تفسير رسالة كورنثوس الثانية ١٣ للقمص تادرس يعقوب ملطي
الباب السادس
الختام
ص 13
الإصحاح الثالث عشر
الختام
بعد أن أبرز الرسول إلى أهل كورنثوس كل محبةٍ حنوٍ، مؤكدًا أنه ينفق كل ما لديه ويُنفق هو نفسه من أجلهم، أعلن عن سلطانه الرسولي الذي لن يستخدمه إلا لبنيانهم ولمجد اللَّه. الآن في الختام يهدد المصممين على المقاومة وعدم التوبة، مع صلواته من أجل الكنيسة وتقديم البركة الرسولية للجميع.
١. تهديده للأشرار ١-٦.
إذ بعث إليهم رسالتين حسبهما شاهدين على من يصر على شره ومقاومته للحق الإنجيلي وافساد كنيسة اللَّه.
“هذه المرة الثالثة آتي إليكم،
على فم شاهدين وثلاثة تقوم كل كلمة” ]1[.
من هم الشاهدان أو الثلاثة شهود؟ يرى البعض أن الشاهدين هما زيارتان قام بهما إلى كورنثوس. وكما يقول Calmet أن الزيارة الأولى قام بها عام ٥٢م لتأسيس الكنيسة هناك حيث بقي سنة ونصف (أع ١:١٨). وجاء إليهم مرة أخرى عام ٥٥م حيث قضى مدة قصيرة، واضطر أن يرجع بسرعة إلى أفسس (١ كو ٧:١٦). لهذا لم يشر القديس لوقا إليها في سفر الأعمال. وأخيرًا يريد أن يزورهم للمرة الثالثة وقد تم ذلك عام ٥٧م.
يرى البعض أن الرسول لم يزر كورنثوس حتى كتابة هذه الرسالة سوى مرة واحدة. ويرى آخرون أن الشاهدين هما الذين ضمهما إلى اسمه في الرسالتين: سوستانيس الأخ (1 كو ١:١)، وتيموثاوس الأخ (٢ كو ١:١).
v كان بولس يشعر بألم شديد وهو يكتب مقدمًا عن مجيئه إليهم، إذ كان بترجى أن تضع الكنيسة الأمور في نصابها قبل ذهابه، حتى يبدو أن ما يهدد به يصير غير ضروري.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“قد سبقت فقلت واسبق فأقول،
كما وأنا حاضر المرة الثانية،
وأنا غائب الآن،
اكتب للذين أخطأوا من قبل ولجميع الباقين،
إني إذا جئت أيضًا لا أُشفق” ]2[.
يشير هنا إلى الزيارة الثانية القصيرة التي لم ترد في سفر الأعمال.
v يبدو أن الزيارة الثانية قد تمت فعلاً: “وأنا حاضر المرة الثانية“.
ما يقوله هو: لقد تحدثت مرة ومرة أخرى حين كنت معكم، والآن أتحدث معكم بالرسالة. فإن سمعتم لي بالحقيقة ما أوده سأفعله، أما إن عصيتم فبالضرورة أتوقف عن الكلام لكي أصب عقابًا.
v يقول بولس إنه يضع عنقه على يده، وإذ سمع الكثيرون تهديداته، فإنه إذ يجيء ولا يجد الأمور قد تغيرت فسيطردهم. حتى هذا الأمر سيراه بنظرة متواضعة ودفاعية ليس إلا.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“إذ أنتم تطلبون برهان المسيح المتكلم في،
الذي ليس ضعيفًا لكم،
بل قوي فيكم” ]3[.
إن كانوا يطلبون برهانًا على سلطانه الرسولي في المسيح يسوع، فإن البرهان هو تحولهم هم أنفسهم إلى الإيمان بالسيد المسيح. هذا التحول هو برهان قوي على أن المسيح هو المتحدث بواسطته، وقد عملت قوته فيهم، وهي قوة ليست بضعيفة بل قوية. بذات السلطان والقوة من حق الرسول أن يؤدب المعلمين الكذبة.
v تطلّع يا اللَّه حامينا، وانظر على وجه مسيحك (راجع مز10:84). لاحظ أنه يقول: “تطلّع على وجه مسيحك”. أذكر أنه إذ يصلي الإنسان بغيرة يتطلع الآب إلى وجه الابن. تحقق ماذا يعني هذا؟ يسأل الرسول: “أتطلبون برهان المسيح المتكلم فيّ؟“، ويجيب المخلص نفسه: “من يقبلكم يقبلني” (مت 40:10). لذلك فإن ما يقوله المرتل هو: “تطلع إلينا، فإنك تنظر ابنك الساكن في داخلنا“.
ما يقوله بولس ينطق به المسيح، لأن “من يقبلكم يقبلني” (مت40:10). هكذا يتكلم ربنا ومخلصنا معنا في كتابات أمرائه.
القديس جيروم
v سوف لا يعاقب بولس الكورنثيين لمجرد ابراز أنه صاحب سلطان. إحجامه عن صبره معهم ليس نابعَا عن ضعف بل عن حب وطول أناة.
v “المسيح… الذي ليس ضعيفًا لكم بل قوي فيكم”. لماذا أضاف “لكم“، مع أنه قوي في كل موضع؟ لأنه إذ يريد أن يعاقب غير المؤمنين أو يعاقب الشياطين أو أي كائنٍ آخر فهو قادر على ذلك. فماذا يعني بهذه الاضافة؟ هذا التعبير إما لكي يخجلهم بزيادة إذ بالفعل تسلموا برهانًا، أو لكي يعلن لهم ذلك: إنه يظهر قوته فيكم يا من أنتم يجب أن تصلحوا من شأنكم. وكما يقول في موضع آخر: “لأنه ماذا لي أن أدين الذين من خارج؟” (١ كو ١٢:٥). إنه يقول: “بالنسبة للذين من خارج سيدينهم في يوم الدينونة، أما بالنسبة لكم فلكي يخلصكم من هذا العقاب”.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v لأن بولس الرسول قد صار يومًا ما “إناءً مختارًا“ )أع 15:9( لم يَعَشْ حياته بعد، بل أظهر المسيح حيًا في حياته، وقدم برهان المسيح المتكلم فيه (2 كو 3:13). لذلك صار مسكنًا يحوي الطبيعة التي لا تُحوىَ.
v إذا أتبع أي شخصٍ مثال بولس وأصبح إناءً مختارًا حاملاً اسم اللَّه (أع 15:9) ووحدت رأسه جميع أطراف جسم الكنيسة فى انسجام، فإذا تكلم مثل هذا الشخص فإنه لا يتكلم من نفسه بل يتكلم كأنه الرأس. فالمسيح هو الذي يتكلم كما أوضح بولس (2 كو 3:13). لذلك تربط القصبة الهوائية والحنجرة كلمة الحق مع صوت الروح القدس العذب الشجي. وتُجمل القصبة الهوائية بالكلام المقدس، وتغذى كل أعضاء الجسد بهذه التعاليم المحببة. تعمل الفقرات بانسجام الجسد بواسطة رابطة السلام والحب.
v الشخص الذى يسكن فيه اللَّه، هو أريكة يجلس عليها اللَّه. مثل هذا الشخص لا يعيش لنفسه بعد ذلك بل يعيش المسيح فيه، ويعطى برهانا أن المسيح يتكلم من خلاله، حسب قول الرسول الطاهر بولس (2 كو 3:13). فيُسمى هذا الشخص بجدارةٍ أريكة مولودة من المسيح ويحملها المسيح.
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
v لم يتكلم (المسيح) بما يناقض رسوله، متطلعين أنه هو نفسه تكلم فيه أيضًا، كما يقول: “هل تطلبون برهان المسيح المتكلم فيّ؟” المسيح في الإنجيل، المسيح في الرسول. إذن يتحدث المسيح بالاثنين، تارة بفمه والأخرى بفم سفيره. فعندما يعلن السفير (المذيع باسمه) شيئًا من كرسي القضاء لا يُكتب في السجلات بأن “السفير قال هذا”، وإنما يُسجل الكلام كمن هو نفسه قالها، إذ أمر سفيره أن يقول.
v المسيح نفسه ينطق في قديسيه كما يقول الرسول، “هل تطلبون برهان المسيح المتكلم فيّ؟”
v ألم يشهد الشهداء للمسيح؟ ألم يحملوا شهادة للحق؟ لكن إن فكرنا بأكثر اهتمام، يحمل هؤلاء الشهداء شهادة هو نفسه يشهد بها لنفسه. لأنه يسكن في الشهداء ليحملوا شهادة للحق. استمع إلى أحد الشهداء، الرسول بولس: “ألم تقبلوا برهان المسيح الذي يتكلم فيّ؟“
القديس أغسطينوس
v إذا لم يُطلب عون اللَّه يصير الجهد البشري قائمًا على أساس ضعيف إلى حد ما. بلا شك يكون الإيمان في خطر ما لم تسنده عناية اللَّه التي ترعاه. لذلك فمن جانبنا نرغب في الصلاح ومن جانب المسيح يحقق ذلك.
الأب فاليريان
v “ألا تطلبون برهان المسيح المتكلم فيَّ“، لأن المسيح موجود في كل قديس، وهكذا من المسيح الواحد صار مسحاء كثيرون، صاروا متمثلين به، يتشكلون على مثال ذاك الذي هو صورة اللَّه، لهذا يقول النبي: “لا تمسوا مسحائي” (مز ١٥:١٠٥).
v يمكننا القول بأكثر لياقة بأن المخلص لم يكن في تلاميذه بل معهم ماداموا لم يبلغوا بعد إلى نهاية الدهر بأذهانهم. ولكن عندما يرون أنه قد صارت نهاية العالم المصلوب بالنسبة لهم بين أيديهم قدر ما يستطيعون، عندئذ لا يكون يسوع بعد معهم بل فيهم، فيقولون: “لا أحيا أنا بل المسيح يحيا فيّ” (غلا ٢٠:٢)، و”إذ تطلبون برهان المسيح المتكلم فيَّ” (٢ كو ٣:١٣).
العلامة أوريجينوس
“لأنه وإن كان قد صُلب من ضعف،
لكنه حيّ بقوة اللَّه،
فنحن أيضًا ضعفاء فيه،
لكننا سنحيا معه بقوة اللَّه من جهتكم” ]4[.
إن كان الرسول قد أُتهم بالضعف وانه بلا سلطان، فإن المسيح المتحدث فيه هو أيضًا أُتهم بذلك. لقد صُلب، وبصلبه ظهر كضعيفٍ. لكنه لم يكن هكذا، فقد سلم حياته للموت بإرادته، ولم يكن ممكنًا أخذها دون سماحٍ منه. ففي قدرته أن يرسل أكثر من اثني عشر جيشًا من الملائكة لمساندته ضد الجماهير التي قادها الكهنة ضده (مت ٥٣:٢٦). لكن كيف كان يُمكن أن تتم الكتب؟ بموته أظهر القوة الإلهية، قوة الدم والخلاص، وعمل النعمة التي جذبت العالم إلى السيد المسيح، وتحول الكثيرون إلى الإيمان به.
كأن الرسول يقول: “و إذ نحن للمسيح نأخذ جانبه، وكما اتهمه اليهود بالضعف عندما صُلب، هكذا تتهموننا بالضعف ونحن نتألم من أجلكم. نحن نشاركه حياته المصلوبة، نشاركه الحب، فنحمل قوته فينا، ونحن متهمون منكم بالضعف“.
v توجد ثلاثة معان لتعبير “ضعف“: الضعف الجسدي، وعدم الثبات في الإيمان، والاضطهادات.
هنا يستخدم القديس بولس المعنى الثالث للضعف. وما يعنيه هو: في الاضطهادات والمخاطر والمحاكمات والمؤامرات والميتات، لم يتكلم عن انفعال ولا عن شك في الإيمان بل ماذا؟ في اهانات، في ضرورات، في اضطهادات، في ضيقات (٢ كو ١٠:١٢)… فإنه وإن اختار أن يحتمل شيئًا يبدو أنه يحمل معنى الضعف إلا أن هذا لن يعوق قوة اللَّه.
يقدم القديس بولس تعبيرًا عن فهم عدم الإيمان، الذي يتطلع إلى الصليب كغباوةٍ وضعفٍ. لكن بولس لا يقول هذا لأن (المسيح) كان ضعيفًا حين كان مصلوبًا. فإنه كان في سلطانه ألا يُصلب، هذا ما اظهره… فلماذا يقول: “في ضعفٍ“؟ وإن كان قد صُلب محتملاً الخيانة والمصائب والاهانة (إذ حسب الظاهر تُدعى ضعفات)، إلا أنه لم يؤذه شيء من هذه. ولا نحن يصيبنا ضرر عندما نُضطهد ونُحارب.
v ما هو معنى “نحن ضعفاء فيه“؟ نحن نُضطهد، نُسحب هنا وهناك، ونحتمل إلى أقصى التطرفات. ولكن ماذا تعني “فيه“؟ أي من أجل الكرازة والإيمان به. ولكن إن كان من أجله نحتمل ما هو محزن ومقلق ومرهق، فواضح تمامًا أننا سننال أيضًا ما هو مفرح. ولهذا يضيف: “لكننا سنحيا معه بقوة اللَّه”.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v أنتم تعلمون جيدًا أيها الاخوة القديسون كما نحن، أن ربنا ومخلصنا يسوع المسيح هو طبيب صحتنا الأبدية، ولهذا الهدف أخذ ضعف طبيعتنا حتى لا يدم ضعفنا إلى الأبد. لقد أخذ جسمًا قابلاً للموت، فيه يقتل الموت. وكما يقول الرسول: “وإن كان قد صُلب من ضعفٍ لكنه حيّ بقوة اللَّه“.
القديس أغسطينوس
“جرّبوا أنفسكم هل أنتم في الإيمان؟
امتحنوا أنفسكم،
أم لستم تعرفون أنفسكم إن يسوع المسيح هو فيكم،
إن لم تكونوا مرفوضين” ]5[.
لكي يؤكد سلطانه في المسيح يسوع يسألهم ألا يطلبوا برهانًا خارجًا عنهم، بل يمتحنوا أنفسهم كيف عمل السيد المسيح فيهم خلال كرازة الرسول بولس ورعايته لهم، وكيف سكن فيهم. لقد ولدهم الرسول بولس في المسيح يسوع، وصار لهم أبًا.
تستخدم الكلمة اليونانية وجربوا heautous للكشف عن العملات الذهبية أو الفضية إن كانت أصيلة أم مزيفة. فيليق بهم أن يفحصوا ذواتهم هل هم بالحق في المسيح والمسيح فيهم، أم هم حاملو الاسم فقط.
افحصوا انفسكم، هل يسكن المسيح فيكم فتحملون روحه وقوته وفكره، وتتمتعون بالبنوة للَّه كعملة أصيلة أم أنكم مزيفون ومرفوضون من اللَّه.
v تطلعوا إلى أنفسكم فستجدون أن لكم المسيح فيكم. المسيح هو فيكم فكم بالأكثر في معلمكم؟
v يبدو لي أنه يتحدث هنا عن حياتهم. حيث أن الإيمان ليس كافيًا أن يجذب طاقة الروح. وقد قال: “إن كنتم في الإيمان، فإن لكم المسيح فيكم”، ومع هذا يحدث أن كثيرين لهم إيمان وهم محرومون من هذه الطاقة. لحل هذه المشكلة يقول: “إن لم تكونوا مرفوضين”، أي إن لم تكن حياتكم فاسدة.
v لم يرد أن يجرح مشاعرهم لهذا لمَّح بطريقة غامضة دون أن يقدم تأكيدًا لهذا: “انتم مرفوضون“…
لقد اشار إلى ذلك بطريقة غامضة باضافة: “أرجو انكم ستعرفون أننا لسنا مرفوضين“. هنا أيضًا مرة أخرى انذار خطير… يقول: “أصلي إلى اللَّه أنكم لا تعملون شيئًا رديًا، ليس لكي نظهر نحن مزكين، بل لكي تصنعوا أنتم حسنًا، ونكون نحن كأننا مرفوضون”.
ماذا يقول؟ أتوسل إلى اللَّه، أطلب منه إلا أجد أحدًا غير مصلحٍ لحياته، لا أجد أحدًا غير تائبٍ. بالحقيقة ليس هذا فقط، بل لا يوجد أحد يخطئ قط… لكن إن كنتم تستمرون في الخطية وعدم التوبة، فبالضرورة علينا أن نؤدب ونعاقب لكي نقحم أجسادكم كما حدث في حالة سفيرة وMagus ، ونحن نعطي برهانًا لسلطاننا. ولكننا نصلي ألا يحدث هذا، بل يحدث العكس، وهو ألا نظهر بأننا مزكون بهذه الطريقة. ألا نظهر برهان سلطاننا الذي فينا بتأديبكم… نصلي من أجل هذا أن تعيشوا دائمًا في الفضيلة، دائمًا في تصليحٍ لأموركم، ويليق بنا بهذا إلا نتزكى إذ لا نستخدم سلطاننا في التأديب.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“لكنني أرجو أنكم ستعرفون
أننا نحن لسنا مرفوضين” ]6[.
بعد أن قدم الرسول “سكنى المسيح فيهم” كترمومتر يقيسون به أنفسهم، وكدليلٍ قويٍ على أصالتهم في الإيمان وعدم تزيفهم أكد لهم أن ما يتمتعوا به إنما يتمتع به هو وزملاؤه في الخدمة. وكأنه يقول لهم: “إن فحصتم أنفسكم فوجدتم أنفسكم عملة اللَّه غير المزيفة، فأنتم لستم مرفوضين، وبالتالي يليق بكم أن تدركوا أننا نحن الذين كرزنا بإنجيل الحق لسنا مزيفين وغير مرفوضين”.
٢. صلاة من أجلهم ٧-١٠.
“وأصلي إلى اللَّه أنكم لا تعملون شيئًا رديًا،
ليس لكي نظهر نحن مزكّين،
بل لكي تصنعوا أنتم حسنًا،
ونكون نحن كأننا مرفوضون” ]7[.
في صلاته لا يطلب الرسول تزكية نفسه، بل تزكية الشعب وقبولهم لدى الرب وتمتعهم بسكناه فيهم. ما يشغله هو أولاده في الروح.
لا يريد الرسول أن يستخدم سلطانه الرسولي في التأديب بكونه مُزكى لدى اللَّه، بل يطلب خلاص الناس حتى وإن بدا كمن هو مرفوض وبلا سلطان. لن يشغله السلطان الرسولي في ذاته، بل خلاص اخوته في الرب… لا يود أن يأتي إليهم بالعصا الرسولية للتأديب، بل يأتي إليهم بالوداعة الرسولية ماداموا مقدسين في الرب.
عمل الكاهن هو التضرع إلى اللَّه لكي يحفظه ويحفظ الشعب من الخطية فلا يعملوا شيئًا رديًا، فيكونوا بالنعمة محفوظين فيه. أما عن كرامته أو سمعته فلا تشغل فكره قط.
“لأننا لا نستطيع شيئًا ضد الحق،
بل لأجل الحق” ]8[.
لا يستطيع خدام المسيح أن يقدموا تعاليم باطلة ضد الحق الإنجيلي، إنما ما يستطيعوا أن يفعلوه هو تقديم الحق وتثبيته. الحق هو “المسيح نفسه“، والشهادة له إنما هي جذب النفوس إلى شخصه. وكأن الرسول يؤكد أنه إذ يعطي حبًا وحنوًا ولطفًا أو يمسك بالعصا ويؤدب لا يشغله أمر ما سوى إنجيل المسيح.
إن تمسكوا بالشر وقاوموا الحق لا يقدر الرسول أن يتهاون ليكسبهم، أو يضاد الحق لكي لا يسيئوا إلى سمعته.
“لأننا نفرح حينما نكون نحن ضعفاء
وأنتم تكونون أقوياء،
وهذا أيضًا نطلبه كما لكم” ]9[.
ما يفرح قلب الرسول بولس أن يظهر كضعيفٍ ولا يمسك بعصا التأديب، ماداموا هم أقوياء ببرّ المسيح.
ما يسره كأبٍ أن يجد أولاده أقوياء في البرّ والمواهب الروحية، ويسلكون طريق الكمال.
يرى البعض أن الرسول يعلن هنا أن مسرته أن يكون هو ومن معه ضعفاء، أي يحتملون اضطهادات وآلامًا مرة، وأن يكونوا هم أقوياء أو كاملين في الحياة المقدسة وعمل البرّ.
v من هو ذاك الذي يمكنه أن يعادل بولس؟ ولقد أُحتقر وتُفل عليه وأهين وسُخر منه و أُستخف به، وأُتهم بأنه متبجح. وبالرغم من أنه يرى الحاجة إلى ابراز سلطانه أزال هذا وصلى ألا توجد ضرورة لاستخدامه. وعلى النقيض من ذلك أراد بالأحرى توضيح الأمر مقدمًا حتى لا توجد ضرورة لذلك.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“لذلك اكتب بهذا وأنا غائب،
لكي لا استعمل جزمًا وأنا حاضر،
حسب السلطان الذي أعطاني ايّاه الرب للبنيان لا للَّهدم” ]10[.
يكتب وهو غائب عنهم لكي إذا ما حضر لا يستخدم عصا التأديب والسلطان المُقدم له من اللَّه لأجل تأديبهم لبنيانهم.
v بالأحرى يود بولس أن يظهر سلطانه في كلماته ولا يستخدمه عمليًا. لقد ترك لأهل كورنثوس ان يبلغوا إلى النتيجة أنهم إن لم يصححوا الوضع فسيأتى حتمًا ويفعل ذلك لهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
٣. وداع وبركة ١١-١٤.
“أخيرًا أيها الاخوة،
افرحوا،
اكملوا،
تعزّوا،
اهتموا اهتمامًا واحدًا،
عيشوا بالسلام،
وإله المحبة والسلام سيكون معكم” ]11[.
كما افتتح الرسالة بالتشجيع واللطف والحنو، هكذا يختم الرسالة بوصايا مفرحة مع ابراز محبته للجميع وتقديم البركة الرسولية للكل.
v إننا على وجه الخصوص نعجب من تعليم السيد المسيح إذ يضع في أمثاله مكافآت الجهاد بكمال عظيم مثل أن “نعاين”، “نرث ملكوت السموات”، “نصير أولاد اللَّه”، “نصير مثل اللَّه”، “نرحم”، “نتعزي”، “ننال مكافأة عظيمة” الخ. وإن أستدعى الأمر إلى ضرورة الإشارة إلى أمور محزنة يوضح ذلك في نغم خفيف.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“أخيرًا“ loipon: كل ما تبقى له هو أن يختم رسالته مشتاقًا أن يتمتع الكل بالسعادة الصادقة.
“افرحوا“ chairete وتعني الفرح الشديد مع السعادة. إنه لم يكتب إليهم ليبعث فيهم روح الحزن، بل يطلب بهجتهم وتهليل قلوبهم.
“اكملوا“ katartizesthe أي ارتبطوا معًا برباط الحب والانسجام، هذا فيه بنيان الكنيسة وكمالها.
“تعزوا“ Parakalesthe، فهو ينصحهم، وإذ يقبلوا نصيحته يمتلئون راحة داخلية، حتى إن تعرضوا لاضطهادات أو ضيقات أو متاعب أيا كان مصدرها.
“اهتموا اهتمامًا واحدًا“: ليكن لكم الفكر الواحد، ولا تسمحوا بانقسامات أو انشقاقات. ليكن لكم الإيمان الواحد، والهدف الواحد. هذه الوحدة في المسيح يسوع هي التي تحقق لممIn 2 Cor. hom 29:1. الفرح والكمال والتعزية السماوية.
“عيشوا بالسلام“ eixeeneuete أي تعهدوا السلام أو كرسوا حياتكم لأجل سلام الكل. فلا تسمحوا للذين يختلفون معكم في الرأي أن يسحبوا قلوبكم عن هدفها ويفقدونكم السلام.
“وإله المحبة والسلام سيكون معكم“. اللَّه هو إله المحبة والسلام، مصدر الحب والوحدة. أحبنا ويشتهي أن نتمتع بالسلام معه ومع أنفسنا ومع اخوتنا.
إنه مع السالكين بالحب والسلام، يسكن في وسطهم، ويحل فيهم. إنه يحب من يحبون السلام، يثبت فيهم وهم فيه. لا يمكن أن تقوم المحبة بين محبي الانقسام والإنشقاقات ورافضي السلام، ولا يتمتعوا بنعمة الحضرة الإلهية.
v لهذا السبب آمرهم أن يفرحوا. يقول: “إن كان من جانبكم تتبعونني لا يوجد ما يمنع ذاك الفرح“… ما أوده أن “تحتفظوا بالكمال“؟ صيروا كاملين. املأوا ما هو ناقص…
“احتفظوا بالتعزية” كل واحد بالآخر وبنا، وبتغييركم إلى ما هو أفضل.
“احتفظوا بالذهن الواحد، احتفظوا بأن تكونوا في سلام“، كأن يتفق أناس في العقيدة، لكنهم في معاملاتهم مع بعضهم البعض يختلفون. أما بولس فيطلب الاثنين.
v كيف يمكن لبولس أن يتوقع منهم أن يفرحوا بعد أن قال لهم مثل هذا الكلام؟ إنه لهذا السبب قال هذا الكلام. لأنهم إن تبعوا ما يأمر به لا يوجد ما يمنعهم من الفرح. ليس شيء أكثر تعزية من الضمير الطاهر.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v إنه يشجعها (الكنيسة) ويحثها الا تجلس خاملة هناك، بل تذهب إليه خارجًا وتحاول أن تراه، ليس بعد خلال النوافذ، ولا خلال مرآة في ظلمة، بل تذهب إليه خارجًا لتراه وجهًا لوجه. الآن إذ لا تستطيع أن تنظره هكذا يقف ليس أمامها بل من خلفها، وراء الحائط.
العلامة أوريجينوس
v الفرح الذى يُشار إليه هنا سيحل عندما يصلح الكورنثيون طرقهم، حيث يمكنهم بعد ذلك بلوغ النضوج في الإيمان. أما قبل هذا فتوجد تعزية تسندهم على هجر الملذات الحاضرة من أجل الرجاء في الأمور الآتية.
سلام الله شيء، وسلام العالم شيء آخر. فالناس فى العالم لهم سلام لكنه يعمل على تديرهم. سلام المسيح هو تحرر من الخطايا ولذا يسُر الله به. الشخص الذى له سلام سيكون أيضًا له الحب وإله كلهما يحميه إلى الأبد.
أمبروسياستر
“سلّموا بعضكم على بعض بقبلة مقدسة” ]12[.
يسألهم أن يحملوا روح الصداقة المخلصة، وأن تكون قبلاتهم مقدسة لا تحمل خداعًا ولا فسادًا.
v ما هي القبلة المقدسة؟ إنها تلك التي بلا رياء كقبلة يهوذا. تعطى القبلة لتثير الحب وتغرس في نفوسنا الاتجاه السليم نحو بعضنا البعض. عندما نعود بعد غيبة نقبل بعضنا البعض، لأن نفوسنا تسرع لترتبط معًا. لكن يوجد أمر ما يُقال في هذا الشان. نحن هيكل المسيح، وعندما نقَّبل بعضنا البعض نحن نقبل ممر الهيكل ومدخله.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“يسلِّم عليكم جميع القديسين” ]13[.
يقصد بالقديسين هنا المؤمنين بمكدونية أو فيلبي، حيث كتب الرسالة هناك. كانت كلمة “مسيحي” في الكنيسة الأولى تعادل كلمة “قديس”، إذ كان الكل يسلكون في القداسة ويحرصون على النمو فيها، ولا يعني بها القادة وحدهم.
“نعمة ربنا يسوع المسيح
ومحبة اللَّه
وشركة الروح القدس
مع جميعكم. آمين” ]14[.
اللَّه، الثالوث القدوس، هو مصدر كل نعمةٍ وحبٍ وشركةٍ. يبدأ الرسول بنعمة المسيح واهبة الخلاص، ثم محبة الآب الذي بذل ابنه من أجلنا، وشركة الروح القدس واهب الوحدة.
إذ يبدأ بالسيد المسيح يؤكد التساوي بين الأقانيم الثلاثة.
v إذ توجد نعمة واحدة، وسلام واحد، وسلام واحد، وحب واحد، وشركة واحدة من جانب الآب والابن والروح القدس، فبالتأكيد توجد عملية واحدة، وحيث توجد عملية واحدة فحتمًا لا يمكن للقوة أن تنقسم ولا للجوهر أن ينفصل.
القديس امبروسيوس
v يختم بولس رسالته بصلاة وهو يحرص أن يتحدوا جميعًا مع اللَّه. الذين يدعون أن الروح القدس ليس هو اللَّه لأنه ليس لم يُدرج مع الأب والابن في بداية رسائل بولس يُرد عليهم بما فيه الكفاية بهذه الآية. كل ما يخص الثالوث غير منقسم. حيث توجد شركة الروح فهي شركة الابن أيضًا، وحيث توجد نعمة الابن توجد نعمة الآب والروح. أقول هذه الأمور دون أن يوجد خلط في التمييز بين الأقانيم بل نتعرف على كل أقنومٍ على حده، وعلى الوحدة المشتركة في جوهرهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
من وحي 2 كو 13
تهديد أم بركة!
v عجيب أنت يا ربي في معاملاتك،
حين تهدد تهب حبًا لا ينقطع.
وإذ تحب تهبنا نضوجًا ملتزمًا.
v رسولك العجيب اقتد بك، هدد أهل كورنثوس.
وفي تهديد كان يئن ويترفق.
يود أن يكون ضعيفًا وهم أقوياء.
اشتهى ألا تتحقق تهديداته،
ولا يستخدم سلطانه الرسولي.
بل يرى الكل وقد تمتع بك،
فيفرح بهم ويتهلل!
v حمل قوتك إذ أنت فيه وهو فيك،
قوة الحب الغالب!
قوة الحق الذي لا يحطم بل يبني!
رفع قلبه إليك ليطلب عن محبوبيه.
يطلب فرحك المجيد، وتعزياتك السماوية وحبك الفائق.
وسلامك الأبدي. ونعمتك الواهبة التقديس!
v تُرى هل تهبيني معه الحب الملتزم،
فلا أكف عن الصلاة هكذا من أجل كل العالم!
كلمة شكر
أشكر الأخ المبارك دكتور جورج كامل يوسف الذي قام بتجميع بعض أقوال الآباء بالإنجليزية منذ أكثر من خمس سنوات، وقد قمت بتكملتها وترجمتها. وأثناء إعداد الكتاب للطبع ظهر كتاب
Ancient Christian Commentary on Scripture, volume 7.
Edited by Gerald Bary, 1999
قمت بترجمة بعض فقرات من أقوال الآباء الواردة به والتي لم تكن قد تُرجمت.
تفسير 2 كورنثوس 12 | تفسير رسالة كورنثوس الثانية | تفسير العهد الجديد |
فهرس |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير رسالة كورنثوس الثانية | تفاسير العهد الجديد |