تفسير رسالة العبرانيين اصحاح 1 للقديس يوحنا ذهبي الفم
الأصحاح الأول
العظة الأولي 1: 1-2
” الله بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه ” (عب١:١-٢).
۱- حقا “حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة ” . هذا تحديدا ما يُشير إليه الرسول بولس هنا في الإفتتاحية، وهو يكتب للعبرانيين لأن هؤلاء الذين كانوا متعبين ومعذبين من جراء النكبات، وحكموا على الأمور من منطلق أنهم دائما ما يتعرضوا لكوارث كان من الطبيعي أن يعتبروا أنفسهم أدنى من غيرهم، لذلك فهو يوضح بهذا (الكلام)، أنهم تمتعوا بنعمة أعظم جداً وأسمى بكثير، مسترعيا إنتباه المستمع منذ بداية حديثه.
لماذا لم يضع نفسه في عداد الأنبياء؟ وإن كان بالطبع هو أعظم بكثير منهم، بقدر ما تعهد (بمسئوليات) أعظم، إلا أنه لم يفعل هذا لماذا إذا؟ أولاً لأنه يتجنب أن يمجد ذاته بكلام فائق، ثانيًا لأن المستمعين لم يكونوا بعد كاملين، وثالثا لأنه أراد أن يسمو بهم أكثر ، وأن يبيّن عظمة الإمتياز (أي امتياز النعمة). كما لو كان يقول: ما الأهمية في أن الله أرسل الأنبياء لآبائنا ؟ فهو قد أرسل لنا إبنه الوحيد الجنس ذاته. وحسنًا فعل إذ بدأ (الرسالة) بهذه الكلمات: “بأنواع وطرق كثيرة”. لأنه يُظهر أن الأنبياء أنفسهم لم يروا الله ، أما الإبن قد رآه. إن عبارة “بأنواع وطرق كثيرة” تعني بطرق متنوعة. لأنه يقول “وكلّمت الأنبياء وكثرت الرؤى وبيد الأنبياء مثلت أمثالاً. وقد اتضح أن إمتياز النعمة لا يتمثل في هذا الأمر فقط، أي أن الله قد أرسل أنبياء للآباء، بينما لنا نحن أرسل الابن، بل يكمن الإمتياز في أنه لا أحد من هؤلاء الأنبياء قد رأى الله بينما الابن الوحيد الجنس قد رآه. وبالطبع فهو لا يشير مباشرة إلى هذا ، بل يقدمه بالكلام اللاحق عندما يتكلم عن طبيعة الابن الإنسانية” لأنه لمن من الملائكة قال قط أنت ابني” و “أجلس عن يميني”
ولك أن تلاحظ حكمة الرسول بولس. فهو يبيّن أولاً أن امتياز من نال النعمة يفوق الأنبياء، فبعدما قدم هذا كأمر لا جدال فيه، أخذ يُدلي برأيه بعد ذلك، وهو أن الله كلّم الآباء من خلال الأنبياء بينما كلمنا نحن من خلال الابن الوحيد الجنس. بل إن الله كان قد كلّم هؤلاء من خلال ملائكة أيضًا (لأنه حقا قد كانت الملائكة تكلم اليهود، لكن في هذا نحن قد نلنا ما هو أكثر بكثير من ذلك، بينما الذي كلّم الآباء هم عبيد لأن الملائكة والأنبياء هم شركاء في العبودية. وحسنًا قال “في هذه الأيام الأخيرة”، لأن هذا يشجعهم، ويعزيهم، بعدما كانوا قد تعبوا بالفعل. وكما قال في موضع آخر : الرب” قريب لا تهتموا بشيء ، وأيضا ” فإن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا، هكذا هنا أيضًا. إذا ، ما هو هذا الذي يقوله؟ ما يقوله هو أن من يستنفذ كل طاقاته في السباق (الجهاد)، عندما يسمع (كلمة ) نهاية السباق يستريح قليلاً، فيعرف أنها نهاية الأتعاب وبداية الراحة.
“كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه”. ها هو أيضاً يقول “في ابنه”، أي بواسطة الابن الذي يتكلّم عنه، متصديا للقائلين كيف يليق هذا الكلام بالروح. أرأيت أن كلمة “في”، تعني “بواسطة “؟ كما أنه يقصد شيئًا آخر بعبارة ” في الأزمنة القديمة” وعبارة ” في الأيام الأخيرة. إذا ما هو هذا الشيء؟ هو أنه بعدما عبرت سنوات طويلة، عندما كنا تحت الدينونة، وعندما تلاشت المواهب وعندما لم يكن هناك رجاء للخلاص، عندما ترجينا أن يكون لنا شيئا زهيدا ، عندئذ حصلنا على المزيد. ولاحظ كيف تكلّم عن هذا الأمر بتعقل. لأنه لم يقل “المسيح تكلّم”، وإن كان بالطبع المسيح هو الذي تكلّم، لكن لأن نفوسهم كانت ضعيفة، ولم يكونوا قادرين بعد أن يسمعوا الأمور المختصة بالمسيح، قال “كلمنا في ابنه” ماذا تقول؟ هل الله تكلّم في ابنه ؟ نعم. أين إذا الامتياز؟ لأنك قد أظهرت هنا أن العهد القديم والجديد هما وحدة واحدة، وهذا الإمتياز ليس عظيمًا وقد شهدنا له، أما الامتياز العظيم بالنسبة لنا فهو أنه كلّمنا في ابنه. ولهذا يشرحه بعد ذلك بهذه الكلمات قائلاً: “كلمنا في ابنه”.
لاحظ كيف يُعلن ق بولس هذا الأمر ويساوي نفسه مع التلاميذ ، ، قائلاً: “كلمنا”. إلا أن الله لم يتكلم مع بولس ، بل مع الرسل، ومن خلال الرسل تكلّم للكثيرين. لكن (بولس) يسمو بهم ويبيّن أن الله كلمهم، إلا أنه في نفس الوقت يدين اليهود بطريقة ما. لأنه تقريباً كل أولئك الذين تحدث إليهم الأنبياء كانوا دنسين وأشراراً. وهو لم يتكلم بعد عن هؤلاء، بل تكلم أولاً عن عطايا الله التي صنعها.
ولهذا يُضيف أيضًا : ” الذي جعله وارثا لكل شيء”. هنا هو يقصد الجسد، كما يقول داود أيضا في المزمور الثاني ” أسألني فأعطيك الأمم ميراثا”. لأنه ليس نصيب الرب بعد هو يعقوب ولا ميراثه هو إسرائيل، بل ميراثه هو الجميع ماذا يعني ” جعله وارثا؟” يعني أنه قد جعله ربًا على كل شيء. نفس الأمر قد قاله ق. بطرس أيضا في سفر الأعمال: ” أن الله جعل يسوع.. ربا ومسيحا. وقد أراد أن يعلن أمرين من خلال الإشارة إلى اسم الوارث أنه ابن حقيقي، وأن السيادة (أي سيادته على كل شيء) غير منفصلة عنه . ” وارثا لكل شيء”، أي وارثا لكل العالم. وبعد ذلك، يعود بالكلام مرة أخرى إلي ما كان منذ البدء الذي به أيضا عمل العالمين”.
٢- أين هم إذا أولئك الذين يقولون أن هناك وقت لم يكن الابن موجودا فيه؟ ثم أخذ يتدرج بعد ذلك، فيشير في النهاية إلى ما هو أعظم من كل هذا ، قائلاً: ” الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته بعد ما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي صائرًا أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسماً أعظم منهم (عب ۱ : ٣-٤ ) . يا للعجب من هذا التعقل الرسولي!
أو من الأفضل أن نقول إن الدهشة والتعجب لا توجه لحكمة بولس، بل لنعمة الروح القدس التي يمكن أن نندهش لها هنا. لأنه لم يتكلم بهذه الأمور من أفكاره، كما أنه لا يمتلك هذه الحكمة الكبيرة من نفسه (لأنه من أين ستكون له هذه الحكمة ؟) هل من آلة قطع الجلود التي كان يدبغها، أو من المعمل (الذي كان يدبغ فيه ) ؟ لكن كونه يتكلم بهذه الأمور، فقد كان نتيجة لعمل إلهي لأن هذه المعاني ليست من نتاج فكره، والذي كان آنذاك متواضعاً وبسيطا، حتى أنه لم يكن لديه شيئًا أكثر مما لأولئك المترددين على السوق، (لأنه كيف لهذا الفكر الذي أستهلك في صناعة الخيام أن يكون له شيئا أكثر؟)، إنها نعمة الروح القدس التي تُظهر قوتها من خلال أولئك الذين تريدهم. إذا إن كان أحد يريد أن يداعب طفلا صغيرًا رافعًا إياه عاليا بإتجاه السماء، فإنه يفعل هذا رويدا رويداً ، وقليلاً قليلاً، ثم بعد ذلك عندما يضعه عاليا ويطلب منه أن ينظر إلى أسفل، فعندما يرى أنه يشعر بدوار ويضطرب، يمسكه وينزله مرة أخرى إلى أسفل، ليمكنه من أن يسترد أنفاسه بارتياح. وهكذا مرة يرفعه ومرة أخرى ينزله. هذا ما صنعه المطوب بولس تحديداً مع العبرانيين، بل وفي كل موضع متعلما هذا من المعلم لأن المسيح قد فعل هذا أيضا، فكان يصعد تارة بالمستمعين إلى أعلى، وتارة ينزل بهم إلى أسفل، دون أن يتركهم ينتظروا طويلا في نفس النقطة.
لاحظ الرسول بولس هنا، كيف أنه بعدما أصعدهم درجات كثيرة، وأقامهم في قمة التقوى ذاتها، وقبل أن يُصيبهم الدوار والدوخة أخذ ينزل بهم مرة أخرى إلى أسفل، وبعدما أعطاهم الفرصة للتنفس بارتياح ، قال “كلمنا في ابنه” و ” الذي جعله وارثا لكل شيء”. لأن اسم الابن كان معروفا للكافة في ذلك الوقت حيث يُقصد به أنه إبن حقيقي ويعني أنه أسمى من الجميع. إذا لكي يظهر أولاً أنه أسمى، يعرض ويبيّن أنه من الآب. لكن لاحظ كيف ينزله، قائلا: ” الذي جعله وارثا لكل شيء”، لأن عبارة “جعله وارثا” ، تمثل الدرجة الأقل. بعد ذلك يضعه في مرتبة أسمى، مُضيفاً ” الذي به عمل العالمين، بعد ذلك يضعه في مرتبة أعلى، والتي لا يوجد معها درجة أعلى من هذا فيقول : ” الذي هو بهاء مجده ورسم جوهره”. حقاً لقد أصعد السامع إلى نور لا يمكن الوصول إليه، في هذا البهاء ذاته. لاحظ كيف ينزل به مرة أخرى تدريجيًا، قبل أن يصيبه بالدوار قائلاً : ” وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته بعد ما صنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي”. لم يقل فقط “جلس”، بل قال : ” بعدما صنع تطهيراً لخطايانا جلس أي أنه إهتم بتدبير التجسد، وأيضًا يتكلم بإتضاع. كما نجده بعدما تكلم عن شيء سامي، إذ قال : ” في يمين العظمة في الأعالي”، أخذ يتكلم مرة أخرى عن الاتضاع، مُضيفًا صائرا أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسما أفضل منهم”.
إذا فهو يتكلم هنا عن تدبير التجسد، لأن عبارة صائرًا أعظم، لا تُعبر عن جوهر الآب، بل تعبّر عن الجوهر الجسدي، لأن هذا الجوهر قابل أن يصير من وضع إلى آخر. ولكن حديثه الآن ليس عن الجوهر. كما يقول يوحنا (المعمدان) هذا هو الذي قلت عنه إن الذي يأتي بعدي صار قدامي لأنه كان قبلي ، هذا الكلام يعلن أن الابن هو أكثر مجداً وأكثر بهاءً، هكذا يقول الرسول بولس هنا ” صائرًا أعظم من الملائكة، وهذا يُعلن أنه أكثر سموا ومجدا ، ” بمقدار ما ورث اسما أفضل منهم”.
أرأيت أن الحديث هنا يتعلق بالاسم الذي أُعطي للجسد؟ لأن هذا الاسم، “كلمة الله، هو له على الدوام، وهو لم يرثه بعد التجسد ، ولا في ذلك الحين (قبل التجسد)، صار أعظم من الملائكة، بل هو على الدوام كان أعظم، بل هو أعظم بما لا يُقارن بل إن هذا الكلام قيل عن الاسم الذي أُعطي للجسد. هكذا نحن أيضًا إعتدنا عندما نتكلم عن إنسان ما، أن نتكلم بكلام سامي وكلام متواضع أي حينما نقول الإنسان كلا شيء، الإنسان تراب ورماد، فإننا ندعو كل الأشياء إنطلاقا من الأمور المتدنية، أما عندما نقول إن الإنسان كائن حي غير مائت، وعاقل، ومن أهل السماء فإننا أيضًا نرى كل الأشياء إنطلاقا من الأمور السامية. هكذا فإن القديس بولس يتكلم عن المسيح، تارة من المستوى الأقل، وتارة أخرى يتكلم من المستوى الأعلى، مريدا بذلك أن يشير إلى التدبير، وأن يخبرنا كذلك عن طبيعة المسيح غير المائتة.
٣- إذا بعدما طهّرنا من خطايانا، ليتنا نظل أطهارًا ، ولا نقبل حتى وصمة واحدة (للخطية)، بل نتحلى بالجمال الذي وضعه داخلنا، ولنحرص على أن نحفظ السلوك النقي اللائق غير الملوث، لكي لا نوصم بأي تلوث أو غضن ، أو أي شيء مثل ذلك. لأن التلوث والغضن، هما من الخطايا الصغيرة، أي النميمة الشتيمة، والكذب، أو من الأفضل أن نقول وحتى هذه الخطايا لا تعتبر صغيرة، بل هي كبيرة جدا ، حتى أنها تحرم الإنسان من ملكوت السموات كيف وبأي طريقة ؟ ” من قال لأخيه.. يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم . فإن كان من يدعو أخاه “أحمق”، والذي من الواضح أنه كلام طفولي معتاد، فأي عقاب لن يناله في الجحيم ذاك الذي يدعو أخاه، مجرم، وحسود، ويهينه بألفاظ أخرى لا حصر لها؟ وهل هناك ما هو أكثر رعبًا من هذا؟ لكن أرجوكم أن تتحملوا ما أقوله. ” فإن كان ذاك الذي يصنع شيئًا تجاه أحد هؤلاء الأصاغر ، فإنه يفعله في المسيح، فكيف لا ينطبق ذلك على ما يقال من كلام، سواء كان كلام حسن أو إدانات؟ لأن من يُهين أخاه، يُهين الله، ومن يكرم أخاه، يكرم الله.
٤- إذا فلنُعلّم لساننا أن يتكلّم بالكلام الحسن، لأن الكتاب يقول: ” صن لسانك عن الشر”. فالله لم يعط اللسان من أجل أن ندين، ونشتم، أو يتطاول الواحد على الآخر، بل لكي نسبح الله ، ونتكلم بما يعطي للسامعين نعمة تبنيهم وتنفعهم. هل تسيء لأحد ؟ ماذا تربح، وأنت ترى نفسك مع ذاك الذي تسيء إليه؟
لأن بهذا تكون قد اكتسبت سمعة الإنسان الشرير. لا يوجد من الناحية العملية أي نوع من الشر يقتصر تأثيره على من يوجه إليه، فالشر يطول أيضا من يمارسه. على سبيل المثال، من الواضح أن الحاسد يكيد بشخص أخر، إلا أنه في الحقيقة هو من يجني أولاً ثمار الغيرة، لأنه يُهلك، ويفسد ، ويُبغض من الجميع. الطماع يسلب مال غيره، ولكنه ينزع محبة الآخرين من نفسه، أو من الأفضل أن نقول يصير موضع إساءة من الجميع. لكن السمعة الطيبة هي أ أفضل من المال. لأنه من الصعوبة بمكان أن يمحو أحد هذه السمعة، بينما المال من السهل أن يكتسبه، أو من الأفضل القول، أن عدم وجود المال لا يضر أبدا بذاك الذي لا يمتلكه، لكي حين تنتقي السمعة الطيبة، تجعل الإنسان مستحقاً للوم، والسخرية، بل وتجعله عدو وخصم للجميع. أيضًا الإنسان الغضوب يعاقب نفسه أولاً، ثم بعد ذلك يفترس ذاك الذي يغضب منه.
هكذا الشرير يُشين نفسه أولاً، وبعد ذلك من يسيء إليه، ثم ينصرف وله سمعة إنسان دنس وضيع ويجعل ذاك الذي أساء إليه محبوباً أكثر. لأنه حين يساء إليه، ولا يرد بنفس الكلام، بل يمتدحه، فهو لن يمتدح ذاك، بل يمتدح نفسه أي مثلما يحدث في حالة الشرور التي تُمارس ضد القريب، وهو الأمر الذي تحدثت عنه سابقاً ، فهذه الشرور تمس أولاً أولئك الذين يكيدون لآخرين، هكذا أيضا الأمور الحسنة التي تُمارس نحو القريب، تفرح أولاً أولئك الذين يمارسونها. لأن كل من يفعل الصلاح، أو يفعل الشر، منطقي أن يتأثر هو أولا به ومثل ماء النبع المالح، والنبع الصالح للشرب، أنه يملأ الآنية التي تحمله والنبع أو البئر الذي يتدفق منه الماء لا يفرغ هكذا أيضًا بالنسبة للشرور والفضيلة، فمهما كانت مكانة من تصدر عنه، فإما تهلكه، أو تبهجه.
وهذه الأمور تحدث بالطبع هنا في الحياة الحاضرة. أما هناك في الدهر الآتي فلا يوجد كلام يمكن أن يُعبّر عن وضع من صنع الصالحات ومن صنع الشرور فهل هناك حديث يمكن أن يصف هذا الوضع؟ لا يوجد كلام يمكن أن يُعبر عن الخيرات والمجد الذي في الحياة الأبدية، لأنه يفوق كل تصور وكل عقل.. أما عن الشرور، فقد قيلت لنا بالطبع بالتتابع لأن الكتاب يقول هناك حيث النار والظلمة، والقيود، ودود لا يموت، لكن ليس فقط ما قيل سيكون موجود ، بل وأمور أخرى أكثر فزعًا. ولكي تعلم على الفور، لاحظ هذا الأمر أولاً: طالما أنه يوجد نار، فكيف توجد ظلمة أيضاً ؟ أرأيت كيف أن النار (الأبدية)، هي أسوأ من هذه النار التي نراها هنا ؟ لأن تلك النار ليس لها ضوءًا أو نوراً. وإن كان هناك نارا، فكيف تكون قادرة على الحرق ؟ أرأيت أنها أسوأ من هذه النار التي نعرفها ؟ لأن تلك النار لا تُطفئ، ولهذا تُدعى نار لا تطفئ. لنفكر إذا كم هو شر عظيم أن يظل أحد يُحرق بصفة دائمة ويمكث في ظلمة، ويصرخ على الدوام، وتصر أسنانه، ولا يُسمع له أبدًا. لأنه لو أن واحدا من أولئك الذين نشأوا كنبلاء، أُلقي به في السجن، فإنه يشعر أن مجرد جلوسه في سجن مظلم مع مجرمين يعد بالنسبة له أسوأ من الموت. ولنفكر في الموقف الذي ستكون فيه حين تحرق مع مجرمي كل المسكونة دون أن نرى، ودون أن يروننا في خضم هذه الجموع الكثيرة، حتى أننا نعتقد أننا بمفردنا. لأن الظلمة، وانعدام النور، لا يسمح لنا أن نميز قريبنا، بل أن كل واحد سيشعر كما لو أنه يعاني هذا العذاب وحده وهكذا سيواجه هذا الأمر. وإن كانت الظلمة وحدها فقط هي ما تضايقنا، وتزعج نفوسنا ، فماذا سيحدث إذا ، حين يكون – بالإضافة إلى هذه الظلمة . هناك العديد من الآلام والعذابات؟
ولهذا أترجى أن نفكر في هذه الأمور باستمرار، وأن نحتمل هذا الكلام المؤلم، لكي لا نضطر لتحمل العقاب كحقيقة واقعة. لأن هذه الأمور ستحدث على كل حال، وكل من إقترف أعمالاً غير لائقة، فلن ينجو من العقاب في الدهر الآتي، لا أبا ولا أما، ولا أخا، حتى وإن كان له دالة عظيمة وقوة كبيرة أمام الله. لأنه يقول: ” الأخ لن يفدي الإنسان فداءً لأن الله يجازي كل أحد بحسب أعماله ووفقاً لها، إما أن يخلص ، أو يُدان “أصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم”.
إذا لنخضع، لأن الوصية هي للرب، ولنوزع فائض الغنى على الفقراء. فلنمارس أعمال الرحمة، على قدر ما نستطيع، لأن هذا معنى قول الرب ” أن نصنع أصدقاء بمال الظلم”. لنتخلى عن المال للفقراء، لكي نبتعد عن تلك النار، ونطفئها، لكي تكون لنا دالة هناك في الحياة الأبدية. لأنه بالطبع هؤلاء (الفقراء) لن يستقبلوننا هناك، بل أعمالنا هي التي تنتظرنا ومن حيث إن هؤلاء لا يمكنهم أن يخلصوننا ، بمجرد أن يكونوا فقط أصدقائنا ، فيمكن أن نعرفه مما أضافه أي لماذا لم يقل ” أصنعوا لكم أصدقاء.. حتى إذا فنيتم يقبلونكم في مظالهم الأبدية، بل أضاف الطريقة أيضًا؟ لأنه يقول من مال الظلم”، وهو بهذا قد أظهر كيف أنه بالمال ينبغي أن نجعلهم أصدقاء، معلنًا أن الصداقة وحدها لن تخلّصنا، إن لم نعمل أعمال خير أو رحمة، إن لم نوزع بعدل الغنى الذي جمعناه بظلم. وعندما أتكلم عن أعمال الرحمة، فإنني لا أتوجه فقط للأغنياء، بل وللفقراء أيضا. وإن كان هناك أحد يعيش بعد على التسول فإنني أوجه له أيضا حديثي لأنه لا إلى هذا الحد، حتى لا يكون لديه ولو فلسين. إذًا من الممكن لذاك الذي أعطى قليلاً من القليل الذي عنده أن يتفوق على أولئك الذين يملكون الكثير ويعطون أكثر، تماما مثلما فعلت تلك الأرملة صاحبة الفلسين لأن حجم الرحمة (البر بالفقراء)، لا يُقيم بمقياس أو بمعيار أولئك الذين يأخذون بل بقوة ورغبة أولئك الذين يعطون حتى أنه في كل موضع نحتاج إلى الرغبة في العطاء، والمحبة نحو الله. يوجد أحد فقير من القليل فإن كنا نصنع كل شيء بهذه الرغبة، وإن كنا بعد نعطي قليلاً . الذي نملكه، فإن الله لن يحوّل وجهه عنا، بل سيتقبل هذا القليل، كشيء كثير ومدهش. لأنه ينظر إلى رغبتنا للعطاء، وليس إلى تلك الأشياء التي تُعطى. وإذا رأي أن هذه الرغبة قوية، فإنه سيحاسبنا وفقاً لها، وسيقيمنا أو يحكم علينا، ويجعلنا شركاء في خيرات الدهر الآتي والتي ليتنا ننالها جميعًا بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور أمين.
العظة الثانية 1: 3-5
” الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته بعدما صنع بنفسه تطهيرا لخطايانا ..” (عب٣:١).
ا. في كل موضع بالطبع، يحتاج الأمر إلى فكر خاشع عندما نقول ونسمع شيئا عن الله. لأنه لا اللسان يمكنه أن ينطق ولا الأذن أن تسمع شيئا عن سمو الله. ولماذا أتكلم عن اللسان وعن الأذن؟ بل ولا الذهن أيضاً، الذي يفوق بكثير اللسان والأذن، يمكنه أن يفهم شيئًا بدقة، عندما نتحدث عن الله، لأنه إن كان سلام الله الذي يفوق كل عقل، وإن كانت الأشياء التي أعدها الله للذين يحبونه، لا يستطيع ذهن الإنسان أن يستوعبها فبالأكثر جدا إله السلام نفسه، خالق الكون، يفوق تفكيرنا بصورة فائقة. إذا يجب أن نقبل كل شيء بإيمان وتقوى، وعندما يعجز الكلام، ولا يستطيع أن يعبّر ،بدقة، عندئذ يجب أن نمجد الله كما يليق به، لأن لنا إله مثل هذا، يفوق عقلنا وكلامنا. إننا نفهم أو ندرك الكثير عن الله، ولكننا لا نستطيع أن نعبر عنه. وإن كنا نعبر عن الله في جوانب كثيرة، إلا أننا لا يمكننا أن ندركه. أقصد الآتي بالإضافة لما أقوله، نحن نعرف أن الله يوجد في كل مكان، ولكننا لا ندرك كيف. نحن نعرف أن هناك قوة غير جسدية، وهي سبب كل الخيرات، ولكن لا نعرف كيف هي.. ها نحن نتكلم، لكننا لا ندرك تماما.
قلت إن الله موجود في كل مكان، ولكن لا أفهم (كيف)، قلت أنه غير زمني، لكنني لا أدرك هذا قلت إنه هو الخالق وحده، ولا أعرف أيضا أن أستوعب ذلك. إذا هناك بعض الأشياء، التي لا نستطيع أن نتكلم عنها. وأعني بما أقوله الآتي: أن الذهن يفهم، لكنه لا يمكنه أن يتكلم عن ما يدركه. ولكي تعرف هذا أيضا، فالقديس بولس كان ضعيفًا، ولم يقل الأمثلة بدقة، ولكي ترتعد ولا تطلب شيئًا أكثر ، اسمع ما قاله. فبعدما تحدّث عن الابن، ودعاه خالقا ، ماذا أضاف؟ قال : ” الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره. لكن هذا يجب أن نقبله بورع، وأن نمتنع عن الكلام غير اللائق. يقول “بهاء مجده”. لكن انتبه بأي طريقة يقصد هذا، وهكذا تقبله أنت أيضًا، يقصد أنه يأتي من الله دون أن يعتريه أي شيء، ودون أي نقصان، لأن هناك البعض يفهمون أمورًا غير لائقة من المثل. أي أنهم يقولون أن البهاء ليس له أقنومه الخاص، بل يدين بوجوده لآخر.
إذا لا تفهم هذا الأمر هكذا أيها الإنسان، ولا تسقط في خداع ماركلوس، وفوتينوس. لأن الله سيساندك على الفور، حتى لا تسقط في هذا الفكر، ولا أن تصل إلى هذا المرض المهلك. وماذا يقول؟ يقول : ” بهاء مجده” معلنا بهذه الإضافة، أنه كما أن الآب له أقنومه الذاتي، وليس له إحتياج في هذا لأي أحد، هكذا الابن أيضا لأن هذا هو ما يقوله هنا، لكي يظهر المساواة في الجوهر، ولكي يحيلك إلى الصفة الخاصة بالأصل، ويعلمك أن له أقنومه الخاص. وبعدما تكلّم هكذا في الجزء السابق، أنه بواسطة الابن خلق الله كل شيء، يعطيه هنا السلطان. إذا ماذا أضاف؟ أضاف: ” وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته”، وقال ذلك لكي ندرك من هذا أنه ليس فقط رسم جوهره، بل ويسود على كل شيء بسلطان كامل.
لاحظ إذا كيف أن ما يُعتبر صفة خاصة بالآب فإنه ينسبها للابن. ولهذا تحديدا لم يقل فقط “حامل كل الأشياء، ولا قال “بقوته”، بل قال “بكلمة قدرته”. لأنه كما فعل من قبل، وصعد بنا رويداً رويداً ، ثم نزل بنا ، هكذا الآن، كما على درجات يصعد عاليًا، ثم بعد ذلك ينزل، ويقول: “الذي به أيضا عمل العالمين”. لاحظ كيف أنه هنا أيضًا يفتح طريقين أنه أراد أن يُبعدنا عن التعاليم الهرطوقية التي لسابيليوس، وآريوس، لأن أحدهما (أي سابيليوس)[1] ينزع الصفة الأقنومية، والأخر (أي آريوس) يقسم الطبيعة الواحدة إلى طبيعتين غير متساويتين، وينقض الطريقين. كيف يفعل هذا؟ إنه يتكلم دائمًا عن هذه الأمور ويعتقد أن الابن له بداية وغريب عن الله ولا تتعجبوا لهذا أيها الأحباء، لأنه إن كان بعد كل هذه البراهين، هناك البعض مما قالوا إنه غريب (عن الله)، ونسبوا له أبا آخر، وقالوا عنه أنه في حالة صراع فإن لم يكن قد تكلم عن تلك الأمور، ما كان له أن يؤكد هذا (أى مجد الابن)؟ إذا فعندما كان عليه أن يشفي (ضعف الإيمان) عندئذ أخذ يتحدث عن الأمور المتواضعة، فيقول ” الذي جعله وارثا لكل شيء”، والذي به عمل العالمين”.
بعد ذلك ولئلا يكون قد قلل من كرامة ابن الله من خلال الكلام المتواضع، حرص على أن يسمو به مرة أخرى إلى سيادة مطلقة ويبين أنه مساو في الكرامة للآب، وهو مساو في الكرامة إلى هذا الحد الذي فيه يؤمن الكثيرون، أنه هو والآب واحد وانتبه إلى حكمته القوية. أولاً يُشير إلى مساواة الابن للآب)، ويؤكد على ذلك بدقة. وعندما تُقبل هذه الحقيقة أنه هو ابن الله، وليس غريبا عنه، عندئذ يتحدث بكل ثقة عن كافة الأمور السامية التي يريد التحدث فيها. أى لأنه كلمهم عن الحقيقة العظمى الخاصة بالابن قاد الكثيرين إلى هذا المعنى، بعدما تكلّم أولاً عن الأمور المتواضعة، بعد ذلك أخذ يتدرج بهم بثقة إلى أعلى على قدر ما يريد. بعدما قال الذي جعله وارثا لكل شيء الذي به عمل العالمين”، عندئذ أضاف “وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته. أي أن ذاك الذي بكلمته يحكم ويسود على كل شيء، لم يكن في حاجة لأحد ، لكي يخلق كل شيء.
٢- ومن حيث إنه يقصد هذا ، لاحظ كيف أنه أعطى الابن بعد ذلك السيادة والسموات هي المطلقة، نازعا عبارة “الذي به أى أنه بعد أن أوضح أن الآب خلق كل ما أراد بالابن لم يعد يذكر هذه العبارة، فماذا قال؟ ” وأنت يا رب في البدء أسست الأرض عمل يديك ” . فلا تجد أبدا عبارة “الذي به”، ولا “الذي به عمل العالمين”. ماذا إذا؟ ألم تصر هذه الأمور به أي (بالابن ؟ نعم لقد صارت به، لكن ليس كما تقول أنت ولا كما تقصد أنه من خلال أداة، ولا كما لو أنه لم يكن في مقدوره أن يخلقها، إن لم يكن الآب قد ساعده لأنه كما أنه لا يدين الآب أحد، ويقول إنه يدين بالابن، نظرًا لأنه قد وَلَده ،ديانًا ، هكذا يُقال إنه يخلق بالابن، لأنه قد ولده خالقًا. إذا فإن كان الآب هو علة الابن، فبالأكثر جدا سيكون علة كل من خلق بالابن.
إذا عندما يريد (ق). بولس)، أن يبيّن أن الابن مولود من الآب، فإنه يضطر أن يذكر الجوانب المتواضعة، أما عندما يريد أن يتحدث عن الأمور السامية، فإن ماركلوس وسابيليوس يأخذان من ذلك دافعًا (لهرطقاتهم). إلا أن الكنيسة رفضت تعاليمهما باعتبارها انحراف عن الطريق المستقيم، وتبعت الطريق الوسط. لأنها لم تقف عند الأمور المتواضعة لكي لا يجد بولس الساموسطائي[2] له مكانًا، ولا هي بالغت في الأمور السامية بل أعلنت الحقيقة، بل وحرصت دائما على إظهار أنه واحد في الجوهر معه ، حتى لا يهاجم سابيليوس أو يتطاول قال (ق. بولس) إنه “ابن”، وعلى الفور جاء بولس الساموسطائي وقال إن ذاك ابن مثله مثل الكثيرين لكنه وجه له ضربة في الصميم قائلاً : “وارث”. ومع هذا سلك بوقاحة كما سلك آريوس أيضاً، لأن عبارة “جعله وارثاً”، تمسك بها الاثنان فذاك (أي بولس الساموسطائي)، يقول إن هذه العبارة تُعد صفة تعبر عن ملمح ضعف، وشرع في إدانة (الكلام ) الآتي أيضاً. لكن القديس بولس يقول “الذي به عمل العالمين” ونقض سفاهة بولس الساموسطائي، لكن من الواضح أن آريوس كان لا يزال قويا.
لاحظ كيف أنه ينقض ( كلام) آريوس أيضاً، قائلاً: “الذي وهو بهاء مجده”. لكن ها هم سابيليوس وماركلوس وفوتينوس يهاجمون مرة أخرى، لكنه يوجه ضربة لهؤلاء أيضاً قائلاً “ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته”. هنا أيضا يصيب ماركيون[3] أيضاً ، وإن كانت الإصابة ليست بالقدر الكافي، إلا أنه قد أصابه لأنه يحاربهم من خلال الرسالة كلها. بل كما قلت، فقد دعا الابن “بهاء مجده” وقد دعاه هكذا عن حق، اسمع المسيح وهو يقول عن نفسه “أنا هو نور العالم ” . ولهذا قال الرسول بولس أيضًا “بهاء مجده، لكي يُبيِّن أن إنجيل يوحنا أشار إلى ما يثبت كلامه عن الابن أنه نور من نور ولم يثبت ذلك فقط، بل إنه قد أثار نفوسنا. فقد أوضح بلفظة “البهاء”، قوة الجوهر، والقرابة للآب.
فكر في دقة كل ما قيل. لقد تحدث عن جوهر وأقنوم، لكنه عبر بكلمة واحدة عن أقنومين، الأمر الذي فعله بالنسبة لمعرفة الروح، أي كما يقول، إن معرفة الآب والروح هي واحدة وهي في الحقيقة واحدة، ولا تختلف مطلقاً (في شيء)، هكذا فهو يذكر هنا كلمة واحدة لكي يعلن عن أقنومين. ثم بعد ذلك يضيف، أنه “رسم (ختم)”. لأن الختم هو شيء آخر غير الأصل، هو آخر بحسب الأقنوم. لأن الختم هنا، يُعلن عن المثيل ومساوي تماماً للجوهر.
فإذا كان يدعوه “صورة” و “ختم”، فماذا سيقولون؟ بل أيضا لقد قيل عن الإنسان إنه صورة الصورة أي صورة الابن). ماذا إذا ؟ فهل يعتبر الإنسان بذلك مثل الابن؟ يقول لا ، بل إن الصورة تُظهر المثيل. وإن كان بالطبع ذاك الذي قبل بأن يخلق الإنسان على صورته يظهر نظير الصورة هذه (أي الإنسان). إن الله في السماء، أما الإنسان فهو على الأرض إني أتحدث عن السيادة، فكما أن الإنسان يسود على كل ما هو على الأرض، هكذا فإن الله يسود على كل ما هو في السماء وما على الأرض. فضلاً عن ذلك لم يُقال عن الإنسان أنه “رسم أو ختم” ولا “بهاء”، ولا “صورة”، الأمر الذي يظهر الجوهر. أو المثيل من حيث الجوهر. إن صورة العبد لا تُظهر شيئًا آخر سوى الإنسان العبد النظير، هكذا صورة الله، لا تعني شيئًا آخر إلا الله فقط. هذا (أي الابن) يقول عنه الرسول بولس “بهاء مجده”.
لاحظ ماذا فعل القديس بولس بعدما قال: ” الذي وهو بهاء مجده”، أضاف أيضا “جلس في يمين العظمة، فهو لم يتطرق مطلقاً لصفة الجوهر ذاته بين الأسماء التي استخدمها لأنه لا العظمة، ولا المجد ، يعبر عن الاسم الذي يريد أن يتكلم عنه، لأنه لا يستطيع أن يجد الاسم الذي يكفي لوصف جوهر الله. إذا هذا ما قلته منذ البداية، إذ أننا مرات كثيرة نفكر في أمور ما ولا نستطيع أن نقولها. ولا كلمة “الله”، كلفظ تعتبر اسم للجوهر، ومن غير الممكن أن يجد أحد صفة، تعبر تماماً عن ذلك الجوهر. وما هو الغريب في أن هذا يحدث بالنسبة لله، طالما أن ذلك عينه يتحقق أيضًا إذا تعلق الأمر بملاك، فلن يستطيع أحد أن يجد اسم يعلن عن جوهره؟ ربما ولا فيما يتعلق بالنفس أيضًا لأنني أعتقد أن هذا الاسم (النفس)، لا يُعبّر عن الجوهر، بل يُعبّر عن الحياة. بمعنى أنه من الممكن أن يرى المرء أن النفس أيضاً تسمى نفساً أو قلبًا أو ذهنا لأنه يقول ” قلبا نقيا أخلق في يا الله”. وليس هذا فقط، بل من الممكن أن يرى أحد أن النفس) تدعى أيضا في مرات عديدة، روحاً. ثم يقول : ” وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته. أرأيت ماذا يقول؟.
” إذا أخبرني كيف تقول أيها الهرطوقي، بما أن الكتاب يقول “وقال الله ليكن نور ، فإن الآب ،أمر والابن خضع؟ إن الآب هنا يعمل أو يخلق بكلمته. لأنه يقول: ” وحامل كل الأشياء”، أي يحكم ويدير ويضبط الأمور. لأن إدارة العالم، ليست أقل من خلقه، بل وإن كان يجب أن نقول شيئًا مثيراً، فهي أعظم (من خلقه). لأن الخلق يعني أن يخلق شيء من العدم، بينما إدارة العالم هي أن يضبط المخلوقات التي تتجه نحو العودة إلى العدم وينظمها معا لأنها تتصادم فيما بينها، هذا هو الأمر العظيم المثير للدهشة والذي يدل على القدرة الفائقة. ثم يُعلن بعد ذلك الأمر الأسهل، قائلاً ” وحامل كل الأشياء”، لم يقل “يحكم كل الأشياء”، مثلما يحدث مجازا مع أولئك الذين يحركون فقط بأصبعهم شيئا، ويجعلونه يدور. هنا أظهر أن هذا الكون بضخامته الهائلة، لا يعد شيئًا بالنسبة له. بعد ذلك أيضاً، يظهر أنه يصنع هذا بدون تعب، قائلاً : ” بكلمة قدرته” بالصواب قال “بكلمته”، فإن الكلمة بالنسبة لنا تبدو بسيطة – لكن بالنسبة – لله يظهر أن الأمر ليس بسيطًا. فمن ناحية فهو يسود على كل شيء، بكلمته، وهذا ما قاله، أما كيف يُدير كل شيء بكلمته ، فهذا ما لم يتطرق له لأنه من غير الممكن أن يعرف ذلك.
بعد ما قال أنه هو بعد ذلك تكلّم عن عظمة الابن. هذا تحديدا ما فعله ق. يوحنا الإنجيلي، أي الله، تكلّم عن خلق العالم. أي أنه ذكر الابن أولاً، قائلاً : ” في البدء كان الكلمة” و “كل شيء به كان” ، هذا ما أعلنه الرسول بولس أيضا ، بعبارة “بكلمة قدرته، وبقوله الذي به عمل “العالمين لأنه بالحقيقة يعلن أنه خالق، وأنه موجود قبل كل العالمين. إذا ماذا يمكننا أن نقول عندما يقول النبي عن الآب منذ الأزل إلى الأبد أنت الله ” وعندما يقول هنا عن الابن، بأنه موجود قبل كل الدهور، وأنه خالق كل شيء؟ أو من الأفضل أن نقول أن ما قيل عن الآب، أنه موجود قبل كل الدهور، هذا يمكن أن يُقال عن الابن أيضا وكما يقول ق. يوحنا فيه كانت الحياة “” “، معلنا عن القوة التي تضبط الكون، لأن الابن هو حياة الجميع، هكذا يقول الرسول بولس حامل” كل الأشياء بكلمة قدرته. وليس مثل اليونانيين والذين بحسب أفكارهم، ينزعون عن الابن الخلق ذاته، وعنايته بالخليقة، ويحصرون قوته حتى حدود القمر (فقط).
يقول : ” صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا”. هكذا بعدما تكلّم عن تلك الأمور الفائقة، والعظيمة، والسامية جدا ، تكلّم بعد ذلك عن عنايته بالبشر. وبالطبع هذا الأمر كان يشمل الجميع وهو أنه “حامل كل الأشياء”، لكن عنايته هذه هي أعظم بكثير، وهذه أيضًا تشمل الجميع، لأن ما يتعلق بالابن هوا أنه خلّص كل البشر. كما إن يوحنا بعدما قال فيه كانت “الحياة وأظهر عنايته، يقول أيضاً : كان النور الحقيقي”، معلنا نفس الأمر تماما.
” بعدما صنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا. جلس في يمين العظمة في الأعالي”. هنا يشير إلى دليلين كبيرين جدا على عنايته، أنه صنع تطهيرًا لخطايانا، وأنه صنع هذا بموته. وفي كل موضع تجده يفتخر بهذا ليس فقط من أجل مصالحتنا الله، بل من أجل أن هذا قد تحقق بالابن. لأنه بالحقيقة هكذا تصير العطية العظيمة، أعظم عندما تتم المصالحة “بالابن”. إذا بعدما قال “جلس في يمين العظمة” و “صنع تطهيرًا لخطايانا”، وبعدما أشار إلى الصليب، تحدث مباشرة عن القيامة والصعود.
ولاحظ حكمته وتعقله الذي يفوق الوصف أنه لم يقل إنه تلقى أمرًا أن يجلس بل قال “جلس”. بعد ذلك أيضًا وحتى لا تعتقد أن الابن وقف منتصبا ، أضاف أيضا ” ثم لمن من الملائكة قال قط أجلس عن يميني؟ “”” . يقول الرسول بولس “جلس في يمين العظمة في الأعالي”. ماذا يعني في الأعالي؟ هل يحصر الله في موضع ما في الأعالي؟ حاشا . لم يقل ق. بولس شيئًا يوحي بهذا المعنى، بل كما قال “في يمين”، لم يعطه مكانا (أي أن اليمين لا يشير إلى مكان)، بل لكي يظهر المساواة في الكرامة مع الآب، هكذا يقول “في الأعالي، فهو لا يغلق عليه هناك، بل لكي يظهر أنه أسمى من الجميع، وأنه ارتفع فوق كل شيء. كما لو أنه قال، لقد وصل إلى عرش الله ذاته. إذا كما أن الآب يجلس في الأعالي، هكذا الابن أيضا، لأن العرش الإلهي الواحد لا يدل على شيء سوى المساواة في الكرامة بين الآب والابن. لكن إن قالوا ، أنه قال “اجلس” سنجيبهم، ماذا إذا ؟ هل قالها لأنه كان واقفا؟ لكنهم لن يستطيعوا أن يبرهنوا علي كلامهم. فضلاً عن ذلك فإن الهراطقة يرون إنه لم يقل إنه “أَمر” بل “قال اجلس”. وهذا ليس لشيء آخر، إلا لكي لا تعتقد، كيف أن الابن، هو بلا بداية، وبدون علة لوجوده). ولذلك حرص ق بولس على التأكيد على الموضع الخاص بالابن في العرش الإلهي، لأنه إن كان قد أراد أن ينقصه، ما كان له أن يقول عن يمين”، بل “في يسار”.
ويقول ” صائرًا أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسما أفضل منهم” (عب٤:١). لفظة “صائرًا” قيلت هنا بمعنى “تبرهن” ، وأخذ يؤكد على هذا. من أين؟ من الاسم.
أرأيت أنه يعرف إن اسم الابن تعلن عن الأصالة الحقيقية؟ لأنه بالطبع إن لم يعد ابنا حقيقيًا، ما كان ليتكلّم عنه هكذا. كيف؟ إنه لا يكون ابنا حقيقيا، إلا إذا كان قد آتي من الآب، وليس لأي سبب آخر. إذا فمن هنا يؤكد أنه أعظم من الملائكة. لكن إن كان هو ابنًا بالنعمة، فلن يكون . مختلفاً . عن المخلوقات فحسب بل يعتبر أقل من الملائكة. كيف؟ لأن هناك أناسًا أبرارا دعيوا “أبناء”، وإن لم يكن ابنا حقيقيا ، لا يمكنه أن يثبت أنه يختلف عن جميع المخلوقات. ولكي يعلن أن هناك اختلاف بين المخلوقات، وبين الخالق اسمع ماذا يقول ق. بولس.
” لأنه لمن من الملائكة قال قط أنت ابني وأنا اليوم ولدتك وأيضا أنا أكون له أنا وهو يكون لي ابتا” (عب ٥:١).
٤. إذا ونحن نعرف هذه الأمور، لا يجب أن نخجل أبداً من إيماننا، ولا نتباهي. لأنه إن كان ذاك الذي هو إله ورب وإبن الله لم يرفض أن يأخذ صورة عبد ، فبالأكثر جدا ينبغي علينا أن نسلك هكذا في كل شيء، حتى في ما هو بسيط ومتواضع. إذا أخبرني أيها الإنسان من أين لك هذا الإفتخار؟ هل بالأمور الحياتية؟ إلا أن هذه الأمور ترحل قبل أن تظهر . هل بالأمور الروحية؟ العمل الروحي الناجح والوحيد والفريد، هو عدم الافتخار. إذا لماذا تفتخر؟ هل لأنك حققت شيئا؟ اسمع ماذا يقول المسيح “متى فعلتم كل ما أُمرتم به. فقولوا إننا عبيد بطالون. لأننا إنما عملنا ما كان يجب علينا .. هل تفتخر بالغني؟ أخبرني ألم تسمع إننا أتينا إلى هذه الحياة عرايا ، وهكذا سنرحل ؟ كيف يفتخر مَنْ له الأمور الوقتية؟ لأن كل الذين يريدون أن يستخدمونها لتمتعهم فقط، يفقدونها، وبدون إرادتهم، وفي كثير من الأحيان يحدث هذا قبل الموت وعلى أية حال فإن هذه الأشياء ستفقد بالموت.
أما نحن كما يقول (ق). بولس) ، فنحيا ونستخدمها كما نريد. وقد يصعب أن نجد شخصاً يستخدم ممتلكاته كما يريد. وحتى لو وُجد من يستخدمها كما يريد ، فلا يُعتبر ذلك أمراً مهماً ، لأن الوقت مُقصر إذا ما قورن بالأبدية التي لا نهاية لها .
هل تفتخر أيها الإنسان لأنك غني ؟ هل هذا سبب يدعو للإفتخار؟ إن قطاع الطرق والسارقين والقتلة والمخنثين والزناة، وكل الأشرار، هم من الأغنياء. إذا لماذا تفتخر؟ إن كنت تستخدم الغنى بطريقة سليمة، فلا ينبغي أيضا أن تفتخر، لكي لا تبطل الوصية. لكن إن كنت لا تستخدم المال استخداما جيدا فيجب عليك أن تخجل، لأنك صرت عبدا للمال، وللممتلكات، وسبيت بهذه الأشياء. أخبرني، لو أن شخصاً يعاني من ارتفاع في درجة الحرارة، وشرب كثيرا من الماء، وروى عطشه في الحال، وبعد ذلك ارتفعت درجة الحرارة، فهل يجد سبباً يدعو للإفتخار؟ ماذا أيضاً لو أن شخصاً إهتم باطلاً بأمور كثيرة، فهل يفتخر من أجل هذا؟ أخبرني لماذا (تفتخر )؟ هل لأن لديك أسياد كثيرون (أي ممتلكات كثيرة ؟ هل لأن لديك إهتمامات باطلة لا حدود لها ؟ هل لأن الكثيرين يتملقوك و ينافقونك ؟ لكن هذا كله ، هو بمثابة عبودية.
ولكي تعرف أنك عبد في هذه الأمور، اسمع جيدًا. فإن الشهوات الأخرى التي بداخلنا، تكون نافعة في كثير من الأحيان لأنه يقول : ” غضب الأثيم لا يمكن أن يبرر “”” . وبناء على ذلك، فإن هناك غضب مُبرر. وأيضًا يقول : ” من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم ” . أيضا الغيرة هي أمر حسن، مثل الشهوة أو الرغبة أيضا فهي تكون حسنة عندما تصير لأجل ولادة طفل، والغيرة تكون حسنة، عندما يريد الغيور أن يسلك في الأمور الحسنة تماماً كما يقول ق. بولس “حسنة هي الغيرة في الحسنى ” و “جدوا للمواهب الحُسنى”. حتى أن الأمرين (الغيرة والرغبة) هما نافعان. لكن الإفتخار ليس أمرًا حسنًا على الإطلاق، بل هو دائما بلا نفع وضار. إن كان يجب أن يفتخر أحد ، فينبغي أن يفتخر بفقره، وليس بغناه. لماذا أقول هذا؟ لأن من يستطيع العيش بالقليل هو أسمى بكثير وأفضل من ذاك الذي لا يستطيع.
ه- إذا أخبرني لو أن أُناسا دعيوا لمدينة ملوكية، والبعض منهم لم يطلب للذهاب دوابًا، ولا خدما، ولا مظلات تحميهم من حرارة الشمس، ولا مأوى، ولا أحذية، ولا أواني، بل إكتفوا فقط بالخبز، وبالشرب من ماء الآبار، أما البعض الآخر قال إن لم تعطونا عربات، وفراش مريح، فلا يمكننا أن نأتي، وإن لم يتبعنا كثيرون، وإن لم تتوفر لنا فرصاً للراحة، وإن لم يكن لنا مأوى، وإن لم نسير قليلا كل يوم، فإنه لا يمكننا أن نأتي بل ولنا إحتياجات أخرى أكثر، فمَنْ مِن هؤلاء ستدهش له أو ستعجب به؟ هل الذين ذكرناهم أولاً، أما الذين ذكرناهم ثانيا؟ من الواضح أن الذين ذكرناهم أولاً ، أي الذين لم يحتاجوا لشيء البتة. هكذا تماماً هنا أيضًا، البعض في مسيرة هذه الحياة يحتاج لكثير، والبعض لا يحتاج لأي شيء. وبناء على ذلك فبالأكثر جدا يجب على أولئك الذين يعيشون بفقر أن يفتخروا ، إن كان ينبغي عليهم بالطبع أن يفعلوا هذا.
لكن الفقير قد يكون هو محتقر من الجميع، لكنه ليس هو المحتقر في واقع الأمر، بل كل الذين يحتقرونه. إذا لماذا لا أحتقر أولئك الذين لا يعرفون أن يُقدروا كل ما هو لائق؟ فإن كان أحد رساماً ، هل سيحتقر كل أولئك الذين يتهكمون عليه، إنه لا ينتبه لكلامهم بل يكتفي بشهادته الخاصة بقدر ما يكون واثقا من كفاءته، ونحن هل سنعتمد على رأي الآخرين؟ وكيف سنحكم على هذه الأمور أنها تستحق المغفرة؟ ولهذا نحن نستحق الإزدراء، عندما لا نحتقر وعندما لا نبالي بأولئك الذين يحتقروننا من أجل الفقر. يجب التجاوز عن أي قدر من الخطايا التي تنتج من الغني، وعن أي قدر من الصلاح يأتي من الفقر، أو من الأفضل أن نقول إنه لا الغنى ولا الفقر هما أمر حسن في ذاتهما، بل يصيران هكذا بحسب الطريقة التي يعيش بها الفقير والغني والواضح أن المسيحي وهو في ظل الفقر هو تحت الإختبار أكثر منه في حالة الغنى كيف؟ مَن يعيش في الفقر سيكون أكثر تهذيبا، أكثر وقارًا ، أكثر هدوءاً، أكثر تعقلاً، أما من يقيم في الغنى، سيكون أمامه عوائق كثيرة من أجل تحقيق هذه الأمور.
لنرى إذا ماذا يفعل الغني، أو من الأفضل أن نقول ماذا يفعل ذاك الذي يستخدم الغني إستخدامًا سيئًا. إنه يخطف، ويكون جشعًا ويلجأ إلى العنف. ماذا إذا؟ فالإنحلال والانحراف والإختلاط غير الأخلاقي، والغواية وأعمال السحر، وكل الشرور الأخرى، ألا ترى أنها تأتي من الغنى؟ أرأيت أنك حين تحيا في فقر، تكون ممارستك للفضيلة أسهل عليك ممن لو كنت غنياً ؟ أرجوك لا تتصور أن الأغنياء لا يخطئون، لأنهم لا يُعاقبون هنا في الحياة الحاضرة، لأنه إن كان من السهل هنا – أن يُدان الغني، فستجد السجون مليئة بالأغنياء بل بالإضافة إلى الأمور الأخرى، فإن الثراء يحمل هذا الشر، الذي يتمثل في أن من يمتلكه لا يتوقف عن فعل الخطية لأنه لا يعاقب بسبب غناه، لكن أقول لكم أنه سيصاب بالأذى دون أن يجد علاجًا، ولن يستطيع أحد أن يضع له لجاماً. وإن أراد أحد أن يفهم) فسيجد أن الفقر، يمنحنا دوافع أكثر، للسعادة. كيف؟ لأن الفقير يكون متحرراً من الإنشغالات ومن البغضة، ومن الخصومات، ومن المشاحنات، ومن المنازعات ومن شرور لا حدود لها.
لا ينبغي إذا أن نسعى نحو الإغتناء، ولا أن نشعر بالغيرة ممن يملكون الكثير غير أنه يجب على الأغنياء أن يحسنوا إستخدام الغنى، وعلى الفقراء ألا يتضايقوا من فقرهم بل لنسرّ بالله في كل شيء، لأنه يجعلنا، نأخذ نفس المكافأة مع الأغنياء بجهد يسير أو أعظم أيضاً إن أردنا وبالقليل يجعلنا نربح الكثير. لأن ذاك الذي تاجر بالوزنتين ،أمتدح، وكرّم، مثل الذي تاجر بالخمس وزنات. لماذا إذا؟ لأنه وإن كان قد أُستومن على وزنتين، فقد بذل كل ما في وسعه، وقدم وزنتين أخريين بالإضافة إلى الوزنتين التي أستأمنه عليهما سيده لماذا إذا نسرع حتى نستأمن على الكثير، إذا كنا نستطيع أن نربح بالقليل نفس الأرباح، بل وأكثر عندما يكون التعب أقل، بينما المكافأة تكون أكثر بكثير؟ لأنه أيسر أن يترك الفقير ما يملكه، على أن يترك غنى ممتلكاته الكثيرة والكبيرة، أم أنكم لا تعرفون أنه على قدر ما يكون للمرء من ممتلكات أكثر ، بقدر ما يحب أكثر (هذه الممتلكات)؟
إذا لكي لا نعاني من هذا لا يجب أن نطلب الغنى ولا أن نشعر بالتعاسة من أجل الفقر، ولا أن نتكالب علي الغنى، بل علينا أن نعيش الحياة بدون صراع لأجل المزيد، كما يطلب ق. بولس الذين” يشترون كأنهم لا يملكون. والذين يستعملون هيئة هذا العالم كأنهم لا يستعملونه ” ، لكي ننال الخيرات التي وعدنا الله بهاء والتي ليتنا جميعًا ننالها بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة، الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور أمين.
العظة الثالثة 1: 6-14
” وأيضا متى أدخل البكر إلى العالم يقول ولتسجد له كل ملائكة الله” (عب٦:١).
١- يدعو ربنا يسوع المسيح مجيئه في الجسد خروجًا، وقد استخدم هذه الكلمة عندما قال: هوذا” الزارع قد خرج ليزرع ” وأيضًا ” خرجت من عند الآب وأتيت إلى العالم”، وفي مواضع كثيرة يمكن للمرء أن يرى هذا لكن ق. بولس يدعوه (أي مجيئه في الجسد)، دخولاً، قائلاً: ” وأيضًا متى أُدخل البكر” قاصدا، أنه أخذ جسدا. لكن لماذا يتكلم بشكل مختلف عن نفس الأمر، ولماذا قال هذا الكلام؟ هذا يتضح من معنى الكلام ذاته. أي أنه بالصواب يدعو المسيح مجيئه خروجاً، لأننا كنا خارج الله. وكما في القصور الملكية، فإن السجناء وخصوم الملك، يقفون خارجاً، وذاك الذي يريد أن يصالحهم، لا يدخلهم إلى الداخل، بل هو نفسه يخرج خارجاً، ويتحدث إليهم حتى يجعلهم مستحقين رؤية الملك، وهذا بالتحديد ما فعله المسيح. إنه أتى أولاً إلينا بمعنى أخذ جسداً، وبعدما أخبرنا بكل ما يختص بالملك، عندئذ يكون قد أدخلنا، بعدما طهرنا من خطايانا، وصالحنا. ولهذا يدعو تجسده، خروجاً.
لكن الرسول بولس يدعوه ، دخولاً مستخدما التشبه بالذين يرثون ويتعهدون مرعى ما وقطعة أرض. ” ومتى أدخل البكر إلى العالم”، هذا يُعلن، عندما يُعهد له بالعالم، يكون قد ربح العالم كله، وصار معروفًا للعالم. ولم يتكلم بهذه الأمور عن الله الكلمة، بل عن المسيح الذي أخذ جسداً. وهذا صواب، لأنه إن كان في العالم” كما يقول يوحنا ، وكون العالم به، فكيف كان ممكنا أن يأتي بطريقة أخرى، إن لم يكن قد أخذ جسدا؟
يقول “ولتسجد له كل ملائكة الله”. فعندما ينوي الرسول بولس أن يقول شيئا عظيمًا وساميًا، فهو يمهد له ويجعله مقبولاً ، فيقدم الآب وهو يُدخل الابن (إلى العالم). ولك أن تلاحظ أنه قال قبلاً إن الله لم يكلمنا بالأنبياء، بل كلّمنا في ابنه. فقد أظهر أن الابن هو أسمى من الملائكة، وبيّن هذا من وصفه كابن، وقد أعلن الرسول بولس الآب للمؤمنين وهو يُدخل الابن إلى العالم. علاوة على ذلك، فهو يبرهن هنا على أنه أسمى من الملائكة، من خلال أمر آخر. ما هو إذا هذا الأمر؟ هو الخاص بطريقة سجود الملائكة. وهذا يظهر كم هو أسمى من الملائكة، أي بقدر سمو السيد عن العبد . هذا يشبه شخصًا أدخل رجلاً إلى قصور الملك، على الفور يأمر أن يسجد له كل رتب القصور، هكذا بالنسبة لما يقوله .ق. بولس، فهو يتكلم عن دخول “الكلمة” الذي أخذ جسداً إلى العالم، ولهذا يضيف عبارة ” لتسجد له كل ملائكة الله. تُرى هل يتكلم عن الملائكة فقط، ولا يقصد القوات الأخرى؟ حاشا اسمع الكلام اللاحق.
” وعن الملائكة يقول الصانع ملائكته رياحا وخدامه لهيب نار، وأما عن الابن كرسيك يا الله إلى دهر الدهور ” (عب٨.٧:١).
ها هو الاختلاف الأكبر، بمعنى أن الملائكة مخلوقين، بينما الابن غير مخلوق ولماذا عن ملائكته يقول ” الصانع”، بينما عن الابن لم يقل “الصانع؟”، برغم أنه كان يستطيع بالطبع أن يتكلم هكذا عن الاختلاف أو الفرق، فيقول عن الملائكة الصانع ملائكته رياحاً”، بينما عن الابن يقول ” الرب خلقني”، وأيضاً ” الله جعله ربا ومسيحا لكنه لم يقل هذا عن المسيح الرب الابن، ولا عن الله الكلمة، بل قاله عن التجسد . لأنه حيث أراد أن يظهر الفرق الحقيقي، لم يتضمن الملائكة فقط، بل كل القوات السمائية التي تخدمه. أرأيت بأي طريقة وبأي قدر من الوضوح يفصل بين المخلوقات والخالق بين الخدم والسيد ، بين الوارث والابن الحقيقي وبين العبد؟ لكن عن الابن يقول ” كرسيك يا الله إلى دهر الدهور”. ها هو رمز الملك. ” قضيب إستقامة قضيب ملكك” ها هو رمز آخر للملك. ثم بعد ذلك أيضًا يتكلم عن الكلمة المتجسد.
“أحببت البر وأبغضت الإثم من أجل ذلك مسحك الله إلهك ” (عب٩:١).
ماذا يعني بعبارة “إلهك؟” أي لأنه قال شيئاً عظيماً ، فمرة أخرى يقدمه على نحو أبسط. هنا وقف ضد اليهود، وكذلك فيما بعد ضد أتباع بولس الساموسطائي، وأتباع آريوس وتصدى لماركلوس، وسابيليوس، وماركيون. كيف؟ بالنسبة لليهود، قد أظهر أنه هو نفسه إله وإنسان. وفي تصديه للآخرين أي أتباع بولس الساموسطائي: تحدث عن الوحيد والأزلي، وعن جوهره غير المخلوق، لأن قوله ” كرسيك يا الله إلى دهر الدهور”، ذكره في تضاد مع كلمة “الصانع”. وفيما يتعلق بأتباع آريوس فهو يكرر هذا التضاد ويذكر أنه ليس عبداً ، لكن بما أنه صار إنسانًا ، فيكون عبداً إلا أنه غير مخلوق، ولماركلوس والآخرين، يقول إن هناك إله وإنسان في أقنوم واحد. ويقول لأتباع ماركيون، إن الطبيعة الإلهية لم تُمسح بل الطبيعة الإنسانية. ثم بعد ذلك يقول “أكثر من شركائك”. لكن من يكون له شريك، سوي البشر؟ أي أن المسيح لم يأخذ الروح بكيل.
٢- أرأيت كيف يربط الرسول بولس دائمًا بين الحديث عن الطبيعة غير المخلوقة، وبين الحديث عن التدبير؟ وهل هناك ما هو أكثر وضوح من هذا؟ أرأيت كيف أنه وصف الشخص بأنه مخلوق يختلف تماماً عن وصفه بأنه مولود؟ لأنه إذا كانت كلمتي مخلوق ومولود تحملان معنى واحدا ما كان له أن يجعله مميزا عن طريق بعض التعبيرات فهو يضع كلمة الصانع ثم يضيف بعدها “إلى دهر الدهور”، وما كان له أيضا أن يجعل صفة البنوة أسمى صفة. لأنه ما هو الاختلاف؟ بمعنى أنه لو كان المخلوق والمولود واحدًا ، مع الوضع في الاعتبار أن الملائكة خلقوا ، فما هو الاختلاف؟ ها هو أيضا اسم “الله” بأداة التعريف (أي أن اسم الله أُطلق على الإبن في عبارة “كرسيك يا الله”. وأيضا يقول:
” وأنت يا رب في البدء أسست الأرض والسموات هي عمل يديك. هي تبيد ولكن أنت تبقى وكلها كثوب تبلى وكرداء تطويها فتتغير ولكن أنت أنت وسنوك لن تفنى ” (عب ۱۰:۱-۱۲)
لكي لا تعتقد وأنت تسمع ومتى أدخل البكر إلى العالم”، أن ذلك يعتبر هبة أعطيت له أخيرًا، أضاف قائلاً “في البدء”، وليس الآن، بل من البدء. ها هو مرة أخرى يوجه ضربة مؤثرة إلى بولس الساموسطائي وإلى آريوس، ناسبا للابن ما يُقال عن الآب، لكن بالإضافة إلى ذلك، أشار إلى عمل آخر إضافي، أعظم من هذا.
بمعنى أنه أشار إلى تجلّي العالم، قائلاً : ” وكلها كثوب تبلى وكرداء تطويها فتتغير هذا أيضًا يقوله لأهل رومية، أي أن العالم سيتجلى”. ولكي يعلن مدى سهولة ذلك، أضاف “تطويها”. أي كما يطوي أحد رداء ما ، هكذا سيطوي الله السموات والأرض، وسيغيّر العالم. لكن بما أن تجلى العالم وخلقه من جديد ليصبح أعظم وأسمى هو عمل بهذا القدر من السهولة إذن المتمم لهذا العمل لا ينتمي لمستوى الخليقة الأدنى. إلى متى لا تخجلوا ؟ غير أن هذا الكلام يمثل تعزية كبيرة جدا في نفس الوقت، أي معرفة أن الأمور لن تبقى هكذا ، بل كل شيء سيتبدل وسيتغير، بينما الله سيبقى حيا على الدوام، ويحيا إلى الأبد. ويقول ” أنت أنت وسنوك لن تفنى”.
” ثم لمن من الملائكة قال قط أجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطنا لقدميك ” (عب ١٣:١ ) .
ها هو مرة أخرى يشجعهم، طالما أن أعداءهم سيهزمون، وأعداءهم هم أنفسهم أعداء المسيح. هذا أيضًا يُمثل إشارة للسلطان الملوكي، والكرامة المتساوية، كرامة وليس ضعف، أن يغضب الآب لتلك الأمور التي تحدث للابن. وهذه علامة على محبة الله الكبيرة، وعلى العلاقة الأصيلة الطبيعية من أب نحو ابنه. بمعنى أن الآب الذي يغضب من أجل ابنه كيف يكون غريباً عنه؟.
“حتى أضع أعداءك. هذا يقوله في المزمور الثاني ” الساكن في السموات يضحك. الرب يستهزي بهم حينئذ يتكلم عليهم بغضبه ويرجفهم بغيظه “. وأيضا يقول الابن ” أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي. ومن حيث إن الكلام هو كلام السيد المسيح، اسمع ماذا يقول في موضع أخر: ” كم مرة أردت أن أجمع أولادك ولم تريدوا هوذا بيتكم يترك لكم خرابا “. وأيضاً ” إن ملكوت الله ينزع منكم ويُعطى لأمة تعمل أثماره “. وأيضًا “ومن سقط على هذا الحجر يترضض ومن سقط هو عليه يسحقه” فضلاً عن ذلك، فإن الآب هو الذي سيُدينهم هناك بسبب افترائهم على الابن وبناء على ذلك، فعبارة ” حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك”، هي برهان على كرامة الإبن فقط.
“أليس جميعهم أرواحا خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص” (عب١٤:١ ) .
هي ما هو العجيب في إن الملائكة يخدمون الابن في اللحظة التي فيها يخدمون لأجل خلاصنا؟ لاحظ كيف يسمو بأفكارهم ويظهر الكرامة العظيمة التي يمنحها الله لنا من حيث أنه قد عيّن الملائكة ، الذين هم أعلى منا، ليخدموا من أجل منفعتنا. كما يمكن للمرء أن يقول إن الله يستخدمهم في هذا (أي في خدمة العتيدين أن يرثوا الخلاص)، هذه خدمة الملائكة، أن يخدموا الله، من أجل خلاصنا. إن عمل الملائكة، يقوم على فعل كل شيء من أجل خلاص الأخوة، أو من الأفضل القول، بأن هذا هو عمل المسيح. لأن المسيح كسيد يُخلّص، بينما هؤلاء (الملائكة)، عبيد . ونحن عبيد، وشركاء في العبودية مع الملائكة، وكما يقول، لماذا تنظرون بفم مفتوح (أي بدهشة) إلى الملائكة؟ فهم عبيد لإبن الله ، وهو كثيرًا ما يرسلهم لأجلنا، ويخدمون من أجل خلاصنا حتى أنهم يعتبرون بمثابة عبيد لنا. فكروا كيف أنه لا يقيم فروقًا كبيرة بين المخلوقات. فبرغم أن المسافة بين الملائكة والبشر كبيرة. إلا أنه يُنزلهم بالقرب منا ، كما لو يقول أنهم يتعبون من أجلنا ، ويسعوا لأجل فائدتنا ، أنهم يخدموننا نحن كما يمكن للمرء أن يقول. هذه هي خدمتهم، أن يُرسلوا في كل مكان لخدمتنا.
3- والعهد القديم والجديد أيضًا مليء بهذه الأمثلة فكيف لا يخدموننا إذا كانوا قد حملوا البشارة المفرحة للرعاة والمريم وليوسف، وإذا كانوا قد جلسوا في القبر وأُرسلوا لكي يقولوا للتلاميذ ” أيها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء” ، وإذا كانوا أخرجوا بطرس من السجن، وتكلموا مع فيلبس، فكيف لا يخدموننا؟ فكّر إذا في مقدار الكرامة، عندما يُرسل الله الملائكة كخدام لأجل الأحباء، وعندما يظهر ملاك لكرنيليوس، وعندما يُخرج ملاك كل الرسل من السجن ويقول “اذهبوا قفوا وكلموا الشعب في الهيكل بجميع كلام هذه الحياة .. ولماذا أتكلم عن الأمور الأخرى؟ فقد ظهر الملاك لبولس نفسه.
أرأيت أنهم يخدموننا من أجل الله، وأنهم يخدموننا في أمور عظيمة جدا؟ ولهذا يقول الرسول بولس ” فإن كل شيء لكم.. أم الحياة أم الموت أم الأشياء الحاضرة أم المستقبلة . والابن أيضا بالطبع أرسل، لكن ليس كخادم، بل كابن ووحيد الجنس، وكان يريد كل ما أراده الآب. أو من الأفضل أن نقول إن الابن لم يُرسل لأنه لم يذهب من مكان لمكان، بل أخذ جسدا. أما الملائكة فهم ينتقلوا من مكان إلى آخر، ويتركون الأماكن الأولي التي يوجدون فيها، وهكذا يأتون إلى أماكن أخرى لم يكونوا فيها. كما أنهم كانوا يشجعوا البعض قائلين: ” لماذا تخافون “؟ إن الملائكة يخدموننا.
وبعدما تكلّم عن الابن، والأمور المختصة بتدبير الله، والمختصة بالخلق والملكوت، وبعدما أظهر المساواة في الكرامة بين الابن والآب، وأن الابن كرب يسود ليس فقط على البشر بل وعلى القوات السمائية، بعد ذلك يحثهم (أي العبرانيين)، متكلما هكذا ، حتى ننتبه لتلك الأمور التي نسمعها.
- سابيليوس: هرطوقي نادي بأن الآب والابن والروح القدس هم شخصا واحدا يحمل ثلاثة أسماء. وهذه البدعة السابيلية ورد ذكرها في القانون الأول من قوانيين مجمع القسطنطية 381م كبدعة يجب نبذها.
-
بولس الساموسطائي: هرطوقي ظهر في القرن الثالث وكان أسقفًا لأنطاكية 260م علم بأن الله الكلمة أخذ بدايته من العذراء مريم. وكانت تعاليمه ضد عقيدة الثالوث.
-
ماركيون: هو هرطوقي رفض العهد القديم كإستمرار لخطة التدبير الإلهي، وعلي وجه التحديد رفض الظهورات الإلهية في العهد القديم. وكان يُقاوم بشدة التعليم الصحيح عن عقيدة الخريستولجي كما جاءت في العهد الجديد.
مقدمة | رسالة العبرانيين 1 | تفسير رسالة العبرانيين | تفسير العهد الجديد | تفسير رسالة العبرانيين 2 |
القديس يوحنا ذهبي الفم | ||||
تفاسير عبرانيين 1 | تفاسير رسالة العبرانيين | تفاسير العهد الجديد |