تفسير رسالة كورنثوس الأولى أصحاح ١٢ للقديس يوحنا ذهبي الفم

تفسير كورنثوس الأولى – الأصحاح الثاني عشر

 

“وأما من جهة المواهب الروحية أيها الإخوة فلست اريد أن تجهلوا . أنتم تعلمون أنكم كنتم أمماً منقادين إلى الأوثان البكم كما كنتم تُساقون ، ( ع۲،۱ ).

ذکر بولس الرسول هنا “المواهب الروحية” لأن كل من يعتمد كان للحال يتكلم بالألسنة ، ولم يكن يتكلم بالألسنة فقط بل كان كثيرون يتنبأون وقوم كانوا يعملون قوات كثيرة ، فعندما يعتمدون للحال كانوا يأخذون الروح ولا يرونه لأنه غیر منظور ، وكانت النعمة تعطيهم ؛ فكان الواحد منهم ينطق للحال بلغة الفرس والآخر بلغة الروم وآخر بلغة الهنود وآخر بلغة أخرى وكثيرون أقاموا الموتى وكانوا يخرجون الشياطين.

وكانت المواهب للبعض أقل وللبعض الآخر أزيد وهذا الأمر صار سبباً للانشقاق فيما بينهم ، وهذا ليس من المواهب بل لعدم وفاء الذين أخذوها ؛ لأن الذين أخذوا المواهب العظيمة كانوا يترفعون على الذين أخذوا الأقل منها وهؤلاء أيضاً كان يعتريهم الألم ويحسدون الذين يأخذون ما هو أعظم وكانت موهبة التكلم بالألسنة عندهم أعظم المواهب كلها.

“لذلك أعرفكم إن ليس أحد وهو يتكلم بروح الله يقول يسوع أناثيما  وليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس ، ( ع۳ ) .

إذا رأيت أحداً لا ينطق باسم السيد المسيح اعرف أنه عرَّاف ثم إذا رأيت آخر متکلماً في كل أمر باسم السيد المسيح تفطن في أنه إنسان روحانی .

“فانواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد ” ( ع 4) .

عالج بولس الرسول هنا الذي له الموهبة الصغرى والتي لأجلها يتوجع فيقول له لماذا نحزن ؟ لأنك لم تأخذ بمقدار الآخر ، لكن تفطن في كونها موهبة وليست دیناً.

“وأنواع خدم موجودة ولكن الرب واحد » ( ع 5) .

وإن كان هناك فرق في العطية إلا أنه ليس هناك فرق في المعطي ، لأنكما من الينبوع الواحد تأخذان ، أنت وذاك 

“وأنواع أعمال موجودة ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل . ولكنه لكل واحد يُعطى إظهار الروح للمنفعة” ( ع 6 ، 7).

ما هو العمل ؟ وما هي الخدمة ؟ وما هي الموهبة ؟ إنما هي اختلاف في الأسماء فقط ، لأن الأشياء هي نفسها ، لأن الشيء الذي هو موهبة سماه خدمة وسماه عملاً.

“فإنه لواحد يعطى بالروح كلام حكمة ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد . ولآخر إيمان بالروح الواحد ولآخر مواهب شفاء بالروح الواحد » ( ع ۹،۸).

رأيت بولس الرسول كيف أنه وضع هذه الإضافة في كل مكان قائلاً “بالروح الواحد”

“ولآخر عمل قوات ولآخر نبوة ولآخر تمييز الأرواح ولآخر أنواع ألسنة ولآخر ترجمة ألسنة » ( ع 10 ).

وحيث إنهم كانوا يرفعون من شأن ترجمة الألسنة ولذلك وضعها بولس أخيراً .

“ولكن هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه قاسماً لكل واحد بمفرده كما يشاء ” ( ع ۱۱).

إن كان المعطی واحد والعطية هبة فلا تحزن كمحتقر لأن الله لم يخلقك محتقراً إياك ، ولم يحكم بأنك أحط قدراً من الآخر وإنما أشفق عليك قاصداً الأوفق لك ، لأنه إذا أخذ أحد ما لا يطيق حمله فذلك يكون غير موافق وضار ويوجب الحزن.

وقول بولس الرسول عن الروح إنه يعمل “كما يشاء” ، وليس حس حسب ما أمر به لأنه كما قال عن الابن أنه يحيي الموتى ويقيمهم هكذا قال عن الروح.

“لأنه كما أن الجسد هو واحد وله أعضاء كثيرة وكل أعضاء الجسد الواحد إذا كانت كثيرة هي جسد واحد كذلك المسيح أيضاً ” ( ع ۱۲).

لم يقل بولس الرسول عن الأعضاء الأشرف منها والأدنى وإنما قال ” له أعضاء كثيرة”.

ولم يقل كذلك الكنيسة أيضأ بل قال “كذلك المسيح أيضاً ” ، أي وجسد السيد المسيح الذي هو الكنيسة ، لأن بولس الرسول يقول إن الجسد والرأس هما إنسان واحد ، هكذا والكنيسة بالمسيح هما واحد وكذلك وضع السيد المسيح عوض الكنيسة.

“لأننا جميعنا بروح واحد أيضاً اعتمدنا إلى جسد واحد يهوداً كنا أم يونانيين عبيداً أم أحراراً وجميعنا سُقينا روحاً واحداً ” ( ع۱۳ ) .

أي أن الروح الواحد هو الذي صيرنا جسداً واحداً ، إذ أعاد میلادنا ، لأنه لم يعتمد أحدنا بروح ما والآخر بروح آخر ، وليس هذا فقط بل إن الذي عمدنا هو واحد أي إننا اعتمدنا لنكون جسداً واحداً.

وحسناً قال بولس الرسول “وجميعنا” إذ أضاف ذاته معهم.

“فإن الجسد أيضاً ليس عضواً واحداً بل أعضاء كثيرة ” ( ع 14).

اعرف أن هذا الأمر العجيب وهو خاصية الجسد كونه يجعل الأعضاء الكثيرة والمتخالفة واحداً ، لأنه لو لم تكن كثيرة لما كان الجسد أمره هكذا عجيباً ومستغرباً بل وما يكون جسدا !!

” إن قالت الرجل لأني لست يداً لست من الجسد أفلم تكن لذلك من الجسد . وإن قالت الأذن لأني لست عيناً لست من الجسد أفلم تكن لذلك من الجسد ” ( ع 15، 16).

انظر كيف أن بولس الرسول لم يتكلم عن الأعضاء كلها بل تكلم عن عضوين فقط هما العين والرجل حيث إن العين موجودة أعلى الأعضاء والرجل في أدنى الأعضاء . ولم يجعل الرجل تخاطب العين بل اليد هي التي تخاطبها .

“لو كان كل الجسد عيناً فأين السمع لو كان الكل سمعاً فأين الشم ) ( ع ۱۷).

أوضح بولس الرسول أن هذا هو الأنفع وأن وجود الكثيرين والمختلفين هو الذي يوجد الجسد لأنه لو كان الكل واحداً لما كانوا جسداً .

“وأما الآن فقد وضع الله الأعضاء كل واحد منها في الجسد كما أراد » ( ع ۱۸).

حسنا قال بولس الرسول هذا القول موضحاً أن الله هو الذي رتب الموافق لكل عضو من أعضاء الجسد.

“ولكن لو كان جميعها عضواً واحداً أين الجسد. فالآن أعضاء كثيرة ولكن جسد واحد ( ع ۲۰،۱۹ ).

لو لم يكن فيكم تفاوت لما كنتم جسداً ، ولو لم يكن جسداً لما كنتم واحداً ، ولو لم تكونوا واحدا لما كنتم متساوين في الكرامة ، أي أن هذا التفاوت هو الذي يصنع مساواة الكرامة فيكم .

“لا تقدر العين أن تقول لليد لا حاجة لي إليك أو الرأس أيضا للرجلين لا حاجة لى اليكما” ع 21 )

 لأن الموهبة وإن كانت صغيرة إلا أنها ضرورية.

ولم يقل بولس الرسول لا تقول العين بل قال « لا تقدر العين أن تقول » وذلك إن أرادت.

“بل بالأولى أعضاء الجسد التي تظهر أضعف هي ضرورية . وأعضاء الجسد التي نحسب أنها بلا كرامة نعطيها كرامة أفضل والأعضاء القبيحة فينا لها جمال أفضل ، ( ع ۲۲ ، ۲۳ )

أي أن بولس الرسول يقصد أن الأعضاء العظام محتاجة إلى الضعيفة لا أقول هذا فقط إنما هي محتاجة إليها كثيراً ، فالذي فيكم ضعیف ومستهان هذا ضروری ويحظى بكرامة جزيلة .

والمقصود من “الأعضاء القبيحة فينا لها جمال أفضل” إذ أن أي عضو فينا يظن به أنه مهان أكثر من الأعضاء التناسلية ، لكنها لها كرامة زائدة في حين يعتقد الكثيرون أن هذه الأعضاء قبيحة ، وذلك لأن الذين يستعملونها لا يستعملونها حسب الواجب ، لذلك يجب الأخذ في الاعتبار أن الخطية لا توجد طبيعة الشيء بل قد تولد الهفوة من نفس المتجاسر عليها.

“وأما الجميلة فينا فليس لها احتیاج لكن الله مزج الجسد معطياً الناقص كرامة أفضل ، ( ع 24).

ولكي لا يقول أحد إن معنى هذا نحتقر الأعضاء الجميلة ونقدم كرامة للأعضاء القبيحة بل كونها تحتاج هذا.

وانظر أي مديح وضعه فاعلاً ذلك بما يوافق ولم يكتف بذلك بل وضع سبباً فقال ” لكن الله مزج الجسد معطياً الناقص كرامة أفضل”.

” لكي لا يكون انشقاق في الجسد بل تهتم الأعضاء اهتماماً واحداً بعضها لبعض” ( ع 25) .

 إن مزج الجسد لا يدع المهان يظهر مهاناً لأن الممزوج يصير شيئاً واحداً ولا يظهر ما كان عليه من قبل.

وهذه الأعضاء لو لم يكن لها منا الاعتناء الكثير لهلكت ، وإذا هلكت ينشق الجسد ، وإذا انشق الجسد تباد الأعضاء . 

“فإن كان عضو واحد يتألم فجميع الأعضاء تتألم معه وإن كان عضو واحد يكرم فجميع الأعضاء تفرح معه” ( ع 26) .

لأنه مراراً كثيرة تدخل شوكة في العقب فيحس بها الجسد كله فيهتم بها فالظهر ينحني والبطن ، والفخذان يرتدان إلى خلف واليدان يحاضران كالخدم ليخرجاً ما شك ، والرأس يميل والعينان تنظران باعتناء زائد ، لأن أي عضو أدنی من العقب وأى عضو أشرف من الرأس لأن هذا ومعه يحرك الكل ثم إذا أصاب العينين شيء فالأعضاء كلها تتألم وتتعطل عن أعمالها فلا الرجلان تمشيان ولا اليدان يعملان عملا ولا البطن تعمل كالمعتاد ، مع أن هذا الداء في العينين ، فلماذا تذوب البطن ؟ لماذا تحجز الرجلان ؟ لماذا تقيد اليدان ؟ لأن هذه الأعضاء مربوطة بالعينين ، والجسم متألم بحالة لا يلفظ بها.

“وأما أنتم فجسد المسيح وأعضاؤه أفراداً ” ( ع ۲۷ )

فإن كان جسدنا لا يجب أن نفرقه فأحرى بذلك كثيراً جسد السيد المسيح وبهذا المقدار أكثر ، أي بمقدار أوفر قوة من الطبيعة .

فوضع الله أناساً في الكنيسة أولاً رسلاً ثانياً أنبياء ثالثاً معلمين ثم قوات وبعد ذلك مواهب شفاء أعواناً تدابير وأنواع ألسنة » ( ع ۲۸ )

ولأنهم كانوا يعلون رواياتهم متشامخين بالألسنة في كل مكان ، كان بولس الرسول يضع ذلك أخيراً ، لأن قوله ” أولاً وثانيا ” لم يقله عبثاً، لكنه قدم ما كان أفضل وأظهر الأدنى ، ولذلك قدم الرسل الذين كانوا يمتلكون المواهب كلها في ذواتهم.

 وذكر بولس الرسول ثانيا الأنبياء لأنهم كانوا يتنبأون وكانوا وقتئذ كثيرين أكثر من الموجودين في العهد القديم ، لأن هذه الموهبة لم تكن موجودة في عشرة أو عشرين أو خمسين أو مائة بل كانت هذه النعمة تنسكب بغزارة ، وكل كنيسة كان فيها كثيرون يتنبأون.

ثم ذكر بولس الرسول ثالثا المعلمين إذ ذكرهم بعد الأنبياء لأن النبي ممتلئ موهبة ، أما المعلم فتعبه إنساني لأنه ينطق أقوالاً كثيرة من ذاته لكن طبق الكتب الإلهية .

وأخيرا ذكر قوات ومواهب شفاء فذكر القوة قبل الشفاء لأن القوة أكثر من الشفاء ، لأن الذي له قوة يعذب ويشفي أما الذي له موهبة الشفاء إنما يداوي فقط.

” ألعل الجميع رسل ألعل الجميع أنبياء ألعل الجميع معلمون ألعل الجميع أصحاب قوات . ألعل للجميع مواهب شفاء ألعل الجميع يتكلمون بألسنة العل الجميع يترجمون » ( ع 29 ، 30) .

لأنه كما أن الله لم يهب الأشياء العظيمة كلها للكل بل لقوم هذا ولآخرين ذاك ، وفي الأشياء الصغيرة إذ لم يضعها في الكل ، لكي ينضم كل واحد إلى أخيه بقدر احتياجه إلى قريبه وهذه السياسة دبرها أيضا في الصناعات وفي النباتات وفي أعضائنا وفي الكل مطلقاً .

“ولكن جوا للمواهب الحسنى وأيضا أريكم طريقة أفضل ” ( ع ۳۱ ) .

لم يقل بولس الرسول جدوا للمواهب العظيمة وإنما قال « جدوا للمواهب الحسنى » أي النافعة والموافقة أكثر . ولم يقل أريكم موهبة واحدة أو موهبتين أو ثلاث وإنما قال ” أريكم طريقة أفضل” أي المحبة نحو القريب .

فاصل

أقرأ أيضاً

فاصل

تفسير 2 كورنثوس 11 تفسير رسالة كورنثوس الأولى تفسير العهد الجديد
تفسير 2 كورنثوس 13
 القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير رسالة كورنثوس الأولى تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى