تفسير رسالة العبرانيين اصحاح 4 للقديس يوحنا ذهبي الفم

الأصحاح الرابع

العظة السادسة (عب4: 1-12)

يقول:

فلتخف، أنَّهُ مَعَ بَقَاءِ وَعَدِ بالدخول إلى راحتِهِ، يُرى أحَدٌ مِنكُمْ أَنَّهُ قَدْ خَابَ مته لأننا نحن أيضا قد بشرْنَا كَمَا أولئك، لكن لم تتفعَ كَلِمَة الخَبَرِ أُولئِكَ إِذ لَمْ تكن ممتزجة بالإيمان في الذين سَمِعُوا لأننا نحن المؤمنين تدخلُ الرَّاحَة ” ثم يؤكد على هذا، فيضيف ” كما قال: حتى أقسمت في غضبي: لَنْ يَدْخُلُوا رَاحَتِي مَعَ كَوْنِ الأعمال قد أكملت منذ تأسيس العالم.” (عب 1:4-3).

ولأنه كان من الطبيعي أن يقول البعض أن هذا لا يُظهر أننا سندخل، بل يعني أن أولئك لم يدخلوا ، ماذا يفعل؟ هو يحاول بداية أن يوضح أن تلك الراحة التي وعد الله شعبه بها لم تلغي وجود راحة أخرى، ولا هذه الراحة أيضا، تلغي راحة الموت.

إذا فهو لا يريد بداية أن يظهر أن أولئك الذين لم يؤمنوا) لم يدخلوا الراحة، ومن حيث إنه يقول ذلك، فهذا واضح مما أضافه:

“لأنه قال في موضع عن السابع هكذا واستراح الله في اليوم السابع من جميع أعماله. وفي هذا أيضا لن يدخلوا راحتي ” (عب 4: 4، 5)

أرأيت أن تلك الراحة (راحة يوم السبت) لن تعوق تحقيق هذه الراحة الروحية؟ 

“فإذ بقى أن قوما يدخلونها والذين بشروا أولاً لم يدخلوا لسبب العصيان. يعين أيضا يوماً قائلاً في داود اليوم بعد زمان هذا مقداره كما قيل ” (عب 4: 6-7)

وماذا يعني بهذا القول ؟ أي نظرًا لأنه يجب أن يدخل البعض تلك الراحة على كل حال، وأن أولئك لم يدخلوا ، لذلك فهو يُعيّن أيضًا راحة ثالثة (الراحة الروحية). لأنه بعد كل هذه السنوات، يُخبرنا بأن داود أيضا يقول:

” اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم لأنه لو كان يشوع قد أراحهم لما تكلم بعد ذلك عن يوماً أخر ” (عب 4: 8)

من الواضح إذا، أنه يقول هذه الأمور، كمكافأة يتمتع بها البعض مستقبلاً.

“إذا بقيت راحة لشعب الله ” (عب 4: 9).

من أين استنتج هذا؟ من عبارة ” فلا تقسوا قلوبكم “. لأنه إن لم توجد راحة السبت، ما كان لهم أن يأخذوا هذه الأوامر أو الوصايا ، ولا كانوا سيأخذوا الوصية بألا يصنعوا الأمور ذاتها، لكي لا يعانوا نفس المعاناة، إن كانوا لا يرغبون أن يقاسوا نفس الآلام. لكن كيف لأولئك الذين لهم أرض الموعد، أن يواجهوا نفس المعاناة، إن لم يكن هناك راحة أخرى؟

3. وبالصواب انتهى إلى هذه النتيجة. لأنه لم يتكلم عن راحة مجردة، بل تكلم عن ” راحة السبت “، الاسم المعروف جدا، وقد فرحوا به كثيرا وركضوا نحوه برغبة و إستعداد، داعيًا ملكوت السموات ” راحة السبت ” لأنه كما أمر (الرب) في ذلك الزمان بأن يبتعد المرء عن كل الشرور يوم السبت، وأن تُمارس فقط الأمور التي تليق بعبادة الله التي يمارسها الكهنة، والتي تنفع النفس وليس أي شيء آخر، إلا أن الرسول بولس لم يقل هذا ، فماذا قال؟ قال:

“لأن الذي دخل راحته استراح هو أيضا من أعماله كما الله من أعماله” (عب 4: 10).

يقول كما استراح الله من أعماله هكذا استراح الذي دخل راحته. أي لأن أولئك تحدثوا عن راحتهم، وترجوا كثيرًا جدًا أن يسمعوا متى سيحدث هذا، نجد أن الكلام قد انتهى إلى هذه النتيجة. وقال ” اليوم “، حتى لا يصيبهم باليأس أبدا. يقول ” عظوا أنفسكم كل يوم مادام الوقت يُدعى اليوم ” . أي حتى وإن أخطأ أحد، فمادام سيكون هناك نهارًا ، فهناك رجاء.

إذا لا ينبغي أن ييأس أحد ، مادام لا يزال على قيد الحياة. ويقول أيضا لا يجب أن يكون لأحد قلبا شريراً ، فإن حدث شيئًا مثل هذا، فلا يجب أن ييأس، بل ليشجع نفسه لأنه مادام في هذا العالم، فإن ذلك اليوم يسري على الدوام، لكنه هنا لا يقصد عدم الإيمان، بل يشير إلى المتذمرين ” الذين جثثهم سقطت في القفر”.

” فلنجتهد أن ندخل تلك الراحة لئلا يسقط أحد في عبرة العصيان هذه عينها ” ( عب 4: 11)

بعد ذلك ولكي لا يعتقد أحد أنهم سيحرمون من الراحة فقط، يضيف العقوبة قائلا :

“لأن كلمة الله حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته ” (عب 4: 12).

هنا هو يتكلم عن جهنم وعن الدينونة. يقول إن كلمة الله تصل إلى أفكار قلوبنا الخفية، وخارقة إلى مفرق النفس. هكذا لن تسقط الجثث، ولن يُحرم أحد من الموطن كما حدث قديماً، بل سيُحرم من ملكوت السموات وسيسلم إلى الجحيم الأبدي، وإلى جزاء وعقاب دائم.

” بل عظوا أنفسكم “[1] لاحظ لطفه ورقته. لم يقل ” أن يوبخ ” بل “أن يعظ ” (أي الواحد الآخر). هكذا يجب أن نسلك تجاه أولئك الذين يتألمون بسبب الحزن. هذا يقوله وهو يكتب إلى أهل تسالونيكي ” أنذروا الذين بلا ترتيب  لكنه لا يقول نفس الكلام من جهة صغار النفوس، فماذا يقول؟ يقول ” شجعوا صغار النفوس. أسندوا الضعفاء في الإيمان، تأنوا على الجميع .. ماذا يعني بقوله ” شجعوا “، يعني لا تيأسوا ، ولا تُحبطوا لأن ذاك الذي لا يشجع ولا يعزي من هو في ضيقة بسبب الحزن، يجعله أكثر قسوة. يقول ” لكي لا يُقسى أحد منكم بغرور الخطية . هل يقصد بكلمة غرور خداع الشيطان، لأن الخداع في الحقيقة هو عدم انتظار الحياة الأبدية، وأن نعتقد أننا لن نكون مسئولين عن أفعالنا، وأننا لن تعاقب أو ندان عن أعمالنا التي عملناها هنا في الحياة الحاضرة وأنه لن تكون هناك قيامة أموات؟.

أم أن الغرور أو الخداع، هو من منظور آخر عدم الإحساس بالألم، أم هو اليأس أو القنوط؟ لأنه عندما نقول : ماذا سأنتفع؟ لقد أخطأت مرة، وليس لي رجاء أن أريح نفسي، فهذا يُعتبر خداع.

بعد ذلك يضع فيهم الرجاء قائلاً ” صرنا شركاء المسيح ” . ويبدو كما لو أن الرسول بولس قال إن ذاك الذي أحبنا كل هذا الحب الفائق، قد أقر بأننا مستحقين أن ننال الكثير جدا ، حتى أنه جعلنا جسده، ولم يتركنا نهلك. فلنفكر في هذا الأمر إذا ، أننا قد صرنا مُستحقين أن نكون واحد مع المسيح، ولتصدق هذا الأمر. يشير أيضًا إلى ما قيل في موضع آخر ” إن كنا نصبر فسنملك أيضًا معه لأن هذا هو معنى ” صرنا شركاء “. نشترك في نفس الأمور التي يشترك فيها المسيح. إنه يحثهم على الأمور الحسنة والنافعة ” لأننا قد صرنا شركاء المسيح “. ثم يشير أيضًا إلى الأمور المحزنة قائلاً ” فلنخف أنه مع بقاء وعد بالدخول إلى راحته يُرى أحد منكم أنه قد خاب منه “. لأن هذا واضح ومعروف. إنهم ” إختبروني وأبصروا أعمالي أربعين سنة . 

أرأيت أنه لا ينبغي أن تُحمّل الله المسئولية، فسواء أعاننا، أم لا، يجب أن نؤمن به. إنه يدين هؤلاء الآن في هذا الأمر، لأنهم يجربون الله لأنه بالحقيقة كل من يريد أن يحصل على برهان سواء بقدرته أو تدقيقه، فهو غير مؤمن علي الإطلاق ولا يؤمن بإن الله قادر على كل شيء، ولا بأنه محب للبشر. هذا ما يشير إليه عندما يكتب لهؤلاء، ربما لأنهم أرادوا بالفعل أن يفحصوا ويراقبوا قوته وعنايته بهم في التجارب. أرأيت أن السخط والغضب يأتي من كل اتجاه بسبب عدم الإيمان؟ إذا ماذا يقول؟ يقول ” إذا بقيت راحة لشعب الله ” . ولاحظ كيف يلخص كل الحديث. لقد أقسم كما يقول القديس بولس للأولين بأنهم لن يدخلوا راحته، ولم يدخلوا ثم بعد هؤلاء بسنوات طويلة، يتحدث إلى اليهود، قائلا : “لا تقسوا قلوبكم.. حيث جربني آباؤكم .” . أي أن هناك راحـة أخرى لأنه لا نستطيع أن نتكلم عن راحة أرض الموعد، مادامت لهم، ولا عن راحة اليوم السابع ولكن يمكننا أن ندخل راحته، لأنه من المؤكد أنه لم يتكلم عن هذه الراحة التي حدثت في عصر قديم أو زمن مضى. وبناء على ذلك فهو يقصد راحة أخرى الراحة الحقيقة.

4- إذا هذه هي الراحة الحقيقة، حيث يهرب الحزن والكآبة والتنهد، حيث لا توجد أتعاب ولا قلق، ولا خوف يجعل النفس ترتعب وتتزعزع، بل وتكون النفس متمتعة بمخافة الله فقط. لن نسمع هناك في الحياة الأبدية عبارة ” بعرق وجهك تأكل خبزاً ” ولا ” شوكاً وحسكاً تنبت لك الأرض “. لن يوجد هناك بعد شوك وحسك. ولن تسمع ” بالوجع تلدين أولادًا ” ولا ” إلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك. كل شيء هناك ( في الحياة الأبدية) يكون في سلام، وفرح، ومسرة، ولذة وصلاح ووداعة واستقامة، ومحبة. هناك لا يوجد حقد، ولا حسد ولا مرض ولا موت جسدي، ولا موت للنفس لا توجد ظلمة ولا ليل. كل شيء يكون نهارًا ، ونورا ، وراحة لا يوجد تعب، أو إجهاد، بل على الدوام نشتهي الأمور الصالحة.

هل تريدون أن أُعطي لكم صورة عن الحالة (التي سيكون عليها الإنسان هناك؟) هذا غير ممكن، لكن على قدر الإمكان سأحاول أن أعطيكم صورة ما النتطلع نحو السماء، عندما لا تعيق الإنسان أي سحابة عن رؤية إكليله. ثم بعد ذلك، وبعدما تذهل من جمال المنظر لسنوات طويلة ، فلنفكر بأنه ستكون لنا أرضا جديدة، بالطبع ليست مثل هذه الأرض، بل أفضل بكثير، بقدر أفضلية السقف الذهبي، على السقف الطيني أو الفخاري. ثم بعد ذلك لنتطلع إلى الملائكة، ورؤساء الملائكة، والقوات غير الجسدانية التي لا تحصى لنتطلع إلي ملكوت الله ذاته، والعرش الأبوي السمائي. لكن لا يمكن للكلمات كما قلت، أن تصف كل شئ، والأمر يحتاج إلى اختبار ومعرفة داخل الاختبار. ماذا تظنون أخبروني، من كان مع آدم في الفردوس؟ إن الحياة في الملكوت هي أفضل بكثير، من تلك الحياة (التي كانت قديمًا ) ، بقدر أفضلية السماء عن الأرض.

لكن دعنا نصف صورة أخرى. إن كان الملك الذي يملك الآن، قد ساد على كل المسكونة، ولم تقلقه حروب ولا هموم، بل ويحظى بالتكريم فقط، ويحيا بتمتع، ويحصل على ضرائب كثيرة، وينهال عليه الذهب من كل مكان، وموضع إعجاب الجميع، فكيف ستكون حالته، وهو يرى الحروب التي اشتعلت في كل أنحاء الأرض قد توقفت؟ هذا ما سيحدث في حياة الدهر الأتي. وحتى ذلك التشبيه لا يُقرب لنا صورة الحياة الأبدية. ولهذا يجب أن نلجأ إلى تشبيه آخر. لك أن تفكر في ابن أحد الملوك. فإنه وهو داخل الرحم لا يشعر بأي شيء، ولكن قد يحدث بعد خروجه من الرحم ونموه إلي أن يصبح شاباً ، أن نال المناصب، ليس بالتدريج، بل جميعها معا ، ثم إعتلى العرش الملكي فجأة. هكذا سيكون الحال في الدهر الأتي. أو فكر لو أن مسجونا قد عانى ألام كثيرة، إلا أنه أقتيد فجأة إلى العرش الملوكي.

لكن ولا هكذا تكون قد إقتربت بالضبط من الصورة. لأن هنا مهما حقق المرء من خيرات فسوف تكون لديه رغبة قوية لمزيد من هذه الخيرات، حتى وإن كنت تتكلم عن الملك ذاته، فإن هذه الرغبة تتصاعد أول وثاني وثالث يوم، بل وبمرور الزمن تراه لا يزال يشعر بالفرح، لكن ليس بهذا القدر الكبير، لأن التآلف مع هذا الأمر يقود في النهاية إلى اعتياده مهما كان قدره. لكن في حياة الدهر الأتي، فإن تلك الخيرات ليست فقط لن تنقص، بل ستزيد. لأنه يمكنك أن تفكر كيف هو أمرًا عظيم عندما تنتقل النفس الى هناك، إن تلك الخيرات السمائية لن تنتهي ولن تتغير بل تزيد إنها حياة أبدية لا تنتهي، ولا يهددها أى خطر، وخالية من كل حزن وهموم، ومملوءة بالفرح، وبالخيرات التي لا تُحصى. لو ذهبنا إلى منطقة سهلية، حيث نرى مظال الجنود منصوبة من ستائر و حواجز، ونرى ،رماحًا، وخوذًا، ودروعًا لامعة أو براقة، فإننا نبقى مبهورين و منذهلين من المشهد، ولو تصادف ورأينا الملك بأسلحة مذهبة ماشيا في الوسط أو ممتطيا جواده، فإننا نتصور أننا نمتلك كل شيء، فكيف تتصور شعورك عندما ترى المظال الأبدية التي للقديسين، والتي أُقيمت في السماء؟ لأنه يقول ” يقبلونكم في المظال الأبدية .. ماذا تقول عندما ترى كل واحد من هؤلاء وهو يشرق بلمعان أكثر من أشعة الشمس ليس مثل إشراق النحاس والحديد، بل هو في ذلك المجد ، والذي لا تستطيع العين الإنسانية أن تنظر إلي نوره؟ وهذه الأمور بالطبع خاصة بالبشر. لكن ماذا يمكن للمرء أن يقول عن آلاف الملائكة، ورؤساء الملائكة، والشاروبيم والسيرافيم والعروش والسيادات والرئاسات والقوات، والذين لهم جمال فائق، ويسمو فوق كل فكر؟ لكن إلى متى سأستمر في السعى نحو أمور لا يمكن تحقيقها ؟ لأنه يقول ” ما لم ترى عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه.

إذا لا شئ أكثر تعاسة من أولئك الذين لا ينالون هذا الوعد الإلهي، وليس هناك ما هو أكثر سعادة من الذين ينالون ذلك الوعد ، وليتنا جميعًا نكون من السعداء، لكي ننال الخيرات الأبدية التي يهبها ربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة، الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور أمين.

العظة السابعة (عب4: 13-16)

” وليست خليقة غير ظاهرة قدامه بل كل شئ عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معه أمرنا ” (عب 4: 13).

1- الإيمان هو أمر عظيم ومنقذ ، وبدونه لا يستطيع أحد أن يخلص أبدا. لكن الإيمان وحده في ذاته لا يكفي، بل طريقة الحياة المستقيمة هي التي نحتاجها. ومن أجل هذا فإن القديس بولس ينصح هؤلاء الذين استحقوا بالفعل هذه الأسرار قائلاً :” فلنجتهد أن ندخل إلى تلك الراحة “.

يقول فلنجتهد ، لأن الإيمان وحده لا يكفي، بل يجب أن يُضاف إليه، طريقة الحياة، وأن تُبذل محاولات كبيرة. لأننا نحتاج حقا محاولة كبيرة و بذل جهد كبير، حتى نرتفع إلى السماء، وطالما أن أولئك الذين عانوا الكثير في القفر لم يُحسبوا مستحقين لدخول الأرض (أرض كنعان ) ، ولم يتمكنوا من ذلك لأنهم تذمروا وتنجسوا ، فكيف سنكون نحن مستحقين للدخول إلى السموات، عندما نحيا في لا مبالاة، وخمول ؟ إذا فنحن نحتاج إلى جهد كبير.

ولاحظ أنه حتى مع توضيح هذه الجزئية فهو لم يحدد الخسارة، باعتبار أننا لن نستطيع أن ندخل إلى الراحة لأنه لم يقل، لنجتهد أن ندخل إلى الراحة، لكي لا نخسر خيرات عظيمة بهذا القدر، بل إن ما أراد أن يُثير به أفكار) البشر ، هذا ما قد أضافه بعد ذلك وما هو هذا الأمر؟ هو لئلا يسقط أحد في عبرة العصيان هذه عينها “، بمعنى أن يكون تفكيرنا ورجاؤنا هناك (في الراحة الأبدية)، حتى لا نفقد الراحة المماثلة. ومن حيث أننا قد نفقدها، فإنه يذكر المثال ” لئلا يسقط أحد في عبرة العصيان هذه عينها “. ولكي لا تعتقد عندما تسمع كلمة “عينها “، أنه سيطبق العقاب ذاته، اسمع ماذا يُضيف: ” لأن كلمة الله حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته “.

هنا أيضاً يُظهر أن تلك الأمور (التي حدثت قديمًا ) ، صنعتها كلمة الله ذاتها، وأنها حية ولم تُمحى. إذا لا يجب أن تعتبر كلمة الله ضعيفة أو بسيطة لأنك كثيرًا ما سمعت عنها. فإنها كما يقول الرسول بولس هي ” أمضى من كل سيف “.

لاحظ مدى التسامح، وتعلّم من هنا ، لماذا تكلم الأنبياء عن السيف والرمح؟ يقول المرنم ” إن لم يرجع يُحدّد سيفه مد قوسه وهيأها. فلو أن الأمر الآن بعد كل هذه السنين، وبعد حالة الكمال الروحي ، لا يستطيع أن يثير الحيرة أو الدهشة من خلال صفات الكلمة فقط ، بل احتاج إلى هذه الكلمات، لكي يُظهر الإمتياز بواسطة المقارنة بين القديم والجديد فبالأكثر جدا لن يستطيع آنذاك. يقول ” خارقة إلى مفرق النفس والروح” ماذا يعني هذا الكلام؟ إنه يُلمح إلى شئ مخيف. فإما أنه يقصد أن كلمة الله تفصل الروح عن النفس، إما أنه يقصد أنها خارقة بعمق في الأمور الروحية أيضاً، ليس مثل السيف الذي يخترق الأمور المادية فقط، فهو هنا يُظهر أن النفس أيضًا تُعَاقَب، وأن الأعمال الداخلية تفحص، وأن الكلمة تخترق داخل الإنسان.

” ومميزة أفكار القلب ونياته وليست خليقة غير ظاهرة قدامه”

هنا قد أخافهم كثيرًا جدًا. فما يقوله يعني الآتي: إن كنتم لا تزالون بعد في الإيمان، لكنكم متزعزين وغير ثابتين ، فلا تأملوا في شيء، فكلمة الله ستميز كل ما في القلب، فهي تخترق القلب وتفحصه وتدينه ولماذا أتكلم عن البشر ؟ لأنه سواء كنت تشير إلى الملائكة، أو رؤساء الملائكة، أو الشاروبيم أو السيرافيم، أو أي خليقة أخرى، فكلها مكشوفة أمام عيني الله ، كلها معروفة وظاهرة، لا يوجد شيء يمكن أن يفلت منه. ” كل شئ عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معه أمرنا “. قال : ” مكشوف ” ، تشبيها بالجلود المنزوعة من الحيوانات المذبوحة، والتي كانت تقدم كذبيحة. فكما أنه عندما يذبح شخص حيوانًا ، وينزع الجلد عن الجسد ، تنكشف كل الأعضاء الداخلية للحيوان وتظهر أمام أعيننا ، هكذا بالنسبة لله، كل شئ مكشوف أمامه.

ولكن أرجو أن تلاحظ كيف كان (ق. بولس) يلجأ دائمًا لتشبيهات بالصور الجسدية، الأمر الذي يُظهر ضعف المستمعين. ومن حيث أنهم كانوا ضعفاء روحيًا فهذا ما أوضحه حينما قال أنهم كسالى ويحتاجون إلى اللبن، وليس إلى الطعام القوي. يقول ” كل شئ عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معه أمرنا ” لكن ماذا تعني عبارة ” عبرة العصيان هذه عينها ؟ ” كما يمكن للمرء الذي يبحث عن السبب أن يقول، ولماذا لم يرى اليهود الذين كانوا مع موسى ويشوع بن نون الأرض (أرض الموعد ) ؟ يقول أنهم نالوا ضمانًا وهو قوة الله، وبينما كان ينبغي عليهم أن يؤمنوا ، إلا أنهم خافوا أكثر مما ينبغي)، ولم يهتموا كثيرًا بما لله، وأصيبوا بصغر النفس، لذلك هلكوا . لكن يمكننا أن نقول شيئا آخر، وهو أنهم عندما قطعوا الجزء الأكبر من الطريق، عندما اقتربوا من الأبواب ومن الميناء هلكوا هذا ما أخشى أن يحدث لكم. هذه هي ” عبرة العصيان عينها “.

إذا فمن حيث إن هؤلاء عانوا الكثير، فهذا ما يؤكده لهؤلاء فيما بعد، قائلاً ” ولكن تذكروا الأيام السالفة التي فيها بعدما أنرتم صبرتم على مجاهدة آلام كثيرة . إذا لا ينبغي أن يُصاب أحد بصغر النفس، ولا أن بيأس، ويسقط بالقرب من النهاية. لأن أولئك الذين إندفعوا للجهاد في البداية بنية كاملة و رغبة قوية، خسروا كل شيء، لأنهم لم يريدوا أن يجاهدوا يسيرًا فيما بعد. هكذا يقول القديس بولس أن الأسلاف يمكن أن يعلموكم ألا تقعوا في نفس الزلات أو الأخطاء، حتى لا تعانوا ما عاناه اليهود قديما . هذا هو معنى ” عبرة العصيان عينها وبناء على ذلك فلا يجب أن ننتهي إلى حالة من الشلل الأمر الذي يقوله وهو يقترب من نهاية الرسالة ” قوموا الأيادي المسترخية والركب المخلعة ” . يقول ” لئلا يسقط أحد في عبرة العصيان هذه عينها ” لاحظ ماذا يقول ” لأن كلمة الله حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين .. لأن الكلمة التي تقع على نفوس هؤلاء، هي أمضى من كل سيف ذي حدين، وتحدث إصابات مرعبة، وتفتح جروحًا مُميتة. وهو ليس في حاجة أن يقدم أو يعطي دلائل على ذلك، ولا أن يُبرهن عليها ، طالما أن الرواية لديه بكل هذا الوضوح لأنه يقول، أية حرب أهلكت هؤلاء، وأي سيف أفناهم، ألم يسقطوا وحدهم؟ إذا لا ينبغي أن نحيا في لامبالاة، لأننا لم نعان نفس المعاناة، فمن الممكن أن نعاني منها مرة أخرى طالما الوقت يُدعى نهار. لكن لأنه تكلم هكذا ، ولكي لا يصيروا خاملين وهم يسمعون تلك الأمور المرتبطة بالنفس، أضاف الجوانب الخاصة بالجسد ، معلنا أنه كما يحدث مع القادة الذين يرتكبوا أخطاء كبيرة، فإن الملك يجردهم من مناصبهم أولاً، ثم بعد ذلك ينزع عنهم جميع رموز الرتب ويدينهم، والشاهد على ذلك هو المنادى الذي يعلن هذا التجريد ، هكذا يعمل سيف الروح.

بعد ذلك وبعدما قال هذا، جعل كلامه مخيفا بدرجة أكبر، فيتحدث عن الابن، ويقول ” الذي معه أمرنا ” . وهذا معناه أننا سنقدم للابن حسابًا عن أعمالنا. وبناء على ذلك لا ينبغي أن نجبن أو نصاب بصغر نفس، فكل ما قاله كان لأجل تعليمكم. أما الرسول بولس ، فلم يكتف بذلك، بل يضيف أمورًا أخرى، قائلاً:

” فإذ لنا رئيس كهنة عظيم قد إجتاز السموات يسوع ابن الله.” (عب 4: 14).

2- ثم أضاف: .

” لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثى لضعفاتنا “

لأن هذا ما قاله سابقاً لأنه في ما هو قد تألم مجربا يقدر أن يعين المجربين ” لاحظ إذا كيف أنه يصنع نفس الأمر هنا. ما يقوله يعني الأتي : يقول إنني أسلك في الطريق الذي نسلك نحن فيه الآن، أو من الأفضل أسلك بصورة أكثر قسوة، إذ كانت لدية تلك الخبرة الإنسانية لأنه قال ” ليست خليقة غير ظاهرة قدامه “، يقصد أمامه بكونه إله. بعد ذلك ولأنه أخذ جسداً، فإنه يتكلم بكثير من التسامح، قائلاً ” فإذ لنا رئيس كهنة عظيم قد إجتاز السموات “، ويظهر عنايته الفائقة، وأنه يحمي خاصته، ولا يريد لها أن تسقط لأنه يقول إن موسى لم يدخل إلى الراحة، بينما الابن قد دخل. وكيف حدث ذلك، هذا ما سأوضحه لكم، وإن كان لم يُشر إليه في أى موضع، فهذا ليس بالأمر الغريب فإما أنه يعني أنه شمل ذاك، لكي لا يعتقدوا أنهم وجدوا دفاعًا، أو حتى لا يبدو أنه يُدين الرجل (أي موسى)، فهو لم يُشر إليه بوضوح. إذا فعلى الرغم من أنه لم يتحدث عن موسى على نحو مباشر، إلا أنهم قالوا ” سمعناه يتكلم بكلام تجديف على موسى وعلى الله ، فكم بالحري جدا سيتكلمون هكذا أكثر، إن كان قد قال (إن الراحة الحقيقية) هي السماء وليست أرض الموعد.  

غير أنه لا يلقي بكل شيء علي الكاهن بل يطلب ما يخصنا ، وأقصد اعتراف الإيمان. ” فإذ لنا رئيس كهنة عظيم قد إجتاز السموات يسوع ابن الله فلنتمسك بالإقرار “. أي إقرار يقصد ؟ يقصد الاعتراف بالقيامة، وبأن هناك (في حياة الدهر الأتي) مجازاة، وخيرات لا تُحصى، لأن المسيح إله والإيمان راسخ ومستقيم لنقر ولنعترف بكل هذا ، ولنتمسك بثبات بهذا الإيمان ومن حيث إن كل هذه الأمور حقيقية، فهذا واضح من أن رئيس الكهنة هو في الداخل أى إجتاز السموات. وبناء على ذلك لنعترف أننا لم نسقط، وإن كانت حياة الدهر الآتي ليست قريبة ، إلا أننا يجب أن نعترف بها، برغم من أنه منذ وقت قليل كان هناك تجاوز للحقيقة، إلا أن الأمور تتغير. كذلك يجب التأكيد علي أن رئيس كهنتنا هو عظيم.

“لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا ” (عب 4: 15)

يقول أنه لا يجهل ضعفاتنا، مثل رؤساء كهنة كثيرين، الذين لا يعرفون من هم الذين يعانون من الضيقة، بل ولا يعرفون أنه توجد ضيقة لأنه في حالة البشر يستحيل علي من لم يختبرها ولم يشعر بها أن يعرف متاعب من يعاني. إن رئيس كهنتنا قد جُرب في كل شئ ، وقد جرب أولاً ، وبعد ذلك صعد إلى السماء، لكي يستطيع أن يظهر تعاطفا و يُرثي لضعفاتنا.

” مجرب في كل شيء مثلنا بلا خطية .”. لاحظ كيف أنه يذكر الشبه فيما بعد، وهنا يذكر ” مثلنا “. أي أضطهد ، بصق عليه، أتهم، أستهزئ به، وشي به، أخرج خارجاً ، وفي النهاية صلب” مجرب.. مثلنا بلا خطية”. إنه يلمح هنا لشيء آخر، أنه كان من الممكن أن يُجرب دون أن يُخطئ حتى أنه عندما يقول “أخذ جسدا مثلنا ” لا يقصد أن جسده خاضع للشهوة والخطية مثلنا، بل يقصد أنه أخذ جسدا. إذا لماذا قال ” مثلنا “؟” تكلم عن جسد الخطية، وطالما كان جسده شبيها بجسدنا، فهذا الشبه هو بحسب الطبيعة، أما من حيث الخطيئة فلم يكن هو نفس الجسد.

“فلنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة عونا في حينه ” (عب 4: 16 ) .

ماذا يقصد بعرش النعمة؟ يقصد العرش الملوكي، والذي يقول عنه ” قال الرب لربي أجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك ” كما لو أنه قال لنتقدم بثقة، لأن لنا رئيس كهنة بلا خطية، الذي غلب العالم، لأنه يقول ” ثقوا أنا قد غلبت العالم .١. فهنا هو معنى مُجرّب في كل شيء، لكنه بلا خطية. فإن كنا نحن خطاة، وذاك بلا خطية، فكيف نتقدم بثقة؟ نعم نستطيع أن نتقدم بثقة لأننا نتقدم إلى عرش النعمة، وليس إلى عرش الدينونة الآن. ومن أجل هذا يقول ” فلنتقدم بثقة.. لننال رحمة ” كما نطلب، فالأمر هو هكذا سخاء وعطية ملوكية.

” ونجد نعمة عونًا في حينه “. بالصواب قال ” عونا في حينه “. فإن كنت تتقدم الآن، هكذا يقول القديس بولس فستنال نعمة ورحمة، لأنك تتقدم في الوقت المناسب. لكن إن تقدمت في وقت الدينونة، فلن تنال شيئًا، بل وسيكون تقدمك باطلاً في ذلك الوقت لأنه لن يكون هناك عرش نعمة (لأن الوقت سيكون وقت دينونة). إن عرش النعمة هو الوقت الذي فيه يجلس الملك ويعطي نعمة. ولكن عندما تأتي نهاية العالم، عندئذ يقوم الرب، لكي يدين الجميع.

لأن المرنم يقول ” قم يا رب. دن الأرض. ويمكننا أن نقول شيئًا آخر. حين نسمع قوله : ” فلنتقدم بثقة “، أي نتقدم دون أن نشعر بأي شيء رديء فينا، ودون أن نتردد. لأن مثل هذا الإنسان (الذي يشعر بأنه سيء ومتردد)، لا يمكنه أن يتقدم بثقة. ولذلك يقول الكتاب في موضع آخر ” في وقت القبول استجبتك وفي يوم الخلاص أعنتك لأنه كون أننا نجد توبة عن خطايانا التي فعلناها بعد المعمودية فهذا يعتبر دليل نعمة وحتى تتأكد أنه يقوم منتصبا ، وأنت تسمع أنه رئيس كهنة، فإنه على الفور يتوجه به إلى عرش النعمة. لكن الكاهن لا يجلس، بل يقف.

أرأيت أنه لكي يصبح رئيس كهنة، ليس هو عمل الطبيعة، بل عمل نعمته وغفرانه وتواضعه ؟ هذه فرصة لكي نقول نحن الآن أيضًا فلنتقدم ونطلب بثقة، ولتقدم فقط إيمانًا ، وكل شيء سيُعطيه لنا بعد ذلك الآن هو وقت العطية، فلا ينبغي أن ييأس أحد. أما يوم الدينونة، فسيكون وقت يأس، عندما ستغلق غرفة العرس، عندما سيدخل الملك لكي يرى أولئك الذين بالداخل، عندما سيتمتع في أحضان إبراهيم أولئك الذين يستحقون هذه الأحضان لكن الأمر ليس كذلك الآن، لأن المسرح لازال معدًا ، والجهاد لازال مستمرًا، والمكافأة ليست مؤكدة بعد.

إذا فلنجاهد، لأن القديس بولس يقول أيضًا ” أركض هكذا كأنه ليس عن غير يقين. لدينا احتياج لطريق نسلك فيه، بل والطريق لازال طويلاً مَنْ يركض لا ينظر إلى أحد على الإطلاق، سواء انطلق عبر مراعي، أو عبر أماكن جافة. فإن العداء يتطلع إلى الجائزة ولا ينظر صوب المشاهدين، سواء كانوا أغنياء أم فقراء، وسواء تهكم عليه أحد أو مدحه، سواء أهانه أو قذفه بحجر، أو أغلق بيته، وهو لا ينظر إلى أولاده أو زوجته أو أي شيء آخر، لأنه لا يهتم بأي شيء سوی اهتمامه بالجائزة. إنه يكرس جهده في شيء واحد فقط، في العدو، وفي الفوز بالجائزة. العداء لا يتوقف أبداً ، لأنه لو تكاسل حتى ولو لوقت قليل، فإنه يفقد كل شيء. العداء ليس فقط لا يهدأ في سرعته قبل النهاية (نهاية السباق)، بل يُزيدها قوة في تلك اللحظات.

أقول ذلك لأولئك الذين يقولون، كنا نتنسك ونصوم عندما كنا في سن الشباب، لكن الآن نحن في سن الشيخوخة. إلا أنه وبشكل خاص يجب على المرء أن يزيد من التقوى الآن. لا تعدد لي الإنجازات القديمة بالأحرى الآن يجب أن تسلك كشاب وأن تشعر بالعنفوان، لأن من يركض في السباق، منطقيًا عندما تدركه الشيخوخة، لا يستطيع بعد أن يركض بنفس الأسلوب، لأن كل ما له علاقة بالسباق، يعتمد على القوة الجسدية. لكن أنت لأي سبب تقلل من سرعتك؟ لأن الأمر هنا يحتاج إلى نفس متيقظة أو منتبهة. والنفس تتقوى وتزدهر وتبتهج أكثر في الشيخوخة. هذا نشبهه بالجسم، فعندما يُصاب بارتفاع في درجة الحرارة، وتطول فترة مرضه فإن قوته تضعف حتى وإن كان قويًا. ولكن عندما يتحرر من هذا الحصار (حصار المرض، فإنه يستعيد قوته. هكذا هي النفس عندما تكون في شبابها ، تُصاب بارتفاع في درجة الحرارة، وتتملكها رغبة قويه جدا في المجد والمتعة والشهوات الجسدية، وتخيلات أخرى كثيرة، لكن عندما تداهمها الشيخوخة، فإن كل هذه الشهوات تبتعد ، بعضها بسبب عنصر الزمن، والبعض الآخر بسبب ضبط النفس.

إذا بعدما توهن قوة الجسد بالشيخوخة، فإن هذه الشيخوخة لا تترك النفس تستخدم تلك القوة، ولا حتى حين تريد، بل وبعدما تقمعها مثل أعداء، تضعها في مكان خالي من الضجيج أو الصخب مانحه إياها هدوء أو سلام شديد، وتثير فيها مخافة أكثر. إن كل من أدركتهم الشيخوخة ، يعرفون إنهم يقتربون من نهاية حياتهم، وأنهم على كل الأحوال يقتربون من الموت. إذا عندما تتراجع الرغبة في الحياة، ويأتي القضاء المنتظر، وتلين النفس المتقسية، ألا تصير إن أرادت أكثر حذرًا وحرصا ؟ ماذا يحدث إذا ، عندما ترى أن الشيوخ أسوأ من الشباب؟ لا تذكر شرًا مبالغا فيه، لأن المجانيين أيضاً دون أن يدفعهم أحد نراهم يسيرون نحو الهلاك. إذا عندما يكون لدى الشيخ أمراض الشباب، فهذا يمثل شراً هائلاً. ولا أيضا في وقت الشباب يمكن أن يكون هناك مبرر لذلك، لأنه لا يستطيع أن يقول: ” لا تذكر خطايا صباي ولا معاصي.

لأن ذاك الذي يبقى هو نفسه في شيخوخة أي لم يتغير، يظهر أنه عندما كان شابا لم يكن هكذا (أي خاطئ) ، بسبب الجهل أو عدم الخبرة، ولكن بسبب السن. إذا فذاك الذي يصنع كل ما يتفق أو يتلاءم مع إنسان شيخ، ويتغير في شيخوخته، يمكن أن يقول ” لا تذكر خطايا صباي ولا معاصي “. لكن إن كان في شيخوخته يفعل نفس الأفعال الشائنة، فكيف يكون مستحقا أن يُدعى شيخا ، عندما لا يحترم ولا حتى عمره؟ لأن ذاك الذي يقول ” لا تذكر خطايا صباي ولا معاصي “، يقول هذا كما لو كان قد فعلها في شيخوخته. إذا لا تحرم نفسك من الغفران عن خطايا صباك، بسبب الخطايا التي تحدث في الشيخوخة. إن ما يحدث يعد أمرا غير معقول وخارج كل غفران أو مسامحة، أليس كذلك؟ فهناك إنسان شيخ يسكر، يجلس في حانات الخمور، يركض كعداء ويذهب للمسارح وكطفل يركض مع الجمع.

حقا هو أمر مخجل وموضع سخرية من الخارج تبدو زينة المرء بالشعر الأبيض، ومن الداخل يُفكر كالطفل. وإن أهانه أحد الشباب، فأنه على الفور يحتمي بالشعر الأبيض. لكن يجب عليك أن تحترم نفسك أنت أولاً. وإن كنت لا تحترم شيبتك، وأنت في سن الشيخوخة، فكيف تكون مستحق لأن يحترم الشباب هذه الشيبة ؟ أنت لا تحترم الشعر الأبيض، بل تخجله الله كرمك بالشيبة، أعطاك كرامة كبيرة. لماذا تخون هذه الكرامة ؟ كيف سيحترمك الشباب، إذا كنت تفسق أكثر منهم ؟ إن الشيخوخة تكون موضع احترام الجميع، عندما يفعل الشيوخ كل ما يتلاءم مع هيبة الشيخوخة. أما عندما يتصرفون مثل الشباب عندئذ سيكونون موضع سخرية أكثر منهم. إذا كيف يمكنكم أن تُفصحوا بهذه الأمور للشباب، عندما تسكروا أنتم الشيوخ بالفسق والفجور؟ لكنني لا أُدين الشيوخ بكلامي هذا، حاشا ، لكني أتهم الشباب، لأن أولئك الذين يرتكبون هذه الأفعال، أرى أنهم حتى إذا بلغوا إلى عامهم المائة، فإنهم يظلوا شبابا ( في طريقة سلوكهم). تماما كما أن الشباب، حتى إن كانوا بعد أولادا صغارًا يكونوا أفضل من الشيوخ، إذا كانوا متعقلين وهذا ليس كلامي، بل إن الكتاب يُقر هذا التمييز، لأنه يقول ” لأن الشيخوخة المكرمة ليست هي القديمة الأيام ولا هي تقدر بعدد السنين.

4- لأننا بالحقيقة نكرم شيبة الرأس، لا لأننا نفضل لون الشعر الأبيض على الأسود، بل لأن الشيبة تعد برهان على الحياة الفاضلة هكذا نراه، ومن خلاله نفكر في النقاء الداخلي. لكن إن حدث العكس في السن المتقدم، فسيصير الشيوخ موضع سخرية أو تهكم أكثر. لأن الملك أيضًا يُكرمه الثوب الأرجواني والتاج، لأنها رمز السلطة. لكن إن رأيناه بالثوب الأرجواني وهو يُبصق عليه، ويُعتدى عليه من حرّاسه، ويلقى في السجن ،ويُهان ويُشنق فهل يا ترى سنحترم الثوب الأرجواني أو التاج، أخبرني، أم أننا سنبكي لهذا المشهد؟ إذا فأنت غير مستحق أن يُكرمونك لسبب تقدمك في العمر، لأنك تُهين مكانة وهيئة بهية ومكرمة جدًا عندما تظلم أنت شيخوختك : لأن هذه الشيخوخة يجب أن تُكرم منك أنت.

لا أتكلم بهذه الأمور مهاجما الجميع، ولا أتكلم ضد الشيوخ بشكل عام، ولم يُسيطر على الغضب إلى هذا الحد الكبير، بل أتكلم ضد نفس صغيرة تُخجل الشيخوخة. ولا أقول هذا لأنني آسف لهؤلاء الذين أخجلوا سن الشيخوخة. لأن الشيخ هو ملك، إن أراد ، بل هو ملك أكثر من الذي يرتدي الثوب الأرجواني، فهو يضبط شهواته ويُخضعها، كما يُخضع حرّاسه. لكن لو أنه سحب ونزل عن عرشه وصار عبدا لشهوة المال والمجد الباطل، والحياة المرفهة، والمتع، والسكر، والغضب، واللذات الجسدية، ودهن شعره بالزيت، وأظهر أنه يُهين عمره بإرادته فأي عقابا يستحقه مثل هذا الإنسان؟.

ليت الشباب لا يصير مثل هؤلاء (الشيوخ). لأنه لا يوجد عذر لكم عندما تخطئوا. لماذا إذا؟ لأنه من الممكن أن يكون المرء شيخا في شبابه، كما يوجد أيضا بين الشيوخ شباب ، هكذا يحدث العكس أى) يوجد شباب بين الشيوخ). لأنه كما أن شيبة الرأس لا تنقذ شيخًا ، هكذا أيضًا لو كان الشعر أسود، فلن يعيق أحدا ( عن الحكمة). إذا إن كان ما قلته يجعل الشيخ أكثر سوءا، فبالأكثر جدا سيجعل الشباب أكثر سوءا. لكن ولا الشباب أيضًا في منأى عن الإدانة. لأن الشاب يمكن أن يكون لديه عذراً، فقط عندما يُدعى لإدارة الأمور، ويكون عديم الخبرة، ويحتاج لزمن ولخبرة، لكن عندما يتطلب الأمر أن يظهر تعقلاً ورجولة ، فلن يكون لديه عذرًا ، حتى عندما يكون مسئولاً عن تدبير بعض الأمور.

إلا أن هناك حالات يُدان فيها الشاب أكثر من الشيخ لأن ذلك (الشيخ)، يحتاج إلى رعاية كثيرة، لأن (محبة) المال تُرهقه أو تضعفه، بينما (الشاب)، برغم من أنه يستطيع أن يحمي نفسه إن أراد، فأي عذرًا سيكون له، إن لم يرد، وأيضًا عندما يسلب أكثر من الشيخ عندما لا ينسى الإساءة، عندما يهين آخر، عندما لا يهتم أكثر من الشيخ عندما يتكلم كثيرًا في وقت غير مناسب، عندما يشتم، عندما يغتاب، وعندما يسكر؟ لكن إن كان فيما يختص بالتعقل يعتقد أنه لا يُدان لاحظ كيف أنه هنا أيضًا إن أراد سيكون لديه بالطبع معوقات كثيرة. لأنه إن كانت الشهوة تؤرقه بصورة أقوى من الشيخ، إلا أن هناك أمور كثيرة يستطيع أن يفعلها أكثر من ،الشيخ، وأن يُبعد ذلك الوحش (وحش الشهوة). وما هي هذه الأمور؟ أتعاب وقراءات، وأصوام. وربما يقول البعض لماذا يقول هذه الأمور لنا نحن الذين لسنا رهبانًا أو نساكا ؟ هل تقول هذه الأمور لي؟ لتقل هذا للقديس بولس، عندما يقول ” واظبوا على الصلاة و لا تصنعوا تدبيرا للجسد لأجل الشهوات” . فهو لم يكتب هذه الأمور لنساك، بل للذين يعيشون في المدن. 

هل من يحيا في العالم يجب أن يكون لديه شيئا أكثر ومختلف عن الناسك، سوى فقط أنه يعيش مع زوجته؟ في هذه الحالة ينال غفران، لكن في الأمور الأخرى ليست له، بل كل شيء كان ينبغي أن يفعله مثل الناسك والتطوبيات التي قالها المسيح لم يخص بها النساك، لأن كل المسكونة ستُقاد للهلاك (إن كان الأمر هكذا) و ٣ سنتهم ا الله بالقسوة. لكن إن كانت التطويبات قد قيلت فقط للنساك وإن كان من غير الممكن لمن يحيا في العالم أن يحققها، برغم من أنه سمح بالزواج، إذًا فإنه سيهلك الجميع، لأنه إن كان من غير الممكن لشخص متزوج أن يفعل كل ما يفعله النساك، لكان الجميع قد هلكوا ، ولكانت الفضيلة قد انحصرت في حدود ضيقة. وكيف يكون الزواج مكرماً ، وقد صار عائقًا كبيرًا لنا. إذا ماذا يمكننا أن نقول؟ إنه من الممكن، بل هو ممكن جدا، أن تكون لنا زوجات ونمارس الفضيلة إن أردنا كيف؟ نستطيع تحقيق ذلك إذا كنا نعيش كما لو كنا غير متزوجين، وإذا كنا لا نفرح بما نبتاعه، وإن كنا ننشغل بخيرات هذا العالم، وكأننا لا ننشغل بها لكن إن كان البعض قد تعطل بالزواج، فليحيوا ويعرفوا أن الزواج ليس عائقا ، بل (العائق) هو نيتهم التي تحولت بالتفكير السيء عن الزواج. لأنه ولا النبيذ يثير السكر، بل الرغبة الرديئة، واستخدامه أكثر من الحد. تزوج لكن ليكن الزواج مكرما عندك، وهكذا ستكون أولاً في ملكوت الله، وستتمتع بكل الخيرات والتي ليتنا جميعًا ننالها بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة الآن وكل أوان والى دهر الدهور آمين.

  1. هذه العبارة كما جاءت في النص اليوناني، هي ” فليعزي بعضكم البعض”.

تفسير رسالة العبرانيين 3 رسالة العبرانيين 4 تفسير رسالة العبرانيين تفسير العهد الجديد تفسير رسالة العبرانيين 5
القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير عبرانيين 4 تفاسير رسالة العبرانيين تفاسير العهد الجديد
 

زر الذهاب إلى الأعلى