تفسير رسالة كورنثوس الثانية ٣ للقديس يوحنا ذهبي الفم
تفسير كورنثوس الثانية – الإصحاح الثالث
«أَفَنَبْتَدِئُ نَمْدَحُ أَنْفُسَنَا؟ أَمْ لَعَلَّنَا نَحْتَاجُ كَقَوْمٍ رَسَائِلَ تَوْصِيَةٍ إِلَيْكُمْ، أَوْ رَسَائِلَ تَوْصِيَةٍ مِنْكُمْ؟» (ع۱).
ربما يعترض أحد قائلاً: ما هذا يا بولس أتقول هذه الأقوال عن نفسك، وترفع ذاتك ، لذلك نقض بولس الرسول هذا الوهم فقال : إننا لا نبتغي هذا الأمر أي أن نتكبر رافعين ذواتنا ، لكننا قد نمتنع بهذا المقدار من أن نحتاج رسائل توصية إليكم ، بما أنكم عندنا عوض الرسائل.
«أَنْتُمْ رِسَالَتُنَا، مَكْتُوبَةً فِي قُلُوبِنَا، مَعْرُوفَةً وَمَقْرُوءَةً مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ.» (ع2).
المقصود من قول بولس الرسول “أنتم رسالتنا”، أي إذا لزم أن نقدم وصايا عند الآخرين نقدمكم أنتم عوض الرسالة.
وقوله “مكتوبة في قلوبنا” أي التي عرفها الكل ، هكذا يتكلم عنهم بولس الرسول حيث يوجد في كل مكان.
«ظَاهِرِينَ أَنَّكُمْ رِسَالَةُ الْمَسِيحِ، مَخْدُومَةً مِنَّا، مَكْتُوبَةً لاَ بِحِبْرٍ بَلْ بِرُوحِ اللهِ الْحَيِّ، لاَ فِي أَلْوَاحٍ حَجَرِيَّةٍ بَلْ فِي أَلْوَاحِ قَلْبٍ لَحْمِيَّةٍ.» (ع3).
المقصود من قول بولس الرسول : “أنكم رسالة المسيح” إذ أنهم يمتلكون ناموس الله مكتوباً ، لأن الذي شاء الله أن يوضحه للكل ولهم فهو مكتوب في قلوبهم .
وقوله « لا في ألواح حجرية بل في ألواح قلب لحمية » أي بمقدار الفرق بين الروح والمداد وبين اللوح الذي من الحجر والذي من اللحم ، بهذا المقدار يكون الفرق بين هذه وتلك.
«وَلكِنْ لَنَا ثِقَةٌ مِثْلُ هذِهِ بِالْمَسِيحِ لَدَى اللهِ.» (ع4).
قول بولس الرسول هنا ينسب الأمور كلها لله .
«لَيْسَ أَنَّنَا كُفَاةٌ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنْ نَفْتَكِرَ شَيْئًا كَأَنَّهُ مِنْ أَنْفُسِنَا، بَلْ كِفَايَتُنَا مِنَ اللهِ،» (ع5).
انظر أيضا تواضعاً آخر للتقويم والإصلاح لأن بولس الرسول امتلك هذه الفضيلة، فضيلة التواضع ، لذلك عندما يقول عن نفسه شيئاً عظيماً يستعمل كل حرص لأن يداوى ما يقوله بكل وجه ، الأمر الذي فعله هنا ، فقال “ليس إننا كفاة من أنفسنا … بل كفايتنا من الله” فلم يذكر أن فيه شيئاً وهذا الشيء من الله، بل نسب كل الأشياء إلى الله.
«الَّذِي جَعَلَنَا كُفَاةً لأَنْ نَكُونَ خُدَّامَ عَهْدٍ جَدِيدٍ. لاَ الْحَرْفِ بَلِ الرُّوحِ. لأَنَّ الْحَرْفَ يَقْتُلُ وَلكِنَّ الرُّوحَ يُحْيِي.» (ع6).
معنی قول بولس الرسول “الذي جعلنا كفاة” أي جعلهم قادرين ونافعين فهذا الأمر ليس بالشيء اليسير أي أن يحملوا مثل هذه الألواح والرسائل إلى المسكونة.
وقوله “خدام عهد جديد لا الحرف بل الروح” لأن موسى النبي لم يحمل روح بل حروفا مكتوبة ، وأما بولس الرسول فكان يعطى روحاً.
أما معنى قوله “لأن الحرف يقتل ولكن الروح يُحيى” أي أن الناموس يری أن الذي فيه خطية يقاصص ، أما هنا فالذي فيه خطية يدخل فيعمد فيصير باراً ، وإذ يصير باراً يحيا إذ ينجو من موت الخطية ، أي أن الناموس إذا قبل قاتلاً يقتله ، والنعمة إذا قبلت قاتلاً تنيره وتحييه ، كما أن الناموس يصير من يمسكه من حي ميتاً أما النعمة فتصير المدين من میت حياً.
«ثُمَّ إِنْ كَانَتْ خِدْمَةُ الْمَوْتِ، الْمَنْقُوشَةُ بِأَحْرُفٍ فِي حِجَارَةٍ، قَدْ حَصَلَتْ فِي مَجْدٍ، حَتَّى لَمْ يَقْدِرْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى وَجْهِ مُوسَى لِسَبَبِ مَجْدِ وَجْهِهِ الزَّائِلِ، 8فَكَيْفَ لاَ تَكُونُ بِالأَوْلَى خِدْمَةُ الرُّوحِ فِي مَجْدٍ؟ » (ع7، 8).
أي إن كانت خدمة الناموس للموت وخدمة النعمة للحياة فلا شك أن مجد هذه أعظم من مجد تلك ، وإن كانت خدمة الموت حصلت بمجد كيف لا يكون بخدمة الروح أن تكون بالمجد.
تأمل كيف سمی بولس الرسول الناموس بـ “خدمة الموت” ولم يقل المجتلبة الموت وإنما قال “خدمة الموت”، لأنها تخدم الموت ولا تلده ، فكما أن الذي يستعمل السيف ويقطع رأس المجرم إنما يخدم الحاكم الآمر بذلك ولا يكون هو الذي قتل ، مع إنه هو الذي قتل ، بل ولا الذي حكم بالقتل والانتقام به هو الذي قتل ، بل شقاوة المنتقم منه ، هكذا الناموس ليس هو الذي يقتل بل الخطية هي التي تقتل وتقاصص ، فإذ يقاصص الناموس يقطع رادعها حبل الخطية بخوف القصاص.
لقد رفع بولس الرسول أمور العهد الجديد إذ أنها خالية من الشك ، لأن العهد الجديد لم يكن يعطى الحياة فقط بل ويمنح الروح أيضا الذي هو واجب الحياة والذي هو أعظم من الحياة كثيراً ولذلك قال “خدمة الروح”.
«لأَنَّهُ إِنْ كَانَتْ خِدْمَةُ الدَّيْنُونَةِ مَجْدًا، فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا تَزِيدُ خِدْمَةُ الْبِرِّ فِي مَجْدٍ!» (ع9).
لأن تلك الألواح كانت تظهر الخطاة وتقاصصهم وأما هذه الخدمة ليس إنها لا تقاصص الخطاة فقط بل وتصيرهم صديقين حيث إن هذا الأمر تهبه المعمودية .
«فَإِنَّ الْمُمَجَّدَ أَيْضًا لَمْ يُمَجَّدْ مِنْ هذَا الْقَبِيلِ لِسَبَبِ الْمَجْدِ الْفَائِقِ. » ( ع10)
أوضح بولس الرسول هنا السمو کم هو يكون ، إذ أنه قايس المجد العتيق بالمجد الجديد فظهر أن مجد العتيق لا يكون مجداً.
«لأَنَّهُ إِنْ كَانَ الزَّائِلُ فِي مَجْدٍ، فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا يَكُونُ الدَّائِمُ فِي مَجْدٍ!» ( ع11)
ذلك لأن العتيق قد كف ، وأما العهد الجديد فيبقى على الدوام .
«فَإِذْ لَنَا رَجَاءٌ مِثْلُ هذَا نَسْتَعْمِلُ مُجَاهَرَةً كَثِيرَةً.» (ع12).
من حيث إن السامع إذ سمع بمثل هذه الأمور الذي هذا مقدارها في معنی العهد الجديد ابتغى أن يرى هذا المجد عياناً، انظر كيف أسنده إلى الدهر العتيد ولذلك قدم الرجاء فقال “فإذ لنا رجاء”، فمثل هذا الرجاء كان حقاً، لأننا استحققنا أموراً أعظم مما استحقه موسى النبي ليس نحن فقط بل سائر المؤمنين.
«وَلَيْسَ كَمَا كَانَ مُوسَى يَضَعُ بُرْقُعًا عَلَى وَجْهِهِ لِكَيْ لاَ يَنْظُرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى نِهَايَةِ الزَّائِلِ.»( ع13) .
أي إننا لا نحتاج أن نتبرقع کموسى النبي ، لأنكم تستطيعون أن تتفرسوا في المجد الذي نحن حاصلون عليه ، مع كونه أعظم كثيراً وأبهی من ذلك ، وبهذا رفع السامع ، وعلى وجه ما ، فضلهم على اليهود .
«بَلْ أُغْلِظَتْ أَذْهَانُهُمْ، لأَنَّهُ حَتَّى الْيَوْمِ ذلِكَ الْبُرْقُعُ نَفْسُهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ بَاق غَيْرُ مُنْكَشِفٍ، الَّذِي يُبْطَلُ فِي الْمَسِيحِ.»( ع14) .
لم يكن موسى النبي ملام عندما كان يُغطى وقتئذ وجهه ولكن اللوم يقع على اليهود عديمي الوفاء ، لأن موسى النبي فله مجده ، أما اليهود فلم يستطيعوا التفرس فيه ، فلماذا ترتابون إن كانوا لا يستطيعون أن ينظروا هذا المجد أي مجد النعمة ، إذ كانوا لم ينظروا الأدني أي مجد موسی النبي ولا استطاعوا أن يتفرسوا في وجهه ، فما بالكم تنذعرون إن كان اليهود لا يؤمنون بالسيد المسيح لأنهم لم يبصروا ولا العهد العتيق ولا المجد الذي فيه ، لأن مجد الناموس العودة إلى السيد المسيح.
رأيت كيف أن موسى النبي هنا قد أزال تشامخ اليهود وأوضح غلاظتهم وأنهم أرضيون فلا يزهون مفتخرين بذلك.
فالناتج إننا نحن الذين عاينا الناموس وأما اليهود ليست النعمة التي حُجبت فقط بل والناموس أيضا.
قول بولس الرسول “العهد العتيق باق غیر منکشف الذى يبطل في المسيح” حيث إن الأمور الناموسية كفت بالمسيح إلى الغاية لأن الهيكل هدمه السيد المسيح ، وقد كفت السبوت والختان وباقي الأمور كلها ، وداود النبي إذ أوضح هذا الأمر نفسه قال عن السيد المسيح “أقسم الرب ولن يندم أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملکی صادق” ( مز 110: 4) وليس على رتبة هرون ، القول الذي فسره بولس الرسول فقال إن الكهنوت قد انتقل ، فمن الضرورة أن انتقال الناموس أيضاً.
«لكِنْ حَتَّى الْيَوْمِ، حِينَ يُقْرَأُ مُوسَى، الْبُرْقُعُ مَوْضُوعٌ عَلَى قَلْبِهِمْ. وَلكِنْ عِنْدَمَا يَرْجعُ إِلَى الرَّبِّ يُرْفَعُ الْبُرْقُعُ.»(ع 15 ،16 ).
رأيت أن ذلك البرقع لم يكن لوجه موسى النبي بل لوجوه اليهود ، لأن ذلك البرقع لم يكن ليخفى مجد الرب لموسى النبي بل لكي لا يراه اليهود لأنهم لم يكونوا يطيقون معاينته ، ولذلك كان هذا نقيصة لهم.
وقول بولس الرسول “ولكن عندما يرجع إلى الرب يرفع البرقع” أي إننا متی رجعنا إلى الرب عند ذلك نعاين مجد الناموس ونرى وجه واضع الناموس مكشوفاً.
«وَأَمَّا الرَّبُّ فَهُوَ الرُّوحُ، وَحَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ. وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ.»( ع 17، 18).
قول بولس الرسول “وأما الرب فهو الروح “، رأيت كيف وضع الروح بمنزلة الرب . وقوله “ونحن جميعاً ناظرین مجد الرب بوجه مكشوف” أي لم نحتج برقعاً ، مع أن هذا المجد أعظم من ذلك كثيراً ، لأن هذا المجد هو مجد الروح ، ومع يمكنكم التفرس فيه ، أما اليهود لم يستطيعوا ذلك وأما أنتم بغير واسطة أمكنكم النظر إلى المجد الأعظم.
تفسير 2 كورنثوس 2 | تفسير رسالة كورنثوس الثانية | تفسير العهد الجديد |
تفسير 2 كورنثوس 4 |
القديس يوحنا ذهبي الفم | |||
تفاسير رسالة كورنثوس الثانية | تفاسير العهد الجديد |