأكثر بكثير.

لأنه بعدما قال “لكي يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد” أضاف “بل حسب الروح”، لكي يبين أنه ليس فقط ينبغي علينا أن نبتعد عن الشرور، بل وأن نفتخر بأعمالنا الصالحة. لأنه أن يعطي لك الاكليل، فهذا أمر يعود للمسيح، ولكن أن تحتفظ به، طالما أنه قد أعطي لك، فهذا أمر يرجع إليك . لأن حكم الناموس، بألا تصير غير مسئول عن اللعنة، هذا قد أنجزه المسيح لأجلك. إذا ينبغي عليك ألا تخون هذه العطية العظيمة، بل أن تحفظ هذا الكنز الثمين على الدوام . لأنه يبرهن لك هنا أن خلاصنا بالمعمودية يتطلب حرصنا على أن تظهر أسلوب حياة بعد المعمودية يليق بهذه العطية العظيمة. وبناء عليه فهو يدافع عن الناموس مرة أخرى متحدثا هذه الأمور. لأنه بالحقيقة، طالما أننا قد آمنا بالمسيح، فيجب أن نفعل كل ما في وسعنا وأن نحرص على عمل الصلاح، لكي يبقى فينا ما أتمه المسيح ـ الذي أكمل مطلب الناموس ـ ولا ينقض.

” فإن الذين هم حسب الجسد فبما للجسد يهتمون ولكن الذين حسب الروح فبما للروح ” (رو5:8).

وهذا أيضا لا يعد تشهيرا بالجسد أو تشويها له. لأنه حتى ذلك الحين الذي فيه يحتفظ الجسد بمكانته، لا يحدث أي شيء يثير الغرابة، لكن حين نسمح له أن يفعل كل شيء، متجاوزا حدوده، يثور ضد النفس. وحينئذ يحطم كل شيء، ليس بسبب طبيعته، لكن بسبب الفسق والخطية التي تأتي منه.

” لأن إهتمام الجسد هو موت ولكن إهتمام الروح هو حياة وسلام ” (رو6:8).

لم يقل لأن طبيعة الجسد، أو جوهر الجسد، لكن قال “اهتمام (تدبير) الجسد”، أي الأمر الذي من الممكن أن يصحح أو ينهار. والرسول بولس هنا يتعرض للحديث عن شهوة الذهن الأكثر حماقة، داعيا إياها بالشيء الأكثر سوءا (يقصد اهتمام الجسد)، كما اعتاد مرات كثيرة أن يدعو كل الإنسان جسدا ، على الرغم من أن فيه نفسا.

 أيضا إهتمام الروح ” يقصد الرسول بولس هنا الفكر الروحي، تماما كما قال فيما بعد “لكن الذي يفحص القلوب يعلم ما هو اهتمام الروح” ويوضح أن الخيرات التي تأتي من هذا الفكر الروحي هي كثيرة في الحاضر وفي المستقبل. لأنه مقابل الشرور التي يحملها اهتمام الجسد، فإن اهتمام الروح يمنح خيرات كثيرة. هذا ما أعلنه بالضبط بقوله: ” هو حياة وسلام “. الثاني مضاد للأول “لأن اهتمام الجسد هو موت “. بينما الآخر هو مضاد لما سيأتي بعد ذلك. لأنه بعدما قال “سلام”، أضاف:

” لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله ” (رو7:8).

وهذا ما يعد أسوأ من الموت. ويوضح الرسول بولس هنا أن اهتمام الجسد هو موت وعداوة. “إذ ليس هو خاضعا لناموس الله لأنه أيضا لا يستطيع “.

 لا تقلق عندما تسمع “لأنه أيضا لا يستطيع”. لأنه بالحقيقة من السهل إزالة هذه الحيرة. فبالنسبة لاهتمام الجسد الذي يقصده هنا، أي الفكر الأرضي الأحمق المتطلع لشهوات الحياة الأرضية والأعمال الشريرة ، يقول الرسول بولس إنه من المستحيل أن يخضع لناموس الله”.

هل هناك رجاء للخلاص بعد ذلك، إن كان من المستحيل أن يصير شخص صالحاً عندما يكون هو ذاته شريرا؟ إنه لا يقصد هذا. فكيف صار بولس أفضل حالاً؟ كيف تغير للأفضل؟ ومنسى أيضا؟ وكيف تغير أهل نينوى؟ وهكذا داود بعدما أخطأ، كيف ولد من جديد؟ وكيف صحح بطرس خطأه بعدما أنكر المسيح؟ وكيف صار ذاك الذي زني ، ضمن رعية المسيح؟ كيف رجع أهل غلاطية إلى أصلهم الكريم السابق بعد أن سقطوا من النعمة؟

إذن الرسول بولس لا يقصد أنه من المستحيل أن يصير الشرير صالحا، ولكن ما يقصده هو أن الإنسان لا يمكنه الخضوع لله، وهو لايزال شريرا. أما عندما يتغير، فمن السهل أن يصير صالحا، وأن يخضع لناموس الله. لأنه لم يقل إن الإنسان لا يستطيع أن يخضع لله، لكن العمل الشرير لا يمكن أن يكون صالحا. كإنما يقول إن الزنا ليس هو العفة، ولا الشر فضيلة. هذا ما يقوله الإنجيل إن ” شجرة رديئة لا تستطيع أن تصنع أثمارا جيدة ، لا لكي يستبعد عملية التغير من الشر إلى الفضيلة، لكن لكي يوضح أن البقاء في الخطية، لا يمكن أن ينتج أثمارا صالحة. لأنه لم يقل إن شجرة رديئة لا يمكن أن تصير جيدة، ولكنه قال لا تستطيع أن تصنع أثمارا جيدة، إن ظلت رديئة. أي أنه من المؤكد أن هناك إمكانية لكى تتغير . فمن خلال هذا المثل، ومن خلال مثل آخر قد شرح هذا الأمر، حين أوضح الرب أنه يمكن للزوان أن يكون كالحنطة. ولهذا منع من أن يزال أو يقلع، لأنه ربما “تقلعوا الحنطة مع الزوان، أي الحنطة التي ستنمو مع الزوان . إذن فاهتمام الجسد هو الخطية، واهتمام الروح هو النعمة التي أعطيت، والعمل الذي يتميز بالإرادة الصالحة، دون أن يتحدث هنا عن جوهر الجسد ، بل عن الفضيلة والخطية. لأن مالم تستطع أن تحققه بالناموس، هذا ستحققه الآن، أي أصبح في إستطاعتك أن تسلك في الطريق الصحيح وبدون أخطاء، وذلك إن قبلت معونة الروح. لأنه لا يكفي أن نحيا بدون مطالب الجسد، لكن يجب أن نسلك وفقا لرغبات الروح. وبالمثل فإن تجنب الشر ليس كافيًا لأجل خلاصنا، ولكن ينبغي أن نصنع الصلاح . بيد أن ذلك سيتحقق إذا ما سلمنا أنفسنا للروح، وأقنعنا الجسد أن يعرف مكانته. وعندئذ سنجعل الجسد أيضا جسدا روحيا . وهكذا أيضا فإننا لو كنا خاملين سنجعل النفس جسدية. إذا لأنه لم يربط العطية باحتياج النفس، بل أرجعها إلى حرية الاختيار، فإنه في وسعك أن تحقق هذا أو ذاك، لأن كل الأشياء قد اكتملت بالعطية. ولن تستطيع الخطية أن تُقاوم ناموس ذهننا، أو أن تأسر كما كان يحدث في الماضي. بل إن كل هذه الأمور قد توقفت وانتهت. فقد إنكمشت الشهوات، لأنها تخاف وترتعب من نعمة الروح القدس. لكن عندما تطفئ النور، وتطرد المرشد ، وتبعد القائد أي الروح، فلابد أن تنتظر العواصف التي ستجتاح نفسك فيما بعد.

8 ـ المؤكد أن الفضيلة الآن هي أكثر سهولة، والإنضباط أكثر قوة ، وأعرف جيدا كيف كانت أحوال البشر عندما كان الناموس يسود ، وكيف هي أحوالهم الآن، حيث أشرقت النعمة . لأن تلك الأمور التي كانت تبدو في السابق مستحيلة على أي شخص، كالعفة واحتقار الموت، واحتقار كل الشهوات الأخرى الكثيرة، هذه كلها قد تحققت الآن في جميع أركان المسكونة، وليس لنا نحن فقط، بل وللسكيثيين وأهل ثراكي، وللهنود ، وللفرس، وللأكثرية من البربر. وتوجد أماكن للعذارى، وأعداد كبيرة من الشهداء، وجموع من الرهبان، وعدد الرهبان يفوق عدد المتزوجين، وإزداد الصوم والتجرد الكامل. كل هذا لم يستطع أولئك الذين عاشوا تحت الناموس أن يتخيلوه ولا في أحلامهم ، باستثناء واحد أو اثنين. وعندما ترى حقيقة هذه الأمور التي تصرخ بأكثر قوة، كما من صوت النفير، عليك ألا تظهر ضعفا، ولا تتنكر لنعمة عظيمة بهذا القدر . لأنه ليس ممكنا حتى بعد الإيمان، أن تخلص إن كنت لا تبالي بعطية النعمة . لأن المنافسات سهلة ، ولكي تنتصر، فإنه يجب عليك أن تجاهد لا أن تنام، ولا أن تستخدم عظمة النعمة كدافع للخمول، وتحيا مرة أخرى في الوحل السابق. ولهذا أضاف قائلا:

” فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله ” (رو8:8).

ماذا إذا؟ هل تهلك الجسد لكي نصير مرضيين لدى الله، أو هل نخرج من الجسد؟ وهل تنصحنا أن نكون قتلة، وهل هكذا تقودنا إلى الفضيلة؟ أرأيت كم من الأفكار غير العاقلة تولد، إذا كنا نقبل ما يقال بدون تفكير؟ لأنه لا يتكلم هنا عن الجسد أنه الجسم ولا جوهر الجسم، ولكنه يتكلم عن الحياة الجسدية العالمية، المملوءة بالمتع والإسراف، والتي تجعل الإنسان كله جسدانيا. تماما مثل أولئك الذين يرتفعون بالروح، فيجعلون الجسد جسدا روحيا، هكذا فإن أولئك الذين يهجرون الروح، ويكونون عبيدا للبطن وللشهوات، يجعلون من نفوسهم، نفوسا جسدانية دون أن يغيروا من جوهر النفس . وهذا المعنى نجده في مواضع كثيرة في العهد القديم أيضا، حيث يسجل أن الجسد هو الحياة الأرضية التي بلا معنى، والمنغمسة في شهوات غير مقبولة. لأن الله يقول لنوح: “لا يدين روحي في هؤلاء البشر إلى الأبد لأن هؤلاء هم جسد “. وإن كان نوح نفسه يحمل جسدا. إلا أن هذا لم يكن إدانة، إذ هو أمر طبيعي، بل لأنهم قبلوا الحياة الجسدية. ولهذا بعد أن قال الرسول بولس: “فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله ” أضاف:

” وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح ” (رو9:8).

وهو هنا لا يقصد الجسد في حد ذاته، بل يقصد الجسد الذي انجذب وقهر بالشهوات. وقد يقول أحد، لأي سبب لم يتكلم هكذا بوضوح، ولم يشر حتى إلى الاختلاف؟ فعل هذا لكي يسمو بالمستمع، ولكي يظهر بأن من يريد أن يحيا حياة مستقيمة، لا يسلك بحسب الجسد. لأنه من حيث إن الإنسان الروحي لا يحيا في الخطية، فهذا واضح لكل أحد. لكن الرسول بولس يشير إلى الأمر الأعظم، أن الإنسان الروحي لا يحيا في الخطية، بل ولا في الجسد أيضا، طالما أنه هو نفسه قد صار بالأحرى ملاكاً من الآن، وارتفع إلى السماء، والجسد لم يتعد كونه شيئا يلبسه. وإن كنت تتهم الجسد لأن الحياة الجسدية تحمل اسم الجسد، فإنك بذلك ستتهم العالم، لأن الشر في مرات كثيرة، يسمى بالعالم، تماما كما قال المسيح لتلاميذه: ” لأنكم لستم من العالم” وأيضا قال لإخوته: “لا يقدر العالم أن يبغضكم ولكنه يبغضني. وأيضا ستقولون عن النفس أنها غريبة عن الله، لأنه دعا الذين يحيون في الخداع، نفسانيين.

لكن هذه الأمور ليست هكذا ، لأنه يجب أن نبحث في كل موضع ليس عن الكلمات، بل في رؤية المتحدث، وأن نعرف المعنى الصحيح لكلامه. لأن الكلام عن الصلاح شيء، والكلام عن الشر شيء آخر، والمنطقة الوسط بينهما شيء ثالث. مثل النفس والجسد، فهما في الوضع المتوسط، ويمكن أن يصيرا إما هذا أو ذاك (أي صلاح أو شر). بينما الروح يتعلق دائما بالصلاح، ولا يمكن أن يصير شيئا آخر. أيضا اهتمام الجسد، أي العمل الشرير، يتعلق بالشرور على الدوام، لأنه لا يخضع لناموس الله . إذا لو سلمت النفس والجسد إلى الصلاح، فإنك ستنتمي إلى هذا الصلاح، لكن لو سلمتهما إلى الشر، فستصبح شريكا في هذا الهلاك، ليس بسبب طبيعة النفس والجسد، بل بسبب استعدادك، لأن في مقدورك أن تختار أيا من الأمرين.

9 . ومن حيث إن هذه الأمور تحمل هذا المعنى، وإن ما قيل ليس إدانة للجسد، فإنه يستخدم أيضا هذه الكلمة (أي الجسد) . فلنفحص الأمر بدقة أكثر: ” وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح ” ماذا إذا؟ ألم يكن لهم جسد؟ أم أنهم سلكوا بلا جسد؟ وكيف يمكن أن يكون هذا الأمر؟ أرأيت أنه يشير إلى الحياة الجسدية؟ ولأي سبب لم يقل، أما أنتم فلستم خطاة؟ فعل هذا، لكي نعلم أن المسيح لا يلاشي فقط سلطان الخطية، بل أنه جعل الجسد أكثر خفة وأكثر روحانية، بل وسما به أكثر. تماما كما يحدث وتلتقي النار بالحديد، ويصير الحديد نارا ،هذا يبقى محتفظاً ومع بطبيعته، هكذا جسد المؤمنين والذي يحمل الروح أيضا، يشارك في هذه الطاقة الروحية، ويصبح كله روحيا، محلقاً مع النفس إلى أعلا ، هكذا كان جسد ذاك الذي قال هذه الأمور (أي الرسول بولس). ولذلك فقد احتقر كل متعة وشهوة، وتحمل الجوع والجلد والسجن، ولم يتألم ولم يشكو من كل هذا. ولكي يعلن ذلك قال: “لأن خفة ضيقتنا . لقد درب الجسد جيدا أن يكون في خدمة الروح. 

إن كان روح الله ساكنا فيكم “، لفظة “إن كان”، أشار إليها في مواضع كثيرة، لا لأنه يشك، بل لأنه يؤمن بالأكثر، وبدلاً من ” إن كان “، يستخدم تعبيرات أخرى مثل ” إذ هو”، مثلما يقول: ” إذ هو عادل عند الله أن الذين يضايقونكم يجازيهم ضيقا “76”. وأيضا “أهذا المقدار احتملتم عبئا إن كان عبثاً. “لكن إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له “. لم يقل إن لم يكن لكم، لكنه ذكر الأمر المحزن أو المؤلم لأولئك (السالكين حسب الجسد). ” فذلك ليس له ” ثم يقول ” وإن كان المسيح  فيكم “. مرة أخرى يشير الصلاح الذي في هؤلاء (السالكين حسب الروح). وهو يشير إلى الشيء المحزن في عجالة وفي جملة عرضية، بينما الأمر المرغوب فيه يشير إليه من جانبين (أي من جهة الجسد ومن جهة النفس) وبأساليب كثيرة، حتى يخفي الأمر المحزن، وهو يقول هذا ، لا لكي يطلق على الروح اسم المسيح، حاشا، بل لكي يظهر أن من له الروح، ليس فقط ينتسب للمسيح، بل يكون له المسيح نفسه. لأنه ليس ممكنا عندما يكون الروح حاضرا، ألا يكون المسيح حاضرا. لأنه حيث يوجد أقنوم واحد في الثالوث، هناك يكون الثالوث كله حاضرا، طالما أنه غير منقسم، وواحد في الجوهر . وماذا سيحدث لو كان المسيح فيكم؟

” وإن كان المسيح فيكم فالجسد ميت بسبب الخطية وأما الروح فحياة بسبب البر ” (رو10:8).

أرأيت كم من الشرور تأتي لو أن شخصا ليس له الروح القدس؟ موت، وعداوة لله، لمن لا تعجبه نواميس الله، ولذاك الذي لا ينتسب كما ينبغي للمسيح، ومن لا يكون المسيح فيه، لاحظ إذا كم الخيرات التي تأتي من كون الروح فيه، وأنه ينتسب للمسيح، ويكون المسيح فيه، وينافس الملائكة ، لأن هذا ما يعنيه بقوله “فالجسد ميت”. إذ نحيا حياة خالدة، ويكون لك من الآن ضمانًا للقيامة، وتركض بسهولة في طريق التقوى ، لأنه لم يقل إن الجسد لن يفعل الخطية بعد ذلك، بل قال “فالجسد ميت”، فيزيد من سهولة الطريق، إذ يتوج الجسد من الآن فصاعدا بدون صعوبات وأتعاب . ولهذا فقد أضاف فمن جهة “الخطية”، لكي تعلم أن ما قضى عليه المسيح إلى الأبد هو الشر، وليس طبيعة الجسد؛ ولذلك إن كان هذا قد حدث، فستختفي أشياء كثيرة من تلك الأمور، وهذا ما يعود بالفائدة على النفس. لا يقصد هذا، لكن ما يقصده هو أنه مع بقاء الجسد، فإنه يكون ميتا (من جهة الخطية). لأن هذا يمثل دليلاً على أن لنا الابن وأن الروح القدس داخلنا ، وأن أجسادنا بالنسبة للخطية لا تختلف عن أجساد الأموات . لكن لا تخف، عندما تسمع كلمة الموت، لأنك تحمل الحياة الحقيقية، ولن يسودك أي موت، مثل هذه الحياة هي حياة الروح التي لن تتراجع أمام الموت، بل تهدمه وتلاشيه، وذلك الذي أخذ الروح يحفظه الروح خالدا. ولهذا تحديدا فهو، عندما قال، الجسد ميت، لم يقل إن الروح حي، بل قال: “أما الروح فحياة “، لكي يبرهن كيف أنه يستطيع أن يهب الحياة للآخرين. ومرة أخرى يجذب انتباه المستمع، فيتحدث عن سبب الحياة، وهو البر. لأنه حيث لا توجد خطية، فإن الموت لن يظهر، وحين لا يظهر الموت، فإن الحياة تكون أبدية.

” وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنا فيكم فالذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادكم المائتة أيضا بروحه الساكن فيكم” (رو11:8).

مرة أخرى يعود إلى الكلام عن القيامة، لأن هذا الرجاء أعطى شجاعة كبيرة جدا للمستمع، ويؤكد على القيامة من خلال تلك الأمور التي حدثت للمسيح. إذا لا تخف كما يؤكد الرسول بولس، لأنك تحمل جسدا ميتا (من جهة الخطية) خذ الروح داخلك، والروح سيقيمك على أي حال.

ماذا إذا؟ هل الأجساد التي ليس لها الروح القدس لا تقوم؟ وكيف سيمثل الجميع أمام عرش المسيح؟ وكيف يكون الكلام عن جهنم موضع تصديق؟ لأنه إن لم يقم أولئك الذين ليس لهم الروح، فإن جهنم أيضا لن توجد. ماذا يعني هذا الكلام إذا؟ يعني أن الجميع سيقومون، لكن ليس الجميع للحياة، بل أن البعض للجحيم، والبعض للحياة. ولهذا لم يقل سيقيم، لكن “سيحيي”، الأمر الذي هو أكثر من مجرد القيامة، والذي أعطي فقط للأبرار. وبعدما أشار إلى سبب هذه الكرامة العظيمة، أضاف قائلاً: ” بروحه الساكن فيكم”. وبناءا على ذلك، فإذا كنت ترفض نعمة الروح القدس وأنت في هذه الحياة الحاضرة، فستموت دون أن تحصل على البراءة ، وستخسر كل شيء، حتى وإن قمت. لأنه كما أنه لا يحتمل أن يسلمك للجحيم، عندما يرى أن روحه مشرق فيك، هكذا عندما يراه منطفئا، فلن يقبل أن يقودك إلى عرسه، تماما مثلما حدث مع العذاري الجاهلات.

10. لا تترك جسدك الآن يحيا في الخطية، لكي يحيا يوم الدينونة ، اجعله يموت عن الشهوات، لكي لا يموت فيما بعد. لانه من المستحيل أن يبقى حيا على الدوام، هذا سيحدث في القيامة العامة، لأنه ينبغي أن يموت الجسد أولا ويدفن، وبعد ذلك سيصير خالدا. وهذا قد حدث في المعمودية . إذا فقد صلب الجسد أولاً، ودفن، وبعد ذلك قام. وهذا قد حدث أولاً في جسد الرب. لأنه بالحق قد صلب، ودفن، وبعد ذلك قام، فلنصنع هذا نحن أيضا. لنميت الجسد دوما في أعماله. لا أقصد جوهر الجسد، فمثل هذا التفكير بعيد تماما، لكن ينبغي أن ثميت الشهوات المرتبطة بالأعمال الشريرة، لأنه بالحقيقة هذه هي الحياة، أو من الأفضل القول إن هذه فقط الحياة؛ في أن ألا يعاني أحد من أي شيء بشري، ولا أن يكون عبدا للشهوات. لأن كل من يخضع لهذه الشهوات لا يمكنه أن يحيا، بسبب الضيقات التي تأتي منها، ومن المخاوف، ومن الأخطار، ومن الآلام الكثيرة التي لا تُحصى. لأنه لو أدرك أن الموت قادم، فإنه يكون قد مات خوفا قبل أن يأتي الموت. وأيضا إن توجس خوفا من مرض، أو هوان، أو فقر، أو أي شيء آخر من الأشياء غير المتوقعة، فحينئذ يكون قد هلك من جراء ذلك . إذا هل يمكن أن تكون هناك تعاسة أكثر من هذه الحياة؟

الأمر يختلف بالنسبة لمن يحيا بالروح، فهو يعلو على المخاوف، والأحزان والأخطار، وكل التقلبات، ليس من حيث إنه لا يتكلم بشيء، لكن من حيث إنه يحتقر هذه الأشياء عندما تحل، الأمر الذي يعد أكثر أهمية بكثير. لكن كيف سيحدث هذا؟ يحدث عندما يسكن الروح بالكامل داخلنا، لأنه لم يقل فقط الروح يسكن فينا لفترة قصيرة، بل يسكن على الدوام. ولهذا لم يقل الروح الذي سكن، لكن “الساكن”، مظهرا إقامته الدائمة، وبناء على ذلك فمن يحيا، يكون أساسا هو الذي مات عن الحياة في الخطية. لهذا قال ” وأما الروح فحياة بسبب البر”. ولكى يصير الكلام أكثر وضوحا، دعونا نستعرض اثنين من البشر: واحد منهما إستسلم للفسق واللذات، والحياة الزائفة، والآخر عاش ميثا من جهة هذه الأمور، ولنرى من هو الذي يحيا بالأكثر. ليفترض أن واحـد من الاثنيـن غني جدا ومشهـور، ويتغذى على التطفل والنفاق، ويلهو ويسكر، ويستنزف كل يومه لتحقيق هذا الهدف، بينما الآخر يحيا في فقر وصوم، ويحيا يومه في تجرد وعفة، وفي المساء يأكل الطعام الضروري فقط. ولو أنك تريد الحقيقة، فهو في الغالب يبقى صائما لمدة يومين وثلاثة أيام، إذا من فيهما الذي يحيا بالحق؟

اعرف جيدا أن الكثيرين سينظرون بتقدير إلى ذاك الذي يحيا باستمتاع ويبذر ثروته بسفه، أما نحن فتقدر الذي يتمتع لكن باعتدال واتزان. إذا لأنه يوجد اختلاف حول ذلك، لندخل بيوت الاثنين، وبالرغم من أنك تعتقد أن الغني يحيا في نفس الوقت نفس المتع، بيد أنك سترى جيدا حالة كل منهما بعدما تدخل، لأن الأعمال هي التي تظهر وتوضح من الذي يحيا؟ ومن الذي مات؟

فالواحد ستجده يدرس الكتاب المقدس حسنا ويصلي ويصوم بإعتدال، وفي الأمور الأخرى الهامة نجده يقظا وهادئا، وله علاقة بالله، بينما الآخر ستجده ثملاً وليس بأي حال أفضل من الميت، ولو أننا إنتظرنا حتى المساء، سترى أن الموت يأتي بالحري إلى هذا الشخص. في إطار هذه الحالة أيضا ـ أي حالة السكر – يداهمه النوم بإستمرار، بينما الآخر ستجده وقت المساء متيقظا وفي حالة سلام. من منهما إذا تقول عنه إنه يحيا حقا، هل الذي يرقد بلا وعي والذي يثير سخرية الكل؟ أم ذاك الذي يعمل ويتحدث مع الله؟ فإنك إن إقتربت من ذاك الثمل وقلت له شيئا خطيرا، فلن تسمعه يقول شيئا، تماما كما لـو كـان ميثـا. لكـن لو رغبت أن تقترب من الآخر سواء في الليل أو النهار فسترى إنه ملاك أكثر منه إنسان، وستسمعه يتكلم بالحكمة عن الأمور السمائية.

أرأيت أن الواحد يحيا أكثر من كل الأحياء، بينما الآخر هو أكثر تعاسة من الأموات؟ ولو أنه قرر أن يضع شيئا في مكان ما، فإنه يضعه في غير موضعه ويشابه المختلين، أو من الأفضل القول إنه أكثر بؤسا منهم. لأنه بالنسبة لهؤلاء لو وجدنا شخصا منهم يهان سنشفق عليه ونوبخ من يهينه. أما بالنسبة لذاك الثمل، فحتى لو رأينا شخصا يندفع نحوه ويلقيه أرضا، فإننا ليس فقط لن نتأثر ولن نشفق عليه، بل ونكون ضده . إذا هل هذه حياة، بالطبع ليست هذه حياة، إنها رديئة أكثر من آلاف الميتات؟

أرأيت أن الذي يلهو، ليس فقط يعتبر ميئا، بل هو أسوأ من ميت، وأكثر تعاسة من الذي به شيطان؟ لأن الواحد (الميت عن الخطية) يحب، بينما الآخر (الثمل) يبغض. والأول يتمتع بالغفران، بينما الآخر يعاقب من أجل شهواته هذه، وهو مثار لسخرية كبيرة من الخارج ، يسيل منه لعاب قذر وتفوح منه رائحة خمر. تأمل في تلك النفس البائسة المدفونة في هذا الجسد كما لو كانت في قبر، في حالة وحدة. نفس الشيء يمكن أن تراه، لو أن شخصا أعطي الإمكانية لخادمة همجية ووقحة أن تندفع وثهين سيدة وقورة، مهذبة، حرة، نبيلة وحسنة، فهذا هو السكر.

إذا من من هؤلاء الذين لديهم فكرا أو رؤية لا يفضل الموت آلاف المرات على أن يحيا على هذا النحو يوما واحد؟ لأن الثمل حتى لو أنه بدا هادئا ، بعدما يفيق من ذلك الوضع المهين، لن يكون لديه عقل نقي، طالما أن الضباب الذي يأتي من شهوة السكر يمتد ويخيم على عينيه. أما إذا حدث وكان ساكنا تماما. فما هو النفع؟ فهذا السكون لا يمثل نفعا في أي شيء لهذا الشخص، إلا فقط من حيث إنه يرى الذين يدينوه . كما أنه حين تسوء حالته، يفقد وعيه، ولا يعرف هؤلاء الذين يسخرون منه. لكن عندما يطلع النهار فهو يفقد حتى هذه الحالة، أي عدم المعرفة، إذ يعي بعدها أن خدامه يتململون من خدمته، وزوجته تخجل منه، وأصدقاؤه يوشون به، وأعداؤه يستهزئون به. هل توجد تعاسة أكثر من تعاسة هذه الحياة، حيث يهزأ الجميع به ليلاً، وفي المساء التالي يكرر نفس الأمور المشينة؟

11 ـ لكن ماذا؟ أتريد أن تتكلم عن الجشعين؟ فالجشع يعتبر حقيقة، سكرا آخر يثير فزعا أكثر، وطالما أنه سكر، فهو على أية حال موت أسوأ بكثير من الموت الفعلي، لأن الجشع أمر مفزع جدا. فالسكر بالخمر لا يعد أمرا سيئًا، إذا ما قورن بشهوة اقتناء المال . لأن الخسارة في هذا المجال تصل إلى حد الألم، وتنتهي إلى فقدان الحس وتدمير الثمل لنفسه، أما بالنسبة للجشع فإن الضرر ينتقل إلى آلاف النفوس، لأنه يشعل حروبا مختلفة في كل مكان ، لتقارن الجشع، بالثمل، ولنر في أي النقاط يتفقان، وفي أي النقاط أيضا يتجاوز أحدهما الآخر، ولثقارن الآن بين السكارى. لأنه لا ينبغي أن نقارن هؤلاء، بالمطوب الذي يسلك بالروح. بل لنفحص هؤلاء فيما بينهم. دعونا تُحضر في المنتصف تلك المائدة المليئة بكثير من جرائم القتل. إذا في أي النقاط يتفقان ويتشابهان فيما بينهما (أي الثمل والجشع)؟ يتفقان ويتشابهان في نفس طبيعة المرض.

من المؤكد أن هناك اختلاف في أنواع السكر، فواحد يأتي من النبيذ ، والآخر يأتي من المال. أما الشهوة فهي واحدة، لأن الاثنين مأسوران بشيء واحد أي بشهوة رديئة. لأن الذي يسكر فإنه بقدر ما يشرب من كؤوس، بقدر ما يشتهي أكثر. وذاك الذي يشتهي المال جدا، يرغب في اقتناء المزيد ، ويشتعل فيه لهيب الشهوة أكثر، ويصبح العطش للمال مرعبا جدا . إذا فهما متشابهان في ذلك. لكن محب الفضة، يفوق الثمل. وهذا ما سنوضحه. إن الذي يسكر يعاني من جراء أمر طبيعي، لأن النبيذ الدافئ، يزيد من درجة الجفاف الطبيعي، وهكذا يجعل السكارى يعطشون، بينما الآخر الذي يشتهي المال بصفة دائمة، فإنه يطلب المزيد. وكيف، يصبح فقيرا، عندما يصير غنيا؟ إن هذا الهوس هو أمر محير تماما، ويبدو بالأكثر أنه يشبه اللغز.

لكن لنر هؤلاء، بعد السكر، إن أردت أن تعرف عنهم شيئا. أو من الأفضل لنر الجشع، فمن غير الممكن أبدا أن نراه بعد السكر[ يقصد سكر محبة المال]، إذ أنه يوجد في حالة سكر دائم وشديد.

وبناء على ذلك لنر، عندما يوجد الاثنان (السكران والجشيع) في نفس حالة السكر، ولنفحص من منهما الأكثر عرضة للسخرية، ولنرسم ملامحهما، واصفين أيضا كلاهما بدقة. سنرى أن ذاك الذي يسرف في شرب النبيذ، عندما يأتي المساء، لا يمكنه أن يرى أحدا، رغم أن عينيه تكونان مفتوحتين، بل ويتجول بلا هدف وبدون سبب، ويصطدم بالذين يقابلهم، ويتقيأ، ويضرب ويتعرى بدون لياقة، سواء كانت زوجته حاضرة، أو كانت ابنته، أو خادمته، أو أي أحد آخر.

– أتضحكون بشدة؟ لنتحدث الآن عن الشره أو الجشع، لأن الأمور هنا لا تستحق الضحك فقط، لكن تستحق اللعنة، والغضب الشديد. بل لنر السخرية أولاً، لأنه بالحقيقة الجشع والثمل يجهلان الجميع: الأصدقاء والأعداء، وكل منهما يعتبر أعمى، على الرغم من أن عينيه مفتوحتان. وكما أن السكران ينظر إلى كل شيء على أنه نبيذ، هكذا الجشع أيضا يرى كل الأشياء وكأنها أموالاً.

والقيء – في حالة الجشيع ـ هو شيء مخيف جدا. لأنه لا يخرج أطعمة، بل كلام إهانة وشتائم، وحروب وموت، وهي أمور تجلب صواعق لا تُعد على رأسه. ومثلما يكون جسد الثمل متورما ومرتخيا، هكذا تكون نفس ذاك الشره، بل أن مثل هذه الأمراض تسود على جسده، طالما أن الانشغال، والغضب، والسهر، يستنزفه أكثر من النبيذ، وشيئا فشئيا يدمره بالكامل. ومن المؤكد أن من تسيطر عليه شهوة السكر، يمكنه بعد عبور الليل أن يكون هادئا أو غير مضطرب، أما الجشع فيكون ثملاً نهارا وليلاً، عندما يكون مستيقظا، وعندما يكون نائما، ويعاقب بأشد من عقاب أي سجين وأي عامل في المناجم.

إذن هل هذه حياة، أو من الأفضل أن نقول، أليست هذه هي أكثر تعاسة من كل موت؟ لأن الموت يريح الجسد ويخلصه من السخرية، والأمور الشائنة، والرذائل، بينما هذه الأطماع تلقيه في كل هذه الأمور المعيبة التي تصم الآذان وتعمي الأعين، وتحبس الذهن في ظلام شديد . لأنه لا يحتمل أن يسمع أو يقول شيئا آخرا، سوى تلك الأمور المتعلقة بالفوائد والأرباح القذرة ، والتجارة البغيضة، إنها موضوعات دنيئة وخسيسة، مثل كلب ينبح نحو الجميع، كارها للجميع، ويمقت الكل، ويعاديهم، بلا سبب، ساخطا على الفقراء، حاسدا للأغنياء، دون أن يفرح بأحد. حتى وإن كانت لديه زوجة أو أولاد أو أصدقاء، فإن كان غير قادر على أن يربح أحدا منهم، فسيكون هؤلاء أعداءا له، أكثر من أعدائه الطبيعيين أو الحقيقيين. هل هناك أسوأ من هذا الهوس؟ وما هو أكثر تعاسة من هذا، حين يعد هذا الإنسان لنفسه وعلى الدوام، عوائقا، وصخورا، وانحدارا، وهوة سحيقة، ومشاكل لا تُحصى، بالرغم من أن له جسد واحد ، وهو عبد لبطن واحدة؟

ولو أن شخصا كلفك بمهام سياسية ألا تهرب لأنك تخشى التكلفة، في حين تُجهز لنفسك أعمالاً لا حصر لها، ليس فقط أكثر تكلفة، بل أيضا أكثر خطورة، إذ أنها مرتبطة بالمال، مقدما لهذا المستبد الشرير، ليس فقط أموالاً، ولا جهدا جسديا، ومتاعب نفسية وآلاما، بل تقدم دمك، يا لتعاستك وأنت تخضع لهذه العبودية المرة؟ ألا ترى هؤلاء الذين يحملون كل يوم إلى القبور، كيف ينقلون عراه مجردين من كل شيء من أملاكهم، بل إن أجسادهم هذه يقدمونها للحشرات؟ ينبغي أن تفكر في هؤلاء كل يوم، ربما تتوقف عندك شهوة التملك، لأن الشهوة هي بالحقيقة صعبة، والمرض مخيف. ولذلك نحن اعتدنا أن نكلمكم في هذا الموضوع في كل اجتماع، ودائما ما نملأ آذانكم بهذا الكلام، حتى يصبح له أهمية، على الأقل من خلال هذه العادة.

أيضا لا تختلفوا معي، لأنه ليس فقط توجد عقوبات كثيرة في الدينونة الأخيرة، بل حتى قبل أن تأتي الدينونة، فتلك العقوبات هي نتاج هذه الشهوة متعددة الأشكال، لأنه وإن كنت بعد أشير إلى السجناء بصفة دائمة، أو ذاك المقيد بالمرض لسنوات عديدة، أو من يصارع الجوع، أو أى أحد آخر، فلا أحد يستطيع أن يدلل كيف يعاني من نفس الأمور التي يعاينها أولئك الذين يشتهون المال بشكل زائد عن الحد. إذا هل هناك شيء أكثر بشاعة من أن يكون المرء مكروها من الجميع؟ وأن يبغض الجميع؟ وأن يرتاب في أي شخص؟ وأن لا يشبع مطلقا؟ وأن يعطش على الدوام؟ وأن يصارع الجوع على الدوام. وأن يكون أكثر خوفا من الجميع؟ وأن يعاني الحزن اليومي؟ وأن يكون سلبيا على الاطلاق؟ وأن يعيش في قلق واضطراب دائم؟ لأن كل هذا، بل وأكثر يعانيه الجشعون، طالما أنهم بالنسبة للمكسب لا يشعرون بأي فرح حتى لو كانوا يملكون كل شيء، لأنهم يشتهون ما هو أكثر ويعتقدون أنهم فقدوا الكثير، وأنهم فقدوا حياتهم ذاتها لو خسروا حتى فلسا واحدا فقط.
أي كلام إذا يمكن أن يصف هذه الشرور؟ لو أن أمورك في هذا الدهر هي بمثل هذه الشرور. عليك أن تفكر فيما ستؤول إليه فيما بعد: فقدان الملكوت، القيود الدائمة، ظلام الجحيم، الحشرات السامة، صرير الأسنان، الحزن والألم، الضيقة، نهر النار، والأتون الذي لا يطفأ أبدا. وبعدما تجمع كل هذا وتقارنه بفرح اكتناز الأموال، ينبغي أن تقتلع هذا المرض من الجذور، حتى أنك عندما تكتسب الغنى الحقيقي، وتتخلص من هذا الفقر المخيف، ستنال الخيرات الوفيرة في الزمن الحاضر، وفي الدهر الآتي أيضا بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمین.

فاصل

العظة الخامسة عشر: رو8: 12-13

” فإذا أيها الاخوة نحن مديونون ليس للجسد لنعيش حسب الجسد. لأنه إن عشتم حسب الجسد فستموتون. ولكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون” (رو۱۲:۸۔۱۳).

بعدما أظهر كيف أن مجازاة الحياة الروحية هي عظيمة، وأن المسيح يعمل في هذه الحياة، وأنه يحيي الأجساد الفانية، ويعطي أجنحة للتحليق نحو السماء، ويجعل طريق التقوى سهلا، يرى من الضروري أن يضيف بعد ذلك كله، ناصحا: فإذا نحن مديونون ألا نحيا بحسب شهوات الجسد. ومن المؤكد أنه لم يقل هذا بشكل ضعيف، لكنه تكلم بأكثر حماس وأكثر قوة، قائلا: نحن مديونون أن نحيا بالروح. وكونه يقول ” نحن مديونون ليس للجسد لنعيش حسب الجسد”، فهو يريد أن يؤكد ويشدد على هذه الحقيقة. وفي كل موضع، يوضح أن تلك الأمور التي صنعها لنا الله، لا تمثل دينا ، لكنها تعتبر فقط دليل نعمة، بينما تلك الأمور التي نصنعها نحن بعد كل هذا، هي دليل دين. لأنه عندما يقول: ” قد اشتريتم بثمن فلا تصيروا عبيدا للناس فهذا هو ما يقصده. وعندما يكتب “.. أنكم لستم لأنفسكم فهو يعني بالضبط الأمر ذاته. وفي موضع آخر يذكر أيضا بتلك الأمور عينها، قائلا: “إن كان واحد مات لأجل الجميع فالجميع إذا ماتوا .. كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم “. هذا بالضبط ما يدلل عليه هنا، إذ يقول: ” نحن مديونون “. 

ثم بعد ذلك، لأنه قال: “نحن مديونون ليس للجسد “، ولكي لا تعتقد أنه يشير لطبيعة الجسد، لم يكتف بهذا، بل أضاف ” لنعيش حسب شهوات الجسد “. لأنه بالحقيقة هناك أمور كثيرة نحن مديونون بها للجسد: أن تطعمه، أن ندفئه، أن نعتني به حين يمرض، أن نكسوه، وأن تقدم له أمورا أخرى كثيرة. ولكي لا تتصور أنه يبطل هذه الخدمة، فبعدما قال: ” نحن مديونون ليس حسب الجسد ” فسر هذا قائلاً: ” لنعيش حسب “شهوات الجسد”. إذا هو يبطل هذا الاهتمام أي “شهوات الجسد”، الذي يقود للخطية ، لأنه يريد أن نسلك وفقا لكل ما هو خارج شهوات الجسد، الأمر الذي شرحه بعد ذلك. لأنه بعدما قال: “لا تصنعوا تدبيرًا للجسد ” أضاف: “لأجل الشهوات هذا ما يعلم به هنا تحديدا، قائلاً: لنعتني بالجسد، لأننا مديونون لهذا الجسد، لكن ينبغي علينا ألا نعيش وفقا لشهوات الجسد ، بمعنى ألا نجعل الجسد يسود على حياتنا، أو ينظم حياتنا، بل أن تخضعه لناموس الروح.

إذن بعدما حدد وبرهن على ما يقول، أي أننا مديونون أن نعيش بحسب الروح، أظهر بعد ذلك أفعال وإحسانات نحن مديونون لها ، وهو لا يتكلم عن الأمور الماضية بل عن أمور الدهر الآتي، الأمر الذي لأجله تتجلى حكمة الرسول بولس بشكل خاص، وإن كان من المؤكد أن تلك الأمور الماضية تعد كافية، لكنه لا يشير إليها الآن، ولا يتحدث عنها ، بل يتحدث عن أمور الدهر الآتي، لأنه أي إحسان أعطي مرة واحدة، لا يمكن عادة أن يجذب عددا كبيرا من البشر، بقدر ما يجذبهم انتظار أمور الدهر الآتي . ولأنه يهدف إلى ذلك، فهو يثير المخاوف من الأمور المحزنة والشرور التي تنتج عن الحياة حسب الجسد ، قائلاً الآتي: ” لأنه إن عشتم حسب الجسد فستموتون .. ” مشيرا إلى الموت الذي لا ينتهي، أى الجحيم، والعقاب في جهنم. لكن لو أراد المرء أن يفحص بتدقيق هذا الأمر، سيجد أن مثل هذا الإنسان يموت في هذه الحياة أيضا، الأمر الذي شرحته لكم بكل وضوح في حديث سابق . ” لكن إن كنتم بالروح تميتون أعمال الجسد فستحيون ” أرأيت أنه لا يتحدث عن طبيعة الجسد، بل عن أعمال الجسد؟ لأنه لم يقل: إن كنتم بالروح تميتون طبيعة الجسد، بل “أعمال الجسد”، وليست كل أعمال الجسد ، بل الأعمال الشريرة فقط. وهذا صار واضحا من الكلام الذي أتى بعد ذلك، لأنه يقول إن فعلتم هذا ، فستحيون.

وكيف يكون ممكنا أن يحدث هذا، إذا كان يتكلم عن كل الأعمال؟ لأن الرؤية والسمع، والكلام، والمشي هي من طبيعة الجسد، فإن حدث وجعلنا هذه الأعمال تموت، فسنغادر الحياة، طالما أننا سنعاقب أنفسنا بالقتل. إذا فما هي الأعمال التي يريد الرسول بولس أن نميتها؟ – الأعمال المرتبطة بالشر، تلك التي تسير نحو الخطية، والتي من غير الممكن أن ثميتها بطريقة مختلفة، إلا بواسطة الروح فقط. لأن الأعمال الأخرى من الممكن أن يميتها المرء، بعدما يقتل نفسه، الأمر الذي هو غير مقبول، بينما هذه الأعمال ثميتها بالروح. لأنه في حضور الروح تهدأ كل الأمواج، والشهوات كذلك ستتراجع، ولن يثور أي شيء يمكن أن يواجهنا. أرأيت كيف أنه بحديثه عن أمور الدهر الآتي – الأمر الذي سبق وأشار إليه – يحثنا ويبرهن على أننا مدينون، وليس من قبل تلك الأمور التي حدثت سابقا؟ لأن الإنجاز الذي حققه الروح لا يقتصر فقط على أنه خلصنا من الخطايا السالفة، بل جعلنا لا تهزم في مسيرتنا نحو حياة الدهر الآتي، وجعلنا أيضا مستحقين للحياة الأبدية.

۲ ـ وهو يشير إلى مكافأة أخرى إذ يقول:

 ” لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله ” (رو14:8).

هذه المكافأة هي أكبر بكثير من السابقة. ولهذا لم يقل لأن كل الذين يحيون فقط بروح الله، لكن ” كل الذين ينقادون بروح الله ” مظهرا كيف ينبغي أن يكون الروح القدس هو المهيمن على حياتنا، مثل قائد السفينة، أو مثل اللجام في يد قائد عربة يجرها جوادان. وليس الجسد فقط، هو الذي يخضع لهذا اللجام، بل والنفس أيضا.

لأنه لا يريد لهذه النفس أن تسود أو تتسلط، بل تكون السيادة لقوة الروح القدس. قال هذا حتى لا يهملوا أو يتهاونوا، بعدما نالوا الجرأة، بواسطة نعمة المعمودية في سلوكهم المتوقع (أي بعد المعمودية)، وهو يؤكد هكذا على أنه حتى وإن إعتمدت، فقد يحدث ألا تنقاد بالروح، وتخسر الرتبة التي أعطيت لك، وتخسر كرامة التبني. ولهذا لم يقل كل من أخذ الروح، لكن ” كل الذين ينقادون بروح الله ” بمعنى كل الذين يحيون هكذا كل حياتهم ” هؤلاء هم أبناء الله “. ثم بعد ذلك، لأن هذه الرتبة أو هذا المقام قد أعطي لليهود: ” أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم . وأيضا ” ربيت بنين ونشأتهم “، و” إسرائيل ابني البكر “، وأيضا يقول الرسول بولس “ولهم التبنى” – يبين فيما بعد ـ مقدار الفرق بين الكرامة القديمة، وهذه الكرامة (الخاصة بالبنوة لله تحت قيادة الروح القدس).

لأنه إن كانت التسميات هي نفسها، لكن الأشياء ليست هي نفسها. وهو يعطي دليل واضح لهذه الأمور، ويعقد مقارنة بين أولئك الذين نالوا شيئا، وبين تلك الأمور التي أعطيت، وتلك التي ستحدث . أولاً يظهر ما هي تلك الأشياء التي أعطيت للقدماء . حسنا ما هي هذه الأشياء؟ هي روح العبودية، ولهذا أضاف:

” إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضا للخوف بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الآب” (رو15:8).

ثم بعد ذلك وطالما أنه أغفل الإشارة إلى ما هو عكس العبودية، أي روح الحرية، ذكر ما هو أعظم بكثير، روح التبني، والذي به أدخل أيضا روح الحرية، قائلاً: “بل أخذتم روح التبني “. وهذا واضح، لكن ماذا يعني بروح العبودية؟ هذا غير واضح. ولذلك كان عليه أن يجعل هذا الأمر واضحا. لأن ما قيل، ليس فقط غير واضح، بل إنه لم يفسره أو يشرحه على الاطلاق، لأن الشعب اليهودي لم يأخذ الروح. إذا ماذا يقصد هنا؟ فقد وصف الحروف أو الكلمات بأنها روحية، لأنها كانت روحية، تماما كما دعي الناموس روحيا، وهكذا أيضا بالنسبة للماء الذي جرى من الصخرة، والمن الذي نزل من السماء. لأنه يقول ” جميعهم أكلوا طعاما واحدا روحيًا. وجميعهم شربوا شرابا واحدا روحيا . والصخرة دعاها أيضا هكذا قائلاً: “لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم “. إذا لأن كل هذا الذي حدث، كانت أشياء تفوق الأمور الطبيعية، فقد دعاها روحية، وليس لأن أولئك الذين شاركوا فيها كانوا قد نالوا الروح في ذلك الوقت.

وكيف كانت تلك الحروف حروف عبودية؟ ادرس كل حياة بني إسرائيل وحينئذ ستعرف هذا جيدا. لأن العقوبات أيضا كانت أمامهم والمكافأة كانت تُعطى على الفور، وكانت قانونية، وقد أعطيت للعبيد مثل طعام يومي، وكان هناك خوف شديد في كل موضع من تطهيرات الجسد ، والانضباط المطلوب، مرورا بالأعمال الجسدية. لكن بالنسبة لنا لم يحدث نفس الشيء، بل أن الفكر والضمير قد تنقيا بالكامل. لأن المسيح لم يقل فقط لا تقتل، بل أيضا لا تغضب، ولم يقل فقط لا تزن، بل لا تنظر بشهوة، حتى يصل الإنسان إلى النقاء الكامل، لا بسبب الخوف من العقوبات الحاضرة، بل بسبب الشوق والمحبة لله، والرغبة في ممارسة الفضيلة كشيء معتاد، بالإضافة إلى بعض الإنجازات الأخرى، ولم يعد الله بأرض تفيض عسلا ولبنا، بل جعل الإنسان وارثا مع ابنه وحيد الجنس، مبعدا إيانا ـ بكل الوسائل ـ عن الاعتماد على الخيرات الحاضرة، واعدا بالخيرات التي ينبغي أن يأخذها معنا أيضا أولئك الذين صاروا أبناء لله، تلك الخيرات التي ليس فيها شييء مادي، ولا جسدي، بل كل ما هو روحي ، حتى أن الذين قد دعوا سابقا أبناء، قد ابتعدوا كعبيد، أما نحن فقد نلنا التبني وننتظر ملكوت السموات لأننا صرنا أحرارا. 

وبالنسبة لأولئك اليهود فقد كلّمهم عن طريق أناس آخرين (أي آباء – أنبياء ـ مرسلين)، أما نحن فقد كلمنا هو بنفسه . وأولئك فعلوا كل شيء منقادين بالخوف من العقاب، بينما الروحيون فيصنعوا كل شيء بدافع الاشتياق والرغبة في الإتحاد بالله. وهذا قد أظهروه بممارسة الوصايا التي تفوق الوصايا القديمة. ومن المؤكد أن أولئك اليهود ـ مثل أجراء وجاحدين – لم يتوقفوا عن التذمر، بينما ما نصنعه نحن هو من أجل أن نكون مرضيين أمام الآب.

أولئك أيضا على الرغم من أنهم نالوا إحسانات، إلا إنهم جدفوا ، بينما نحن فعلى الرغم من أننا نتعرض لمخاطر، فإننا نفرح، وإن كان ينبغي أن تعاقب، فذلك لأننا نخطئ، وهنا الفارق كبير في العقاب، لأننا لسنا مثل هؤلاء الذين عندما يخطئون يرجمون ويحرفون ويستأصلون من قبل الكهنة ، أما نحن يكفي أن نبتعد عن المائدة الأبوية، ونقضي بعض الأيام بعيدا عنها. والبنوة بالنسبة لليهود كانت مجرد كرامة إسمية فقط، أما بالنسبة لنا فهي واقع يتمثل في التطهير بالمعمودية، ونوال الروح، والنعم الأخرى، بل وعطايا أخرى أكثر بكثير من هذه، من الممكن أن نتكلم عنها، والتي تظهر ما لنا من كرامة حقيقية، وما لأولئك من كرامة شكلية. وبعدما أشار الروح إلى كل ذلك، وإلى الخوف، والتبني، نجده يحمل دليلا آخر يثبت أن لنا روح التبنى. فما هو هذا الدليل؟ هو أننا “نصرخ يا أبا الآب”. وكم هو هام هذا الأمر، ويعرفه الداخلون للإيمان، والذين يرشدون في صلواتهم السرية، إذ يقولوا هذا النداء أولاً.

ماذا إذا؟ ألم يدع هؤلاء اليهود الله آبا؟ ألم تسمع موسى الذي يقول “الذي ولدك تركته ونسيت الله الذي أبدأك ؟. ألم تسمع ملاخي الذي يصرخ ويقول: “أليس أب واحد لكلنا. أليس إله واحد خلقنا” ، فإن كان هذا الكلام وأكثر منه قد قيل، فإننا لا نجد في أي موضع أن هؤلاء يدعون | الله بهذه الكلمة (يا أبا الآب). ولا أن يصلوا هكذا. أما نحن جميعا، كهنة ، وشعب، وأراخنة، ومواطنون، فقد تعلمنا أن تصلي هكذا (يا أبا الآب). وهذا الصوت نخرجه أولاً بعد آلام المخاض العجيبة، وناموس الولادة الجديدة المدهش والعجيب. وهكذا إن كانوا قد دعوا الله أحيانا بهذه التسمية مرة ، إلا أنهم لا يعبرون بذلك عن تبنيهم ذهنيا لمثل هذا الفكر الذي لنا، بينما الذين يحيون في النعمة فإنهم يدعونه آبا. انطلاقا من العمل الروحى الداخلي . وتماما كما يوجد روح حكمة والذي به صار غير الحكماء، حكماء، وهذا ما يتضح من خلال التعليم، وكما يوجد روح قوة، والذي به أقام الضعفاء أمواتا، وطردوا شياطين، وكما يوجد روح موهبة للشفاء، وروح نبوة، وروح تكلم بألسنة، هكذا يوجد روح تبني. وتماما مثلما نعرف روح النبؤة، من حيث إن ذاك الذي يحمله يتكلم مسبقا عن المستقبل، متحدثا ليس بفكره الخاص، بل يتحرك بالنعمة، هكذا تعرف روح التبني، من حيث أن ذاك الذي أخذه، يدعو الله آبا، مدفوعا من الروح. إذا فهذا ما أراد أن يظهره بشكل تام على أنه أمر حقيقي، فاستخدم لغة العبرانيين. لأنه لم يقل فقط، أب، لكن “أبا الآب”، الأمر الذي هو بشكل خاص، كلام الأبناء الحقيقيين الذي يتحدثون به مع آبائهم.

3 – إذا بعدما تكلم عن الفارق من جهة السلوك، ومن جهة النعمة التي أعطيت، وكذلك من جهة الحرية، أضاف دليلاً آخر للإمتياز الذي يأتى من هذا التبني. ما هو هذا الإمتياز إذا؟ هو أن:

” الروح نفسه أيضا يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله ” (رو16:8).

هكذا يوضح الرسول بولس، أنني لا أدعي – أننى ابن الله – بالكلام فقط بل إني مولود من المصدر الذي منه يأتي هذا الصراخ ، نقول هذا الكلام، لأن الروح يمليه، ولكي يعلن هذا بأكثر وضوح، قال في موضع آخر: “أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخا يا أبا الآب”. وماذا يعني “الروح يشهد لأرواحنا”؟ أي المعزى يشهد من خلال الموهبة التي أعطيت لنا لأن هذا الصراخ لا ينتمي فقط للموهبة، بل للمعزي الذي أعطانا العطية، لأنه هو نفسه علمنا أن نتكلم هكذا بالموهبة المعطاة لنا. وحين يشهد الروح، فهل يوجد شك بعد ذلك؟ لأنه إن كان إنسان أو ملاك أو رئيس ملائكة، أو قوة أخرى مشابهة، وعدت بذلك، فمن الطبيعي أن يتشكك البعض، لكن  حين يكون الروح، الذي منحنا هذا النداء، يشهد لأرواحنا بتلك الصلاة التي أوصانا أن نصلي بها، فمن يشك بعد ذلك في قيمة هذا الصراخ؟ فلن يتجرأ أحد من الرعية أن يعترض عندما يعين الملك شخصا ويعلن هذا الشرف أمام الجميع.

” فإن كنا أولادا فإننا ورثة أيضا وورثة لله ووارثون مع المسيح إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضا معه ” (رو17:8).

 لاحظ أنه رويدا رويدا يزيد العطية. فهل من الممكن أن نكون أبناء ولا نصير ورثة، لأنه ليس كل الأبناء ورثة، ولهذا أضاف عبارة: أننا ورثة. لكن اليهود مع كونهم ليس لهم مثل هذا التبني، فقد حرموا من الميراث لأن ” أولئك الأردياء يهلكهم هلاكا رديا ويسلم الكرم إلى كرامين آخرين وقبل هذا قال إن ” كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكثون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السموات. وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية. ولا هنا أيضا يتوقف، لكنه يشير إلى ما هو أعظم من ذلك، هو أننا ورثة الله. ولهذا أضاف “ورثة الله”. بل والأكثر، هو أننا ” ورثة مع المسيح”. أرأيت كيف يجاهد لكي يقودنا لنكون بالقرب من الرب؟ إذا فنظرا لأن ليس كل الأبناء هم ورثة، فإنه يبين أننا أبناء وأيضا ورثة. ولأن ليس كل الورثة هم ورثة أشياء عظيمة، فإنه يبين أن هذه الأشياء العظيمة قد صارت لنا، طالما أننا ورثة الله. ولأنه أيضا يمكن أن أكون وارثا لله، لكن ليس مع أي أحد، وهذا قد أوضحه إذ قال إننا ورثة مع الابن الوحيد الجنس.

وانتبه إلى حكمة الرسول بولس، لأنه بعدما حدد الأمور المحزنة، عندما تحدث عما سيعاني منه أولئك الذين يحيون حسب شهوات الجسد، أنهم على سبيل المثال سيموتون، نجده قد إنشغل بالعطايا العظمى، لذلك إتجه بكلمته إلى إتساع أكبر، ممتدا بها إلى التأكيد على التعويض بالمكافآت، مبينا العطايا المتنوعة والعظمى، لأنه إن كانت النعمة أمرا لا يوصف ، وأن يكون المرء ابنا، فتأمل كم هو عظيم أن يكون المرء وارثا. وكم يكون عظيما جدا أن يكون وارثا مع المسيح.

ولكي يبين بعد ذلك أن العطية لا تنتمي فقط للنعمة، وفي نفس الوقت لكي يجعل كل ما قيل جديرا بالثقة، أضاف: “إن كنا نتألم معه لكى نتمجد أيضا معه “. إذا لو كنا نشترك معه في الآلام، فبالأكثر سنشترك معه في الخيرات. لأن ذاك الذي منح كل هذه الخيرات أو النعم لأولئك الذين لم يحققوا شيئا، عندما يرانا نحن قد تعبنا وعانينا الكثير، ألا يكافئنا بالأكثر؟

4 . وبعدما أظهر أن الأمر هو مجازاة وتعويض، ولكي يكون الكلام جديرا بالتصديق، ولا يتشكك أحد فيه، يبين أيضا أنه لا يخلو من قوة عمل النعمة، من جهة لكي يؤمن أولئك الذين يتشككون بهذا الكلام، وأيضا لكي لا يستحي الذين قبلوه، لأن هناك عطايا محفوظة على الدوام، ومن جهة أخرى، لكي تعلم كيف أن الله يعوض الآلام بالمكافآت . وقد أعلن عن الجانب الأول قائلاً: “إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضا معه ، بينما الآخر يستدل عليه بقوله:

” فإنى أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا” (رو18:8).

لأنه إن كان في الكلام السابق، يطلب من الإنسان الروحي أن يصحح السلوك، من خلال الكلام الذي قاله: إنه من الواجب على الإنسان الروحي أن لا يعيش حسب شهوات الجسد، لكي ينتصر على الشهوة، وعلى الغضب، وعلى محبة المال، وعلى الغرور، وعلى الحسد، فقد ذكره هنا بالعطية الكاملة، سواء التي أعطيت أو التي سوف تعطي، وبعدما أنهضه ورفعه عاليا بالرجاء، وضعه بالقرب من المسيح، وبرهن له على أنه وريث مع الابن الوحيد الجنس، وبجرأة فائقة يقوده إلى المعارك والانتصار على الشهوات التي هي في داخلنا. وهذه تختلف عن المعاناة التي نجوزها بسبب التجارب مثل: الجوع، والسلب، والسجن، والقيود، والنهب. فهذه الأمور تحتاج إلى نفس قوية وشجاعة.

لاحظ كيف أنه في نفس الوقت يضبط ويسمو بفكر أولئك الذين يجاهدون، لأنه عندما يظهر عظمة المكافآت، مقارنة بالمتاعب، حينئذ يحث بالأكثر، ولا يترك مجالاً للتباهي. فالمكافآت العظيمة تجعلهم ينتصرون. وي موضع آخر يقول: “لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبديا. ويصف هنا الضيقة أنها خفيفة، لأن كلمته كانت موجهة بالأكثر إلى مصارعين حُكماء، وهكذا يجعل الضيقة خفيفة بالمكافآت التي ستُعطى في الدهر الآتي، قائلاً: “فإنى أحسب أن آلام الزمان الحاضر ” ولم يقل، بالمقارنة براحة الدهر الآتي، ولكن قال ما هو أكبر بكثير ” لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا “. لأنه حيث توجد راحة، لا يوجد على كل حال مجد، لكن حيث يوجد مجد، يوجد في كل الأحوال راحة. ثم بعد ذلك لأنه تحدث عن المجد العتيد، يبرهن كيف أن هذا المجد، يوجد من الآن. لأنه لم يقل، مقارنة بما سوف يتحقق، ولكن “لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن”، فهو موجود الآن، لكنه مستتر، الأمر الذي قاله في موضع آخر بأكثر وضوح أن: ” .. حياتكم مستترة مع المسيح في الله “٢٩٥. إذا ليكن لك ثقة من جهة هذا المجد العتيد، لأنه منذ الآن هذا المجد ينتظرك كمكافأة لأتعابك، لكن لو أن هذا المجد الذي سوف تناله في الدهر الآتي يسبقه ضيق في الحاضر، فليتك تفرح لأجل هذا الأمر، من حيث إن ذلك يعتبر مجداً عظيما ولا يوصف، ويفوق الحالة الحاضرة، وهو محفوظ لنا في السموات. ومن المؤكد أنه لم يشر إلى عبارة ” آلام الزمان الحاضر” مصادفة، بل لكي يظهر كيف أن المجد العتيد هو أسمى من المجد الحاضر، لا من حيث النوعية فقط، ولكن من حيث المقدار أيضا. لأن هذه الآلام أيا كانت ترتبط بالحياة الحاضرة، بينما خيرات الدهر الآتي تمتد إلى الدهور الأبدية. هذه الخيرات، لم يستطع أن يتحدث عنها بشكل منفصل، ولا أن يعرض لها بالكلام، بل وصفها بتلك العبارة التي من الواضح أنها محببة لنا بشكل خاص، فقد دعاها بالمجد، لأن المجد يعد قمة وقاعدة هذه الخيرات. لكنه قد ارتفع بالمستمع بشكل مختلف وتحدث عن الخليقة بشكل عظيم، بهدف أن يوضح، أمرين: من خلال الأمور التي سيطرحها، وهي إحتقار الأمور الحاضرة، واشتهاء أمور الدهر الآتي. وهناك أمر ثالث، أو من الأفضل أن نعتبره الأول، إنه يظهر كيف أن الجنس البشري محبوب جدا لدى الله، ويظهر أيضا مقدار الكرامة التي يقود الطبيعة الإنسانية إليها. لكن بالإضافة إلى كل هذا، فكل تعاليم الفلاسفة التي صاغوها عن هذا العالم، قد أسقطها مثل العنكبوت وألعاب الأطفال الهشة، بواسطة هذا التعليم المحدد. لكن لكي تصير هذه الأمور أكثر تحديدا، لنستمع بالتدقيق للكلمة الرسولية ذاتها :

5 . ” لأن انتظار الخليقة يتوقع استعلان أبناء الله. إذ أخضعت الخليقة للبطل. ليس طوعا بل من أجل الذي أخضعها على الرجاء ” (رو19:8۔20).

إن معنى ما يقوله هو: أن هذه الخليقة تتألم جدا، لأنها تنتظر وتترجى خيرات الدهر الآتي، التي تكلمنا عنها الآن، لأن الانتظار يعني الرجاء الكبير، لكن لكي يصير الكلام أكثر قوة، فإنه يشخصن العالم كله، الأمر الذي صنعه الأنبياء، فيعرضون للأنهار وهي تصفق، والجبال وهي تتحرك وتبتهج، وهذا لا يعني أن هذه الأنهار والجبال لها نفس، أو يمكن أن ينسب لها فكر معين، بل لكي تعرف مقدار الخيرات الوفيرة جدا، إذ هي تصل حتى إلى هذه الأشياء التي لا تحس . إنهم يفعلون ذلك أيضا حين يتعرضون للأمور المحزنة، فيقدمون الكرمة تنوح، والجبال وأحجبة الهياكل وهي تصرخ، لكي نستطيع أن نفهم أيضا مقدار الشرور الكبيرة . إذا هذا ما يوضحه الرسول بولس هنا، فيشخصن الخليقة، ويقول كيف أنها تئن وتتمخض، لا لأنه ، ، سمع أنينا يخرج من الأرض ومن السماء، لكن لكي يشير إلى خيرات الدهر الآتي الوافرة جدا، ويعلن الرغبة في التخلص من الشرور التي كانت سائدة.

” إذ أخضعت الخليقة للبطل. ليس طوعا بل من أجل الذي أخضعها على الرجاء “. ماذا يعني ” أن الخليقة أخضعت للبطل “؟ يعني أنها صارت فاسدة. لأي سبب ولماذا صارت فاسدة؟ حدث هذا من أجلك أنت أيها الإنسان. لأنك أخذت جسدا فانيا وضعيفا، ولأن الأرض قبلت اللعنة وأنبتت شوكا وحسكا. لكن السماء والأرض عندما تشيخان ستتحولان في النهاية إلى مصير أفضل، اسمع النبي الذي يقول: ” من قدم أسست الأرض والسموات هي عمل يديك. هي تبيد وأنت تبقى وكلها كثوب تبلى كرداء تُغيرهن فتتغير “٢٩٦. وإشعياء أيضا يعلن عن نفس الأمر قائلاً: “ارفعوا إلى السموات عيونكم وانظروا إلى الأرض من تحت فإن السموات كالدخان تضمحل والأرض كالثوب تبلى وسكانها كالبعوض يموتون “

أرأيت كيف أخضعت الخليقة للبطل، وكيف ستتحرر أيضا من الفساد؟  لأن داود يقول ” كلها كثوب تبلى كرداء تغيرهن فتتغير “، بينما يقول إشعياء “وسكانها كالبعوض سيموتون “. دون أن يتحدث عن الدمار الكلي أو الكامل، لأنه لن يصاب سكان الأرض، أي البشر بمثل هذا الدمار، لكنه يقصد الدمار الوقتي، ومع هذه الأرض سينتقلون إلى عدم الفساد ، تماما مثل الخليقة. كل هذا أشار إليه، بأن قال “كالبعوض”. 

هذا بالضبط ما يعلنه الرسول بولس هنا. لكنه أولاً يتحدث عن خضوع الخليقة، ثم يوضح لأي سبب حدث هذا ، فيقول: هل الخليقة أحتقرت وعانت البطلان، لأجل سبب آخر؟ لا على الاطلاق، لأن ما حدث هو بالحقيقة من أجلي أنا. هي التي عانت أو جازت البطلان من أجلي، كيف ستُظلم، إن كانت تلك الأمور التي عانتها، هي من أجل إصلاحي؟ فضلاً عن ذلك فإن الحديث عن الظلم والعدل، لا يجب أن نمتد به إلى الأشياء الجامدة وغير الحسية. لكن لأن بولس شخصن الخليقة، لم يقل أي شيء مما ذكرته، لكنه تحول إلى الحديث عن أشياء أخرى، فقد بادر إلى تقديم تعزية كبيرة جدا للمستمع، فماذا يقول؟ هل يقول إن الخليقة نالها الشر لأجلك، وصارت فاسدة؟ لكن الظلم لم ينلها مطلقا، لأنها ستصير فاسدة أيضا، لأجلك. لأن هذا هو معنى” .. على الرجاء “. لكن عندما يقول ” إذ أُخضعت .. ليس طوعا”، لم يقل هذا لكي يظهر، كيف أن لها فكر، بل لكي تعرف أن كل الأشياء مرتبطة برعاية المسيح، وأن هذا الإنجاز (العتق من الفساد)، غير مرتبط بالخليقة. حسنا أخبرني إذا، على أى رجاء أخضعت الخليقة؟

” لأن الخليقة نفسها أيضا ستعتق من عبودية الفساد” (رو21:8).

ماذا يعني “الخليقة نفسها”؟ يعني أنها لن تكون بعد فاسدة، بل ستتبع جمال الخلود الذي سيناله جسدك. لأنه تماما مثلما حدث، عندما صار جسدك فاسدا، صارت الخليقة أيضا فاسدة، فطالما أنه صار غير فاسد ، سيلحق عدم الفساد بالخليقة أيضا. هذا بالضبط، ما أراد أن يوضحه، لذلك أضاف ” إلى حرية مجد أولاد الله ” بمعنى أنها ستعتق إلى الحرية. لأنه مثلما يحدث مع المرضعة التي تغذي ابن الملك، عندما يتولى زمام السلطة مكان والده، فإنها ستتمتع هي أيضا بكل الخيرات معه، هكذا سيحدث مع الخليقة. أرأيت أنه في كل موضع يحتل الإنسان المكانة الأولى، وأن كل شيء يصير من أجله؟ أرأيت كيف أنه يعزي أيضا ذاك الذي يجاهد ، ويظهر محبة الله التي لا يعبر عنها للبشر؟ إذا لماذا تحزن من أجل التجارب. أنت تئن لأجل نفسك، والخليقة أيضا تئن لأجلك. وبهذا الحديث لا يعزي فقط، بل ويبرهن على أن ما قاله هو جديرا بالثقة والتصديق. لأنه إن كانت الخليقة تترجى، وأن كل شيء فيها يصير من أجلك، فبالأولى كثيرا يجب أن تترجى أنت تلك الأمور التي لأجلها ستتمتع الخليقة بخيرات الدهر الآتي. هذا ما يحدث عند البشر، حين ينال الابن مقاما أو رتبة معينة، فإن العبيد يلبسون الزي المشرق، الذي يتناسب مع مجد الابن. إذا بنفس الطريقة، فإن الله سيلبس الخليقة رداء الخلود بما يتناسب مع حرية مجد أولاد الله.

6 ـ ” فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معا إلى الآن ” (رو22:8).

أرأيت كيف أنه يبكت المستمع، قائلا ما معناه أنه لا يجب أن يكون أسوأ من الخليقة وألا ينحصر في الأمور الحاضرة؟ لأنه ليس فقط، لا يجب أن نركز أنظارنا على هذه الأمور، بل ويجب أن تئن لتأخر ارتحالك من الأرض. لأنه إن كانت الخليقة تصنع هذا (أي تئن)، فبالأولى أن تفعل أنت هذا، أنت يا من كرمت بالعقل. لكن هذا ليس بعد هو الأمر الأكبر، بل أنه أراد أن يجعلهم يخجلون. ولهذا تحديدا أضاف:

” وليس هكذا فقط بل نحن الذين لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضا نئن في أنفسنا ” (رو23:8).

بمعنى أننا بالفعل قد تذوقنا خيرات الدهر الآتي. ولو أن شخصا لازال بعد بدون احساس مثل الحجر، فإن ما أعطي هو كاف بالفعل حتى يحرك اهتمامه، ويبعده عن الأمور الحاضرة، ويحركه نحو أمور الدهر الآتي، بطريقة تحمل وجهين، من حيث إن ما أعطي يعتبر أمور عظيمة، ومن حيث إن تلك الأمور التي تشكل البداية، هي أمور كثيرة جدا ومبهرة أيضا. لأنه إن كانت البداية عظيمة بهذا القدر، فإننا بهذه البداية نستطيع أن نتحرر من الخطايا، وننال البر والقداسة، وإن كان أولئك الذين عاشوا من قبل، أخرجوا شياطين، وأقاموا موتى، وشفوا أمراضا بظلالهم وملابسهم، ففكر كم يكون الوضع عند اكتماله. وإذا كانت الخليقة التي ليس لها عقل ولا فكر، ودون أن تعرف أي شيء من هذه الأمور، تئن، فبالأكثر جدا يجب أن نئن نحن أيضا .

ثم بعد ذلك لكي لا يعطي دافعا للهراطقة، ليتهمونه، كأنه يدين الأمور الحاضرة، فإنه عندما يقول نئن، يوضح أننا لا تدين الأمور الحاضرة، بل نقول هذا، لأننا نشتهي الأفضل. هذا ما أعلنه قائلاً: ” متوقعين التبني فداء أجسادنا “. ماذا تقول؟ فأنت دائما ما تكرر وتنادي قائلا: إننا صرنا بالفعل أبناء، والآن تشدد على الرجاء من جهة هذا الصلاح، مؤكدا على أنه ينبغي أن ننتظره؟ هذا ما يصححه بما أضافه فيما بعد، إذ يقول: ” فداء أجسادنا “، أي المجد الكامل. بمعنى أن كل ما لنا الآن وحتى آخر نفس في حياتنا ليس نهائيا، لأنه برغم أننا أبناء، فإن كثيرين منا، صاروا بسبب رجوعهم للخطية سفهاء وأسرى. ولكن إذا متنا ولنا هذا الرجاء الصالح، فالعطية حينئذ ستكون مؤكدة وواضحة وعظيمة، دون خوف بعد من تحولات أو تغييرات بسبب الموت والخطية . حينئذ ستكون النعمة أمرا مؤكدا ، عندما يتخلص جسدنا من الموت والشهوات التي لا تُحصى. وهذا هو معنى الخلاص، ليس فقط التحرر، لكن عدم العودة مطلقا إلى الأسر السابق .

وحتى لا تشك وأنت تسمع باستمرار كلمة مجد ، ولا تعرف شيئا واضحا ، يكشف لك الرسول رويدا رويدا أمور الدهر الآتي: تغيير الجسد، وتغيير الخليقة كلها معه، الأمر الذي أعلنه بأكثر وضوح في موضع آخر قائلاً: ” الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده” . وي موضع آخر يقول: ” ومتى لبس هذا الفاسد عدم فساد ولبس هذا المائت موت فحينئذر تصير الكلمة المكتوبة ابتلع الموت إلى غلبة. عدم  كذلك لكي يظهر أنه بالإضافة إلى فساد الجسد، ستزول الحالة الخاصة بالكائنات الحية (أي مظاهر الحياة)، يكتب أيضا في موضع آخر “لأن هيئة هذا العالم  تزول.

7- ثم يقول: ” لأننا بالرجاء خلصنا ولكن الرجاء المنظور ليس رجاء لأن ما ينظره أحد كيف يرجوه أيضا “ (رو24:8).

ولأنه انشغل بالوعد بالحياة الأبدية، فمن الواضح أن هذا قد أحزن المستمع ضعيف الإيمان، طالما أن الخيرات هي في الرجاء، أولاً بعدما أظهر أن هذه الخيرات تعتبر واضحة جدا من خلال الأمور الحاضرة والمنظورة، وبعدما تكلم كثيرا عن الهبات التي أعطيت بالفعل، وبعدما أوضح أننا نلنا باكورة هذه الخيرات، ولكي لا نطلب كل الأشياء هنا، ونخون أصلنا النبيل الذي يأتي من الإيمان، يقول: ” لأننا بالرجاء خلصنا”. وما يقوله يعني الآتي: أنه لا ينبغي أن نطلب كل الأشياء هنا، بل أن نترجاها. لأن هذه هي العطية الوحيدة التي نقدمها لله، أي أن نؤمن بذاك الذي وعد بالأمور الأبدية، وبهذه الطريقة فقط خلصنا. إذا لو أننا فقدنا الرجاء، فإننا نكون قد فقدنا مجمل العطايا الخاصة بنا. لأنه سيسألك قائلاً: ألم تكن مسئولاً عن شرور كثيرة؟ ألم تكن يائسا؟ ألم تكن في أزمة؟ ألم يكن الجميع غير قادرين على خلاصك؟ من خلصك إذا؟ ينبغي فقط أن تضع رجاءك في الله ، وأن تؤمن بالذي وعد بخيرات الدهر الآتي وأعطاها . لا يمكنك أن تقدم شيئا أكثر من ذلك، فإذا كان هذا الرجاء قد خلصك، فيجب أن تتمسك به الآن، لأن هذا الرجاء الذي منحك هذا القدر الكبير من الخيرات، من الواضح جدا أنه لن يخدعك حتى في الدهر الآتي.

إذن طالما أنه قد قبلك وأنت ميت، وضائع، ومأسور، وعدو، وجعلك محبوبا، وابنا، وحرا، وبارا ، ووريثا معه، ومنحك كل هذه الخيرات، والتي لم يتوقعها أحد مطلقا، فكيف يمكن بعد كل هذه الخيرات الجزيلة الكاشفة عن كل هذا الحب الفائق، أن يتركك في الدهر الآتي؟ إذا لا تحدثني مرة أخرى عن موضوع الرجاء، والانتظار، وكذلك الإيمان. لأنك هكذا خلصت منذ البداية. لنمسك بهذا الرجاء ونحفظه، لأنه إن طلبت كل الأمور هنا، ستفقد إنجازك الذي به قد صرت في بهاء. ولهذا أضاف قائلاً:

” ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتوقعه بالصبر” (رو25:8).

بمعنى أنه لو أنك ستحصل على كل شيء هنا، فما هو الإحتياج للرجاء؟ إذا ما هو معنى الرجاء؟ أن يكون لديك ثقة في أمور الدهر الآتي. وما هو الشيء الفائق الذي يطلبه الله منك، وهو الذي أعطى من تلقاء نفسه كل هذه الخيرات؟ إن كان يطلب منك فقط أن تتمسك بالرجاء، فلكي يكون لك أنت أيضا شيئا تقدمه، لأجل خلاصك، ولكي يوضح ما يقصده أضاف: “إن كنا نرجو ما لسنا ننظره فإننا نتوقعه بالصبر “. لأنه كما أن الله يتوج ذاك الذي يجاهد ويتعب ويعاني آلام كثيرة، هكذا أيضا فإنه يتوج من يترجى. لأن كلمة الصبرهي كلمة لها دلالة التعب والعرق والجهد والتحمل. وهكذا الصبر قد منحه لمن يترجى، لكي يعزي النفس التي تعبت كثيرا.

٨ ـ ثم بعد ذلك يوضح أنه لأجل هذا الأمر البسيط نتمتع بمعونة كبيرة، قائلا:

” وكذلك الروح أيضا يعين ضعفاتنا لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا ينطق ” (رو26:8).

 إذن فأحد الأمرين يخصك أنت ـ أي الصبر – بينما الآخر يآتي كنتيجة لعطية الروح القدس الذي يعدك للرجاء، وبهذا الرجاء أيضا تهون المتاعب. بعد ذلك ولكي تعرف أن هذه النعمة لا تسندك فقط في المتاعب والأخطاء التي تقع فيها، بل وتُعينك أيضا في الأمور التي تبدو سهلة جدا، وأنها تقدم العون في كل مكان، فقد أضاف قائلا: “لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي .. ” قال هذا لكي يوضح العناية الكبيرة التي يقدمها الروح لنا ، ولكي يعلمهم، ألا يعتقدوا بأن تلك الخيرات أيا كانت، والتي تبدو للذهن الإنساني مفيدة، هي ليست مثل عطية الروح. لأنه كان من الطبيعيه – بعدما جلدوا أو عذبوا ـ أن يطردوا ويعانوا آلام كثيرة، ثم ينشدوا الراحة بعد وأن يطلبوا من الله هذه العطية، ويظنون أنهم ينتفعون بها في تسهيل أمورهم، لذلك يقول لا تعتقدوا أن تلك الأمور أيا كانت والتي تبدو لكم أنها نافعة، هي بالحقيقة كذلك، لأننا في هذا نحتاج إلى معونة الروح. إن الإنسان ضعيف جدا، وهو في ذاته لا شيء. ولهذا قال: ” لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي “.

ولكي لا يخجل الرسول بولس أي تلميذ يسمع تعاليمه بسبب عدم المعرفة، أظهر أن المعلمين هم أيضا يشاركونهم في ذلك. ولهذا لم يقل “لا تعلمون”، بل قال “لسنا نعلم”. وكل ما لم يقله نتيجة تواضعه، ذكره بطريقة أخرى . لأنه في كل تضرعاته، صلى أن يرى روما، وهو لم يحقق هذا على الفور حين كان يصلي. ومن جهة الشوكة التي أعطيت له في الجسد، صلى مرات كثيرة أن تفارقه، ولم يتحقق هذا أبدا. وموسى في العهد القديم لم ينجح رغم صلاته أن يرى فلسطين، وإرميا ترجى من أجل اليهود، وابرام تشفع من أجل أهل سدوم. ” ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا ينطق بها”. هذا كلام غير واضح، لأن كثيرا من المعجزات التي حدثت قديما، قد توقفت الآن. ولهذا تحديدا، أجد أن هناك ضرورة أن أشرح الحالة التي كانت في السابق، وهكذا سيصير الحديث أكثر وضوحا فيما بعد . ما الحالة التي كانت في السابق؟ إن الله أعطى مواهب متنوعة لكل من نال المعمودية آنذاك، والتي سميت أرواحا، لأنه يقول: “وأرواح الأنبياء خاضعة للأنبياء. ومن هؤلاء واحد كانت لديه موهبة النبؤة، وتحدث عن أمور مستقبلية، وآخر كانت له موهبة حكمة وعلم غزير، وآخر لديه موهبة قوات، وإقامة أموات، وآخر موهبة تكلم بألسنة وتكلم بلغات متنوعة ، بالإضافة إلى كل هذه المواهب، كانت هناك “موهبة صلاة”، وهذه الموهبة دعيت أيضا روح، ومن له هذا الروح، كان يصلي لأجل كل الشعب.

ولأننا نجهل الكثير عن تلك الأمور التي تنفعنا، فإننا نطلب تلك التي لا تنفعنا، وقد أتت موهبة الصلاة إلى واحد من الذين أشرنا إليهم، وهذا قد صلى من أجل خير الكنيسة العام، ولأجل خلاص الجميع، وعلم الآخرين . إذا موهبة الصلاة هي التي يدعوها هنا الروح، والنفس هي التي تقبل الموهبة وتتشفع لدى الله وتتنهد. لأن ذاك الذي استحق هذه النعمة، بكل وقار، طرح نفسه أمام الله، بذهن يقظ تماما، وطلب تلك الأمور التي تنفع الجميع. ومثال هذا هو الخادم الذي يطلب طلبات من أجل الشعب”. هذا ما أراد الرسول بولس أن يعلن عنه بقوله: “الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا ينطق بها “. 

” ولكن الذي يفحص القلوب يعلم ما هو إهتمام الروح لأنه بحسب مشيئة الله يشفع في القديسين” (رو27:8).

أرأيت أن الحديث ليس لأجل المعزي، ولكن لأجل القلب الروحي؟ لأنه إن لم يكن هذا هو المقصود، لكان ينبغي أن يقول، الذي يفحص الروح. لكن لكي تعلم أن الكلام هو لأجل الإنسان الروحي، ذلك الإنسان الذي لديه موهبة الصلاة، أضاف: ” يعلم ما هو اهتمام الروح “، أي ما هو اهتمام الإنسان الروحي، “لأنه بحسب مشيئة الله يشفع في القديسين “. هذا الأمر قد صار لكي نعرف أن نصلي كما ينبغي، ونطلب من الله تلك الأمور التي هي صالحة بحسب مشيئته. وهذا هو معنى ” بحسب مشيئة الله “. وبناء عليه هذا قد حدث بسبب تضرع أولئك الذين دخلوا إلى الإيمان، ومثال للتعليم الحسن، لأن المعزي هو بالحقيقة الذي منح المواهب وأعطى الخيرات التي لا تحصى، لأنه يقول: ” ولكن هذه كلها يعملها الروح. وهذا قد صار لأجل تعليمنا، ولكي تظهر محبة الروح، وإلى هذا الحد وصل عمل الروح الرحوم. ولهذا استجاب للذي صلى، لأن الصلاة صارت بحسب مشيئة الله.

9 . أرأيت مقدار الأمور التي بواسطتها يعلن الروح محبته لهم، ومدى الكرامة التي وصلوا إليها؟ لأنه ما هو الشيء الذي لم يفعله الله لأجلنا؟ جعل العالم فاسدا لأجلنا، كما جعله غير فاسدا لأجلنا أيضا، سمح بأن يهان الأنبياء من أجلنا، أرسلهم للسبي من أجلنا، سمح أن يسقطوا في كمين النار، وأن يصبروا على إهانات لا تعد. ولنا نحن أنفسنا أرسل أنبياء ورسلاً، وسلم ابنه وحيد الجنس للموت من أجلنا، وعاقب الشيطان لأجلنا، وأعطانا أن نجلس عن يمينه، وأهين من أجلنا، لأنه يقول: “تعييرات معيريك وقعت على ، بل إنه بعد كل هذا، وبينما نحن نبتعد عنه، لا يتركنا أيضا، بل يترجانا ، ويعد آخرين لكي يصلوا لأجلنا، الأمر الذي حدث في حالة موسی لأنه يقول لموسى: ” اتركني لأفنيهم” ، قال هذا لكي يدفعه للتضرع من أجلهم. والآن هو يفعل نفس الشيء. ولهذا أعطى موهبة الصلاة. وقد فعل ذلك، لا لأنه يحتاج إلى توسل، لكن لكي لا نصير نحن أكثر دناءة، بل نكون مخلصين . ومن أجل هذا يقول الكتاب، إنه تصالح معهم من أجل طلب داود ، ومن أجل طلب هذا وذاك، مبينا نفس الشيء تماما، حتى يضاف على الأقل مبرر لإتمام المصالحة. ولكن الله كان سيظهر محبته للبشر بدرجة أعلى، لو أنه قال لهم، إنه ترك غضبه، لا من أجل هذا وذاك، بل فعل هذا تلقاء نفسه.

 إلا أنه لم يقدم الأمر هكذا، حتى لا يصير موضوع المصالحة دافعا للخمول من جهة الذين خلصوا. ولهذا قال لإرميا: ” وأنت لا تصل لأجل هذا الشعب .. لأني لا أسمعك . لا لأنه أراد أن يمنع إرميا أن يطلب من أجلهم، طالما أنه يشتهي خلاصنا بشدة، ولكن لكي يخيفهم. ولأن النبي كان يعرف هذا جيدا، لم يتوقف عن الصلاة من أجلهم . ولكي نعلم أنه قال هذا الكلام، لا لأنه أراد أن يمنعه، لكن لكي يحثه على الصلاة لأجلهم، اسمع ماذا يقول:” أما ترى ماذا يعملون””. وأيضا من جهة المدينة يقول: ” وإن اغتسلت بنطرون وأكثرت لنفسك الأشنان فقد نقش اثمك أمامي “8”، ولم يقل هذا لكي يقودهم إلى اليأس، بل ليدفعهم للتوبة. وكما أخبر أهل نينوى بقرار غير محدد ، ولم يعد بخيرات مرتجاة، بل بالأكثر قد أخافهم وقادهم للتوبة، هكذا هنا أيضا فعل نفس الأمر، إذ قد حثهم على التوبة، وصار للنبي تقدير خاص من الله، لكي يسمعوا له حتى وإن كان ذلك قد تم بهذه الطريقة .

ثم بعد ذلك لأنهم استمروا في مرض لا شفاء منه، ولم يتعقلوا أيضا عندما أدين الآخرين، فإن أول شيء فعله، هو أنه نصحهم أن يبقوا في نفس المكان، ولكنهم ذهبوا إلى مصر، لأنهم لم يحتملوا هذا، وقد غفر الله لهم ذلك، ولكنه طلب منهم ألا ينجرفوا في الجحود، نحو تلك الأمور التي كانت سائدة في مصر. لكن نظرا لأنهم لم يصغوا لطلب الله، فقد أرسل معهم النبي، حتى لا ينحرفوا بالكامل فيما بعد. ولأن هؤلاء لم يتبعوا ذاك الذي دعاهم، فإنه هو ذاته قد تبعهم، لكي يصلحهم، ويمنعهم من الإنقياد إلى شرور أكبر، وذلك كأب حنون تجاه ابنه الذي أصابه الضيق في كل شيء، يذهب معه في كل مكان ويتتبعه . ولهذا لم يرسل فقط إرميا إلى مصر، بل أرسل حزقيال إلى بابل، ولم يعترضا. لأنهما رأيا أن سيدهما يحبهما حبا لا حدود له، لذا صنعا نفس الأمر، مثلما يحدث لو أن عبدا أمينا ترفق بابن جاحد، فإن فعله هذا راجع إلى ترفقه بأبيه الذي رأه وهو يتألم ويتمزق من أجله. إذا ما الذي لم يتألم به الأنبياء من أجل اليهود؟ نشروا ، طردوا ، أهينوا، رجموا، وعانوا آلام لا حصر لها، وبعد كل هذا ، أسرعوا أيضا نحوهم.

وصموئيل أيضا لم يتوقف حزنه على شاول، وإن كان قد أهين إهانة قاسية منه، وعاني شرورا كثيرة، لكنه لم يتذكر شيئا من هذا. وكتب إرميا أيضا مراثيا تجاه الشعب اليهودي، وبينما منحه قائد جيوش الفرس أن يقيم في أمان وحرية حيثما يريد، إلا أنه فضل البقاء في الوطن وسط معاناة الشعب. هكذا موسی أيضا ترك الحياة في قصر الملك، وأسرع لمشاركة اليهود في معاناتهم . وأيضا دانيال الذي بقى صائما لمدة عشرون يوما متصلة ، مجبرا نفسه على صوم شديد، لكي يتحنن الله عليهم ويصالحهم، والثلاثة فتية أيضا، بينما كانوا وسط أتون النار المشتعل، صلوا من أجل الشعب، لأنهم لم يتألموا من أجل ذواتهم التي أنقذت، بل بسبب جرأتهم، ولهذا صلوا من أجل هؤلاء. ومن أجل هذا قالوا : ” ولنيل رحمتك ولكن لإنسحاق نفوسنا وتواضع أرواحنا أقبلنا “. ويشوع بن نون مزق ثيابه من أجل هؤلاء، وحزقيال حزن وناح عندما رآهم وهم يهلكون. وقال إرميا : ” إقتصروا عني فأبكي بمرارة “. ولكن قبل هذا ، لأنه لم يتجرأ أن يطلب صفحا كاملاً عن كل المآسي، طلب مهلة قائلاً: “إلى متى أيها السيد “. هكذا كل القديسين هم محبون. ولهذا قال الرسول بولس: ” فالبسوا كمختارين الله القديسين المحبوبين أحشاء رأفات ولطفا وتواضعا.

أرأيت دقة الكلام، وكيف أنه يريد لنا أن نكون على الدوام شفوقين؟ لأنه لم يقل فقط اتسموا بالرأفة، لكنه قال ” البسوا”، حتى أنه مثلما أن الملابس لا تفارقنا البتة، هكذا ينبغي أن تكون الرأفة. ولم يقل رحمة، لكنه قال “أحشاء رأفات”، لكي تُحاكي الرأفة الطبيعية. لكننا للأسف، نحن نصنع العكس.

وإن اقترب منا أحد طالبا فلسا، فإننا نهينه، ونوجه له كلاما قاسيا ، وندعوه محتالاً. ألا تفزع أيها الإنسان وتخجل، إذ تدعوه محتالاً، لأنه طلب الخبز؟ لكن لو أن هذا الإنسان صار محتالاً، فإنه لهذا السبب تحديدا ، يصير مستحقا للرحمة، لأنه يعاني من الجوع إلى الحد الذي جعله يظهر في شكل المحتال. لكن هذا يمثل إدانة لقسوتنا. لأننا لا نحتمل أن تعطي بسهولة، ونضطر أن نبتكر حيلاً عديدة. فلنعترف بقساوتنا، ولنحول القساوة إلى ليونة. فضلاً ذلك، لو أنه طلب مالاً وذهبا، فإن شكوكك ستكون مبررة، أما وقد إقترب منك يسألك الطعام الضروري، فلماذا تفلسف الأمر باطلاً، وتفحص بتفصيل أمورا غير نافعة، متهما إياه بالكسل عن واللامبالاة؟

إذن إن كان يجب أن نقول شيئا عن هذه الأمور، فينبغي أن نقولها لأنفسنا وليس لآخرين. لذا عندما تقترب من الله طالبا مغفرة الخطايا، عليك أن تتذكر هذا الكلام، وستدرك أنه أكثر عدلاً أن تسمع أنت هذه الأمور من الله، على أن يسمعها الفقير منك. لكن الله لم يقل لك هذا الكلام مطلقا، أي لم يقل لك ارحل أو اذهب بعيدا ، لأنك أنت أيضا محتال، إذ أنك تدخل إلى الكنيسة باستمرار وتسمع وصاياي، لكن من جهة شراء الذهب، ومن جهة الصحبة وإشباع الشهوة، وكذلك كل الأمور بشكل عام، فإنك تفضلها عن وصاياي. والآن كان عليك أن تصير متضعا بعد صلاة الإيمان، إلا أنك صرت وقحا، وقاسيا ومتوحشا.

هكذا فنحن نستحق أن نسمع هذا الكلام بل وأكثر منه، بيد أن الله لم يديننا مطلقاً عن هذا السلوك، فهو طويل الأناة، ويوي بكل ما له، ويعطي أكثر جدا مما نطلب.

10 – حسنا فلنفكر في كل هذا، ودعونا نحارب الفقر في هؤلاء المحتاجين حتى ولو كان بعد يحيون في ضلال، وليتنا لا نفحص الأمر بالتفصيل، لأننا نحن أيضا نحتاج لمثل هذا الخلاص والغفران، والمحبة مع الرحمة كثيرا، لأنه من غير الممكن أن نخلص أبدا، لو فحصت أمورنا بالتدقيق، بل يجب أن تُعاقب وأن نهلك على أية حال. إذا ينبغي ألا نصير قضاة قساة للآخرين، حتى لا تطلب منا إلتزامات كبيرة، لأنه من المؤكد أننا نحمل خطايا تعلو فوق كل مغفرة. وبناء عليه فلنرحم بالأكثر أولئك الذين يرتكبوا خطايا لا تُغفر، لكي ندخر لأنفسنا مسبقا هذه الرأفة. وإن كان من المؤكد أنه مهما كان السخاء الذي تظهره فإننا لا نستطيع أن تقدم محبة للبشر، تماثل تلك التي نحتاجها نحن من الله محب البشر؛ إذا كيف لا يكون أمرا غريبا، أن تدقق في حالة من هم في احتياج شديد والذين هم شركائنا في الإنسانية ونفعل كل شيء ضد منفعتنا؟ لأنك لا تنظر إلى ذاك على أنه غير مستحق لإحسانك، بقدر ما تجعل نفسك غير مستحق لمحبة الله. فذاك الذي يدقق في فحص حالة شريكه في الإنسانية، بالأكثر جدا سيجد أن الله يصنع معه ذلك فيما بعد.

يجب ألا نتكلم ضد أنفسنا، بل علينا أن نعطي كل من يسألنا حتى لو كان هناك خمول أو لا مبالاة من جانب الذين يطلبون منا الإحسان . فضلاً عن أننا نحن أيضا نصنع خطايا كثيرة بسبب اللامبالاة، أو من الأفضل أن نقول إن كل الخطايا هي بسبب اللامبالاة ، فإن الله لا يعاقبنا على الفور، بل يعطينا مهلة للتوبة، طالما أنه يطعمنا يوميا، ويهذبنا، ويعلمنا، ويمنحنا كل العطايا ، حتى ننال نحن أيضا رأفته. لنمحو إذا هذه القساوة ، ولنخرج التشدد من داخلنا، لأنه بعطائنا نحسن لأنفسنا، أكثر من إحساننا للآخرين. لأننا نعطي الفقراء أو المحتاجين مالاً وخبزا وملابس، لكننا ندخر لأنفسنا مجدا عظيما، لا يعبر عنه بالكلام. لأنه، بالرغم من أننا لبسنا أجسادا فانية، إلا أننا نتمجد ونملك مع المسيح . لكننا لن نعرف مدى عظمة ذلك، أو من الأفضل القول، إننا لن نعرف الآن بشكل كامل وبصورة جيدة. إلا أنني سأحاول على قدر الإمكان أن أعرض لما قيل حتى ننجذب إلى الخيرات التي لنا ونتفهم المعنى البسيط.

أخبرني، لو أنك وصلت إلى مرحلة الشيخوخة وتعيش في حالة فقر، وأتى شخص ووعدك بأن يجعلك شابا قويا جدا وأفضل من الجميع، وأن يعطيك أن تملك على كل الأرض ألف سنة، وتحيا في ملكوت يحمل سلاما عميقا ، فهل تتقاعس عن تحمل المعاناة من أجل تحقيق هذا الوعد؟ ها هو المسيح له المجد لا يعد بهذه الأمور فقط، بل بما هو أكثر بكثير . لأن الفرق بين الفساد وعدم الفساد، ليس بقدر الفرق بين الشيخوخة والشباب، ولا الفرق بين المجد الحاضر والمجد العتيد أن يستعلن، بقدر الفرق بين الملك والفقير، لكن بقدر الفرق بين الأحلام والحقيقة. ومن الأفضل أن نقول إننا لم نقل بعد أي شيء، ومن المؤكد أنه لا يوجد كلام قادر على أن يعبر عن مقدار الفروق التي ستصير من جهة الأمور الحاضرة. لأنه بسبب الزمن، من غير الممكن أن تدرك مقدار الفروق إدراكاً كاملاً وتاما. إذ كيف يمكن للمرء أن يقارن بين الحياة التي لا نهاية لها، بالحياة الحاضرة؟ ومن جهة السلام في الدهر الآتي، فإن المسافة بينه وبين السلام في الزمن الحاضر، هي مسافة شاسعة، بقدر المسافة بين السلام والحرب. ومن جهة الخلود أو عدم الفساد، فهناك لا يوجد فساد وهو بالمقارنة بالحياة الحاضرة، أسمى بقدر نقاء اللؤلؤ مقارنة بقطعة من الفخار. ومن الأفضل القول بأنه مهما قيل فلن يستطيع المرء أن يقدم شيئا. لأنه سواء قارنت جمال الأجساد، بنور أشعة الشمس، أو بالبرق المضئ، فلن أستطيع أن أقول بعد شيئا يقابل هذا البهاء الذي سيكون في الحياة الأبدية.

إذن ينبغي أن نهجر المال والذات من أجل هؤلاء أو من الأفضل أن نقول أنه أمر هام وضروري ويستحق التقدير أن نعتني ونهتم بقوة بتلك الأنفس المحتاجة؟ لكن الآن لو أن شخصا قادك إلى داخل القصر، وبينما كان هناك جمع من الحضور، إلا أنه جعل الملك يتحدث معك، وأجلسك معه على نفس المائدة، وجعلك تتناول نفس الطعام معه، فستقول إنك الأكثر سعادة من الجميع، بينما في هذه الحالة التي فيها ستصعد إلى السماء، وتقف بجوار ملك الجميع، وتُشرق أمام الملائكة، وتتمتع بذلك المجد المحفوظ لك، هل يمكنك بعد ذلك أن تشك في أنه ينبغي عليك أن تتخلى عن المال في الوقت المناسب (أي في هذه الحياة الحاضرة). بل وإن إحتاج الأمر بعد أن تحتقر هذه الحياة فلتفعل هذا، وهل يحق لك بعد ذلك أن تبتهج وتسعد وتقفز من الفرح لأجل الشهوة؟ فأنت تصنع ذلك لكي تربح السلطة التي تعطيك دوافع للسرقة، لأنني لا أستطيع أن أدعو الأمر المشابه ربحاً، إنك تستبعد الممتلكات الموجودة لديك، فبعدما تقترض من الآخرين، لا تتردد في أن ترهن زوجتك وأولادك أيضا، بينما الآن حيث ملكوت الله ماثل أمامك، وهو ليس مكان ناء من الأرض، بل هو كل السماء، وحيث توجد السيادة التي ليس لہا وارثا، وحيث يأمر الله بأن تنال كل هذا، فهل تتردد وترفض وتسلم نفسك لشهوة المال، فإذا كانت الأماكن الموجودة أمامنا تحت السماء جميلة ومبهجة، فكم بالأحرى تكون الأماكن العلوية في السماء، وسماء السموات؟

ولأنه من غير الممكن أن ترى هذه الأمور الآن بالعيون الجسدية، لذلك إرتفع بفكرك إلى فوق، وبعدما تقف فوق هذه السماء، تطلع إلى السماء التي فوق هذه السماء، إلى السمو غير المحدود، إلى النور المملوء رهبة، إلى جموع الملائكة، إلى التجمع الكثيف لرؤساء الملائكة الذين لا حصر لهم، وإلى القوات الأخرى غير الجسدانية. كذلك اهتم بالصورة التي تتصورها وأنت على الأرض، وارسم شكلاً يشمل تصميما لكل ما يحيط بملك من الملوك، مثل الرجال الذين يرتدون ملابس مذهبة، وكم الخيل البيض المزينة بالذهب، والعربات المزينة بأحجار كريمة، وأوراق الزهور الموضوعة حول العربات، والحيات التي تُنقش على الملابس الحريرية، والدروع ذات الحلقات الذهبية، والأثواب والتيجان المرصعة بأحجار كريمة متعددة، والخيول المزينة بالذهب والألجمة الذهب، إلا أن كل ذلك يتوارى عن أنظارنا، عندما نرى الملك ذاته. وعندئذ فإن ما يجذب إنتباهنا، هو ثوبه الأرجواني، تاجه وعرشه، وكذلك الرداء، وحذائه، ووجهه المضيء والمشرق جدا. 

عدما تجمع كل هذه الصور، إنتقل بفكرك مرة أخرى إلى الأمور السمائية، إلى اليوم المخوف الذي فيه سيأتي المسيح. لأنه لن ترى في ذلك الحين الخيول، ولا العربات المذهبة، ولا حيات ودروع، لكن سترى تلك الأمور المملوءة رهبة والتي تثير دهشة عظيمة، حتى أن القوات غير الجسدانية ستُذهل، لأن الكتاب يقول: ” وقوات السماء تتزعزع . حينئذ تنفتح السماء كلية، وأبواب النُصرة تُفتح على مصراعيها، وينزل ابن الله، يحيط به ليس مجرد عشرون أو مائة إنسان، بل آلاف وجموع من الملائكة ورؤساء الملائكة، الشاروبيم والسيرافيم والقوات الأخرى، الجميع سيكونون مملوئين خوفا ورعدة، والأرض ستنشق، وكل البشر الذين عاشوا منذ وقت آدم حتى هذا اليوم، سيصعدون من الأرض ويختطفون جميعا إلى السماء، وسيظهر ابن الله بنور عظيم، حتى أن الشمس والقمر وكل نور آخر يختفي أمامه، لأنه يضييء بشكل أعظم كثيرا من هذه الأنوار العظيمة.

أية كلمات يمكن أن تصف تلك الغبطة وهذا النور وهذا المجد؟ ويل لك يا نفسي ، لدى رغبة أن أبكي وأن أتنهد كثيرا، حيث أفكر الآن في كثرة الخيرات التي قد فقدناها، وأي نهاية مجيدة قد حرمنا منها. لأنه بالحقيقة قد تحرم، وأول الكل أنا نفسي، أقول قد تُحرم إن لم نصنع شيئا عظيما ومدهشا . إذا لا يقول لي أحد، أين جهنم وهي توجد هنا . لأن فقدان هذا المجد، لهو حالة أكثر رعبا وخوفا من أي جهنم، وأن يحرم تلك النهاية المجيدة، فهذا أسوأ من عذابات لا تُحصى. لكننا محصورون بعد في الأمور الحاضرة، ولا نفهم حيل الشيطان، الذي ينزع منا العطايا العظمى عن طريق هفواتنا الصغيرة. فهو يعطي لنا طيئًا، لكي يخطف منا الذهب، أو الأفضل أن نقول لكي يخطف منا السماء، ويظهر المخاوف، لكي يحرمنا الحقيقة. وفي الأحلام يضفي على الأمور الحاضرة خيالات ويصورها لنا على أنها غنى عظيم، ولكن عندما يأتي يوم الدينونة سيتضح لنا أننا أكثر فقرا من الجميع.

11 ـ إذن طالما أننا نفكر في هذه الأمور، لنتجنب المكر، ولنتطلع نحو الدهر الآتي. لأن من غير الممكن أن نقول إننا نجهل أن الحياة الحاضرة هي حياة مؤقتة في الوقت الذي تعلن فيه الحياة اليومية بقوة تفوق صوت النفير، أن الحاضر لا قيمة له، بما فيه من أمور تستوجب السخرية، وأمور مخجلة وأخطار وهلاك، أي مبرر إذا سنقدم، عندما نسعى نحو الأخطار، ونحو الأمور المخجلة بحماس شديد، بل أننا نبتعد عن كل ما يوفر لنا الأمان، بل وعن كل ما يجعلنا ممجدين ومشرقين، ثم تسلم أنفسنا بالكامل لطغيان المال؟ لأن العبودية للمال هي أمر مفزع أكثر من أي طغيان آخر. ويعرف ذلك أولئك الذين استحقوا أن يتحرروا من هذا الطغيان. ولكي تختبروا أنتم أيضا هذه الحرية الجميلة، اكسروا القيود، تجنبوا الفخ، ولا تكنزوا الأموال في بيوتكم، بل اكنزوا ما له قيمة تفوق كثيرا قيمة أموال لا حصر لها، أي الرحمة والرأفة. لأن هذه تعطينا دالة أمام الله، بينما المال يجلب علينا عارا كثيرا ، ويجعل الشيطان يركض مسرعا نحونا.

إذن لماذا تسلّح عدوك وتجعله أكثر قوة؟ يجب أن تسلح يدك ضده، إجعل نفسك مهيئة لقبول جمال البيت السماوي المبهر، ولتتأمل في مدى غنى هذا البيت . ليتنا نستثمر الأموال بدلاً من أن نكتنزها في الخزانة، بل نضعها في المنزل السماوي، ونستخدم كل ما لنا من أموال، لأن نفوسنا أفضل بكثير من البيوت، وأهم من الأرض . إذا لماذا نترك أنفسنا، ونحصر كل إهتمامنا في تلك الأمور (التي نود أن نكتنزها) والتي من غير الممكن أن نأخذها معنا عندما نموت، بل إننا في مرات كثيرة لا نستطيع أن نحتفظ بالمال حتى في الحياة الحاضرة، لكننا سنتمتع بغنى لا يعبر عنه في ملكوت الله، حين نقدم من الغنى الأرضي ما يسدد احتياجات الفقراء والمعوزين . لأن من يحمل داخل نفسه، الحقول والبيوت والأموال، حين ينتقل إلى السماء، سيعرض بنفس هذه الحالة أمام الله، حيث إن كل شيء ينبغي أن يعرض هناك كما هو. وكيف يمكن أن يحدث هذا؟ هذا أمر ممكن وبصورة أكثر سهولة. فلو أن هذه الأمور نقلتها إلى السماء بأيدي الفقراء، فستكون كلها داخل نفسك. وحتى ولو أتى الموت، فلن يستطيع أحد أن ينزعها منك، بل ستنتقل إلى هناك ومعك هذا الغني . مثل هذا الكنز كان عند طابيثا، ولهذا لم تذكر من خلال بيتها، أو من خلال الحوائط، والأحجار، والأعمدة، بل من خلال الأجساد التي ارتدت ملابس من يديها ، والدموع التي انهمرت، والموت الذي هرب، والحياة التي عادت مرة أخرى.

ليتنا نصنع لأنفسنا مثل هذه المخازن، ومثل هذه البيوت لنبنيها لأنفسنا ، وعندئذ سيكون الله عونا لنا، وسنكون عاملين معه. لأن الله سمح بوجود الفقراء، وعليك أن لا تتركهم يهلكون من الجوع والمتاعب الأخرى، بل ينبغي أن تعتني بهم وترعاهم، وتدعم هيكل الله في كل مكان، وهل هناك ما هو مساويا لهذا الأمر في القيمة، سواء من جهة المنفعة أو من جهة السيرة الطيبة؟

لكن لو أنك لم تكن قد تعلمت جيدا بعد، مقدار الزينة التي زينك الله بها، عندما أمرك أن تغير حالة الفقر وتعتني بالفقراء، فذاك سيجعلك تنشغل به، بمعنى أنه لو أعطاك هذه السلطة الكبيرة، حتى تستطيع أن تحمل السماء (بسكناه فيك بالروح)، ألا تعتبر هذا الأمر كرامة تتجاوز بكثير الكرامة التي تستحقها؟ ها إذا يكرمك الآن بأعظم كرامة. لأن من هو أهم من السموات عند الله، هذا يعيده لك لكي ترعاه. لأنه لا يوجد شيئا من الأمور المرئية يساوي قيمة الإنسان عند الله. لأن السماء والأرض والبحر، خلقها لأجل الإنسان، وهو يفرح بالأكثر عندما يسكن في الإنسان،  من أن يسكن في السماء.

لكن نحن على الرغم من أننا نعرف كل هذا، فإننا لا نهتم برعاية البشر الذين هم هياكل الله، لكننا نتركهم مهملين، ونصنع لأنفسنا منازل فخمة وكبيرة. لهذا فقد صرنا مجردين من كل النعم، وأكثر فقرا من الفقراء المعدمين، لأننا تزين هذه البيوت التي لا يمكن أن نأخذها معنا عندما  نموت، وتهمل ما يجب أن نأخذه إلى هناك.. لأنه بالحقيقة سيقوم الفقراء بعد أن تتحلل أجسادهم، وبعدما يتسلم الله نفوسهم. وسيمتدح الرب كل من اعتنى بهم، وسيذكرهم، لأنه حين كان هؤلاء الفقراء يتعرضون للإنهيار، بسبب الجوع، أو الغري، أو البرد ، كان هناك من إعتنى بهم وقدم لهم كل ما من شأنه أن يحفظهم في أمان وسلام.

وبرغم كل هذا المديح الذي ينتظرنا، فلا نزال نتأخر، ونتردد في القيام بهذه الخدمة الصالحة. والمسيح ليس له مكان يبيت فيه، لكنه يجول غريبا وعريانا وجوعانا، بينما أنت تبني بيوثا بالقرب من المدينة وحمامات وأماكن للتنزه ومباني كثيرة، دون داعي ولا طائل من ورائها. إنك لا تقدم للمسيح ولا حتى غرفة صغيرة، بينما أنت تُزين شرفات واسعة للطيور الجارحة والطيور الخاطفة.

ماذا يمكن أن يوجد أسوأ من هذا الخبل؟ وما هو أكثر فزعا من هذا الجنون؟ فكل ذلك يعتبر أسوأ أنواع الجنون، لكن على الرغم من أنه مرض مخيف، إلا أنه من الممكن أن نعالجه إذا أردنا، وهذا ليس أمرا ممكنا فقط، لكنه سهل، وليس سهلا فقط ، بل هو أكثر سهولة أن نتخلص من هذا المرض المهلك، من أن نتخلص من شهوات الجسد، وذلك يتوقف على مقدار مهارة الطبيب . لننجذب إذا إلى هذا الطبيب، ولنترجاه أن يعيننا ، ولتخضيع له كل إرادتنا ورغبتنا، لأنه لا يريد أي شيء آخر، سوى الرحمة والرأفة للفقراء، إن قدمنا هذه فقط، فهو سيقدم لنا كل ما له . لنقدم كل ما لنا، لكي نتمتع في هذا الدهر بالصحة الجيدة، وننال خيرات الدهر الآتي، بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة، الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمین.

فاصل

العظة السادسة عشر: رو8: 28-

” ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معا للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده ” (رو28:8).

 يبدو لي أنه يتكلم في هذا الجزء، عن أولئك الذين يتعرضون للمخاطر، وليس هذا فقط، لكنه يشير أيضا إلى الأمور التي قيلت قبل هذا. لأن القول بأن “آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا ” وأن ” كل الخليقة تئن” وقوله: “بالرجاء خلصنا ” و” نتوقعه بالصبر” و” لسنا نعلم ما نصلي لأجله”. كل هذه الأقوال قيلت للذين يتعرضون للأخطار، فهو يعلمهم بألا يعطوا اهتماما أكثر للأشياء التي يعتقدون بأنها تحقق منفعة، بل يجب أن يفضلوا عليها الأمور التي هي بحسب الروح. خاصة وأن كثيرا من تلك الأمور التي تبدو لهؤلاء أنها نافعة تتسبب مرات كثيرة في حدوث خسارة كبيرة. إذا من الواضح أن الراحة، والتخلص من الأخطار، والحياة في أمان، هي التي يسعى إليها هؤلاء.

والمدهش أنه قد إتضح لهؤلاء أن الأمان ليس في طلب الراحة بالطريقة التي يتصورونها ـ وهذا ما حدث للمطوب بولس نفسه ـ لقد عرف فيما بعد ، أن الأمور النافعة هي في تتميم مشيئة الله، وإذ عرف هذا فقد امتثل لهذه المشيئة. وهو الذي تضرع إلى الله ثلاث مرات أن يخلصه من الآلام، لكن حين سمع الله يقول: ” تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل” كان يسر عندما يطرد ويشتم ويعاني من آلام لا تشفى ولهذا قال ” أسر بالضعفات والشتائم والضرورات والإضطهادات . و” لسنا نعلم ما نصلي لأجله”، ونصح الجميع بأن يسمحوا للروح القدس أن يتمم فيهم مشيئة الله. خاصة وأن الروح القدس يعتني بنا جدا. 

إذن بعدما أعدهم بكل الطرق، أضاف ما سبق وقاله لكي يدفعهم إلى أن يكون لهم فكر مستقيم. لأنه ” نحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معا للخير للذين يحبون الله “. لكن عندما يقول “كل” فهو يقصد تلك التي تبدو مؤلمة. لأنه سواء كانت ضيق، أم فقر، أم سجن، أم جوع، أم موت، أم أي شيء آخر يحل بنا، فإن الله قادر أن يحول كل هذا إلى العكس. لأن هذه هي قوته التي لا تُوصف، أي أن يجعل ما كان يبدو ثقيلاً، خفيفا لأجلنا، ويحوله لتثبيتنا. ولهذا تحديدا لم يقل إن الذين يحبون الله لا يصيبهم شيئا، بل إنها ” تعمل معا للخير” بمعنى إنه يستخدم هذه الأمور السيئة لمسرة من تكاد لهم الدسائس، وهذا ما يعد أعظم بكثير من أن يمنع الشرور من أن تأتي، أو أن يمحوها عندما تحدث ، هذا ما صنعه في أتون بابل (مع الفتية الثلاثة). لأنه لم يمنع إلقاءهم في الأتون، ولا أطفأ اللهب، عندما ألقوا بهؤلاء القديسين، بل تركهم يشاهدون المعجزة التي صنعها معهم في هذا الأتون.

وقد صنع معجزات مماثلة مع كل الرسل. فإن كان في مقدور أولئك الذين يسلكون بحكمة، أن يحولوا طبيعة الأمور إلى ما هو عكسها، إلا أنهم فضلوا أن يعيشوا في فقر، وبهذا صاروا أكثر غنى من الأغنياء، وأكثر بهاء منهم، رغم أنهم لم ينالوا تقديرا مناسبا، هكذا سيصنع الله مع أولئك الذين يحبونه، ليس مثل هذا فقط، بل وأكثر جدا من هذا . إذا الأمر يحتاج فقط إلى محبة حقيقية لله، وكل الأمور الأخرى ستتحقق. فتلك الأمور التي تبدو أنها ضارة لهؤلاء، هي في الحقيقة نافعة لهم، أما بالنسبة لأولئك الذين لا الله، فإن الأمور التي تبدو نافعة لهم، ستكون ضارة . إذا فقد سبب ظهور المعجزات، وأيضا فلسفة التعليم، واستقامة العقيدة، ضررا بالنسبة لليهود، فإنهم بسبب هذه المعجزات، زعموا أن الرب يصنعها بقوة الشيطان، بينما كان ينبغي أن يحدث العكس بسبب هذه المعجزات، ولأجل هذه المعجزات شرعوا في أن يقتلوه، أما اللص الذي صلب معه، والذي سمر، وأهين، وعاني شرورا كثيرة، فإنه لم يخسر مطلقا، بل بالحرى ربح الكثير يحبون جدا.

أرأيت كيف أن كل الأشياء تعمل معا للخير للذين يحبون الله؟ إذا بعدما تكلم عن هذا النعيم الوافر، الذي يفوق الطبيعة الإنسانية بكثير، والذي يبدو للكثيرين أن تحقيقه أمر مستحيل، هذا قد أكد عليه بقوله: “الذين هم مدعون حسب قصده “. إذا انتبه للدعوة التي قيلت. لماذا لم يدعو الجميع من البداية، ولا حتى بولس نفسه قد دعاه مع الآخرين مباشرة؟ ربما يبدو أن هذا التأجيل، كان غير نافع؟ كلا لقد أظهر العكس، من جهة الأمور ذاتها ، إن التأجيل كان مفيدا. لأن الله لا يريد أن يهب كل شيء في الدعوة ، فلو حدث هذا، لكان اليونانيون واليهود قد اختلفوا. إذا لو كانت الدعوة وحدها كافية، فلأي سبب لم يخلص الجميع؟ ولهذا يشرح الرسول بولس أن الأمر لا يتعلق بالدعوة فقط، بل أن إرادة أولئك المدعوين كان لها دور في الخلاص، لأن الدعوة لم تكن إجبارية ولا قهرية. فالمؤكد أن الجميع قد دعيوا ، لكن ليس الجميع أطاعوا.

٢ . ” لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه ليكون هو بكرا بين أخوة كثيرين ” (رو29:8).

أرأيت مقدار الكرامة؟ فإن هؤلاء قد صاروا أبناء بالنعمة بواسطة ذاك الذي هو بالطبيعة الابن وحيد الجنس . ولهذا لم يكتف بقوله “مشابهين”، لكنه أضاف ” ليكون هو بكرا “. ولم يتوقف عند هذا الحد أيضا، لكنه أضاف إلى هذا ” بين اخوة كثيرين “، لأنه أراد بكل هذا أن يظهر بوضوح مدى القرابة . كل هذا يجب أن تعتبره أنه قيل بحسب التدبير، فلأنه إله فهو وحيد الجنس. أرأيت مقدار ما وهبنا إياه؟ إذا يجب ألا تتشكك من جهة خيرات الدهر الآتي، لأنه في موضع آخر قد بين عناية الله، إذ يقول إن هذه الأمور قد سبق وقررها الله هكذا. فالبشر يعبرون عن آرائهم من خلال الواقع المنظور، أما الله فقد قرر هذه الأمور منذ القديم، ومن البداية كانت هذه هي إرادته من جهتنا.

” والذين سبق فعينهم فهؤلاء دعاهم أيضا والذين دعاهم فهؤلاء بررهم أيضا ” (رو30:8).

هذا حدث بمعمودية التجديد والذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضا “. وهذا حدث بالنعمة والتبني.

” فماذا نقول لهذا إن كان الله معنا فمن علينا ” (رو31:8).

وكأنه يقول، لا تحدثني بعد عن الأخطار والمكائد التي تصدر من الجميع، فعلى الرغم من أن البعض يتشكك في أمور الدهر الآتي، إلا أنهم لا يستطيعوا أن يقولوا شيئا فيما يتعلق بالخيرات التي تحققت بالفعل دون نقاش، أي من حيث أن الله منحك البر والمجد من البداية من فرط محبته لك. لأنه بالحقيقة قد منحك إياه، بواسطة الأمور التي تبدو لك محزنة. وما تعتقد أنه علامة عار، أي الصليب والجلدات والقيود، صارت هي نفسها سبب بركة وخير لكل المسكونة، تماما مثلما حدث بخصوص آلام المسيح، فبالرغم من أنها تبدو كئيبة، إلا أنه حولها لتعطي طبيعتنا الحرية والخلاص، هكذا إعتاد أن يصنع بتلك الأمور التي تعانيها ، مستخدما آلامك من أجل مجدك وسعادتك.

” إن كان الله معنا فمن علينا “. وهل هناك من هو ليس ضدنا؟ لأن المسكونة هي ضدنا، والطغاة، والشعوب، والأقارب والساكنون معنا في وطن واحد. لكن هؤلاء الذين هم ضدنا بهذا القدر الكبير، هم أبعد من أن يؤذونا، لأنهم دون أن يقصدوا صاروا هم سببا لتتويجنا ولخيرات لا تُحصى، طالما أن حكمة الله، تحول هذه المكائد لتصير لخلاصنا ومجدنا. أرأيت كيف أنه لا يوجد أحد ضدنا؟ لأن أيوب أيضا قد جعل كل ما هو ضده يتحول إلى مجد، أي من حيث أن الشيطان كان قد تسلح ضده. خاصة عندما حرض ضده الأصدقاء، والزوجة، والعبيد، وأصيب بجروح، ومصائب أخرى لا تُعد . ولكن لا شيء على الإطلاق قد دفعه للتذمر. وكل ما حدث لم يمثل شيئا جسيما بالنسبة له، على الرغم من أنه كان جسيما في حد ذاته بصورة كبيرة، إلا أن أيوب كان أعظم، لأن كل شيء انتهى إلى منفعته. فالله كان في جانبه، وما كان يبدو ضدا له تحول إلى فائدته. وهذا حدث في حالة الرسل، خاصة وأن اليهود والأمم والمعلمين الكذبة، والقادة ، والجموع، والمجاعات والفقر، وأمور أخرى عديدة كان من الممكن أن تؤثر على مسيرتهم، لكن لم يتغلب عليهم أي شيء، لأن هذه الآلام هي التي جعلتهم مشرقين، وممجدين، وعظماء أمام الله والناس .

إذن فكر فيما قاله الرسول بولس للمؤمنين، الذين هم بالحقيقة مطوبين، الأمر الذي لا يملكه حتى الذي يرتدي التاج. لأنه بالنسبة للقديس بولس، كان الكثيرون ضده، من بربر، ومسلحين، وأعداء يهاجمونه، وحراس متسلطين وقساة عليه، وكان كثيرون من المواطنين يثورون ضده باستمرار، وأمور أخرى لا تعد، لكن المؤمن الذي يتبع مشيئة الله بدقة، لا يستطيع إنسان، ولا شيطان، ولا أي شيء آخر، أن يثيره أو يقلقه. لأنه إن نزعت عنه الأموال، فإنك تقدم له أجرا، ولو أسأت إليه عن طريق شائعات مشينة، تجعله أكثر بهاء أمام الله، ولو ألقيته في مجاعة سيكون ممجدا بالأكثر وسيكون تعويضه أكثر، ولو سلمته إلى الموت ـ وهو الأمر الذي يعد أكثر فزعا من كل شيء ـ فقد اخترت له إكليل الشهادة.

إذن ماذا يمكن أن يعادل هذه الحياة، عندما لا يوجد شيء يمكن أن يسبب لنا ضررا، بل إن هؤلاء الذين يعدون لنا المكائد، هم في الحقيقة يحققون لنا منفعة؟ لا تتكلم عن ما يصنعه معنا الذين يقدمون لنا إحسانا ، ولهذا قال:” إن كان الله معنا فمن علينا “.

3 . ثم بعد ذلك لم يكتف بكل ما قيل، بالإشارة إلى برهان المحبة العظيمة لنا، الأمر الذي يكرره فيما بعد، هذا أيضا يشير إليه هنا، أي يشير إلى تقديم الابن ذبيحة. لأنه ليس فقط قد بررنا ومجدنا وجعلنا مشابهين صورة ابنه، بل إنه لم يشفق على ابنه، وهذا قد تم لأجلنا. ولهذا أضاف قائلاً:

” الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين كيف لا يهبنا أيضا معه كل شيء ” (رو32:8).

وهنا يستخدم الكلمات بروعة وحماس شديدين، لكي يظهر محبة الله. إذن كيف يتركنا الله نحن المحبوبين لديه، وهو الذي لأجلنا لم يشفق حتى على ابنه، بل سلمه إلى الموت لأجلنا؟ تأمل مقدار الصلاح الإلهي الذي يظهر في عدم الإشفاق على ابنه، بل ويسلمه للموت، ويسلمه لأجلنا، نحن الوضعاء، والجاحدين، والأعداء، والمجدفين. “كيف لا يهبنا أيضا معه كل شيء”؟ ما يقوله يعني الآتي: إن كان قد وهبنا ابنه، وليس فقط قد وهبنا إياه، بل وسلمه للذبح، فلماذا تشك في الأمور الأخرى، طالما أنك قد أخذت السيد؟ لماذا تتشكك أو تتحير من جهة ممتلكاته، طالما أن لديك السيد الرب نفسه؟ ذاك الذي أعطى أعظم ما عنده لأعدائه، ألا يعطي الأشياء الأقل لأصدقائه؟

” من سيشتكي على مختاري الله، الله هو الذي يبرر”؟ (رو33:8).

هنا الكلام موجه إلى أولئك الذين يقولون إن الإيمان لا يفيد مطلقا، وإلى أولئك الذين يتشككون في حقيقة التبرير, ولاحظ كيف أنه ألجمهم سريعا عند هذا المقام الذي اختاره لهم، ولم يقل من سيشتكي على عبيد الله، ولا على مؤمني الله، لكن ” على مختاري الله ” لأن الإختيار هو دليل الفضيلة. إذا لو أن أحد رياضي الفروسية إختار الخيول المناسبة للطريق، فلن يستطع أحد أن يشتكي عليه، فإن إشتكى عليه أحد يصبح مثارا للسخرية ، بالأكثر جدا عندما يختار الله النفوس، فإن أولئك الذين يشتكون عليهم، هم مثارا للسخرية.

” من هو الذي يدين المسيح هو الذي مات بل بالحري قام أيضا الذي هو أيضا عن يمين الله الذي أيضا يشفع فينا ” (رو34:8).

لم يقل إن الله يغفر الخطايا، بل قال ما هو أكبر بكثير جدا، أن “الله هو الذي يبرر “. لأنه حين يعلن القاضي براءة أحد ـ وبالأخص مثل هذا القاضي ـ فأية مصداقية تكون للشاكي؟ وبناء عليه، فليس من الصواب أن نخاف من التجارب، لأن الله هو الذي يقف معنا، وهذا قد أوضحه من خلال كل ما فعله، ولا أن نتردد أمام الهذيان اليهودي، لأن من المؤكد أن الله قد إختارنا وقد بررنا ، والأكثر دهشة، أنه بررنا بذبح ابنه.

إذن من سيحاكمنا ، في الوقت الذي فيه توجنا الله، وذبح المسيح لأجلنا ، ولم يذبح فقط، بل أيضا يشفع فينا؟ المسيح هو الذي مات بل بالحرى قام أيضا، وهو أيضا عن يمين الله حيث يشفع فينا، لأنه عاد إلى مقامه، ولم تتوقف رعايته لنا، ولا يزال يحتفظ لنا بنفس المحبة. لأنه لم يكتف بالذبح فقط؛ بل إنه يقدم نموذجًا أعظم للمحبة؛ أي أنه لا يصنع فقط ما يريده هو بل يتشفع لنا من أجل هذا الأمر. هذا ما أراد أن يُعلنه بعبارة أن يتشفع، متحدثًا بطريقة أكثر إنسانية وتسامحًا؛ لكي يبين محبته. إذ أن عبارة “لم يشفق”؛ إن لم نفهمها بهذا المعنى» ضسيلحق بعدم الفهم معاني غير ملائمة. ولكي تعرف أن هذا هو ما أراد أن يبيّنه, بعدما قال أولاً إنه “عن يمين الله” ؛ أضاف أنه ‘يشفع فينا”؛ حين أظهر المساواة في الكرامة؛ حتى أنه بعبارة
“يشفع فينا”؛ يتضح أن ذلك لا يُعَد دليل نقصان أو تقليل؛ بقدر ما هو دليل محبة فقط.

لأن ذاك الذي هو الحياة في ذاته؛ ومصدر كل الخيرات؛ ومُعطي الحياة؛ وكل الأمور الأخرى. كيف يكون في احتياج أن يشفع لناء؛ ولصالحنا؟ إنه يشفع بسلطانه؛ إذ بينما نحن يائسون ومحكوم علينا؛ خلّصنا من هذا الحكم؛ وبرّرنا؛ وجعلنا أبناء؛ وقادنا إلى أعلى درجات الكرامة؛ وحقق لنا كل ما لم نكن نتوقعه أبدًا؛ وطالما أنه حقق كل هذاء ورفع الطبيعة الإنسانية إلى العرش الملوكي؛ هل سيحتاج أن يتوسل حتى يجعل أمورنا على أبهى وأفضل ما يكون؟ أرأيت كيف يتضح لنا ومن كل الإتجاهات أن عبارة ‘ أن يشفع”؛ لم يقلها لأي شيء آخرء إِلاّ لكي يُظهر محبته الشديدة والغنية لنا؟ بالإضافة إلى ذلك فمن الواضح أن الآب يطلب من البشر أن
يتصالحوا معه. ” إذ نسعى كسفراء عن السيح كان الله يعظ بنا “.
ولكن على الرغم من أن الله يطلب؛ وأن بعض الناس هم سفراء عن المسيح؛ فإننا لا نقصد هنا شيئًا غير مستحق لتلك الكرامة؛ بل أمرًا واحدًا فقط نجنيه من كل ما قيل؛ وهو المحبة الكبيرة. هذا إِذَا ما ينبغي أن نفعله هنا هذه الحياة. فإن كان الروح يشفع فينا بآنات لا يُنطق بهاء وأن المسيح مات ويشفع فيناء وأن الآب لم يُشفق على ابنه بسببنا، واختارك وبررك؛ فلماذا تخاف بعدة لماذا ترتعب طالما أنك تتمتع بهذا القدر الكبير من المحبة والعناية 

ولهذا، فإنه بعدما أظهر عناية الله الفائقة، يضيف الكلام اللاحق بكل جرأة، ولم يقل إنكم مجبرون وينبغي أن تحبوه هكذا (كما أحبكم)، بل كمن صار في الله، كما يتضح من شرحه لهذه العناية غير الموصوفة، إذ يقول:

” من سيفصلنا عن محبة المسيح أشدة أم ضيق أم إضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف كما هو مكتوب إننا من أجلك نمات كل النهار قد حسبنا مثل غنم للذبح ” (رو35:8-36).

أما من جهة أنه لم يقل “محبة الله”: فهذا أمر طبيعي ويعود له، أن يدعوه المسيح أو أن يدعوه الله. ” أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف”. انتبه إلى حكمة المطوب بولس. لأنه لم يذكر تلك الأمور التي في حياتنا اليومية، والتي صرنا لها عبيدا، أي محبة المال، وشهوة المجد، والغضب، بل أنه ذكر تلك التي هي أكثر ألما بكثير من هذه الأمور، والتي هي قادرة أن تخضع الطبيعة نفسها، ومرات كثيرة تُشتت الذهن، وبدون إرادتنا، وهذا ما يشير إليه، بالضيقات أي الآلام، لأنه على الرغم من أن ما قيل هو قليل، إلا أن كل كلمة هي مكثفة، إذ تحمل مجموعة لا تُحصى من التجارب، لأنه عندما يقول “ضيقة” فهو يقصد سجونا ، وقيودا، وتشهيرا ، ونفيا، وكل المتاعب الأخرى، مشيرا بكلمة واحدة، إلى كل الآلام الإنسانية بشكل عام . لكنه يحتقر كل هذه الآلام. ولهذا فهو يعرضها بصيغة سؤال، كما لو كانت أمرا لا اعتراض عليه، لأنه لا يوجد أي شيء يمكن أن يفصل ذاك الذي تمتع بمحبة كبيرة وعناية كبيرة، عن محبة المسيح.

4 ـ بعد ذلك، ولكي لا يعتقد أن هذه الأمور هي دليل على تخلي الله عنا ، يضيف إلى ما قاله كلمات النبي الذي يصرخ بهذه الأمور من سنوات طويلة قائلا: “من أجلك ثمات اليوم كله. قد حسبنا مثل غنم للذبح. أي أننا مستعدون أن تعاني من أجل الجميع. ولكنه أعطى لنا ـ في الأخطار الكثيرة والكبيرة، وهذه الآلام الجديدة – عزاء كافيا، من خلال الجهاد، أو من الأفضل أن نقول ليس فقط عزاء كافيا، بل وأكثر من ذلك بكثير. لأنه يقول إننا لا تعاني هذه الأمور من أجل البشر، أو من أجل أي شيء آخر، بل لأجل ملك الجميع. وهو لم يتوج هؤلاء بهذا التاج فقط، بل بتاج آخر متعدد الأشكال وكثير التنوع. لأنه لم يكن ممكنا أن يحتملوا ميتات كثيرة طالما أنهم بشر، وهذا يظهر كيف أن المكافأت لم تصبح أقل أو أصغر على الاطلاق. لأنه وإن كان ـ نظرا لطبيعتنا ـ قد وضع لنا أن نموت مرة واحدة فقط، فإن الله وضع فينا ـ لو أردنا ـ أن نعاني هذا الموت كل يوم.

وبناءاً على ذلك يتضح أنه حين ثمات، سننال أكاليلاً كثيرة، بقدر الأيام التي سنحياها، أو من الأفضل القول، إنها أكثر بكثير، لأنه من الممكن أن ثمات في يوم واحد مرة، ومرتين، ومرات عديدة . إذا من هو مستعد على الدوام لهذا، سيأخذ دوما الأجر كاملاً. هذا من المؤكد ما قصده النبي بقوله: “اليوم كله”. ولهذا فإن الرسول بولس قد أشار إليه، لكي يؤكد على ذلك بالأكثر ، لأنه إن كان الذين عاشوا في العهد القديم قد نالوا كمكافأة عن أتعابهم، الأمور المادية الأخرى التي تزول مع الحياة الحاضرة، إلا أنهم قد احتقروا هذه الحياة جدا، واحتملوا التجارب والأخطار، فأي غفران سنناله نحن الذين نعتبر أمور هذه الحياة تافهة أو زهيدة بالمقارنة بالسماء والملكوت، وما في السماء والخيرات المدخرة، ونحن لم نصل إلى مستوى الذين عاشوا في العهد القديم، ولا حتى بالنسبة لهذا المقياس، ولا أيضا وفقا للتدبير الذي عاشوا به طوال حياتهم . وهو لم يذكر ذلك تاركاً إياه لضمير المستمعين، واكتفى فقط بالشهادة، وأظهر أن أجسادهم أيضا تصير ذبيحة، وأنه لا ينبغي أن يقلقوا، ولا أن يضطربوا ، طالما أن الله قد دبر الأمور على هذا النحو. لكنه يعظهم بطريقة أخرى. ولكي لا يقول أحد، إنه فقط يفلسف هذه الأمور دون أن يختبرها، أضاف: “قد حسبنا مثل غنم للذبح “، مشيرا إلى ميتات الرسل اليومية. أرأيت مقدار النبل والرأفة؟ لأنه كما أن الخراف لا تقاوم عندما تُقاد للذبح، هكذا نحن أيضا.

لكن لأن الضعف يعتبر سمة النفس الإنسانية، ورغم كل هذه التجارب المخيفة، انظر كيف أنه مرة أخرى يشدد المستمع، ويجعله يشعر بالسمو والافتخار، قائلاً:

” ولكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا ” (رو37:8).

الأمر الأكثر دهشة إذا ، هو أننا لم ننتصر فحسب، بل أننا انتصرنا أيضا مع وجود مكائد أو دسائس ضدنا. وليس فقط انتصرنا بل “ويعظم انتصارنا” أي بكل سهولة وبدون جهد ومتاعب، أو تحمل للصعاب، إذ هو يقوم بإعداد الإرادة، وهكذا في كل مكان نقيم نصبا تذكاريا للإنتصار ضد الأعداء. وهذا مبرر جدا، لأن الله ذاك الذي يدعمنا . إذا لا نتشكك في أن التعذيب الذي يقع علينا، يقودنا إلى الانتصار على أولئك الذين يعذبوننا، وأنه عندما تضطهد، فإننا نتغلب على مضطهدينا، وعندما نموت نحول الأحياء ونغيرهم . لأنه في حضور قوة الله ومحبته، لا شيء يمكن أن يعيق تحقيق الأمور العجيبة والمدهشة، ولا يوجد ما يعطل إشراق الانتصار كما سبق وأشرنا . لأننا لا ننتصر فقط، بل ننتصر بطريقة عجيبة، لكي يعلم الذين يفكرون بالشر، أن الحرب لم تكن ضد بشر بل كانت ضد تلك القوة التي لا تهزم.

لاحظ إذا أن اليهود كانوا في مواجهة اثنين من المنتصرين، وتحيروا وقالوا : ” ماذا نفعل بهذين الرجلين. الأمر الأكثر دهشة هو أنه على الرغم من أنهم كانوا يحتجزونهم، ويعتبرونهم مذنبين، وسجنوهم وضربوهم، تحيروا وصاروا مرتبكين، وانهزموا بهذه الأمور ذاتها، والتي توقعوا أنهم سينتصرون بها . فلا الطغاة، ولا جموع من البشر، ولا كتيبة شياطين، ولا الشيطان نفسه، استطاع أن يهزم هؤلاء القديسين، بل ومع كل هذه القوة المضادة، فقد هزموا الجميع، رغم كل ما ابتدعوا من وسائل، بل صارت كلها ضدهم. ولهذا قال: “يعظم انتصارنا”. لأن قانون هذا الانتصار كان جديدا في أن ينتصروا بالأمور المضادة، وألا يهزموا أبدا، بل كما لو كانوا هم المتحكمون في النهاية، وهكذا يسلكون في هذا الجهاد.

5 ـ ” فإني متيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا ” (رو38:8۔39).

هذا الكلام عظيم، ولكننا لم نعرفه ولم نختبره بشكل كامل، لأنه ليس لدينا كل هذا الحب الكبير. فعلى الرغم من أنه كلام عظيم ورائع، إلا أنه أراد أن يبرهن على أنه لا يوجد شيئا يقارن بالمحبة، أي محبة الله له، وبعدما أشار إلى هذه المحبة، أشار عندئذ إلى محبته هو، حتى لا يظهر أنه يقول كلاما مهما عن نفسه . وما يقوله يعني الآتي: ما هي الحاجة لأن أتكلم عن أمور الحياة الحاضرة والمآسي المرتبطة بهذه الحياة؟ لأنه حتى وإن تكلم المرء بعد عن أمور الدهر الآتي، وعن حقائق وقوات، أي حقائق مؤكدة مثل الموت والحياة، وقوات مثل الملائكة ورؤساء الملائكة، وكل الخليقة السمائية، هذه الأمور كلها بالنسبة لي هي صغيرة، مقارنة بمحبة المسيح. وحتى لو وعدني أحد بحياة لا تنتهي أو هددني بالموت، لكي يبعدني عن المسيح، فإنني سأواجه هذا التهديد.

ولماذا يجب أن أشير إلى ملوك الأرض، والنبلاء، وإلى هذا وذاك؟ فحتى وإن حدثتني عن الملائكة، وكل القوات السمائية وكل الكائنات، وكل ما يتصل بالدهر الآتي، كل هذا بالنسبة لي هو أمر قليل الأهمية، كل ما يوجد على الأرض، وكل ما هو في السموات، وما تحت الأرض، وما فوق السموات، إذا ما قورن بالمحبة، فهو كلا شيء.

ثم بعد ذلك، وكما لو كان هذا لم يكف ليعبر عن شوقه، بل إن هناك أمور أخرى كثيرة أيضا، يعتبرها مثالاً، بقوله: ” ولا خليقة أخرى “. وما يقوله هنا يعني: أنه لو وجدت خليقة أخرى أيا كان قدرها ، سوى كانت مرئية أم هو غير مرئية، فلا شيء يمكن أن يفصلني عن محبة المسيح . وقد قال هذا ، لا لأن الملائكة أو القوات الأخرى، يسعون نحو هذا (أي ينفصلوا عن المسيح)، حاشا، لقد أراد فقط أن يظهر محبته الكبيرة للمسيح بشكل لا يمكن وصفه. لأنه لم يحب المسيح من أجل تلك الأمور التي أظهرها المسيح، بل أنه من أجل محبته للمسيح، أحب كل ما له، والذي كان يخشاه فقط أن يفقد محبته له، لأن هذا بالنسبة له كان يمثل أمرا أكثر فزعا من جهنم، لذا فإن مسألة بقائه في هذه المحبة، هو أمرا أكثر شوقا ورغبة، من شوقه لنوال ملكوت السموات.

6 . إذن كيف نكون مستحقين لذلك، فإذا كان الرسول بولس لا يشتهي حتى تلك الأمور التي توجد في السموات، أمام محبته للمسيح وشوقه إليه، بينما نحن نفضل تلك التي توجد في القذارة والطين بدلاً من محبتنا للمسيح؟ وقد قبل أيضا، أن يلقي في جهنم ويخسر الملكوت من أجل محبته للمسيح، وإن كان من المؤكد أن هاتين الاثنتين (الحياة الحاضرة والحياة السماوية) كانتا أمامه، بينما نحن لم نحتقر ولا حتى الحياة الحاضرة، تُرى هل نستحق نحن أن نحذو حذو الرسول بولس، أي نسلك نفس الطريق، طالما أننا بعيدون جدا عن افتخاره العظيم بمحبة المسيح؟ لأن ذاك لم يعتبر ولا حتى ملكوت السموات أمرا له قيمة، أمام محبة المسيح، بينما نحن نزدری بالمسيح، على الرغم من أننا نتكلم كثيرا عنه. وياليتنا نظل نتكلم عنه، فحتى هذا لم يعد يحدث الآن، بل على الرغم من أن الملكوت أمامنا، إلا أننا نتركه وتلاحق الظلال والأحلام كل يوم. ولكن لأن الله محب للبشر، ومتراءف جدا، صنع معنا نفس ما يفعله أب يحب ابنه، وإن كان هذا قد سبب له ألما لأجل إستمرار الشركة معه، وقد نظرا إلى هذه الشركة بشكل مختلف. إذا لأننا لا نملك تلك المحبة التي ينبغي أن تكون نحوه، قدم لنا أمورا أخرى كثيرة، حتى يحفظنا بالقرب منه، ولكننا لم نبق قريبين رغم كل ما فعله الله معنا ، لكننا عدنا إلى الأمور الطفولية.

لكن الرسول بولس لم يفعل ذلك، بل كابن مهذب، وحر، ومحب لأبيه يطلب شركة أبيه فقط، ولا يتكلم كثيرا عن أي شيء آخر، لأن الإكرام الذي يعطيه للآب، لا يعطيه للأشياء التي له، بل وعندما يتطلع إلى الآب، لا يهتم مطلقا بهذه الأشياء، لكنه يفضل أن يكون معه فقط، حتى وإن عذب وعوقب، على أن يقضي أوقاتا مرفهة بعيدا عنه. فلنرتعد إذا لأننا ولا حتى المال نحتقره من أجل المسيح، بل نقول إننا لا نحتقر المال، حتى من أجل أنفسنا. القديس بولس الوحيد الذي كابد بحق كل الآلام من أجل المسيح، لا لأجل الملكوت، ولا لأجل كرامته، بل من أجل محبته للمسيح فقط. لكننا لا يمكننا أن ننفصل عن الأمور الحياتية، والأشياء المرتبطة بها لأجل المسيح، بل نُسحب منجذبين إلى الطين مثل الحيات، والثعابين، والخنازير، أو مثل كل هذه كلها معا. فهل نحن أفضل من تلك الحيوانات من أي جهة ، نحن الذين لدينا هذا القدر الكثير والكبير من النماذج المبهرة التي عاشت للمسيح، ولازلنا ننظر بعد إلى أسفل، ولا نحتمل أن نتطلع قليلا نحو السماء؟ والله قد سلم ابنه للموت، ذاك الذي ذبح لأجلك، وأنت لا تعطيه حتى الخبز. الله لم يشفق عليه لأجلك، وأنت تزدري بمن هو ابن حقيقي، على الرغم من أنه يتضور جوعا، بينما أنت تنفق على ذاتك من عطاياه.

هل يمكن أن يوجد أسوأ من هذه المخالفة؟ فقد سلم للموت لأجلك، ذبح لأجلك، وجال جائعا من أجلك، وأعطى لك مما له، لكي تنتفع أنت ذاتك ، ومع كل هذا فأنت لا تعطى شيئا . من هم هؤلاء الذين فقدوا الحس كأنهم أحجار، الذين على الرغم من الإحسانات الكثيرة التي تجذبهم إلى محبة المسيح، إلا أنهم لا يزالون في هذه الجفوة أو القسوة الشيطانية؟ لأنه لم يكتف بموته وصلبه فقط، بل إنه قبل أن يصير فقيرا، وغريبا، ومشردا ، وعريانا، ومسجونا، ويحتمل الآلام، لكي يجذبك إليه، حتى ولو بهذه الطريقة. لأنه ـ هكذا يقول ـ إن لم تبادلني الإمتنان لما صنعته من أجلك – لأني عانيت الكثير لأجلك ـ فلتصنع معي رحمة بسبب فقري (أي الرحمة لمن هم في احتياج). وإن لم ترد أن ترحمنى لأجل احتياجي أو فقري، فلتتحرك مشاعرك لأجل آلامي، ترفق بي لأجل سجني. وإن لم يجعلك كل هذا محبا للناس، اقبل المطلب الزهيد. لأنني لا أطلب شيئا كثير النفقات، إني أطلب خبرا، ومسكنا، وكلمة معزية. لكن إن كنت بعد كل هذا لا تزال قاسيا، فعلى الأقل لأجل ملكوت السموات يجب أن تكون أفضل، ولو لأجل المجازاة التي وعدت بها. فهل لديك كلمة تقولها عن هذه الأمور؟ ليتك تترفق على الأقل أمام الطبيعة البشرية ذاتها، لأنك تراني عريانا، وتذكر ذلك العري الذي حدث فوق الصليب من أجلك . وإن كنت لا تريد أن تتذكر ذلك، فعلى الأقل تذكر عري في الفقراء، سجنت لأجلك من قبل، والآن أسجن لأجلك حتى تتحرك، سواء هنا أو هناك لكي تصنع رحمة ما.

 صمت لأجلك، وأيضا أجوع لأجلك، عطشت عندما علقت على الصليب، وأعطش في الفقراء، حتى أنه بواسطة هذه وتلك، أجذبك إلي، وأجعلك محبا للناس من أجل خلاصك. ولهذا فعلى الرغم من أنك مدين لي لأجل إحسانات لا تُحصى (قدمتها لك)، إلا أنني لا أطلب منك مكافأة كمن هو مديون لي، بل أنني أتوجك كما لو كنت تمنحني، وأهبك الملكوت عوضا عن هذه الأمور الصغيرة. فأنا لا أطلب منك أن تجعلني غنيا، على الرغم من أنني صرت فقيرا لأجلك، بل سدد فقط احتياجي. إنني أطلب فقط خبرا ، وملبسا، وتخفيفا للجوع . وإن كنت بعد قد ألقيت في السجن، فإني لا أطلب أن تحل القيود وتخرجني خارجا ، بل أطلب شيئا واحد ، أن تراني وأنا مقيد لأجلك، وهكذا ستنال ملكوت السموات على الرغم من أنني قد حللتك من قيود مرعبة جدا ، بل هي مرعبة أكثر من غيرها، إلا أنه يكفيني فقط أن تراني مقيدا، إني أستطيع أن أتوجك دون أن تراني هكذا، لكني أريد أن أكون مديونا لك. ومن أجل هذا، وبرغم من أنني أستطيع أن أطعم نفسي، فإنني أجول متسولا وأقف أمام بابك مادا يدي، لأني أشتهي أن تطعمني، فأنا أحبك جدا. ولهذا فإنني أشتهي مائدتك، وهذا هو حال الذين يحبون، وهم يفتخرون بهذا. وحين يجتمع سكان المسكونة (يوم الدينونة)، عندئذ سأعترف بك كمنتصر، وعندما يكون الجميع منصتين إلي، سأعترف بك لأنك أطعمتني. أما نحن، فعندما يطعمنا أحد، نخجل من هذا وتخفيه، ولكن المسيح له المجد، لأنه يحبنا جدا، فحتى لو صمتنا نحن، فإنه سيعلن في ذلك الوقت ما حدث بإطراء كبير، ولن يخجل أن يتكلم به، أي عندما كان عريانا وكسوناه، وعندما كان جوعانا وأطعمناه. إذا ونحن نفكر في كل هذا ، ينبغي ليس فقط، ألا نتوقف عن المديح، بل يجب أن نمارس تلك الأمور التي قيلت . لأنه ما هي المنفعة من وراء هذا الطنين وهذه الضوضاء؟ شيء واحد فقط أريده منكم، هو إثبات المحبة بالأعمال، والطاعة بالأفعال، هذا هو المديح الذي أقدمه، فإن ذلك يعد ربحا لكم، ويعتبر بالنسبة لي كرامة تعلو على كرامة الإكليل. إذا انسجوا لكم ولي هذا الاكليل بواسطة الفقراء، حتى نتغذى معا بالرجاء الصالح، وعندما نرحل إلى الحياة الأبدية، سننال الخيرات التي لا تُحصى، والتي ننتظر أن ننالها جميعا، بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة إلى أبد الأبدين آمين.

تفسير رومية 7 تفسير رسالة رومية تفسير العهد الجديد تفسير رومية 9
 القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير رسالة رومية تفاسير العهد الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى