تفسير رسالة كورنثوس الأولى أصحاح ١٥ للقمص تادرس يعقوب ملطي
الباب الخامس
مشاكل أخروية (القيامة من الأموات)
الأصحاح الخامس عشر
القيامة من الأموات
مقدمة
يرى البعض أن هذا الأصحاح هو أهم جزء في الرسالة، بل ويحسبونه من أهم ما كتبه الرسول بولس، حيث قدم لنا مقالاً يجيب علي تساؤلات الكثيرين بخصوص الحق الإنجيلي الرئيسي، وهو التمتع بالقيامة من الأموات خلال المسيح بكر الراقدين. إنه يرفع نظرتنا لأنفسنا من كائنات ضعيفة تعيش في العالم حيث تبدو بعض الخلائق الأخرى كالحيوانات أكثر منا قوة لنرى أنفسنا في المسيح أجمل خليقة اللَّه في المسكونة، نتحدى الموت لنبقى معه في مجده أبديًا.
يرتبط تقديس الكنيسة ككل وكأعضاء في كل جوانب الحياة بالفكر الإنقضائي أو الأخروي، حيث ننتظر قيامة الأموات واللقاء مع ربنا. لهذا جاء ختام قانون الإيمان يؤكد ترقبنا بيقين القيامة من الأموات. فإن غاية إيماننا هو أن نقوم ونوجد مع إلهنا أبديًا. إيماننا بالقيامة من الأموات يتحدى الزمن والقبر، بل والطبيعة، لننال ما هو فائق للطبيعة.
إذ أنكر بعض الكورنثوسيين قيامة الجسد وتساءل البعض عن مدى إمكانية تحقيقها قدّم لنا الرسول قيامة السيد المسيح كتأكيد وباكورة لقيامتنا من الأموات، باكورة الحصاد بين الموتى، واشتراك الجسد مع النفس في المجد الأبدي. كما أجاب في هذا الأصحاح على أربعة أسئلة هامة:
v هل من قيامة للأموات؟ [ 1- 34]
v بأي جسد نقوم؟ [ 35 – 51]
v ما هو موقف الأحياء الذين لم يموتوا عند مجيء الرب؟ [ 51- 54]
v ما هو دورنا العملي خلال رجائنا في القيامة؟ [55- 58 ]
جاء تعليم الرسول عن القيامة يحمل اتجاهات إيجابية قوية منها:
أولاً: قدم التعليم بروح متهللة بالمسيح القائم من الأموات مع فرحٍ شديدٍ بروح النصرة على آخر عدو وهو الموت.
ثانيًا: أبرز أن القيامة أمر فائق للعقل لكنه تعليم مقبول، وعلى العكس إنكارها لن يقبله المنطق البشري السليم، إذ يجعل من الإنسان أشبه بحيوانٍ يعيش إلى حين لينتهي إلى الأبد.
ثالثًا: أكد الرسول أن القيامة تقوم على تدبير ونظام إلهي دقيق، فالمسيح بكر الراقدين، والمؤمنون الأبرار بعده، ويُعاقب إبليس وجنوده أبديًا لتكون النهاية. هذا ومن جانب آخر فإنه لكل مؤمنٍ مجده المتميز قدر ما تجاوب مع نعمة اللَّه الفائقة.
لقد أجاب الرسول في رسائله على السؤالين التاليين:
ماذا لو لم يقم المسيح؟
v يكون الكتاب باطلاً [4].
v لا كفارة لخطايانا [17].
v لا رجاء بعد القبر [18-19].
v ليست قوة إلهية في الحياة (غلا 20:2، في10:3، كو 1:3).
v ليس لنا مخلص حيّ (أع 30:5-31).
v لا يُعلن عن المسيح ابن اللَّه بقوة (رو4:1).
v لا رأس للكنيسة (مت18:16؛ أف22:1؛ 20:2).
ماذا لو لم توجد القيامة من الأموات؟
v ما قام المسيح [13].
v نبقى في خطايانا [17]. بدون القيامة لا يوجد دليل على قبول اللَّه الآب لذبيحة المسيح فدية عن خطايانا.
v يكون إيماننا باطلاً [14]. بدون القيامة لا موضع للإيمان ولا للرجاء.
v تكون كرازتنا باطلة [14]. بدون القيامة لا موضع للإنجيل بالكلية لأننا بهذا نعبد مسيحًا ميتًا. بدونها لا توجد أخبار سارة.
v نصير شهود زور للَّه [15].
v لا رجاء للأموات [18].
v نحيا في بؤسٍ [19].
1. قيامة المسيح وقانون الإيمان 1-11.
إذ يعالج الرسول بولس موضوع القيامة من الأموات لا يرى في القيامة عنصرًا هامًا فحسب من عناصر قانون إيماننا, إنما هو عصب الإيمان. فإن غاية الإنجيل هو التمتع بالقيامة التي تحققت بموت المسيح من أجل خطايانا, ليعلن أنه أعظم من خطايانا وأقوى من الموت, واهبًا إيانا القيامة بقيامته. هذا هو إنجيل خلاصنا وقيامتنا ومجدنا السماوي.
لقد أنكر بعض الكورنثوسيين القيامة من الأموات، ربما ظنوا أن الحديث عنها إنما حديث رمزي، كما فعل هيمينايس وفيليتس، فقالا: “إن القيامة قد صارت” (2 تي 18:2). وكما نادى بعض الهراطقة بأنها ليست إلا تغييرًا في طريقة الحياة. ولعل البعض أنكرها تمامًا لأنه لا يمكن للعقل أن يقبلها ولا للعلم أن يجد تبريرًا لإمكانية حدوثها. كانت القيامة من الأموات حجر عثرة للفلاسفة القدامى، ولا زالت بالنسبة للحركات الفكرية المعاصرة، مثل أصحاب الفكر الإنساني Humanist.
لقد سمح اللَّه بوجود هذه الفئة من منكري القيامة لكي يقدم لنا الرسول صورة حيّة لأهمية الإيمان بالقيامة من الأموات على أساس حيّ، وشهادة صادقة تسند الأجيال المتتالية.
“وأعرفكم أيها الاخوة بالإنجيل الذي بشرتكم به،
وقبلتموه، وتقومون فيه” [1].
v عندما دعا بولس الكورنثوسيين المسيحيين اخوته (أيها الاخوة) يضع الأساس لأهم براهينه المتوالية. فإننا صرنا اخوة خلال عمل المسيح في حياته على الأرض وموته. بعد هذا كله ما هو الإنجيل إلا رسالة أن اللَّه صار إنسانًا, وصلب وقام؟ هذا هو ما أعلنه الملاك جبرائيل للعذراء مريم (لو 1 : 26- 38), وما كرّز به الأنبياء للعالم, وما أعلنه كل الرسل حقيقة.
ما يقدمه لهم الرسول ليس بالتعليم الجديد إنما يذكرهم بما سبق أن بشرهم به وقبلوه، إذ هو الذي أسس الكنيسة هناك (أع 18: 1). يؤكد لهم الرسول بولس أن ما يقدمه لهم هو ذات الإنجيل الذي استلمه وسلّمه إليهم سابقًا. فكرازته تقوم على كلمة اللَّه التي لا تتغير, الحق الأبدي. هذا هو الأساس الثابت الذي يقومون فيه، إن نُزع عنهم فقدوا ثباتهم وسقطوا. الإيمان بالقيامة من الأموات هو أساس المسيحية، إن تشكك أحد فيها سقط كل بنيان نفسه وإيمانه باللَّه ورجاؤه في السماء. لقد قدم لهم “الإنجيل” كبشارةٍ مفرحةٍ، بدأت بمجيء المسيح الأول ليقدم الخلاص وتكمل بمجيئه الأخير وقيامتنا لننعم بثمر عمله الخلاصي أبديًا.
v لم يكن الكورنثوسيون يحتاجون أن يتعلموا هذا التعليم إذ سبق فعرفوه, إنما كانوا محتاجين إلى التذكرة به، وتصحيح أخطاء فهمهم له.
الإنجيل الذي يكرز به الرسول بولس هو: “مات المسيح عن خطايانا، ودُفن، وقام في اليوم الثالث”.
“وتقومون فيه” إن كان موضوع إنجيلنا أو كرازتنا هو التمتع بالقيامة من الأموات، فإننا إن ثبتنا فيه نقوم فيه ولا نسقط، ويصير قيامنا في الإنجيل عربون القيامة الأبدية. بقوله “تقومون فيه” يظهر الرسول دهشته كيف بعد أن قبلوا هذا التعليم وعلي أساسه قامت كنيستهم ورجاؤهم ونموهم الروحي عادوا ينكرونه. أنهم يهدمون كل ما قد بناه الرسول وغيره، بل وما جاهدوا من أجله وما تمتعوا به من نعم إلهية وبركات.
“وبه أيضًا تخلصون
إن كنتم تذكرون أي كلام بشرتكم به
إلا إذا كنتم قد آمنتم عبثًا” [2].
لم يقل “خلصتم” بل “تخلصون“، وكأن الخلاص هو عمل حاضر ومستمر نتمتع به مادُمنا نتذكر إيماننا المستقيم، ونمارسه عمليًا.
v يُظهر بولس لأهل كورنثوس أنهم إذ انحرفوا عن تعليمه, خاصة الإيمان بقيامة الأموات الذي عليه يتأسس تعليمه, فإنهم سيخسرون كل ما آمنوا به.
الأب أمبروسياستر
v قيامة الجسد هي كل موضوع رسالة إنجيلينا. بدونها تصير كل أعمال صلواتنا وأصوامنا بلا معنى.
بيلاجيوس
“فإنني سلمت إليكم في الأول ما قبلته أنا أيضًا
أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب” [3].
لم يقل الرسول: “ما قد علمتكم إياه” و”قد تعلمته” بل قال “سلمتكم” و”ما قبلته“، فإن تعليم القيامة بل وكل المسيحية ليست مجرد مجموعة تعاليم عقلية نقتنع بها أو نؤمن بها لكنها حياة نستلمها ونقبلها بقلوبنا وعقولنا ومشاعرنا مترجمة في كلماتنا وسلوكنا.
v تطلع كيف يدعوهم هم أنفسهم ليكونوا شهودًا عن الأمور التي ينطق بها. لم يقل: “ما سمعتموه” وإنما “ما تسلمتموه” طالبًا منهم نوعًا من هذه الأمور كوديعة تسلّموها، مظهرًا أنه ليس فقط خلال الكلمة وإنما أيضًا بالأعمال والآيات والعجائب التي تسلّموها، وأنه يلزمهم أن يحفظوها في آمان.
القديس يوحنا الذهبي الفم
يلاحظ القديس يوحنا الذهبي الفم أن الرسول لم يقل “ما قد تعلّمته” بل “ما قد تسلّمته” مؤكدًا أمرين: الأول أنه لا يتحدث بشيء من عنده، والثاني أن ما نتعلمه أو نعلمه إنما يصوّر خلال العمل لا الكلمات المجرّدة. لقد أكد الرسول أن مصدر التعليم هو المسيح نفسه وليس من إنسان.
ما قد تسلمه الرسول وأودعه لديهم هو أن المسيح “أُسلم لأجل معاصينا وقام لأجل تبريرنا” (رو25:4). فقد قدم نفسه ذبيحة لغفران خطايانا، وأعلن الآب بالقيامة قبولها ورضاءه عنا. هكذا موت المسيح على الصليب وقيامته هما جوهر الحق الإنجيلي.
“حسب الكتب”:
إذ أوضح الرسول أن القيامة من الأموات هو عصب إيماننا أكد حقيقة القيامة بتأكيد أن موت السيد المسيح وقيامته من الأموات تحقيق لما ورد من نبوات العهد القديم [1- 4]، ومن شهادة شهود العيان [5- 11]. هذه الحقيقة سبق فتنبأ عنها رجال العهد القديم وقدم لنا العهد القديم رموزًا لها مثل يونان في جوف الحوت (مت4:12) وذبح اسحق (عب 19:11)، فجاء إنجيلنا متناغمًا ومكملاً لما ورد من نبوات ورموز وظلال للحق الإنجيلي. فبقوله “حسب الكتب” يوضح أن موت المسيح كذبيحة كفارية وقيامته من أجل تبريرنا ليس بالأمر الجديد، إنما اشتهاه رجال العهد القديم وترقبوه بشوقٍ شديدٍ وتنبأوا عنه ( راجع مز22؛ إش 53 ؛ دا 9: 26؛ زك 12: 10؛ مز 16؛ لو 24: 26، 46).
v قال إشعياء: “سيق كغنم للذبحٍ” (إش 53 : 7) وهكذا. ويضيف سفر الرؤيا (13: 8) أنه ذُبح قبل تأسيس العالم (بإرادته), وفي التثنية (28: 66) “وترى حياتك معلقة قدامك ولا تؤمن“. هذه كتبت بأسلوب المستقبل حتى لا يحتج الأشرار بأنها لا تنطبق على المسيح.
الأب أمبروسياستر
v شرور الخطاة ليست أعظم من برّ ذاك الذي مات من أجلها. الخطايا التي اُرتكبت ليست أعظم من العدالة التي تحققت عندما سلم حياته من أجلنا.
القديس كيرلس الأورشليمي
v قدم حياته مقابل حياة الكل. مات واحد عن الجميع, لكي ما نحيا للَّه مقدسين، ونتمتع بالحياة خلال دمه, ونتبرر كعطيةٍ ننعم بها بنعمته.
v لم يقل فقط “مات المسيح” مع أن هذا القول فيه كفاية ليُعلن عن القيامة، لكنه أضاف “المسيح مات من أجل خطايانا“.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“وأنه دفن، وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب” [4].
دفن السيد المسيح في القبر، ولم يكن القبر بالنسبة له موضعًا للفساد بل كان طريقًا للحياة (أع 2: 26- 28).
يشير هوشع النبي إلى قيامة السيد المسيح في اليوم الثالث (هو 6 : 2).
v “دُفن”: هذا لتأكيد أن المسيح مات الموت البشري حقيقة. ويشير إلينا مرة أخرى إلى الكتب المقدسة كبرهان على ذلك… يرسلك بولس إلى الأسفار المقدسة لكي تتعلم أنه ليس بدون سببٍ ولا مصادفة حدثت هذه الأمور. إذ كيف يمكن أن تكون الأمور هكذا بينما يصفها كثير من الأنبياء ويشيرون إليها مقدمًا؟ عندما يتحدث الكتاب المقدس عن موت ربنا لا يوجد موضع في يشير فيه إلى الخطية إنما هو موت الجسد وحده ودفنه وقيامته.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v يذكرنا بولس أن نعترف بطريقة الموت والقيامة ليس بطريقة حرفية، بل بكل دقة حسب شهادة الكتب المقدسة، حتى يكون فهمنا لموته مطابقًا لفهم الرسل… لقد فعل هذا حتى لا نكون بلا عون، تلطمنا رياح الحوارات الباطلة وتتسلل إلينا الآراء الخاطئة غير اللائقة خفية.
القديس هيلارى أسقف بواتييه
شهادة شهود العيان
بعد أن قدم شهادة الأنبياء وأحداث العهد القديم، الآن يُقدم شهادة شهود عيان كثيرينلقيامة المسيح أو للمسيح القائم من بين الأموات. يقدم خمسة ظهورات سبقت ظهور السيد المسيح له شخصيًا.
§ لبطرس الرسول (صفا).
§ للإثني عشر رسولاً.
§ لخمسة آلاف شخصٍ دفعة واحدة.
§ ليعقوب الرسول على انفراد.
§ لكل الرسل عند صعوده.
§ أخيرًا ظهر له آخر الكل.
v إذ يشير إلى البرهان من الأسفار المقدسة يضيف براهين من الأحداث كشهادةٍ عن القيامة، وذلك بعد أن أشار إلى شهادة الأنبياء ذكر الرسل ومؤمنين آخرين.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“وأنه ظهر لصفا ثم للاثني عشر” [5].
أشار إلى التلاميذ بالإثني عشر، وقد جاءت في بعض الترجمات كالسريانية والسلافونية والفولجاتا وفي بعض كتابات الآباء “الإحدى عشر”.
تعبير “الإثني عشر” لا يعني العدد رقم 12، إنما يحمل إشارة إلى التلاميذ كجماعة معًا، وقد دعوا هكذا حتى بعد خيانة يهوذا، حيث اختير فيما بعد الثاني عشر، وكان شاهدًا لقيامة السيد المسيح. غالبًا ما كان متياس الذي اختير فيما بعد عوض يهوذا الأسخريوطي حاضرًا معهم (أع 1: 22- 23).
لم يشر الرسول إلى كل شهود العيان للقيامة، لكنه اكتفي بمن يثق فيهم الكورنثوسيون، وكان أغلبهم لازالوا أحياء حتى يمكن التحقق منهم بما رأوه. بدأ بالقديس بطرس الرسول ثم بالاثني عشر تلميذًا، ولم يذكر المريمات حتى القديسة مريم والدة الإله لأنهم سوف لا يلتقون بهن.
v يخبرنا الكتاب المقدس أنه ظهر أولاً لمريم (مر 16 : 9). ولكن عندما ظهر للرجال ظهر أولاً للذين طلب منهم بالأكثر أن يروه. ولكن أي الرسل يعنى هنا؟ لأن متياس لم يكن بعد قد أضيف إلى الرقم إلا بعد الصعود. على أي الأحوال يبدو أن المسيح ظهر حتى بعد صعوده إلى السماء. لم يحدد بولس الوقت وإنما يسجل الخبرة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمس مئة أخٍ أكثرهم باقٍ إلى الآن،
ولكن بعضهم قد رقدوا” [6].
في مت 28: 10 طلب السيد المسيح القائم من الأموات أن يذهب تلاميذه إلى الجليل هناك يرونه، ولم يشر أحد من الإنجيليين إلى هذا اللقاء. هناك في الجليل قضى أغلب فترة خدمته العلنية، وهناك اختار أغلب تلاميذه.
غالبًا ما حدث هذا علي جبل تابور في الجليل كما جاء في التقليد الكنسي، حيث تحققت أكثر ظهوراته العلنية كوعده السابق (مت 26: 32؛ 28: 7، 10، 16). وقد عيّن هذا الموضع بعيدًا عن أورشليم حتى يمكن للمؤمنين أن يجتمعوا هناك في أكثر أمانٍ. إذ لم يكن ممكنًا لمثل هذا العدد أن يجتمع معًا للقاء معه في العاصمة بعد أحداث الصلب.
v لم تسجل الأناجيل هذا, لكن بولس عرف ذلك معتمدًا عليهم.
أمبروسياستر
تعبير “قد رقدوا” يشير إلى موت القديسين، فمن جانب يستقبلون الموت كراحةٍ مؤقتةٍ تدخل بهم إلى الراحة الأبدية. يموتون وهم في سلامٍ عميقٍ وهدوءٍ كمن يدخلون إلى أسرتهم ليناموا ويستريحوا. ويحمل هذا التعبير الرجاء في القيامة، وكأنها استيقاظ من النوم (يو11: 11 ؛ 1 كو 11: 30).
v لم يقل بولس أن بعضهم قد ماتوا بل رقدوا, بهذا يؤكد حقيقة القيامة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“وبعد ذلك ظهر ليعقوب
ثم للرسل أجمعين” [7].
لم يذكر الرسول أين تم هذا الظهور ولا ما هي مناسبته، لكنه واضح أنه يتحدث عن يعقوب وكان لا يزال حيًّا. ويعقوب الأصغر، أخ الرب (غلا 1: 19). جاء في الإنجيل بحسب العبرانيين المزيف أن يعقوب أقسم ألا يأكل خبزًا منذ اللحظة التي شرب فيها كأس الرب (في خميس العهد) حتى يراه قائمًا من الأموات.
عند كتابة الرسالة كان يعقوب الآخر قد رقد (أع 12: 1). أما علة ذكره ليعقوب فهو لأنه سمع الشهادة بقيامة الرب من شفتيه، إذ يقول الرسول أنه لم يرَ أحدًا آخر من التلاميذ بعد عودته من العربية سوي يعقوب (غلا 1: 19).
v “بعد ذلك ظهر ليعقوب“، أظن أنه أخ الرب. فقد قيل أن الرب نفسه سامه وأقامه أسقفًا في أورشليم أولاً.
القديس يوحنا الذهبي الفم
أما قوله: “للرسل أجمعين” ربما يقصد هنا السبعين رسولاً (لو10) بجانب الإثني عشر تلميذًا. ربما يشير إلى لقائه معهم عند بحر الجليل (يو21: 14). غالبًا ما كان يظهر لهم في الأربعين يومًا من قيامته إلى صعوده وهم مجتمعون معًا.
v الرسل المشار إليهم هنا يشملون السبعين بجوار الإثني عشر.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي أنا” [8].
v “ظهر لصفا ثم للإثني عشر” فإن كنت لا تصدق شهادة واحد لديك اثنا عشر شاهدًا. “وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمائة أخ“. فإن كانوا لا يصدقون الاثني عشر فليصغوا للخمسمائة شخص. “وبعد ذلك ظهر ليعقوب” أخيه وأول أسقف (ناظر) لهذه الايبارشية (أورشليم). حيث جدير بالملاحظة أن الأسقف نال هذه الميزة أن يرى المسيح القائم من الأموات مع بقية الرسل, فلا تكون غير مصدق. ربما تقول أن أخاه شاهد لا يُوثق فيه, لذلك أكمل “ظهر لي“. ولكن من أنا؟ أنا بولس عدوه. أنا كنت قبلاً مضطهدًا, والآن أكرز بالأخبار السارة للقيامة.
القديس كيرلس الأورشليمى
v لم يقل للاثنى عشر وحدهم بل وأيضًا لبقية الرسل.
يتكلم بكل هذه الأمور كمن ينطق بتواضعٍ…
فلو أنه قال: “يلزمكم أن تصدقوني أن المسيح قام من الأموات، إذ رأيته، وأنا أكثر من الكل أهلاً للثقة، إذ تعبت أكثر منهم جميعًا”، لصدّ السامعون آذانهم.
لكنه الآن إذ عالج المواضيع والاتهامات، ثم نزع عنهم كل ما يزعجهم بخصوص هذا الأمر هيأ الطريق لكي يؤمنوا بشهادته.
وجد الرسول كعادته فرصة ليمارس تواضعه، فحسب نفسه كالجنين الميّت في لحظات لقائه مع القائم من بين الأموات. لم يكن قد هيّأ نفسه للإيمان بل حتى تلك اللحظات كان يقاوِم ويضطهِد ويفتري. دُعي إلى العمل في وقت لم يكن يتوقعه وبطريقة لم تخطر على ذهنه، فحسب نفسه كالسقط الذي كان يلزم الخلاص منه، لكن القائم من الأموات وهبه الحياة الجديدة والميلاد الجديد. دعي نفسه “السقط” ربما لأن السقط يحدث فجأة بطريقة غير متوقعة وقبل زمن الولادة، هكذا تم تحوله إلى الإيمان المسيحي فجأة في طريقه إلى دمشق علي غير موعد وبلا توقع منه أو من الكنيسة أو من اليهود.
أورد لقاءه مع المسيح القائم من الأموات الذي تم بعد صعوده لتأكيد أن الذي رآه التلاميذ والرسل بعد قيامته لم يكن خيالاً ولا رؤى بل رأوا شخصه الحقيقي، وهو بنفسه بعد صعوده بذات الجسد الذي قام به ظهر لبولس الرسول وتحدث معه. ظهوره له لم يكن رؤيا في حلم، بل رؤية حقيقية لشخص المخلّص الصاعد إلى السموات.
v يعنى بولس بـ “السقط” (قبل الموعد) أنه وُلد مرة ثانية بعد الزمن, إذ تسلم رسوليته من المسيح بعد صعود الأخير إلى السماء.
أمبروسياستر
v يقارن بولس نفسه هنا بجنينٍ قد أُجهض حيث يحسبه البعض كأنه لم يُولد كاملاً.
ثيؤدورت أسقف قورش
v “وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي أنا“. هذا بالأحرى تعبير فيه تواضع أكثر من أي شيء آخر. فإنه ليس لأنه هو الأقل ظهر له بعد الكل. فإن كان قد دعاه في الآخر، لكنه ظهر له بطريقة أبرع مما ظهر بها لمن سبقوه، نعم أبرع من الكل.
v كان بولس هو الآخر، ولكن ليس الأقل، كان أكثر بهاء من كثيرين سبقوه, حقًا أعظم من الكل.
القديس يوحنا الذهبي الفم
لأني أصغر الرسل،
أنا الذي لست أهلاً لأن أدعى رسولاً،
لأني اضطهدت كنيسة اللَّه [9].
حسب نفسه آخر الرسل وأصغرهم. في أعماقه كان يشعر أنه ليس أهلاً لهذه الدعوة، ولا لهذا اللقب. وفي نفس الوقت لا يتجاهل عطايا اللَّه له ومواهبه التي تمتع بها من يدي مخلصه وجهاده وأتعابه وآلامه من أجل الخدمة، بهذا “لم أنقص شيئًا عن فائقي الرسل” (2 كو 5:11). بمعنى آخر كان الرسول يذكر على الدوام ماضيه حتى يسلك بروح التواضع، ولا ينسى إحسانات اللَّه معه حتى يقدم ذبيحة شكر دائمة. وكأنه في كل يوم يقدم ذبيحة القلب المنسحق الذي لا يرذله اللَّه، المرتبطة بذبيحة الشكر الدائم التي تفتح أمامه أبواب السماء لينال بغير كيلٍ.
حسب نفسه ليس أهلاً أن يُدعي رسولاً لأنه كان مضطهدًا خطيرًا ضد كنيسة اللَّه، أي كنيسة المسيح، الأمر الذي لم يفعله قط أحد من الرسل.
مع أن اضطهاده للكنيسة كان عن جهلٍ منه، وقد غفر اللَّه له ذلك واختاره رسولاً، لكن كان الرسول يجد صعوبة شديدة أن يغفر لنفسه ما قد ارتكبه.
يشير الرسول إلى جريمته التي لم يستطع أن ينساها، إذ كان يضطهد كنيسة اللَّه. فهو ليس أهلاً أن يُدعي رسولاً ليس عن عجزٍ في سماته كرسول، ولا في إمكانية الشهادة له، وإنما من أجل هذه الجريمة الكبرى التي ارتكبها، فإنه لا يفارقه قط الشعور بالذنب عن الماضي. وقد سمح له اللَّه بذلك لكي يُولد فيه روح التواضع والشعور بعدم الاستحقاق. إشارته إلى ذلك تعطي قوة لشهادته الشخصية، فهو المقاوم للحق الانجيلي والمُضطهد لشخص المسيح في كنيسته، ما كان يمكنه أن يتحول للشهادة دون أن يتيقن من قيامة السيد وصعوده إلى السماء!
v دعا نفسه السقط” [8]، بعد أعمال صالحة عظيمة هكذا فإنه يتواضع ويدعو نفسه “آخر الكل“. هذا بحق تصرف معتدل عظيم وفائق. لم يقل ظهر لي أنا أصغر كل القديسين، بل “أصغر الرسل“. فإن هذا التعبير أقل قوة من الذي أمامنا. جاءت كلماته “الذي لست أهلاً لأن أُدعى رسولاً” [9]. هنا يقول أنه أقل حتى من آخر كل القديسين. يقول: بالنسبة لي الذي هو أقل من آخر كل القديسين أُعطيت نعمة. أية نعمة؟ أن أكرز بين الأمم عن غنى المسيح الذي لا يوصف.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v فإن بولس يعني “الأقل“. بولس ليس إلا الصغير. الآن يفتخر بهذا الاسم مقدمًا درسًا لنا في التواضع عندما يقول: “أنا أصغر الرسل“.
v بولس هو الأصغر لأنه كان الآخر من جهة الزمن, وليس لأنه كان أقل بأية طريقة عن الآخرين.
أمبروسياستر
v ذاك الذي احتمل السجن والجراحات والضربات والذي اصطاد بشباك رسائله العالم, الذي دُعى بواسطة صوت سماوي, يتواضع قائلاً: “أنا أصغر الرسل, لست أهلا لأن أدعى رسولاً“.
v يقول بولس هذا: “لست أهلاً” لأنه كان متواضعًا, وكان بالحقيقة يشعر بهذا في نفسه. لقد غُفر له عن اضطهاده للكنيسة, لكن ما فعله هو عار لن ينساه. لقد تعلم من ذلك عظمة نعمة اللَّه نحوه.
v أنتم الذين تهبون حياتكم من أجل المسيح كيف تضيعون الكنيسة التي لأجلها قدم المسيح حياته؟ اسمع ما يقوله بولس: “لست أهلاً لأن أُدعى رسولاً، لأنني اضطهدت كنيسة اللَّه وكنت أخرّبها” (غلا 13:1). هذا الضرر ليس بأقل مما نالته من أيدي الأعداء، بل أعظم منه بكثير.
v كيف إذن لا تعرفون يا من أنتم مملوءون غيرة على ناموس آبائكم، الذين تربيتم عند قدمي غمالائيل، بينما الذين كانوا يقضون أيامهم عند البحيرات والأنهار بل والعشارون أنفسهم قد قبلوا الإنجيل، وأنتم الذين تدرسون الناموس تضطهدونه؟ لهذا السبب أيضًا دان الرسول نفسه قائلاً: “لست أهلا” أن أُدعى رسولاً” [9]. إنه يعترف بجهله الذي أثمر عدم إيمان.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“ولكن بنعمة اللَّه أنا ما أنا،
ونعمته المعطاة لي لم تكن باطلة،
بل أنا تعبت أكثر منهم جميعهم،
ولكن لا أنا، بل نعمة اللَّه التي معي” [10].
لا يجحد الرسول عطايا اللَّه له، فما هو عليه إنما فعلته النعمة الإلهية فيه. نحن كلا شيء، لكن اللَّه بنعمته جعلنا هكذا أبناء اللَّه مملوءين غيرة مقدسة، ملتهبين بالروح، عاملين بروح القوة لا الفشل. نال الرسول نعمة الرسولية ليس خلال حكمته ولا بتخطيطٍ من عنده، إنما كهبة مجانية من خلال النعمة الإلهية التي رافقته ووهبته إمكانية العمل الرسولي.
تكراره “نعمة اللَّه” في نفس العبارة يؤكد مدى انشغاله بها. فإنه ليس من موضوعٍ يشغل ذهن الرسول بولس في كل كتاباته مثل “نعمة اللَّه“، العلة الوحيدة لتحوله المعجزي الفائق للفكر، التي قدمت له خلاص اللَّه المجاني العجيب، وجددت طبيعته، ووهبته النمو المستمر، وسندته في احتمال الأتعاب والآلام من أجل اللَّه أكثر من جميع الرسل. الآن إذ يشير إلى نفسه وإلي الرسل كان لابد الإشارة إلى نعمة اللَّه التي لها كل الفضل فيما هو عليه.
إذ وُهبت له النعمة الإلهية قَبِلَ صلب الأنا تمامًا، فيقول “لا أنا“، لتعمل النعمة التي معه وفيه, تهبه إرادة جديدة قوية وإمكانية عمل فائقة.
نعمة اللَّه لم تسلبه دوره الحي للجهاد، فقد كان أكثر اجتهادًا من غيره في الكرازة واحتمال المشقات المستمرة والتجاوب العملي معها. هذا ما تكشفه سجلات حياته. هذه الحقيقة لا تدفعه إلى الكبرياء والاعتداد بنفسه، فإنه دومًا يذكر ماضيه السيء، لا ليحطم نفسيته، وإنما لكي بالتواضع يعمل بأكثر قوة, ولكي يحول كل نجاح في حياته إلى تسبحة شكر للَّه.
v يقول بولس كل هذا ليظهر أنه بالرغم من عظمة خطاياه وعدم استحقاقه فإن نعمة اللَّه لم تُوهب له باطلاً.
أمبروسياستر
v “تعبت أكثر من جميعهم“: الذي يقضى زمانه في نعومة وكل ترفٍ بسبب ترف الحياة, والذي يرتدي الأرجوان والكتان الناعم, ويقيم حفلات كل يوم ببذخٍ (لو 16 : 19), والذي يهرب من التعب اللازم للفضيلة، فإنه لن يتعب في هذه الحياة ولا يعيش في المستقبل, بل سيجد الحياة بعيدة عنه عندما يتعذب في نار الأتون.
القديس باسيليوس
v بسرور وبعيني الإيمان يتطلع الكل في مدينة اللَّه إلى هذا الرجل العظيم بولس, هذا المصارع للمسيح, الذي مسحه المسيح وعلّمه. معه سُمر على الصليب, وخلاله تمجد. صار هذا الإنسان منظرًا للعالم, للملائكة والبشر. دخل في جهاد قانوني إلى مسرح هذا العالم واستمر إلى النهاية، فنال إكليل دعوته السماوية.
القديس أغسطينوس
v إن كان بولس متواضعًا هكذا فلماذا يذكر أتعابه؟ التزم أن يفعل ذلك لكي يبرر حقه في الشهادة الموثوق فيها كمعلم.
v بولس معروف لديكم, هذا الذي تعب كثيرًا, وتمتع بنصرات كثيرة هكذا في المعركة ضد الشيطان. كان جسمانيَا يعبر خلال العالم المعروف؛ دار في الأرض والمحيط والجو, كان يدور حول العالم كما لو كان له أجنحة. لقد رُجم وضُرب وقُتل. احتمل كل شيء من أجل اسم اللَّه, ودُعي بصوت سماوي من الأعالي… إننا نعرف ونفهم أنه يقول بأن النعمة التي ننالها لم تجده غير مهتم.
v بعد صعود الرب إلى السماء دُعي بولس، فإنه مثل بقية الرسل الذين لم ينتظروا دعوة ثانية إنما للحال تركوا الشباك وكل ما لديهم وتبعوه، هكذا هذا الإنسان عند دعوته الأولى تحرك بكل نشاطٍ، وإذ اعتمد دخل في معركة مع اليهود في كل موضع. في هذا الأمر فاق بقية الرسل بقوة إذ يقول: “أنا تعبت أكثر منهم جميعهم“ [10].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v “نعمة اللَّه التي معي“: هذا هو المجد الكامل والتام في اللَّه, لا أن يمجد الإنسان بره الذاتي بل يحسب نفسه أنه ينقصه البرّ الحقيقي، وأن يتبرر بالإيمان بالمسيح وحده. تمجد بولس باحتقاره لبره الذاتي. إذ كان يطلب البرّ بالإيمان الذي للَّه بالمسيح طلب فقط أن يعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه, إذ حُسب مشابهًا لموته لكي ينال القيامة من الأموات… إن اللَّه هو الذي يهب فاعلية لأتعابنا.
القديس باسيليوس
v هل رأيتم كيف حصد من فيض بركة اللَّه وكيف ساهم بسخاء من جانبه بغيرته وحماسه وإيمانه وشجاعته وصبره وسمو فكره وإرادته التي لا تخور؟ لهذا استحق عونًا من فوق بقياس أوسع.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v
انظروا مرة أخرى إلى تواضعه الزائد؟ ينسب الضعفات إلى نفسه، وأما الصالحات فلا ينسب منها شيئًا لنفسه بل يشير إلى كل الصالحات للَّه…، قائلاً: “لا أنا بل نعمة اللَّه التي معي“، أي أمرٍ أكثر عجبًا من مثل هذه النفس؟ فإنه في أمورٍ كثيرة يضغط على نفسه، ناطقًا بكلمة واحدة (كرزت) وحتى هذه التي يدعوها كرازته، مع ذلك يجد طرقًا كثيرة في الأمور السابقة واللاحقة ليستخدم هذا التعبير السامي، إذ جاء إليها عن ضرورة.
v عندما نسمع هذه الأمور لنفضح ضعفاتنا، ولا ننطق بشيء عن أمورنا الحسنة… ليته بهذا لا يسقط أحد في اليأس عندما يخطئ، ولا يعتد أحد بنفسه وهو في الفضيلة، بل ليخف الأول بالأكثر والثاني فليتقدم في الفضيلة. فإنه لن يثبت أحد متكاسل في الفضيلة، ولا يبقى أحد مجتهد ضعيفًا في الهروب من الشر.
v لم يعمل بولس لينال نعمة, وإنما نال النعمة لكي يجاهد.
v كيف إذن يمكن إتمام وصية اللَّه ولو بصعوبة بدون عونه, حيث أنه ما لم يبنِ الرب باطلاً يتعب البنّاء.
v قد بلغ معلم الأمم درجة الرسولية بنعمة اللَّه إذ يقول: “بنعمة اللَّه أنا ما أنا”، وفي نفس الوقت يعلن أنه قد وافق النعمة الإلهية قائلاً: “ونعمتهُ المعطاة لي لم تكن باطلةً بل أنا تعبت أكثر من جميعهم” (1كو10:15). فعندما يقول: “أنا تعبت” يظهر جهاد إرادته، وعندما يقول: “ولكن لا أنا بل نعمة اللَّه” يشير إلى قيمة الحماية الإلهية. وعندما يقول: “التي معي” يؤكد تعاون النعمة معه عندما لا يكون في كسلٍ أو إهمالٍ بل عاملاً ومجاهدًا.
الأب شيريمون
“فسواء أنا أم أولئك هكذا نكرز وهكذا أمنتم” [11].
يؤكد لهم الرسول أنه ليس وحده الذي كرز بذات الإنجيل في كل وقت وفي كل مكان، إنما هو ذات الإنجيل الذي كرز به سائر الرسل. الكل قدّموا ذات الحق، ذات القصة، كرزوا بصلب السيد المسيح وموته وقيامته. الكل لهم ذات الإيمان الذي به يعيشون وفيه يموتون. هذا هو الإيمان الرسولي الذي كرز به الرسل وقبله المؤمنون. فمن يكرز بغير هذا لا يمارس العمل الرسولي.
الموضوع الرئيسي هو تثبيت الحق الإنجيلي الخاصة بقيامة المسيح من الأموات، أما من الذي يُبشر به فهو أمر ثانوي، لأن الجميع يبشرون بذات الحق.
v لم يتوقع بولس من الكورنثوسيين أن يختاروا بينه وبين غيره من الرسل. لقد برر سلطانه كمعلمٍ، وفي نفس الوقت ثبت الآخرين أيضًا. لا يوجد فرق بينهم, حيث أن سلطانهم واحد…
v يقول: “ممن تتعلّمون؟ فلتختاروا ذلك وتعلّموا، فإنه لا يوجد اختلاف بيننا”. لم يقل: “إن لم تصدّقوني صدّقوهم”، بل وهو يحسب نفسه أهلاً للثقة ويقول أن ما نطق به فيه الكفاية يؤكد نفس الأمر بالنسبة لهم أنفسهم. فإن اختلاف الأشخاص لا موضع له، سلطانهم متساوي. وفي رسالته إلى أهل غلاطية… أوضح أنه هو فيه الكفاية إذ يقول: “لم يشيروا عليّ بشيء” (غلا 6:2)، ومع ذلك سار في اتفاق معهم.
v حسنًا يقول: “نكرز” مشيرًا إلى جرأته العظيمة في الكلام. فإننا لسنا نتكلم سرًا ولا في زاوية بل ننطق بصوتٍ واضحٍ أكثر من البوق.
لم يقل “كرزنا” بل إلى الآن “نكرز“، “وهكذا آمنتم” لم يقل هنا “تؤمنون” بل “آمنتم”. فإنهم إذ اهتزّوا في الفكر يعود بهم إلى الأزمنة السابقة مضيفًا شهادتهم هم أنفسهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
2. قيامة المسيح أساس قيامتنا 12-19.
بعد أن أكد قيامة المسيح كتحقيقٍ لما ورد في الكتب وخلال شهود العيان الآن يؤكد القيامة خلال إبراز عدم قبول التعليم المناقض للإيمان بالقيامة موضحًا خطورة هذا التعليم:
أولاً: عدم الإيمان بالقيامة يستلزم إنكار قيامة المسيح [13].
ثانيًا: إنكار قيامة المسيح يجعل كرازتنا باطلة وإيماننا بلا نفعٍ [14].
ثالثًا: هذا التعليم يحمل اتهامًا ضد الرسل كشهود زور وأشرار، إذ يكرزون بالقيامة [15].
رابعًا: بدون قيامة المسيح يغلق الكورنثوسيون أبواب الرجاء في نوال غفران خطاياهم [16-17].
خامسًا: بدون القيامة يُحسب كل أصدقائنا القديسين مفقودين [18].
سادسًا: بدونها يكون المؤمنون أشقى جميع الناس [19].
سابعًا: بدونها يكون الإيمان بالمعمودية باطلاً، لأنها تصير دفنًا مع المسيح دون قيامة [29].
ثامنًا: يصير احتمال أتعاب الكرازة والاستشهاد بلا فائدة [30 – 32].
“ولكن إن كان المسيح يكرز به أنه قام من الأموات،
فكيف يقول قوم بينكم أن ليس قيامة أموات؟” [12]
إن كنا نحن جميعًا (الرسل) نكرز بالقيامة كشهود عيانٍ لها، فكيف يتجاسر بعض الكورنثوسيين وينكرون القيامة من الأموات؟ حديث الرسول يوضح أن أهل كورنثوس كانوا يدركون بالأدلة القاطعة قيامة السيد المسيح، لكن قومًا منهم كانوا كانوا يظنون أن القيامة من الأموات أمر مستحيل. هؤلاء القوم إما أنهم من أصل يهودي لازالوا يكنون شيئًا من الالتزام بالاحتفاظ بفكر الصدوقيين منكري القيامة، أو من الأمم تأثروا ببعض الفلسفات الغنوصية التي أفسدت تعاليمهم.
v يقيم بولس برهانه عن قيامة الأموات على حقيقة قيامة المسيح. حقيقة الأخيرة تعطى ضمانًا لحقيقة السابقة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v أي جُرم خطير ألا نؤمن بقيامة الأموات, فإنه إن كنا لا نقوم, باطلاً مات المسيح ولم يقم. وإن كان لم يقم من أجلنا فإنه لم يقم نهائيًا, فإنه ليس من سبب لأجله يلزمه أن يقوم من أجل نفسه.
القديس أمبروسيوس
“فإن لم تكن قيامة أموات فلا يكون المسيح قد قام” [13].
إذ شاركنا كلمة اللَّه المتجسد في اللحم والدم، وقد وعد بإقامة البشرية من الأموات بقيامته، فإنه إن كان الأموات لا يقومون يكون المسيح أيضًا لم يقم.
إن لم تكن توجد قيامة عامة للأموات بالتبعية لا يمكن أن توجد قيامة للمسيح، إذ تكون بلا معنى ما لم تقدم لنا إمكانية القيامة. فما يتمتع به الرأس يناله بقية الجسم. قيامتنا مرتبطة بقيامته، لا تنفصل عنها (1 كو 15: 20، 22 ؛ يو 14: 19).
v تعتمد الواحدة عن الأخرى, فإما تؤمن بالاثنين أو ترفضهما.
بيلاجيوس
v ليس لأنه ما قد حدث محتاج إلى برهان، وإنما لكي يظهر أن الاثنين مستحقان الإيمان بهما على قدم المساواة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“وإن لم يكن المسيح قد قام،
فباطلة كرازتنا، وباطل أيضًا إيمانكم” [14].
بإنكار قيامة المسيح يصير كل التعليم باطلاً بلا نفع ولا لزوم للإيمان.
كلمة “باطل” هنا معناها “فارغ” أو “غير حقيقي”، أو “بلا نفع”.
v يريد بولس القول هنا أنه بالمنطق إن كان المسيح لم يقم فهذا يجحد الحقائق التاريخية. عوض هذا يقول أمرًا بالحقيقة هو أكثر ارتباطًا بالكورنثوسيين ومرعب لهم. فإنه إن كان المسيح لم يقم من بين الأموات تكون كرازة بولس بلا نفع ويكون إيمانهم بلا معنى.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“ونوجد نحن أيضًا شهود زور للَّه،
لأننا شهدنا من جهة اللَّه أنه أقام المسيح،
وهو لم يقمه إن كان الموتى لا يقومون” [15].
إذ شهد الرسول ومن معه بقيامة المسيح فإن رفض قيامة الأموات هو توجيه اتهام ضد الرسل إنهم شهود زور للَّه. وإن كان الرسل يشهدون زورًا، فهل يمكن أن يتفق الخمسمائة علي شهادة زور في حدث رأوه كلهم معًا دفعةً واحدةً؟ ولو أن هذا صحيح ألم يوجد بينهم شخص واحد يكشف عن تزوير شهادتهم؟ لهذا فإن الشهادة لقيامة المسيح حقيقة ثابتة لا يمكن جحدها.
“لأنه إن كان الموتى لا يقومون فلا يكون المسيح قد قام” [16].
“وان لم يكن المسيح قد قام،
فباطل إيمانكم،
أنتم بعد في خطاياكم” [17].
v انظروا عظمة سرّ التدبير؟ فإنه هكذا إن كان بعد الموت لم يكن قادرًا على إزالة الخطية، فإنه لم تنحل الخطية ولا طُرد الموت ولا زالت اللعنة عنهم! لا تكون كرازتنا باطلة فحسب، بل ويكون إيمانكم باطلاً.
v إن كان هذا عمل غير معقول، وإن اللَّه لم يقمه كما تقولون فإن هذا يتبعه أمور أخرى غير معقولة… لكن إن كان لم يقم فإنه لم يذبح. وإن كان لم يُذبح فالخطية لم تُنزع. وإن كانت لم تنُزع فأنتم في الخطية. وإن كنتم في الخطية تكون كرازتنا باطلة. وإن كانت كرازتنا باطلة يكون إيمانكم باطلاً بأنكم قد تصالحتم. بجانب هذا يبقى الموت خالدًا إن لم يكن قد أزاله. لأنه إن كان قد أُمسك في الموت ولم ينزع عنه آلامه فقط يزيله عن الآخرين ما دام هـو ممسـك فيه؟ لذلك أضاف: “إذًا الذين رقدوا في المسيح أيضًا هلكوا“ [18] .
القديس يوحنا الذهبي الفم
v إن كان الصليب هو فكرة خاطئة, فالقيامة أيضًا فكرة مضللة, وإن كان المسيح لم يقم فإننا نبقى في خطايانا. إن كان الصليب تضليلاً, فإن الصعود أيضًا تضليل, وأخيرًا يصير كل شيء بلا قيمة.
القديس كيرلس الأورشليمي
“اذَا الذين رقدوا في المسيح أيضًا هلكوا” [18].
بهذا كل الذين استشهدوا أو ماتوا وهم في الإيمان بالمسيح يسوع قد هلكوا، لأن رجاءهم لا أساس له، وإيمانهم لا يقوم علي الحق. أجسامهم تنحل في الأرض ولا يتحقق وعد السيد المسيح أنهم يقومون في اليوم الأخير (يو 5:25، 28-29؛ 11: 25-26).
عندما يتحدث عن المسيح يقول: “مات” ليؤكد الرسول حقيقة آلامه وصلبه وموته، وعندما يتحدث عن المؤمنين يقول: “رقدوا في المسيح” ليؤكد أنهم خلال شركتهم معه كأعضاء جسده صار لهم رجاء القيامة، فهم أشبه بالراقدين حتى يستيقظوا. بالنسبة للسيد المسيح قد تحققت القيامة فعلاً لذا لم يخجل من القول بأن المسيح قد مات، إذ صار موته مجيدًا بقيامته، أما بالنسبة لنا فستتحقق قيامة أجسادنا خلال الرجاء، لهذا يستخدم تعبير “الرقاد” لتطمئن نفوسنا.
أما قوله “هلكوا” فيشير إلى نفوسهم التي فُقدت في شقاء العالم غير المنظور.
من الصعب أن يقبل الإنسان عدم قيامة الأموات عندما يرقد أحد أقربائه أو أصدقائه ويكون مقدسًا للرب، لأنه بهذا يكون قد حسبه مفقودًا إلى الأبد. من يقدر أن يقبل تعليمًا يحمل هذه النتيجة المرة؟!
v “رقدوا“: يقول بولس ذلك لأنه بهذا لن يصغي الكورنثوسيون بعد إلى الأنبياء الكذبة عندما يتحققون أن موتاهم قد فعلوا هذا (رقدوا), هؤلاء الذين يحبونهم, يؤخذون منهم.
أمبروسياستر
“إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح،
فإننا أشقى جميع الناس” [19].
إن كان رجاؤنا في المسيح يقف عند الحياة الحاضرة نكون مخدوعين لأننا نحتمل آلامًا أكثر من غيرنا؛ ونمارس الإماتة اليومية، ونُضطهد.
إن كان الوثنيون بلا رجاء (أف 2: 12؛ ا تس 4: 13) فإننا نصير نحن أكثر بؤسًا منهم، لأننا لا نتمتع أيضًا بالملذات الحاضرة (كو 4: 9). رجاؤنا ليس في انفصال النفس عن الجسد وإنما اتحاد النفس بالجسد القائم من الأموات.
ظن بعض الدارسين أن الرسول يتحدث هنا عن الرسل، لكن واضح أن حديثه يشمل كل المؤمنين الصادقين في إيمانهم وجهادهم. فمن جهة لم تكن العبارات السابقة خاصة بالرسل وحدهم، ومن جهة أخرى فإن جميع المؤمنين الحقيقيين مدعوون لحمل الصليب والدخول من الباب الضيق والطريق الكرب لمشاركة المسيح آلامه وصلبه.
إن كان المسيحي الحقيقي يشعر أنه أسعد كائن علي وجه الأرض إنما خلال اتحاده بالمسيح القائم من الأموات، وخلال انفتاح أبواب السماء أمامه مترجيًا كمال المجد أبديًا. بدون القيامة من الأموات يصير أكثر الناس بؤسًا، لأنه يحتمل آلامًا مرَّة، ويدخل طريقًا ضيقًا ينتهي بالانحدار في القبر بلا عودة. يتعرض هنا للاضطهادات ويحرم جسمه من الملذات بإرادته لأنه ينعم بعربون المسرات السماوية.
v قال بولس هذا ليس لأن الرجاء في المسيح شقاوة، وإنما لأن المسيح يعد حياة أخرى للذين يترجونه. فإن هذه الحياة معرضة للخطية, أما الحياة العلوية فمحفوظة مكافأة لنا.
القديس أمبروسيوس
v واضح أنه لنا رجاء في المسيح في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى. لا يحرم المسيح خدامه بل يهبهم نعمة, وفي المستقبل سيقطنون في مجدٍ أبديٍ.
أمبروسياستر
v إن كان الجسم لا يقوم تبقى النفس غير مكللة بدون هذا التطويب الذي في السماء. وإن كان الأمر هكذا فإننا لا نتمتع بشيء بالمرة، وإذ لا ننعم بشيء عندئذ تكون مكافأتنا في الحاضر… قال هذه الأمور ليؤكد تعليم قيامة الجسد، ويحثهم أن يهتموا بالحياة الخالدة حتى لا يظنوا أن كل اهتماماتهم تنتهي مع العالم الحاضر… وإنما تعتمد على القيامة. هنا شهادة واضحة أن مقاله لا يخص القيامة من الخطايا بل قيامة الأجسام، والقيامة من الحياة الحاضرة إلى العتيدة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v لذلك لا يكون الرجاء في المسيح لأجل هذه الحياة وحدها حيث يمكن للشر أن يسود أكثر من الصلاح, والذين يفعلون الشر هم أكثر سعادة, والذين يمارسون الحياة المملوءة جرائم أكثر غنى.
مكسيموس أسقف تورين
3. قيامة المسيح ضمان لقيامتنا 20.
بعد أن عدد الرسول نتائج عدم الإيمان بقيامة السيد المسيح وبالتالي عدم قيامتنا من الأموات، وذكر أن هذا يُفسد الكرازة ويحطم الإنجيل وينسب للرسل أنهم شهود زور للَّه، ويغلق أبواب الرجاء في السماء ويحول الحياة المسيحية إلى شقاء مرير يصرخ بروح القوة: “الآن قد قام المسيح من الأموات وصار باكورة الراقدين“. إنها حقيقة لا يُشك فيها! أمر لا يحتاج إلى برهان! فتحت لنا أبواب الرجاء، وحولت حياتنا إلى فرحٍ مجيٍد لا يُنطق به!
“ولكن الآن قد قام المسيح من الأموات،
وصار باكورة الراقدين” [20].
تؤكد البكور وجود المحصول، وتؤكد قيامة المسيح تحقيق قيامتنا. يليق بدعوة قيامة المسيح بكرًا لقيامتنا، لأنه حسب الطقس اليهودي كان الفصح أولاً، واليوم الذي يليه هو السبت العظيم، وفي اليوم التالي تُقدم البكور. هكذا مسيحنا هو فصحنا الذي صلب، واليوم التالي لصلبه هو السبت، ثم تقُدم البكور في يوم الأحد، اليوم الأول من الأسبوع حيث قام البكر من الأموات.
يمتاز البكر بأنه السابق للكل، وأفضل الكل، والمكرس للَّه، وبه يتقدس المحصول كله. من جهة الزمن لم يكن السيد المسيح هو أول القائمين من الأموات، فقد قام الميت الذي لمس عظام أليشع النبي، وأقام السيد المسيح الصبية ابنة يايرس، والشاب وحيد أمه الأرملة، ولعازر أخ مريم ومرثا، لكن جميعهم قاموا إلى حين وماتوا. أما المخلص فقام بسلطانه كبكرٍ فائقٍ لا يعود يموت. إنه السنبلة الأولى الناضجة التي يمسك بها الكاهن ويلوح إعلانًا عن أنها مكرسة للَّه، بها يتقدس كل الحصاد.
v يقول بولس ذلك من أجل الأنبياء الكذبة الذين يدعون أن المسيح لم يُولد قط، وبهذا لم يكن ممكنًا أنه يُصلب. القيامة من بين الأموات تبرهن أن المسيح كان إنسانًا وبالتالى قادر ببره أن يستحق القيامة من الأموات.
أمبروسياستر
v ذاق الموت من أجل الكل. وإن كان بالطبيعة هو نفسه الحياة، وهو القيامة, فقد حوّط جسمه بالموت. بقوته القادرة وطاء الموت في جسمه ليصير البكر بين الأموات وبكر الذين رقدوا…
إن كانت القيامة من الأموات يُقال أنها تتم خلال إنسانٍ, والإنسان الذي نعرفه خلالها هو الكلمة المولود من اللَّه, خلاله تحطمت قوة الموت.
v لم يتألم الكلمة بالطبيعة بكونه اللَّه, لكن آلام جسمه هي حسب تدبيره. فإنه بأية طريقة يكون هو بكر كل الخليقة خلاله يأتي الرئاسات والقوات والكراسى والسلاطين, الذي يجتمع الكل معا, وبأية طريقة يصير البكر بين الأموات والبكر للراقدين ما لم يكن هو الكلمة, بكونه اللَّه, الذي صنع جسمه مولودًا كي يتألم؟
القديس كيرلس الكبير
4. قيامة المسيح علاج إلهي لسقوطنا 21-23.
“فإنه إذ الموت بإنسانٍ،
بإنسانٍ أيضًا قيامة الأموات” [21].
يقصد بالإنسان هنا آدم، بعصيانه دخل الموت إلى العالم، أو حلّ بالطبيعة البشرية. لذا كان لزامًا أن يتحقق علاج هذا الأمر بنفس الطريق، خلال إنسان قادر أن يمحو هذا العصيان، ويجدد الطبيعة البشرية، ويدخل بها إلى القيامة أو الخلود. هكذا أدخل الإنسان الفساد إلى العالم، وشفى الإنسان هذا الفساد.
جاءت القيامة بإنسانٍ آخر، هو الكلمة الإلهي المتأنس الذي في سلطانه أن يهب القيامة للموتى، ويرد للبشرية سلامتها وكرامتها وسلطانها، فلا تعود تموت بعد القيامة.
في آدم لم يتحقق الموت فورًا لأنه لم يكن كل نسله قد ولدوا لكنه حلّ بالطبع البشري، وصار له سلطان على كل البشرية القادمة. الآن في المسيح يسوع نالت البشرية بالإيمان سلطانًا فلا يقوى عليها الموت بل صار طريقًا للعبور حتى يتمتع الثابتون فيه بالقيامة المجيدة.
بسقوط آدم حلّ الموت الروحي أيضًا علي الطبيعة البشرية وبقيامة المسيح تحل القيامة الأولى أو الروحية بالمؤمنين به والمتحدين معه، الحاملين برَّه. فتتحقق قيامتنا بسبب اتحادنا به؛ وليس لنا فضل فيها.
صار المسيح واحدًا منا، حمل ناسوتنا حتى كما بإنسانٍ سقطنا تحت الموت بإنسانٍ صارت لنا القيامة. إذ جلب بكرنا الأول علينا لعنة الموت جلب الثاني لنا مجد القيامة.
v فإنه بواسطة ذبيحة جسده وضع حدًا للناموس الذي ضدنا، وأقام بداية جديدة للحياة, بالرجاء في القيامة التي يهبنا إياها. فإنه حيث بإنسانٍ قد ملك الموت على البشر, لهذا بكلمة اللَّه, الذي صار إنسانًا تحقق هلاك الموت وقيامة الحياة.
البابا أثناسيوس الرسولي
v لو أن رحلة الرب في الجسد لم تحدث, ما كان المخلص قد دفع للموت ثمنًا. ما كان يحطم سلطان الموت بقوته. لو أن الجسد الذي خضع للموت هو شيء والجسد الذي أخذه الرب شيء آخر, عندئذ ما كان يمكن للموت أن يبطل من ممارسة أعماله, وما كانت آلام الإله المتجسد لها نفع؛ نحن الذين مُتنا في آدم ما كان يمكننا أن نحيا في المسيح.
القديس باسيليوس الكبير
v نحن نعرفه أنه بكر الذين استراحوا, بكر الأموات. دون أي نقاش البكر هو من ذات سمات وطبيعة بقية الثمار… لهذا كما أن بكر الموت كان في آدم هكذا بكر القيامة هو في المسيح.
القديس أمبروسيوس
v ذاق الموت في جسده من أجل كل إنسان، هذا الذي كان يمكن أن يحتمل الموت دون أن يفقد كونه الحياة. لهذا مع كونه قد قيل أنه تألم في جسده إلا أنه لم يقبل الألم في طبيعة لاهوته بل في جسده القابل للألم.
القديس كيرلس الكبير
v الطبيعة البشرية نفسها التي انحطت يلزمها هي نفسها أن تقتني النصرة. لأنه بهذه الوسيلة يُنزع العار.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“لأنه كما في آدم يموت الجميع،
هكذا في المسيح سيحيا الجميع” [22].
جاء الموت بآدم وتحقق الخلود بالمسيح. كما خضع الكل بالطبيعة للموت بواسطة آدم، فبالنعمة ينالون القيامة بالمسيح يسوع.
v إن كان آدم هو رمز للمسيح، فإن نوم آدم هو رمز لموت المسيح, وبالجرح في جنب المسيح يرمز للكنيسة أم كل حيٍ الحقيقية.
العلامة ترتليان
v
لا يدخل بشري إلى الموت إلا خلال آدم, ولا يدخل أحد إلى الحياة إلا خلال المسيح. هذا هو معنى تكرار تعبير “الجميع” فإنه كما أن كل البشر ينتسبون لآدم خلال ميلادهم الأول أو الجسدي, هكذا كل البشر الذين ينتمون للمسيح يأتون إلى الميلاد الثاني أي الروحى. لهذا يقول “الجميع” في كلا الموضعين, فإنه كما أن كل الذين يموتون يموتون فقط في آدم, هكذا كل الذين يحيون لن يحيوا إلا في المسيح.
v بوجهٍ عام نقول أن الكل يدخلون بيتًا ما خلال بابٍ واحدٍ, ليس لأن كل الجنس البشري يدخل ذاك البيت، وإنما لأنه لا يدخل أحد إلا من هذا الباب. بنفس المعنى كما أن الكل يموت في آدم هكذا كل الذين يحيون فسيحيون في المسيح… فإنه لا يوجد اسم آخر تحت السماء بجانب الوسيط الواحد بين اللَّه والبشر الإنسان يسوع المسيح, به يمكن أن نخلص.
v هذا لا يعنى أن كل الذين يموتون في آدم سيصيرون أعضاء المسيح, حيث أن الغالبية ستُعاقب في الأبدية بموتٍ ثانٍ.
يستخدم الرسول كلمة “جميع” في العبارتين لأنه لا يموت أحد في جسد طبيعي إلا آدم, هكذا لا يصير أحد حيًا مرة أخرى في جسد روحي إلا في المسيح.
v بالحقيقة جلب الإنسان الموت لنفسه كما لابن الإنسان, أما ابن الإنسان فبموته وقيامته جلب الحياة للإنسان.
القديس أغسطينوس
v إن تحدثنا بدقة ليس كل أحد يموت, فإن اخنوخ وإيليا كمثال لم يموتا. وسيوجد أشخاص أحياء في المجيء الثاني للمخلص.
سفيريان أسقف جبالة
v مات آدم لأنه أخطأ، ومات المسيح الذي بلا خطية، غالبًا الموت الذي جاء من الخطية. ويقوم كل أحدٍ, البار والشرير، على السواء في المسيح، لكن غير المؤمنين يُسلمون للعقوبة, بالرغم من ظهورهم أنهم قاموا من الأموات, إذ هم يقبلون أجسادهم لكي يتحملوا عقوبةً أبديةً بسبب عدم إيمانهم.
أمبروسياستر
v لاحظ كيف أنه يؤكد “واحد” و”واحد”, أي آدم والمسيح, الأول للدينونة والثاني للتبرير… واضح أنه يتكلم عن قيامة الأبرار حيث تكون الحياة الأبدية, وليس قيامة الأشرار حيث يكون الموت الأبدي. هؤلاء الذين سيحيون هم مقابل الآخرين الذين سوف ينزلون إلى جهنم.
v كما أن الذي يُولد من الأول يموت، هكذا من يؤمن بالمسيح يحيا، بشرط أن يرتدي ثوب العرس، ويُدعى ليبقى لا أن يُطرد.
v بهذه الطريقة نتجدد بخصوص ما فقده آدم، أي في روح عقولنا، أما بخصوص الجسد الذي يُزرع جسدًا طبيعيًا فسيقوم جسدًا روحيًا. عندما نتجدد ننعم بحالة أفضل لم ينلها بعد آدم.
القديس أغسطينوس
“ولكن كل واحد في رتبته:
المسيح باكورة
ثم الذين للمسيح في مجيئه” [23].
يشير الرسول إلى ثلاث رتب: الأولى المسيح الذي قام بسلطانه كبكرٍ للأموات، ثم الذين للمسيح يقومون لينالوا الخلود والمكافأة الأبدية عند مجيئه الأخير في يوم الدينونة، وأخيرًا تتحقق النهاية حين تُعلن هزيمة عدو الخير، إبليس وجنوده.
قام السيد المسيح أولاً باكورة الراقدين، ثم تقوم البشرية كلها في يوم الدينونة، لكن يبدو أن المؤمنين يقومون معًا كعروسٍ واحدةٍ مقدسةٍ مفرزةٍ من الأشرار، ويقوم الأشرار أيضًا لكنهم يرون مجد الأبرار وفرحهم في لقائهم بالرب، أما هم فيُحرمون منه، بل وينالون عقوبةً أبديةً. لذا جاءت أمثلة السيد المسيح عن القيامة دائما تبدأ بمكافأة الأبرار يليها عقوبة الأشرار.
ففي القيامة يقوم الكل في لحظة في طرف عين، لكن كل واحدٍ في رتبته ينال مكافأته، أما إبليس وجنوده والذين قبلوا البنوة له فهم آخر الكل.
جاءت الكلمة العبرية المترجمة “رتبته” كاصطلاح يُستخدم عادة في التنظيم العسكري وفرق الجيش. كأن الرسول يتطلع إلى موكب القيامة كموكبٍ عسكريٍ تمتع بالغلبة علي العدو، وها هو يدخل عاصمة الدولة وتستقبلهم الجماهير بالأغاني والتهليل. هكذا يدخل قائد الموكب السيد المسيح الغالب لإبليس ومملكته ووراءه جنوده الغالبون كل حسب درجته في الإيمان العملي وتمتعه بالنصرات.
إذ هو باكورة الراقدين فتح أبواب الرجاء أمام الموتى لكي يقوموا. صار الموتى أشبه بالمحصول اليهودي الذي يتبارك ويُحسب كله تقدمة مقبولة لدى اللَّه بتقديم البكور. تأكدت الكنيسة كلها خلال رأسها القائم من الأموات أنها تتمتع بالقيامة معه. إذ قام الرأس سيحضر معه كل الراقدين (ا تس 14:4). هكذا صارت قيامته عربونًا لقيامتنا إن كنا نؤمن به ونتحد معه.
v بالرغم من أن الكل أدرجوا في داخل إيمانٍ واحدٍ, واغتسلوا في معموديةٍ واحدةٍ, لكن عملية النضوج في الإيمان ليست واحدة للكل, بل كل واحدٍ حسب رتبته.
العلامة أوريجينوس
v ثمرة الرحمة الإلهية عامة للكل, ولكن رتبة الاستحقاق تختلف.
القديس أمبروسيوس
v ليس لأن الكل سيقومون من الأموات تظنون أن الجميع يتمتعون بذات المزايا، حيث أنه في العقوبة لا يعاني الكل نفس الألم، بل سيكون الاختلاف عظيمًا، وبالأكثر سيكون الاختلاف أكبر جدًا بين الخطاة والأبرار عندما ينفصلون عن بعضهم البعض.
v أحبائي، انظروا كيف نُكرم! فإن البعض في غير تعقلٍ وبجحودٍ يقولون: “لماذا وُهبنا حرية الإرادة؟ ولكن كيف في كل الأمور التي أشرنا إليها يمكننا أن نمتثل باللَّه لو لم تكن لنا حرية الإرادة؟ إني أدين ملائكة، وهكذا أنتم بذاك الذي هو البكر [53]. أنا أجلس على العرش الملوكي، وأنتم تجلسون معي فيه الذي هو البكر. لقد قيل: “أقامنا معًا وأجلسنا معًا في السمويات في المسيح يسوع” (أف 6:2). به ذاك الذي هو البكر يكرمكم الشاروبيم والسيرافيم وكل الطغمات السمائية والرئاسات والقوات والعروش والسلاطين. لا تحطوا من قيمة جسدكم الذي سينعم بكرامات عظيمة حيث ترتعب القوات غير المتجسدة!
القديس يوحنا الذهبي الفم
5. القيامة وتحدي الموت 24-26.
“وبعد ذلك النهاية متى سُلم الملك للَّه الآب،
متى أُبطل كل رياسة وكل سلطان وكل قوة” [24].
أعلنت قيامته مملكته بسلطانها في السماء وعلى الأرض (مت 18:28)؛ صار له اسم فوق كل اسم حتى تسجد له كل ركبة ويعترف كل لسان أنه رب (في9:2-11). يمسك القائم من الأموات بزمام المملكة حتى يُبطل القوات المقاومة، ويخضع أعداءه تحت قدميه [25]، وينحل آخر عدو وهو الموت [26].
ربما يتساءل البعض: أليس الكلمة الإلهي هو رب وملك وصاحب سلطان حتى قبل تجسده؟ نجيب أنه بتجسده وصلبه وقيامته أقامنا ملوكًا وأصحاب سلطان. لقد ملك بالقيامة، إذ جعلنا نحن أعضاء جسده ملوكًا، وحطّم العدو تحت قدميه لأنه وهبنا روح النصرة والغلبة، وأبطل الموت لأننا فيه ننال القيامة. بقيامته أُعلن مُلكه كرب الأحياء والأموات (رو 9:14)، ويحضر شعبه بأمان إلى مجده، ويحطم تحت أقدامهم العدو وبهذا تتحقق النهاية [24].
ربما تطلع الرسول بولس إلى النظام الروماني حيث كان الملوك والولاة متى انتهت مدة ملكهم أو ولايتهم يسلمون أمور الحكم في يدي الإمبراطور. هكذا مع الفارق فإن رئيس أو والي هذا العالم الشرير مع كل قوات الظلمة وجنود الشر الروحية تُنزع عنهم كل سلطة, وتنتهي مملكتهم لتُعلن كمال مملكة اللَّه السماوية. لا يعني هذا أن النهاية تأتي بعد القيامة، إنما بحدوث القيامة تتحقق نهاية العالم في ذات اللحظة.
كلمة “نهاية” تشير إلى وضع حدٍ للشيء أو تحقيق نهاية غايته. فالنهاية هنا تشير إلى تحقيق كمال عمل الخلاص حيث يتمتع المؤمنون بالمجد، ويلتصق كل المؤمنين باللَّه كأبناء وأصدقاء وأعضاء في جسد المسيح الممجد. أيضًا النهاية هنا تعني نهاية الحياة البشرية علي الأرض، ونهاية ممالك هذا العالم.
كلمة “الآب” تُستخدم أحيانا لتشير إلى الأقنوم الأول، وتارة تشير إلى اللاهوت بكونه اللَّه هو محتضن الكل وضابط الكل والمعتني بالجميع.
v عندما يسلم المسيح الملكوت للَّه الآب فإن الكائنات الحية إذ كانوا قبلاً جزءً من ملكوت المسيح يُسلمون مع كل الملكوت لحكم الآب, حتى إذ يصير اللَّه الكل في الكل فيهم أيضًا إذ هم جزء من الكل ينالون اللَّه في أنفسهم إذ هو في الكل.
العلامة أوريجينوس
v بالنسبة لنا فإن نهاية كل ما نفعله وإليها نسرع هو الحياة المطلوبة في العالم العتيد.
القديس باسيليوس
v أي حكم (وقوة) يحطمه المسيح؟ هل ذلك الذي للملائكة؟ قطعا لا! هل الذي للمؤمنين؟ لا. إذن ما هو الحكم الذي يحطمه؟ إنه الخاص بالشياطين الذي يقول عنه أن مصارعتنا ليست مع لحمٍ ودمٍ بل مع الرؤساء مع قوات الظلمة في هذا الزمان الحاضر.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v فصل 14: كيف نالت قوات الشر الروحية ألقاب القوات والرئاسات؟
لأنها تحكم وتسيطر على أممٍ مختلفة، ولها تأثيرها على أرواح أقل منها، وعلى شياطين، وقد شهدت الأناجيل عن وجود “لجيئون”.
فما كان يمكن دعوتهم أرباب ما لم يوجد من يمارسون عليهم الربوبية،
ولا يدعون قوات وسلاطين ما لم يكن لهم من يمارسون عليهم هذا السلطان.
فالفريسيون في تجديفهم على السيد المسيح قالوا: “ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين” (لو 15:11)، كما دُعيت الشياطين: “ولاة العالم على ظلمة” (أف 12:6)، ودُعي أحدهم: “رئيس هذا العالم” (يو 30:14). ويتحدث الطوباوي بولس عن هؤلاء الرئاسات والقوات كيف يبطل سلطانهم على هذا العالم حين يخضع الكل للسيد المسيح فيقول: “متى سُلم المُلك للَّه الآب متى أبطل كل رياسة وكل سلطان وكل قوة” (1 كو 24:15).
الأب سيرينوس
“لأنه يجب أن يملك،
حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه” [25].
يملك السيد المسيح على كنيسته الممجدة، جسده في السماء. ويكون ملكه إلى الأبد (رؤ 15:11)، يملك على بيت يعقوب أبديًا ولا يكون لملكه نهاية (لو 33:1)، ملكه أبدي لا يزول (دا 14:7؛ مي 7:4).
“لأنه يجب“، لأن الكتاب المقدس سبق فأخبر عنه كحقيقة لابد أن تتحقق. وبقوله “يجب أن يملك” يشير إلى استمرار ملكه.
تطلع المرتل إلى المسيّا ليري ذلك اليوم المفرح الذي فيه يجلس الابن الوحيد الجنس بكنيسته المقدسة الغالبة عن يمين العظمة، وتنحل كل قوات الأعداء وتسقط تحت قدميه (مز 110: 1). إنه واحد مع الآب، إنما ما يتحقق في ذلك اليوم لكنيسته، جسده المقدس، يُحسب له. بينما ينهار العالم ويسقط إبليس وكل جنوده يملك السيد المسيح ملك الملوك ويقيم من شعبه ملوكًا وكهنةً للَّه أبيه (رؤ 1: 6).
v هل سيحكم الرب فقط حتى يضع كل أعدائه تحت قدميه، عندئذ يتوقف عن الحكم؟ واضح أن هذا يعني أنه سيبدأ بالحكم الحقيقي بكامل معنى الكلمة.
القديس جيروم
v خطأك يقوم من عدم فهمك بأن “حتى” لا تعنى دومًا نوعًا من التعبير عما يحدث فيما بعد بل تأكيد ما يحدث حتى ذلك الوقت دون انكار ما يحدث بعد. كمثال منفرد ماذا يعني القول: “ها أنا معكم دائمًا حتى انقضاء الدهر”؟ هل يعني أنه لا يعود بعد ذلك يكون هكذا؟
القديس غريغوريوس النزنيزي
v يقول البعض أنه عندما يخضع أعداءه تحت قدميه لا يعود بعد ملكًا, قول شرير وغبي. فإن كان هو ملك قبل نهاية هزيمة أعدائه النهائية, ألا يليق بالأكثر أن يكون ملكًا عندما يسود بالكامل عليهم؟
القديس كيرلس الأورشليمي
v إنه يملك إلى الأبد. على أي الأحوال بخصوص الحرب الثائرة تحت قيادته ضد الشيطان فإنه من الواضح أن هذه المعركة مستمرة حتى يضع كل أعدائه تحت قدميه. أما بعد ذلك فلا توجد معركة, حيث نتمتع بالسلام الكامل.
v “اجلس عن يميني حتى أضع أعداءَك موطِئًا لقدميك” (مز 1:110)، لأن جلوسه عن اليمين لا يبطل وضع أعدائه تحت قدميه. أو ما قاله الرسول: “لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداءِ تحت قدميه” (1 كو 25:15)، فإنه حتى عندما يُوضعون حتى قدميه لا يتوقف عن أن يملك، إنما يُفهم ذلك أنه يملك أبديًا، فيبقون دومًا تحت قدميه.
القديس أغسطينوس
“آخر عدو يبطل هو الموت” [26].
لقد هزم السيد المسيح الموت بموته المحيي علي الصليب، لكن يتحقق بطلانه تمامًا بقيامة كل المؤمنين وتمتعهم بالملكوت الأبدي.
الأعداء الآخرون يبطلون قبل النهاية، حيث تتحطم عداوة القلب البشري للَّه بالكرازة بالإنجيل، وينكسر قضيب ملك إبليس ويُنزع عنه. سيملك اللَّه روحيًا في كل موضع، ويصير الكل خاضعًا له. ستنتهي مملكة الخطية وطغيانها.
بقيامته قدم لنا القيامة من الأموات فصرنا في أمان، بعيدًا عن أية مخاوف. لا نعود بعد نخشى أي عدو، ولا نعود نموت بعد.
v يُفهم هلاك آخر عدو بهذه الطريقة. ليس أن تهلك المادة التي خلقها اللَّه بل الغاية المعادية والإرادة المضادة التي لم تصدر عن اللَّه بل من ذاتها سوف تنتهي. إنها تهلك لا بمعنى أنه لا يكون للعدو وجود بعد, ولا يكون بعد موت… يليق بنا ألا نفكر هكذا, على أي الأحوال لا يحدث كل هذا فجأة، ولكن بالتدريج وبدرجات, خلال الأجيال غير المحدودة وبلا قياس, متطلعين إلى أن الإصلاح والتصحيح يتحققان ببطءٍ وبطريقة منفصلة في كل شخص فرد.
العلامة أوريجينوس
v أن تحارب حسنًا, هذا هو حالنا الآن ونحن نقاوم ضد الموت, الأمر سيختلف عندما لا يكون بعد عدو, سيكون هذا الحال عندما يبطل الموت, آخر عدو.
v تبدأ الحياة الجديدة الآن بالإيمان, وتستمر بالرجاء, ثم تبلغ النهاية عندما يُبتلع الموت بالنصرة, عندما يهلك هذا العدو أخيرًا, عندما نتغير ونصير مثل الملائكة…
الآن نحن نسود على الخوف بالإيمان, لكن ستتحقق السيادة بالحب بالرؤيا.
القديس أغسطينوس
v كيف هو “الآخر” بعد الشيطان وبعد كل الأمور الأخرى؟ جاءت مشورة الشيطان أولاً، ثم عصياننا وعندئذ الموت. نظريًا الموت قد بُطل الآن، عمليًا سيتم فيما بعد! وضع الموت آخر الكل لهذا السبب، إذ فيه يعلن النصرة على البقية، كما أنه يسهل على غير المؤمن قبوله. عندما يحطم الشيطان الذي جلب الموت، يضع بالأكثر نهاية لعمله.
القديس يوحنا الذهبي الفم
6. وضعنا الأبدي 27-28.
“لأنه أخضع كل شيء تحت قدميه،
ولكن حينما يقول إن كل شيء قد أخضع
فواضح أنه غير الذي أخضع له الكل” [27].
كوسيط لدى الآب يتقدم ليُخضع الكل له، ذاك الذي جلس مع أبيه على عرشه (رؤ 12:3). جلس ليمارس وساطته الإلهية الملوكية، ويُحسب هذا مكافأة له عن تقديم نفسه كفارة عن الإنسان بذبيحة الصليب (في 6:2-12).
بصعوده إلى السماء صار رأسًا على كل شيء لحساب كنيسته، له سلطان أن يحكم ويحمي الكنيسة من كل أعدائها، وفي النهاية يحقق الخلاص الكامل للمؤمنين به إذ يشاركونه مجده.
إذ يقول “كل شيء” يحوي أيضًا الموت (أف 1: 22؛ في 3: 21؛ عب 2: 8؛ 1 بط 3: 22). بقوله “أخضع” يتحدث بلغة اليقين كحقيقةٍ لا توجد فيها أي احتمال آخر.
لقد وضع كل شيء تحت قدميه خلال وعده له وخطته الإلهية إذ أقامه رأسًا لكل شيء (مت 28: 18؛ يو17: 2 ؛ أف 1: 20 – 22). وقد وُجد هذا في مزمور 8: 6 بخصوص الإنسان، حيث أُعطي للطبيعة البشرية أن يكون لها سلطان علي كل شيء، وهذا لن يتحقق لها إلا بالمسيح يسوع ربنا.
لماذا قال: “غير الذي أُخضع له الكل؟” ليتجنب إمكانية إثارة اعتراضات تافهة، لئلا يفهم البعض “كل شيء” بما فيه الآب يخضع له، وذلك كما كان عند الأمم حيث يعتقدون أن جوبتر يُروي عنه أنه استبعد والده من عرشه ومن السماء. لكي تمنع الظن بأن بولس في حديثه عن سلطان الابن قد بالغ فيه حتى صار أعظم من الآب. فإن كان الابن قد تجسد وخضع كابن الإنسان للآب، فبعد القيامة واتمام عمل المسيح الشفاعي تظهر مساواة الآب والابن بوضوح كما قبل التجسد.
v سيعلم المسيح الرب نفسه أولئك القادرين على قبوله في سمة الحكمة, فإنه بعد تدريبهم الأولى في فضائله المقدسة يملك معهم حتى يحل الزمن حيث يخضعهم للآب الذي يُخضع كل شيء له. عندما يصيرون قادرين على قبول اللَّه يصير اللَّه بالنسبة لهم الكل في الكل.
v بهذه الحقيقة يعلمنا المسيح فن السيادة.
العلامة أوريجينوس
v يجعل خضوعك خضوعه هو, وبسبب صراعك ضد الفضيلة يدعو نفسه خاضعًا… يدعو نفسه عاريًا إن كان أحد منكم عاريًا… متى كان واحد في السجن يقول أنه هو نفسه مسجون. فقد حمل هو نفسه ضعفاتنا، وحمل ثقل أمراضنا. أحد ضعفاتنا هو عدم الخضوع, هذا أيضًا حمله. لذلك فإنه حتى المصائب التي تحل بنا يحسبها الرب له, واضعًا آلامنا عليه, وذلك لشركته معنا.
القديس باسيليوس
v الخطوة الأولى في السّر هي أن كل الأشياء تخضع له, وعندئذ هو نفسه يخضع لذاك الذي يُخضع كل شيء له. كما نُخضع أنفسنا لمجد جسده الذي يملك, فإن الرب نفسه في ذات السرّ يُخضع نفسه في مجد جسده لذاك الذي يُخضع كل الأشياء له. نحن نخضع لمجد جسده لكي ما نقتني المجد الذي يملكه في الجسد, حيث نصير مشابهين لجسده.
القديس هيلاري أسقف بواتييه
v (في الرد على أتباع أريوس وأتباع أونوميوس)
لا يتحدث الرسول عن المسيح في لاهوته بل في ناسوته, حيث أن كل المناقشة هي عن قيامة الجسد. إنه في ناسوته يخضع حيث تخضع كل البشرية للاهوت.
ثيؤدورت أسقف قورش
v يكتب بولس لليونانيين الذين قبلوا الإيمان, فإنهم قد عبدوا (قبلاً) زيوس الذي ثار ضد أبيه لكي يمسك بزمام المملكة. خشي بولس أنهم يتخيلون ذلك في علاقة المسيح بأبيه.
أوكيمينوس Oecumenius
اللَّه الكل في الكل
“ومتى أخضع له الكل،
فحينئذ الابن نفسه أيضًا سيخضع للذي أخضع له الكل”،
“كي يكون اللَّه الكل في الكل” [28].
أولاً: خضوع الابن كرأس الكنيسة:
ماذا يعني يخضع الابن، ويصير اللَّه هو الكل في الكل. صار كلمة اللَّه المتجسد الذي هو واحد مع أبيه ومساوٍ له في ذات الجوهر إنسانًا، لكي يكون وسيطًا بين اللَّه والناس. الآن إذ انتهي دور الوساطة فلا يعود يشفع عن أناسٍ جدد كإنسانٍ يخضع للآب، فهو رأس الكنيسة. خضوع الابن هنا ليس كخضوع الخليقة، إنما خضوع ذاك الذي هو واحد معه ومساوٍ له في ذات الجوهر. فالابن الذي قام بدور الوسيط وقدم نفسه ذبيحة حب عن البشرية وصار رأسًا للكنيسة يعلن خضوعه للآب كتكريمٍ متبادل فيما بينهما. فالابن يكرم الآب، كما أن الآب يكرم الابن. والكل يكرمون الابن كما يكرمون الآب (يو 5: 22- 23 ؛ عب 1: 6).
خضوع الاقنوم الثاني للأقنوم الأول ليس كمن هو أقل منه، إنما إذ قبل أن يتجسد ويموت ثم يقوم كرأس وبكر الراقدين يخضع للآب باسم الكنيسة كلها ولحسابها. هذا لا يعني انفصال اللاهوت عن الناسوت، فإنه مع إشراق بهاء اللاهوت الكامل علي الناسوت يخضع الابن.
v لماذا يتحدث بولس عن خضوع الابن للآب عندما انتهى من الحديث عن خضوع كل شيء للمسيح؟
يتحدث الرسول بطريقة عندما يتكلم عن اللاهوت وحده, وبطريقة أخرى عندما يتكلم عن التدبير الإلهي. كمثال إذ وضع النص الخاص بتجسد ربنا لا يعود يخشى بولس من الحديث عن أعماله المتواضعة الكثيرة, فإن هذه ليست غير لائقة بالمسيح المتجسد, حتى وإن بدت واضحة أنها لا يمكن أن تنطبق على اللَّه.
في النص الحالي عن أي الأمرين يتحدث؟
إذ أشار إلى موت المسيح وقيامته، وكلاهما لا ينطبقان على اللَّه فمن الواضح أنه يتحدث عن التدبير الإلهي للتجسد, الذي فيه خضع الابن للآب بإرادته. ولكن لاحظ أنه قدم تصحيحًا بقوله أن الذي أخضع كل شيء له قد استثنى نفسه من هذا الكل. هذا يعني أنه يذكرنا بأن المسيح الكلمة هو اللَّه الحقيقى.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v بهذا فإنه قد أكمل العمل الذي أعطي له، وهو أن يكون اللَّه الكل في الكل.
العلامة أوريجينوس
v إنه يود أن تُفهم رؤية شكله (كمتجسد) عندما كل الخليقة معًا مع ذاك الشكل الذي به صار ابن اللَّه الإنسان يخضع للَّه. بهذا الشكل الابن نفسه يخضع لذاك الذي أخضع كل الاشياء له, فيكون اللَّه هو الكل في الكل.
القديس أغسطينوس
ثانيًا: الخضوع لا يقلل من شأن الابن
v لم يفقد الابن شيئًا عندما يمنح الكل, كما أنه لم يفقد شيئًا عندما يتسلم الآب المُلك, ولا الآب يفقد شيئًا عندما يعطى ما له للابن.
القديس أمبروسيوس
v خضوع المسيح للآب ليس كخضوعنا نحن للابن, فإن خضوعنا هو اعتماد عليه وليس اتحاد المتساويين.
أمبروسياستر
v كما أن الابن يُخضع الكل للآب, هكذا يفعل الآب للابن, واحد بعمله والآخر بمسرته.
القديس غريغوريوس النزنيزي
ثالثًا: قيل هذا بسببنا
مادمنا في العالم لا نبلغ الكمال كما ينبغي لهذا، يُقال حتى القديسون لا يدركون بالكامل أن اللَّه هو الكل في الكل. أو بمعني أدق لا يتحقق فيهم هذا بالكامل ماداموا في الجسد في هذا العالم، حتى متى حلت القيامة يتحقق فيهم هذا، فيشعر كل واحدٍ منهم أن اللَّه هو الكل بالنسبة له!
هنا لا يقول: “يصير الآب هو الكل في الكل”، لأنه إذ يتمتع المؤمنون بالمكافأة الأبدية لا يعودوا يتطلعوا إلى كل أقنوم بأن له عمل خاص، فإن الآب الذي وضع خطة الخلاص والابن الذي قدم حياته ذبيحة حب لخلاصنا، والروح القدس الذي وهبنا الشركة لكي نتمتع بالاتحاد مع اللَّه ونحمل أيقونة الكلمة المتجسد… الآن كل هذه الأعمال الإلهية قد تحققت، فنقف لنري اللَّه “الثالوث القدوس”.
v مادمت أنا غير خاضع للآب, لا يُقال أنه هو خاضع للآب. ليس أنه هو محتاج أن يخضع أمام الآب, وإنما من أجلي إذ لم يتم بعد عمله هذا لذلك قيل أنه لم يخضع بعـد, “لأننا نحن جسد المسيح وأعضاؤه“
(1 كو 12 : 27) .
v مثل هؤلاء (الهراطقة) لا يفهمون أن خضوع المسيح للآب يعلن عنى طوباوية كمالنا ويظهر تكليل المجد الذي للعمل الذي يتعهد به.
العلامة أوريجينوس
v سيصير اللَّه الكل في الكل في كل شخص بطريقة بها أن كل شيء مما يشعر به الفكر العاقل أو يفهمه أو يفكر فيه سيصير للَّه. عندما يتطهر من كل سحابة الشر, لا يعود الفكر يشعر بشيء آخر غير اللَّه أو بجانب اللَّه. هذا الفكر يفكر في اللَّه ويرى اللَّه ويقتنى اللَّه, فيصير اللَّه هو وسيلة كل حركاته وقياسه. بهذا يصير اللَّه هو الكل في الكل.
العلامة أوريجينوس
v يصير اللَّه الكل في الكل عندما لا نعود بعد نكون مثل الآن نحمل كمًا من الدوافع والعواطف, مع قليل أو لا شيء من اللَّه فينا, بل نكون بالكامل مثل اللَّه, فنفسح المجال للَّه, وله وحده.
هذا هو النضوج الذي نسرع إليه.
القديس غريغوريوس النزنيزى
v يصير اللَّه كل شيء في الكل, فلا تكون فقط الحكمة في سليمان، ووداعة الروح في داود, والغيرة في إيليا وفينحاس, والإيمان في إبراهيم, والحب الكامل في بطرس، وغيرة الكرازة في الإناء المختار (بولس) وفضيلتان أو ثلاثة في آخرين… بل يكون اللَّه بالكامل في الكل. كل عدد القديسين سيتمجدون في كل خورس الفضائل, ويكون اللَّه كل شيء في الكل.
القديس جيروم
v سيسكن شعب اللَّه في هذا البيت أبديًا مع إلههم وفي إلههم, واللَّه يسكن مع شعبه وفي شعبه, فيملأ اللَّه شعبه, ويمتلئ شعبه به، حتى يصير اللَّه الكل في الكل, اللَّه نفسه هو مكافأتهم في السلام كما كان هو قوتهم في المعركة!
القديس أغسطينوس
v “لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض”. هذا هو ملكوت اللَّه، حيث لا تنتصر إرادة على مشيئة اللَّه، سواء في السماء أو على الأرض، عند ما يكون اللَّه هو موجه الكل إلى النهاية، وهو الحي، وهو العامل، وهو المالك، وهو كل شيء، حتى كما يقول الرسول: “يكون اللَّه هو الكل في الكل”.
الأب بطرس خريسولوجوس
v اللَّه واهب الفضيلة وسيكون هو نفسه مكافأتها، فإنه ليس أعظم ولا أفضل من أن يعد اللَّه بإعطائه ذاته. ماذا تعني كلمته بالنبي: “أكون لكم إلهًا وتكونون لي شعبًا” (لا 12:26) إلا أكون لكم كفايتكم، أصير أنا الكل لما يشتهيه الإنسان بطريقة مكرمة، حياته وصحته وقوته وغناه ومجده وكرامته وسلامه وكل الأشياء؟
هذا هو التفسير السليم لقول الرسول: إن اللَّه يكون الكل في الكل [28]. سيكون نهاية كل رغباتنا التي ستُرى بلا نهاية، ويُحب بلا حدود ويُسبّح بلا ملل. هذا التدفق للحب والخدمة ستكون الحياة الأبدية عينها المقدّمة للكل.
v سيعيد لك جسدك حتى كمال عدد شعرك، ويقيمك مع الملائكة إلى الأبد حيث لا تحتاج بعد إلى يده المؤدبة، إنما تمتلكك مراحمه الفائقة. فإن اللَّه سيكون “الكل في الكل“، فلا نعود نتذوق بعد عدم السعادة. سيكون إلهنا نفسه راعينا؛ إلهنا ذاته كأسنا، إلهنا هو مجدنا، إلهنا يصير غنانا. أي شيء بعد تحتاج إليه؟ هو وحده يصير كل شيء بالنسبة لك.
v في السماء لا يكون لنا خبرة الاحتياج, بهذا نكون سعداء. سنكون مكتفين وذلك باللَّه. سيكون بالنسبة لنا كل الأشياء التي نتطلع هنا إليها أنها ذات قيمة عظيمة.
القديس أغسطينوس
v كما يقول الرسول أن اللَّه سيكون “الكل في الكل“. يبدو لي أن هذا النطق يؤكد بوضوح الفكرة التي وصلنا إليها، إذ تعني أن اللَّه سيكون عوض كل الأشياء، الكل في الكل. بينما حياتنا الحاضرة تحمل أنشطة متنوعة في أشكال كثيرة، والأشياء التي نرتبط بها متعددة مثل الزمن والهواء والموقع والطعام والشراب وأشعة الشمس وضروريات الحياة الأخرى. مع كثرتها لكن ليس شيء منها هو اللَّه… أما الحالة المطوّبة التي نترجّاها فإنها لا تعتاز إلى شيء من كل هذا، فسيكون الكائن الإلهي هو الكل، وعوض الكل بالنسبة لنا، مقدمًا نفسه ليشبع كل احتياجاتنا. واضح أيضًا من الكتاب المقدس أن اللَّه يصير لمن يستحق ذلك الحقيقة والمسكن والملبس والطعام والشراب والنور والغنى والسلطة وسيكون الكل في الكل. يبدو لي أن الكتاب المقدس يعلمنا هنا زوال الشر تمامًا. فإنه إذ يكون اللَّه في كل الأشياء، فواضح أن الشر لا يعود يرتبط بها. فإنه إذا افترض أحد وجود الشر، كيف يؤمن بأن اللَّه يصير الكل في الكل؟
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
v يلزمنا ألا ننسحب من جهادنا في السهر بسبب اليأس الخطير لأن “الآن ملكوت اللَّه يُغصَب والغاصبون يختطفونهُ” (مت12:11). فلا يمكن نوال فضيلة بغير جهادٍ، ولا يمكن ضبط العقل بغير حزن قلبي عميق، لأن “الإنسان مولود للمشقَّة” (أي 7:5). ومن أجل الوصول “إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة مِلْءِ المسيح” (أف 13:4). يلزمنا أن نكون علي الدوام في جهاد عظيم مع عناية لانهائية. لا يمكن لأي إنسان أن يصل إلى ملء هذا القياس إنما من يأخذ هذا القياس في اعتباره مقدمًا، ويتدرب عليه من الآن، ويتذوقه هنا في العالم، تكون له علامة العضوية الثمينة للمسيح، ويملك وهو في هذا الجسد على عربون هذا الاتحاد الكامل بجسد المسيح، ويكون له اشتياق وعطش إلى أمرٍ واحدٍ جاعلاً ليس فقط أعماله بل وأفكاره متجهة إلى أمرٍ واحدٍ وهو أن يحفظ الآن وعلى الدوام عربون الحياة المقبلة الطوباوية التي للقديسين، أي أن “يكون اللَّه الكل في الكل” (1 كو28:15).
الأب سيرينوس
v رغب ربنا في أن يؤسس هذه (الخلوة الروحية)، تاركًا لنا مثالاً… فإذ هو ينبوع القداسة الذي لا يُنتهك، وليس محتاجًا إلى عون خارجي، ولا إلى مساعدة الوحدة (الخلوة)، لأن كمال نقاوته لا يمكن أن تتأثر بالجماهير، ولا تتلوث من مخالطته للبشر، بل هو الذي يقدس ويطهر الأمور الدنسة، ومع ذلك نجده يعتزل في الجبل وحده للصلاة. باعتزاله يعلمنا أننا إن رغبنا في الاقتراب من اللَّه بمحبة صادرة عن قلب نقي بلا دنس، يلزمنا أن ننسحب من كل اضطرابات الجموع، حتى تتدرب نفوسنا، ونحن بعد في الجسد، على تذوق السعادة الموعود بها للقديسين، وهي أن “يكون اللَّه هو الكل في الكل” (1 كو 28:15) .
الأب اسحق
v إننا لا نرى أن المسيح نفسه صنع بعد الكل في الكل (1 كو 28:15) كما يقول بولس الرسول حتى نكتشف المسيح شيئًا فشيئًا في الكل، لأنه قيل عنه: “ومنه أنتم بالمسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من اللَّه وبرًا وقداسةً وفداء” (1 كو 30:1). بالتالي نجد فيه الحكمة، ومرة أخرى البرّ، وأخرى القداسة، ومرة أخرى الحنان، وأخرى الوداعة، وأخرى التواضع أو طول الأناة. فالمسيح (المُعلن في قديسيه) في وقتنا الحاضر مُقسَّم عضوًا بعضوٍ بين الآباء القديسين، لكن حينما يوجد الجميع في وحدة الإيمان والفضيلة يكون “إنسانًا كاملاً” (أف 13:4)، مكمِّلاً جسده الواحد بأوصال واختصاصات كل أعضائه. وسيأتي الوقت حينما يكون اللَّه هو “الكل في الكل”، لأن اللَّه الآن “في الكل” -كما سبق أن ذكرنا- بواسطة الفضائل، لكنه ليس الكل في الكل لأنهم ليسوا في ملء كمالهم.
القديس يوحنا كاسيان
الثالوث القدوس هو الكل في الكل
بقوله “اللَّه الكل في الكل” يعلن أن الثالوث القدوس هو الكل في الكل، فقد قيل عن المسيح أنه الكل في الكل (كو 3: 11؛ زك 14: 9). يري كثير من الدارسين أن تعبير “يكون اللَّه الكل في الكل” لا يشير إلى الآب وحده بل اللاهوت الخاص بالثالوث القدوس دون الإشارة إلى أقنومية كل واحدٍ منهم.
7. قيامة المسيح والدوافع الجديدة 29-34.
“وإلا فماذا يصنع الذين يعتمدون من أجل الأموات؟
إن كان الأموات لا يقومون البتة،
فلماذا يعتمدون من أجل الأموات؟” [29]
لم يشرح لنا القديس بولس ما يقصده بالعماد من أجل الأموات لذا يرى البعض أن هذه العبارة أصعب عبارة وردت في العهد الجديد، وقد حاول آباء الكنيسة ومفسرو الكتاب المقدس إلي يومنا هذا تقديم تفاسير لها، من بينها:
أولاً: العماد هو صلب وموت ودفن مع المسيح (رو 6: 3-5)، فنحن الذين مُتنا بالخطايا بعمادنا نموت معه الموت الواهب الحياة المقامة. نُدفن معه بالمعمودية للموت، حيث نُغرس معه في شبه موته لنتمتع بقيامته. لذا يرى البعض أنه يقصد بالموتى هنا شخص السيد المسيح الذي مات وباسمه نعتمد، فإن كان لم يقم فما قيمة هذا العماد إن كان باسم من هو لا يزال في عداد الموتى ولم يقم؟ يفسر البعض تعبير “يعتمدون من أجل الموتى” بأنه عماد في المسيح ودفن معه بالغطس في المياه كموتى. لكن كثيرين يرفضون هذا التفسير لأن كلمة “الأموات” هنا في صيغة الجمع تعني أكثر من ميتٍ واحدٍ، كما جاءت كلمة يعتمدون لتعني أشخاصًا معينين وليس جميع المسيحيين بصفة عامة.
ثانيًا: أن كلمة “يعتمدون“ تشير إلى الشهداء، فإن كانوا لا يقومون لماذا احتملوا الاستشهاد الذي هو معمودية الدم من أجل الإيمان؟ يعتمد هؤلاء على دعوة السيد المسيح المعمودية صبغة أو معمودية دم (مت 20: 22؛ لو 12: 50). ولكن كيف استشهد هؤلاء أو اعتمدوا من أجل الأموات؟
ثالثًا: يرى البعض أنه وُجدت عادة بين الكورنثوسيين وهي أن يعتمد شخص باسم أحد الموعوظين الذين قبلوا الإيمان لكنه مات قبل عماده. خاصة وأن بعض المؤمنين كانوا يؤجلون عمادهم حتى قبل وفاتهم مباشرة حتى لا يتعرضون لارتكاب خطايا بعد العماد، وكان بعضهم يموتون قبل العماد، فيقوم بعض الأحياء بقبول العماد نيابة عنهم. يرى العلامة ترتليان والقديس أمبروسيوس أنه وجدت عادة إذا مات إنسان لم يعتمد، يعتمد إنسان على جثمانه الميت باسمه ولحسابه. لكن لا يوجد أي دليل تاريخي على وجود هذه العادة في أيام الرسول بولس. ومن جانب آخر كيف يستخدم الرسول بولس هذه العادة التي لا تتناغم مع كلمة اللَّه كدليلٍ على القيامة دون أن يظهر خطأها.
يتحدث عمن يمارسون العماد بصيغة الغائب كمجموعة غير الذين يتحدث إليهم، منفصلة عنهم. غالبًا مجموعة من الهراطقة كانت تمارس العماد نيابة عن الأموات وهي غير معروفة قبل ظهور مرقيون.
v يبدو أن البعض كانوا في ذلك الحين يعتمدون من أجل الأموات لأنهم كانوا يخشون أن أحدًا ممن لم يعتمد لا يقوم نهائيًا أو يقوم لكي يُدان.
أمبروسياستر
v كان أتباع مرقيون يعمدون الأحياء لحساب غير المؤمنين الموتى, غير مدركين أن العماد يخلص الشخص الذي يناله وحده.
القديس ديديموس الضرير
v جلبت الخطية الموت إلى العالم, ونحن نعتمد برجاء أن أجسادنا الميتة ستقوم في القيامة. فإن لم توجد قيامة يكون عمادنا بلا معنى, وتبقى أجسادنا ميتة كما الآن.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v استخدام نفس المحاورين كشهودٍ بتصرفاتهم على تأكيد الأمر يعتبر برهانًا له دوره غير القليل. ماذا يعني بهذا؟ أتريدون أولاً أن أشير إليكم كيف أن الذين تأثروا بالهرطقة الخاصة بمرقيون يفسدون هذا التعبير؟ إني بالحق أعلم سأجعلكم بالأكثر تضحكون. ومع هذا فإنني سأشير إليها حتى أزيل بالأكثر هذه الداء. أعني بهذا عندما يموت أحد الموعوظين عندهم يخفون أحد الأحياء تحت مرقد الميت. يقتربون من الجثمان ويتحدثون معه ويسألونه إن كان يريد أن يعتمد، وإذ لا يجيب يقول ذاك الذي يختفي تحته: أريد أنا أن اعتمد نيابة عنه. عندئذ يقومون بعماده نيابة عن الراحل، وكأنهم أناس يمزحون على مسرح.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“ولماذا نخاطر نحن كل ساعة” [30].
في العبارة السابقة تحدث بصيغة الغائب، أما هنا فيتحدث عن نفسه ومن معه وربما عن من بعث إليهم بالرسالة، قائلاً: “نحن“.
يقول الرسول أنه من الغباوة أن يصير مسيحيًا معرضًا لخطر الموت وبالأكثر أن يكون رسولاً إن لم تكن توجد قيامة من الأموات. يمكن القول بأن هذه الآية تفسر الآية السابقة، فإنه ما هو الدافع لقبول الموت اليومي بكامل السرور بإرادتنا الحرة، ولماذا نُخضع لآلام كثيرة كل يوم بل وكل ساعة إن كان الموتى لا يقومون؟ يجب أن نحسب حساب النفقة، فإنه ما كان يمكننا أن نقبل الموت بإرادتنا لو لم توجد قيامة.
كانت المخاطر كثيرة جدًا حتى كان الرسول يحسب نفسه والرسل يتعرضون لها ليس فقط كل يوم، بل وفي كل ساعة.
v إن كانت النفس ليست خالدة، وإن كان الجسد لا يقوم من الأموات, فلا مجال للمخاطرة من أجل الإيمان.
القديس ديديموس الضرير
“إني بافتخاركم الذي لي في يسوع المسيح ربنا أموت كل يوم” [31].
“إني بافتخاركم“: هو قَسَمْ يشير لتأكيد أمر بغيرة قوية، لأنه يمس حياته ومشاعره. يفسره البعض “أعلن افتخاري أو فرحي بكم في المسيح يسوع”.
يرى البعض أن الكورنثوسيين كانوا يفتخرون بأنهم قد أذلوا بولس ووطأوا عليه بأقدامهم كل يومٍ كميتٍ. لكن الرسول حسب هذه الإهانة عار المسيح الذي يقبله بفرحٍ. يرى آخرون أن الرسول بولس يفتخر بالذي له في المسيح يسوع الذي مات لأجله وقام لتبريره أنه لا يعود يخشى الآلام ولا الموت، وأنه مستعد كل يوم أن يموت. ولعله يقصد أنه يفتخر بأن يموت كل يوم من أجل خلاصه الأبدي.
بقوله: “بفرحكم أنا أموت كل يوم” ربما تعني أنه من أجل تمتعهم بالفرح يموت يوميًا متهللاً، وذلك كما يقول بتعليمه لهم يصير هو متعلمًا، أي بتعليمه يصير هو نفسه كاملاً في تعلمه.
v انظروا مرة أخرى فإنه يجاهد أن يقيم التعليم خلال أتعابه، بل بالأحرى وبأتعاب الرسل الآخرين أيضًا. وهذا أمر ليس بالهين أن المعلمين مملوءون اقتناعًا بقوة، مظهرين ذلك لا بالكلمات فحسب، بل وبالأعمال ذاتها… “إني بمجدي الذي لي فيكم في يسوع المسيح ربنا أموت كل يوم“. يقصد “بمجده” تقدمهم. هكذا حيث يشير إلى مخاطره أنها كثيرة. فلئلا يُظن أنه يشير إليها بطريق الرثاء يقول: “حاشا لي من الحزن! إنما أتمجد إذ أشير إلى ذلك من أجلكم“. يقول أنه يضاعف ذلك أنه يجد فيها لذة عندما يموت من أجلهم ولنفعهم…
كيف يموت كل يوم؟ باستعداده وتهيئته لهذا الحدث!
v يفرح بولس في آلامه لأنه يرى أية نتائج عجيبة تجلبها في شعبٍ مثل مسيحيي كورنثوس.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v هنا يضع بولس الخطوط العريضة لكل من ضخامة المشاكل التي يواجهها وعظمة عناية اللَّه التي تهتم به.
ثيؤدورت أسقف قورش
“إن كنت كإنسان قد حاربت وحوشًا في أفسس،
فما المنفعة لي إن كان الأموات لا يقومون؟
فلناكل ونشرب لأننا غدا نموت” [32].
“إن كنت كإنسانٍ“: يرى البعض أن الرسول يقول: “إن كنت أتكلم بكوني إنسانًا، أو كسائر البشر”، أو “إن كنت قد حاربت وحوشًا كما يفعل بعض البشر الذين يحاربون وحوشًا بالقدر الذي به يبقون أحياء”، أو “أتحدث كإنسان أنني أُحارب بشرًا أشبه بالوحوش المفترسة”.
يؤكد البعض أن الرسول لا يعني ذلك حرفيًا وأن حديثه هنا رمزي، مدللين على ذلك بالآتي:
أ. إذ تحدث الرسول فيما بعد عن المصاعب التي واجهته (2 كو 11: 24) لم يُشر أنه أُلقى ليصارع مع وحوش.
ب. تاريخيًا لم يشر القديس لوقا البشير في سفر الأعمال شيئًا عن ذلك.
ج. لم يُجلد الرسول بولس لأنه يحمل الجنسية الرومانية، لذا يرى البعض أنه لم يكن ممكنًا معاقبته بالإلقاء للوحوش.
د. رفض العلامة ترتليان والقديس يوحنا الذهبي الفم وغيرهما التفسير الحرفي لهذه العبارة.
لهذا يرى البعض أن الوحوش تشير إلى أناسٍ غاية في العنف والقسوة مثل الوحوش الضارية. ربما يشير هنا إلى ديمتريوس والصناع كوحوشٍ مفترسةٍ، وإن كان غالبًا ما كتب الرسول هذه الرسالة قبل ثورة ديمتريوس واضطراره أن يذهب إلى مقدونية. هذا وقد دعا هيرقليتس الأفسسي مواطنيه وحوشًا مفترسة قبل الرسول بولس بحوالي 400 عامًا. وهكذا أيضًا ابيمنيديس بالنسبة للكريتيين (تي 1:1). كان الرسول لا يزال في أفسس وهو يكتب الرسالة وكانت حياته معرضة للخطر اليومي (2 كو 1:8).
من الجانب الآخر يرى آخرون أن الحديث واضح أنه يعنى حدوث ذلك حرفيًا ويبررون ذلك بالآتي:
أ. أن لوقا البشير لم يشر إلى كل ما تعرض له الرسول، وأيضًا حينما استعرض الرسول بولس المخاطر التي تعرض لها قال: “في ميتات كثيرة”. وأن أحد هذه الميتات هي إلقاؤه للمصارعة مع وحوش مفترسة.
ب. يروي لنا أنسيفورس أن الرسول بولس تعرض فعلاً لمواجهة أسودٍ في مسارح، لكن إذ اقتربت منه لم تؤذه.
ج. أننا لم نسمع عن أي خطر أحدق بالرسول في أفسس غير هذا، لذا فيكون هذا الاحتمال واقعي. وإن الرسول لم يشر إلي ذلك عندما قدّم قائمة بآلامه لأنه لم يتألم بل نال كرامة بعدم اقتراب الوحوش إليه.
اقتبس الرسول عبارة: “لنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت” عن الترجمة السـبعينية من إشـعياء النـبي (13:22). استخدمها النبي عندما حاصر سنحاريب وجيش الأشوريين أورشليم. يقول النبي عِوض التوبة والصوم والتواضع والبكاء أقاموا الولائم، وكان شعارهم: لنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت، فإنه لا منفعة من المقاومة أو الصلاة إلى اللَّه. لقد فقدوا كل رجاءٍ لهم في الخلاص واستسلموا للموت فلا ضرورة للتعب والجهاد. هذا حال من يفقد رجاءه في الخلاص الأبدي، ولا يترقب المجد السماوي، والسعادة في الحياة المقبلة.
“غدًا نموت“: أي يلاحقنا الموت قريبًا جدًا دون العودة إلى الحياة مادامت العقيدة الخاصة بالقيامة ليست حقًا. إن لم توجد قيامة من الأموات فخير للإنسان عوض احتماله الآلام من أجل الإيمان أن يأكل ويشرب قبل أن يموت (إش 22: 13). إن كنا نموت كالحيوانات ولا نقوم فلنسلك مثلهم. وربما أراد الرسول أن يرد على المتشككين في القيامة بمثل قاله أحدهم: “إن كان البشر يحسبون أنفسهم أنهم يموتون كالوحوش، فليعيشوا إذن كالوحوش أيضًا!”
غالبًا ما كان الذين ينكرون القيامة في الأصل صدوقيين إذ يقولون لا قيامة ولا ملائكة ولا روح (أع23: 8). وكأن الإنسان في كليته جسم ليس فيه ما يحي الجسم، ويبقى بعد الموت.
v تأكد أن هذه الكلمة نُطق بها في شيء من السخرية .إنه لم يذكرها من نفسه، إنما استدعاها من إشعياء النبي الحلو الصوت الذي حاور بعض الأشخاص الحسيين الفاسدين مستخدمًا تلك الكلمات: “من يذبحون عجلاٌ أو يقتلون قطيعٌا ليأكلوا لحمٌا و يشربون خمرٌا، القائلين: لنأكل ونشرب لأننا غدٌا نموت. بلغت هذه الأشياء إلى أذنيّ رب القوات، وهذا الشر لن يُغفر لكم حتى تموتوا” (إش13:22-14 LXX). إن كان الذين قالوا هكذا قد حُرموا من المغفرة، فبالأكثر يكون ذلك في عهد النعمة.
v “فلنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت“ [32]. اخبرني إذن: وما هي النهاية؟ الفساد!
القديس يوحنا الذهبي الفم
v إن كان كل رجاء في القيامة قد ضاع, فلنأكل ونشرب ولا نُحرم من ملذات الأمور الحاضرة , إذ ليس لنا شيء في المستقبل… يقول الأبيقوريون أنهم تبعوا الملذات لأن الموت لا يعني شيئا بالنسبة لهم, لأنه لا توجد مشاعر من جهة ما ينحل، وعدم وجود المشاعر لا يعني شيئًا بالنسبة لنا. هكذا يظهرون أنهم يعيشون فقط كجسدانيين وليس كروحيين. إنهم لا يمارسون عمل النفس بل عمل الجسد. أنهم يظنون أن كل عمل الحياة ينتهي بانفصال النفس عن الجسد.
القديس أمبروسيوس
v يوجد أناس يقولون: “لا سعادة لإنسان ليست له ملذات الجسد”. هؤلاء هم الذين يلومهم الرسول قائلين: “فلنأكل ونشرف لأننا غدًا نموت“ [32]. من الذي قام إلى هذه الحياة؟ من أخبرنا بما سنكون عليه هناك؟ إننا سنأخذ معنا ما يجعلنا سعداء في الوقت الحاضر. من ينطق بهذا يلصق نفسه بالجسد ويجعل لذته في شهوات الجسد…
القديس أغسطينوس
v إنهم بالحق هم موتى, موتى بالفعل ولا يتم الموت بالغد, موتى للَّه!
القديس إكليمنضس السكندري
“لا تضلوا،
فإن المعاشرات الردية تفسد الأخلاق الجيدة” [33].
ينهي الرسول حواره بخصوص الإيمان بالقيامة من الأموات محذرًا من الأشرار المخادعين الذين يسلكون في حياة متسيبة بلا مبادئ. فمن أراد أن يحفظ براءته وصلاحه يلتزم أن يتحفظ من عدوى الصداقات الشريرة، فمن يسلك مع الحكماء يجد حكماء ومن يصاحب الجهال يهلك (أم 13:20).
الصداقة الحميمة مع غير المؤمنين بالقيامة تفسد فكر المؤمنين وتؤذيهم في سلوكهم وحياتهم. ربما يشير هنا إلي الشاعر تايس الذي اقتبس قوله عن “الصداقات الشريرة” مشيرًا إلى الحوار مع منكري القيامة، هؤلاء الذين يدعون بأن القيامة أمر روحي بحت لا علاقة له بالجسد، وأن عرش الخطية في الجسد وحده، وسيتركه بخروج النفس من الجسد فتحيا النفس ويهلك الجسد.
كان في الأدب اليهودي الحاخامي مثل مشابه: “وُجد ساقان من الخشب جافان وثالث أخضر، فإذ احترق الجافان حرقا معهما الأخضر”. ووجدت أمثلة كثيرة عند اليونان تحمل ذات المعنى.
v أنت تحتقر الذهب, يوجد آخر يحب الذهب. أنت ترفض الغنى, هو يطلب الغنى بشغفٍ. أنت تحب الصمت والضعف والحياة الخاصة, أما هو فيجد سعادته في الأحاديث الباطلة بلا تريث في الميدان العام والشوارع ومتاجر المخدرات… لا تبقى معه تحت سقفٍ واحدٍ. لا تعتمد على عفتك السابقة. فإنك لا تقدر أن تكون أكثر قداسة من داود أو أحكم من سليمان… إن كان دورك في العمل الكهنوتي هو أن تفتقد أرملة أو عذراء لا تدخل البيت وحدك. ليصحبك أشخاص لا يسيئون إليك… لا تجلس بمفردك مع سيدة سرًا بدون شهود. إن كان لديها أمر سري تريد أن تبوح به, يجب أن يكون معها مربية أو عذراء أو أرملة, أو سيدة متزوجة. لا تقدر أن تفيض بأسرارها لك بدون وجود صديقة لها.
القديس جيروم
v ألا ترى أن “المعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة؟” بها لا تقدر أن تنطق بالإنجيل، وإنما تسمع كلمات الأوثان. بها تفقد الحق أن المسيح هو اللَّه، وما تشربه هناك تتقيأه في الكنيسة.
القديس أغسطينوس
v قال هذا لكي يوبخهم لأنهم بلا فهم، وأيضًا استطاع قدر الإمكان أن يقدم نوعًا من العذر على الماضي مع تطلعهم إلى الرجوع، فألقى بالاتهامات على الآخرين حتى يجتذبهم إلى التوبة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“اصحوا للبر ولا تخطئوا،
لأن قومًا ليست لهم معرفة باللَّه،
أقول ذلك لتخجيلكم [34].
لما تحدث الرسول معهم كمن يتهمهم بالنهم وعدم الفهم وعدم المبالاة والضلال، ألقى باللوم بالأكثر على أصدقائهم الأشرار كمن هم علّة هذا كله، طالبًا اعتزالهم والرجوع بالتوبة إلى اللَّه، فيرجعوا إلى حالهم الأول المبارك؛ ولكي لا يثيرهم أكثر فييأسوا أو يعاندوا قال: “أقول ذلك لتخجيلكم“ [34] .
“اصحوا“، والترجمة الحرفية “استيقظوا من نوم السُكر الجسداني” الذي ألقيتم أنفسكم فيه بواسطة المتشككين في القيامة (يوئيل 1: 5). فالحياة ليست إلا لحظة عابرة، لكن السماء تترقب لتهبنا بركات بلا نهاية.
“لا تخطئوا“، فإنهم إذ أنكروا القيامة ارتموا في حبال الشهوات الجسدية وملذاتها. يسألنا الرسول ألا نستهين باللَّه وبنفوسنا وأبديتنا.
“لتخجيلكم“: أي أنه يلزم الكورنثوسيون المسيحيون الذين يفتخرون بالمعرفة أن يتصرفوا مع الجهلاء الذين ينكرون القيامة، فإن هذا عار لهم.
مرة أخري يحذرهم، فإنه من المخجل أو من العار ألا يعرف المسيحيون اللَّه، لأن من ينكر القيامة من الأموات، ومن يعيش ليأكل ويشرب ولا يبالي بالحياة العتيدة، ولا يسهر من أجل خلاصه يُحسب كمن لا يعرف اللَّه نفسه. فالحياة الفاسدة هي إلحاد عملي وتجاهل لوجود اللَّه ورعايته وعنايته ومكافآته الأبدية للأبرار والأشرار.
عدم المعرفة أشبه بظلمة تحجب عن النفس معاينة نور اللَّه، فإنه ليس من حال أردأ من أن تبقي النفس في ظلام بدون معرفة اللَّه. هنا ربما يتحدث الرسول عن الذين استناروا مرة وكانوا يمارسون الحياة الجديدة المقدسة لكن صداقة الأشرار أفسدت رؤيتهم. فإنه من العار أن يتركوا طريق النور وينحدروا إلى أعماق الظلمة في جهالة.
v يبدو بولس كمن يتحدث مع سكارى ومجانين, فإن مثل هؤلاء يمارسون التغييرات المفاجئة للسلوك. الذين لا يؤمنون بالقيامة من الأموات ليست لهم معرفة اللَّه.
القديس يوحنا الذهبي الفم
8. الجسد المُقام 35- 44.
يبدأ هنا بالجزء الثاني من مقاله عن القيامة من الأموات حيث يتحدث عن طبيعة الجسم المقام. يبدأ بالإجابة على بعض الاعتراضات على القيامة مثل:
v كيف يقوم الأموات؟
v وبأي جسم يقومون؟
سؤال واحد من جانبين. وهو بأية قوة أو كيف يمكن تحقيق القيامة؟ لأن هذا في نظرهم مستحيل. والجانب الآخر هو إن افترضنا أنها تتحقق، فهل يقوم بذات الشكل والأعضاء. الجانب الأول هو سؤال الملحدين العاجزين عن إدراك قوة اللَّه لتحقيق القيامة. والجانب الثاني هو سؤال فيه حب استطلاع المتشككين.
“لكن يقول قائل:
كيف يقام الأموات؟
وبأي جسم يأتون؟” [35]
بنوعٍ من التوبيخ يقدم الرسول تساؤلات المتشككين في القيامة بالقول: “كيف؟” فإنه لا يجوز التشكك فيما يعلنه اللَّه من حقائق لمجرد عجز العقل عن إمكانية تحقيقها. فعوض القول كيف؟ وجب الإيمان بإمكانية قوة اللَّه لتحقيق ذلك. فعندما سُئل حزقيال النبي عن إمكانية إقامة العظام الجافة، كانت إجابته: “أنت تعلم يا رب!” (حز37: 3).
v ربما يُدهش أحد كيف يمكن للأجساد التي تحللت أن تعود سليمة, والأعضاء التي تبعثرت وتحطمت أن تُسترد. ومع هذا لا يعجب أحد من البذور الرقيقة التي تتحطم عندما تتبلل وتثقل بالتربة إذ بها تنمو وتعود خضراء. مثل هذه البذور حتمًا تتحلل باحتكاكها بالتربة, ولكن برطوبة التربة واهبة الحياة تنال البذور المدفونة والخفية نوعًا من الحرارة المحيية, وتنال قوة واهبة الحياة لنمو النبات عندئذ بالتدريج تقوم بالطبيعة، فتظهر سنبلة نامية على الساق, وكأم معتنية بها تغلفها وهي في مرحلة ما قبل النضوج بأغطية تحميها من الدمار، من صقيع البرد أو حرارة الشمس، حتى تظهر البذور كما لو كانت أطفالاً صغارًا.
القديس أمبروسيوس
v لماذا يقدم بولس برهانًا كهذا بدلاً من أن يشير ببساطة لسامعيه عن قوة اللَّه كما فعل في مواضعٍ أخرى؟ هنا يتعامل مع شعب لا يؤمنون بما يقوله, لذلك قُدم لهم براهين عقلية لما يقوله.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“يا غبي الذي تزرعه لا يحيا إن لم يمت” [36].
بالنسبة للجانب الأول يجيب الرسول بأن القيامة هي في إمكانية اللَّه القدير الذي يعمل دومًا بقوته الإلهية في حياتنا اليومية بما يشابه القيامة. فكما تنحل حبة القمح وتبدو كأنها قد هلكت تمامًا لتعود فتقدم ثمارًا من ذات النوع هكذا يحدث مع جسمنا. كأنه يقول لماذا في غباوة نجحد قوة اللَّه واهب القيامة ونحن نختبر في كل يوم قوته المحيية لأشياءٍ ميتةٍ؟
يدعو الرسول ذاك الذي يضع تساؤلات خاصة بالقيامة متجاهلاً قدرة اللَّه ومفتخرًا بالفلسفة البشرية “غبيًا“.
يجيب الرسول علي التساؤل: “كيف؟” بمثلٍ واقعي يعرفه كل إنسان، فإن الاعتراض علي إمكانية القيامة لا أساس له من خلال الواقع العملي. قيامة المسيح الذي مات من أجلنا لم تنزع عنا موت الجسد الذي حلّ بنا من آدم لكنه يُحضرنا إليه لننعم بحياة جديدة سماوية خارجة من موته المحيي.
إذ يقول: “يا غبي” يوجه حديثه إلى المعلمين المخادعين أو الرسل الكذبة، الذين اعتمدوا على حكمتهم البشرية وأخذوا موقفًا مضادًا للَّه والناس، فصاروا بحق أغبياء. من جانب آخر فإنهم حسبوا اللَّه عاجزًا عن إقامة الأموات لذا صاروا أغبياء.
v إنه يحل مشكلة يقدمها الأمم ضد القيامة… فيقدم صعوبتين، إحداهما بخصوص طريقة القيامة، والثانية نوع الأجساد… لهذا يدعو الشخص غبيًا إذ يجهل ما يحدث معه يوميًا، أمور تحدث معها القيامة، ومع هذا يشك في قدرة اللَّه. لهذا يؤكد قائلاً: “الذي تزرعه” يا أيها القابل للموت والهلاك…
القديس يوحنا الذهبي الفم
v يليق بنا ألا نشك في ما هو متفق مع الطبيعة وليس ضدها. فإنه طبيعيُا كل الأشياء الحية تقوم ودمارها أمر غير طبيعي.
القديس أمبروسيوس
v يبدو أننا ملزمون أن نأخذ هذه الكلمات بهذا المعنى، وأن نفترض أن الذين سيجدهم الرب أحياء على الأرض فإنهم في تلك الفترة الزمنية الضيقة يموتون وينالون الخلود، إذ يقول نفس الرسول: “في المسيح جميعنا أحياء” [22]. بينما يتحدث عن نفس قيامة الجسد في موضع آخر قائلاً: “ما تزرعه لا يحيا ما لم يمت” [36]. إذن كيف أولئك الذين سيجدهم المسيح أحياء على الأرض أن يحيوا في عدم الموت ما لم يموتوا، فقد قيل عن هذا الأمر: “ما تزرعه لا يحيا إن لم يمت”؟ أو إن كنا لا نقدر أن نتكلم كما يليق بخصوص الأجساد البشرية أنها تُزرع ما لم بموتها تعود ثانية إلى الأرض فيتحقق ما نطق به اللَّه ضد أب كل الجنس البشري المخطئ: “أنت تراب وإلى تراب تعود” (تك 19:3)، يليق بنا أن نعرف بأن أولئك الذين سيكونون بعد في الجسد عند مجيئه قد أُعفوا من تلك الكلمات الواردة في الرسول وفي سفر التكوين فبكونهم يرتفعون على السحاب بالتأكيد لم يزرعوا ولا عادوا إلى الأرض إذ لا يختبرون الموت نهائيًا أو أنهم يموتون إلى لحظة في الهواء.
القديس أغسطينوس
“والذي تزرعه لست تزرع الجسم الذي سوف يصير،
بل حبة مجردة،
ربما من حنطة أو أحد البواقي” [37].
ما يزرعه الإنسان ليست السنابل التي سيحصدها بل حبة مجردة، منها تخرج سنبلة من ذات النوع، لكنها أفضل وأعظم. هكذا بالنسبة لنا نُزرع جسمًا ليقوم ذات الجسم ولكنه أبرع جمالاً وبهاءً، له طبيعة جديدة مجيدة روحية أعظم مما زُرع. فالموت ليس طريقا لعبور الجسد وعودته فحسب، لكنه طريق لتمجيد الجسد ليشارك النفس بهاءها الأبدي.
v مقاله هنا لم يعد بخصوص القيامة بل طريقة القيامة، وما نوع الجسد الذي سيقوم، إن كان من نفس النوع أم أفضل وأكثر منه مجدًا. تحدث عن الأمرين من نفس المثال مشيرًا إلى أنه سيكون أفضل… ماذا إذن ما يقوله: “لست تزرع الجسم الذي سوف يصير”، أي سنبلة القمح، فهي ذات البذرة وليس هي بعينها. فالمادة هي، لكنها ليست هي لأنها أفضل. تبقى المادة كما هي لكن يصير جمالها أفضل، يقوم نفس الجسم لكنه جديدًا.
v يقول أحد: “نعم، لكن هذا من فعل الطبيعة”. أخبرني، أية طبيعة؟
فإنه في هذه الحالة اللَّه بالتأكيد هو الذي يصنع الكل، وليست الطبيعة ولا الأرض ولا المطر، بل اللَّه هو العامل. لذلك قد صنع كل هذه الأشياء بطريقة واضحة، تاركًا الأرض والمطر والجو والشمس وأيدي الفلاّحين، ويقول: “اللَّه يعطيها جسمًا كما أراد” [38]. لذا لا يليق بك أن تسأل أو تنشغل كيف وبأية وسيلة يتم ذلك عندما تسمع أن ذلك يتحقق بقوة اللَّه وإرادته.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v إن كانت البذرة تموت وتقوم بمنافع إضافية للجنس البشري فلماذا يُحسب غير معقول أن الجسد البشري يقوم بقوة اللَّه بكيانٍ مساٍو تامٍ؟
أمبروسياستر
v
تُزرعون مثل سائر الأشياء، فلماذا تتعجبون أنكم ستقومون مثل بقية الأشياء؟ أنتم تؤمنون بالبذرة لأنكم ترونها. أنتم لا تؤمنون بالقيامة لأنكم لا ترونها. “طوبى للذين لم يروا وآمنوا” (يو 20: 29). ومع ذلك قبل حلول الموسم المناسب حتى بالنسبة للبذرة لا يصدقون بها. فإنه ليس كل موسمٍ مناسبًا للبذار كي تنمو. فالقمح يُزرع في وقت وينمو في وقت آخر, في وقت ما تُطعم الكرمة. وفي وقت معين تظهر الجذور، وفي وقت آخر تظهر أوراق الشجرة بكثرة ثم تتشكل عناقيد العنب. في وقت معين تغرس شجرة الزيتون. وفي وقت آخر تصير مثقلة كما بطفلٍ وكمن هي حامل بحصرم العنب وتنحني من كثرة ثمارها. لكن قبل الوقت المعين لكل نوع يبدو الإنتاج محدودًا. ليست الشجرة أو الزرع له وقت لحمل الثمار من قوته الذاتية.
القديس أمبروسيوس
“ولكن اللَّه يعطيها جسمًا كما أراد،
ولكل واحد من البزور جسمه” [38].
يهب اللَّه الجسد “كما أراد“، وما هي إرادته إلا أن يتمتع الجسم بالحياة المطوبة السماوية. هذه هي مسرّته أن يهب ذات الجسم الذي شارك النفس جهادها في هذا العالم أن يشاركها مجدها.
كل بذرة تُزرع تقيم جسمًا خاصًا بها، فلم نسمع عن بذرة قمح جلبت شعيرًا، ولا بذرة تفاح جلبت ليمونًا، بل كل بذرة تجلب حصادًا من ذات نوعها.
“ ليس كل جسد جسدًا واحدًا،
بل للناس جسد واحد
وللبهائم جسد آخر
وللسمك آخر
وللطير آخر” [39].
جاء وقت ادعى العلماء بأن ما يقوله الرسول بولس خطأ فإن جسد الإنسان وجسد الحيوان وأيضًا السمك والطيور هو واحد، مكون من ذات الجبلة الأولى أو بروتوبلازما الخلية أو المادة الحية الأساسية في الخلاياprotoplasm. اليوم أدرك العلماء أن مادة الخلايا cytoplasm وقلبها nuclei تختلف في هذه الأنواع الأربعة من الجسد.
الجسد الذي يقيمه الرب هو جسد حقيقي، جسد إنسان له طابعه الخاص، لكنه ممجد وروحي. إنه ليس كما يظن البعض أنه جسد خيالي.
v في القيامة سيقوم جسد أفضل, جسد لا يعود فيه لحم ودم هكذا بل كائن حى خالد ولا يمكن هلاكه.
ثيؤدور أسقف المصيصة
“وأجسام سماوية، وأجسام أرضية،
لكن مجد السماويات شيء، ومجد الأرضيات آخر” [40].
حينما يتحدث عن الأجسام السماوية والأجسام الأرضية هنا لا يعني بالسماء والأرض بمفهومهما العام، إنما يقصد بالسماء الشمس والقمر وبقية الأجرام السماوية، بينما يقصد بالأرض جرم الأرض المادي.
يعود فيقارن بين جسمنا الترابي الذي علي مثال جسم آدم وذاك الذي سنناله على مثال جسم المسيح القائم من الأموات. فإنه لا يوجد وجه للمقاومة بين مجد الجسم الترابي ومجد الجسم الروحاني السماوي. ففي السماء يكون الجسم ممجدًا وبهيًا وكاملاً. حقا إنه حتى في هذا العالم يتمتع جسمنا الترابي بعربون المجد الداخلي والبهاء، أما في يوم الرب فإنه “سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون علي صورة جسد مجده بحسب عمل استطاعته أن يخضع لنفسه كل شيء” (في 3: 21). وكما وعدنا السيد المسيح: “حينئذ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم” (مت 13: 43).
إذ يتحدث هنا عن الأجسام السماوية ربما لا يعني الشمس والقمر والكواكب، لكنه يعنى الملائكة والطغمات السمائية، فإنهم أرواح لكنهم بالمقارنة باللَّه الروح البسيط يُحسبون لهم أجسام. ونحن إذ نشترك معهم في الحياة السماوية تصير أجسامنا روحية، لكنها مختلفة عن تلك التي للسمائيين. وربما يقصد بالأجسام السماوية جسم المسيح القائم من الأموات وأجسام القديسين القائمة من الأموات، وبالأجسام الأرضية أجسامنا هنا في الحياة الزمنية على الأرض.
v حتى بين الأجسام الأرضية الاختلاف ليس بقليل. خذ الجنس البشرى كمثال. البعض يونانيون والبعض برابرة، وبين البرابرة البعض أكثر عنفًا من غيرهم. البعض لهم قوانين سامية والآخرون قوانين منحطة, البعض لهم عادات متوحشة وآخرون ليس لهم قوانين قط يخضعون لها.
العلامة أوريجينوس
v إن كان اللَّه استطاع أن يصنع الشمس والقمر والكواكب، فما هي المشكلة إن كان يصنع لنا أجسادًا جديدة؟
بيلاجيوس
“مجد الشمس شيء، ومجد القمر آخر، ومجد النجوم آخر،
لأن نجما يمتاز عن نجم في المجد” [41].
تهب القيامة المؤمن هنا قوة ليحطم الخطية ويكسر شوكة الموت، فيعيش بروح النصرة المتهللة.
يشتاق المؤمن إلى معرفة ما يكون عليه جسمه في القيامة، وفي نفس الوقت في شيء من التشكك يتساءل غير المؤمن عما سيكون عليه حال الجسم القائم من الأموات. وقد أوضح الرسول بلغة مفرحة إن سمات جسمنا القائم من الأموات هي:
أولاً: بلا فساد [42]. ثانيًا: مجيد [43].
ثالثًا: في قوة [ 4]. رابعًا: جسم روحاني [44].
خامسًا: على شبه جسم الإنسان الثاني، الرب من السماء [45 ـ50].
v حقًا سيقوم الكل في قوة وعدم فساد، ولكن في هذا المجد الذي بلا فساد لا يتمتع الكل بذات الكرامة والأمان.
v مع وجود قيامة واحدة توجد اختلافات ضخمة في الكرامة من جسد إلى آخر.
v إذ يقول هذا يصعد إلى السماء ويقول: “مجد الشمس شيء ومجد القمر آخر”. كما يوجد اختلاف بين الأجسام الأرضية يوجد أيضًا في السماوية. هذا الاختلاف ليس بالأمر العادي بل يبلغ قمته. لا يوجد اختلاف فقط بين الشمس والقمر والنجوم، بل وبين النجوم وبعضها البعض. فمع وجودها جميعًا في السماء غير أن البعض لها مجد أعظم والأخرى أقل.
ماذا نتعلم من هذا؟ وإن كان الجميع سيكونون في ملكوت اللَّه، لكن لا يتمتع الجميع بذات المكافأة، وإن كان الخطاة في الجحيم لكن ليس الكل يعاني من نفس العقوبة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v (لا تتحد روحنا إلا باللَّه وحده)
الثالوث القدوس وحده لديه الإمكانية أن يخترق كل طبيعة عقلية، ليس فقط يعانقها ويلتف حولها بل ويدخل فيها… فبالرغم من تمسّكنا بوجود بعض الطبائع الروحانية مثل الملائكة ورؤساء الملائكة والطغمات الأخرى وأيضًا أرواحنا… إلا أنه ينبغي علينا ألا نعتبر هذه الطبائع غير مادية incorporeal، إذ لها جسم تعيش به أخف بكثير مما لجسدنا، وذلك كقول الرسول: “وأجسام سماوية وأجسام أرضيَّة” (1 كو 40:15)، وأيضًا “يُزرَع جسمًا حيوانيًّا natural ويُقام جسمًا روحانيًّا” (1 كو 44:15). وبهذا يظهر أنه لا يوجد شيء غير جسمي إلا اللَّه وحده. هو وحده يمكن أن يخترق كل مادة روحية وعقلية، لأنه هو وحده الكامل والموجود في كل شيء، يرى أفكار البشر وحركاتهم الداخلية وكل خبايا أرواحهم، وعنه وحده يتحدث الرسول الطوباوي قائلاً: “لأن كلمة اللَّه حيَّة وفعَّالة وأمضى من كل سيفٍ ذي حدَّين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمِخاخ ومميِّزة أفكار القلب ونيَّاتهِ. وليست خليقة غير ظاهرة قدَّامهُ، بل كل شيءٍ عريان ومكشوف لعيني ذلك الذي معهُ أمرنا” (عب 12:4، 13). ويقول الطوباوي داود: “المصوّر قلوبهم جميعًا” (مز 15:33) وأيضًا: “لأنه هو يعرف خفيات القلب” (مز 21:44). “لأنك أنت وحدك تعرف قلوب بني البشر” (2 أي30:6).
الأب سيرينوس
v نؤمن بوجود فارق شاسع بين وارثي ملكوت السموات ووارثي الأرض، وبين الذين يُرحمون والذين يشبعون من البرّ وبين الذين يعاينون اللَّه (طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون اللَّه). و”مجد الشمس شيء ومجد القمر آخر ومجد النجوم آخر، لأن نجمًا يمتاز عن نجمٍ في المجد، هكذا أيضًا قيامة الأموات“.
الأب شيريمون
“هكذا أيضًا قيامة الأموات:
يُزرع في فساد، ويقام في عدم فساد” [42].
يُعتبر دفن الميت يشبه زرع البذرة.
يري بعض الحاخامات أنه سيوُجد بين الأبرار تسع درجات من المجد والبعض يرى أنه ستوجد سبع درجات:
الدرجة الأولي: الصديقون الذين يحفظون العهد مع اللَّه القدوس ويضبطون كل المشاعر الشريرة.
الدرجة الثانية: الذين يسلكون باستقامة في طرق اللَّه ويُسرون بالسلوك في طرقه ويسرونه.
الدرجة الثالثة: الكاملون الذين يسيرون في طريق اللَّه ولا يستغربون تدابيره.
الدرجة الرابعة: للقديسين، وهم أسمي العينات علي الأرض، وهم موضع سرور اللَّه.
الدرجة الخامسة: لقادة التائبين الذين يحطمون الأبواب النحاسية ويعودوا إلى الرب.
الدرجة السادسة: للدارسين اللطفاء الذين لم يعصوا اللَّه.
الدرجة السابعة: الإلهيون وهم الذين يبلغون القمة فوق كل الدرجات السابقة.
كما وُجدت عبارات في التراث الحاخامي تشبه كلمات الرسول منها: “وجود الأبرار في العالم العتيد تكون كالشموس والأقمار والكواكب مشرقة، ومثل الزنابق والمنارات في الهيكل”.
“ يُزرع في فساد” إذ يتعرض الجسم للانحطاط والفساد والانحلال.
“يُقام في عدم فساد” كجسدٍ مجيدٍ لن يخضع بعد إلي فساد أو انحلال أو موت.
v كما أن النفس العاقلة ليست صالحة ولا شريرة في ذاتها بل هي قادرة أن تصير هكذا أو كذلك, هكذا الجسد ليس قابل للدمار أو غير قابل بالطبيعة بل يقتنى هذه السمات الأساسية في الوقت المناسب.
القديس ديديموس الضرير
v مع أن القديسين روحيون في الذهن إلا أنهم لا يزالوا جسديين في الجسد القابل للفساد الذي يبقى ثقلاً على النفس. إنهم سيصيرون روحيين أيضًا في الجسد عندما يُزرع الجسد الحيواني ويقوم جسدًا روحانيًا.
إنهم لا يزالوا سجناء في حصون الخطية, ماداموا يخضعون لاغراءات الشهوات التي لا يوافقون عليها.
هكذا فهمت هذا الأمر كما حدث مع هيلاري وغريغوريوس وأمبروسيوس وغيرهم من معلمي الكنيسة المشهورين, هؤلاء رأوا أن الرسول بكلمات حارب بقوة نفس المعركة ضد الأفكار الجسدية التي لم يكن يريدها.
القديس أغسطينوس
v كما أنه عندما تخدم الروح الجسد تُدعى بحقٍ جسدانية، هكذا عندما يخدم الجسد الروح يدعى بحقٍ روحانيًا. ليس بمعنى أنه يتحوّل إلى روح كما يتوهّم البعض بتفسيرهم الكلمات: “يزرع في فساد ويُقام في عدم فساد” [42]. وإنما لأنه يُخضع للروح في استعداد للطاعة الكاملة العجيبة ويتجاوب في كل شيء مع الإرادة التي دخلت إلى الخلود، فيزول عنها كل تخاذل وفساد وخمول. لأن الجسد ليس فقط سيكون أفضل مما عليه الآن في أفضل حالته الصحية، بل وسيسمو فوق جسدي أبوينا الأولين اللذين أخطأ.
v بطريقة ما تشرق البتولية هناك، وبطريقة أخرى تشرق هناك عفة الزواج، وبطريقة ثالثة سوق يُشرق الترمل المقدس. يشرق الكل بطرق مختلفة، لكن الكل سيكونون هناك.
القديس أغسطينوس
“يزرع في هوان، وُيقام في مجد،
يزرع في ضعف، ويُقام في قوة” [43].
“يُزرع في هوان“: بسبب الخطية حُرم الجسم وطاقاته وحواسه ومشاعره من كل المجد وصار في هوانٍ، وأصبح مصيره الموت. لكنه يقوم في مجدٍ، إذ يتمتع بالخلود ويتحرر من عبودية الموت أبديًا.
“يُزرع في ضعف“: إذ يتعرض للأمراض، “ويُقام في قوة” إذ لا يتعرض بعض للتعب والمرض والشيخوخة والانحلال والموت.
جاءت كلمة “ يُزرع” كتعبيرٍ مُبهج عوض “يُدفن“.
ماذا يقصد بالقوة هنا؟ ليست كتلك الخاصة باللَّه ولا بملائكة. وهي ليست بالقوة البدنية، لكنها قوة تتمم ما يبدو كأنه أمر مستحيل تنفيذه الآن. أيضًا القوة هنا مقابل الضعف الذي كان الجسم يتعرض له في هذا العالم. وكأن القوة تعني عدم خضوع الجسم للأمراض والضعفات والاحتياجات الجسمانية من أكل وشرب ونوم، كما لا يمكن أن يحل به الموت أو الفساد أو الانحلال.
“يُزرع جسمًا حيوانيًا، وُيقام جسمًا روحانيًا.
يوجد جسم حيواني، ويوجد جسم روحاني” [44].
يزرع جسمًا حيوانيًا، يشبه الجسم الحيواني من جهة تكوينه كجسم به عضلات وعظام وأعصاب وأوردة وشرايين الخ.، لها ذات الوظائف وبه الجهاز الهضمي الذي يحول الطعام إلى دم والجهاز التنفسي الخ.
“ويًقام جسمًا روحانيًا” يتسم بالكمال، فلا يحتاج إلى مئونة خارجية كالطعام والشراب والهواء؛ ولا يخضع للموت، له وجود روحي، ومئونة روحية.
جاء في التراث اليهودي في عصر الرسول عبارات مشابهة، منها: جاء في Sohar Chadash: “هكذا سيكون في قيامة الأموات، فقط لا يوجد فيه الدنس القديم”. ويقول: R. Bechai “عندما يقوم الأبرار ستكون أجسادهم طاهرة وبريئة، مطيعة لدوافع النفس، لا يعود يوجد صراع ولا أي مرض شرير”. ويقول الحاخام Rabbi Pinchas: “سيجعل اللَّه القدوس المطوّب أجسام الأبرار جميلة كجسم آدم عندما دخل الفردوس”. ويقول الحاخام Rabbi Levi: “عندما تكون النفس في السماء ستلتحف بنورٍ سماويٍ، وعندما تعود إلى الجسم سيكون لها نفس النور. عندئذ سيشرق الجسم ببهاء جلد السماء. عندئذ يتمتع البشر بمعرفة ما هو كامل”.
“الجسم الحيواني“، يترجم أحيانًا “الجسم الطبيعي” وهو الجسم الذي به يمارس الحيوان حياته من أكل وشرب وتنفس وحيوية وله حواس ملموسة ويحتاج إلى راحة ونومٍ.
“الجسم الروحاني” لا يعني روحًا، لأن الروح ليس له جسم.
v هل جسدنا الحاضر ليس بعد روحيًا كما ينبغي؟ حقًا إنه روحاني، لكنه سيصير أكثر روحانية، لأنه الآن غالبًا ما تفارقه نعمة الروح القدس الغنية متى ارتكب خطايا عظيمة. مرة أخرى فإن الروح يستمر حاضر وتعتمد حياة الجسد على النفس وتكون النتيجة في هذه الحالة هو الحرمان من الروح. ولكن بعد القيامة لا يعود يكون الأمر، بل يسكن في جسد البار على الدوام وتكون النصرة حليفة له وتكون النفس الطبيعية حاضرة… بهذا لتؤمن أن اللَّه قادر أن يجعل هذه الأجساد الفاسدة غير فاسدة وأكثر سموًّا من الأجسام المنظورة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v عندما يُزرع الجسد الذي يتكون بواسطة العلاقات الجسدية بين ذكر وأنثى يكون فيه هوان وضعف لأنه جسد نفس هالكة تشاركه سماته. ولكن إذ يقوم بقوة اللَّه يظهر جسدًا روحيًا يحمل عدم الهلاك والقوة والكرامة.
v سيقوم هذا الجسد ولكن ليس في ضعفه الحالي. سيقوم نفس الجسم ولكن بعد ازالة الفساد وتحوله, وذلك كالحديد الذي يصير نارًا عندما يتحد بالنار, وذلك كما يعرف الرب الذي يقيمنا.
إذن هذا الجسد سيقوم, ولكن لن يبقى في وضعه الحالي بل يصير جسدًا أبديًا. لا يعود يحتاج إلى قوت للحياة كما الآن, ولا إلى درجات يصعد عليها. يصير روحيًا, إنه أمر عجيب, نسأل أن نتعرف على وضعه.
القديس كيرلس الأورشليمي
v يُزرع الجسد في هوان، لأنه يوضع في كفن فيه يفسد ويأكله الدود. ولكن عندما يقوم يكون في مجدٍ وينتهي كل أثر للَّهوان.
أمبروسياستر
v سنكون لانزال أجسادًا لكن نحيا بالروح, فنحتفظ بمادة الجسد دون المعاناة من خموله وأماتته.
v كما أن الروح عندما تخدم الجسد لا يكون غير لائق أن يُقال أنها جسدية هكذا الجسد عندما يخدم الروح يُدعى روحانيًا بحقٍ. ليس لأنه قد تحول إلى روح كما ظن الذين أساءوا تفسير النص “يُزرع جسد طبيعي ويقوم جسد روحاني”, وإنما لأنه سيخضع للروح في طاعة كاملة عجيبة مرنة, فتقبل قانونه الخاص بالخلود غير المنحل, وتطرد جانبًا كل شعورٍ بالتعب، وكل ظلٍ للألم، وكل علامةٍ للانحطاط. هذا الجسد الروحاني ليس فقط يصير أفضل من أي جسد على الأرض في صحة كاملة بل ويتعدى جسد آدم وحواء قبل السقوط.
v بالنسبة لطبيعتنا الجسدية يليق بنا أن نفهم أنه لا يوجد جسم واحد نعرفه في انحطاطٍ وفسادٍ وضعفٍ، وآخر مختلف عنه سنستخدمه فيما بعد في عدم فساد وقوة ومجد. بل بالأحرى ذات الجسم يُنزع عنه ضعف وجوده الحالي يتحول إلى شيء من المجد ويصير روحانيًا, فتكون النتيجة أنه ما كان إناءً للهوان هو بعينه يتطهر ويصير إناءً للكرامة ومسكن الطوباوية.
v نوع الجسد الروحاني هو شيء يصير ملائمًا للسكنى ليس فقط لكل القديسين والنفوس الكاملة, بل لكل الخليقة التي تخلص من عبودية الفساد.
9. نلبس صورة السماوي 45- 50.
“هكذا مكتوب أيضًا صار آدم الإنسان الأول نفسًا حية،
وآدم الأخير روحًا محييًا” [45].
يشير الرسول بولس إلي ما ورد في سفر التكوين 2: 7، بأن آدم صار نفسًا حية. أما بالنسبة لآدم الثاني الذي صار روحًا محييًا فيتحدث بعض اليهود عن روح المسيّا أنه هو الروح الذي كان يرف علي وجه المياه (تك 1: 2) ليهب حياة، وأنهم دومًا كانوا يشيرون إلى المسيّا أنه يحي الذين يسكنون في التراب. وقد جاء في إنجيل يوحنا: “فيه كانت الحياة” (يو 1: 4).
أقام اللَّه آدم اللَّه نفسًا حية، لكنه كان يحتاج إلى الحياة من خارجه، لهذا إذ وهبه اللَّه زوجة دعاها “حواء” أي “حياة” لتجلب حياة، وتكون أمًا لكل حي، وإذ بها تجلب موتًا. أما آدم الثاني فهو الكلمة المتجسد المحيي يؤكد لنا: “أنا هو الحياة والقيامة”.
ثمرة التصاقنا بأبينا آدم الأول أننا حملنا جسدًا حيوانيًا، أما ثمرة اتحادنا بأبينا الجديد آدم الثاني أننا نصير جسدًا روحانيًا، إذ يهبنا الحياة السماوية الأبدية.
v يقول الرسول هذه الأمور حتى نتعلم أن العلامات والوعود للحياة الحاضرة والعتيدة قد حلت الآن علينا. إنه يضع الأشياء الحسنة كأمور للرجاء، ويشير إلى أنها قد بدأت فعلاً, لأن جذورها ومصدرها قد أعلن. إن كان الأمر هكذا فلا حاجة للشك في أن الثمار ستظهر في الوقت المناسب.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v اليوم يعتبر الرسول القديس رجلين هما أصل الجنس البشري، أعني آدم والمسيح. هما رجلان، لكنهما مختلفان في الاستحقاق. حقًا متشابهان في هيكل الأعضاء لكنهما بالحق مختلفان في بدايتهما.
الإنسان الأول، آدم كما يقول النص صار نفسًا حية، وآدم الأخير صار روحًا محييًا.
الإنسان الأول خلفه الأخير، منه نال نفسه لكي يحيا. هذا الأخير تكوّن بذاته، فهو وحده لا ينتظر الحياة من آخر، بل يهبها لكل البشر.
الأول قد تشكّل من التراب الرخيص جدًا، والأخير جاء من رحم العذراء الثمين.
في حاله الأول تحوّّل التراب إلى جسد، أما في الأخير فالجسد نفسه صعد إلى اللَّه.
لماذا؟ أقول أكثر من هذا. هذا الأخير هو آدم الذي وضع صورته في الأول عندما خلقه. هذا هو السبب الذي لأجله قام (المسيح) بنفس الدور مثل السابق، وتقبل اسمه حتى لا يسمح له بالهلاك إذ هو مهتم به، ولهذا السبب خلقه على صورته.
آدم الأول وآدم الأخير؛ الأول له بداية والأخير بلا حدود. لأنه بالحق هذا الأخير هو الأول، إذ يقول: “أنا هو الأول وأنا الآخر”، فبالتأكيد هو بلا نهاية.
يقول النص: “لكن ليس الروحاني أولاً بل الجسداني وبعد ذلك الروحاني“. فبالتأكيد توجد الأرض قبل الثمرة، لكنها ليست في قيمة الثمرة. الأرض تخرج تنهدات وأتعاب، والثمرة تهب وجودًا وحياة. بحق يمجد النبي مثل هذه الثمرة: “من ثمرة بطنك أجلس على كرسيك”.
يكمل النص: “الإنسان الأول من التراب هو أرضي، والإنسان الثاني من السماء سماوي”. أين هؤلاء الذين يظنون أن حبل العذراء وميلادها لطفلها يشبه ما يحدث مع النساء الأخريات؟ ما حدث مع النساء الأخريات هو من الأرض وأما ما حدث للعذراء فمن السماء.
واحد تم بقوة إلهية، والآخر بضعف بشري.
حالة تمت خلال جسد خاضع للأهواء، والأخرى خلال هدوء الروح الإلهي وسلام الجسد البشري.
صمت الدم، ودُهش الجسد، واستراحت أعضاؤها، وكان كل رحمها في راحة خلال افتقاد السماوي له. ارتدي موجد الجسد ثوبًا من الجسد، حتى يمكن لذاك الذي ليس فقط وهب الأرض للإنسان بل وهو يهبه السماء يمكنه أن يصير إنسانا سماويًا.
بطرس خريسولوجوس
“ لكن ليس الروحاني أولاً،
بل الحيواني، وبعد ذلك الروحاني” [46].
الحيواني أو الطبيعي أولاً إذ هو الجسد الذي خُلق عليه آدم ليعيش علي الأرض، أما “الروحاني” فهو ذات الجسد بعد أن يتمجد لتلتحف به النفس في القيامة ويعيش في السماء ككائنٍ أشبه بالروح.
v من الأبوين الأولين للجنس البشري كان قايين هو البكر وكان منتسبًا لمدينة البشر؛ بعد أن وُلد هابيل الذي انتسب لمدينة اللَّه. فإنه كما بالنسبة للفرد تميّز الحق في عبارة الرسول: “ليس الروحي أولاً بل الطبيعي وبعد ذلك الروحاني“، هكذا كل إنسانٍ ينسحب من المجموعة يولد أولاً من آدم شريرًا وجسمانيًا، وبعد ذلك يصير صالحًا وروحانيًا، عندما يُطعَّم في المسيح بالتجديد، هكذا كان الأمر بالنسبة للجنس البشري كله.
v يُفهم الجسم الروحاني كجسمٍ يخضع للروح ليناسب سكناها السماوية؛ كل ضعفٍ أرضي وفساد وتغير يتحول إلى طهارةٍ سماويةٍ واستقرارٍ.
القديس أغسطينوس
v في خطة اللَّه سيعبر ما هو أقل ونتوقع بالأكثر ما هو أفضل. هذا هو السبب لماذا يقول بولس أن الأمور الأقل قد عبرت والأمور الأفضل في الطريق… فإن الفلاح وهو يرى البذار تنحل لا يحزن.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“الإنسان الاول من الأرض ترابي،
الإنسان الثاني الرب من السماء” [47].
لم تُذكر كلمة “الرب” في كثير من المخطوطات وكثير من كتابات آباء الكنيسة الأولين. يرى البعض أن ترجمة النص هي هكذا: “الإنسان الأول من الأرض ترابي، والإنسان الثاني سماوي من الرب” وذلك كما قالت حواء عندما أنجبت قايين أنها ولدت إنسانًا من الرب.
كان اليهود يستخدمون التعبيرين: “آدم الكبير” و”آدم الصغير“، أي السماوي والأرضي، أو آدم قبل القيامة والآخر بعد القيامة.
“ترابي” لا تعني أنه مجرد يسلك على الأرض التي هي تراب بل يحمل طبيعة ترابية زائلة.
v الفارق الأول كان بين الحياة الحاضرة والحياة العتيدة، أما هذا الاختلاف فهو بين الحياة قبل إعلان النعمة وتلك التي بعد إعلان النعمة.
v الرب السماوي صار أرضيًا لكي يجعل الأرضيين سمائيين. الخالد صار قابلاً للموت بأخذه شكل عبد, وليس بتغيير طبيعة الرب, لكي يجعل المائتين خالدين بتمتعهم بنعمة الرب وعدم انشغالهم بمعصية العبد.
القديس أغسطينوس
v الإنسان الأول جاء من الأرض , والثاني من السماء. بقوله: “الإنسان” يعلمنا عن ميلاد هذا الإنسان من العذراء, التي بتحقيق عملها كامل عملت بما يتفق مع طبيعة جنسها في الحبل بالإنسان وميلاده. وعندما يؤكد أن الإنسان الثاني من السماء يشهد أن أصله من ظهور الروح القدس الذي حلّ على العذراء. هكذا بدقة بينما كان هو إنسانًا كان أيضا سماويًا. فإن ميلاد هذا الرجل كان من العذراء, الحبل كان من الروح.
القديس هيلاري أسقف بواتييه
“كما هو الترابي هكذا الترابيون أيضًا،
وكما هو السماوي هكذا السماويون أيضًا” [48].
كما كان آدم الذي تشكّل من التراب هكذا تكون سلالته، خاضعين للضعف والانحلال والموت. وكما هو السماوي هكذا من يتحد به يشترك في المجد السماوي.
v إن بقيت فيما هو من الأرض فإنك تتحول إليها في النهاية. يجب أن تتغير, يلزم أن تصير سماويًا.
v تشكل آدم من الطين بيدي اللَّه, وتشكل المسيح في الرحم بروح اللَّه.
مكسيموس أسقف تورينو
v ماذا إذن؟ ألم يمت هذا الإنسان أيضًا؟ حقًا لقد مات لكن لم تصبه أذية من هذا بل بالأحرى وضع نهاية للموت.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v لكن ليتنا نسمع ما جاء بعد ذلك: “كما كان الترابي هكذا الترابيون، وكما هو السماوي، هكذا يكون السمائيون“. كيف يمكن للذين لم يولدوا هكذا كسمائيين أن يوجدوا سمائيين؟ ليس ببقائهم على ما وُلدوا عليه بل بالاستمرار في أن يكونوا حسب الولادة الجديدة.
أيها الاخوة هذا هو السبب أن الروح السماوي بأمر سرّي لنوره أعطى خصوبة لرحم الأم العذراء. لقد أراد أن يلد أولئك الذين لهم أصل من كم ترابي موروث فجاءوا كبشر أرضيين في حالة يرثى لها ليصيروا ككائناتٍ سماوية. أراد أن يحضرهم إلى شبه خالقهم. هكذا ليتنا نحن الذين بالفعل قد وُلدنا ثانية وتشكلنا على صورة خالقنا نحقق ما أمر به الرسول.
لذلك وإن كنا قد حملنا شبه الأرضي، فلنحمل شبه السماوي!
لنثق بأن كل هذا كان ضرورة وهو أننا قد تشكلنا من الأرض فلا نقدر أن نجلب ثمارًا سماوية. نحن الذين وُلدنا من الشهوة لا نقدر أن نتجنب الشهوة، نحن الذين وُلدنا من إغراءات الجسد القوية لابد لنا ان نحمل ثقل إغراءاته. وإذ نتثقل بإغراءاته حسبنا هذا العالم بيتنا وصرنا أسرى لشروره. نحن نولد من جديد على شبه ربنا (كما أشرنا) الذي حبلت به البتول، فنحيا بالروح، ونحمل التواضع ويولد فينا الكمال، وتنتعش فينا البراءة، ونتعلم القداسة، ونتمرن على الفضيلة، ويتبنّانا اللَّه أبناء له.
لنحمل صورة خالقنا في إنتاج كامل. ليكن ذلك إعادة إنتاج ليس لذاك الجلال الذي هو فريد في هذا، وإنما في تلك البراءة والبساطة والوداعة والصبر والتواضع والرحمة والسلام الذي به قد عيّن لكي يصير واحدًا معنا.
ليته تبطل احتكاكات الرذائل المزعجة، وتنهزم إغراءات الخطايا الخطيرة، وتُضبط العين مصدر الجرائم.
ليت كل ضباب الأمور الزمنية يتبدد من حواسنا.
ليت كل وهن الشهوات العالمية تطرد من أذهاننا.
لنقبل فقر المسيح الذي يخزن لنا غنى أبديًا في السماء.
لنحفظ بالكامل قداسة النفس والجسد، لكي نحمل صورة خالقنا ونعتز بها فينا، لا خلال حجمها بل طريقة عملها.
يؤكد الرسول ما قلناه بكلماته: “الآن أقول يا اخوة أن لحمًا ودمًا لا يقدران أن يرثان ملكوت اللَّه“. انظر كيف يكرز بقيامة الجسد! هناك الروح تملك الجسد، لا الجسد الروح، كما توضح الكلمات التالية: “ولا يرث الفساد عدم الفساد“.
ها أنتم ترون أنه ليس الجسد هو الذي يهلك، بل عنصر الفساد؛ ليس الإنسان، بل أخطاؤه، ليس الشخص بل خطاياه، حتى إن الإنسان الذي يعيش في اللَّه وأقامه هو وحده يفرح عند بلوغه الخلاص من خطاياه.
الأب بطرس خريستولوجوس
“وكما لبسنا صورة الترابي
سنلبس أيضًا صورة السماوي” [49].
في القيامة يلبس الجسم مجدًا، فيصير كجسم السيد المسيح القائم من الأموات، يستطيع أن يخترق الحواجز الأرضية، ويعبر في الهواء، ويشرق ببهاء منعكس عليه من بهاء المسيح. كأبناء لآدم وُلدنا علي شبهه وخضعنا لما خضع له. الآن إذ اتحدنا بالسماوي ننعم بشبهه أيضا.
بقوله: “سنلبس” يوضح أن صورة السماوي أشبه بثوب نرتديه ونختفي فيه، فجسدنا قائم لكنه يحمل طبيعة جديدة مشرقة ببهاء عظيم.
v الآن إذ سمعت هذه الأمور تتطهر من كل ثقلٍ أرضيٍ بكلمة اللَّه, وتصير صورة السماوي مشرقة فيك.
v إن كان أحد لا يزال يحمل صورة الترابي حسب الإنسان الخارجي، فإنه يتحرك بالشهوات الأرضية والحب الزمني. أما شهوة وحب ذاك الذي يحمل صورة السماوي في إنسانه الداخلي فهي سماوية. تتحرك النفس بالحب السماوي والاشتياق السماوي، إذ ترى بوضوح جمال كلمة اللَّه وكماله فتسقط إلى الأعماق في حبه وتتقبل الكلمة نفسه كسهمٍ معين يجرحها بالحب.
العلامة أوريجينوس
v هذه تعنى أنه كما نحمل الجسد الفاسد الذي لآدم الترابي هكذا في المستقبل نحمل الجسد غير الفاسد شبه ذاك الذي للمسيح المقام.
أمبروسياستر
v قصد بولس هو هكذا: إذ حملنا صورة الترابي، أي الأعمال الشريرة، لنحمل صورة السماوي، طريقة الحياة الفائقة بالسموات. فإن كنا نتحدث عن الطبيعة، فإننا لا نحتاج إلى نصيحة أو حث إذ واضح أنه يتحدث هنا عن أسلوب حياتنا.
v أن تحمل صورة ليس بالأمر الذي يخص الطبيعة, وإنما هو حسب اختيارنا وسلوكنا.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v لماذا خلقتني بهذه الكيفية؟ إن أردت أن تعرف هذه الأمور لا تكن طينًا بل كن ابنًا للَّه خلال رحمة ذاك الذي يعطى المؤمنين باسمه القوة أن يصيروا أبناء اللَّه , وإن كان لم يعطِ بعد هكذا حسبما تريد للذين يرغبون في معرفة الإلهيات قبل أن يؤمنوا بها.
القديس أغسطينوس
“فاقول هذا أيها الاخوة:
إن لحمًا ودمًا لا يقدران أن يرثا ملكوت اللَّه،
ولا يرث الفساد عدم الفساد” [50].
تعبير “لحم ودم” يهودي، يشير إلي الإنسان في حالته الراهنة. فإنه بحالة السقوط التي انحدر إليها لا يقدر أن يرث ملكوت اللَّه، طبيعته لا تتفق مع هذا الموضع إن صح التعبير. بضعفه الحالي لن يقدر أن يحتمل عظم بهاء المجد السماوي. لهذا وجب أن يموت وتتغير طبيعة جسده ليؤكد طبيعة قادرة أن توجد في المجد.
يقصد باللحم والدم لا كيان الجسم بل ما هو مائت وفاسد وكل أثر للخطية عليه بكونه جسدنا الفاسد العاجز أن يتمتع بالملكوت الإلهي وهو على هذه الحال.
v يقصد بولس بالجسد هنا الأعمال الشريرة المتعمدة. فالجسم في ذاته ليس عائقًا, وإنما بسبب شرنا لا نقدر أن نرث ملكوت اللَّه.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v
ليتنا لا نحتقر الجسم بأية وسيلة, بل نرفض أعماله. لا نحتقر الجسم الذي سيملك في السماء مع المسيح. لا يقدر جسد ودم أن يرثان ملكوت اللَّه. هذا لا يشير إلى الجسد والدم هكذا بل إلى أعمال الجسد.
القديس جيروم
v عندئذ سيكون هناك نوع من الانسجام بين الجسد والروح, فالروح يحيي الجسد الخادم دون أية حاجة إلى قوتٍ منه. لا يعود بعد يوجد صراع في داخلنا.
وكما أنه سوف لا يوجد أي أعداء من الخارج نحتملهم هكذا لا يعود يوجد أعداء من الداخل.
القديس أغسطينوس
v يقصد باللحم هنا أفعال الإنسان الشريرة التي يفعلها أيضًا في موضع آخر، وذلك كما يقول: “وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح” (رو 8:8-9)… الآن إن كان يتكلم عن الجسم في أي موضع بالفساد، فإنه ليس بالفساد لكنه قابل للفساد. لذلك يكمل في مقاله عنه فلا يدعوه بالفساد بل بالفاسد، قائلاً: “متى لبس الفاسد عدم فساد“ [54] .
القديس يوحنا الذهبي الفم
10. البوق الأخير 51- 58.
“هوذا سر اقوله لكم
لا نرقد كلنا، ولكننا كلنا نتغير” [51].
يكشف الرسول بولس عن سرّ لم يكونوا يعرفونه من قبل، وهو أن ليس كل البشرية تموت، لكنها جميعًا تتغير. هذا ما لم يكن اليهود يدركونه.
v “سنقوم جميعنا” أو كما نقرأ في المخطوط: “سنرقد جميعنا“. وحيث لا توجد قيامة ما لم يسبقها موت، وحيث أننا نفهم في هذه العبارة الرقاد ليس إلا موت، كيف نرقد كلنا أو نقوم إن كان أشخاص كثيرون سيجدهم المسيح في الجسد لم يرقدوا ولم يقوموا؟ فإن كنا نعتقد بأن القديسين الذين سيوجدون أحياء عند مجيء الرب ويرتفعون لمقابلته فإنه في ذات صعودهم يتحولون من الموت إلى عدم الموت فإننا لا نجد صعوبة في كلمات الرسول إما عندما يقول: “ما تزرعه ما لم يمت“، أو قول “سنقوم جميعنا“، “نرقد جميعنا“، فإنه حتى القديسون سيحيون إلى عدم الموت بعد أن يموتوا أولاً.
باختصار وبالتبعية لن يستثنوا من القيامة التي يسبقها الرقاد. ولماذا يبدو لنا أنه غير معقول أن مجموعة الأجساد يلزم أن تزرع في الهواء، ويلزم أن يتغيروا من الفساد إلى عدم الفساد، عندما نؤمن بشهادة نفس الرسول أن تتحقق القيامة في طرفة عين، وأن يتحول تراب الأجساد إلى سمو غير المدرك وخفيفٍ إلى هؤلاء الأعضاء الذين يعيشون إلى ما لا نهاية؟
القديس أغسطينوس
v من لا يتغير في هذا العالم لن يقدر أن ينعم بخبرة التغيير في العالم الآخر.
v يُشار إلى إشراقات القديسين عندما يتلألأون في القيامة مثل ملائكة اللَّه. فإنهم سيتطهرون هكذا ويصيرون في بهاء فيقدرون أن يتطلعوا إلى العظمة بعيني القلب. إنهم لا يقدرون أن يتفرسوا في النور ما لم يتغيروا إلى ما هو أفضل.
كاسيدورس
v إنه يقصد ذلك: أننا نحن أيضًا (الذين سنموت) نصير غير قابلين للموت، لأن هؤلاء أيضًا (الأحياء عند مجيء الرب) هم أيضًا قابلون للموت. لهذا لا تخافوا لأنكم تموتون كمن لا يقوموا بعد. فإنه سيوجد أيضًا من سيهربون من هذا لكن هذا لن يشبعهم لأجل القيامة؛ فإنه حتى الذين لا تموت أجسامهم يلزم أن يتغيروا ويتحولوا إلى عدم الفساد… إذ يقول: “نحن” لا يتحدث عن نفسه بل عن أولئك الذين سيوجدون في ذلك الحين أحياء.
“في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير،
فإنه سيبوق،
فيقام الأموات عديمي فساد،
ونحن نتغير” [52].
“في لحظة“، أي نقطة من الزمن غير قابلة للانقسام؛ و”في طرفة عين” وهو تعبير يشير إلي ما يكاد يكون في غير زمنٍ يمكن قياسه، يتحقق هذا كله. بهذا يعبّر عن حدوث القيامة بقدرة إلهية لا تحتاج إلى زمنٍ لإتمامه.
يقول الحاخام أكيبا بأن اللَّه القدوس ينفخ في بوق ممتد يُسمع صوته في كل أقاصي الأرض. في النفخة الأولي تهتز الأرض، وفي الثانية ينفصل التراب عن بعضه, وفي الثالثة تجتمع العظام معًا، وفي الرابعة تمتلئ الأعضاء حرارة، وفي الخامسة تتغطى الجماجم بالجلد، وفي السادسة تتحد النفوس بأجسادها، وفي السابعة يحيا الكل ويقفوا مكتسين ليظهروا أمام العرش الإلهي للدينونة.
ضرب البوق في يوم مجيء الرب هو تعليم كتابي ورد في (زكريا 9: 14، مت 24: 31؛ يو 5:25؛ ا تس 4: 16).
ماذا يعني بالبوق الأخير؟
توجد أبواق كثيرة، فقد حدثنا سفر الرؤيا عن الأبواق السبعة التي تضرب عبر الأجيال حتى مجيء المسيح لتحقيق خطة اللَّه. في العهد القديم كانت الشريعة تقدم مع صوت بوق (خر 19: 16). وكانت الأبواق تُضرب لكي يتهيأ الكهنة والشعب للاحتفال بالأعياد الكبرى خاصة في بدء الشهر السابع حيث يشير إلى عيد نهاية العالم وكمال الأزمنة وفي اليوم العاشر حيث عيد الكفارة والخامس عشر حيث عيد المظال احتفالاً بالخلاص من مصر روحيًا (مز 50: 1- 7؛ زك 14: 18- 19). وعندما أقيم لعاذر من الموت كان بصوت عظيم (يو 11: 43)، هكذا سيكون البوق الأخير عند مجيء الرب للدينونة (مت 24: 31؛ 1 تس 4: 16).
v عند صوت البوق الأرض وكل شعبها يكونون في رعبٍ، وأما أنتم فستفرحون. العالم سوف يحزن ويتنهد عندما يأتى الرب ليدينه. قبائل الأرض تقرع الصدور. الملوك القادرون يرتعبون في عريهم. جوبتر مع كل نسله يلتهبون؛ وأفلاطون مع تلاميذه يظهرون أغبياء؛ وبراهين أرسطو تصير باطلة. ربما تكون أنت فقيرًا قرويًا لكنك تتمجد وتضحك قائلاً: “هوذا المصلوب إلهي! هوذا دياني!
القديس جيروم
v بقوله “بوق” يُود أن نفهم بأنه سيكون الأمر جليًا جدًا بعلامة مميزة, ففي موضع آخر يدعوه صوت رئيس الملائكة وبوق اللَّه (1 تس 4: 15).
v يسهل على اللَّه أن يقيم الموتى حديثا كما الذين تحللوا منذ زمن طويل.
v يعلن في رسالته إلى أهل كورنثوس انتهاء الزمن فجأة، وتغيير الأمور التي تتحرك الآن إلى نهايتها المضادة. إذ يقول: “هوذا سرّ أظهره لكم؛ لا نرقد كلنا، ولكننا كلنا نتغير، في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير“ [51-52]…
يعلمنا بأن التغيير يتم في لحظة زمن، موضحًا أن هذا الزمن المحدود ليس فيه أجزاء وليس له امتداد، فدعاه “لحظة” و”طرفة عين“. فلا يوجد بعد احتمال لأحدٍ في لحظة الزمن التي هي الأخيرة… أن ينال بالموت هذا التغيير الذي يقيم الأموات. يتغير الذين هم أحياء ليصيروا على شكل الذين نالوا التغيير بالقيامة، أي إلى عدم الفساد. فلا يكون ثقل الجسد بعد قائمًا ولا ينزل بهم إلى الأرض بل يرتفعون إلى الهواء، إذ نرتفع على السحاب لمقابلة الرب في الهواء، وهكذا نكون مع الرب على الدوام.
v أما بخصوص وصف الرسول بولس لعجائب القيامة كيف يمكن لإنسانٍ ما أن يعالج هذا الموضع ظانًا أنه يمكنه بسهولة أن يبلغ إليه ويقرأ عنه؟ “كل الأموات” كيف؟ إنه بصرخة… أو بضربة الأبواق كل الأموات والمنبطحين يتغيرون في طرفة عين إلى كائنات خالدة.
“لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد،
وهذا المائت يلبس عدم موت” [53].
سواء يموت الإنسان أو لا يموت، فإن ما هو أهم أنه يتغير حتى يتهيأ ليرث ملكوت اللَّه.
v سأرى أخي قيصريوس ليس في منفي ولا مدفونا ولا حزينًا ولا يحتاج إلى من يشفق عليه , بل في بهاء ومجد وسمو….
القديس غريغوريوس النزنيزي
v هل هذا الذي كان قادرًا أن يخلقك عندما لم تكن موجودًا غير قادرٍ أن يقيمك أنت الذي كنت قبلا موجودًا؟.
v لقد ضُربت (أيها الموت)، لقد جُرحت، لقد سقطت طريحًا، لكن جُرح ذاك الذي خلقني. يا موت، يا موت، هوذا الذي أوجدني جُرح من أجلي وبموته غلبك. بنصرة سيقولون: “أين غلبتك يا موت؟ أين شوكتك يا موت؟”.
v سنتجدد نحن أيضًا في الجسد عندما يلبس هذا الفاسد عدم الفساد فيصير جسدًا روحانيًا. آدم لم يتغير بعد إلى مثل هذا الجسم، بل كان موضوعًا له أن يكون هكذا لو أنه لم يتأهل بسبب الخطية للموت حتى بالنسبة لجسده الطبيعي. أخيرًا فإن بولس لم يقل: “الجسد مائت بسبب الخطية”، بل الجسد مات بسبب الخطية.
القديس أغسطينوس
v يبقى الجنسان الذكر والأنثى كما خلقت الأجساد. سيختلف مجدهم حسب اختلاف أعمالهم الصالحة. فإن كل الأجساد من كل من الرجال والنساء التي ستكون في ذلك الملكوت ستكون مجيدة.
فولجنتيوس
v ستحرر أذهاننا عن الآلام ومن الأرض. هذا ما ستكون عليه. سنتقبل عطية النور منه، وبطريقة لا نقدر أن نعرفها سنتحد معه، ويُحمل فهمنا في سعادة طوباوية. سنُصدم بنوره الباهر.
المدعو ديونسيوس
v الجسد يبقى, أما إماتته وفساده فيبطلان عندما يحل به الخلود وعدم الفساد.
v على أي الأحوال “هذا الفاسد” الذي للجسد “لابد أن يلبس عدم فساد“ [53]. أما الآخر، أي النفس، فليس فيها فساد قط حيث يوجد فيها عدم الفساد… الآن إن كنا سنرحل إلى العالم الآخر وفينا فساد فسيصير هذا الفاسد بلا فساد ولا نهاية، بل يبقى محترقًا ولا يحترق ليفنى، يبقى دومًا مضروبًا بالدود، فساده لا يفسد. فيكون حاله مثل أيوب الطوباوي الذي فسد (جسده) ولم يمت ولفترة طويلة. كان “انهياره مستمرًا يضع كتل التراب على قروحه” (أي 5:7 LXX).
v لئلا عندما يسمع أحد “أن لحمًا ودمًا لا يقدران أن يرثا ملكوت اللَّه” يظن أن أجسامنا لا تقوم، لذلك أضاف: “ولا يرث الفاسد عدم الفساد“، و”يلبس هذا المائت عدم موت“. الآن فإن الجسم فاسد، الجسم مائت لذلك يبقى الجسم حقًا، لأن الجسم هو الذي سيلبس، لكن فساده وموته يبيدان، بينما يحل عليه عدم الفساد وعدم الموت. لا تعود بعد تسأل كيف ستعيش حياة بلا نهاية، فقد سمعت الآن عن تحوله إلى عدم الفساد.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v لو سألنا مسيحيًا صالحًا له زوجة، وقد يكون لديه أبناء منها عما إذا كان يرغب في أن تكون له علاقة جسدية بزوجته في ملكوت السموات، فإنه بالرغم من محبته لزوجته في الحياة الحاضرة وارتباطه بها، سيجيب بلا تردد رافضًا بشدة أن تكون علاقته بها في السماء علاقة جسدية، لأنه يهتم بتلك الحياة التي فيها يلبس الفاسد عدم فساد وهذا المائت عدم موت (1 كو 53:15، 54).
هل لي أن أسأله مرة أخرى عما إذا كان يرغب في أن تكون زوجته معه بعد القيامة هناك، حيث يكون لها ذلك التغير الملائكي الذي وعد به الرب القديسين، فإنه سيجيب بالإيجاب بشدة، قدر ما رفض بشدة في الحالة الأولى.
لهذا ما يحبه المسيحي الصالح في المرأة هو كونها مخلوق إلهي، هذه التي يرغب لها التجديد والتغير دون أن يهتم بالعلاقة الشهوانية. وبنفس الطريقة يحب الإنسان عدوه، لا لأجل عداوته له بل لكونه إنسانًا يرغب له نفس النجاح الذي يريده لنفسه، أي بلوغ ملكوت السموات.
وهذا ما ينطبق أيضًا على الأبوة والأمومة وبقية العلاقات الجسدية (الدموية)، فنبغض فيهم العلاقات الجسدية، بقدر ما نحب كل ما يؤدي بهم إلى الوصول لملكوت السموات. فهناك لا نقول لأحد: “أبي”، بل جميعنا نقول للَّه “أبانا”. ولا نقول لأحد: “أمي” بل نقول جميعنا لأورشليم السماوية “أمنا”. ولا نقول لأحد: “أخي” بل يقول كل للآخر: “أخي”.
حقًا سيكون هناك زواج من جانبنا إذ نتقدم جميعًا كزوجة واحدة لذاك الذي خلصنا من نجاسة هذا العالم بسفك دمه، لذلك يلزم لتلميذ المسيح أن يكره تلك الأمور الزائلة المتعلقة بأقربائه، وبقدر كراهيته لهذه الأمور قدر ما يحب أشخاصهم، راجيًا لهم حياة أبدية.
القديس أغسطينوس
“ومتى لبس هذا الفاسد عدم فساد،
ولبس هذا المائت عدم موت،
فحينئذ تصير الكلمة المكتوبة:
أُبتلع الموت إلى غلبة” [54].
لن يبقي سيف الموت متسلطًا علي البشرية، لكنه سيتحطم أمام الأبدية الخالدة. هنا يُشخّص الموت ويقدمه ككائن مفترس يبتلع البشرية في كل أجيالها، ولكن بقيامة الجسد وانهيار مملكة الموت يُبتلع الموت نفسه فتحطمه الأبدية. يملك اللَّه ولا يكون للموت بعد وجود.
بقوله: “حينئذ” يؤكد إلي يوم القيامة أنه لم تنكسر شوكة الموت تمامًا، فجسدنا في العالم تحت سيفه القاتل حتى تتحقق القيامة، فلا يعود لشوكته وجود ولا يكون له بعد أي سلطان.
يبتلع السيد المسيح الموت محطمًا إياها فلا يعود له بعد وجود..
v أي أنه بالكامل وليس جزء منه يبقى أو يترجّى العودة، لأن عدم الفساد يُبيد الفساد.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“أين شوكتك يا موت؟
أين غلبتك يا (قبر) هاوية” [55].
يُشخصّن الرسول الموت والهاوية، فيجعل للموت شوكة كمن يسوق ثورًا ينخسه بالشوكة علي الدوام، ويجعل للَّهاوية مملكة كانت له غلبة ونُصرة كاملة على البشرية وعلي الحيوانات، ليس من يفلت من إمبراطوريته.
يُصور الموت في النقوش القديمة بهيكل عظمي يحمل إكليلاً علي الجمجمة وبيده حربة يقتل بها الكل. أما اليهود فيصورون ملاك الموت حاملاً سيفًا تتساقط منه قطرات قاتلة تنزل في أفواه كل البشر.
كثيرا ما تستخدم كلمة “قبر” عوض الهاوية، بكونه الموضع الذي فيه تنفصل النفوس عن الأجسام البشرية.
v أنتم ترون ما يُعلن عن عمله في الآخرين، فالذين قد أوشكوا على الموت، الطفل الذي كاد حالاً أن يفقد الحياة، والشاب الذي على باب القبر، الذين لهم الفساد يتجدّدون بأمرٍ واحدٍ للحياة. هل تبحثون عن أولئك الذين ماتوا خلال جراحات وسفك دماء، كل ضعف القوة الواهبة للحياة تمنعهم عن التمتع بالنعمة؟ تطلّعوا إلى ذاك الذي جرحت يداه بالمسامير، تطلّعوا إلى ذاك الذي طعن جنبه بحربة. ضعوا أصابعكم على آثار المسامير وأياديكم في موضع الحربة… إن كان قد قام فإننا حسنًا ننطق بتسبيح النصرة التي نطق بها الرسول الخاصة بالأموات!
v عندما يكون الجسد في تناغمٍ مع العقل، ويُبتلع الموت في غلبة [54]، فلا تبقى بعد شهوات جسدية في العقل لتصارع، وعندما يعبر الصراع الذي على الأرض، تنتهي حرب القلب، وينتهي ما قيل عنه: “الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون” (غلا 17:5).
v الإنسان بالطبيعة يخشى الموت وانحلال الجسد. ولكن توجد حقيقة مدهشة أن الذي يلبس الإيمان بالصليب يحتقر حتى ما هو مرعب بالطبيعة ومن أجل المسيح لا يخاف الموت.
v لكن ما دمت أنا هنا يعبر الجسد الفاسد تحت النفس. لتقل أيضًا ما قيل بعد ذلك: “من يخلص حياتك من الفساد؟” (مز 4:103). ماذا يبقى بعد الخلاص من الفساد؟ عندما يلبس هذا الفاسد عدم الفساد، وهذا المائت عدم الموت، عندئذ يعبر القول المكتوب: “قد اُبتلع الموت في غلبة. أين غلبتك يا موت؟” بحق” أين شوكتك يا موت؟” إنك تبحث عن موضعه فلا تجده. ما هي شوكة الموت؟ ماذا “أين شوكتك يا موت؟ أين الخطية؟” أنت تبحث عنها وليس لها موضع، لأن شوكة الموت هي الخطية. هذه كلمات الرسول لا كلماتي. عندئذ يُقال: “أين شوكتك يا موت؟” لا تعود توجد الخطية لكي تُدهشك، ولا لكي تحاربك، ولا لكي تلهب ضميرك.
v أين هو الموت؟ ابحث عنه في المسيح, فإنه لا يعود يوجد. لو وُجد، فإن الموت قد مات الآن. يا اللَّه أيها الحياة, يا قاتل الموت!
لنكن بقلب صالح فيموت الموت فينا أيضًا.
ما قد حدث مع رأسنا سيحدث مع أعضائه. سيموت الموت فينا أيضًا. ولكن متى؟ في نهاية العالم, في قيامة الأموات التي نؤمن بها والتي لا نشك فيها.
v عندئذ ليس فقط أننا سوف لا نطيع أية اغراءات للخطية، وإنما سوف لا توجد مثل هذه الاغراءات من النوع التي أوصبنا إلا نطيعها.
v من أجل الأنشطة الضرورية لهذه الحياة لا تُحتقر الصحة حتى يلبس هذا المائت عدم الموت. هذه هي الصحة الحقيقية الكاملة التي لا تنتهي, هذه التي لا تنتعش بالملذات الفاسدة عندما تفشل خلال الضعف الأرضي، وإنما تتأسس بقوة سماوية وتصير شابة بعدم الفساد الأبدي.
v إذ خضعت الطبيعة البشرية لعدو… يليق بالإنسان أن يخلص من سلطانه ليجد نفسه. عندئذ إن كانت حياته في هذا الجسد ممتدة فإنه يُعان في صراعه حتى يغلب العدو. وأخيرًا فإن المنتصر سوف يتجمل لكي يملك, وفي النهاية عينها يتساءل: “أين فريستك يا موت؟“
القديس أغسطينوس
v
عدم الفساد يبتلع الفساد ولا يترك شيئًا من الحياة الماضية خلف ذلك.
v هل ترون سمو نفسه؟ كيف أنه مثل إنسانٍ يقدم ذبيحة على رجاء النصرة هكذا كان بولس قد أوحى له أن يرى الأمور العتيدة كأمورٍ قد حدث فعلاً, فيثب وهو يطأ الموت كما لو كان ساقطًا تحت قدميه. وينطق بصرخات النصرة على رأس الموت حيث يسقط صارخًا بقوة وتهليل: “أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا قبر؟” لقد ذهب الموت, لقد انتهي وزال. فإن المسيح ليس فقط جرد الموت من سلاحه وغلبه بل وحطمه ولا يعود بعد له وجود قط!
القديس يوحنا الذهبي الفم
“أما شوكة الموت فهي الخطية،
وقوة الخطية هي الناموس” [56].
لو لم توجد الخطية ما وُجد الموت. عصيان الإنسان عزله عن اللَّه مصدر الحياة فخضع لسلطان الموت وشريعته الظالمة.
بدون الناموس ما كان يمكن أن نميز الخطية (رو3: 20؛ 4: 15؛ 5: 13). أعطانا الناموس الفرصة لكشف ما نحمله في داخلنا من عصيان ومقاومة لمشيئة اللَّه فعاشت الخطية فينا.
الخطية هي والدة الموت؛ إذ بإنسانٍ واحد دخلت الخطية إلي العالم وصار الموت بالخطية (رو 5: 12).
v تحطم المعمودية شوكة الموت. فإنكم تنزلون إلى المياه مثقلين بخطاياكم. ولكن دعوة النعمة تهب نفوسكم هذا الختم, فلا تعود تقودكم لكي تبتلعوا بالتنين الرهيب. تنزلون أمواتًا في الخطية, وتصعدون أحياء للبرّ.
القديس كيرلس الأرشليمى
v المنع (بالناموس) دائمًا يزيد الرغبة الخاطئة ما دام الحب والفرح في القداسة ضعيفان غير قادرين على الغلبة على الميل للخطية. لهذا بدون معونة النعمة الإلهية يستحيل للإنسان أن يحب القداسة ويبتهج فيها.
v عندما تمنع الشريعة (أمرًا ما) نخطئ بأكثر خطورة مما لو أننا لم نمنع بواسطتها. على أي الأحوال، إذ تحل النعمة تتمم الناموس بدون صعوبة وبأكثر رغبة عما لو ضغط الناموس نفسه أن نفعله. لم نعد بعد عبيدًا للناموس خلال الخوف بل صرنا أصدقاء خلال الحب وعبيدًا للبرّ الذي كان نفسه المصدر لما أعلنه الناموس.
القديس أغسطينوس
v
لأن بدون الناموس الخطية ضعيفة، فإنها وإن كانت تمارس بدونه لم يكن إدانتها بالكامل. ومع أن الشر صار له موضع لكن لم يُشر إليه بوضوح هكذا. لهذا فإن الناموس سبب تغييرًا ليس بقليلٍ. أولاً جعلنا نتعرف على الخطية بطريقة أفضل وقدَّم العقوبة… نعم لكي يظهر أن الناموس ليس في ذاته يهب الخطية القوة، لذلك أكمل المسيح الناموس كله وكان بلا خطية.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“ولكن شكرا للَّه الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح” [57].
حياة النصرة تهب المؤمن حياة شكر للَّه. وكأن قيامة الرب تُعد الإنسان لتقديم ذبيحة شكر مقبولة لدي اللَّه.
لن يمكن تحقق النصرة بأنفسنا (مز 89: 1)، إنما هي عطية ربنا يسوع المسيح لنا.
v لم يربح المسيح النصرة لأجل نفسه بل لنفعنا. فإنه إذ صار إنسانًا بقي هو اللَّه, وغلب الشيطان. فإن ذاك الذي لم يخطئ قط اقتنى النصرة لأجلنا نحن الذين كنا مربوطين في الموت بسبب الخطية. موت المسيح غلب الشيطان, الذي التزم أن يسلم كل الذين ماتوا بسبب الخطية.
أمبروسياستر
v لئلا نفعل ما هو مُسر بطريقة غير شرعية، ولئلا في هذه المعركة نعاني من متاعبٍ ومخاطرٍ كثيرةٍ بأن نترجى النصرة الأكيدة بقوتنا الذاتية أو ننسبها عند تحقيقها إلى قوتنا، لا إلى نعمة ذاك الذي يقول عنه الرسول: “شكرًا للَّه الذي يهبنا الغلبة بيسوع المسيح ربنا“.
القديس أغسطينوس
v لقد أقام بنفسه الغلبة، لكنه أعطانا أن نشترك نحن لننال الأكاليل، وذلك ليس على سبيل دين بل من قبل الرحمة وحدها.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“اذا يا اخوتي الأحباء كونوا راسخين غير متزعزعين،
مكثرين في عمل الرب كل حين،
عالمين أن تعبكم ليس باطلاً في الرب” [58].
إذ يهبنا الإيمان بقيامة المسيح غلبة على الخطية نقدم ذبيحة شكر لا بكلمات منطوق بها فحسب وإنما أيضا بحياة مثمرة في الرب. فالشكر هو حياة شركة جادة ومثمرة بروح اللَّه. هكذا يختم الرسول بولس حديثه عن القيامة من الأموات بالدعوة للسلوك بالحياة الجديدة المقامة كعربونٍ للتمتع بالحياة الأبدية.
v إن كانت الغلبة هي عطية إلهية فبقوله: “كونوا راسخين” يؤكد تأكيد ثقة المؤمن في نفسه أنه قادر بالنعمة أن يثبت ويكون راسخا في إيمانه، لا يقدر أحد مهما كان مركزه أو قدراته أن يسقطه. يليق بنا ليس فقط أن نجاهد في الرب بل أن نفعل ذلك بغنى حتى الفيض. جهاد الإنسان بعد طرده من الفردوس هو عقوبة من أجل معاصيه, ولكن هذا الجهاد (المسنود بالنعمة) هو أساس المكافآت العتيدة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
من وحي 1 كو 15
جسدي يئن في داخلي:
متى أخلع الفساد لأحمل عدم الفساد!
v إلهي, خلقتني لأحيا معك في سمواتك.
مسرتك أن أشترك معك في مجدك.
في غباوتي وبخبرتي البشرية صارت السماء لي وهمًا,
وقيامة جسدي أمرًا مستحيلاً!
v من أجلي صرت إنسانًا وشاركتني حتى القبر.
قمت والتقيت بكثيرين حتى تطمئن نفسي.
قيامتك أقامت عقلي من موت الشكوك.
قيامتك وهبت جسدي رجاءً أن يقوم معك.
قيامتك ألهبت قلبي شوقًا إلى يوم مجيئك.
v قمت يا بكر الراقدين ليقوم الكل معك.
قدمت نفسك بذرة تُلقى في الأرض,
تقوم سنبلة واهبة الحياة.
لأزرع في التراب وأقوم في السماء!
زرعت مع آدم الأول,
وها أنا أقوم معك, آدم الثاني!
أزرع جسمًا حيوانيًا, وأقوم معك جسمًا روحانيًا.
v لك الشكر من اجل عطية القيامة.
عوض الفساد تهبني عدم فساد.
عوض الموت تهبني الخلود.
عوض الهوان تهبني مجدًا أبديًا.
v قيامتك ألهبت قلبي بنار الحب.
قيامتك أعطتني روح القوة لا الفشل.
بك أتحدى الموت ولا أخشاه!
بك أطأ بقدمي الهاوية إذ لا سلطان لها عليَ.
بك أواجه آلام الزمن بفرِح.
أجد في الاضطهاد شركة آلامك المحيية.
v ألا تسرع فيأتي يوم القيامة,
فأرى ما أعددته للبشرية قبل تأسيس العالم!
أرى مؤمنيك كواكب بهية متلألئة!
لكل منهم مجده المتميز!
إنه يوم عرسك العجيب.
هو يوم عرسي,
أتمتع بموكب سماوي يضم جماعة السمائيين!
أقرأ أيضاً
تفسير كورنثوس الثانية 14 | تفسير رسالة كورنثوس الأولى | تفسير العهد الجديد |
تفسير كورنثوس الثانية 16 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير رسالة كورنثوس الأولى | تفاسير العهد الجديد |