تفسير رسالة العبرانيين اصحاح 1 للقمص تادرس يعقوب ملطي
الإصحاح الأول
المسيح والأنبياء
مقدمة
الله يكلمنا
بين الأنبياء والسيد المسيح 1-3.
- الابن 2.
- الذي جعله وارثًا للكل شيء 2.
- الذي به أيضًا عمل العالمين 2.
- بهاء مجده ورسم جوهره 3.
- حامل كل الأشياء بكلمة قدرته 3.
- صنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا 3.
- جلس عن يمين العظمة 3.
المسيح والملائكة 4-14.
- عظمته في البنوة 4-5.
- خضوعهم له 6-8.
- مسحه للعمل الخلاصي 9.
- أبديته 10-14.
“اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ،
كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ،
الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثًا لِكُلِّ شَيْءٍ،
الَّذِي بِهِ أَيْضًا عَمِلَ الْعَالَمِينَ.
الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ،
وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ،
بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا،
جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي” [1-3].
مقدمة
افتتح معلمنا بولس الرسول رسالته بإعلان حديث الله مع الآباء، أي مع رجال العهد القديم بواسطة الأنبياء، مؤكدًا أولاً التزامه بالحب والخضوع لرجال العهد القديم؛ وثانيًا بإعلان وحدة العهدين. فإن الله الذي تحدث قديمًا مع رجال العهد القديم هو بعينه الذي يحدثنا نحن في هذه الأيام الأخيرة في ابنه. يتحدث مع الأولين عن الحق الإلهي خلال الظلال، أما الآن فيعلن الحق في كماله. بهذا لم يقلل الرسول بولس من شأن الأنبياء ولا من عظمة مجد العهد القديم، لكن ما هو أعظم منه هو مجد العهد الجديد، بكونه امتدادًا للعمل القديم، ودخولاً إلى أعماقه، وتحقيقًا لغايته. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يا له من أمر عظيم أن يرسل الأنبياء إلى آبائنا، أما بالنسبة لنا فقد أرسل ابنه الوحيد نفسه… لم يرَ أحد منهم (من الأنبياء) الله، أما الابن الوحيد فيراه.] [يا للعجب! لقد تنازل واختار ألاَّ يتحدث (الله) معنا بواسطة عبيده بل بفمه… كان لهم موسى معلمًا، أما نحن فلنا رب موسى؛ إذن فلنظهر الحكمة (الفلسفة) السماوية التي تليق بهذه الكرامة ولا نطلب أمرًا أرضيًا.]
لماذا بدأ الرسول مقارنته بالأنبياء؟ لأنه في بدء انطلاق الأمة اليهودية كان القائد هو موسى النبي وكان أخوه هرون رئيس كهنة. موسى يمثل إعلان الحق الإلهي خاصة خلال الشريعة، وهرون يمثل الجانب العملي الذبيحي والتعبدي الذي يقوم بالمصالحة بين الله والإنسان. العملان متلازمان ومتكاملان، فالإنسان ليحيا كمؤمنٍ حقيقيٍ وعضو في الجماعة المقدسة عليه أن يتقبل الحق ويتعرف عليه ليس فقط خلال الشريعة أو الوصية أو النبوة وإنما أيضًا خلال الحياة التعبدية الحقيقية، أي خلال ذبيحة المصالحة بين الله والمؤمن. هذا التلازم بين النبوة والكهنوت، أو بين الوصية والعبادة لم يدم كثيرًا، فسرعان ما انحرف كهنة اليهود عن رسالتهم، وتحولوا إلى الشكل دون الروح، وضاع الحق من بين أيديهم، فصارت هناك عداوة بين الكهنة الشكليين والأنبياء الحقيقيين، الأمر الذي برز بصورة صارخة في أيام إرميا النبي وحزقيال النبي، حيث لم يكن ممكنًا المصالحة بين الطرفين. أما السيد المسيح فهو وحده “الحق” في كماله، يعلنه لنا خلال ذبيحته الفريدة على الصليب، وفي نفس الوقت هو رئيس الكهنة السماوي القادر أن يصنع تطهيرًا لخطايانا، جالسًا عن يمين الآب في الأعالي. في هذا السفر يقارن بين السيد المسيح والأنبياء، ليعود فيقارن في النهاية بينه وبين الكهنوت اللاوي، لكي يعلن في شخصه التحام الحق مع العمل الذبيحي أو التحام النبوة مع الكهنوت في صورة فريدة فائقة.
لقد أبلغ الأنبياء الصوت الإلهي للآباء بكونهم قنوات، لا فضل لهم سوى تبليغ الرسالة كما هي، إذ “استؤمنوا على أقوال الله” (رو 3: 2)، ويشهد السيد المسيح نفسه أن موسى والأنبياء تحدثوا عنه؛ أما السيد فهو الكلمة عينه، أو هو الحق بذاته، يعلن عن الآب بكونه واحدًا معه في الألوهية، لهذا يقول: “ليس أحد يعرف الابن إلاَّ الآب، ولا أحد يعرف الآب إلاَّ الابن ومن أراد الابن أن يعلن له” (مت 11: 37).
الله يكلمنا
في القديم كلم الله الآباء بالأنبياء، أما الآن فيكلمنا في ابنه. ماذا يعني الرسول بهذا؟ الله دائم الحديث معنا، يتحرك نحونا بحركة الإعلان عن حبه. يريد أن يتعامل معنا، فهو وإن كان مطلقًا فوق كل إدراك لكنه ليس ببعيدٍ عنا، ولا بمنعزلٍ عن الإنسان، يود إتحاد الإنسان معه لينعم بشركة أمجاده الأبدية.
كلام الله معنا ليس ألفاظًا تقف عند سماع الأذن لها، إنما هو حياة فعّالة، يشبهه الله بالمطر العامل في الأرض: “أنزل عليهم المطر في وقته فتكون أمطار بركة، وتعطي شجرة الحقل ثمرتها، وتعطي الأرض غلتها” (حز 34: 26، 27). ويؤكد الرسول في نفس الرسالة: “لأن كلمة الله حية وفعالة، وأمضى من كل سيف ذي حدين، وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ، ومميزة أفكار القلب ونياته. وليست خليقة غير ظاهرة قدامه” (4: 12, 13). والسيد المسيح نفسه يقول: “كلامي روح وحياة”.
يكلمنا بطرق وأنواع كثيرة
منذ بدء الخليقة الإنسان والله في حبه يتحرك نحونا ليتكلم معنا، وكما يقول القديس أغسطينوس: [أليس الله هو الذي تكلم في بدء البشرية مع آدم (تك 3: 17)؟ أليس هو بنفسه الذي تكلم مع قايين ونوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب وكل الأنبياء وموسى؟ انظر فإنه يتحدث حتى مع الشخص الواحد ليس فقط مرة بل مرات كثيرة.]
إنه يتحدث منذ بدء البشرية بأنواعٍ وطرق كثيرة، مستخدمًا كل وسيلة، لعلنا نسمع صوته، ونتقبله فينا، ونتجاوب معه. يقول الوحي الإلهي: “كلمت الأنبياء وكثرت الرؤى وبيد الأنبياء مثلت أمثالاً” (هو 12: 10)، وجاء في المزمور: “إله الآلهة تكلم” (مز 50 (49): 1). ويعلق القديس أغسطينوس قائلاً: [تكلم بطرق كثيرة، فتكلم بنفسه بواسطة ملائكة، ونفسه أيضًا تكلم بواسطة الأنبياء، وتكلم بفمه، وهو يتكلم بنفسه بواسطة مؤمنيه خلال ضعفنا عندما ننطق بشيء من الحق. انظر إذن فإنه يتكلم بطرق متنوعة، وبأوانٍ كثيرة، مستخدمًا آلات كثيرة، لكنه هو بنفسه الذي ينطق في كل موضع بالتلامس أو الصور أو الإيحاء!]
بين الأنبياء والسيد المسيح
إن كان الله الآب تكلم خلال الأنبياء، لكن الأمر يختلف عن حديثه في الأيام الأخيرة معنا في ابنه. وقبل أن نتعرف على الاختلاف نذكر السبب لدعوة العهد الجديد بالأيام الأخيرة. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [حسنًا قال “الأيام الأخيرة“، فإنه بهذا يثيرهم ويشجعهم على الاهتمام بالمستقبل. في موضع آخر يقول: “الرب قريب لا تهتموا بشيء” (في 4: 5، 6)، وأيضًا: “فإن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنًا” (رو 13: 11)، هكذا هنا أيضًا. إذن، ما هذا الذي يقوله؟ الذي يعيش في صراع إذ يسمع كلمة “الأخيرة” يسترد أنفاسه قليلاً عالمًا بحق أن الوقت حان لنهاية أتعابه وبداية راحته.] كما يعلق ذات القديس على نفس النص، قائلاً أن الإنسان يتوقع في الأيام الأخيرة أن العقاب يقترب، والعطايا تقل، والخلاص غير متوقع، لكن ما حدث هو على نقيض ذلك إذ جاءت النعم فائقة.
نعود إلى حديث الآب، فإنه يتحدث بالأنبياء كآلات يستخدمها، أما في الأيام الأخيرة فيحدثنا في ابنه، ليس كآلة خارجة عنه تعلن صوته، إنما هو ذات كلمة الله، الواحد مع الآب. تجسد الابن لكي نقبل الالتقاء معه، حمل الصليب ليهبنا حق الدخول فيه، نازعًا العداوة، وبقيامته صرنا كأبرارٍ، فيه نلتقي مع أبيه أبًا لنا، فلا نسمع في الابن صوتًا أو كلمات مجردة، إنما نتقبله فينا ونحن فيه، فنصير واحدًا مع كلمة الله، وأعضاء جسده. لم يعد كلام الله مجرد وصايا نتقبلها لنطيعه، وإنما بالأكثر قبول للكلمة الإلهي وثبوت فيه، الذي وحده موضع سرور أبيه، كامل في طاعته له، فنحسب فيه موضع سرور وصايا مرعبة نخشى نيرها لكنها صارت تمتعًا بالكلمة، الذي يهبنا الحياة السماوية وشركة الأبديات في داخلنا. هذا ما قصده بكلماته: “ملكوت الله في داخلكم”.
حين تحدث الأنبياء مع الآباء قدموا رسائل إلهية مجيدة، أما وقد تحدث الآب إلينا في ابنه فإنه قدم لنا ابنه ذاته سرّ حياة وخلاص وقيامة! فمن هو هذا الابن الكلمة الذي يقدمه الآب في هذه الأيام الأخيرة؟
1. الابن
يقول الرسول: “كلمنا في ابنه” ولم يقل “كلمنا في الأنبياء”. فالابن إذ هو واحد مع أبيه يحمل فيه الآب على مستوى فريد ويحوينا نحن أيضًا داخله بتقديسنا بدمه، فنلتقي مع الآب فيه، نتعرف عليه وندخل إلى حالة إتحاد معه وشركة فائقة. حقًا لقد كان الروح القدس يهيء الأنبياء لقبول الرسالة الإلهية وتبليغها، لكن لم يكن ممكنًا للآب أن يستقر فيهم على مستوى الإتحاد، ولا أن يدخلوا بالبشر إلى أعماقهم ليلتقوا بالآب. الابن الوحيد الجنس هو القادر وحده أن يصالحنا مع أبيه فينا لنبقى معه وبه إلى الأبد.
في دراستنا لرسائل معلمنا بولس الرسول أدركنا الحقيقة اللاهوتية البارزة للإيمان المسيحي، ملخصها “في المسيح“. ففيه يعلن لنا الآب ذاته ويحدثنا، وفيه صرنا مؤمنين (أف 1: 1)، وفيه تمتعنا بالاختيار الإلهي (أف 1: 4)، وفيه نلنا الفداء (أف 1: 7)، وفيه يجمع السمائيين والأرضيين (أف 1: 10)، وفيه نستغنى في كل شيء (1 كو 1: 5) الخ.
2. الذي جعله وارثًا للكل شيء
يتحدث هنا عن دور التجسد الإلهي، والابن خالق كل شيء أخلى ذاته وصار في شكل العبد حاملاً إيانا فيه، حتى إذا ما ورث كل شيء ببره الذاتي نرث نحن معه وفيه. من أجلنا أخلى ذاته عن أمجاده، تاركًا كل شيء حتى تعرى ودُفن في قبر لغريب، لكي يجد كل واحد منا له موضعًا فيه.
هذا هو دور الابن إذ وهبنا الميراث فيه، أما الأنبياء فكانوا مجرد متحدثين عن الميراث الذي يعده الله لنا، يشيرون إليه دون أن يقدموه ولا حتى نالوه، حتى ينعمون معنا بالمسيح ميراثنا الحق.
3. الذي به أيضًا عمل العالمين
هنا يحدثنا الرسول بوحي من الروح القدس عن سمو المسيح عن الأنبياء دون أن يشير إليهم صراحة، فالأنبياء بشر قبلوا الرسالة الإلهية، وكرسوا حياتهم ليحققها الله بواسطتهم. أما السيد المسيح فهو الخالق، صانع السماء والأرض، وكما يقول القديس يوحنا الحبيب: “كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان” (يو 1: 3). به تمت الخليقة السماوية والأرضية، وبه أيضًا تتحقق الخلقة الجديدة فينا، فيقيم فينا سماءً جديدة وأرضًا جديدة. وكما يرى القديس أغسطينوس أن السماء إنما تشير إلى النفس، والأرض إلى الجسد، فإن السيد المسيح يجدد نفوسنا وأجسادنا، أي يعيد خلقتها، وذلك بروحه القدوس في مياه المعمودية.
4. بهاء مجده ورسم جوهره
يرتفع بهم الرسول إلى درجة أعلى ليروا الابن الكلمة الذي به كان كل شيء هو بعينه بهاء مجد الأب ورسم جوهره، ليقدوهم إلي البهاء الذي لا يُقترب إليه.
هل تعبير “ بهاء مجده ورسم جوهره ” يقلل من مساواة الابن للآب أو يسيء إلى وحدانيتهما الأزلية؟
يشير تعبير “بهاء مجده” إلى الولادة الأزلية، فلا يمكن أن يقوم النور الأزلي بدون بهائه، فالابن هو النور من النور، أو البهاء الأزلي غير المنفصل عن النور، بل واحد معه. يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [من ذا الذي تجرد من العقل حتى يشك في أزلية الابن؟ لأنه من ذا الذي يرى نورًا بغير بهاء أو إشراق!] كما يقول: [إنه غير منفصل عن الآب كما أن البهاء غير منفصل عن النور.] ويقول: [من الذي لا يرى أن البهاء لا يمكن أن يفصل عن النور وإنما بالطبيعة يكون هكذا، شريكًا معه في الوجود، لا يأتي بعده؟!] وأيضًا: [كيف يكون الابن غير مشابه للآب في الجوهر، وهو صورة الآب الكاملة وبهاؤه، والقائل: “الذي رآني فقد رأى الآب” (يو 14: 9)؟ إن كان الابن هو كلمة الآب وحكمته، فكيف يوجد زمان لم يكن فيه الابن هو كلمة الآب وحكمته، فكيف يوجد زمان لم يكن فيه الابن موجودًا؟!]
ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لاحظ بأي وقار يفهم هذا، وعندئذ نتقبله، فإنه (مولود) منه بلا ألم، ليس بأعظم ولا أقل منه.] كما يقول: [إذ يدعو الآب بهذا الاسم (النور) في العهدين القديم والجديد، استخدم المسيح نفس الاسم أيضًا (يو 12: 46)، لذا دعاه بولس أيضًا “بهاء” مُظهرًا أنه منه، شريكه في السرمدية.] ويقول: [اسمع أيضًا المسيح نفسه يقول: “أنا نور العالم” (يو 8: 12) لهذا استخدم كلمة بهاء بمعنى أنه نور من نور؛ لا يعني هذا فقط، وإنما قصد أيضًا أنه ينير نفوسنا ويعلن لنا الآب والابن معًا (أي وحدتهما كوحدة النور بالبهاء).]
إن عدنا إلى المقارنة بين السيد المسيح والأنبياء، نذكر أن موسى النبي في لقائه مع الله انعكس على وجهه بهاء خارجي ومجد حتى لم يقدر الشعب أن يتفرس فيه، فاضطر إلى وضع برقع على وجهه عند الحديث معهم، يرفعه عندما يدخل إلى الحديث مع الله. وكان ذلك رمزًا للسيد المسيح “بهاء الآب” الذي لا يحمل بهاءً خارجيًا منعكسًا عليه، إنما هو البهاء بعينه غير المنفصل عن الآب، لبس جسدنا كبرقع موسى حتى يمكننا أن نتفرس فيه، فنتعرف على إسرار أبيه، قائلين مع المرتل: “بنورك يا رب نقدر أن نعاين النور”، أي بابنك الوحيد الذي هو بهاؤك نقدر أن نعاين أسرارك وندخل إلي أمجادك السرمدية.
أما دعوته “رسم جوهره”، فكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [تشهد لشخصه أنه منتسب لذات جوهره.]
5. حامل كل الأشياء بكلمة قدرته
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الروح القدس يتدرج بالقارئ ليرتفع به على الجبال الشاهقة، جبال معرفة المسيح غير المدركة، فيحدثهم تارة عن الأمور الخاصة بتجسده، ثم يرتفع بهم إلى معرفته كخالق، ويعلو بهم، ليتعرفوا على طبيعته، بكونه بهاء مجد الآب، ليعود فينزل بهم ليدركوا رعايته لهم بقوله “حامل كل الأشياء بكلمة قدرته“، وهكذا يعلو ويهبط بهم ليدركوا أسرار المسيح وسماته وأعماله.
هنا يحدثهم الوحي الإلهي عن السيد بكونه حاملاً كل الأشياء، أي ضابط الكل فلا يفلت شيء من تحت رعايته واهتمامه، قريب جدًا إلى خليقته يدبر حتى صغائر أمورها. فإن كان الابن هو البهاء الذي لا يُقترب إليه، فإنه في محبته حملنا إليه لنكون فيه، تحت حمايته.
رأيناه الوارث لكل شيء، يرث الأمم جميعها لا ليسيطر بالأمر والنهي، وإنما ليسكب حبه ويمسك بيد كل أحد، لكي يقدس الجميع بروحه القدوس مهيئًا إيانا للتمتع بشركة ميراثه، هو يورثنا ونحن نملكه فينا يقتنينا ونحن نقتنيه! هذه هي قدرته الفريدة التي بحق تعلن سلطان الحب وقوة الرعاية وإمكانية الخلاص الفائق! وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [عنايته لا تُفسَر، وحنانه غير مُدرَك، وصلاحه يا يُحَد، وحبه لا يُستقصى.]
6. صنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا
كحامل الأشياء بكلمة قدرته تتجلى إمكانياته الإلهية ليس فقط في خلقته إيانا من العدم وتقديم العالم كله لخدمتنا، لكن ما هو أعظم أنه بعد أن فسدت طبيعتنا وتركنا فردوسنا وهربنا من وجه الآب دخل إلينا واقتنصنا بحبه، مقدمًا ثمن خطايانا على الصليب، ليدخل بنا إلى ملكوت محبته، ويردنا إلى بيت أبيه وأحضانه الإلهية حاملين صورة خالقنا… إنه يجلس الآن عن يمين العظمة كرئيس كهنة عنا، يشفع فينا لا خلال وساطة الكلام والطلبة الشفوية، وإنما خلال ذبيحة نفسه التي قدمها عنا مرة، وحملنا فيه أعضاء جسده. إنه يشفع بالدم المقدس المبذول لتطهيرنا.
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على رعايته الخلاصية بقوله: [اذكر أن راحته بخلاصك وسروره أعظم من سرورك وأنت هارب من الخطر والموت!]
ويعلق أيضًا على قول الرسول: “صنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا“، قائلاً: [يليق بنا أن نستمر طاهرين ولا نتقبل أي دنس، بل نحتفظ بالجمال الذي أوجده فينا وكماله غير الدنس الطاهر، إذ “لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك” (أف ٥: ٢٧). فإن أصغر الخطايا هي دنس أو غضن، أقصد حتى كلمة الانتهار أو الشتيمة أو الكلمة الباطلة.]
7. جلس عن يمين العظمة
لقد جلس في الأعالي عن يمين العظمة، لا ليبقى فوق إدراكنا، وإنما لأنه إذ نزل إلينا كواحد منا وصنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا صار لنا فيه موضع، ومعه شركة إتحاد، حتى إذ يرتفع نرتفع معه وبه وفيه؛ نجلس حيث هو جالس، متمتعين بشركة المجد الأبدي. ارتفع الرأس حتى لا يبقى الجسد على الأرض إنما يبقى بروحه وقلبه هناك إلى يوم الرب العظيم، فيرتفع الجسد أيضًا لينعم بالمجد!
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [من أجلك يا إنسان هيأ الملكوت! ولأجلك أعد خيرات لا توصف، ونصيبًا معدًا في السماء، وحياة لا مثيل لها، وفرحًا لا يُنطق به.]
المسيح والملائكة
بعد أن عرض الرسول في اختصار شديد وبقوة عن حديت الآب مع البشرية في ابنه الوحيد في ملء الزمان، والذي لا يُقارن بحديثه مع الآباء العبرانيين خلال أنبياء العهد القديم، انتقل إلى المقارنة بينه وبين الملائكة. فقد افتخر العبرانيون على الأمم بأنهم تسلموا الناموس بيد ملائكةٍ. هذا ما أعلنه التقليد اليهودي، وأكده العهد الجديد، إذ يقول الشماس اسطفانوس: “أخذتم الناموس بترتيب ملائكة ولم تحفظوه” (أع ٧: ٥٣)، ويقول الرسول: “فقد وُعد له مرتبا بالملائكة في يد وسيط” (غل ٣: ٩). أما شريعة بالعهد الجديد فقدمها السيد المسيح للجموع حين تقدم إليه تلاميذه وحدثهم دون أن تظهر ملائكة ولا رافقته علامات فائقة للطبيعة كما حدث عندما تسلم موسى النبي الشريعة على جبل سيناء.
يقارن الرسول بولس بين السيد والملائكة في النقاط التالية:
1.عظمته في البنوة
“صَائِرًا أَعْظَمَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ بِمِقْدَارِ مَا وَرِثَ اسْمًا أَفْضَلَ مِنْهُمْ.
لأَنَّهُ لِمَنْ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ قَالَ قَطُّ:
أَنْتَ ابْنِي أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ؟
وَأَيْضًا: أَنَا أَكُونُ لَهُ أَبًا وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا؟” [٤- ٥].
لا يوجد مجال للمقارنة بين السيد وملائكته الذين هم عمل يديه وخدامه، لكنه إذ قبل التجسد وظهر في تواضعه كواحدٍ منا أقل من الملائكة أراد الرسول توضيح مركزه: إنه الابن الوحيد الجنس له اسم أفضل منهم.
جاء في سفر الرؤيا: “له اسم مكتوب ليس أحد يعرفه إلاَّ هو” (رؤ ١٩: ١٢). هذه العبارة تكشف عن عجز اللغة البشرية، أي حتى اللغة السماوية عن التعبير عن طبيعة الابن أو علاقته بالآب، فإن دعاه الكتاب “الابن”، فذلك لأن هذه الكلمة هي أقرب الكلمات في التعبير، وإن عجزت عن التعبير كما ينبغي.
بالتجسد نزل الابن إلينا كواحد منا، فصار هناك مجال للمقارنة بينه وبين الملائكة، وإن كان في جوهره يبقى فوق كل مقارنة، يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كان دائمًا أعظم منهم، وفوق كل مقارنة، إنما قيل هذا عنه من جهة الجسد.] كما يقول: [لو كان ابنًا بالنعمة فقط لما كان أفضل من الملائكة بل بالحري أقل منهم. كيف؟ لأن الأبرار أيضًا يدعون أبناء… ولكي يشير إلى الفارق بين المخلوقات وصانعها اسمع ما يقول: “لأنه لمن من الملائكة قال قط أنت ابني وأنا اليوم ولدتك”، وأيضًا “أنا أكون له أبًا وهو يكون لي ابنًا”.]
ماذا يعني بكلمة “اليوم” إلاَّ كتعبير عن أزليته حيث لا بداية له، فإنه لم يكن هناك زمان لم يكن فيه الابن، إذ هو مولود من الآب قبل الدهور.
2. خضوعهم له
لا مجال للمقارنة بين الابن الجالس على العرش وخدامه الملائكة الساجدين له، وإن كانوا لهيب نار.
“وَأَيْضًا مَتَى أَدْخَلَ الْبِكْرَ إِلَى الْعَالَمِ يَقُولُ:
وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ اللهِ.
وَعَنِ الْمَلاَئِكَةِ يَقُولُ: الصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحًا وَخُدَّامَهُ لَهِيبَ نَارٍ.
وَأَمَّا عَنْ الاِبْنِ: كُرْسِيُّكَ يَا أَللهُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ.
قَضِيبُ اسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِك” [٦ – ٨].
يدعو الرسول تجسد الابن الكلمة “دخولاً Eisodus” إلى العالم، وقد تحقق ذلك خلال خروجه Exodus كقول السيد: “خرجت من عند الأب، وقد أتيت إلي العالم” ( يو 16: 28) كما يقول: “خرج الزارع ليزرع” (مت ١٣: ٣). إنه بحق خروج ودخول، خروج إرادي من أمجاده، ودخول إلى حياتنا لكي يضم إليه طبيعتنا وحياتنا، فيخرج بنا من عالمنا ويدخل بنا إلى حضن أبيه. يشبه القديس يوحنا الذهبي الفم هذا العمل بالإنسان الهارب من القصر الملوكي وأُلقى القبض عليه واقتيد إلى السجن، فخرج إلينا الابن من قصره ودخل إلى سجن جسدنا ليتحدث معنا في أمر المصالحة مقدمًا ثمن خطايانا، عندئذ ينطلق بنا من السجن ليدخل بنا إلى القصر من جديد.
إذن حركة الدخول والخروج التي قام بها الابن الوحيد الجنس خلال تجسده وصعوده، أي خلال أعماله الخلاصية إنما هي حركة حب متدفقة نحو الإنسان، غايتها خروجه مما تقوقع فيه ودخوله إلى حضن الآب خلال ثبوته في الابن.
إن كان اليهود يفتخرون بالملائكة، لأن الناموس قد أسلم إليهم بيد ملائكة، لكن لم يكن ممكنًا لملاك أن يحقق هذا الدخول إلى العالم ليهب الإنسان دخولاً إلى الأحضان الإلهية. لقد خدم ملائكة مؤمنين وقدموا لهم رسائل إلهية مفرحة، لكنها تعجز عن أن تحقق الخلاص. وكما جاء في القداس الاغريغوري: “لا ملاك ولا رئيس ملائكة ولا كاروبًا ولا نبيًا ائتمنته على خلاصنا، بل أنت وحدك تجسدت وتأنست”.
حبه الإلهي الذي أدخله إلينا كواحد منا لم يقلل من كرامته أمام الملائكة، إذ يقول الرسول: ” وَأَيْضًا مَتَى أَدْخَلَ الْبِكْرَ إِلَى الْعَالَمِ يَقُولُ: وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ اللهِ” الملائكة الذين قدموا لرجال العهد القديم إمكانية السجود لله، إذ جاءوا إليهم برسائل إلهية تسندهم هؤلاء أنفسهم يسجدون للابن. وكما يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [بينما كان الآباء البطاركة يسجدون له، فعن الملائكة كُتب: “ولتسجد له كل ملائكة الله”.]
دخوله إلى العالم لم يمس لاهوته ولا نزع سجود الملائكة له، وإنما أعطى الإنسان كرامة، إذ لم يقل الرسول “متى أدخل الابن”، بل يقول “متى أدخل البكر”. دخل إلى العالم بكرًا لنا، يعمل لحسابنا وباسمنا، يراه الملائكة حاملاً طبيعتنا فيه، بل حاملاً مؤمنيه كأعضاء جسده فيندهشون. يسجدون له بكونه خالقهم ويسبحون متهللين من أجل عمله معنا! يرون في بكوريته بالنسبة لنا إعلان حب فائق نحو خليقته. تجسده وصلبه وقيامته وصعوده فتح مجالاً جديدًا لسجود الملائكة، إذ كشف لهم عن أعماق حب لم تكن بالنسبة لهم مدركة هكذا. أعطاهم معرفة جديدة عن أسراره سحبتهم للسجود والتسبيح!
ولئلا يظن السامعون أن الرسول يقلل من شأن الملائكة أكد: “وَعَنِ الْمَلاَئِكَةِ يَقُولُ: الصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحًا وَخُدَّامَهُ لَهِيبَ نَار”... هذا عن سمو الملائكة، أما عن الابن فلا وجه للمقارنة: “وَأَمَّا عَنْ الاِبْنِ: كُرْسِيُّكَ يَا أَللهُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ. قَضِيبُ اسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ“. هؤلاء خدام لكنهم لهيب نار سماوي، أما هو فملك صاحب سلطان. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [انظر كيف يميز بوضوح عظيم بين الخليقة والخالق، الخدام والرب، الابن حقيقي الوارث والعبيد.]
يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [لاحظ هنا أن كلمة “الصانع” تخص أمورًا أصيلة (الخلقة). يدعو الملائكة خليقة، أما عن الابن فلا يتحدث عنه كخليقة أو كائن جاء إلى الوجود، وإنما يتحدث عن سرمديته وملوكيته ووظيفته التدبيرية.] كما يقول: [لقد أظهر أنه آخر غير كل ما قد خلق، فإن كان هو آخر ومختلف عنهم تمامًا في الجوهر عن طبيعتهم، فأية مقارنة لجوهره يمكن إقامتها، وأي شبه له فيهم؟!]
3. مسحه للعمل الخلاصي
السيد المسيح الجالس على الكرسي إلى الأبد، والمسجود له من القوات الملائكية، يملك على الشعب بالحب. إنه البار وحده، الذي بلا خطية، قد مُسح منذ الأزل من قبل الآب لتحقيق الخلاص خلال تجسده وحياته بيننا وتقديم نفسه ذبيحة حب عنا. هنا تلتحم إرادته الإلهية مع تقواه الشخصية لتحقيق غايته فينا:
“أَحْبَبْتَ الْبِرَّ، وَأَبْغَضْتَ الإِثْمَ,
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَسَحَكَ اللهُ إِلَهُكَ بِزَيْتِ الاِبْتِهَاجِ أَكْثَرَ مِنْ شُرَكَائِكَ” [٩].
إذ نادت بعض البدع الغنوسية بقسوة إله العهد القديم خالق الجسد، ولطف إله العهد الجديد الذي أراد تخليص البشرية من يد الأول لهذا أكد الرسول بولس دور الآب في الخلاص بكونه قد مسح ابنه الوحيد لهذا العمل الخلاصي. أكد وحدانية العمل بين الآب والابن، ودورهما الإيجابي في الخلاص. ففي أكثر من موضع يؤكد أن الآب يحبنا كما الابن، وأنه أرسل ابنه الوحيد، وهو الذي بذله عنا، وأقامه ليقيمنا فيه.
ليته لا يتعثر أحد حين يسمع الرسول يؤكد هذا، ظانًا أن في الابن عجزًا في الحب أو في التجسد أو القيامة… إنما أراد الرسول تأكيد دور الآب في عمل الابن الخلاصي.
مسحه بزيت الابتهاج أي تكرس الابن لهذا العمل المبهج للآب والبشرية أيضًا. حقًا لقد صار بتأنسه شريكًا لنا في طبيعتنا، لكنه كان ولا يزال الفريد في برِّه وبغضه للإثم، إذ لم يعرف الخطية، لهذا فهو وحده القادر أن يتمم عمل الخلاص المبهج. في الابن ابتهج الآب إذ رآنا أولادًا له متبررين ومقدسين فيه، وفيه أيضًا نبتهج نحن إذ نرى الآب أبانا القدوس فاتحًا أحضانه الأبوية لنا!
4. أبديته
في مقارنته بين السيد المسيح وملائكته أوضح الرسول أن السيد هو الخالق الأبدي، فالعالم المنظور يزول وينتهي أما هو فيبقى إلى الأبد:
“وَأَنْتَ يَا رَبُّ فِي الْبَدْءِ أَسَّسْتَ الأَرْضَ، وَالسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ,
هِيَ تَبِيدُ وَلَكِنْ أَنْتَ تَبْقَى، وَكُلُّهَا كَثَوْبٍ تَبْلَى”,
وكرداء تطويها فتتغير,
ولكن أنت أنت وسنوك لن تفني.
ثم لمن من الملائكة قال: أجلس عن يميني حتى أضع أعداءك مواطئًا لقدميك؟
أليس جميعهم أرواحًا خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص؟!” [10-11].
إنه خالق السماء والأرض، موجد الكائنات السمائية والأرضية، فلا وجه للمقارنة بين الخالق وخليقته حتى الملائكة.
الابن الخالق مولود من الآب قبل الدهور من الأزل، لم يكن هناك زمان ليس فيه الابن، هو موجد الكل فلا يتغير، أما الخليقة إذ وُجدت من العدم قابلة للتغير. يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [صارت (الخليقة) إلى الوجود بعد العدم، لها طبيعة متغيرة؛ أما الابن إذ هو من الآب، فعدم التغير أو التبديل يليق بطبيعته كما الآب نفسه.]
إنه مؤسس الأرض وخالق السماء، الذي لا يتغير، يغير الآخرين ويبقى هو إلى الأبد. طبيعته هذه تسندنا من جانبين: أولاً أنه قادر أن يحقق مواعيده لنا بكونه الوحيد غير المتغير. ومن الجانب الآخر نحن نتغير إن سلمنا حياتنا بين يديه. كإله يجدد ولا يتجدد، لأنه لا يشيخ ولا يقدم، ونحن كبشرٍ نرتمي بين يديه فيجدد طبيعتنا وحياتنا.
إنه الأبدي الغالب لأعدائه، إبليس وجنوده، إذ يقول: “ثمَّ لِمَنْ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ قَالَ قَطُّ: اِجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ؟” لا تنعم طغمة سماوية بهذه الغلبة الأبدية، إنما السيد المسيح يُخضع قوات الظلمة تحت قدميه، ويتحقق كمال ذلك بخضوعها تحت قدمي عروسه، فقد أعطانا نحن أيضًا سلطانًا أن ندوس على الحيات والعقارب وكل قوة العدو، حتى كل نصرة تتحقق في حياتنا إنما هي لمجد اسمه القدوس. وإذ نملك مع ملكنا تتحطم مملكة إبليس تمامًا! كان هذا الوعد الذي يقدمه الآب لابنه إنما قدمه له كممثل لنا، وكرأس، فيه ينعم الجسد بإمكانيات فائقة.
هذه الغلبة التي لنا في المسيح يسوع، وهذه النصرة الأبدية تثير فرح الملائكة وبهجتهم بنا كعروسٍ مقدسة، لذا يشتهون خدمتنا، ويفرحون بيوم خلاصنا. خدمتهم لنا ليست خدمة من هم أقل منا، إنما هي خدمة الحب، خدمة الخليقة السماوية التي تفرح بالأرضيين حين ينعمون بالشركة معهم في حياتهم السماوية. هذا ما عناه الرسول بقوله: “أَلَيْسَ جَمِيعُهُمْ أَرْوَاحًا خَادِمَةً مُرْسَلَةً لِلْخِدْمَةِ لأَجْلِ الْعَتِيدِينَ أَنْ يَرِثُوا الْخَلاَصَ؟” [١٤].
هنا لا يتجاهل الرسول تقديرنا لرسالة الملائكة ودورهم كخدام مرسلين للعمل لحسابنا، نحن الذين دُعينا لنرث الخلاص. إن كان السيد المسيح هو مخلصنا، فالملائكة خدامه يخدموننا من أجل مسرته ومسرتهم بنا.
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على كلمات الرسول هذه: [إنهم خدام ابن الله، مرسلون بطرق كثيرة من أجلنا، ويخدمون خلاصنا. هكذا هم شركاء في الخدمة معنا.] كما يقول: [حسنا، لقد أرسل الابن أيضًا، لكنه ليس بكونه عبدًا ولا خادمًا إنما هو الابن الوحيد له ذات مشيئة الآب. لم يُرسل بكونه قد عبر من موضع إلى آخر، إنما بكونه أخذ جسدًا، أما هؤلاء فيغيرون مواضعهم، يتركون المواضع التي كانوا فيها ليرسلوا إلى مواضع أخرى لم يكونوا فيها.]
تحدث العلامة أوريجينوس كثيرًا عن الملائكة وعملهم معنا، فمن كلماته: [خلال فترة عدم الإيمان يكون الإنسان تحت سيطرة ملائكة الشياطين، أما بعد التجديد (في الجرن) فيعيّن لنا ذاك الذي يخلصنا بدمه ملاكًا مقدسًا ينظر وجه الله بطهارته]، كما يقول: [لكل نفس بشرية ملاك يقودها كأخ.]
يقول البابا أثناسيوس الرسولي عن الملائكة: [إنهم ينشرون هبات الله خلال الكلمة للذين يقبلونهم.]
مقدمة | عبرانيين 1 | تفسير رسالة العبرانيين |
تفسير العهد الجديد | تفسير عبرانيين 2 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | ||||
تفاسير عبرانيين 1 | تفاسير رسالة العبرانيين | تفاسير العهد الجديد |