تفسير رسالة كورنثوس الأولى ١ للقمص تادرس يعقوب ملطي
الباب الأول
الوحدة الكنيسة
1-4
يقدم لنا الرسول في هذا القسم أمرين هامين:
أولا: الحلول الإيجابية للتحزبات
1. اقتناء الحكمة الإلهية عوض البشرية: تتركز حكمة الله في الحب الإلهي الفائق للإنسان، والمعلن خلال الصليب الذي ترفضه الحكمة البشرية. فاليهود يرون في الصليب عثرة، إذ يطلبون ملكًا أرضًيا يهبهم مجدًا زمنيًّا فوق كل الشعوب. واليونانيون يرون فيه جهالة، إذ يطلبون معلمًا فيلسوفًا يقدم لهم فلسفات جديدة مستمرة تشبع الفكر وحده. أما المؤمنون فيجدون في الصليب قوة الله للخلاص (18:1)، ويرون في جهالة الصليب غلبة ونصرة لهم (26:1)، وأن الصليب يقدم روح القوة لا الضعف (ص2).
2. السلوك الروحي عوض الجسداني أو الطبيعي: يقسم الرسول البشرية إلى 3 فئات:
الروحانيون
أناس يهتمون بالروح لتكون قائدا للجسد وذلك بعمل الروح القدس، حتى تبد أجسادهم خفيفة كأنها تتمتع ببعض سمات الروح. ويتقدس الإنسان بكليته. الإنسان الروحي يحيا صار كله روحًا. فهو:
يقبل ما لروح الله 13:2-14. يعرف ما لروح الله 14،13:2.
يهتم بما للروح 5:8. يقارن الروحيات بالروحيات 14:2.
يحكم في كل شيء 15:2. يصلح من انزلق في زلةٍ غلا 1:6.
الجسدانيون
أناس يهتمون بالجسد ليكون قائدًا للروح، فيبدو الإنسان كأنه كله جسد، فيسيطر الجسد على كل مشاعره وعواطفه وقدراته ويوجه طاقاته ومواهبه.
يأكل لبنًا لا طعاماًًًَُ قويًا 2:3. فيه حسد وخصام وانشقاق 3:3.
مبيع تحت الخطية رو 14:7. تسكنه الخطية رو 17:7.
يهتم بما للجسد رو 5:8.
الطبيعيون
أناس لا يطلبون ما هو لله، لكنهم يريدون أن يمارسوا بعض الفضائل كعملٍ أخلاقيٍ بحت، فيظنون أنهم قادرون أن يسيطروا على أفكارهم وحواسهم وعواطفهم وكلماتهم وسلوكياتهم. الإنسان الطبيعي هو الإنسان الذي يعيش بحكمة بشريةٍ، متجاهلاً عمل الله.
لا يقبل لروح الله 13:2،14. لا يعرف ما لروح الله 13:2،14.
يحسب الروحيات جهالة 14:2.
3. التعلق بالمسيح لا الخدام (5:3). إننا غرسه، لسنا من صنع الزارع ولا الساقي بل مسيحنا هو الذي يُنمي. نحن بناء الله، وهو الأساس، فلا يستطيع خادم أن يبني على أساس آخر. نحن هيكل الله، وروح الله ساكن فينا.
ليحذر كل خادم لئلا يبني خشبا أو عشبًا أو قشًا لئلا تحرقه نار الدينونة. أما المخدوم فلا يفتخر بالخادم، “فإن كل شيء لكم” (10:3).
4. عدم إدانة الخدام: 1:4-5). إن كنا لا نفتخر بهذا الخادم أو ذاك، فإنه ليس لنا حق إدانتهم، إنما نترك الرب يدينهم في يومه العظيم (5:4).
5. الإقتداء بالخادم المتواضعين (6:4-13). “لأننا صرنا منظرًا للعالم للملائكة والناس؛ نحن جهال من أجل المسيح وأما أنتم فحكماء في المسيح” (9:4-10).
6. قبول تحذيره لهم كأبٍ (14:4-21). “ماذا تريدون؟ أبعصا آتي إليكم أم بالمحبة بروح الوداعة؟!” (21:4).
الأصحاح الأول
الصليب سرّ الوحدة
يكتب رسول الأمم العظيم إلى الكنيسة المحبوبة إليه جدًا بروح الرجاء المفرح مع الصراحة الكاملة. بدأ رسالته بمقدمة مفرحة تبعث فيهم روح الرجاء، وانطلق بهم إلى صليب رب المجد يسوع ليجدوا فيه حلاًّ لكل مشاكلهم السلوكية والأسرية والكنسية والعقيدية. يدخل بهم إلى الصليب ليروا فيه سرّ الوحدة والقوة.
في هذا الأصحاح يتحدث الرسول إلى الكنيسة التي تعاني من الانقسامات مظهرًا أنه يتكلم بروح التواضع وفي نفس الوقت بسلطانٍ كرسولٍ معين من قبل اللَّه نفسه. وجاء شكره للَّه على نمو الكنيسة التي غرسها الرسول في كورنثوس فيه تأكيد وبرهان على نجاحه في تحقيق رسالته وصدق دعوته الإلهية للعمل.
أظهر لهم أيضًا أنهم كنيسة اللَّه المقدسة في المسيح يسوع وأنهم مدعوون قديسين، أغنياء في كثير من المواهب والنعم الفائقة، وأنهم ليسوا بأقل من أية كنيسة في أية موهبة. بهذا هيأ أذهانهم بروح الرجاء لقبول نصائحه بالدخول إلى سرّ الصليب والتمتع بقوة اللَّه للخلاص عِوض تبديد طاقاتهم ومواهبهم في الخلافات والانقسامات. في الصليب نرى اللَّه مصدر كل عطية صالحة، وكل حكمة وغنى فنفتخر به لا بأنفسنا.
1. افتتاحية الرسالة 1-2.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم وكثير من الدارسين أن هذه المقدمة وما تحويه من البركة الرسولية وشكر على نمو الكنيسة تهيئ الطريق للرسول أن يناقش بكل حبٍ وصراحة المشاكل الخطيرة التي للكنيسة.
“بولس المدعو رسولاً ليسوع المسيح
بمشيئة اللَّه وسوستانيس الأخ” [1].
يبدأ الرسالة بروح التواضع فلا يقول: “بولس رسول يسوع المسيح“، بل “المدعو رسولاً”.
v انظروا كيف يطرد كبرياءهم منذ البداية وينزل حتى الأرض بتخيلاتهم العزيزة عليهم جدًا، إذ يتحدث عن نفسه قائلاً: “المدعو“. يقول بولس: ما قد تعلمته لم أكتشفه بنفسي, وإنما دُعيت بينما كنت أضطهد الكنيسة. اللَّه هو الذي أراد أنكم أنتم أيضًا تخلصون بنفس الكيفية. فنحن لم نفعل شيئًا صالحًا من أنفسنا, بل خلصنا بمشيئة اللَّه.
إذ هاجم البعض رسولية بولس وسببوا انقسامًا في الكنيسة افتتح الرسالة بتأكيد أنه رسول لا بمشيئة بشرية، ولا بدعوة من إنسان، وإنما “بمشيئة اللَّه“. لقد دعاه الرب نفسه للعمل الرسولي بالنعمة المجانية، فتهيأ ليُعلن الخلاص المجاني للآخرين. إنه لم ينل الرسولية عن استحقاقٍ شخصيٍ بل خلال مشيئة اللَّه. وأنه ليس كالأنبياء الكذبة الذين قيل عنهم:”لم أُرسل الأنبياء بل هم جروا؛ لم أتكلم معهم بل هم تنبأوا” (إر21:23). لو تُرك الرسول لمشيئته الخاصة لما صار رسولاً إذ يقول: “فإذًا ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى، بل للَّه الذي يرحم” (رو6:9). كما أنه لا يكتب لهم ليطلب منهم مديحًا أو لكي يقبلوه رسولاً، وإنما كرسول مدعو من اللَّه لخدمة الأمم، يكتب إلى الكنيسة التي زرعها بنعمة اللَّه لتكون مقدسة في الرب.
v يكتب أنه “رسول بمشيئة اللَّه”, ملمحًا بهذا إلى الرسل الكذبة الذين لم يُرسلوا بواسطة المسيح, وتعاليمهم ليست حقًا. توجد فِرقْ كثيرة منحرفة, تكرز بالمسيح حسب أهوائهم، هؤلاء يحطمون الكنائس؛ ولا تزال أغصانهم الجافة باقية معنا إلى اليوم.
الأب أمبروسياستر
“سوستانيس الأخ”: كان سوستانيس رئيس المجمع اليهودي، آمن بالسيد المسيح. وهو كورنثوسي المولد، محبوب لدى الشعب، لذا حسبه الرسول شريكًا معه في الرسالة حتى يقبل الكل ما ورد فيها. لعلّه هو نفسه سوستانيس الذي ذكره معلمنا لوقا البشير في أعمال 17:18 الذي نال بركة الضرب من اليونانيين أمام غاليون والي أخائية وهو بعد يهودي.
إذ قبل سوستانيس الإيمان المسيحي وكان مع الرسول بولس في أفسس ساهم في العمل الكرازي، الأمر الذي يفرح قلب كل مسيحي في كورنثوس. ولعل في ذكره دعوة لكل شعب كورنثوس أن يقتدوا بسوستانيس الذي تحوّل من رئيس مجمع يهودي إلى كارزٍ ومبشرٍ.
اعتاد الرسول أن يضم إليه في رسائله أحد العاملين معه أو أحد تلاميذه، ليبث في الشعب روح الحب والعمل الجماعي. بروح التواضع الممتزج بالحب يقدم سيمفونية سماوية مفرحة للسمائيين.
v إنه مثال آخر لتواضعه، فإنه يضع معه في ذات المرتبة من هو أقل من أبلوس، فإن الفارق بين بولس وسوستانيس عظيم. فإن كان يوجد فارق شاسع هكذا فيضع معه من هو أقل منه بكثير، ماذا يمكن أن يقول هؤلاء الذين يحتقرون من هم مساوين لهم؟
v يصنع الاثنان سيمفونية: بولس وسوستانيس عندما كتبا الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس؛ وبعد ذلك بولس وتيموثاوس حين أرسلا الرسالة الثانية إلى نفس الأشخاص.
“إلى كنيسة اللَّه التي في كورنثوس المقدسين في المسيح يسوع،
المدعوين قديسين، مع جميع الذين يدعون باسم ربنا يسوع المسيح في كل مكان لهم ولنا” [2].
إذ كثرت مشاكلهم أبرز في المقدمة الدعوة الإلهية الموجهة إليهم:
غاية الدعوة: أن نكون قديسين كما هو قدوس [2].
سرّ الدعوة: نٌدعى باسم يسوع المسيح [2].
خبرة الدعوة: الصليب قوة اللَّه وحكمته [24].
إمكانيات الدعوة: تحدى للحكماء والأغنياء الخ. [26-31].
6. كعادته يشجع الرسول الكل، فإذ يفند سلوكهم الكنسي المرّ، وأيضًا سلوك بعضهم الأخلاقي الفاسد لم يخجل من أن يقول لهم: إلى “المقدسين في المسيح يسوع، المدعوّين قديسين“. هكذا يرفع الرسول من روحهم المعنوية حتى يمكنهم الإنصات إليه والتجاوب معه. يدعوهم “مقدسين“، و”مدعوين قديسين“، فقد تقدسوا في الرب يسوع وكرسوا قلوبهم له بنوالهم سرّ العماد، لذا لاق بهم أن يسلكوا طريق القداسة. إنهم كنيسة مقدسة، ليس من أجل انتسابهم لبولس أو أبلوس أو صفا (بطرس) بل من أجل اللَّه مقدسّهم.
v لا نصنع شيئًا صالحًا بأنفسنا وإنما بمشيئة اللَّه ننال هذا الخلاص؛ ونحن مدعوّون (قديسين) ليس لأننا نستحق ذلك، وإنما لأن في ذلك مسرته.
v إنه يذكّرهم بعدم طهارتهم التي حررهم منها، وهكذا يحثهم إلى تواضع الفكر، فإنه ليس بأعمالهم الصالحة تقدسوا بل بحنو اللَّه.
واضح أنه وهو يكتب إلى كنيسة كورنثوس يوجه الحديث إلى جميع الذين يدعون باسم يسوع المسيح ربنا في كل موضع، أي إلى الكنيسة الجامعة الممتدة من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها. فإن للرب بقية مقدسة في كل مكان في العالم في كل الأجيال تحيا معًا في شركة روحية. هذه البقية كرست حياتها للرب، أي عزلت نفسها لا عن العالم بل عن فساده لتحمل أيقونة القدوس، وهذا هو غاية إنجيل المسيح. فكلمة “مقدّسون” في اليونانية هنا “hagiazo“ تعني الاعتزال لكي يصير الإنسان في ملكية اللَّه ولخدمته. فمن الخطورة أن ننظر إلى البشرية بمنظارٍ قاتمٍ، إذ يوجد في كل الأجيال قدّيسون يكرّسون قلوبهم وحياتهم للرب القدوس ويحملون روح الوحدة.
v مع أن الرسالة قد كُتبت إلى أهل كورنثوس وحدهم لكنه يشير إلى كل المؤمنين في كل الأرض، مُظهرًا أن الكنيسة في العالم يجب أن تكون واحدة مهما انفصلت عن بعضها في أماكن مختلفة، بالأكثر تكون هكذا في كورنثوس. إن كان المكان يفصلهم فإن الرب يضمهم معًا، إذ هم معروفون للكل. لهذا يوحدهم معًا بقوله “لهم ولنا”.
بقوله “لنا” يعني “لي ولسوستانيس“، فإنه يشعر بأن القدّيسين هم عطية اللَّه لخدامه. فكما يشعر الخادم أنه ليس لنفسه بل للبشرية التي مات المسيح عنها، يشعر أيضًا أن القديسين هم له سند ومعين بل وإكليل مجد يناله.
2. البركة الرسولية 3
“نعمة لكم وسلام من اللَّه أبينا والرب يسوع المسيح” [3].
جاءت البركة الرسولية في كل رسالة تكشف عن قلب بولس الرسول الملتهب حبًا، فيطلب لكل كنيسة كما لكل مؤمنٍ بركة إلهية وعطية تتناسب مع احتياجاته. في نفس الوقت هيأت هذه البركة الجو لقبول ما ورد في صُلب الرسالة.
يبدأ الرسول بالنعمة ثم السلام، إذ لا يمكننا أن نتمتع بالسلام ما لم يقدم لنا الرب نعمته المجانية الغافرة لخطايانا هذه التي تسبب العداوة مع اللَّه والناس. لاق برسول السلام أن يُعلن شهوة قلبه نحو الكنيسة التي في كورنثوس، وهو أن يمنحها اللَّه الآب والرب يسوعالنعمة الإلهية التي تملأ النفس سلامًا عميقًا، كما يطلب لها السلام حتى لا يجد روح الانشقاق له موضعًا فيها.
حقًا إن كل بركة تنبع عن نعمة اللَّه الغنية في النفس وسلامها أو مصالحتها مع اللَّه. لقد طلب اللَّه من هرون وبنيه أن يباركوا الشعب قائلين: “يباركك الرب ويحرسك. يًضيء الرب بوجهه عليك ويرحمك. يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلامًا، فيجعلون اسمي على بني إسرائيل، وأنا أباركهم” (عد24:6-27). هذه البركة تحققت بالحق خلال إنجيل السلام في العهد الجديد، إذ لا يمكن أن يتحقق سلامنا إلا بالمسيح المصلوب.
v إن كان سلامنا مصدره نعمة اللَّه، فلماذا تفتخرون مادمتم تخلصون بالنعمة؟ كيف يمكن لأحدٍ أن يجد نعمة لدى اللَّه إلا بالتواضع؟
v إن كان لكم سلام مع اللَّه فلماذا تميزون أنفسكم عن الآخرين؟ فإن هذا هو ما يفعله الانشقاق… مرة أخرى لا نستفيد شيئًا إن كان كل الناس يمدحوننا والرب يقاومنا، ولا يوجد خطر ما إن رفضنا الكل وأبغضونا ما دام اللَّه يقبلنا ويحبنا.
يعلن الرسول أن النعمة الإلهية والسلام السماوي هما من قبل اللَّه الآب والرب يسوع المسيح ليؤكد لنا أنهما لاهوت واحد. يقول ثيؤدورت أسقف قورش: [يقول بولس بأن المسيح واهب النعم مثله مثل الآب، موضحًا بجلاء أن الاثنين واحد.]
3. شكر على نمو الكنيسة 4-9
حمل الرسول بولس شركة سمات الرب يسوع، أحدها فتح باب الرجاء أمام الغير بروح التشجيع. فقد بدأ رسالته بدعوتهم قديسين تكرسوا لحساب الرب، والآن يقدم ذبيحة شكر للَّه من أجل نموهم.
“اشكر إلهي في كل حين من جهتكم
على نعمة اللَّه المعطاة لكم في يسوع المسيح” [4].
يُعبّر الرسول بولس عن محبته الصادقة لاخوته ومخدوميه بتقديمه الشكر لهم وصلواته من أجلهم. بقلبه الكبير المتسع يهتم باخوته حتى في صلواته.
v ليس شيء يعادل اشتياقات الرسول، ليس من مثيل لحنو الطوباوي بولس وعطفه الذي قدم صلواته كلها من أجل كل المدن والشعوب، وكتب هكذا للكل: “أشكر إلهي من أجلكم، ذاكرًا إيّاكم في صلواتي“. تأمل كيف أن في ذهنه كثيرين! إنه عمل مرهق أن يذكر كل هؤلاء. كم من أُناس يذكرهم في صلواته، ويشكر اللَّه من أجلهم جميعًا كما لو كان هو نفسه قد نال أعظم البركات.
v لا يقدم بولس التشكرات من أجل أهل كورنثوس في بعض الأحيان, ولا عندما يصنعون صلاحًا, وإنما يضع نفسه في مركز الأب الذي يشكر عن أولاده كل الوقت مهما فعلوا.
v يهتم بولس أن يعطى عذوبة لأذهانهم قبل أن يبدأ بحثهم ونصحهم. ما يقوله حق, إذ يقدم التشكرات للَّه من أجل عطاياه لهم.
ثيؤدورت أسقف قورش
بينما يشكر اللَّه إلهه من أجل عطيته للكنيسة وهي النعمة التي صار بها كثيرون متحدين به في المسيح يسوع إذا به ينسب اللَّه إليه شخصيًا فيدعوه “إلهي“.
v بعاطفته العظيمة يحسب ما هو عام للكل خاصًا به فيقول: “إلهي“. هكذا اعتاد الأنبياء أن يقولوا من حين إلى آخر (مز4:43؛ 1:42).
“اشكر الهي في كل حين من جهتكم” [4]. يتحدث الرسول بولس عن مفاسد كثيرة لحقت بالبعض في هذه الكنيسة، من جوانب مختلفة تمس وحدة الكنيسة وقدسيتها وعبادتها وعقائدها، مع هذا يبدأ بالجانب الإيجابي فيُعلن شكره الدائم للَّه على الجوانب الطيبة والمقدسة في هذه الكنيسة. وكأن ضعفاتهم لم تحجب عنه ما تمتعوا به من بركات وعطايا إلهية ولا شغلته عن التسبيح والشكر للَّه من أجل النعمة التي ينالوها.فهو يقدم ذبيحة شكر دائمة “في كل حين” للَّه إلهه الذي دعاه لخدمته والعامل فيها بنعمته، والذي لا يتوقف عن أن ينميها.
مرة أخرى يبرز كل ما هو صالح فيهم، إذ يتمتعون بنعمة اللَّه الغنية في المسيح يسوع [4] التي دعتهم لا ليكونوا قديسين في المسيح يسوع فحسب، بل ويصيروا أغنياء في مواهب الروح التي يتحدث عنها في هذه الرسالة؛ أغنياء في كل كلمة وكل علم [5]؛ لا تنقصهم المواهب [7]؛ يترجون مجيء الرب الأخير [8].
v “المُعطاة لكم“. بواسطة من أُعطيت؟ هل بواسطتي أنا أم بواسطة رسول آخر؟ مطلقًا لا، إنما بيسوع المسيح، فإنه هكذا يعني التعبير: “في يسوع المسيح“.
“أنكم في كل شيء استغنيتم فيه،
في كل كلمة وكل علم” [5].
يشكر اللَّه إلهه من أجل فيض المواهب الروحية التي تمتعت بها الكنيسة في كورنثوس. فلا ينقصها شيء من المواهب ولا تخلفت عن الكنائس الأخرى، خاصة موهبة الكلمة والعلم، أي الشهادة لإنجيل المسيح والمعرفة الروحية. ارتبطت الكلمة أو القدرة على الكرازة بالعلم والمعرفة.
يميز العلامة أوريجينوس بين الكلمة والعلم أو المعرفة فيقول: [المعرفة تظهر ما أنت تعرفه. والكلمة تمتد لتوضح ما تعرفه.] كثيرون لهم موهبة الكلام لكن بعدم معرفتهم تصير أحاديثهم فارغة بلا ثمر، بل ومعثرة. ويوجد أيضًا من لهم العلم والمعرفة في مخزن عقولهم ويعجزون عن تقديمها للغير والشهادة لما في فكرهم. أما كنيسة كورنثوس فتمتعت بالصورة الكاملة للكلمة المرتبطة بالمعرفة، أي القدرة على التعليم الصادق المؤسس على الحق الإلهي. هكذا يود الرسول أن تنفتح أعينهم ليروا فيض الغنى الداخلي، فلا ينشغلوا بالانقسامات والأشخاص، بل بالخدمة والكرازة والتأمل الدائم في اللَّه.
v “في كل كلمة وكل معرفة“. يوجد كثيرون لهم معرفة، لكن ليس لهم قوة الحديث، وذلك مثل غير المتعلمين العاجزين عن توضيح ما بأذهانهم بجلاء. يقول: أنتم لستم مثلهم وإنما قادرون أن تفهموا وأن تنطقوا.
v الشخص الكسول والمرتبك بأخطاء متنوعة يكون بالتأكيد مشغولاً، ويكون دومًا غريبًا عن التأمل في اللَّه وعن الغنى الروحي الذي يقول عنه الرسول: “في كل شيء استغنيتم فيه، في كل كلمة وفي كل معرفة“.
القديس يوحنا كاسيان
v لنُضطهد لكي نركض، ولكننا إذ نركض فلا نجري باطلاً. لندخل السباق من أجل المكافأة عن العمل السماوي.
إذن لنركض فنقتني. ماذا نقتني؟ ما هي المكافأة؟ ما هو الإكليل؟
يبدو لي أن ما نرجوه ليس إلا الرب نفسه. فهو ديّان المجاهدين. وإكليل الفائزين.
هو الذي يقوم بتوزيع الميراث. وهو نفسه الميراث الصالح.
هو النصيب وهو مقدم النصيب، هو يجعلنا أغنياء وهو الغنى.
إنه يظهر لك الكنز وهو نفسه الكنز. إنه يجتذبك لتشتهي اللؤلؤة الجميلة، وهو يقدمها لك كما لو كانت للبيع إن كنت تود أن تتاجر حسنًا.
“كما ثبتت فيكم شهادة المسيح” [6].
أدرك الرسول أن موهبة الشهادة القائمة على المعرفة الصادقة هي نعمة إلهية، أو كنز فائق يهب النفس غنى فلا تعتاز إلى شيء. لقد ثبتت فيهم شهادة المسيح، أي تأسيس إنجيل المسيح وتأصله فيهم.
v تثبت شهادة المسيح فينا إن كنا نستطيع القول مثل الرسول بولس: “فإني متيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة اللَّه في المسيح يسوع ربنا” (رو 8: 38-39). أما إذا كنا نضطرب لأتفه الأمور التي تحدث فلا تكون شهادة المسيح ثابتة فينا تمامًا.
v ثبتت شهادة المسيح فيهم لأنهم تقووا بإيمانهم. لم يثقوا في الأمور البشرية, بل بالأحرى كل رجائهم هو في المسيح, فلم تقتنصهم لذة ولا إغراء للذة.
أمبروسياستر
“حتى أنكم لستم ناقصين في موهبة ما،
وأنتم متوقعون استعلان ربنا يسوع المسيح” [7].
v قدم المديح بنظام لائق لكي يهيئ أهل كورنثوس لقبول النقد القادم. لأن من يبدأ بكلمات مؤلمة يعادى سامعيه. بدأ بولس بمدحهم لكي يتجنب ذلك.
v وإن كان لا تنقصنا عطية ما إلا أننا ننتظر ظهور ربنا يسوع المسيح، عندئذ سيحفظنا في كل شيء، ويقدمنا بلا عيب عندما يأتي يوم الرب. نهاية العالم قادمة, عندما لا يتمجد جسد في عينيه.
اللَّه في سخاء محبته لم يدع كنيسته محرومة من أية موهبة أو عطية فهو أب سخي يهب كنيسته كل ما تحتاج إليه.
لا نعجب أنهم إذ كانوا شهود حق لإنجيل المسيح، أي لهم “شهادة المسيح“، كانوا يترقبون مجيئه الثاني، فإن هذا هو غاية إيمانهم وجهادهم وكرازتهم أن يستعدوا ليوم الرب، مترجّين سرعة مجيئه بفرحٍ عظيمٍ. لقد وعد الرب بمجيئه الثاني عندما حان وقت صلبه (يو3:14)، وتجدد الوعد عند صعوده إلى السماء (أع11:1). صار هذا الوعد هو رجاء المؤمنين الثابت (تي13:2؛ 2بط12:3؛ عب28:9). وخُتم الكتاب المقدس بتوسلٍ مملوءٍ غيرةٍ لكي يأتي الرب يسوع سريعًا.
v إن كان (اللَّه) لا يُرى لكنه موجود وحاضر الآن، وسيظهر بعد ذلك. لهذا توجد حاجة إلى الصبر، فإنه لهذه الغاية قبلتم العجائب حتى تصيروا بها ثابتين.
v لا يتمتع البار في هذه الحياة بما يرجوه, بل بالأحرى يتألم ويتعرض لمخاطر. إنه يترقب إعلان المسيح القادم.
v في هذا اليوم سيُعلن الرب يسوع المسيح للمؤمنين وغير المؤمنين. عندئذ سيتحقق غير المؤمنين أن ما لم يريدوا أن يؤمنوا به هو حقيقة صادقة. أما المؤمنون فسيفرحون، إذ يجدون أن ما يؤمنون به أكثر عجبًا مما كانوا يتخيلون.
أمبروسياستر
“الذي سيثبتكم أيضًا إلى النهاية بلا لوم
في يوم ربنا يسوع المسيح” [8].
يعلق القديس يوحنا ذهبي الفم على هذه الكلمات قائلاً: [تشير هذه الكلمات إلى أنهم لازالوا مهتزين ومعرضين للتوبيخ.]
اللَّه الذي وضع الأساس الثابت في قلوبهم، فالتهبت نفوسهم شوقًا نحو مجيئه كفيل أن يعمل فيهم وسط الضيقات والمتاعب التي قد تهز الإيمان فيجعلهم ثابتين ومستعدين لمجيئه. هو يبدأ معهم الطريق ويعمل فيهم ويرافقهم مسيرتهم ويبلغ بهم حتى النهاية. يحفظهم في طريق القداسة بلا لوم. لم يَعِد بنزع التجارب والضيقات والعثرات، إنما يحفظ مؤمنيه ويقدسهم، فيُحملوا به ويصيروا بلا لوم (يو1:13؛ في6:1).
جاءت كلمة “يثبت” في اللغة اليونانية الـ koine كتعبيرٍ قانونيٍ فني يشير إلى ضمان الآمان، وكأن اللَّه يقدم لمؤمنيه ضمانًا أنهم سيكونون في حضرته عند مجيء الرب يسوع.
تعبير “بلا لوم” لا يعني أن يصير الإنسان كاملاً، إنما يشير إلى براءته من الاتهام الموجه ضده؛ أي يصدر الحكم عليه بالبراءة. إنهم ليسوا كاملين بذواتهم، لكن اللَّه بنعمته يحفظهم من الدينونة، ليظهروا في يوم الرب أصدقاء له (رو33:8،34). بهذا يقدم المسيح كنيسته بلا لوم ولا غضن (أف37:5)، فيتمجد فيها.
“إلى النهاية” يعني إلى مجيء المسيح الثاني.
v من الذي سيثبتنا؟ يسوع المسيح, كلمة اللَّه وحكمة اللَّه.
إنه يثبتنا ليس ليومٍ أو يومين بل إلى الأبد.
v يثق بولس بأن أهل كورنثوس سيُحفظون في البرّ إلى يوم الدينونة. فإن الشعب الذي لم يهتز بالرغم من وجود متاعب كثيرة وانقسامات قد برهنوا أنهم سيبقون ثابتين في إيمانهم إلي النهاية. بمدحهم أيضًا يتحدى بولس أولئك الذين أفسدتهم أخطاء الرسل الكذبة, وبإعلانه إيمان السابقين يدعو الآخرين للتوبة.
أمبروسياستر
v بقوله أنه يترجى أنه يكونوا بلا لوم في يوم يسوع المسيح يشير بولس أنهم إلى الآن هم مخطئون.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنه [لم يكن هذا مديحًا بل توبيخًا مستترًا, حيث أن أهل كورنثوس كانوا بعيدين عن “عدم اللوم” كما تظهر بقية الرسالة.]
“أمين هو اللَّه،
الذي به دُعيتم إلى شركة ابنه يسوع المسيح ربنا” [9].
“أمين هو اللَّه“، فهو صادق في مواعيده، لن يخدعنا. يبدأ معنا ويكمل حتى النهاية (في6:1). تعبير “أمين هو اللَّه” محبوب جدًا لدى اليهود القدامى، يفهمونه بأن اللَّه أمين في حفظ وعده لهم كشعبٍ خاص به، لهم الوعود الإلهية الفائقة. ويرون في إخلاص بعض المؤمنين وأمانتهم توضيحًا لإخلاص اللَّه وأمانته، فيذكرون القصتين التاليتين:
الأولى: قيل أن الحاخام فينحاس Rabbi Phineas بن يائير Jair كان مقيمًا في مدينة ما وقد جاءه بعض الأشخاص وقدموا له كيلتين من الشعير ليحفظهما لهم. نسي هؤلاء الرجال الأمر، وإذ عبرت سنة تلو الأخرى جاءوا إليه بعد سبع سنوات يسألونه الكيلتين من الشعير، أما هو فأخذهما إلى مخازن متسعة وأشار إليهم إلى كمية ضخمة للغاية من الشعير وطلب منهم أن يحملوها. سألوه: “ما هذا؟ نحن قدمنا كيلتين فقط وأنت تقدم لنا هذه الكمية الضخمة”. أجابهم: “لقد وثقتم فيَّ وسلمتم إليّ كيلتين، وأنا بدوري قمت ببذرهم في الأرض سنة تلو الأخرى فجاء هذا المحصول، وهو ملك لكم”. دُهش الكل لأمانته العجيبة وإخلاصه، وصاروا يتساءلون: “إن كانت هكذا هي أمانة رجال اللَّه، فماذا تكون أمانة اللَّه نفسه؟!”
أما القصة الثانية فتُنسب إلى الحاخام سيمون Rabbi Simeon بن شيتاخ Shetach أنه اشترى حمارًا من بعض أشخاصٍ من بني أدوم. بعد فترة اكتشف تلاميذه أن في قلادته التي حول عنقه لؤلؤة كثيرة الثمن. انطلقوا إليه حاملين اللؤلؤة وهو يقولون له أنه كمبارك الرب يصير غنّيًا كما جاء في أمثال 22:10 “بركة الرب هي تغني ولا يزيد معها تعبًا“. أجابهم: “لقد اشتريت الحمار ولم اشترِ اللؤلؤة”. أخذ اللؤلؤة وانطلق بها إلى البائعين من بني أدوم يسلمها لهم. هكذا هي أمانة رجال اللَّه كظلٍ لأمانة اللَّه العجيبة.
v يقول بولس هذا لكي لا يسقط أهل كورنثوس في اليأس عند ما ينتقدهم. إنه يذكرهم بأن المشكلة ليست في اللَّه، إنها بسبب خطايانا وعدم إيماننا.
“دُعيتم” لا تعني مجرد دعوة مقدمة لنا، إنما تحمل إمكانية النعمة والقوة الإلهية لتحقيق الدعوة إن قبلناها.
v ليس بهذا أو ذاك بل يقول “بالآب” قد دعيتم، بواسطته أيضًا قد اغتنيتم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
دعينا إلى شركة ابنه يسوع، لكي نصير شركاء مع المسيح في الميراث (رو17:8-30)، نصير مثله كأبناء اللَّه (2تس14:2؛ 1بط13:4؛ 1يو3:1)، لكن ليس بالطبيعة بل بالتبني، باتحادنا معًا فيه.
v لقد دعيتم إلى شركة الابن الوحيد الجنس، فهل تدمنون الاعتماد على البشر؟ أي بؤس أشر من هذا؟
v إنه يعدنا أنه يجعلنا شركاء ابنه الوحيد الجنس، لهذا الهدف أيضًا دعانا… فإنه بالحقيقة كان يريد أن يعطي، لكنهم برفضهم أن يقبلوا طردوا أنفسهم.
v آمنوا بالمسيح دائمًا، فإنكم قد دعيتم لا لغرض آخر سوى أن تكونوا واحدًا فيه.
v الشركة هي أُخوّة. كما يعلن بولس أمانة اللَّه غير الساقطة من نحونا، هكذا يليق بنا نحن ألا نوجد غير أمناء أو مسيئين إلى بنوتنا. بالأحرى يلزمنا أن نبقى أمناء فيها.
أمبروسياستر
v كون اللَّه أمينًا يعنى أنه يمكننا أن نثق في إعلانه عن ذاته. كلمته تعلن عنه. أنه اللَّه الآمين.
بقوله “شركة ابنه” نصير شركاء معه في الآتي:
أ. نصرته الدائمة على قوات الظلمة: “ولكن شكرًا للَّه الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين و يظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان” (2 كو 2: 14).
ب. الطبيعة الإلهية، حيث يقدم لنا بروحه القدوس أن نصير أيقونة له، حاملين سماته. “لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية، هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة” (2 بط 1 : 4).
ج. آلامه وصلبه (1بط13:4؛ كو24:1؛ في10:3). “لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبها بموته” (في10:3).
د. حياته المُقامة (مت28:9).
هـ. الميراث الأبدي وشركة المجد: “مبارك الله ابو ربنا يسوع المسيح الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاءٍ حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات، لميراثٍ لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل، محفوظ في السماوات لأجلكم” (1بط 1 :3-4).
4. تقرير أهل بيت خلوي 10-13
“ولكنني أطلب إليكم أيها الاخوة باسم ربنا يسوع المسيح
أن تقولوا جميعكم قولاً واحدًا،
ولا يكون بينكم انشقاقات،
بل كونوا كاملين في فكرٍ واحدٍ ورأيٍ واحدٍ” [10].
إذ انتهى الرسول من المقدمة بدأ يحثهم على الكف عن الانشقاقات ليكون لهم القلب الواحد والفكر الواحد، مركزين كل طاقاتهم في التمتع برجاء الإنجيل.
يطلب إليهم “باسم ربنا يسوع“، فإنه يدرك ما لهذا الاسم من قوة في عمل الآيات، ولعل من أهم هذه الآيات هي أن يجمع الكل معًا فيه، فيصير لهم القول الواحد والفكر الواحد، ولا تجد الانشقاقات لها موضعًا فيها.
لاحظ القديس يوحنا ذهبي الفم أن اسم يسوع المسيح أُشير إليه في هذه الرسالة أكثر من غيرها. غاية الرسول من ذلك هو أن يسحب قلوب كل فريق من الإعجاب بالمعلمين إلى شخص المسيح نفسه.
v حسنًا أضاف بولس اسم المسيح هنا، إذ لم يكن أهل كورنثوس يمجدونه.
يسألهم أن يقولوا جميعهم “قولاً واحدًا”، فإنهم وإن اختلفوا في الآراء في أمور كثيرة لكن حين يعلنون عن إيمانهم باللَّه وعمله الخلاصي يلزمهم أن ينطقوا بذات الكلمات حتى لا تحدث انشقاقات في الكنيسة.
بالإيمان يصيروا كملائكة اللَّه الذين لن يعانوا قط من أية انشقاقات أو خلافات. بالحب الحق يتمتع الكل بالفكر الواحد، أي ينالوا فهمًا واحدًا للحقائق الإلهية والحياة السماوية.
v وقف بولس أولاً ضد المرض نفسه، نازعًا جذور الشرور وثمارها: روح الانشقاق. وقد استخدم الجرأة في الحديث، لأن هؤلاء كانوا تلاميذه أكثر من غيرهم. لذلك يقول: “إن كنت للآخرين ليس رسولاً، فعلى الأقل لكم، أنتم ختم رسالتي” (1كو2:9). علاوة على هذا كانوا في حالة ضعف أكثر من الآخرين.
v يسهل أن نشارك شخصًا رأيه ولا نشاركه مشاعره. ويمكن الاتحاد في الإيمان وليس في الحب. هذا هو سبب قول بولس بأنه يجب أن نتحد في الفكر والرأي.
v لتصغِ إلى الرسول: “اطلب إليكم أيها الاخوة… كونوا كاملين في فكرٍ واحدٍ ورأيٍ واحدٍ“. كان يتحدث إلى الجموع، لكنه أراد أن يجعل منهم “واحدًا” (1 كو10:1).
v الكنيسة المنظورة هي جسد مختلط يحوي شعبًا بارًا وشعبًا غير بارٍ. هذا هو السبب الذي لأجله يمتدح بولس أعضاءها وينتقد آخرين.
فالشخص الذي يتفق مع التعليم السليم وتعاليم الكنيسة بخصوص الآب والابن والروح القدس وأيضًا مع التدبير الخاص بنا بخصوص القيامة والدينونة ويتبع أنظمة الكنيسة لا يكون في انقسام.
v يطلب بولس أن يفكر أهل كورنثوس جميعهم في أمر واحد، أعني أن الذين ولدوا ثانية هم أبناء اللَّه. يريدهم أن يتحدوا بالكمال في التعليم الذي قدمه لهم. إنه يحاورهم أن يفكروا بهذه الطريقة وأن يدافعوا عن تعليمه.
أمبروسياستر
“لأني أخبرت عنكم يا اخوتي من أهل خلوي
أن بينكم خصومات” [11].
استلم الرسول رسالة من كنيسة كورنثوس يسألونه عن مشاكل كنسية تعبدية وإيمانية لكنهم لم يشيروا إلى الانشقاقات، أما أهل بيت خلوي فابلغوا بالوضع الحقيقي للكنيسة وظروفها. غالبًا كانت خلوي سيدة مكرمة في كورنثوس ومتدينة، قبلت أسرتها الإيمان بالسيد المسيح. أُرسل بعض من أسرتها إلى الرسول بولس يخبروه بما حلّ بالكنيسة من انقسامات. ولعل استفانوس وفرتناتوس وأخيكس المذكورين في 1 كو17:16 هم أبناء خلوي. يقول الأب أمبروسياستر أن البعض يظنون بأن أهل خلوي هم أولئك الذين بقوا أمناء وحملوا ثمار الإيمان بالمسيح. آخرون ظنوا أن خُلوي هي مدينة، كأن يقول أحد “أهل إنطاكية”.
يرى الذهبي الفم أنه بقوله “أهل خلوي” كان بولس حريصًا أن يشير إلى مصدر معلوماته دون أن يحدد شخصًا معينًا. فمن جانب يؤكد أن معلوماته مصدرها سليم دون أن يثير شعب كورنثوس ضد شخصٍ معينٍ.
وجدت الخصومات كثمرة طبيعية للانشقاق، فكان كل فريق يدافع عن نفسه مخاصمًا الفرق الأخرى.
v يبدو أن الكورنثوسيين جميعًا كانوا جسديين وطبيعيين، لا يدركون أمور روح اللَّه (1 كو 14:2)، كانوا مغرمين بالصراعات ومملوءين حسدًا ويسلكون كبشر”.
العجيب وهو يوبخهم على ما دبَّ بينهم من خلافات شقت الكنيسة يُظهر لهم كل حنوٍ فيقول: “يا اخوتي“.
v يدعوهم “اخوة“، فبالرغم من أن الخطأ واضح لا يوجد ما يمنع دعوة الشعب اخوة.
“فأنا أعني هذا أن كل واحد منكم يقول أنا لبولس وأنا لابلوس وأنا لصفا وأنا للمسيح” [12].
إذ يتحدث عن الانقسامات يبدأ بالفريق الذي ينسب نفسه إليه (12:1)، حتى لا يظن أحد أنه يريد أن يضم الكل إلى فريق خاص به، فهو لا يطلب مجد نفسه.
v أثناء الهجوم وضع نفسه أولاً كما ترون، وبعد ذلك أشار إلى أبلوس ثم صفا. فعل ذلك لا لكي يمجد نفسه، وإنما ليطلب تصحيح الأخطاء فيما يخص شخصه أولاً.
يرى البعض أن الرسول بولس لا يعني هنا وجود أربع فرق، إنما قدم الأسماء هنا لتوضيح الموقف.
v كان حواره لطيفًا إذ لم يشر بالاسم إلى مسببي الانشقاق العنفاء في الكنيسة، بل أخفي أسماءهم كما بقناع تحت أسماء الرسل.
v إن كان لا يحق لهم أن يدعوا أنفسهم باسم بولس أو أبلوس أو صفا فبالأكثر لا يدعوا أنفسهم بأسماء آخرين.
يرى آخرون أن الكنيسة في كورنثوس كانت منقسمة إلى فريقين، فريق هو جماعة المؤمنين الذين من أصل أممي، والآخر من أصل يهودي (أع 18)، كل فريق حمل في داخله انقسامًا. الفريق الأول ينسب نفسه لبولس الذي أسس الكنيسة هناك وأبلوس لأنهم آمنوا على يديه إذ جاء بعد بولس (أع24:18)، واعجبوا ببلاغته.
أما الفريق الثاني فانقسم إلى فريق نسب نفسه إلى بطرس الرسول كرسول الختان (غلا7:2) أو لكبر سنه. ربما لم يروه حتى ذلك الحين لكنهم سمعوا عنه من تقارير وردت إليهم من اليهودية على خلاف بولس المُتّهم بتجاهله للناموس الموسوي. وفريق نسب نفسه للسيد المسيح، إما لأنهم أرادوا أن يعيشوا بلا نظام وتدبير فلا يريدون قيادة رسولية، وفي تشامخ ينسبون أنفسهم للسيد المسيح، محتقرين كل قيادة، أو لأنهم رأوا الرب في اليهودية فحسبوا أنفسهم مُميزين عن بقية المؤمنين.
v لم يرد أن يكون سببًا للانقسام. لذلك نصح الذين ينسبون أنفسهم إلى اسمه ويقسمون المسيح: “كل واحد منكم يقول أنا لبولس وأنا لأبلوس وأنا لصفا وأنا للمسيح” [12]. احكموا إذن كم هم أشرار هؤلاء الذين يريدون أن يسببوا انشقاقًا للمسيح، هذا الذي لا يريدهم أن ينشقّوا.
v الذين يقولون “أنا لبولس وأنا لأبلوس وأنا لصفا وأنا للمسيح” ليسوا في سيمفونية، بل يوجد بينهم انشقاقات. وأما الحل فهو أنهم إذ يجتمعون في شركة مع روح بولس بقوة الرب يسوع المسيح لا يعود يضرب الواحد الآخر ويفترسه، فيأكل الواحد الآخر. لأن النزاع يُهْلِك، كما أن الاتفاق يجمع معًا، ويجعل ابن اللَّه يحل في وسطهم إذ صاروا في اتفاق.
v على أي الأحوال بخصوص هؤلاء الذين يرون (في المعلمين) أنهم رعاة صالحون، يلزمهم ليس فقط أن يسمعوا الأمور الصالحة التي يعلمونها، وإنما يقتدون أيضًا بالأعمال الصالحة التي يمارسونها. من هؤلاء كان الرسول القائل: “كونوا متمثلين بي كما أنا أيضًا بالمسيح” (1كو1:11). لقد كان نورًا اشتعل بواسطة النور الأبدي، الرب يسوع المسيح نفسه الذي وُضع على المنارة إذ تمجد في صليبه. عن هذا قال: “حاشا لي أن افتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح” (غلا14:6). أضف إلى ذلك أنه لم يطلب الأشياء الخاصة به، بل ما يخص يسوع المسيح، بينما يحث الذين ولدهم في الإنجيل (1 كو 15:4) أن يقتدوا بحياته. ومع ذلك فهو يوبخ بعنف الذين يسببون انقسامات تحت أسماء الرسل، وينتقد بحزم القائلين “أنا لبولس”. “هل صلب بولس لأجلكم؟ أو هل اعتمدتم باسم بولس؟”
يقول الأب أمبروسياستر أن الرسول بولس استعرض خطأهم دون أن يشير إلى أسماء الأشخاص المسئولين عن الانقسام. لقد ذكر أسماء المعلمين الصالحين، ولكنه إذا أشار إليهم بهذه الطريقة تحدث عن الرسل الكذبة. فإن كان لا يليق بأهل كورنثوس ألا يفتخروا بتكريسهم أحد هؤلاء (الصالحين) فكم بالأحرى يكون الأمر بالنسبة للمعلمين الكذبة وقد أشار إلى فساد تعليمهم فيما بعد.
ربما يتساءل البعض: هل كان المسيح رأسًا لإحدى الفرق المنقسمة؟ يجيب القديس يوحنا الذهبي الفم على ذلك بقوله أن الصراعات في كورنثوس لم تكن بخصوص أمور تافهة بل حول أمور أساسية. حتى الذين ادعوا أنهم تبع المسيح كانوا مخطئين إذ ينكرون عمليًا تبعية الآخرين له، ويجعلون منه رأسا لفريق وليس للجميع.
“هل انقسم المسيح؟
ألعل بولس صلب لأجلكم؟
أم باسم بولس اعتمدتم؟” [13].
كمؤسس للكنيسة في كورنثوس وأب روحي لهم لم يرد أن ينسبوا أنفسهم إليه، ولا إلى آخر غيره بل يحفظوا وحدانية الروح في المسيح يسوع الواحد الذي قدم الخلاص ووهبهم بروحه القدوس التبني للَّه الآب خلال المعمودية المقدسة.
كأبٍ يتحدث الرسول بولس في مرارة، لأن تصرفاتهم بلغت من الخطورة أنها مزقت جسد المسيح، الذي هو الكنيسة. أما سرّ الانقسام فيرجع إلى أمرين: الأول إلى التحزب لشخصٍ ما مهما بلغت قداسته كأنه قد خلصه على الصليب وباسمه اعتمد، الأمر الثاني هو الانشقاق في الفكر والتعليم.
v بالاعتقاد في أمور متباينة عن المسيح يمزقه الناس. يظن شخص ما أن المسيح مجرد إنسان، وآخر أنه اللَّه فقط. واحد يقول بأنه قد تنبأ عنه الأنبياء، والآخر ينكر ذلك.
أمبروسياستر
v عندما أدرك الرسول بولس أنه قد اُختير وأُحتقر المسيح قال: “هل انقسم المسيح؟ ألعل بولس صلب لأجلكم؟ أم باسم بولس اعتمدتم؟” لهذا فأنتم لستم فيّ بل أنتم معًا ومعي (في الرب). أنتم لستم تحت سلطاني بل تحت سلطانه.
v بهذا يعني أنه لم يطلب نوال كرامة متزايدة تقدمها له الجماهير ولا فعل هذا من أجل المجد.
v لا تقل إذن أن شيئًا (صالحًا) هو منك، بل في كل شيء مجد اللَّه. لا تنسب شيئًا ما إلى إنسان.
v إن كنا نجد أن سعادتنا تكمل في آخر لنقف قليلاً على الطريق ونضع رجاءنا في السعادة في إنسان أو ملاكٍ. الإنسان المتكبر والملاك المتكبر بغير مبرر ينسبان هذا لأنفسهما، ويُسران أن يصير رجاء الآخرين مُركزًا فيهما. على النقيض من ذلك فإن الإنسان القديس والملاك القديس عندما يجدان أننا متلهفون ومشتاقون إلى الوجود معهما ونوال راحة فيهما يربطان طاقاتنا بالعون الذي ينالونه من اللَّه لأجلنا كما لأجلهم. إنهما يحثاننا على الانتعاش بالسعادة التي تُقدم للجميع في طريقنا نحو اللَّه. حتى الرسول يصرخ: “ألعل بولس صلب لأجلكم؟…” [13]. مرة أخرى يقول: “ليس الزارع شيئًا ولا الساقي بل اللَّه الذي ينمي” (1كو7:3). ويحث الملاك الإنسان الذي أراد أن يسجد له أنه يجب بالأحرى أن يسجد للَّه الذي يخضع له هو أيضًا كعبدٍ شريكٍ له (رؤ10:19).
عندما تبتهج بإنسان في اللَّه، تتمتع باللَّه لا بالإنسان. تتمتع باللَّه الذي به تصير سعيدًا، وتُسرّ أن تأتي إليه، الذي تضع رجاءك في حضرته فرحًا.
v لكونى كنت جاهلاً بهذه الأمور، فقد هزأت بأبنائك وخدامك القديسين، ولكن لم أربح من وراء هذا سوى ازدرائك بي.
v “ألعل بولس صلب لأجلكم أم باسم بولس اعتمدتم؟!“
أنظر فكر بولس المملوء بحب المسيح، مظهرًا أن كل الأمور التي تشير إليه لا تخص إنسانًا…
“أم باسم بولس اعتمدتم؟” لقد عمد كثيرين، لكن موضع البحث ليس من هم الذين قاموا بالعماد؟ إنما باسم من تم العماد؟ كأنه يقول: “لا تخبرنى من الذي قام بالعماد، بل باسم من قد تّم العماد، لأن موضوع البحث ليس الذي يعمد بل الذي له عمله في العماد، ذاك الذي يغفر الخطايا”…
فالعماد حقًا أمر عظيم، لكن عظمته لا تنصب في العمل الإنسانى الذي يعمد (أي مجرد المظهر) فهذا في ذاته (بدون الروح القدس) من جهة عملنا البشري لا يساوي شيئًا…
لكن أقول أيضًا يا لعظمة العماد؟! بدونه لن يمكن نوال الملكوت!
لما كانت الكنيسة هي جسد المسيح، فإن انقسامها يسيء إليه كأن جسده قد انقسم. ولما كان دم المسيح الثمين هو سرّ خلاصنا لاق أن نرتبط جميعنا به، لأنه هل سفك بولس أو أبلوس أو بطرس دمهم كفارة عنا؟ ولما كانت المعمودية هي باب التمتع بالبنوة للَّه الآب باتحادنا بابن اللَّه الوحيد الجنس فهل كان هؤلاء الرسل أو الخدام أبناء اللَّه بالطبيعة حتى نعتمد بأسمائهم؟
وإن كان جسد المسيح واحدًا الذي نحن هو، ودمه سرّ خلاص كل الكنيسة، وباسمه نعتمد، لاق بنا أن يكون لنا القلب الواحد والفكر الواحد والإيمان الواحد، حتى لا ينقسم المسيح الواحد.
v إذ كان هو أيضًا علة انقسامهم إذ دعوا أنفسهم على اسم من عمّدوهم، صحح هذا الخطأ قائلاً: “هل اعتمدتم باسم بولس؟” إنه يقول: “لا تخبروني من الذي عمّدكم؟ وإنما باسم من اعتمدتم؟ فإن رصيدكم ليس من عمّدكم بل باسم من تمت المعمودية.
v هل تدركون كيف يثبتهم دومًا كما بمسامير في اسم المسيح. أترون كيف يكرر اسم المسيح؟ فإنه واضح حتى لقليل الملاحظة جدًا أنه ليس مصادفة ولا بغير إدراك فعل ذلك، وإنما لكي بالتكرار المستمر بلا توقف لهذا الاسم المجيد يثير لهيبهم وينزع عنهم فساد المرض.
5. رسالة بولس الرسول 14-17
“اشكر اللَّه إني لم أعمد أحدًا منكم إلا كريسبس وغايس” [14].
“حتى لا يقول أحد إني عمدت باسمي” [15].
بتدبير اللَّه وعنايته الفائقة لم يعمد الرسول بولس في كورنثوس أحدًا سوى كريسبس رئيس مجمع اليهود السابق (أع8:18)، وغايس الذي استضافه (رو23:16) ربما هو الشخص الذي وجهت إليه رسالة يوحنا الثالثة (3يو50). أما بقية الأعضاء فغالبًا ما قام بعمادهم سيلا وتيموثاوس.
يشكر الرسول اللَّه أنه لم يسمح له بأن يعمد أحدًا غير اللذين ذكرهما حتى لا يتهمه أحد بأنه عمّد باسمه. كان حذرًا ألا يعمد أحدًا قدر المستطاع حتى لا يظنوا أنه يكوِّن لنفسه فريقًا يرتبط باسمه.
v كتب بولس هذا إلى شعب يظن أنه من الأفضل أن يُعمد الإنسان من أشخاص دون آخرين, فانحرفوا ببلاغتهم, وسقطوا في بعض الشباك بالاعتقاد في بعض التعاليم الفاسدة إنها حق.
v كان هؤلاء الكورنثوسيون مثل أتباع نوفاتيان Novatianists والدونستيينDonatists في هذه الأيام ينسبون العماد لأنفسهم ولا يعترفون بأحدٍ آخر. فالذين يعتمدون هكذا ويتمجدون تحت اسميّ نوفاتيان Novatian ودوناتس Donatus محرومون من اسم المسيح. لقد دُعي كريسبس وغايس كشاهدين، فإنهما وإن كانا قد اعتمدا بواسطة بولس لم يظنا قط أنهما نالا مجدًا بسبب هذا.
أمبروسياستر
v لا تقوم عظمة العماد على الذي يعمد بل على الاسم المدعو به العماد. لذلك فإنه وإن كان العماد هامًا وضروريًا لنوال الملكوت لكنه لا يزال أقل من الكرازة بالإنجيل. الإنسان غير الممتاز في مواهبه يقدر أن يعمد، لكن الموهوب حقًا يستطيع أن يكرز بالإنجيل.
v العماد الذي قام به بطرس لم يكن عمادًا من بطرس بل من المسيح؛ والذي قام به بولس كان عمادًا ليس من بولس بل من المسيح. والعماد الذي قام به أولئك الذين كانوا في أيام الرسول يكرزون بالمسيح ليس عن إخلاص بل بعلةٍ (في 15:1-16)، ليس عمادًا منهم بل هو عماد المسيح… ولما كان العماد من المسيح لذلك فمع وجود اختلاف في سمات الأشخاص الذي تمموا العماد وتباين شخصياتهم فإن النفع الذي يتمتع به المعمدون هو واحد. لو كان سِموّ العماد يعتمد على سموّ من يتممه يكون الرسول مخطئًا أن يشكر اللَّه أنه لم يُعمد أحدًا في كورنثوس سوى كريسبس وغايس وبيت استفانوس [14]، لأن بهذا يكون عماد المهتدين إلى الإيمان في كورنثوس لو تم بواسطة الرسول نفسه أكثر سموًّا من أن يتممه آخر غيره.
“وعمدت أيضًا بيت استفانوس،
عدا ذلك لست أعلم هل عمدت أحدًا آخر” [16].
يظهر من 1 كو 15:16، 17 أن بيت إستفانوس هم بكور المؤمنين في أخائية، غالبًا ما قبلوا الإيمان واعتمدوا على يد الرسول بولس. ويبدو أن ايبنتوس (رو5:16) كان أحد أفراد هذه الأسرة.
يرى بعض الدارسين أنه بقوله “بيت إستفانوس” يعني أن الكنيسة الأولى تهتم بعماد الأسرة كلها: البالغين والأطفال، كما العبيد والخدم. فإنه إذ يقبل رب الأسرة الإيمان كان يسحب قلوب الكل معه ليتمتعوا بالحياة الجديدة المُقامة، فلا يهتم بزوجته أو زوجها والأبناء فحسب بل والخدم والعبيد.
بقوله: “لست أعلم هل عمدت أحدًا آخر” يظهر أن كل ما يشغل فكره هو الكرازة بإنجيل المسيح وسحب كل قلب إلى المسيح المصلوب القائم من الأموات، لا يشغله عدد من قام بعمادهم. يهتم بخلاص الناس لا بالإحصائيات. السيد المسيح نفسه لم يعمد أحدًا (يو 2:4).
“لأن المسيح لم يرسلني لأعمد بل لأبشر،
لا بحكمة كلام، لئلا يتعطل صليب المسيح [17].
يترجم البعض هذا النص: “لأن المسيح لم يرسلني لأعمد بل بالأكثر لأبشر“، وإلا كان عماده غير قانوني، إنما من حقه أن يُعمد، لكن ما يمارسه بالأكثر هو الكرازة. كان عمل الرسل الأول هو تأسيس الكنائس والاهتمام بالكرازة، فلم يكن لديهم من الوقت ليمارسوا العماد، ليس استخفافًا بالعماد ولكن تفرغًا للشهادة بين غير المؤمنين واجتذابهم للإيمان بالمسيح المصلوب. لم يقلل الرسول من أهمية العماد فقد مدحه بصورة فائقة (رو3:6). لقد عمد البعض وسيعمد آخرين، لكن عمله الرسولي أصعب وهو الكرازة بالإنجيل.
v أرسلني المسيح لا لأعمد بل لأكرز بالإنجيل. أرسلني في الجانب الشاق، الذي يحتاج بالأكثر إلى التعب وإلى نفسٍ حديديةٍ، الأمر الذي عليه يعتمد كل شيء بعد ذلك.
v الكرازة بالإنجيل هي عمل خاص ربما بشخصٍ أو اثنين، أما العماد فتُمنح ممارسته لكل شخصٍ في الكهنوت.
v أي شخص يمكنه أن يعمد إن كان كاهنًا، أما الكرازة فهي عطية تُوهب لقليلين، ولكن يلزم ألا تختلط بالبلاغة المجردة التي هي أمر ثانوي تمامًا.
ثيؤدوريت أسقف قورش
v من يقدر أن يحطم وباء الجهل والظلمة والدمار؟ لا نبي ولا رسول ولا إنسان بار! بالأحرى يجب أن توجد قوة إلهية نازلة من السماء قادرة أن تموت من أجلنا جميعًا، فبموته يتحقق الدفاع عنا ضد إبليس.
هنا يكشف الرسول بولس عن أسلوبه في الخدمة، فإنه يقدم قوة الصليب للعالم، ولا يكرز خلال الحوار الذي اتسمت به المدارس اليونانية الفلسفية. إنه لم يقتدِ بالمعلمين اليونانيين فيعتمد على البلاغة والمنطق، بل قدم روح القوة، وكشف عن عمل النعمة الإلهية. قدم صليب المسيح في بساطة دون محاولة لوضعه في أسلوب فلسفي برّاق. قدم الروح القدس القادر أن يبلغ أعماق القلب على الدوام، وليس الفلسفة البشرية التي تجتذب الفكر إلى حين. لقد تربّى شاول الطرسوسي عند قدميّ غمّالائيل، لكنه إذ بدأ الكرازة بالصليب تجاهل كل ما ناله من تعليم وفلسفة.
إذ يبدأ الرسول بولس في الحوار بخصوص ما حدث في الكنيسة من انشقاقات وتشويش التي انشغل بها الفلاسفة في كورنثوس وجد الفرصة مناسبة لمناقشة موضوع “الفلسفة البشرية” أو “الحكمة البشرية” المجردة خارج دائرة الصليب. حتى يدخل بهم إلى حكمة اللَّه المعلنة في الصليب، فيتمتعوا بالفكر الواحد والرأي الواحد.
صليب المسيح لا يحتاج إلى ثوبٍ فلسفيٍ برّاق، إنما يشرق بنوره الإلهي على القلب ويجدد الطبيعة البشرية، ويصالح الإنسان مع اللَّه إلهه، ويقدم له روح اللَّه القدوس ساكنًا فيه، ويفتح له باب البنوة للَّه!
لم يستخدم الفلسفة في الكرازة حتى لا يُنسب نجاح الخدمة إلى بلاغته وفلسفته بل إلى قوة الصليب والعمل الإلهي الفائق. كرسول للسيد المسيح، طبيب النفوس، يقدم لهم العلاج الذي هو صليب المسيح، وليس الحوار والفلسفة.
6. الصليب سرّ الحكمة 18-25
من الملامح الرئيسية لهذه الرسالة إبراز قوة الصليب بكونه قوة اللَّه وحكمته للخلاص. إنه القوة المحركة لتغيير أساسات الإنسان الداخلي وتجديد الأعماق، بهذا تتغير حياة العالم الوثني القديم. لم يحقق بولس ولا أبلوس ولا صفا هذا العمل الخلاصي العجيب، إنما تحقق بالكرازة بالمسيح المصلوب.
“فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة،
وأما عندنا نحن المخلصين فهي قوة اللَّه” [18].
يُعلن التعليم بالصليب عن خلاص العالم الذي دمرته الخطية. فالذين يهتمون بالفلسفات البشرية دون خلاصهم يجدونه غباوة، يرون في المسيح أنه من الناصرة، كان فقيرًا بلا بيت يستقر فيه، وأن أصدقاءه قليلون، ليس له مركز اجتماعي أو ديني عظيم، لم يقدم أفكارًا فلسفية للحوار العقلي، مرفوض من خاصته، وفي ضعف رُفع على خشبة الصليب. سقط تحت العقوبة التي تحل بالعبيد، وكان عاجزًا عن أن يخلص نفسه من عار الصليب. هذا كله لأنهم لم يصدقوا قيامته. وأما الذين يهتمون بخلاصهم فيجدونه قوة اللَّه.
v لا تُعرف قوة الصليب بواسطة الهالكين، لأنهم بلا تعقل يعملون كمجانين، يشتكون من الأدوية التي تجلب الخلاص ويرفضونها.
v لاحظ الآن عندما أقول “صُلب” يقول اليوناني “وهل يُعقل ذلك؟” ذاك الذي لم يجد عونًا أثناء الصليب وعانى من حكمٍ مرٍ في لحظات الصليب، كيف يقوم بعد ذلك ويُعين الآخرين؟… حقًا يا إنسان إن هذا الأمر بالحقيقة يفوق العقل. قوة الصليب لا يُنطق بها. فإنه إذ كان بالفعل وسط الأهوال يُظهر نفسه فوق كل الأهوال. وبكونه في قبضة العدو يغلب العدو، هذا يتحقق بالقوة غير المحدودة.
v لم ينزل من الصليب، ليس عجزًا منه، ولكن لأنه لم يرد ذلك… ذاك الذي يحجم طغيان الموت كيف يمكن لمسامير الصليب أن تحده؟ هذه الأمور المعروفة لنا لم يعرفها بعد غير المؤمنين.
v هكذا يبدو الصليب موضوع مقاومة، ومع ذلك فهو أعظم من أن يُقاوم، إذ يجتذب (المقاومين).
v يتحدثون عن الصليب كجهالةٍ وضعفٍ. حقيقة الأمر ليس هكذا، بل هذا هو رأي الآخرين. فإنه إذ يعجز الفلاسفة عن أن يدركوه بالطرق العقلانية يبدو لهم ما هو سامٍ للغاية جهالة.
v أي شيء لم يقدمه الصليب؟ تعليم خلود النفس، وما يخص قيامة الجسد، والازدراء بالزمنيات، والاشتياق إلى الأخرويات. حقًا إنه يجعل من البشر ملائكة، ويمارس الكل في كل موضعٍ بذل الذات، ويظهرون لك أنواع الاحتمال.
v أما تعرف كيف أصلح الصليب أخطاء كثيرة؟ ألم يحطم الموت، ويمسحُ الخطية، وينهى قوة الشيطان، وُيشبع كيان جسدنا الصالح؟ألم يصلح العالم كله، ومع هذا لا تثق أنت فيه؟
v من يخبر عن أعمال الرب القديرة؟ (مز2:105) من الموت صرنا خالدين، هل فهمتم النصرة والطريق التي بلغتها؟ تعلموا كيف اُقتنيت هذه الغلبة بدون تعب وعرق. لم تتلطخ أسلحتنا بالدماء ولا وقفنا في خط المعركة، ولا جُرحنا، ولا رأينا المعركة لكننا اقتنينا المعركة. الجهاد هو مسيحنا، وإكليل النصرة هو لنا.
ما دامت النصرة هي لنا، إذن يليق بنا كجنود أن نرتل اليوم بأصوات مفرحة بتسابيح الغلبة. لنسبح سيدنا قائلين: “قد أُبتلع الموت إلى غلبة. أين غلبتك يا موت أين شوكتك يا هاوية؟” (1كو54:15-55).
v بفعله هذا (الصلب) يظهر اللَّه أن الأعمال تتحدث بصوت أعلى من الكلمات.
أمبروسياستر
“لأنه مكتوب سأبيد حكمة الحكماء،
وأرفض فهم الفهماء” [19].
هذه العبارة مقتبسة من إشعياء النبي 14:29، وقد جاءت في الترجمة السبعينية: “سأبيد حكمة الحكماء، وأخفي فهم الفهماء“. يبيد اللَّه حكمة الحكماء، بمعنى أن خطته الخلاصية لا تقوم عليها، وأما الذين يظنون أنهم فهماء فإن فهمهم لا قيمة له. يحمل الإيمان المسيحي “الحق” الذي يفوق الفكر البشري.
v يتحدث بولس عن حكمة هذا العالم وليس على البلاغة ذاتها، فإن اللَّه أيضًا يعطيها. اللَّه هو الذي قسم اللغات وأعطى لكل لغةٍ سمتها الخاصة. هو الذي وهب اللغة اليونانية سموها. أما الذين يفسدون هذه العطايا فيعدون طعامًا للخداع ويكرزون بقصصٍ باطلة.
ما يعترض عليه بولس ليس بلاغتهم هذه بل تعليمهم الباطل الذي وراء هذه البلاغة.
ثيؤدورت أسقف قورش
v إن كانت هذه الحكمة (البشرية) في حرب ضد الصليب وصراع ضد الإنجيل، فإنه لا يليق الافتخار بها بل الانسحاب منها في خجلٍ. لهذا السبب لم يكن الرسل حكماء، ليس خلال أي ضعف في العطية، وإنما لئلا تتعطل الكرازة بالإنجيل.
“أين الحكيم؟ أين الكاتب؟
أين مباحث هذا الدهر؟
ألم يجهل الله حكمة هذا العالم؟” [20].
أين هم؟ إنهم لا يوجدون إذ جعلهم اللَّه كلا شيء [19]. يقصد بالحكيم الفيلسوف اليوناني، وبالكاتب الرجل اليهودي المتعلم، أما مباحث هذا الدهر فيشمل المحبين للحوار النظري العقيم سواء كانوا يهودًا أو أمميين.
يرى البعض أن الحكيم والكاتب ومباحث هذا الدهر يشيرون إلى اليهود كما ورد في (إش 14:29؛ 18:33؛ 25:44). فالحكيم عند الرسول هو chataam عند إشعياء النبي، ويعني به من يمارس التعليم. والكاتب يقابل copeer عند إشعياء النبي وهو الشخص المتعلم والمتميز عن عامة الشعب، خاصة في معرفة التقاليد اليهودية. والمباحث هو deroshأو dorshan الذي يجيب على الأسئلة ويعطي فهمًا رمزيًّا للكتاب المقدس. هؤلاء الثلاثة كانوا معروفين لليهود.
“ألم يجهل الله حكمة هذا العالم؟” يجعل اللَّه حكمة هذا العالم جهالة، إذ ينقصها الإيمان بالمسيح المصلوب، وبالتالي تعجز عن تقديم الخلاص للناس.
جاء في التقليد اليهودي أنه لا يكون أحد حكيمًا أو قويًا أو غنيًا بدون اللَّه. فيرون أنه يوجد حكيمان في العالم هما أخيتوفل الإسرائيلي (2 صم 15-17) وبلعام الأممي (عدد 22-24)، وكلاهما كانا بائسين في العالم. ويوجد رجلان قويان هما شمشون اليهودي في لحظات سقوطه (قض 13-16) وجليات الأممي (1 صم 17)، وكلاهما كانا بائسين في العالم. ويوجد غنيّان في العالم هما قورح الإسرائيلي (عدد 16) وهامان الأممي (إس 5-7)، وكلاهما كانا بائسين. لماذا؟ لأن هؤلاء جميعًا حسبوا مواهبهم ليست من عند اللَّه.
حيث تُعلَن حكمة اللَّه تذبل كل حكمة بشرية مجردة، وتُحسب أمامها كلا شيء. فإنه إن اجتمعت كل الكواكب معًا لا تقدر أن تجعل من الليل نهارًا، لكن الشمس وحدها تفعل ذلك. وهكذا لا تقدر أن تقيم كل مواهب الإنسان منه قديسًا مهما بلغت، إنما هو عمل المسيح المصلوب، شمس البرّ.
v نسمع ابن اللَّه يقول: “اعترف لك أيها الآب، رب السماء والأرض”. بماذا يعترف له؟ بماذا يمتدحه؟ “لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال الصغار” (مت 25:11). من هم الحكماء والفهماء؟ ومن هم الأطفال الصغار؟ يعني بالحكماء والفهماء الذين يقول عنهم بولس: “”أين الحكيم؟ أين الكاتب؟ أين مباحث هذا الدهر؟ ألم يجهل اللَّه حكمة هذا العالم؟” ربما لا تزال تسأل من هم هؤلاء؟ هؤلاء هم المتجاسرون في حوارهم بخصوص اللَّه وينطقون بالباطل عنه، وينتفخون بتعاليمهم الذاتية.
v إنه يحقق ما تنبأ عنه بحق الأنبياء: “أبيد حكمة الحكماء وأنزع فهم الفهماء“. فإنه لا يبيد عطيته فيهم ولا ينزعها عنهم بل ما ينسبونه لأنفسهم وما لم ينالوه منه… هذا محتقر كأمرٍ ضعيفٍ وغبيٍ موجود في الحكماء والأقوياء من أنفسهم. ولكن هذه هي النعمة التي تشفي الضعفاء الذين لا ينتفخون في كبرياء بطوباوية من عندياتهم بل بالأحرى في تواضعٍ يعرفون بؤسهم الحقيقي.
القديس أغسطينوس
v حكمة العالم غير حكمة اللَّه. حكمة اللَّه هي حق بدون إضافات تفسدها، وأما حكمة العالم فغبية، وإن كانت بساطة حكمة اللَّه تجعل الذين يقتنونها يظهرون كجهلاء في أعين العالم.
v لا تقتات بطعام الفلسفة المخادع، فإنه قد يبعدك عن الحق.
v أستطيع القول بكل ثقة أنه ليس محبة البلاغة الدنيوية، ولا سفسطة الفلاسفة، ولا أخطاء المنجمين الخاصة بدورات الكواكب، ولا تأليه الشياطين الكذبة، ولا أي علم آخر خاص بالمستقبل مستخدمًا خداعات شريرة، يقدر أن يفصلنا عن محبة اللَّه التي في المسيح يسوع ربنا.
v يصمت الحكيم والعاقل في هذا الأمر، لأنهما يزدريان بحكمة اللَّه.
القديس هيلاري أسقف بواتيية
v هنا يعدد بولس نوعين أو ثلاثة أنواع مختلفة من الحكمة. الأول هو ما يدعوه العالم جهالة، الحكمة التي هي أعظم من الأنواع الأخرى. بعد ذلك توجد حكمة تُعطى للبشر بها نتعقل ونعمل، وبواسطتها نتقدم ونخترع أشياء، وبها يمكن أن نعرف اللَّه. يوجد نوع ثالث من الحكمة, يوجد خلال التأمل في الخليقة.
الحكمة التي يحسبها العالم جهالة يهبنا إياها المخلص، حتى أن الذين يعرفون اللَّه بالحكمة الطبيعية والذين ينقادون إليه بالتأمل في نظام الخليقة يمكنهم أن ينالوا الخلاص، الأمر الذي لا يستطيع النوعان الآخران من الحكمة أن يقدماه بدون خطأ.
ثيؤدورت أسقف قورش
“لأنه إذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة
استحسن الله أن يُخلص المؤمنين بجهالة الكرازة” [21].
بقوله “كان العالم في حكمة اللَّه” لا تُفهم الحكمة التي مصدرها اللَّه، وإنما الحكمة التي غايتها البحث في اللَّه. فقد ظن كثير من الفلاسفة أنهم قادرون على التعرف على طبيعة اللَّه وأسراره وخطته بحكمتهم البشرية المجردة.
يرى الرسول أن فلاسفة العالم في بحثهم في أعمال اللَّه وخليقته لم يعرفوا اللَّه، فسقطوا في أعماق ظلمة الجهالة (رو 20:1-21). أو أنه إذ ترك اللَّه الإنسان ليحكم بنفسه بحكمته لم يبلغ إلى المعرفة الصادقة، لهذا تدخل اللَّه بإنجيل الصليب الذي يراه العالم جهالة ليكشف لهم عن الحق الإلهي، ويقدم لهم الخلاص. لقد ترك للبشر وقتًا كافيًا، حوالي 4000 عامًا، ومع هذا فشل الإنسان في إدراك المعرفة.
بالفلسفة البشرية المجردة أنكر الإنسان وجود اللَّه تمامًا أو أنكر عنايته ورعايته للبشرية. ولم يستطع خلال فهمه ولا خلال تأمله في الطبيعة أن يتلمس يد اللَّه ويتعرف على خطته. فإنه ليست من حكمة تقدر أن تنير أعماق الذهن وتكشف له عن الأسرار الإلهية بل وتجدده وتهب للإنسان خلاصًا، وتدخل به إلى الأمجاد السماوية سوى الصادرة من اللَّه.
v كما أن المعلم يأمر تلميذه أن يتبعه حيثما يقوده، وإذ يراه ممتنعًا عن ذلك ويريد أن يتعلم كل شيء بذاته، يسمح بأن يتركه يضل. وإذ يدرك التلميذ أنه عاجز عن بلوغ المعرفة يقدم له المعلم ما يتعلمه، هكذا فإن اللَّه أيضًا يأمر من البداية أن يقتفي البشر أثره بالفكرة التي تقدمها الخليقة، وإذ لم يريدوا فإنه بعد أن أظهروا بالخبرة أنهم عاجزون بأنفسهم يقودهم إليه مرة أخرى بطريق آخر.
v هذه الجهالة في الكرازة و”جهالة اللَّه التي هي أحكم من الإنسان” تجتذب الكثيرين إلى الخلاص. تجتذب ليس فقط العاجزين عن إدراك طبيعة اللَّه بتعقل واضح، الأمر الذي قبلوه بالإيمان، بل وتجتذب حتى الذين لم يتعلموا طبيعة نفوسهم ذاتها ليُميّزوا بين الجوهر غير المادي والجسد ككل مع تأكيدهم أنهم يعيشون ويفهمون ويريدون. حتى هؤلاء لا يُحرمون من الخلاص، حيث تُقدم جهالة الكرازة للمؤمنين.
v الإيمان بالمسيح المصلوب يهبنا سلطانًا، وإذ ينقصنا شيء في إيماننا تقدمه لنا قوة اللَّه.
“لأن اليهود يسألون آية،
واليونانيين يطلبون حكمة” [22].
يرى بعض الدارسين أنه لم يكن يوجد شعب بطيء في قبول الإيمان باللَّه مثل اليهود، وإذ كانوا دائمًا يخشون الخداع. كانوا يطلبون من الأنبياء أن يصنعوا أمامهم آيات وعجائب. هذه هي سمات الشعب اليهودي أنهم لم يكونوا قادرين على التعرف على اللَّه إلا بصنع آيات وعجائب ملموسة. وكانوا يفتخرون بذلك، ويطلبونها من كل نبي يظهر لكي يتأكدوا من صدق إرساليته من قِبَلْ اللَّه. لهذا احتقروا الكرازة البسيطة بالمسيح المصلوب. كانوا ينتظرون المسيا الذي يصنع آيات من السماء (مت38:12)، فيخلصهم من الأعداء بالقوة.
يقصد باليونانيين هنا الأمم بصفة عامة، خاصة الفلاسفة، فإنهم يطلبون ديانة تعتمد على الحكمة البشرية، ولهذا استخفوا بالإنجيل.
v في الرسالة إلى كنيسة كورنثوس نجد ذاك الذي نتحدث عنه بسموٍ، معلم كل الكنائس، أقصد بولس يقول: “اليهود يطلبون آية، واليونانيون حكمة. لكننا نكرز بالمسيح مصلوبًا، لليهود عثرة، ولليونانيين جهالة. وأما لنا نحن المخلصين، سواء كنا من اليهود أو اليونانيين، فالمسيح قوة اللَّه وحكمة اللَّه“.
يا له من معلم قوي للإيمان!
فإنه حتى في هذه العبارة إذ يعلم الكنيسة يحسب أنه لا يكفي الحديث عن المسيح بأنه اللَّه، بل يضيف أنه صُلب عن عمدٍ، من أجل التعليم عن الإيمان الواضح والصلد. هذا الذي يعلن عنه، والذي دعاه المصلوب هو حكمة اللَّه.
لم يستخدم إذن المهارة ولا احمر وجهه خجلاً عندما أشار إلى صليب المسيح. ومع كونه عثرة لليهود وجهالة للأمم أن يسمعوا بأن اللَّه قد وُلد (بالجسد) في شكل جسدي، وأنه تألم وصلب إلا أنه لم تضعف قوة ملامحه التقية بسبب شر اليهود المقاومين، ولا قلل من قوة إيمانه بسبب غباوة الآخرين وعدم إيمانهم.
إنه بكل صراحة أصر بجسارة أن يُعلن أن ذاك الذي هو عثرة وجهالة للبعض هو قوة اللَّه وحكمته. كما أن الأشخاص مختلفون فيما بينهم، لذلك هم مختلفون في أفكارهم. فما ينقص إنسان من فهم صادق وعجز عن الصلاح الحقيقي، وفي جهالة يُنكر هذا في عدم إيمان، إذًا بالمؤمن الحكيم يشعر في أعماق نفسه أنه عطية مقدسة واهبة حياة.
القديس يوحنا كاسيان
“ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوبًا،
لليهود عثرة ولليونانيين جهالة” [23].
ما كان يشغل قلب الرسل ليس صنع الآيات والعجائب، ولا تقديم فلسفات عقلية مجردة، بل الكرازة بصليب السيد المسيح ليتمتع اليهود كما الأمم بقوة الخلاص.
تعثر اليهود لأنهم لم يجدوا في المسيح الملك الأرضي الذي يصنع آيات وعجائب من السماء ليُقيم منهم مملكة عظيمة ويخلصهم من الاستعمار الروماني (مت35:12). جاءهم السيد المسيح وديعًا ومتواضعًا، لا يطلب المجد الزمني فتعثروا فيه.
وحسب اليونانيون الصليب غباوة لأنه يقدم شخصًا مصلوبًا، لا معلمًا يحاور في فلسفات وأفكار متغيرة. إنه من اليهودية عاجز عن الدخول في ركب الفلاسفة.
أورد الشهيد يوستين بعض كلمات السخرية التي تكلم بها تريفو Trypho ضد المسيحيين: [يسوعكم سقط تحت لعنة اللَّه العظمى. في دهشة لسنا ندرك كيف تتوقعون أمرًا صالحًا من اللَّه وأنتم تضعون رجاءكم في إنسان مصلوب!]
يقول أيضًا الشهيد يوستين: [يحسبوننا مجانين أننا نضع إنسانًا مصلوبًا بعد اللَّه السرمدي أب الجميع! يقول الأمميون: أين فهمكم يا من تعبدون إلهًا هو نفسه مصلوب؟]
هكذا صار الصليب لليهود عثرة وللأمم جهالة. المسيا المصلوب هو الحجر الذي تعثر فيه اليهود (مت44:21). عِوض التمتع بنعمة الخلاص بالصليب سقطوا في إنكار المسيح وجحودهم لعمل اللَّه الخلاصي فزادت خطيتهم.
v المسيح الذي نكرز به في كل العالم ليس مسيحًا يتزين بإكليل أرضي، وليس مسيحًا غنيًا بكنوز العالم، يشتهر بممتلكات أرضية، وإنما هو مسيح مصلوب. هذا كان محتقرًا من كل أمم الشعوب المتعجرفة، ولا يزال مرذولاً من البقية بين الأمم، لكنه هو موضوع إيمان القلّة وليس كل الأمم. لأنه عندما كُرز بالمسيح المصلوب في ذلك الحين آمن به عدد ليس بقليلٍ، إذ جعل العرج يمشون والخرس يتكلمون والصم يسمعون والعمي يرون والموتى يقومون. هكذا حطم كبرياء العالم، فإنه حتى بين أمور هذا العالم ليس شيء أكثر قوة من تواضع اللَّه [23-25].
“وأما للمدعوين يهودًا ويونانيين
فبالمسيح قوة الله وحكمة الله” [24].
الذين قبلوا الدعوة الإلهية سواء كانوا يهودًا أم من الأمم صارت لهم نظرة واحدة نحو المسيح المصلوب. إنهم يرونه قوة اللَّه، إذ يجدون قوة الخلاص العامل في حياتهم. ويدركون حكمة اللَّه، أي خطته الإلهية للغفران والتقديس وتمجيد الإنسان أبديًّا في الرب. يرون في الصليب سرّ تمتع أعماقهم بالجمال الحقيقي، والسمو في الفكر وضمان الخلاص. يرونه مشرقًا على كل المسكونة ليضم الكل معًا فيه. الكل، سواء من أصل يهودي أو أممي، مدعوون ليصيروا بالحق عروس المسيح العفيفة الواحدة، تحمل قوة اللَّه وحكمته.
إن كان اليهود يطلبون آية، فإن المسيح ذاته هو أعظم الآيات، صليبه الذي يبدو لليهود عثرة هو قوة اللَّه للخلاص لمن يؤمن به. يتلامسون بالآية بتجديد أعماقهم. وإن كان اليونانيون يطلبون حكمة، فالمسيح هو حكمة اللَّه (كو3:2).
v من يؤمن حقًا يتحد تمامًا بذاك الذي فيه الحق واللاهوت والجوهر والحياة والحكمة، ويرى فيه كل هذه والتي ليست فيمن لا يؤمن. فإنه بدون ابن اللَّه لا يكون لك وجود ولا اسم، ويصير القوي بلا قوة، والحكيم بلا حكمة. لأن المسيح هو “قوة اللَّه وحكمة اللَّه” (1كو24:1)، فإن من يظن أنه يرى اللَّه الواحد بلا قوة ولا حق ولا حكمة ولا حياة ولا نور حقيقي إما أنه لا يرى شيئًا بالمرة أو بالتأكيد يرى ما هو شر.
v عندما خلق اللَّه كل الأشياء… لم يكن محتاجًا إلى أية مادة لكي يعمل، ولا إلى أدوات في إقامة الخليقة، لأن قوة اللَّه وحكمته لا تحتاج إلى عونٍ خارجي. بل المسيح قوة اللَّه وحكمة اللَّه به كل الأشياء خُلقت، وبغيره لم يكن شيء مما كان كما يشهد يوحنا (يو 3:1).
v الآن إذ تمم الابن مشيئة الآب، وهذا في لغة الرسول هو “أن يخلص كل بشر” (1تي 4:2) ، يلزمهم لأجل نفعهم أن يكرموا الآب والابن مثله، إذ لم يكن ممكنًا أن يتحقق خلاصنا ولم يكن لإرادة اللَّه الصالحة أن تصير عملاً واقعيًّا من أجلنا إلا خلال قوته؛ وتعلمنا الكتب المقدسة أن الابن هو قوة الآب [24] .
v إذ يعلن أن طبيعته تسمو وتفوق كل عقل يستخدم أسماء مجيدة، فيدعوه “إلهًا فوق الكل” (رو15:9)، “الإله العظيم” (تي13:2)، “قوة اللَّه وحكمة اللَّه” [24]، وما أشبه بذلك.
v إن كنا جسد المسيح، وقد رتب اللَّه الأعضاء، كل عضو في الجسد فيهتم كل واحد بالآخر، ويتناغم مع الآخر، وعندما يتألم عضو تتألم كل الأعضاء معه، ومتى تمجد عضو تفرح الأعضاء معه، يلزمنا أن نمارس الحنو النابع من الموسيقى الإلهية، إنه متى اجتمعنا معًا في اسم المسيح يكون في وسطنا كلمة اللَّه، وحكمته وقوته.
إنها عثرة لليهود عندما يسمعون المسيح يدعو نفسه ابن اللَّه وهو يكسر السبت. إنها غباوة للأمم إذ يسمعون عن أمور مثل الميلاد البتولي والقيامة يُكرز بهما.
“لأن جهالة الله أحكم من الناس،
وضعف الله أقوى من الناس” [25].
خطة اللَّه للخلاص بالصليب التي تبدو للناس جهالة أو صلب المسيح الذي يبدو ضعفًا (2كو4:13) هو سرّ حكمة المؤمنين وقوتهم. فما يبدو لهم جهلاً هو أكثر حكمة من حكمة الناس، إذ لا تقدر الحكمة البشرية بذاتها أن تدركها. وما يبدو ضعفًا هو أعظم قوة مما للناس من قوة، إذ تحول البشريين إلى سمائيين، والأرض إلى سماء، والضعف إلى قوة.
v هذه هي مسرته أيضًا أن يخلص بجهالة الإنجيل. أقول ليست جهالة حقيقية، بل تبدو هكذا. فإن ما هو مدهش للغاية قد جلبه ونشره، وهي حكمة أسمى من الأولى لكنها تبدو غباوة. كمثال طُرد أفلاطون لا خلال فيلسوف أكثر مهارة، بل بصيّادي سمك غير متعلمين. بهذا صارت الهزيمة أعظم والنصرة أسمى.
v مرة أخرى يطلب اليونانيون منّا نظام البلاغة والسفسطة. وإذ نحن نبشر لهم بالصليب الذي يبدو لليهود ضعفًا، فإنه بالنسبة لليونانيين جهالة. لذلك عندما نعجز عن تحقيق طلباتهم بل نقدم لهم العكس تمامًا، عندما يطلبون علامات وحكمة ليس فقط لا ينالون ما يطلبونه بل يسمعون عكس ما يطلبون ومع ذلك بواسطة الأمور العكسية ينجذبون، أليس هذا بقوة ذاك الذي يُكرز به بطريقة لا يُنطق بها؟
v حيث توجد حكمة اللَّه لا حاجة بعد إلى حكمة الإنسان. قبلاً كان يُدرك أن الذي صنع العالم العظيم هكذا هو اللَّه الذي لا تُقاوم قوته ولا يُنطق بها. هذا الإدراك هو جزء من الحكمة البشرية. أما الآن فلا حاجة لنا إلى هذه البراهين العقلية، إنما يكفي الإيمان وحده. فإن من يؤمن أنه صُلب ودُفن، ويقتنع تمامًا أن هذا الشخص نفسه قام وجلس في الأعالي، هذا لا يحتاج إلى حكمة ولا إلى براهين عقلية بل إلى الإيمان. فقد جاء الرسل أنفسهم لا بالحكمة بل بالإيمان وفاقوا الحكماء الوثنيين في الحكمة والسموّ، وأكثر من هذا فإن إثارة الحوار أقل من قبول الإلهيات بالإيمان. بهذا سما على كل الفهم البشري.
v سنعرف قوته وسلطانه برد الذين كانوا في عداوة معه إلى زمان طويل إليه. “فإن ضعف اللَّه أقوى من الناس“، فبذات القوة التي أقام بها المسيح من الأموات يجتذبنا هو إليه.
v ألم ينزل الحكمة لكي يهيئ نفسه لضعفنا، ولكي يظهر لنا نموذج الحياة المقدسة في شكل بشريتنا. ومع ذلك فإننا إذ نأتي نحن إليه نفعل ذلك بالحكمة. هو نفسه عندما جاء إلينا حُسب عمله جهالة في نظر البشر المتكبرين. عندما نأتي إليه نصير أقوياء، وعندما جاء إلينا نُظر إليه كضعيفٍ. ولكن “جهالة اللَّه أقوى من الناس، وضعف اللَّه أقوى من الناس“ [25]. هكذا فإن الحكمة أيضًا هي الطريق الذي به نبلغ بيتنا.
7. الافتخار بالرب 26-31
“فانظروا دعوتكم أيها الاخوة
أن ليس كثيرون حكماء حسب الجسد،
ليس كثيرون أقوياء،
ليس كثيرون شرفاء [26].
يوجه الرسول أنظارنا إلى بركات الصليب، فإننا مدعوون أن نتمتع خلال الصليب بالحكمة والقوة والكرامة (شرفاء). كان اليهود يعتقدون بأن الروح الإلهي لن يستقر على إنسان ما لم يكن حكيمًا وقويًا وغنيًا. لقد تحقق هذا كله بالصليب لا حسب الجسد ولا حسب فكر العالم، بل صارت لنا حكمة اللَّه وقوته للخلاص وفيض غناه. هذه هي دعوة إنجيل الخلاص لكل البشرية.
“بل اختار الله جهال العالم ليخزي الحكماء،
واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء” [27].
“واختار الله أدنياء العالم والمُزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود” [28].
يشير هنا إلى المختارين للخدمة ممن ينقصهم التعليم الزمني والغنى والسلطان والجاه فيبدو أنهم أغبياء، وكانوا محتقرين من العظماء والأغنياء. اختارهم لكي يُدرك من يظنوا في أنفسهم أنهم حكماء وأقوياء وعظماء أنهم محتاجون إلى العمل الإلهي. بالنعمة يصيرون أبناء اللَّه، فينالون كرامة حتى أمام السمائيين، ويغتنوا بكنوز إلهية لا تُقدر!
v كان بولس غير متعلمٍ لكنه غلب أفلاطون، أقول كانت النصرة جلية. فإنه قد جذب الأول تلاميذ الأخير. مع أنه غير متعلم أقنعهم وأخذهم إلى صفِّه. من هذا يتضح أن الإنجيل لم يكن ثمرة حكمة بشرية بل نعمة اللَّه.
v لنربحهم بحياتنا. فإن كثيرين من بين غير المتعلمين ادهشوا بهذا الأسلوب عقول الفلاسفة، مظهرين في أنفسهم أيضًا أن الفلسفة التي تكمن في الأعمال تُعطي صوتًا أعظم من اللسان.
v إن كان ليس بحكمة الكلام، فلماذا أُرسل أبلوس البليغ؟ يجيب: ليس خلال الاعتماد على قوة الكلام، بل لأنه كان مقتدرًا في الكتب المقدسة (أع24:18، 29)، ويجادل اليهود… الآن فإن هذا (المسيح) القادر أن يعمل بدون الحاجة إلى أُناس متعلمين في البداية، أضاف إليهم أناس فصحاء، ليس لأنه محتاج إليهم وإنما يود أن لا يُوجد تمييزًا بين هؤلاء وأولئك. فإنه إذ لم يكن محتاجًا إلى حكماء ليحققوا ما يريده، فإنه فيما بعد إذ يوجد من هم هكذا لا يرفضهم بسبب فصاحتهم.
v “ليس كثيرون أقوياء، ليس كثيرون شرفاء“، فإن هؤلاء أيضًا مشحونون بالكبرياء. ليس شيء يسبب فشلاً من جهة معرفة اللَّه الدقيقة مثل التشامخ والالتصاق بالغنى، فإن هذا يجذب الإنسان إلى الإعجاب بالأمور الحاضرة وعدم المبالاة بالأمور المستقبلة، ويسد الآذان خلال الاهتمامات الكثيرة. أما اللَّه فاختار جهلاء العالم، وهذه علامة عظيمة على النصرة إذ يغلب اللَّه بغير المتعلمين.
v لم يدع غير المتعلمين فقط بل ودعا المحتاجين والمحتقرين والمجهولين لكي يخزي الذين في مراكز عالية.
v صنع اللَّه كل شيء بهذا الهدف: أن يحطم المجد الباطل والكبرياء ويذل التشامخ. يقول: “هل أنتم أيضًا تشغلون أنفسكم بهذا العمل؟” لقد فعل كل شيء حتى لا نصنع بأنفسنا شيئًا لحسابنا، بل ننسب كل شيء للَّه. هل تعطون أنفسكم لهذا الشخص أو ذاك؟ أي غفران تنالونه؟
v انظر ماذا فعل الرب الذي يقول عنه الرسول: “اختار اللَّه الضعفاء…” الآن كلمات صيّادي السمك تُقرأ، وتنحني رقاب الخطباء (الفلاسفة). لتعبر الرياح الفارغة، ليُنزع الدخان ويتبدد. ليُحتقر هؤلاء تمامًا عندما يكون السؤال خاصًا بهذا الخلاص.
v حجر الزاوية هذا يجعل الاثنين لائقين به. لكي يؤكد ذلك اختار جهلاء العالم ليخزي الحكماء، ولم يدعُ الأبرار بل الخطاة، حتى لا يفتخر إنسان بنفسه على عظمته، ولا ييأس أحد بسبب انحطاطه.
v ليفكروا في ذاك الذي إذ نزل ليشفي بمثال تواضعه سرّ نفس الإنسان العظيم: الكبرياء! “اختار ضعفاء العالم ليخزي بهم الأقوياء وجهّال العالم ليخزي الحكماء- ليسوا بالحق حكماء بل يبدو كأنهم هكذا- واختار أدنياء العالم وغير الموجود ليخزي الموجود”.
v كان عاموس النبي راعيًا للغنم، وبطرس صيّادًا للسمك، وأخوه أندراوس يمارس ذات العمل وأيضًا يوحنا؛ وبولس كان صانع خيام، ومتى عشّارًا، وهكذا بقية الرسل. لم يكونوا قناصله ولا وُلاة أو حكّام ولا رجال فلسفة وبلاغة، بل فقراء، ليسوا ذوي مهن سامية علميًّا، بل مبتدئين في أعمال وضيعة. ومع ذلك فإن أصواتهم قد بلغت الأرض كلها، وكلماتهم إلى أقاصي المسكونة.
اختار اللَّه “غير الموجود“… ماذا يعني؟ كان هذا التعبير شائعًا في الشرق (إش 17:40) يُستخدم عمن يبدو كأنه كلا شيء وبلا وجود. فاليهود كانوا يحتقرون الأمم ويحسبونهم كأنهم غير موجودين، كأنهم ليسوا شعبًا (هو 10:1؛ 23:2؛ رو25:9؛ 1 بط 10:2).
عندما يتحدث إنسان من الهندوس ذو مكانة عن أشخاصٍ محتقرين في نظره يقول “alla tha barkal” وتعني “غير الموجودين”. وهو تعبير لا يشير إلى الوجود ذاته أو عدمه، وإنما إلى الاستخفاف بالشخص حتى يصير في عينيه كأنه عدم.
بقوله “ليبطل الموجود” يعني الشرفاء والأغنياء وأصحاب المراكز السامية الذين يشعرون كأن ليس في الوجود غيرهم.
ربما يشير الرسول هنا إلى الأمم، إذ كان اليهود يتطلعون إليهم كجهلاءٍ وضعفاءٍ وأدنياءٍ، لا وجود لهم. ومع هذا فقد اختار اللَّه منهم من يخزي قادة اليهود الذين يحسبون أنفسهم حكماء وأغنياء وشرفاء. كان اليهود يتطلعون إلى الأمم بأنهم ليسوا أفضل من الكلاب (مت 15 :27).
في القديم كان كثيرون يتطلعون إلى الزوفا أنه كلا شيء، لكن اللَّه كرَّمه كما كرَّم الأرز، أمر باستخدامه في الطقس الخاص بتطهير الأبرص، وفي محرقة البقرة الحمراء وفي رشم قوائم أبوابهم للخلاص (خر 22:12) فلا يحتقر اللَّه الأمور المحتقرة عند البشر. لهذا لم يستخف سليمان بالزوفا بل تحدث عنه كما عن الأرز (1 مل 33:4).
“لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه” [29].
تشير كلمة “جسد” هنا إلى البشر كما جاء في (مت 22:24؛ لو 6:3؛ يو 2:17؛ أع 17:2؛ 1 بط 24:1).
يدخل بنا إنجيل المسيح إلى التواضع أمام اللَّه، لا إلى التشامخ، حيث يتمتع الكل بذات البركات بلا تمييز بسبب الكرامة أو السلطة أو الغنى. اللَّه الذي لا يستخف بالمحتقرين، صانعًا عجائب خلالهم، يحث المتكبرين ألا يتشامخوا بسبب عظمتهم أو حكمتهم أو غناهم، بل يفتخروا بالرب.
v ماذا يعني: “حسب الجسد“؟
حسب ما هو منظور، حسب الحياة الحاضرة، حسب نظام الأمم.
“ومنه أنتم بالمسيح يسوع،
الذي صار لنا حكمةً من الله وبرًا وقداسةً وفداءً” [30].
بقوله “ومنه أنتم” تقابل “هم” الذين يجدون فخرهم ومجدهم في حكمة العالم. إذ صرتم أبناء للَّه في المسيح يسوع، يتحقق وجودكم الروحي من اللَّه بالاتحاد مع المسيح يسوع، ليس حسب الجسد [26-29] بل بالروح صرتم وكالته وسفراء عنه تحملون إمكانياته. كل صلاح فينا هو هبة من اللَّه نتمتع بها خلال شركتنا مع المسيح، فقد جاء يسوع المسيح ليهبنا بركات الإنجيل.
v تعبير “ومنه“ [30] أظن أنه استخدمه هنا ليس بخصوص تمتعنا بالوجود، وإنما بخصوص الإيمان، أي أن نصير أولاد اللَّه، “ليس من دم ولا من مشيئة جسد” (يو 13:1). لا تفكروا أنه قد نزع عنا مجدنا، وتركنا هكذا، إذ يوجد مجد آخر، مجد أعظم، هو عطيته. فإنكم أنتم أبناء له، يليق أن تتمجدوا في حضرته، هذا ما تنالونه في المسيح. وإذ قال “اختار جُهّال العالم والمزدرى بهم” يعني بهذا أنهم يصيرون أكثر شرفًا من الكل إذ أخذوا اللَّه أبًا لهم. بخصوص سمونا فعلته ليس هذا الإنسان أو ذاك بل المسيح الذي جعلنا حكماء وأبرارًا وقديسين. هذا ما تعنيه الكلمات: “صار لنا حكمة“.
“صار لنا حكمة“، يتقدم إلينا لنقتنيه بكونه حكمة الآب الذي يفوق حكمة الفلاسفة والكتّاب والباحثين في هذا العالم. تقدم لنا الحكمة البشرية فلسفات بلا قوة، أما هو فمصدر الحكمة يهبنا كسفراء عنه سرّ الحكمة. يصير “لنا” كي نمتلكه وهو يمتلكنا. نعتز به فنصير حكماء. مسيحنا هو مصدر كل حكمة، يقدم لنا الحقائق الإلهية لننال معرفة حيّة اختباريه قادرة على خلاصنا. بروحه القدوس يدخل بنا إلى طريقه الملوكي، فلا ننحرف يمينًا ولا يسارًا، بل نسلك في طريق الحكمة. يفتح لنا أبواب مدرسته ليقودنا بروحه القدوس في طريق الحياة وننعم بخبرات جديدة كل يوم.
v لماذا لم يقل “جعلنا حكماء”، بل قال “صار لنا حكمة“؟ لكي يُظهر فيض العطية. وذلك كقوله: “أعطانا نفسه“. لاحظ كيف أكمل الحديث في ترتيبٍ لائقٍ. أولاً جعلنا حكماء بإنقاذنا من الخطأ. بعد ذلك أبرارًا وقديسين بإعطائنا الروح. هكذا خلصنا من كل الشرور لكي نصير “منه“. هذا لا يعني تعبيرًا عن علاقة وجود وكيان بل حديث عن الإيمان.
v هل تحققت هذا أن المسيح هو قوة اللَّه وحكمة اللَّه؟ تقول: “نعم إني مقتنع بهذا” اسمع إذن: “نفس البار هي كرسي الحكمة” (الحكمة 1). نعم! فإنه أين يوجد كرسي اللَّه إلا حيث يسكن؟ وأين يسكن إلا في هيكله، فإن “هيكل اللَّه مقدس، والذي أنتم هو” (1كو17:3). لتدرك إذن كيف قبلتم اللَّه.
“صار لنا برًّا“، نلبسه فنختفي فيه، ونظهر أمام الآب أبرارًا، الأمر الذي يعجز الناموس عن تحقيقه (غلا21:2؛ 21:3). بدمه ليس فقط ننال غفران خطايانا وإنما نحمل بره فينا. ليس فقط ينزع عنا الغضب الإلهي، بل ونصير موضع سرور الآب.
v برّ اللَّه هو المسيح، يقول الرسول: “صار لنا من اللَّه حكمة وبرًّا وقداسة وفداءً”؛ كما هو مكتوب “من يفتخر فليفتخر في الرب“.
برّ اللَّه الذي هو عطية النعمة بدون استحقاقات، لا يُعرف بواسطة أولئك الذين يريدون أن يُقيموا برّهم الذاتي، فلا يخضعون لبرّ اللَّه الذي هو المسيح.
في هذا البرّ نجد غنى عذوبة اللَّه التي يقول عنها المزمور: “ذوقوا وانظروا ما أعذب الرب” (مز 8:43).
“صار لنا قداسة“، يعمل فينا في أعماقنا، فنصير أيقونة القدوس. احتل مكاننا على الصليب فصار بلا جمال. ودخل بنا إلى مقادسه السماوية، فصرنا نحمل قداسته العجيبة.
“صار لنا فداء“، ليس من عبودية المصريين ولا من السبي البابلي ولا من الاستعمار الروماني، بل من عبودية إبليس والموت والفساد لننعم بمجد حرية أولاد اللَّه. قدم لنا خروجًا جديدًا، ليس تحت قيادة موسى النبي بل خلال دمه، لنعبر إلى السموات عينها. هذا هو فداؤنا.
v إن كنا لم نرَ بعد المسيح قد صار “الكل في الكل” كقول الرسول، فإنه لا يزال بهذه الطريقة نجده جزئيًّا في الكل. قيل عنه “الذي صار لهم حكمة وبرًّا وقداسة وفداء“. فإنه إذ يوجد في واحد حكمة، وفي آخر برًّا، وفي آخر قداسة، وآخر لطفًا، وآخر عفّة، وآخر تواضعًا وآخر صبرًا، فإن المسيح قد انقسم في الوقت الحاضر، عضو بعضوٍ بين كل القديسين. ولكن عندما يأتي الكل معًا في وحدة الإيمان والفضيلة، يتشكل في إنسان كاملٍ، يكمل كمال جسده في مفاصل وما لأعضائه. إلى أن يحين هذا الوقت حيث يصير اللَّه “الكل في الكل” يمكن القول بأن اللَّه حاضر في الكل، خلال فضائل معينة، وإن كان ليس بعد “الكل في الكل” خلال كمال الكل.
القديس يوحنا كاسيان
v لا تتعجب إننا نتحدث عن فضائل محبة المسيح، حيث أنه في حالات أخرى نود أن نعتبر المسيح هو نفسه كيان هذه الفضائل عينها. تجد هذا كثيرًا في الكتب المقدسة، يُكيّف ذاته حسب ظروف (المؤمنين)، فنجده مثلاً لا يدعى فقط العدل بل والسلام والحق.
“حتى كما هو مكتوب
من افتخر فليفتخر بالرب” [31].
جاء في سفر إرميا النبي: “هكذا قال الرب: لا يفتخرن الحكيم بحكمته، ولا يفتخر الجبار بجبروته، ولا يفتخر الغني بغناه، بل بهذا ليفتخرن المفتخر بأنه يفهم ويعرفني إني أنا الرب الصانع رحمة وقضاءً وعدلاً في الأرض، لأني بهذا أسر يقول الرب” (إر 23:9-24). علة الافتخار بالرب أنه مصدر الحكمة والقوة والغنى والقداسة وكل بركة حاضرة ومستقبلة. نفتخر باللَّه الآب الذي وهبنا كل عطية صالحة في المسيح يسوع. لم يعد فخرنا في الجسد ولا في العالم بحكمته وغناه وسلطانه بل نفتخر بالرب وحده للأسباب التالية:
v خطة خلاصه تفوق كل فكر بشري.
v بتواضعه الذي أُعلن في أعماقه على الصليب وهبنا تجديد أعماقنا لنشاركه تواضعه.
v يقدم لنا نفسه مصدر فرح، إذ فيه ننعم بالنصرة على الخطية ونتمتع ببره وقداسته، ونغتني بعطاياه وننعم بشركة مجده.
من وحي 1كو1
صليبك سرّ وحدتي
v صليبك سرّ خلاصي وقوتي وتسبحتي.
خلال صليبك أرى اخوتي مدعوّين قديسين.
أراهم حاملين برّك العجيب!
v صليبك يحوّل حياتي إلى تسبحة شكر.
أشكرك من أجل عطاياك لاخوتي,
فأحسب ما تمتعوا به أتمتع أنا به.
أراك عجيبًا في حبك ورعايتك لكل بشر.
v على الصليب اكتشف أسرارك الإلهية.
أراك تهبني كل شيء لحسابي.
فلا انتسب لرسولٍ أو ملاكٍ،
لم يمت أحد من أجلي سواك!
لم أنلْ العماد باسم آخر غيرك مع أبيك وروحك القدوس.
v صليبك هو فخري!
حسبه اليهود عثرة والفلاسفة جهالة،
لكنهم يروه فيّ قوة اللََّه العجيبة!
به أملك وأصير سماويًا.
به أحمل حكمة اللََّه الفائقة.
به أتحدى أنا غير الموجود كل موجود متعجرف،
به أتحدى أنا الضعيف من يظن أنه قوي!
به أنال كرامة سماوية تنقص كثير من الشرفاء!
v صرت بالصليب أيها الفادي برّي!
به صرت قداستي وفدائي!
كيف لا افتخر بصليبك يا أيها الحب الإلهي؟
أقرأ أيضاً
مقدمة | تفسير رسالة كورنثوس الأولى | تفسير العهد الجديد |
تفسير كورنثوس الثانية 2 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير رسالة كورنثوس الأولى | تفاسير العهد الجديد |