تفسير رسالة كورنثوس الأولى الأصحاح ١٠ للقديس يوحنا ذهبي الفم

تفسير كورنثوس الأولى – الأصحاح العاشر

 

“فإني لست أريد أيها الإخوة أن تجهلوا أن آباءنا جميعهم كانوا تحت السحابة وجميعهم إجتازوا في البحر . وجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر . وجميعهم أكلوا طعاماً  واحداً روحياً. وجميعهم شربوا شراباً واحداً روحياً لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح . لكن بأكثرهم لم يُسر الله لأنهم طُرحوا في القفر” ( ع 1 – 5 ) .

أثبت بولس الرسول هنا أنه كما أن أولئك لم ينتفعوا بأخذ المواهب العظيمة ، هكذا ولا هؤلاء تنفعهم المعمودية ولا مساهمة الأسرار الروحية إن لم يظهروا سيرة تليق بالنعمة.

وكما أكلت أنت الجسد الإلهي ، هكذا أكل أولئك المن وكما شربت أنت الدم الزکی ، هكذا أولئك شربوا الماء من الصخرة .

حتى وإن كانت الأمور قد صارت حسية إلا أنها مُنحت بحالة روحانية وليس بحسب مقتضى الطبيعة بل على سبيل الموهبة .

ومعنى عبارة “والصخرة كانت المسيح “، أي أن الماء لم ينبع من طبيعة الصخرة ؛ فلو كان هذا حق لكانت أنبعته قبل ذلك أيضاً ؛ بل هي صخرة روحانية أعني السيد المسيح الذي كان  حاضراً في كل مكان وفاعلاً الآيات دائماً.

والمقصود من عبارة “لكن بأكثرهم لم يسر الله” ، أي مع أنهم كانوا لا يحصون إلا أن هذه الكثرة لم تنفعهم شيئاً ، لأنهم لم يظهروا ما يخص المحبة
أما قول بولس الرسول “لأنهم طرحوا في القفر” أظهر هلاكهم الذي أدركهم بغتة إلى جانب عذابهم وعقابهم.

“وهذه الأمور حدثت مثالاً لنا حتى لا نكون نحن مشتهين شروراً كما اشتهي أولئك” ( ع٦ ) .

لأنه كما أن للمواهب مثالاً ، أيضا يكون للعذابات مثال ، وكما أن المعمودية والتناول سبق توضيح مثالها هكذا وبواسطة الأمور التي صارت بعد ذلك سبق القول بها لأجلنا بأن غير المستحقين الموهبة سيعاقبون لنتهذب بتلك المثالات.

“فلا تكونوا عبدة أوثان كما كان أناس منهم كما هو مكتوب جلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب” ( ع٧) .

إن سبب تعدى الشريعة هنا هو شره البطن ، إذ ذكر بولس الرسول ” جلس الشعب للأكل والشرب”، ثم ذكر الغاية الناتجة منها أي ” ثم قاموا للعب ” حيث من التنعم انتقلوا إلى عبادة الأوثان.

“ولا نزن كما زني أناس فسقط في يوم واحد ثلاثة وعشرون الفاً”. ( ع٨)

لأي سبب ذکر بولس الرسول هنا الزني ؟ ليذكرهم بتلك الخطية وليعلمهم بأن هذا الشر ولد من التنعم والشره .

“ولا نجرب المسيح كما جرب أيضاً أناس منهم فاهلكتهم الحيات ولا تتذمروا كما تذمر أيضاً أناس منهم فاهلكهم المهلك”( ع ۹ ، ۱۰ ) .

أي لا تتذمروا لأجل المحن قائلين متى تأتي الخيرات ؟ متى تكون الجوائز ؟ فالمطلوب التألم من أجل السيد المسيح بل واحتمال ما يأتي بشهامة وبكل لذة ، لأن هذا الأمر إكليل ، لأنه إن لم يكن كذلك فالذين يتضجرون يلحقهم القصاص ، ولذلك عندما كان الرسل يُضربون كانوا يفرحون وبولس الرسول افتخر بالآلام.

“فهذه الأمور جميعها أصابتهم مثالاً وكتبت لإنذارنا نحن الذين إنتهت إلينا أو آخر الدهور . إذا من يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط”  ( ع ۱۱ ، ۱۲ ) .

لاحظ أن بولس الرسول هنا يردع تشامخ الذين يعلون رأيهم مُدعين المعرفة ، لأنه إن كان الذين حظوا بمواهب هذا مقدارها أصابتهم مثل هذه الشرور ، والذين لأجل التذمر فقط تقاصصوا بمثل هذا القصاص ، فبالحرى كثيراً يصيبنا نحن إن لم ننتبه.

وحسنا قال بولس الرسول و من يظن أنه قائم ، أي الواثق بنفسه ، لأن مثل هذا يسقط ، لأن هؤلاء لو أنهم لم يتشامخوا ووثقوا بذواتهم ما أصابتهم هذه الشرور ، ولذلك من الواضح أن الكبرياء يكون ينبوع هذه الشرور.

“لم تصبكم تجربة إلا بشرية ولكن الله أمين الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون بل سيجعل مع التجربة أيضا المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا ، ( ع ۱۳ ) .

توجد محن قد لا تطاق ، وهذه المحن لا يمكننا احتمالها بسهولة بدون المعونة التي من الله ، لأنه هو الذي يمنح الصبر ، ويأتي بالفرج سريعاً ، وبهذه المعاضدة نحتمل المحنة,

“لذلك يا أحبائي اهربوا من عبادة الأوثان ” ( ع 14 )

أمر بولس الرسول بالإسراع الكثير والإقلاع عن هذه الخطية فقال « اهربوا » . 

“أقول كما للحكماء احكموا أنتم في ما أقول ” ( ع 15) .

لقد أعطی بولس الرسول التمييز والحكم عليه ، الأمر الذي هو فعل من يثق بحقوقه جداً؛ إذ يقيم الخصم قاضياً ، أما الله فلم يخاطب اليهود هكذا إذ كانوا أقل فهماً ولا في كل مكان كان يقول لهم سبب الأوامر ، وإنما كان يأمر فقط .
أما الآن فإذ لنا سيادة عظيمة وحظينا بالمشورة فيخاطبنا بولس الرسول كأصدقاء .

” كأس البركة التي نباركها أليست هي شركة دم المسيح الخبز الذي نكسره أليس هو شركة جسد المسيح ( ع 16) .

ما الذي تقوله أيها المغبوط بولس ؟ قصدك تخجل السامع بذكرك الأسرار الرهيبة ؟ أتُسمى ذاك الكأس المخوف والمرهوب كأس البركة ؟ يقول بولس الرسول نعم لأن المذكور لیس بشیء صغير لأني إذا ما قلت بركة أكشف عن كثرة إحسانات الله التي لا ينطق بها ، وكلما حظينا منه هكذا نقدمه ونشارکه شاکرین لأنه عتقنا الضلالة وإذ کنا بعيدين صيرنا قريبين وإذ كان لا رجاء لنا في العالم جعلنا إخوته وارثین معه ، فإذ نشكر عن هذه كلها ونظائرها هكذا نتناوله.

ومعنى قول بولس الرسول “الخبز الذي نكسره ” أي أن هذا الخبز يُرى في سر الافخارستيا فقط ، وأما في الصليب فلا يُرى بل ضد ذلك صار إذ قيل عنه “يحفظ عظامه وواحد منها لا ينكسر ” ( مز 34 : 20) إلا أنه يحتمل ذلك في أجلك ما لم يحتمله على الصليب وارتضى أن يتجزأ ليشبعنا كلنا .

أما قول بولس الرسول , “أليس هو شركة” يعني أن السيد المسيح شاء أن يوضح ما هو أكثر ويثبت الانضمام والاتحاد أبلغ لأننا لا نتناوله بالمساهمة فقط بل نشاركه للاتحاد.

“فإننا نحن الكثيرين خبز واحد جسد واحد لأننا جميعنا نشترك في الخبز الواحد” (ع ۱۷) .

أي أن هذه الخبزة جسد السيد المسيح ويصير متناولوها جسد المسيح ليس أجساداً كثيرة بل جسد واحد ، لأن كما أن الخبزة تتألف متحدة من حبات كثيرة ، حتى إن الحب لا يظهر قط إلا أنه موجود و بالاتحاد صار غير واضح : هكذا يكون اتحادنا مع السيد المسيح.

“انظروا إسرائيل حسب الجسد أليس الذين يأكلون الذبائح هم شرکاء المذبح” ( ع ۱۸ ).

قدم بولس الرسول هنا نموذجاً من العهد القديم فأقنعهم بسنتهم القديمة. لاحظ هنا قول بولس الرسول “هم شركاء المذبح” ولم يقل إنهم يشاركون الله ، لأننا نصير نحن شركاء السيد المسيح نفسه.

“فماذا أقول إن الوثن شیء أو إن ما ذبح للوثن شیء” ( ع ۱۹).

أي ليست للأوثان قوة في أن تضر لأنها ليست شيئا ، ولأنها لا تقدم لسيدك .

“بل إن ما يذبحه الأمم فإنما يذبحونه للشياطين لا لله فلست أريد أن تكونوا أنتم شركاء الشياطين” ( ع ۲۰ ) .

لو أنك كنت ابن ملك وكنت تتمتع بمائدة أبيك ، أتتركها وتبتغي أن تساهم في مائدة المقيدين داخل الحبس ، فإن هذه المائدة توجب الخزي لشرف حسبك وللمائدة الملوكية ، لأنها مائدة الأمم وأصحابها عبید مخالفون مجرمون مقيدون محبوسون للعذاب الشديد تحت طائلة الشرور الكثيرة ، فكيف لا تخجل إذا إذ تبادر إلى هناك كالشرهين عندما يضعون مائدتهم وتشارك ما يضعونه ، لأن نية الذين يذبحونها والأشخاص التي تقبلها تصير الموضوعات نجسة .

“ولا تقدرون أن تشربوا كأس الرب وكأس شياطين . لا تقدرون أن تشتركوا في مائدة الرب وفي مائدة شياطين ” ( ع ۲۱ )

قول بولس الرسول هذا ليمنعهم من الاشتراك في مائدة الرب مع مائدة الشياطين 

“أم نغير الرب ألعلنا أقوى منه” ( ع ۲۲ ) .

أي إنا نجرب الرب إذ ننضم إلى الأضداد ونضع ذواتنا مع محاربيه.

رأيت كيف أن بولس الرسول بكتهم بالتخويف والترهيب وصدهم عن الردئ ولذعهم بصرامة وأهبط تشامخهم ، لأن من عادته أن يضع الأقوال القاسية أخيراً فيغلب أكثر ، ولذلك إذ ابتدأ بالأشياء الأدنى وأتى إلى أصعب الشرور وهكذا صار مقبولاً عند الذين تلطفت أخلاقهم من قبل.

” كل الأشياء تحل لى لكن ليس كل الأشياء توافق كل الأشياء تحل لي ولكن ليس كل الأشياء تبني . لا يطلب أحد ما هو لنفسه بل كل واحد ما هو للآخر ، ( ع 23، 24).

وضع بولس الرسول هنا القضية الواحدة عن ذاته والقضية الأخرى عن الأخ ، لأن قوله ” ليس كل الأشياء توافق ” فعنى عن هلاکه ، أما قوله ” ليس كل الأشياء تبني ” فتعني عن شك الأخ .

“كل ما يباع في الملحمة كلوه غیر فاحصين عن شيء من أجل الضمير ” ( ع 25) .

وإذ منع بولس الرسول تلك الموائد اليهودية وما يحدث في بيوت الأوثان وخوفهم كثيراً، ولكي لا يخرجهم هذا الخوف إلى شيء آخر مفرط فيلتزموا استعمال التفتيش خوفاً من الخطأ ولكي لا يدخل شيئاً مثل ذلك بغير علمهم ، لذلك قال بولس لهم أما عن السوق أو في مكان بيع اللحم فكل ما يباع هناك اشتروه وكلوه غیر مميزين في شيء.

هذا وقد أعطاهم بولس الرسول الفسحة والحرية وألا يفتشوا عن الأشياء ليعرفوها إن كانت ضحية وثن أو شيء آخر نظير ذلك ، بل يأكلون كل ما هو من السوق ، لأن هذه الأشياء لا تكون ردية طبعاً. 

“لأن للرب الأرض وملأها. وإن كان أحد من غير المؤمنين يدعوكم وتريدون أن تذهبوا فكل ما يقدم لكم كلوا منه غير فاحصين من أجل الضمير” ( ع 26، 27) 

فإن كان للرب الأرض والأثمار والبهائم كلها ، لذلك لا يعتبر شيئا نجساً وإنما يصير نجساً على وجه آخر من النية ومن المخالفة.

“ولكن إن قال لكم أحد هذا مذبوح لوثن فلا تأكلوا من أجل ذاك الذي أعلمكم والضمير . لأن للرب الأرض وملأها” ( ع ۲۸ ) .

أمر بولس الرسول بالابتعاد عن مائدة الأوثان ، ليس لأن لها قوة بل لأنها شيء نجس ولأن المائدة هي مائدة الأعداء المحتقرين .

” أقول الضمير ليس ضميرك أنت بل ضمير الآخر لأنه لماذا يحكم في حريتي من ضمير آخر” ( ع ۲۹ ) .

لقد خلقني الله حراً وفوق كل مضرة ، وهذه الحرية حرية معتوقة من العبودية اليهودية ، أما اليوناني لا يعرف أن يحكم بفلسفتي ، وإنما يلومني ويقول في نفسه إن أمور المسيحيين خرافة إذ يبتعدون عن الأوثان.

“فإن كنت أنا أتناول بشكر فلماذا يُفترى علىَّ لأجل ما أشكر عليه » ( ع ۳۰)

إني أشكر الله لأنه جعلنی رفيعاً ومتسامياً على الانحطاط اليهودي ، حيث إنى لا أصاب بالمضرة من جهة من الجهات ، وأما اليونانيون فإذ لم يشعروا بفلسفتی يتوهمون بما يخالف ذلك ويقولون إن المسيحيين قد يرغبون أمورنا وهم قوم مراؤون ، فأي فعل يكون فاقد الحس أكثر من هذا ؟ ! 

“فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئا فافعلوا كل شيء لمجد الله » ( ع ۳۱ ) .

أخرج بولس الرسول النصيحة إلى الأمر الكلى لنمجد الله على كل الأمور .

“کونوا بلا عثرة لليهود ولليونانيين ولكنيسة الله . كما أنا أيضاً أرضى الجميع في كل شيء غير طالب ما يوافق نفسي بل الكثيرين لكي يخلصوا » ( ع ۳۳،۳۲ )

أي لا تعطوا لأحد حجة لأن الأخ يتشكك ، واليهودي بالأكثر يبغضك ويزمك ويلومك ، واليونانی مثل ذلك يستهزئ بك ، ولا يجب أن تشكك الإخوة فقط بل ولا الذين هم من خارج حسب الإمكان ، لأنه إذ كنا نحن نور وخميرة وكواكب وملح ، فيجب أن نضئ ولا نظلم ، نشدد ولا تخلع ، مجتذبين غير المؤمنين فلماذا إذا نطرد الذين يجب أن نستميلهم.

فاصل

أقرأ أيضاً

فاصل

تفسير 2 كورنثوس 9 تفسير رسالة كورنثوس الأولى تفسير العهد الجديد
تفسير 2 كورنثوس 11
 القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير رسالة كورنثوس الأولى تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى