تفسير رسالة تيموثاوس الثانية ٢ للقمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الثاني
الجهاد في الخدمة
بعد أن كشف الرسول عن “روح القوة” الذي يعمل في حياة الراعي خلال صليب ربنا يسوع المسيح، الروح الذي ننعم به بواسطة الروح القدس الساكن فينا، يتحدث هنا عن الجهاد في الخدمة، موضحًا كيف يحيا الخادم بروح القوة مجاهدًا كل أيامه:
1. الجهاد والنعمة 1.
“فتقوَ أنت يا ابني في المسيح يسوع” [١].
إذ يود الرسول أن يتحدث عن جهاد الخادم في تلمذته آخرين للعمل في كرم الرب، وفي اهتمامه بخلاص الآخرين دون أن يفسد وقته بالمماحكات الباطلة ويحطم سلامه بالخصومات المفسدة، قدم النعمة الإلهيّة كسرّ القوة في الجهاد. إنه يوصي تلميذه كابن روحي له أن يتقوى في الجهاد لا بالغيرة البشريّة والحماس الذاتي وإنما بالنعمة التي تُوهب لنا في المسيح يسوع ربنا. وإذ يطلب الرسول من تلميذه أن يتحصن في النعمة حتى يقدر أن يجاهد قانونيًا يتحدث معه برقة ومحبة، إذ يقول له “يا ابني“.
ما أحوجنا أن تتشدد قوتنا بالنعمة: “تقووا في الرب وفي شدة قوته” (أف ٦: ١٠). حينما اعتمد الرسول بطرس على غيرته البشريّة سقط في الإنكار بالرغم من إشتياقه الداخلي للجهاد، لكن إذ سندته نعمة الله استطاع أن يشهد للسيد المسيح محتملاً الآلام بفرح.
2. تلمذة خدام جدد ٢.
“وما سمعته مني بشهود كثيرين،
أُودعه أُناسًا أُمناء يكونون أكفاء أن يعلموا آخرين أيضًا” [٣].
لا تقف أمانة الرسول عند جهاده واهتمامه بخلاص الآخرين ولا أن يتلمذ آخرين يهتمون بذات العمل، وإنما يود أيضًا في هؤلاء التلاميذ أن يتلمذوا جيلاً قادرًا على التعليم. هذا هو الجهاد الحقيقي، أو القيادة الروحيّة السليمة، وهو أن يقيم الراعي تلاميذ قادرين بدورهم أن يتلمذوا أناسًا أكفاء قادرين على التلمذة.
هذا هو مفهومنا للتسليم أو التقليد المقدس، إنه تلمذة غير منقطعة خلال الأجيال لقبول وديعة الإيمان الحيّ العملي بلا انحراف.
3. الجندية الروحية ٣ – ١٣.
“فاشترك أنت في احتمال المشقات كجندي صالح ليسوع المسيح.
ليس أحد وهو يتجند يرتبك بأعمال الحياة لكي يرضي من جنده.
وأيضًا إن كان أحد يجاهد لا يُكلَّل إن لم يجاهد قانونيًا.
يجب أن الحَرَّاث الذي يتعب يشترك هو أولاً في الأثمار.
افهم ما أقول: فليعطك الرب فهمًا في كل شيء” [٣-٧].
يُقدِّم الرسول بولس ثلاثة أمثلة للجهاد الروحي: الجندي الأمين لحساب ملكه [٣-٤] والمشترك في الألعاب الرياضيّة [٥] والحراث [٦].
أ. الجندي الصالح الذي يعتز بأمانته لبلده ورئيس دولته يحارب لحساب وطنه، هكذا المسيحي في جهاده الروحي يحارب كضد إبليس والخطية تحت قيادة رب المجد نفسه الذي جنده. يدعوه الرسول “رئيس (قائد) خلاصنا” (عب ٢: ١٠)، القائد الذي غلب إبليس على الصليب ولا يزال يغلبه خلالنا (رؤ ٨: ٣٧).
إنها كرامة عظيمة لا نستحقها أن نُحسب جنود روحيين للرب، من أجله تهون كل المشقات والآلام. إذ قَبِلنا هذه الجنديّة الروحيّة يلزمنا ألاَّ نرتبك بأعمال الحياة اليومية، لا لأنها دنسة وإنما لأنها لا تليق بالمُتجنِّدين الذين كرسوا كل حياتهم لخدمة الكلمة.
ب. يناضل المتسابقون في الألعاب الرياضية من أجل نوال الإكليل، فيحتملون تداريب يومية ويمتنعون عن بعض الأطعمة والملذات حتى ينعموا بالفوز. ونحن يلزمنا أن نجاهد قانونيًا، أي حسب شريعة مدربنا يسوع المسيح، لكي ننعم بالنصرة الروحيّة. حقًا إن كثيرين يجاهدون، لكن ليس قانونيًا، وذلك كالذين يتدربون على الألعاب الرياضية بغير مدرب حكيم. هؤلاء غالبًا ما يفشلون بل وقد يتطرفون في إتجاه آخر مما يسبب لهم ضررًا صحيًا وفشلاً في المسابقات ونوال الإكليل. هكذا يليق بالمؤمن أن يجاهد، لكن ليس بذاته، وإنما تحت قيادة سيده “المدرب الحقيقي” بروح كنيسته وفكرها الإنجيلي الآبائي حتى لا ينحرف يمينًا أو يسارًا في تطرف أو مبالغة مما يفقده حياته على الأرض وإكليله السماوي. حقًا إن الجهاد والمشقة أو الألم أمور صعبة لكنها متى كانت قانونية تصير مُفرحة ومُبهجة. يقول القديس چيروم في حديثه عن مزامير المصاعد حيث يترنم اللاويون وهم يصعدون الخمسة عشر درجة للهيكل: [لا تفقد الثقة يا إنسان، فإن الرب واقف على الدرجة الخامسة عشر؛ إنه يراقبك ويعينك! فإن كنت على الدرجة الأولى وتبدو لك المسافة بين الدرجة الأولى والخامسة عشر لا يمكن تسلقها فلا تتطلع إلى الدرجات بل تطلع إلى الرب”.] فالجهاد القانوني مؤلم مفرح، مملوء أتعابًا، لكنه يقدم للنفس سلامًا خلال تطلعها للمدرب الحقيقي وعضويتها في كنيسته.
ويرى القديس أمبروسيوس أن الجهاد القانوني أو ما دعاه الرسول أيضًا بالجهاد الحسن )٥: 7) إنما يعني تكريس القلب بالكُلية لهذا العمل دون ارتباك بأمورٍ أخرى، ذلك كمن يعمل لدى إمبراطور لا يليق به أن يرتبك بأعمال أخرى كالتجارة التي وإن كانت ليست محرمة لكنها تعني استهانة بخدمة إمبراطوره.
ج. الحَرَّاث الذي يتعب من أجل الثمر، فإن كان الحراث هو أول من يجاهد في الزراعة إذ يحرث الأرض، فإنه يستحق نصيبه في الثمر، حتى وإن كان غيره قد بذر وآخر حصد. هكذا في جهادنا نعمل ويكون لنا مكافأة حتى وإن كان الثمر لا يُحصد إلاَّ بعد رحيلنا. لنحرث وغيرنا يبذر أو يسقي أو يحصد فإن نصيبنا في الإثمار محفوظ في الرب.
هذه هي الأمثلة الثلاثة التي قدمها الرسول ليشجع تلميذه على الجهاد، ففي المثل الأول يؤكد التزامنا بالجهاد من أجل الملك المسيح نفسه، وفي المثل الثاني لنجاهد قانونيًا حسب شريعة الرب، وفي الثالث نجاهد من أجل الثمر حتى وإن كان متأخرًا.
أخيرًا يوصيه: “افهم ما أقول“، لكنه لا يقدر أن يفهم الوصية كما ينبغي ما لم يفتح الروح القدس بصيرته، لهذا يصلي الرسول من أجله: “فليعطك الرب فهمًا في كل شيء“. وكأن الرب هو المعين بنعمته ليس فقط في الجهاد، وإنما أيضًا في الفهم.
بعدما حثه على الجهاد الروحي في الرب، مصليًا من أجله لكي يهبه الرب فهمًا، قدم له السيد المسيح نفسه قائد الإيمان ومكمله (عب ١٢: ٢) غالب إبليس ومحطم الموت، إذ يقول: “اذكر يسوع المسيح المقام من الأموات من نسل داود بحسب إنجيلي، الذي فيه أحتمل المشقات حتى القيود كمذنب، لكن كلمة الله لا تُقَيِّد“ [٨-٩].
قاد السيد المسيح المعركة الروحية بنفسه ضد الموت، فدخل إليه لكي يكسر شوكته في عقر داره. فقد تجسد كلمة الله لكي يدخل بالجسد إلى الموت، وإذ لا يستطيع الموت أن يحبسه ولا للفساد أن يقترب إليه يقوم بسلطانه لكي يقيمنا معه، ويدخل بنا إلى الحياة الجديدة المقامة. يقول الرسول: “فدُفِنَّا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضًا في جِدَّة الحياة” (رو ٦: ٤). لقد صار ابنًا لداود وخضع للآب عوضًا عنا وقَبِل الموت بإرادته، حتى نُحسب نحن طائعين لأبيه فننعم بقوة القيامة التي له.
هذا هو موضوع كرازته، إذ يقول الرسول: “بحسب إنجيلي” أن ننعم بحياته المُقامة الغالبة للموت. لقد احتمل السيد المشقات حتى القيود كمذنبٍ، أي كفاعل شرٍ (يو ١٨: ٣٠) مع أنه البار الذي لا يعرف خطية. قيدوه حسب الجسد كمن هو تحت الحكم، لكنه هو واهب الحرية الذي لا يُقَيِّد داخليًا… “لكن كلمة الله لا تُقَيِّد“، إذ لا يمكن للكلمة الإلهي الخالق أن يُقَيِّد! هكذا في المسيح يسوع قد يُقيد الخادم حسب الجسد، لكن لا يقدر أحد أن يُقيد كلمة الله التي تُعلن بالأكثر خلال قيود الجسد. يمكن تقييد أجسادهم، أما شهادتهم للرب فلا تتوقف. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [أيدينا مقيدة وليس لساننا، إذ لا يوجد ما يُقيد اللسان إلاَّ الجبن وعدم الإيمان. فإذ لا يوجد هذان الأمران فينا فإنه حتى وإن قُيدنا بالسلاسل فإن الكرازة بالإنجيل لا تقيد… إنها كلمة الله وليس كلمتنا! القيود البشرية لا تقدر أن تقيد كلمة الله.]
بعد أن قدم الرسول السيد المسيح مثالاً أعظم لاحتمال الآلام والقيود من أجل خلاصنا عاد ليقدم نفسه مثلاً يقتدي أثر سيده، إذ يقول: “لأجل ذلك أنا أصبر على كل شيء لأجل المختارين، لكي يحصلوا هم أيضًا على الخلاص الذي في المسيح يسوع مع مجدٍ أبديٍ” [١٠].
لقد احتمل سيدي المشقات من أجل خلاصي، ولم يكن ممكنًا للقيود أن تعطل عمله، وها أنا أحتمل بصبر أيضًا من أجل إخوتي المختارين لكي ينعموا معي بالخلاص وتكون لهم معي شركة في المجد الأبدي. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [انظر أيضًا هناك باعث آخر، إذ يقول إني لا أحتمل هذه الأمور لأجل نفسي، وإنما لأجل خلاص الآخرين. في قدرتي أن أعيش متحررًا من المخاطر ولا أعاني شيئًا من هذه المشقات، لو كنت أهتم بما هو لي وحدي. إذن لماذا أحتمل هذه الأمور؟ من أجل نفع الآخرين كي ينالوا الحياة الأبدية… إنه لم يقل لأجل أشخاص معينين وإنما “لأجل المختارين“. إن كان الله اختارهم فإنه يليق بنا أن نحتمل كل شيء من أجلهم “لكي يحصلوا هم أيضًا على الخلاص“. بقوله “هم أيضًا” يعني أنهم يحصلون على ما نحصل نحن أيضًا عليه، لأن الله اختارنا نحن أيضًا. وكما تألم الله لأجلنا يليق بنا نحن أيضًا أن نتألم لأجلهم.] لقد تألم السيد عنا مقدمًا آلامه هبة مجانيّة أو نعمة نتمتع بها، أما نحن فنتألم من أجلهم مقابل آلامه عنا، فنرد الحب بالحب، كمن يشتاق أن يفي شيئًا من الدين. لكننا مهما قدمنا من أجل إخوتنا نبقى مدينين لمخلصنا بكل حياتنا.
إذ ننعم بعمل الله الخلاصي ونقبل آلامه من أجلنا نتذوق عربون المجد الأبدي، فتهون كل الآلام والمشقات من أجل تمتع إخوتنا بذات المجد الأبدي.
أخيرًا يختم الرسول حديثه عن الجنديّة الروحيّة بنشيد الغلبة والنصرة، قائلاً: “صادقة هي الكلمة أنه إن كنا قد متنا معه، فسنحيا أيضًا معه. إن كنا نصبر، فسنملك أيضًا معه. إن كنا ننكره، فهو أيضًا سينكرنا. إن كنا غير أمناء، فهو يبقى أمينًا لن يقدر أن ينكر نفسه” [١١-13].
هذا هو النشيد الذي يليق بكل جندي روحي ليسوع المسيح أن يتغنى به أثناء معركته ضد إبليس أو ضد الموت. إنها تسبحة الإيمان بالمسيح المصلوب القائم من الأموات، فيها نعلن قبولنا الموت معه لأجل التمتع بالحياة فيه، نحتمل الآلام بصبر لكي نملك معه، إن اعترفنا به قدام الناس خلال قبولنا الآلام والموت من أجله يعترف هو بنا أمام أبيه، وإن أنكرناه ينكرنا (مت ١٠: ٣٢-٣٣). إن جاهدنا بأمانة ننال الإكليل، وإن لم نكن أمناء يرسل رعاة أمناء يهتمون بشعبه دون أن نُعفَى نحن من المسئولية. بأسلوب آخر نعلن في هذه التسبحة سمات الجندي الروحي للرب: الموت عن الخطية، الصبر وسط الآلام، الشهادة للسيد المسيح، والأمانة حتى الموت!
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارات، قائلاً: [كيف نموت معه؟ إنه يقصد الموت الذي يتم في الجرن وفي الآلام، إذ يقول: “حاملين في الجسد كُلَّ حينٍ إماتة الرب يسوع” (٢ كو ٤، ١٠)، “دُفِنَّا معه بالمعمودية للموت” (رو ٦: ٤)، “إنساننا العتيق قد صلب معه”، “متحدين معه بشبه موته” (رو ٦: ٦، ٥). لكنه هنا أيضًا يتحدث عن الموت بواسطة المحاكمات، خاصة وأنه يعاني منها أثناء كتابته هذه. هذا هو ما يقصده بقوله هنا: “إن كنا قد متنا معه فسنحيا معه“.] كما يقول أيضًا: [“إن كنا ننكره فهو أيضًا سينكرنا“، هكذا يكون الجزاء لا في الأمور الصالحة فقط، وإنما أيضًا فيما هو ليس بصالحٍ… لكن الجزاء لا يكون مساويًا للفعل، لأننا نحن الذين ننكره بَشر أما هو الذي ينكرنا فإله. وما أعظم الفارق بين البشر والله!… هذا ومن ناحية أخرى نحن نضر أنفسنا، أما هو فلا يصيبه ضررًا، وقد أوضح هذا بقوله: “إن كنا غير أمناء فهو يبقى أمينًا لن يقدر أن ينكر نفسه” بمعنى أنه إن كنا لا نؤمن أنه قام من الأموات فعدم إيماننا لن يضره… وإن كان الله لن يصيبه ضررًا نهائيًا بإنكارنا إياه، فإنه لا يرغب في اعترافنا به إلاَّ لنفعنا نحن.]
4. تجنب المماحكات الباطلة 14-20.
الخادم الذي يسلك بروح القوة لا يقبل الدخول في مماحكات الباطلة، بل ويطلب من المؤمنين أن يتجنبوها حتى لا تهدمهم روحيًا. يقول الرسول: “فَكِّرهم (ذكرهم) بهذه الأمور، مناشدًا (إياهم) قدام الرب أن لا يتماحكوا بالكلام، الأمر غير النافع لشيء لهدم السامعين” [١٤]. يطالبه الرسول أن يُذَكِّر الشعب ويوصيهم قدام الرب أن يتركوا كثرة الكلام الذي يهدم النفس، كما يطالبه أن يهتم هو أيضًا بالحياة العملية المجاهدة عوض المماحكات الباطلة، إذ يقول له: “اجتهد أن تقيم نفسك لله مُزَكَّى عاملاً لا يُخزَى، مفصلاً كلمة الحق بالاستقامة“ [١٥]. ليكن كل فكره متجهًا إلى التزكية قدام الله لا النصرة بالكلام مع الناس، ويبذل كل جهده أن يكون كالعامل الذي لا يخجل من احتمال المشقات لأجل الإنجيل، أي التمتع بكلمة الحق.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن قوله [“مفصلاً كلمة الحق بالاستقامة” يعني تركيز الجهاد على إعلان الحق واقتلاع كل ما هو لغو زائد. وكأن الراعي الصالح ينزع بسيف الروح من كرازته كل ما هو غريب عن الحق. بهذا يحصن الرسول تلميذه من الغنوسيين الذين يفسدون وقتهم بما يلقبونه خطأ “المعرفة”، وهي فسلفة كلام لغو لا يحمل روح التقوى، بعيدًا عن الإيمان.]
هذا البتر له أهميته في إيقاف تيار الشر المتزايد بسبب البدع الغنوسية، إذ يقول: “وأما الأقوال الباطلة الدنسة فاجتنبها، لأنهم يتقدمون إلى أكثر فجور، وكلمتهم ترعى كآكلة“ [١٦]. الأقوال الباطلة تدخل بهم من شرٍ إلى شرٍ، فتكون كالقرحة الآكلة التي تفسد الجسد. إنهم يؤمنون بالمعرفة (gnosis) الكلامية عوض الإيمان، خلال هذه المعرفة يظنون أن الجسد عنصر ظلمة، خالقه إن لم يكن شريرًا فهو أقل من خالق الروح. هذه العقيدة جعلتهم يرفضون القيامة من الأموات، حاسبين أن القيامة الروحيّة تحققت بالنسبة للنفس هنا، ولا تتحقق بالنسبة للجسد عنصر الظلمة. هذه النظرة قدمت لهم مفهومًا دنسًا من جهة الزواج وتناول بعض الأطعمة، بكونها أمور نجسة مُحَرَّمة. هذا أيضًا دفع بعضهم إلى عدم المبالاة بالنسبة لتقديس الجسد، فرأوه كعنصر ظلمة يُترَك له العنان في شهواته بلا ضابط. وهكذا ينحرفون من فكرة إلى أخرى، ومن شر إلى شر، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنهم لا يقفون عند هذا الحد، فإنهم إذ يقدمون شيئًا جديدًا ينتجون وراءه أفكارًا جديدة على الدوام. هكذا لا يتوقف انحرافهم عن الميناء الآمن بل يزداد بغير حدود.]
قدم الرسول مثالاً لانحراف هؤلاء المبتدعين، قائلاً: “الذين منهم هيمينايُس وفيليتُس، اللذان زاغا عن الحق، قائلين أن القيامة قد صارت فيقلبان إيمان قومٍ” [١٧]. قالا بأن القيامة تحققت فعلاً في حياتنا روحيًا ولن تحدث بالنسبة للجسد.
يعلق القديس أغسطينوس على هذه العبارة، قائلاً: [كثيرون ينكرون قيامة الجسد مؤكدين أن القيامة قد حدثت فعلاً بالإيمان… يقولون أنها حدثت بطريقة خلالها لا يتوقعون حدوثها بعد، بل ويلومون الذين يتطلعون إلى قيامة الجسد كما لو كانت القيامة التي وُعدنا بها قد تحققت بعمل الإيمان في الذهن فحسب.] كما يقول: [حقًا توجد قيامة تتحقق الآن، فإن غير المؤمنين كانوا أمواتًا، الأشرار كانوا موتى، أما الأبرار فهم أحياء، عبروا من موت عدم الإيمان إلى حياة الإيمان. لكن هذا لا يعني عدم اعتقادنا في القيامة المقبلة بالنسبة للجسد.]
إذ يتحدث الرسول عن تجنب مماحكات الهراطقة الكلامية، الذين يشوشون الصورة فيظن البعض أنهم طغوا على صوت الحق، أكد الرسول حفظ الله لأولاده المؤمنين في الحق، قائلاً:
“ولكن أساس الله الراسخ قد ثَبَتَ إذ له هذا الخَتْم.
يَعلم الرب الذين هم له،
وليتجنب الإثم كل من يُسمِّى اسم المسيح،
ولكن في بيت كبير ليس آنية من ذهب وفضة فقط،
بل من خشب وخزف أيضًا،
وتلك للكرامة وهذه للهوان” [١٨-٢٠].
مهما دخلت الضلالات والبدع ومهما انتشرت الشرور، فإن أساس الله ثابت وكنيسته قائمة، وأولاده معروفون ومحفوظون مختومون بختم الروح القدس فيُدعَى عليهم اسم المسيح. إنهم آنية ذهبية وفضية في السماء بيت الله، يحملون كرامة! حقًا توجد أواني اختارت لنفسها الهلاك، هذه التي لم تحتمل الحق فيها، ولا قَبِلَت عمل الروح القدس ولا دخلت في العضويّة في جسد المسيح، هذه التي هي من الخشب والخزف تحمل هوانًا.
يقول القديس أغسطينوس: [أن من يتطلع إلى شجرة يرى أوراقها كثيرة لكن غالبًا ما يكون الثمر مخفيًا وراء الورق مثل (التين)، هكذا بسهولة يظهر الهراطقة والأشرار فيبدو كأنه لا يوجد بعد مؤمنون لكن من يقترب إلى الشجرة ببصيرة روحيّة يدرك وجود أولاد الله المقدسين مختفين. هؤلاء متأسسون على السيد المسيح نفسه كقول الرسول: “فإنه لا يستطيع أحد أن يضع أساسًا آخر غير الذي وُضع الذي هو يسوع المسيح” (١ كو ٣: ١١). كما يقول: “مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية، الذي فيه كل البناء مركبًا معًا، ينمو هيكلاً مقدسًا في الرب، الذي فيه أنتم أيضًا مبنيون معًا، مسكنًا لله في الروح” (أف ٢: ٢٠-٢٢). هذا هو سرّ قوة الروح الذي فينا أننا متأسسون على السيد المسيح نفسه، ولنا ختم روحه القدوس، الذي خلاله “يَعلم الرب الذين هم له“.]
سبق لنا دراسة “الخَتْم” بكونه علامة الملكيّة لله، كقول القديس ديديموس السكندري: [عندما نغطس في جرن المعمودية، فبفضل صلاح الله الآب وبنعمة روحه القدوس نتعرى من خطايانا إذ نتخلص من الإنسان القديم ونتجدد، ونُختَم بقوته لملكيته الخاصة. ولكن عندما نخرج من جرن المعمودية نلبس المسيح مخلصنا كثوب لا يبلى، مستحقًا لكرامة الروح القدس عينها، الروح القدس الذي جددنا ودمغنا بختمه… لا يمكن لأحد أن يحصل على المواهب السماوية ما لم يتجدد بروح الله القدوس ويدفع بختم قداسته، ولو كان كاملاً في حياة بلا عيب في كل شيء آخر.] والخَتْم أيضًا علامة الدخول تحت حماية الله كقول القديس غريغوريوس النزينزي: [القطيع الموسوم بعلامة لا يُسلَب بمكر بسهولة، أما القطيع الذي لا يحمل العلامة فهو غنيمة للصوص.] والخَتْم هو علامة الجنديّة الروحيّة، كقول القديس كيرلس الأورشليمي لطالبي العماد: [يأتي كل واحد منكم ويقدم نفسه أمام الله في حضرة جيوش الملائكة غير المحصية، فيضع الروح القدس علامة على نفوسكم. بهذا تُسجل أنفسكم في جيش الله العظيم.] هذا الخَتْم أبدي لمجدنا أو دينونتنا، وكما يقول القديس أغسطينوس: [تمسك بما نلته فإنه لن يتغير، إنه وسم ملكي!]
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم في حديث الرسول بولس الذي بين أيدينا أمرين: تحذير لئلا نهمل في الختم الذي صار لنا بالروح القدس، وتشجيع فلا نخاف لوجود هراطقة وأشرار. إذ يقول: [ليتنا لا ننزع عنا الختم الملوكي والعلامة الملوكية لئلا نُحسب مع غير المختومين، فلا نكون أصحاء، إنما يليق بنا أن نكون متأسسين بثبات على الأساس فلا نُحمل إلى هنا وهناك.] كما يقول: [إنه يقصد أن يقول: لا تضطربوا لوجود فاسدين وأشرار، فإنه في بيت كبير يوجد مثل هذه الأواني… لكنها لا تنال كرامة.]
يوجد معلمون أمناء ومؤمنون كأوانٍ ذهبية وفضية في بيت كبير لهم كرامتهم في الرب، أما الذهب فيشير إلى طبيعتهم الجديدة السماوية، والفضة تشير إلى حبهم لكلمة الله المصفاة كالفضة سبع مرات. فالمعلم الحق هو من يحيا بفكرٍ سماويٍ، ولا يرتبط قلبه بالماديّات ولا تتعلق نفسه بأمجاد زمنيّة، يتمسك بكلمة الله (الفضة) ويختفي وراءها فلا يقدم لشعبه مماحكات كلامية فاسدة، وإنما حياة إنجيليّة صادقة. أما الهراطقة الفاسدون فيشار إليهم بالخشب والخزف؛ إنهم كالخشب يحترقون بنار الشهوات فلا يوجدون، وكالخزف يحملون الفكر الترابي، ويطلبون الماديّات ولا يقدرون على معاينة السماويات أو التعرف عليها.
ما نقوله عن المُعلِّمين والهراطقة ينطبق بدرجة أو أخرى على الشعب أيضًا، فمنهم من هو ذهبي أو من الفضة ومنهم من هو خشبي أو خزفي، لكن هل لنا أن نميز الآن الناس؟
يجيب القديس كبريانوس، قائلاً: [إنه لكبرياء وتشامخ أن يتجاسر أحد يظن أنه قادر أن يفعل ما لم يهبه الله حتى للرسل، فيحسب أنه يستطيع تمييز الزوان عن الحنطة… ومن يفكر أنه يختار الأواني الذهبيّة والفضيّة ويحتقر الأواني الخشبيّة والخزفيّة ويحتقرها ويطردها، مع أن الأواني الخشبية لا تُحرَق إلاَّ يوم الرب بالنار الإلهيّة المحرِقة، والأواني الخزفية لا يسحقها إلاَّ ذاك الذي أُعطي له قضيب من حديد.] كما يقول: [إن كان يبدو وجود زوان في الكنيسة، لكن إيماننا ومحبتنا لا تُعاقا، فلا نترك الكنيسة لأننا نرى فيها زوانًا، بل بالحري يليق بنا أن نجاهد لكي نكون نحن أنفسنا حنطة، حتى متى أُبتديء في جمع الحنطة معًا في بيدر الرب ننال ثمرًا عن تعبنا وعملنا… لنجاهد أيها الإخوة الأحباء لنكون أوانٍ من ذهب وفضة، لكن للرب وحده أن يسحق الأواني الخزفية هذا الذي أُعطي له القضيب من الحديد، أما العبد فلا يكون أعظم من سيده، ولا يدَّعي لنفسه ما أعطاه الآب للابن وحده، فيظن أنه قادر أن يأخذ المذراة ويذري الحصاد… أو قادر أن يفصل كل الحنطة عن الزوان بحكم بشري.]
ليس فقط ليس لنا أن ندين ونفرز الحنطة عن الزوان، والأواني التي للكرامة عن التي للهوان، وإنما يليق بنا أن نطمئن أن الحنطة لا تُُهمَل من الله بسبب الزوان، ولا الأواني المُكَّرَمة تفقد كرامتها بسبب التي للهوان، إذ يقول الرسول: “يعلم الرب الذين هم له“. وفي هذا يقول القديس أغسطينوس: [ليس من أجل التبن تهلك الحنطة (مت ٣: ١٢)، ولا من أجل السمك الرديء، لا يؤخذ في الأوعية شيئ من الشبكة (مت ١٣: ٤٧)… لقد سبق فعيننا قبل أن نولد، واعدًا إيانا بيقين: “الذين سبق فعينهم فهؤلاء دعاهم أيضًا، والذين دعاهم فهؤلاء بررهم أيضًا، والذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضًا“ (رو ٨: ٣٠).] كما يقول: [حتى إن كانت البذار مختفية في التبن لكنها معروفة لدى صاحب الحقل. لا يخف أحد متى كان بذرة، حتى وإن كان وسط تبن، فإن عيني الذي يذرينا لا تنخدعان.]
5. الجهاد والحياة الداخلية ٢١ – ٢٢.
إن كان في البيت الكبير توجد آنية للكرامة وأخرى للهوان، والله يتمجد في هذه كما في تلك، فقد يظن أحد أنه لا ذنب له فيما يرتكبه من شرور، لأنه “إناء للهوان”، وكأنه قد جُلب ليكون هكذا. لهذا يعود الرسول فيؤكد حرية الإرادة الإنسانية التي يقدسها الرب ويبجلها، قائلاً: “فإن طهر أحد نفسه من هذه، يكون إناءً للكرامة مقدسًا نافعًا للسيد ومستعدًا لكل عمل صالح” [٢١]. ماذا يعني! إن طهر أحد نفسه، إلاَّ تأكيد حرية الإنسان ورفض القائلين بخلقة طبائع بشرية صالحة وأخرى فاسدة. لقد أكد الرسول أن الإنسان في كمال حريته أن يتغير من إناء للهوان إلى إناءٍ للكرامة، وإن كان هذا يتحقق لا بإمكانياته البشرية الذاتية إنما بعمل نعمة الله الغنيّة. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [انظر إنه ليس بسبب طبيعة الإنسان ولا عن إلزام يكون الإناء ذهبيًا أو خزفيًا، إنما يتحقق ذلك عن محض اختيارنا؛ وإلاَّ لما كان للإناء الخزفي أن يصير ذهبيًا، ولا أن ينحط الذهبي إلى تفاهة الآخر… لقد كان بولس إناءً خزفيًا وقد صار ذهبيًا، وكان يهوذا ذهبيًا وصار خزفيًا.] وقد استخدم العلامة أوريجينوس عبارة الرسول هذه لتأكيد الحرية الإنسانية التي تمجد الله.
هكذا يحثنا الرسول بولس على الجهاد بتطهير حياتنا الداخلية، وتحويلها من الحالة الخزفية إلى الذهبية، أي تحويلها عما هو ترابي وأرضي إلى ما هو سماوي، وذلك بفضل نعمة الله العاملة فينا. هذا هو عمل الروح القدس الناري، إذ يقدس أعماق النفس في الداخل لتحمل صورة خالقها، وذلك خلال الميلاد الجديد الذي ننعم به في مياه المعمودية والتجديد المستمر غير المنقطع، لعلنا نبلغ إلى قياس ملء قامة المسيح السماوي.
كأن الرسول يود أن يعلن لتلميذه تيموثاوس، بل ولكل راعٍ، أنه لا نجاح للخدمة بدون تقديس الحياة الروحية للراعي ونموها بغير انقطاع، أما العدو الأول لهذه الحياة المقدسة الذي يجعل الإناء خزفيًا أي أرضيًا فهو الشهوات الجسدية، لهذا يقول له: “أما الشهوات الشبابية فاهرب منها، واتبع البرّ والإيمان والمحبة والسلام مع الذين يدعون الرب من قلب نقي” [٢٢].
اهتم الرسول بالجانبين: السلبي والإيجابي لنمو حياة الراعي الروحيّة. فمن الجانب السلبي يلتزم بالهروب من العثرات أو من الشهوات الشبابية، أما الجانب الإيجابي فهو الالتزام بإتباع البرّ والإيمان والمحبة والسلام. فلا يكفي الهروب من الشر، إنما يلزم الشبع بالخير، ولا يكفي ترك الخطية، إنما يلزم اقتناء السيد المسيح برّنا وسلامنا وسرّ حبنا وإيماننا.
يليق بالخادم الحقيقي أن يحذر الشهوات الشبابية، فلا يظن في نفسه أنه محصن مهما كان ماضيه طاهرًا، أو مهما بلغ من العمر، ولا يحسب حذره هذا ضعفًا بل علامة القوة والجديّة.
ماذا يقصد الرسول بالشهوات الشبابية؟ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لا تعني شهوات الزنا فحسب، وإنما تضم كل شهوة شاذة. ليت كبار السن يتعلمون أنه ينبغي عليهم ألا يقوموا بأعمال شبابية. إن كان أحد يستسلم للغطرسة أو حب السلطة أو الغنى أو الملذات الجسدية تُحسَب هذه شهوات شبابية غبية. فإن هذه الأمور تصدر عن قلبٍ غير مستقرٍ بعد، وعن فكر مذبذب ليس له أساس عميق. إذن بماذا ينصح (الرسول) حتى لا يؤسر الإنسان بهذه الأمور؟ “اهرب من الشهوات الشبابية“، بل “واتبع البرّ والإيمان والمحبة والسلام مع الذين يدعون الرب من قلب نقي“. إنه يدعو الفضيلة بوجه عام “برًا”، وتقوى الحياة والإيمان والوداعة والمحبة. وماذا يعني بقوله: “الذين يدعون الرب من قلب نقي“؟ إنه كمن يقول: افرحوا لا بالذين يدعون الرب فحسب، وإنما بالذين يدعونه بصدقٍ وإخلاصٍ، الذين هم بلا خداع، يقتربون إليه في سلام غير محبين للنزاع. التصق بمثل هؤلاء، أما بالنسبة للآخرين فلا تهادنهم لكن سالمهم قدر ما تستطيع.]
على أي الأحوال امتاز الرعاة الصادقون بالحذر من كل ما هو معثر، والجهاد في التمتع بكل ما هو للبنيان في المسيح يسوع، فمن كلماتهم:
v إني أعتقد أن الحكمة تقتضي منا أن نستمسك بتقاليد الاكليروس، خصوصًا الذين انتظموا بالفعل في سلك الكهنوت، فيجب علينا، بنوعٍ خاص، أن نتجنب حفلات الغرباء، على أن لا يكون في ذلك أي مساس بإضافة المسافرين.
v بالنسبة لصغار السن من الاكليروس فلا حاجة بهم إلى التردد على بيوت الأرامل والعذارى إلاَّ في زيارة محدودة. وإذا اقتضت الضرورة فليصحب معه واحدًا من الشيوخ كالأسقف أو كبار الكهنة. ولماذا نعطي للعالم فرصة حتى ينتقدنا؟
القديس أمبروسيوس
v أعطِ اهتمامًا مساويًا لكل عذارى المسيح أو عدم مبالاة متساوٍ، غير مميز بينهن.
لا تبطىء في البقاء معهن تحت سقفٍ واحدٍ، معتمدًا على عفتك السابقة، فأنت لست بأقدس من داود ولا أحكم من سليمان.
احذر من كل ما يسبب شكًا أو عثرة، متجنبًا للفضائح، مغلقًا على كل عمل يسبب شكًا.
القديس إيرونيموس
6. الجهاد والخصومات المفسدة ٢٣ – ٢٦.
لا يقف تقديس الحياة الداخلية عند الهروب من الشهوات الشبابية وإتباع البرّ، وإنما برفض الخصومات المفسدة لنقاوة النفس تحت ستار الدفاع عن الحق، إذ يقول: “والمباحثات الغبية والسخيفة اجتنبها، عالمًا أنها تولد خصومات. وعبد الرب لا يجب أن يخاصم، بل يكون مترفقًا بالجميع، صالحًا للتعليم، صبورًا على المشقات، مؤدبًا بالوداعة المقاومين، عسى أن يعطيهم الله توبة لمعرفة الحق، فيستفيقوا من فخ إبليس إذ قد اقتنصهم لإرادته” [٢٣-٢٦].
التزام الراعي أن يفّصل كلمة الحق باستقامة وأن يحفظ وديعة الإيمان بلا انحراف لا يعني دخوله في مباحثات غبية وسخيفة تولد خصومات، وتفسد نقاوة قلبه، وتنزع عنه سلامه الداخلي. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [حتى في المباحثات لا يخاصم، فإن عبد الرب لا يجب أن يخاصم ما دام الله نفسه إله السلام.]
هكذا لا يليق به أن يقدم الحق خلال دخوله في خصام، فإن الوداعة – حتى في المناقشات وفي الانتهار أكثر فاعلية في حياة الآخرين من العنف أو الخصام ولو كان من أجل الحق. لهذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [يليق بمن يعلم أن يهتم على وجه الخصوص أن يحقق عمله بالوداعة، فإن النفس التي ترغب في التعلم لا تتقبل التعليم النافع خلال الخشونة والنزاع.]
إن كان ربنا يسوع المسيح هو المعلم الأعظم العارف بأسرار قلوبنا وله حق إدانتنا وتوبيخنا قيل عنه: “لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته” (مت ١٢: ١٩)، فكم بالحري يليق بنا أن نكون ودعاء مع إخوتنا في تعليمهم إذ نتعرض نحن لنفس ضعفاتهم!
قدم الرسول بولس أربع سمات هامة للمعلم الحقيقي:
أولاً: الترفق بالجميع، فلا ييأس من أحد، ولا يخاصم أحدًا. ولعله أراد أن يصد فكر الغنوسيين الذين كانوا يميزون بين المؤمنين بكونهم طبقات معينة مثل الكاملين والبسطاء.
ثانيًا: لا يكفي أن يكون وديعًا مترفقًا وتقيًا في حياته، لكن يليق بالراعي أن يكون “قادرًا على التعليم”، فالله الحكمة ذاته ومعلم المسكونة، يريد في رعاته أن يَتَعَلَّموا ويُعَلِّموا، حتى لا يَهلَكوا ولا يُهلِكوا الآخرين.
ثالثًا: صبورًا على المشقات، وذلك كالمزارع الذي قد يتعب لسنوات منتظرًا الثمار من الشجر، وربما يتعب لكي يجني أولاده ثمار غرسه الأشجار.
رابعًا: وديعًا في تأديباته، حتى يقدر بروح سيده الوديع أن يَرُد الخطاة الذين اقتنصهم إبليس في فخاخه.
إن كان العدو يقتنص البشر بمكر، فلا يليق بالرعاة أن يستخدموا العنف في إنقاذهم، إنما بالروح الوديع يستردوهم. تصير النفس وسط الفخ أسيرة لأفكار العدو ومُحطمة ومملوءة اضطرابًا. لذا فهي في حاجة إلى قلب وديع مملوء حنانًا وترفقًا حتى يسندها ويردها، لا إلى من يزيدها تحطيمًا بكلمات العنف والتوبيخ. أو كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:[إن الجرح لا يحتاج إلى مواد ملهبة بل إلى زيت رطب لكي يبرأ.]
رسالة تيموثاوس الثانية: 1 – 2 – 3 – 4
تفسير رسالة تيموثاوس الثانية: مقدمة – 1 – 2 – 3 – 4