تفسير سفر أعمال الرسل ٢ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الثاني
ميلاد الكنيسة في يوم البنطقستي
في الأصحاح الأول قدم لنا الإنجيلي لوقا صورة حية عن الإعداد لميلاد كنيسة العهد الجديد خلال أحاديث السيد المسيح القائم من الأموات عن ملكوت الله، ووعده لهم بنوالهم قوة من الأعالي، ثم صعوده لتدرك الكنيسة طبيعتها الجديدة باتحادها مع السماوي، وإلهاب قلوبالمؤمنين نحو مجيء السيد المسيح الأخير، وأخيرًا اختيار التلميذ الثاني عشر عوض يهوذا الخائن. الآن يقدم لنا مشهدًا رائعًا حقيقيًا لميلاد الكنيسة في يوم البنطقستي أو الخمسين، إذ نال التلاميذ العماد بالروح القدس، وصار للكنيسة القائد السماوي، الروح القدس المعزي الذي يهب البشر تجديدًا في طبيعتهم، لكي يحملوا أيقونة العريس السماوي، ويتمتعوا بعلاقات جديدة فائقة مع الثالوث القدوس.
١. لقاء جماعي ١.
٢. حلول الروح القدس ٢-٤.
٣. موقف الحاضرين ٥-١٣.
٤. خطاب بطرس للشعب ١٤-٣٦.
٥. جاذبية الروح القدس ٣٧-٤١.
٦. كنيسة روحية متهللة ٤٢-٤٦.
٧. كنيسة ولود ٤٧.
١. لقاء جماعي
“ولما حضر يوم الخمسين كان الجميع معًا بنفس واحدة”. [1]
جاء النص اليوناني يعني: “لما اكتمل يوم الخمسين“، أي لما بلغ الزمن إلى يوم الخمسين، أي بعد سبعة أسابيع حيث يأتي يوم الخمسين، ويسمى “عيد الأسابيع” (سبوعات) أو “عيد الباكورات” حيث يُقدم بكور القمح، يُحتفل به في اليوم الخمسين من أول يوم بعد عيد الفصح.
يُدعى البنطقستي penthkosth مشتقة من penthkonta ومعناها خمسون، ورد في لا 23: 15-22؛ خر 34: 22؛ تث 16: 10. وباسم عيد الباكورات في عد 28: 26؛ خر 23: 16، وهو عيد شكر لله على بركة الحصاد. مؤخرًا حسبه اليهود يوم نزول الشريعة في سيناء في اليوم الخمسين من خروجهم من مصر. لهذا يدعونه torah shimchath، أي فرح التوراة. كما يعتبرونه تذكارًا للعجائب التي صنعها الله معهم ليحررهم من عبودية فرعون. يرى لايتفوتLightfoot أن الروح القدس حلّ على التلاميذ في مناسبة نزول الشريعة على جبل سيناء منذ ١٤٤٧ عامًا.
كان اليهود يعتزون بهذا العيد، بكونه يومًا فريدًا، احتفلت به الطبيعة نفسها حيث هبوب الريح وظهور النار والزلازل والبرق والرعود تكشف عن جبروت الله وحضوره المهيب في وسط شعبه.
حلّ الروح القدس في يوم عيدٍ له قدسيته عند اليهود والدخلاء، حيث يحتفل به جمهور عظيم من كل الدول، حتى إذ يُسمع عنه في أورشليم يسرع الكل ويصير من بينهم شهود يقبلون الإيمان ويعودون إلى الدول التي يعيشون فيها يكرزون بالحق الإنجيلي.
وقد حلّ الروح القدس في اليوم الأول من الأسبوع “الأحد” ليكون هذا اليوم هو السبت الجديد، الذي فيه قام السيد المسيح، وفيه تم ميلاد الكنيسة. فمع كل عبادة أسبوعية نتذكر في سرّ الإفخارستيا الحياة الجديدة المقامة التي صارت لنا بقيامة السيد المسيح بعمل روحه القدوس.
إذ حلّ الروح القدس على كنيسة العهد الجديد في اليوم الخمسين من قيامة السيد المسيح، صار هذا العيد إعلانًا عن حضور الروح القدس الدائم في وسط كنيسة المسيح، يهبها طاقاته الإلهية للشهادة للسيد المسيح، وليتمتع العالم بخبرة الحياة المقامة.
في عيد البنطقستي اليهودي كان الشعب يعتز بنزول الشريعة على موسى حيث اهتزت الطبيعة أمام هذا التنازل الإلهي، أما في عيد البنطقستي المسيحي فيقف العالم في دهشة حيث ينزل روح الله القدوس نفسه على الكنيسة، فتهتز طبيعة الإنسان الداخلي، ويتقبل كلمة الله منقوشة، لا على لوحين حجريين، بل على القلب وفي أعماق النفس. يسجلها الروح القدس، فيحول القلب الحجري إلى ملكوت إلهي سماوي، لا لتقف الطبيعة الجامدة في دهشة، بل يقف السمائيون في تهليلٍ وبهجةٍ أمام العمل الإلهي الفائق.
إذ تحقق ميلاد الكنيسة في يوم عيد الخمسين تقدست كل الأيام لكي يتمتع المؤمن بالعماد أو الميلاد الجديد أو الإتحاد بالكنيسة في أي يومٍ دون تمييز بين الأيام، إذ صارت أيامنا كلها عيدًا لا ينقطع. وقد منعت الكنيسة نذر عماد طفلٍ ما في كنيسةٍ معينة أو بواسطة كاهنٍ معين.
v عندما يقول ارميا: أجمعهم معًا من أقاصي الأرض إلى يوم عيد (إر 38: 8) يعني عيد الفصح والبنطقستي، الذي هو بحق يوم عيد. على أي الأحوال كل يوم هو للرب، كل ساعة، وكل وقت مناسب للعماد. إن وجد اختلاف في التكريم لليوم لكن لا يوجد تمييز في النعمة.
العلامة ترتليان
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن كلمة “الجميع” تشير إلى المائة والعشرين. إذ يقول [هل حلّ على الإثنى عشر؟ ليس كذلك، بل على المائة وعشرين، فإنه ما كان لبطرس أن يقتبس شهادة النبي بلا هدف، قائلاً: “يقول الله ويكون في الأيام الأخيرة إني أسكب من روحي على كل بشر، فيتنبأ بنوكم وبناتكم، ويرى شبابكم رؤى، ويحلم شيوخكم أحلامًا” (أع 2: 17، يوئيل 2: 28). “وامتلأ الجميع من الروح القدس” (أع 2: 4).]
ويرى البعض أن كلمة “الجميع” جاءت بعد اختيار التلميذ الثاني عشر، مما يوضح أنها لا تعني هنا المائة والعشرين بل الإثني عشر. وقد تم اختيار التلميذ الثاني عشر قبل حلول الروح القدس، لأن الكنيسة ممثلة في الإثني عشر تستقبل الروح القدس وتتمتع بالمعمودية الأولى، كقول السيد المسيح لتلاميذه: “فستتعمدون بالروح القدس ليس بعد هذه الأيام بكثير” (أع 1: 5). أما ما ورد في سفر يوئيل عن حلول الروح القدس على العبيد والإماء والشيوخ والشباب، فهذا حق، تم خلال الرسل، وليس من السماء مباشرة كما حدث مع الإثني عشر. فإنه حتى مع ظهور السيد المسيح لشاول الطرسوسي والدخول في حوار معه لم ينل حلول الروح القدس مباشرة من السماء، بل من خلال الكنيسة، حيث وجهه السيد المسيح إلى حنانيا.
الحالة الوحيدة الشاذة هي حالة حلول الروح القدس على كرنيليوس وأهل بيته أثناء صلاة القديس بطرس، وذلك لكي يعلن الله انفتاح أبواب السماء على الأمم لقبول الإيمان بالسيد المسيح.
“كان الجميع معًا بنفسٍ واحدةٍ“، فقد حملوا غيرة متقدة نحو هدفٍ واحدٍ ورغبةٍ واحدةٍ، فكان الكل ملتهبين في الداخل نحو تحقيق وعد السيد المسيح بنوال قوة من الأعالي (أع ١: ٨).
٢. حلول الروح القدس
“وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة،
وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين”. [2]
كان التلاميذ يترقبون تحقيق الوعد الإلهي بحلول الروح القدس عليهم ليهبهم قوة من الأعالي، لكن يبدو أنهم لم يكونوا يتوقعون حلوله خلال هذه المظاهر، لذلك كان الأمر مفاجئًا لهم: “وصار بغتة“. تم الحلول هكذا لكي لا يفارق هذا الحدث أذهان التلاميذ، ولا يغرب عن عيني الكنيسة عبر كل الأجيال، لأنه حدث يمس كيانها كله ووجودها أو عدمه.
لم تكن ريحًا طبيعية، لكن صوتًا من السماء ملأ كل البيت، سمعه كل من في البيت، وأدركوا أنه من السماء. لعله كان صوت رعدٍ يبشر بالحضرة الإلهية.
يرى القديس مار أفرآم السرياني أنه قد صاحب الصوت السماوي رائحة عطرة، وأن الصوت لم يعبر من حجرة إلى حجرة، بل أدرك الكل أنه صوت صادر من السماء يملأ الكل دفعة واحدة. ملأ الروح القدس المكان ليدشنه، مقدسًا الحاضرين كنيسة مقدسة للمسيح. لم يملأ الصوت فقط الحجرة التي كان التلاميذ مجتمعين فيها للصلاة، إنما البيت كله. وكان للحدث صداه على مستوى المدينة كلها، ففي فترة قصيرة تجمعت جماهير كثيرة، كانوا قادمين إلى أورشليم للعيد.
وكما هيأت الزلزلة والنار قلب إيليا للتمتع بالحضرة الإلهية والدخول في حوارٍ مع الله أثناء الريح الهادئ (1 مل 9: 11 الخ.)، هكذا أعلنت هذه الظواهر عن حلول الروح القدس وميلاد كنيسة المسيح واستقراره فيها.
هكذا بنفس الكيفية عند مجيء السيد المسيح الأخير على السحاب ليدين المسكونة يصاحب مجيئه صوت بوق عظيم يهز كيان الأشرار ويُفرِّح قلوب المؤمنين.
كأن ذاك الذي يجلب الرياح من مخازنه (مز ١٣٥: ٧)، ويجمعها في يده (أم ٣٠: ٤) يصرخ بصوتٍ عالٍ: اقبلوا روحي القدوس! لقد سبق فأعلن ناحوم النبي: “الرب في الزوبعة، وفي العاصف طريقه، السحاب غبار رجليه” (نا ١: ٣)، وتحدث الرب مع أيوب من العاصفة (أي ٣٨: ١). هذا هو الرب نفسه، حاضر ليسكن في قلوب البشر!
هنا ينقلنا القديس غريغوريوس النيسي إلى سفر النشيد حيث يرى في ريح الجنوب الدافئة، وليس ريح الشمال الباردة، رمزًا لعطية الروح القدس الذي يلهب النفس بدفء الروح.
في منطقة الشرق الأوسط يخشى الناس، خاصة أصحاب الحقول، الريح الشمالية لأنها باردة، إن اشتدت تقضي على الزراعة تمامًا، بينما يطلبون الريح الجنوبية القادمة من خط الاستواء فهي دافئة تساعد على نضوج المحاصيل. في سفر النشيد تطلب العروس من ريح الجنوب أن تهب على جنتها (نش 4: 16)، وإذ تهب الريح التي هي الروح القدس في الحال تدعو جنتها جنة عريسها (نش 5: 16)، فعمل الروح القدس هو أن يحول قلوبنا إلى ملكية العريس السماوي، فتصير جنته. يرى العريس آلام عروسه آلامه، وثمار الروح فيها ثمره، وبفرح يقبل دعوتها لكي يدخل إلى جنته يأكل ويشرب، بل ويدعو أصدقاءه، الطغمات السمائية، ليفرحوا معه بجنته التي غرستها يمينه ويسقيها بروحه القدوس (نش 5: 1).
v “تعالي يا ريح الجنوب، هبي على جنتي فتقطر أطيابها” (نش 4: 16 LXX)…
أصابت الملكة (الكنيسة العروس) حين أمرت بسلطانها دفع ريح الشمال بعيدًا، ونادت على ريح منتصف النهار الدافئ الذي تسميه ريح الجنوب، وبواسطته يفيض تيار جارف من السرور: “تعالي يا ريح الجنوب، هبي على جنتي فتقطر أطيابها”. إنها تشبه الريح القوية التي سُمعت في العلية عندما كان التلاميذ فيها (أع 2:2) “وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت على كل واحد منهم.” وكأنهم نباتات حية، تساعد هذه الريح حديقة اللّه على إنتاج الأعشاب العطرة، وإصدار نبوات تفوح منها روائح زكية ووصايا الخلاص للإيمان بفم الرسل، ويخرج منها عطر تعاليمهم بكل اللغات. لقد جعلت ريح الجنوب هذه تعاليم المائة والعشرين تلميذاً الذين كانوا مغروسين في بيت الرب تفيض على كل أمم الأرض (أع 15:1).
الآن تقول العروس لريح الجنوب: “هبي على جنتي”، لأن عريسها جعلها أمًا للحدائق. ويشمل النص حدائق وينبوع. من أجل هذا يرغب العريس لحديقته، الكنيسة، التي تمتلئ بالأشجار الحيّة، أن تهب عليها هذه الريح، لكي تحمل منها روائح عطورها. ويقول النبي: “الريح العاصفة الصانعة كلمته” (مز 8:148).
تزينت العروس بزينة الملكة البهية، وغيّرت النهيرات التي تفيض عطرًا إلى ما هو أكثر جمالاً، فجعلتها تفيض من أشجار الحدائق بواسطة قوة الروح القدس. ويمكننا بهذه الصورة أن نتعلم الفرق بين العهدين القديم والجديد. يمتلئ نهر النبوة بالمياه، بينما تمتلئ أنهار الإنجيل بالعطر. كان نهر القديس بولس يحمل رائحة المسيح العطرة، ويفيض من حديقة الكنيسة بواسطة الروح القدس. والأمثلة الأخرى كيوحنا، ولوقا ومتى ومرقس وجميع الرسل الآخرين كلهم يرمزون إلى نباتات ثمينة في حديقة العروس، عندما تهب عليها ريح الجنوب في منتصف الظهيرة تصيَّرهم جميعًا ينابيع عطور لرائحة الأناجيل الزكية.
القديس غريغوريوس النيسي
“وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار،
واستقرت على كل واحد منهم”. [3]
إذ لا يمكن إدراك طبيعة الروح القدس كما الآب والابن لذلك قدم لنا العهدان القديم والجديد رموزًا كثيرة تكشف عن طبيعة عمل الروح القدس فينا، أهمها:
1- الحمامة: ففي سفر النشيد يمتدح العريس السماوي عروسه، قائلا: عيناكِ حمامتان”. يُعجب بعروسه التي تتطلع دومًا إلى روحه القدوس القادر وحده أن يوحدها معه، ويجملها لتحمل أيقونته. يتطلع إلى عينيها، فيرى من تتطلع إليه، لأن العينين تحملان صورة من تنظران إليه. هذا وعمل الروح القدس هو الاستنارة، فإذ يسكن في قلب المؤمن ينير عينيه الداخليتين لكي تستطيعا رؤية عريسها وأمجاده، وتتحقق من وعوده الصادقة.
والسيد المسيح نفسه يطلب من عروسه: “كونوا بسطاء كالحمامة” حيث تحمل العروس سمة بساطة عريسها فلا تقبل تعقيدًا، بل تسلك في طريقه الواحد بلا انقسام في القلب.
v “ها أنتِ جميلة يا حبيبتى (صاحبتي)، ها أنت جميلة؛ عيناكِ حمامتان” (نش 1: 15)…
الآن، وقد ظهر جمالها الكلي امتدح جمال عينيها. يقول العريس إن عينيها حمامتان، وهذا يحمل المعنى الآتي: عندما تكون العينان صافيتين حينئذ تعكس صورة من ينظر إليها بوضوح.
يقول خبراء الظواهر الطبيعية إن العين ترى من خلال استقبال انعكاس الصور المنبثقة من الأشياء المرئية.
لذلك يُمتدَح جمال العروس، لأن صورة الحمامة منطبعة في عينيها.
عندما يتطلع إنسان ما إلى أي شيءٍ، يستقبل في ذاته صورة هذا الشيء.
الإنسان الذي قد تخلى عن الحياة الملموسة، أي اللحم والدم يتطلع إلى الحياة الروحية، فيسلك في الروح، وبالروح يميت أعمال الجسد. هذا الإنسان قد صار بالكلية في الروح، فلا يعود الإنسان إلى الطبيعة الجسدانية. لهذا تُوصف النفس التي تخلصت من أهواء الجسد أن صورة الحمامة تظهر في عينيها، وهذا يعنى أن خاتم الحياة الروحية يشع نورًا من داخلها؛ تصبح العين نقية. النفس التي حصلت على صورة الحمامة قادرة على رؤية الجاذبية الروحية للعريس. تنظر العروس إلى عريسها، عندما تكون صورة الحمامة في عينيها، فترى جماله الروحي.
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
2- المياه، خاصة الأمطار، فالمطر المبكر يشير إلى عمل الروح القدس في العهد القديم حيث قدم كثير من النعم الإلهية، خاصة نعمة النبوة عن شخص السيد المسيح وعمله الخلاصي، والمطر المتأخر يشير إلى عمله في العهد الجديد حيث يقطن ويستقر في النفس، فلا يُحسب ضيفًا كما في العهد القديم، بل يقيم من الإنسان الداخلي هيكلاً مقدسًا له، يسكن فيه. يحول المطر البرية إلى فردوس يفيض بثمارٍ إلهية لا حصر لها.
ربط السيد المسيح بين الإيمان به والتمتع بالروح القدس الذي يشبه ينبوعًا إلهيًا يفيض في أحشاء المؤمن الروحية، فتجري منه أنهار مياه حية (يو 7: 38).
v الروح القدس هو النهر الذي يفيض – حسب العبرانيين – من المسيح إلى الأراضي. وقد قبلنا هذا كما تنبأ فم إشعياء (إش 12:66). هذا النهر العظيم الذي يفيض على الدوام ولن يتوقف، ليس فقط نهرًا، بل هو أيضًا أحد المجاري الغزيرة التي تفيض عظمة، كما قال داود: “مجرى النهر يفرح مدينة اللَّه” (مز 4:46). فلا ترتوي تلك المدينة، أورشليم السماوية، بقناة، أي بنهرٍ أرضيٍ، بل بالروح القدس المنبثق من مصدر الحياة. المجرى الذي يصدر عن ذاك الذي يشبعنا، يبدو أنه يفيض بوفرة بين العروش السماوية والسيادات والقوات والملائكة ورؤساء الملائكة، جاريُا في أكمل نصيب لفضائل الروح السبع.
القديس أمبروسيوس
3- الريح: وكما نسمع هنا عن الريح العاصف الذي هزّ البيت عند حلول الروح القدس على التلاميذ.
4- النار: حل الروح القدس على التلاميذ في شكل ألسنة من نار. فقد تحقق قول القديس يوحنا المعمدان عن حمل الله أنه يعمد بالروح القدس ونار. هذه هي النار التي جاء السيد المسيح لكي يرسلها إلى البشر (لو ١٢: ٤٩).
ظهر الروح القدس على شكل ألسنة نارية منقسمة على كل واحدٍ منهم، إشارة إلى ما يقدمه لهم من تنوع للألسنة واللغات حتى يتمكنوا من الكرازة بين الأمم، ولكي يدرك اليهود أن الله ليس إله العبرانيين وحدهم، إنما هو إله كل البشر، يتحدث مع كل أمةٍ بلغتها التي تتفاهم بها.
شعروا بالروح القدس أنه أشبه بريح خفي، “الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب، هكذا كل من وُلد من الروح” (يو 3: 8). ظهر كألسنة منقسمة كأنها من نار وهي ليست نارًا مادية، إنما نار تحرق الخطية، وتبدد كل ما هو مقاوم لله وبرِّه، حتى يتحقق فينا برّ المسيح وقداسته وحقه وعدله الإلهي.
يرى البعض أن الروح القدس ظهر أولاً على شكل ومضات نارٍ متلألئة، صادرة من الأعالي، سرعان ما انقسمت إلى ألسنة واستقرت على رؤوس الرسل. وقد جاء في النسخ السريانية وأيضًا في الأثيوبية القديمة “جلست عليهم“. وكأن الروح القدس جلس واستقر متربعًا على رؤوس الرسل بكونها عرش الله وهيكله الإلهي، بعد أن فارق الروح الإنسان زمانًا طويلاً. لم يعد الروح زائرًا مؤقتًا بل جلس ليملك ويجدد ويقود كنيسته عاملاً فيها عبر الأجيال حتى يدخل بها إلى السماء كعروسٍ مزينة لعريسها السماوي. استقرار الألسنة النارية يؤكد أن ما يروه ليس وهمًا وتخيلات.
لقد ظهر الله لموسى النبي في شكل نارٍ متقدة في العليقة دون أن تحترق (خر ٣: ٢-٣)، وظهر له على الجبل وسط رعود وبرق ونارٍ ودخان علامة حضرته وقوته (خر ١٩: ١٦-٢٠).
“استقرت على كل واحد منهم“، أي من الإثني عشر، إذ ارتاح في كيانهم الرسولي ليقيم منهم هيكلاً مقدسًا يسكن فيه (1 كو 3: 16)، يعمل فيهم وبهم، إذ صاروا منتسبين لله، مكرسين له وحده.
ما شغل التلاميذ ليس الريح ولا الصوت ولا النار، وإنما سكنى الروح فيهم ليعمل بهم لحساب ملكوت الله وبنيانه.
v إن كان اللَّه نارًا، فهو نار لكي ينتزع برد الشيطان.
القديس جيروم
v يليق بخادم الرب أن يكون مجتهدًا وحذرًا. نعم وأكثر من هذا يكون ملتهبًا كاللَّهيب، حتى أنه بروح غيورة يدمر كل خطية جسدانية، فيستطيع الاقتراب من اللَّه، الذي بحسب تعبير القديسين يُدعى “نارًا آكله”.
البابا أثناسيوس الرسولي
[بخصوص الروح القدس الذي حلّ على شكل ألسنة نارية]
v كانت (الألسنة) من النار، وذلك ربما لقوته المطهرة (لأن كتابنا المقدس يعرف النار المطهرة، يجدها كل شخصٍ يطلبها)، أو ربما لأجل جوهره. لأن اللَّه نار آكلة، نار تحرق ما هو شرير.
القديس غريغوريوس النزينزي
v إن كانت تلك النار تمسك بنا، ليتها تجدنا صلدين لا تقدر على إبادتنا. بالأحرى ليتنا نصلي أن تحرق هذه النار فينا أشواك خطايانا المدمرة والمبيدة.
الأب قيصريوس أسقف آرل
v لا تعجب عندما تقرأ أن اللَّه الآب يقول: “أنا هو نار آكلة”. مرة أخرى يقول: “تركوني أنا ينبوع المياه الحيّة” (إر 13:2). وأيضًا الرب يسوع مثل نارٍ يلهب قلوب سامعيه، ومثل ينبوع مياه… فقد قال بنفسه في إنجيله إنه جاء ليُلقي نارًا على الأرض (لو 49:12)؛ ويهب ينبوع مياه حية للعطشى (يو 37:7-38).
v يُظهر إشعياء النبي أن الروح القدس ليس فقط نورًا بل أيضًا هو نار، قائلاُ: “وتصير نور إسرائيل نارًا” (إش 17:10). هكذا يدعوه الأنبياء نارًا حارقة… لأننا نرى عظمة اللاهوت؛ والتقديس الذي له، والإنارة كسمة للنور والنار، لهذا عادة يُشار إلى اللاهوت ويُرى في شكل نارٍ، وكما يقول موسى: “اللَّه نار آكلة”.
فإن موسى نفسه رأى النار في العليقة، وسمع اللَّه عندما جاء الصوت من لهيب النار يقول له: “أنا إله إبراهيم، وإله اسحق، وإله يعقوب” (خر 6:3). خرج الصوت من النار، وكان الصوت في العليقة، والنار لم تؤذها. فالعليقة كانت ملتهبة لكنها لم تُستهلك، إذ كان سرّ الرب مُعلنًا، أنه يأتي ليُنير جسدنا، وليس أن يهلك من كانوا في بؤسٍ، بل يزيل بؤسهم. إنه ذاك الذي يعمّد بالروح القدس ونارٍ، فيُعطي نعمة ويحطم الخطية (مت 11:3). هكذا في رمز النار يحفظ اللَّه قصده.
v بحق تُستهلك الذبيحة (بالنار) لأنها عن الخطية، بحق كانت النار رمزًا للروح القدس… الذي يغفر خطايا الجميع، والذي مثل نار يًلهب ذهن المؤمن وقلبه كذلك. لهذا فإن إرميا بعد قبوله الروح يقول: “صار في قلبي كنارٍ ملتهبة في عظامي، وأنا لم أحتملها”.
القديس أمبروسيوس
v أنت أيها الرب نار آكلة، تحرق اهتماماتهم التي بلا حياة، وتجددهم أبديًا.
v عندما يرسل الرب جمره (الملتهب نارًا) نطلب الوحدة، ويتحطم ما قد بُني فينا للشر. وعندما يتطهر هذا الموقع (القلب) يقوم بناء الهيكل، المسكن، حيث يفيض فيه نوع من السعادة تنبع عن الأبدية.
لكنني لست أريد أن تفقدوا ما يعنيه المرتل بالحديث عن “الجمر” (مز ١٢٠: ٤). فالرجوع إلى الرب هو عبور من الموت إلى الحياة. قبل أن يشتعل يلزمنا القول أنه ميت. وإذ يلتهب بالنار ندعوه حيًا. هذه صورة رائعة للتغير الذي يحدث حين يعود رجل أو امرأة إلى الرب بعد أن كان ميتًا.
نسمع الناس يقولون أحيانًا بتعجبٍ: “يلزمك أن تراه كما كان عليه قبلاً. لقد كان سكيرًا، حياته كانت مخجلة”. أو “لقد أحب الحياة الصالحة”. أو “كان أكبر مخادعٍ التقيت به”. ثم يضيف بعد ذلك: “لست أصدق ما هو عليه الآن. إنه يخدم الله بكل غيرة، إنه يعيش في جوٍ من البراءة. كأن كل ما قد حدث قبلاً لم يكن له وجود”. ما هو وجه العجب؟ فقد كان الخاطئ ميتًا، والآن هو جمر حي.
يبكي الروحيون الذين يعرفون تلك الحقائق الروحية الخاصة بمثل هذا كمن على ميتٍ، والآن إذ يرونه حيًا يُبتلعون بالفرح!
في هذا المثال يوجد أمر أود أن تطبقوه على أنفسكم. لقد صرنا مبتهجين نسبح الله، إذ نرى أحدًا قد صار جمرًا أمسكت به النار. لكننا إن كنا حكماء يلزمنا أن نبحث في غيرة عما في داخلنا وقد انطفأ.
كن مستعدًا ومتسلحًا بكلمة الله.
لكي تتحولوا إلى الله يلزمكم أن تحاربوا طريقكم القديم، تتحولوا عن الصوت المخادع في داخلكم.
v قال الرب نفسه: جئت لألقي نارًا على الأرض” (لو 12: 49). ومن ثمة يقول الرسل أيضًا: “حارين في الروح” (رو 10: 11)، لأن منه تأتي غيرة الحب، “لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطي لنا ” (رو 5: 5). وعلى نقيض هذه الغيرة ما قاله الرب: “تبرد محبة الكثيرين” (مت 24: 12). فإن الحب الكامل هو العطية الكاملة للروح القدس.
القديس أغسطينوس
v لئلا يجهل الناس عظمة العطية القديرة النازلة عليهم لذلك كان الصوت مثل أبواق سمائية، إذ “صار بغتة من السماء كما من هبوب ريح عاصفة“، مشيرًا إلى حلول ذاك الذي يهب قوة للبشر ليتمتعوا بملكوت اللَّه بقوة، فترى أعينهم الألسنة النارية، وتسمع آذانهم الصوت.
“وملأ كل البيت، حيث كانوا جالسين“، إذ صار البيت إناءً للماء الروحي وجلس التلاميذ فيه، امتلأ البيت كله. وبهذا اعتمدوا تمامًا حسب الوعد ولبست النفس والجسد ثوب الخلاص الإلهي.
“وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت على كل واحد منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس“. لقد اشتركوا في النار لا للاحتراق بل النار المخَّلِصة، النار التي تحرق أشواك الخطية كلها تهب بهاءً للنفس. هذه تحل عليكم الآن، وتنزع خطاياكم، وتحرقها كالشوك، فتضيء نفوسكم الثمينة، وتنالون نعمة…
لقد استقرت على الرسل مثل ألسنة نارية حتى تتوجهم بأكاليلٍ روحيةٍ جديدةٍ على رؤوسهم.
فى القديم كان هناك سيف ناري على أبواب الفردوس، والآن لسان ناري يجلب الخلاص ويرد إلى الفردوس.
القديس كيرلس الأورشليمي
v عندما هرب يونان النبي من وجه اللّه، بحث عن سفينة مبحرة إلى ترشيش (يونان 3:1). وقال داود العظيم أن سفن ترشيش تحطمت بواسطة الرياح القوية (مز 7:48). هبت مثل هذه الريح على التلاميذ وهم مجتمعون في العلية. وتعرفوا عليها أولاً بريح قوية عاصفة، بعد ذلك ظهرت لهم على هيئة ألسنة نار مُضيئة (أع 3:2). تحطم الرياح المتعددة الأشكال الشرور التي تحارب الطبيعة البشرية، وتعرف الرياح بسفن ترشيش. وترمز هذه السفن إلى الشر.
القديس غريغوريوس النيسي
في عماد السيد المسيح ظهر الروح القدس في شكل حمامة، ولم نسمع عن صوت كما من هبوب عاصف ولا عن ألسنة نارية منقسمة، لأنه لا يوجد في السيد المسيح خطية ليتطهر بنارٍ إلهية، وإنما هو كلمة الله القدوس الذي لا يصيح ولا يسمع أحد صوته. ما سُمع هو صوت الآب في رقةٍ يعلن سروره بالابن المتجسد. أما في ميلاد الكنيسة، فالحاجة لازمة إلى الروح الناري الذي يطهر ويقدس من الخطايا، وإلى الصوت العاصف لكي نستيقظ ونترقب عمل الله، والألسنة النارية لكي ندعو العالم كله للاتحاد معًا في المسيح يسوع بالإيمان به.
“وامتلأ الجميع من الروح القدس،
وابتدأوا يتكلّمون بألسنة أخرى،
كما أعطاهم الروح أن ينطقوا”. [4]
“وامتلأ الجميع من الروح القدس“، في المعمودية نتمتع بالملء من الروح القدس الذي يؤهلنا أن نكون أعضاء في جسد المسيح، وننعم بالبنوة للآب بالنعمة الإلهية. بهذا الملء يصير لنا حق الشركة مع المسيح، والتمتع بحياته المقامة. هذا الملء الذي تمتع به الإثنا عشر تلميذًا بالروح القدس الواحد، يهب الكنيسة الوحدة، ليست وحدة مٌصطنعة، ولا تتحقق بمجرد تجمع الأشخاص أو الكنائس معًا، ولا خلال الحوار المجرد، لكنها عمل إلهي، سرّ الشركة في المسيح الواحد. إنها خليقة جديدة، حيث يتمتع الكل بأبٍ واحدٍ وأمٍ واحدةٍ، وينعمون بملكوت الله الواحد في قلوب الكل، يختبرون الإنجيل الواحد. الوحدة هنا هي عمل الروح القدس الذي يثبتنا في المسيح الواحد، فنترنم: “لأننا أعضاء جسمه، من لحمه ومن عظامه” (أف 5: 30).
يرى القديس أغسطينوس أنه في يوم الخمسين أُعطي للشخص الواحد أن يتحدّث بكل لغات الأمم لكي يكرزوا، الآن الكنيسة هي الجسد الواحد وقد امتدّت إلى العالم كله، صارت أيضًا تنطق بكل لغات العالم.
v نقرأ في الإنجيل: “رجع يسوع ممتلئًا من الروح” (لو 4: 1). وفي أعمال الرسل يقول الكتاب المقدس عن الرسل أنهم “امتلأوا من الروح القدس“. لتحذر من التفكير بأن الرسل هم على وجه المساواة مع المخلص. فنتحقق من أن يسوع والرسل وآخرين هم مملوءون بالروح القدس حسب إمكانية الإناء… بعد أن قبل العماد كان المخلص مملوءً من الروح القدس الذي حل عليه من السماء في شكل حمامة (لو 3: 32)، وقاده الروح (لو 4: 1). فإذ كثيرون اقتيدوا بروح الله هم أبناء الله (رو 8: 14)، أما هو فابن الله بالمعنى اللائق، مميزًا عن كل الآخرين، لذلك كان لائق به أن يقتاده الروح القدس.
العلامة أوريجينوس
جاء تعبير “امتلأ” خاصة في سفر الأعمال يعني يملأ النفس وينتشر فيها ويحركها، فيحرك كيان الإنسان كله بكل مشاعره وطاقاته. فعندما دخلت القديسة مريم بيت زكريا وهي تحمل في أحشائها كلمة الله المتجسد “امتلأت اليصابات من الروح القدس” (لو ١: ٤١). وعند ولادة يوحنا المعمدان “امتلأ زكريا أبوه من الروح القدس وتنبأ” (لو ١: ٦٧). وهنا إذ نالت الكنيسة عطية الروح القدس “امتلأ الجميع من الروح القدس” (أع ١: ٤). وحين شُفي الأعرج عند باب الجميل باسم يسوع المسيح الناصري امتلأ عارفوه دهشة وحيرة (أع ٣: ١٠)، وحين سيطر الحسد على مقاومي الحق “امتلأوا غيرة، فألقوا القبض على الرسل” (أع ٥: ١٧)، وتكرر الأمر في خدمة القديس بولس في أنطاكية بسيدية حيث امتلأ اليهود غيرة وجعلوا يقاومون ما قاله بولس مناقضين ومجدفين (أع ١٣: ٤٥). وعلى العكس “أما التلاميذ فكانوا يمتلئون من الفرح والروح القدس” (أع ١٣: ٥٢).
هكذا يليق بنا أن نفتح الباب لعمل روح الله القدوس لكي يتسلم قيادة القلب والفكر وكل المشاعر، فيملك في الداخل، ولا يكون لغير الله، الثالوث القدوس، موضع فيه.
“ابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا“. [4] وهم جليليون غالبيتهم لا يعرفون اليونانية إلا القليل، بدأوا يتكلمون بلغات أخرى كما وهبهم الروح القدس، “يتكلمون بألسنة جديدة”. (مر 16: 17) سبق فوعدوا في القديم: “إنه بشفة لكناء وبلسانٍ آخر يكلم هذا الشعب” (إش ٢٨: ١١).
إذ ظن البشر أنهم قادرون على مقاومة الله ببناء برج في بابل يحميهم من الغضب الإلهي حين يحل طوفان كما في أيام نوح بلبل الله ألسنتهم، وتفرقوا إلى أمم، وفقدت البشرية وحدتها. الآن عند تأسيس كنيسة السيد المسيح لم يردهم لاستخدام لغة واحدة في العالم علامة الوحدة، وإنما وهب التلاميذ التكلم بألسنة لتتحد الأمم جميعها معًا بقيادة الروح القدس الواحد، بالإيمان الواحد، والمعمودية الواحدة، حيث يصير الكل أعضاء في جسد المسيح الواحد.
بالألسنة المنقسمة بعد الطوفان انكشف إلحاد الشعب العملي ومقاومته لله، وبعد أكثر من ٢٠٠٠ عامًا صارت الألسنة المنقسمة هي الدواء الإلهي لرد الأمم الوثنية إلى معرفة الله.
ماذا يعني التكلم بألسنة أخرى، أو بألسنة جديدة لم يكونوا بعد يعرفونها؟
أولاً: واضح أنهم تحدثوا بألسنة لم يتعلموها، لكن السامعين القادمين من أماكن متفرقة كانوا يسمعون كل واحدٍ لغته التي وُلد فيها [8]. فهي لغات بشرية حقيقية مفهومة، وليست كلمات انفعالية غير مفهومة.
ثانيًا: أدرك الحاضرون إنها عطية الله للتلاميذ لا للاستعراض، وليست بلا هدف، وإنما لتأكيد أن باب الإيمان لم يعد قاصرًا على شعبٍ معينٍ أو على لسانٍ معينٍ، بل على جميع الشعوب والأمم والألسنة، فالخلاص مقدم للعالم كله.
ثالثًا: لم يكن اللسان خلال تعليم معين، وإنما هبة من الروح القدس، حتى يدرك المتكلم أنه إنما يتحدث بما يهبه الله له، وليس حسب خبرته البشرية ومعرفته القديمة. أُعطي مع اللسان مادة الحديث، فلا يُستخدم اللسان إلاَّ في إعلان كلمة الله المقدمة من الروح القدس نفسه. يشعر المتكلم أنه أداة في يد الله، يعمل به لحساب ملكوته.
رابعًا: لم تُقدم هذه الموهبة لكي يستعرضها المؤمنون عبر الأجيال، إنما هي حدث للكشف عن بدء عصرٍ جديدٍ، هو بسط يدي المخلص للبشرية كلها لكي تقبل كلمة الكرازة.
خامسًا: لم ينشغل الرسل بهذه الموهبة كثيرًا بعد يوم الخمسين، كمثال لذلك القديس بولس وهو يتمتع بالتكلم بالألسنة (1 كو 14: 18) لم يكن محتاجًا إليها إذ كان يكفيه الحديث بالعبرية (أو الآرامية) أو اليونانية لنشر الإنجيل بين الأمم. وإذ أساء البعض فهمها كشف الرسول بولس عن سمو المحبة البناءة عن التشويش الذي ساد الذين ادعوا أنهم أصحاب موهبة التكلم بألسنة (1 كو 13: 1؛ 14: 33)، بل وفضَّل كلمة الوعظ عن التكلم بألسنة (1 كو 14: 39).
سادسًا: بعد أن أدت هذه الموهبة رسالتها أن الإيمان المسيحي يمس حياة البشرية كلها لم تعد هي العنصر الأساسي في الكرازة، بالرغم من وجودها بروح اللياقة والترتيب تحت ظروف خاصة (1 كو 12: 7-11). لذلك لم تدم هذه الموهبة بعد العصر الرسولي، وإن كان الله سمح بها خلال نماذج قليلة لتأكيد صدق حدوثها. لكن تحول البعض عبر العصور إلى استخدام ألسنة غير مفهومة ودخول في اللاوعي وخدع الشيطان كثيرين، فصار الأمر معثرًا للمؤمنين ولغير المؤمنين. خرج هؤلاء عن روح السيد المسيح الذي لا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته.
v “وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا“
تكلم بطرس الجليلي أو أندراوس بالفارسية أو المديانية. وتكلم يوحنا وبقية الرسل بكل ألسنة هؤلاء الأمميين الأصل. لأنه ليس فقط في أيامنا نحن بدأت هذه الجماعات الغريبة أن تجتمع بل منذ ذلك الحين كانوا يجتمعون هنا من كل الكون. أي معلم يمكن أن يكون هكذا عظيمًا حتى يعلم البشر جميعًا في وقت واحد أمورًا لم يكونوا قد تعلموها؟!
يحتاج الإنسان إلى سنوات كثيرة ليتعلم أصول النحو وفنون اللغة حتى يتحدث اليونانية وحدها حسنًا، لكنهم تعلموا جميعًا اللغات حسنًا.
قد ينجح الخطيب في التحدث حسنًا، لكن رجل النحو أحيانًا لا يقدر أن يتحدث حسنًا، وصاحب النحو الماهر قد يتحدث أحيانًا، لكنه يجهل مواضيع الفلسفة. أما الروح القدس فعلمهم عدة لغات في وقتٍ واحدٍ لم يعرفوها قط طيلة حياتهم.
إنها حكمة واسعة! إنها قوة إلهية!
يا للتناقض بين جهلهم الشديد في الماضي إلى ما حدث لهم فجأة، إذ مارسوا هذه اللغات بصورة كاملة ومتنوعة لم يعتادوا عليها.
إن جماهير المستمعين قد ارتكبت. وهذه هي المرة الثانية للارتباك. الأول حدث كأمرٍ شريرٍ في بابل، إذ كان ارتباك اللغة بقصد الانقسام بسبب أفكارهم المعادية للَّه، أما هنا فقد صلحت الأذهان واتحدت بقصدٍ صالحٍ. صارت وسيلة السقوط هي وسيلة الشفاء!
لماذا تتعجبون قائلين: “كيف نسمعهم يتكلمون بألسنتنا“؟
لا تتعجب إن كنت جاهلاً ذلك، فإنه حتى نيقوديموس كان يجهل حلول الروح وقد قيل له: “الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب” (يو 3: 8). فإنك وإن سمعت صوته لا تعرف من أين يأتي، فكيف نوضح جوهره؟!
القديس كيرلس الأورشليمي
v كان (التكلم بالألسنة) علامة تناسب الزمن… ليظهر أن إنجيل الله لا بد أن يجري خلال كل الألسنة في الأرض كلها. هذا الأمر حدث بكونه يحدث ويعبر.
v كان الروح القدس في ذلك الوقت يُعطي بهذه الطريقة، بطريقة منظورة لأن من يقبلوه ينطقون بألسنة كل الأمم، ليعني أن الكنيسة بين الأمم تتكلم بألسنة الجميع.
v بهذا التنوع للألسنة أعلنوا مقدمًا بطريقةٍ ما أن الكنيسة حتمًا ستمتد إلى كل الأمم.
v الآن قد بدأت قوة الحق تُعلن للكل، فإن واحدًا (الكنيسة) قد تقبل الروح القدس يتحدث بلغات كل الأمم. الآن في الكنيسة الوحدة عينها. كأن رجلاً واحدًا يتحدث بلغات كل الأمم. أي لسان لم تصل إليه المسيحية؟ إلى أي بعد لم تمتد إليه؟
القديس أغسطينوس
اعتقد أونوميوس – كما كان بعض اليهود يعتقدون – بأن لغة الله هي العبرية، كان يتحدث بها حتى قبل الخليقة، وأن ما سجله موسى النبي أو غيره من الأنبياء هو حديث حرفي لله بلغته العبرية. وقد رد عليه القديس غريغوريوس أسقف نيصص مفندًا هذا الرأي:
v أما أنك تظن بأن الله استخدم اللسان العبري عندما لم يكن يوجد من يسمع أو يفهم مثل هذا اللسان، أظن ليس من كائنٍ عاقلٍ يوافقك.
نقرأ في سفر الأعمال أن القوة الإلهية انقسمت إلى لغات كثيرة لهذا الهدف: ألا يفقد أحد ممن له لسان غريب المشاركة في الانتفاع. فإن كان الله تكلم بلسان بشري قبل الخليقة، فمن كان ينتفع باستخدامه هذا اللسان؟ لهذا كان يجب أن يكون حديثه متناسبًا مع قدرة السامعين، لأجل نفعهم…
فإن بولس الذي تبع المسيح عرف كيف يهيئ كلماته بما يناسب عادات سامعيه وتصرفاتهم، جاعلاً من نفسه لبنًا للرضع، وغذاء دسمًا للناضجين.
لكن حيث لا يوجد باعث للانتفاع باستخدام لغة كهذه، فإنك تعلن بأن الله كان يخطب بكلمات كهذه مع نفسه، حيث لا يوجد أحد يحتاج أن تُنقل إليه معلومات. هذه الفكرة هي تجديف وسخافة.
لهذا فإن الله لم يتكلم بلغة عبرانية ولا عبَّر عن نفسه بأي شكل من هذا بين الأمم، ولكن أية كلمات لله سجلها موسى أو الأنبياء هي إشارات إلى إرادة الله مشرقة بطريقة ما أو أخرى، من أجل فهم القديسين لها حسب قياس نعمة المشاركين فيها.
إذن تكلم موسى باللغة التي لوطنه التي تعلمها، لكنه نسب هذه الكلمات لله كما قلت مكررًا ذلك من أجل طفولة أولئك الذين يجلبهم إلى معرفة الله، حتى يقدم عرضًا واضحًا للإرادة الإلهية، ولكي يرد سامعيه بالأكثر إلى الطاعة حيث يهابون سلطان المتكلم.
غريغوريوس أسقف نيصص
v نزل لكي يلبس الرسل القوة ويعمدهم… هذه النعمة لم تكن جزئية بل هي قوته في كمالها.
v علمهم الروح القدس عدة لغات في وقت واحد لم يعرفوها قط طيلة حياتهم. إنها حكمة واسعة! إنها قوة إلهية!
v صارت وسيلة السقوط هي وسيلة الشفاء!
القديس كيرلس الأورشليمي
٣. موقف الحاضرين
“وكان يهود رجال أتقياء من كل أمة تحت السماء،
ساكنين في أورشليم”. [5]
“ساكنون في أورشليم“: غالبًا ما جاء هؤلاء الأتقياء إلى أورشليم ليحتفلوا بعيد الفصح، وقضوا فترة الخمسين يومًا حتى عيد الأسابيع أو عيد الحصاد أو الباكورات يجولون في أورشليم كمدينة الله المقدسة، ويتمتعون بالهيكل. هؤلاء إذ سمعوا صوتًا كصوت ريحٍ عاصف ملأ البيت، وقد ارتجت أصوات المسبحين اندفعوا من كل جانب نحو البيت ليتمتعوا بعمل الروح القدس في حياة التلاميذ، أو ليشهدوا مولد كنيسة العهد الجديد في أروع صورة، لذلك إذ “سمعوا نُخسوا في قلوبهم” [37].
يُفهم أن هؤلاء كانوا إما يهودًا وُلدوا في دولٍ مختلفة وقد جاءوا إلى أورشليم للاحتفال بالعيد، أو كانوا عابرين من بلد إلى آخر فقطنوا في أورشليم إلى حين، أو هم دخلاء من أصل أممي تهودوا وجاءوا إلى أورشليم لذات الهدف. هذا ولم تكن توجد مدينة تجارية في العالم في ذلك الحين لم يكن لليهود دور فيها، خاصة دول البحر الأبيض المتوسط. يقول فيلون اليهودي السكندري ويوسيفوس المؤرخ أنه لم يكن يوجد شعب على الأرض لم يقطن في وسطه اليهود.
“ساكنون“: التعبير اليوناني Kateikointes غالبًا ما يُستخدم عن سكنٍ ثابتٍ دائمٍ، لكنه أحيانًا يمكن استخدامه عن سكن مؤقت. هذا وغالبًا ما كان أغنياء اليهود القاطنين في بلاد أجنبية يشترون مسكنًا دائمًا في أورشليم علامة ارتباطهم بالهيكل واعتزازهم بجنسيتهم.
“أتقياء” تشير إلى أشخاص يسلكون بوقارٍ وحكمة، جادين في عبادتهم وطلب خلاص نفوسهم في مخافة الرب.
ربما يتساءل البعض كيف اجتمعت هذه الآلاف في بيتٍ واحدٍ؟ غالبًا ما أن جاءت الجماهير في الشوارع تستطلع هذا الخبر العجيب، حتى انطلق التلاميذ إلى مكانٍ عامٍ بجوار الهيكل.
“فلما صار هذا الصوت اجتمع الجمهور وتحيَّروا،
لأن كل واحدٍ كان يسمعهم يتكلّمون بلغته”. [6]
واضح أن هذا الحدث هزَّ قلوب اليهود والأتقياء القادمين من خارج أورشليم أكثر من اليهود الأصليين المقيمين في أورشليم. وقد سمع كل واحدٍ يتكلمون بلغته التي وُلد فيها.
“فبُهت الجميع وتعجبوا،
قائلين بعضهم لبعض:
أتُرى ليس جميع هؤلاء المتكلمين جليليّين؟” [7]
كان يوم العنصرة يومًا فريدًا لم تشهد مثله البشرية من قبل ولن يتكرر بنفس الصورة فيما بعد، فقد أعد الله أتقياء من خمسة عشر لسانًا مختلفين، جاءوا لكي يروا مشهدًا بديعًا ويسمعوا كلمة الله، كل منهم باللغة التي وُلد فيها ينطق بها جليليون لا يعرفون هذه اللغات، ويؤمنوا بحب الله الفائق ليرجعوا إلى العالم بكل لغاته المعروفة في ذلك الحين يشهدون للإيمان الحي.
جاء هؤلاء اليهود الأتقياء من دول مختلقة يربطهم أمر واحد وهو الحنين إلى مدينة أورشليم كمدينة الله والتمتع بهيكل سليمان كأقدس مكان في العالم، فعادوا إلى بلادهم وقد التهبت قلوبهم بالحنين إلى أورشليم العليا والهيكل السماوي الذي يضم كنيسة الله من كل الشعوب والأمم والألسنة، ويشهد الكل لأورشليم الداخلية ولهيكل الرب المُقام داخل النفس، ومجد ابنة الملك الذي في الداخل. عادوا يسبحون الله على عمله العجيب، فقد سمعوا جليليين ينطقون باليونانية واللاتينية والمصرية والعربية الخ. بلهجات كثيرة يسبحون بها الله ويمجدونه على عظم محبته.
“يهود رجال أتقياء من كل أمة“: كان هذا اللقب يخلعه يهود أورشليم على القادمين من كل أمة (من اخوتهم اليهود بالميلاد أو الدخلاء المتهودين) ليعَيدوا في أورشليم، وقد تحملوا مشاق السفر الذي كان مضنيًا ومكلفًا للغاية، لن يقوم به إلا من كان لهم روح التقوى؛ خاصة وأنهم كانوا يقدمون عطايا بسخاءٍ سواء لفقراء اليهود أو لخدام الهيكل.
“فكيف نسمع نحن كل واحد منّا لغته التي وُلد فيها؟” [8]
دُهشت الجماهير المتعلمة القادمة من بلادٍ كثيرة وتهللت حينما رأت جليليين غير متعلمين يتحدثون بكل لغات العالم، في حكمة وبطلاقة. بينما كان العبرانيون القاطنون في أورشليم متعصبين للغتهم، يستخفون بكل لغة أخرى، بل وكثير من القادة اليهود يحسبون لغتهم هي لغة الله والسمائيين، فلأول مرة في تاريخ أورشليم تُقدم الدعوة بلغات العالم للتعرف على الله والإيمان به والعبادة له.
بينما يرى البعض أن التلاميذ تحدثوا بلغات لم يتعلموها، يرى آخرون أنهم كانوا يتحدثون بلغتهم الأصلية، وكان المستمعون يسمعونهم كل واحدٍ حسب لغته. سواء كان الأمر هكذا أو كذلك فإن ما يبغيه هو أن باب الإيمان قد انفتح أمام الأمم وأن كل شخص يتعبد لله حسب اللغة التي وُلد فيها.
“فرتيون وماديّون وعيلاميّون والساكنون ما بين النهرين
واليهودية وكبدوكية وبنتس وآسيا”. [9]
المذكورون هنا هم يهود أو دخلاء متهودون “فرتيون وماديون وعيلاميون“: وهي مناطق شرقية سبق أن سبي فيها إسرائيل (العشرة أسباط)، وإذ انتهي السبي بقي بعضهم هناك.
فرتيون: أهل بارثيا Parthia القديمة، وهي تضم الجانب الشمالي من فارس الحديثة، تقع في جنوب شرقي بحر قزوين، ما بين نهر الفرات والخليج الفارسي على الجانب الشرقي من الاثنين. تكاد تكون مطابقة لمقاطعة خراسان الحالية، شمال شرقي إيران. سكانها من أصل سكيثي Scythian origin.
ذُكر الفرتّيون في كتابات داريوس هستاسبس، إذ قاموا بثورة على الفرس سنة 521 ق.م.، ولكن سرعان ما أُخمدت. حكمهم بعد ذلك إسكندر الأكبر، ثم خلفاؤه السلوقيّون. بدأت إمبراطورية الفرتيين العظمى حوالي ٢٥٦ ق.م. حين ثار أرساكس الأول Arsaces I ضد السلطة السريانية المقدونية، وبدأ بسلالة حاكمة جديدة في شخصه عرفت بالأرساكيدينArsaciadae، امتدت في العصور المسيحية عن الإمبراطورية الرومانية. دامت هذه الإمبراطورية لمدة حوالي ٤٠٠ عامًا. اتسم الفرتيون بمهارتهم الحربية كفرسان، يتظاهرون في الحرب بأنهم منسحبون، وإذا بهم وهم منسحبون يلقون سهامهم على العدو الذي خلفهم بمهارة عجيبة. دخلوا في صراع مع الدولة الرومانية في الشرق لمدة طويلة للاستيلاء على أرمينيا. وقد أوقفوا التوسّع الروماني شرقًا من سنة 64ق.م حتى سنة 226م، وبين سنتيّ 40 ق.م و 37 ق.م.
لغتهم فارسية. وكان قديمًا كلمتا Parthia وفارس Persia غالبًا ما تشيرا إلى دولة واحدة.
غزوا آسيا الصغرى وسوريا، وفتحوا أورشليم ونهبوها، ونصّبوا أنتيغونس آخر الحشمونيّين على عرشها.
حضر بعض اليهود من بارثيا في أورشليم في يوم العنصرة، وربّما حملوا بشارة الإنجيل معهم إلى بارثيا حين عادوا إليها.
في سنة 226م فتح الفرس بلادهم تحت قيادة أزداشير الساساني وقضوا على مملكتهم.
ماديون: كانت مادي دولة يحدّها نهر أركسيس وبحر قزوين شمالاً وشمال شرقي، وبارثيا وهركانية وصحراء فارس شرقًا، وفارس وسوسيانه جنوبًا، وأشور غربًا. تبلغ مساحتها حوالي 150 ألف ميلاً مربعًا، طولها من الشمال إلى الجنوب حوالي 600 ميلاً، وعرضها من الشرق إلى الغرب 250 ميلاً. كانت مقسّمة إلى ست مقاطعات، وفي أيام اليونان والرومان انقسمت إلى مقاطعتين وهما أتروباتينة ومادي الكبرى. الأولى في الشمال تضم الأرض الواقعة ما بين بحر قزوين والجبال شمال نهر زاغروس. أمّا مادي الكبرى فهي في الجنوب وشرق أتروباتينة. ومادي كانت بدورها تنقسم إلى مقاطعات صغيرة.
كانت مادي من أغنى مناطق آسيا، دٌعيت في الكتاب المقدس ماداي (تك ١٠: ٢). كان الماديّون شعب يتحدّث الهندو – أوربيّة. تحالف الملوك الأشوريّون مع قبائل مادي ابتداء من القرن التاسع ق.م.، وظلّوا على علاقة طيّبة بهم طيلة 200 عامًا. ثم تضافر الماديّون والسكّيثيّون معًا، متحالفين مع بابل فأسقطوا مملكة أشور سنة 612 ق.م.
سيطروا في القرنين السابع والسادس ق.م على إمبراطورية امتدّت من بلاد فارس إلى آسيا الصغرى، عاصمتها اكبتانة، حمدان الحديثة، شمال غربي بلاد فارس.
غالبًا ما يرتبط الماديون بالفارسيين؛ وكانوا تحت حكومة واحدة (٢ مل ١٧: ٦؛ ١٨: ١١؛ إس ١: ٣، ١٤، ١٨-١٩؛ إر ٢٥: ٢٥؛ را ٥: ٢٨؛ ٦: ٨؛ ٨: ٢٠؛ ٩: ١). ظهر تعبير “مادي وفارس” حتى دعي اليونان حربهم الفارسيّة العظيمة بالحرب مع المادّيين.
عيلاميون: غالبًا ما يُدعى أهل هذه المنطقة حاليًا فارس، وكان الماديون والعيلاميون شعبين متجاورين يسكنان وراء دجلة.
العيلاميون هم من نسل عيلام بن شيث (تك ١٠: ٢٢). كانوا أمّة منعزلة، شاركوا السومريّين حضاريًا في المدن القديمة والكتابة. التحق ملكهم كدرلعومر بالحملة على وادي الأردن، وتلقّي الهزيمة على يد إبراهيم أب الآباء. وغالبًا ما كان العيلاميّون تحت سيطرة جيرانهم في الغرب. وقد أرسل الأشوريّون بعض مواطني السامرة إلى عيلام، وأرسلوا عيلاميّين إلى فلسطين ليحلّوا محل أولئك.
صارت عيلام فيما بعد جزءً من الإمبراطورية الفارسيّة، لغتهم بلا شك كانت فارسية. عاصمتها شوشان، يدعوها اليونان سوسا Susa. قيل عن دانيال أنه قطن في شوشان التي هي في مقاطعة عيلام (دا ٨: ٢)، لهذا يُدعى العيلاميّون بالشوشانيّين. لايزال سكانها يدَّعون بأن قبر دانيال النبي لديهم.
عند عودة اليهود من السبي كان بقايا هؤلاء الذين تهجّروا إلى فلسطين يقاومون فكرة إعادة بناء الهيكل (عز4: 9).
دعاها اليونانيون والرومان عيلاميس Elymias، والآن تدعى خوزستان Kusustan، تحدها مملكة فارس في الشرق، وأشور وميديا في الشمال، وبابل في الغرب والخليج الفارسي في الجنوب.
كان العيلاميون رجال حرب يجيدون ضرب القوس (إش ٢٢: ٦؛ إر ٤٩: ٣٥). فكانت عيلام مركز إمبرواطورية قديمة. وحوالي سنة 200 ق.م. استعاد العيلاميّون قوّتهم، وتسلّط بعض ملوكهم على مدن في بابل.
“الساكنون ما بين النهرين” أو يهود بابل، هؤلاء لم يريدوا الرجوع من السبي البابلي، بل استوطنوا هناك، وصارت له مدرسة لاهوتية خاصة اتسمت بغزارة العلم، وكان لهم تأثيرهم القوي على شمال الفرات، فتهوَّد كثيرون منهم. تقع ما بين نهري التيجر والفرات (في سهل سوريا) يحدها شرقًا أشور، وغربًا سوريا، وشمالاً أرمينيا، وجنوبًا بابل Babylonia. كان اليهود قديمًا يدعونها فدان آرام، والآن يدعوها الآسيويون Moverannhar، أي مدينة ما وراء النهر.
وجدت في هذه المنطقة أماكن هامة وردت في الكتاب المقدس مثل أور الكلدانيين مكان مولد إبراهيم (تك ١١: ٢٧-٢٨)، وحاران حيث توقف تارح فيها وهناك مات (تك ١١: ٣١-٣٢)، وكركميش (٢ أي ٣٥: ٢٠)، وهينع (٢ مل ١٩: ١٣)، وسفروايم (٢ مل ١٧: ٢٤) وهي منطقة متسعة مسطحة وخصبة. لغة سكانها يمكن أن تكون السورية مع خليط من الكلدانية.
اليهودية: يرى البعض أنه يقصد هنا Iouaian ويعني بها اليهود الساكنين في ما بين النهرين. لكن كثيرين يرون إنها اليهودية حيث كانت لهجتهم مختلفة عن لهجة الجليليين.
“الساكنون في كبدوكية“: استوطن بعض اليهود هناك ونالوا حق المواطنة. وهي أكبر ولايات آسيا الصغرى (تركيا)، تقع في الشرق، تشمل كل المنطقة التي تقع بين جبل طاروس Taurus (تعني برج النور) وبحر Euxine. تقع في جنوب بنطس أو بنتس، وفي غرب الفرات وشمال سوريا وكيليكيّة وشرق غلاطية. وهي سهل مرتفع تخترقه سلاسل من الجبال. جعلها طباريوس، عند وفاة الملك أرخيلاوس عام 17م مقاطعة رومانيّة. ووحدها فسباسيان عام 70م مع أرمينيا الصغرى، فصارت من أكبر ولايات الحدود.
لغتهم التي كانوا يستخدمونها لازالت غير معروفة. يُحتمل أن تكون لهجة مختلطة من بين اليونانية والسريانية مع مزيج من جيرانهم مواطني ليقونية Lycoonians (أع ١٤: ١١).
كان اليونانيون يشيرون إلى كبدوكية من بين ثلاث مناطق يرون أنها أشر المناطق (كبدوكية، كريت، كيليكية). لكن بعد قبولها للإيمان المسيحي خرجَّت لنا شخصيات رائعة مثل القديس غريغوريوس أسقف نيصص والقديس باسيليوس الكبير.
كذلك في آسيا، خاصة على الشواطئ الغربية، كان لليهود جالية من أكبر الجاليات، ولهم مدرسة لها تأثيرها، لكنهم كانوا منحلين، يقول عنهم سفر الرؤيا مخاطبًا أسقف فيلادلفيا: “هأنذا أجعل الذين من مجمع الشيطان، من القائلين إنهم يهود وليسوا يهودا، بل يكذبون هأنذا أصيرهم بأتون ويسجدون أما رجليك، ويعرفون أني أنا أحببتك” (رؤ 3 :9). كذلك يهود بمفيلية وفريجية وغلاطية وبنتس، كانت الجاليات اليهودية لها تأثيرها وهوَّدت كثيرين.
بنتس: اسم يوناني ولاتيني معناه “البحر”، وهو الاسم القديم للبحر الأسود وكذلك الأراضي الواقعة على طول ساحله الجنوبي. كانت مملكة لها سلطانها ونفوذها القوي قديمًا، وهي في الأصل جزء من كبدوكية، يحدها في الشرق خولكس Colchis، وفي الغرب نهرHalys، والشمال البحر الأسود، والجنوب أرمينيا الصغرى. كان ملكها المشهور هو مثرادتس Mithridates استطاع أخيرًا الرومان أن يخضعوه.
بنتس هي وطن أكيلا (أع2: 19؛ 18: 2؛ 1 بط 1: 1).
آسيا: يقصد بها آسيا الصغرى، وهي جزء من تركيا في آسيا، تُدعى حاليًا ناتوليا Natolia.
“وفرّيجية وبمفيلية ومصر
ونواحي ليبية التي نحو القَيْروان
والرومانيون المستوطنون يهود ودخلاء”. [10]
فرّيجيّة: قطاع كبير من آسيا الصغرى (تركيا)، اختلفت تخومها عبر الأزمنة. وبعد أن اٌقتطعت منها غلاطية أصبحت حدودها هكذا: شمالها بيثينيّة، وشرقها ليكأونيّة وغلاطية، وجنوبها ليكيّة وبيسيديّة وإيسوريّة، وغربها كاريا وليديا وميسيّا. المنطقة سهل مرتفع بين سلسلة جبال طوروس جنوبًا وأولمبوس شمالاً وتموس غربًا.
شعبها يتحدّث الهندو – أوربيّّة. تأسّست مملكتهم في أوائل الألف الأوّل ق.م بعد انهيار الحثّيّين. وفي القرن التاسع ق.م اجتاح الكيمريّون فرّيجيّة التي صارت فيما بعد جزءً من مملكة الليديّين.
تُدعى في الوثائق الأشوريّة والعهد القديم “ماشك”، كان شعبها محاربًا، وكانوا يتاجرون في النحاس والعبيد (حز 32: 26؛ 38: 2-3؛ 39: 1؛ 27: 13؛ 38؛ 39).
كثير من حكّامها دعوا “ميداس”، ولعلّ هذا الاسم كان لقبًا خاصًا بحكّامهم، مثل فرعون مصر. دُفن بعض حكّامها في قبور فخمة حول العاصمة غورديوم التي اكتشفت حديثًا.
في عام 116 ق.م. صارت جزءً من آسيا الرومانيّة، ومنذ 25 ق.م. اقتطفت منها القسم الشرقي المدعو “غلاطيّة”.
ذَكر العهد الجديد بعض مدنها مثل لاودكيّة وكولوسي وهيرابوليس وأنطاكيّة بيسيديّة. في ذلك الحين لم تعد فرّيجيّة مقاطعة، بل صارت اسمًا خاصًا بمدينة فرّّيجيّة، وقد اجتاز الرسول بولس في فرّيجيّة في رحلتيه الثانيّة والثالثة (أع16: 6؛ 18: 23).
بمفيلية: اسمها القديم ناتولياNatolia ، حاليًا تدعى Caramania، ما بين ليكية Lyciaوكيليكية، بالقرب من البحر المتوسط. وهي منطقة على الساحل الجنوبي الغربي من آسيا الصغرى (تركيا)، طولها 80 ميلاً وعرضها 30 ميلاً، تخترقها ثلاثة أنهار هي الكتاركتس وألسترس والأورينيدون. كانت عاصمتها برجة التي زارها الرسول بولس (أع13: 13؛ 14: 24؛ 27: 5)، وميناءها أتاليه (إضالية أع24: 25). أضاف إليها كلوديوس بيسيديّة وليكيّة.
يهود مصر: كانت الجالية اليهودية في مصر من أقوى الجاليات المصرية، وأهم يهود الشتات بلا نزاع. قاموا بترجمة العهد القديم إلى اليونانية، وتُعرف بالترجمة السبعينية، التي ساعدت على نشر الإيمان المسيحي بين الأمم واليهود المتكلّمين باليونانيّة. كما يذكر التقليد أنها تمّت في زمن بطليموس الثاني أو فيلادلفس (285-246 ق.م).
كان عددهم مليونًا حسب ما ورد في فيلون اليهودي السكندري الجنس الذي اتسمت فلسفته وتفاسيره بالطابع الأفلاطوني. يخبرنا فيلون (حوالي 20 ق.م. – حوالي 50 م.) بأنه وُجد في الإسكندرية حي يهودي يقتطع قسمين من الخمسة أقسام التي للمدينة. في حوالي عام 38 عانى اليهود من اضطهاد مرعب من مواطني الإسكندرية الوثنيين، مما اضطر فيلون أن يذهب إلى روما عام 39 ق. م. ليرفع شكواه أمام الإمبراطور كاليجولا Caligula تُدعى Legatio ad Caium. وُجدت أيضًا جالية يهودية في ذلك الحين في منطقة الفيوم لها تأثيرها القوي.
هذا وكان أبولس يهوديًا إسكندري الجنس، الوارد في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، الذي بسبب بلاغته وفلسفته مع حرارة روحه وكرازته تكوَّن فريق نسب نفسه إليه من بين الأربعة فرق هناك.
ليبيا: كان اليونان بوجه عام يدعونها أفريقيا، لكن هنا يُقصد بها القطاع الشمالي عند قيروان. أما عن اليهود الذين في ليبيا، فإننا نعتز ببعضهم مثل القديس مرقس الرسول الكارز في مصر وليبيا، وقد وُلد هناك، لكن والديه اضطرا إلى الذهاب إلى أورشليم ومعهما يوحنا مرقس بسبب هجوم حدث لهم. وأيضًا لوكيوس النبي في إنطاكية. وكان لليهود الليبيين مجمع خاص بهم في أورشليم.
قيروان: على الساحل الشمالي من أفريقيا على البحر المتوسط تقع جنوب جزيرة كريت، وعلى بعد ٥٠٠ ميلاً غرب الإسكندرية. كانت أيضًا تُدعى بنتابوليس أي الخمس مدن (الغربية). نال سمعان القيرواني بركة حمل الصليب في طريق السيد المسيح للصلب.
يهود روما: كانوا أصلاً من ضمن الأسرى الذين أسرهم بومبي من أورشليم عام 63 ق.م، وقد تحرروا بعد ذلك وكوَّنوا مجمعًا بعددٍ متواضعٍ. لكن نمت الجالية، وصار لها أثرها حتى على رجال الحكم. غير أن شوكتهم ضعفت بعد أن طردهم كلوديوس، ثم عادوا وكوًنوا جالية كانت ممثلة في أورشليم تُدعى الليبرتنيين. يقول يوسيفوس أنه وُجد في أيامه ثمانية مجامع يهودية في روما. هذا وكثيرًا ما أشار الكتَّاب الرومان إلى اليهود. وإذ كانوا مصممين على تطبيق الشريعة، وحفظ يوم السبت، وعدم الشركة في الطقوس الوثنية التي للرومان، فإنهم إذ تحرروا انسحبوا ليعيشوا معًا عبر التيبر من جهة روما. وهكذا وُجدت جالية كولونية يهودية هناك.
“كرّيتيون وعرب نسمعهم يتكلّمون بألسنتنا بعظائم اللَّه”. [11]
كريتيون: سكان جزيرة كريت، وهي جزيرة ضخمة في الشرق أو الجانب الشرقي من البحر المتوسط، الآن تُدعى Candia، طولها حوالي ٢٠٠ ميلاً وعرضها ٥٠ ميلاً، تبعد حوالي ٥٠٠ ميلاً جنوب غرب القسطنطينية، ونفس المسافة غرب سوريا. وُجدت جالية يهود كريت، وهي أساس تكوين الكنيسة التي أقام عليها الرسول بولس تيطس أسقفًا.
هذا وكانت لهم جالية كبيرة وخطيرة في قبرص، قامت بثورة أيام حكم تراجان، وذُبح مائتان وأربعون ألفا من مواطني قبرص ذكرها المؤرخ ديو كاسيو، لكن يهود قبرص عادوا وقبلوا الإيمان المسيحي، وكان لهم دورهم الفعال في نشر الإنجيل. من بينهم برنابا وهو لاوي يهودي قبرصي الجنسية، خال القديس مرقس الرسول.
عرب: سكان العربية، وهي منطقة مشهورة في آسيا يحدها البحر الأحمر غربًا، والخليج الفارسي شرقًا، واليهودية شمالاً، والمحيط الهندي جنوبًا. لغتهم هي العربية.
وكان ملك العرب الحارث (2 كو 11: 32) سواء شرق الأردن أو جنوبه متحالفًا مع اليهود، عاصمته بترا، أقام إمبراطورية. تزوج هيرودس انتيباس رئيس ربع الجليل بنت أرتياس العربي ثم طلقها وتزوج هيروديا امرأة أخيه. وقامت حرب بين هيرودس وأرتياس، انتصر فيها الأخير، وإذ لجأ هيرودس إلى روما أرسلت فايتيليوس لتأديب الحارث، لكن موت الإمبراطور طيباريوس أنهى الحملة، وكان ذلك نحو 39 أو 40 م. أثناء حكم كاليجولا، أو ربما في 36 م. استولى الحارث على دمشق، وأقام فيها نائبًا عنه. لكن أرسل أوغسطس قيصر بعثة إلى بلاد العرب هُزمت أولاً، ثم عادت فزحفت عليها روما بجيش عام 70 م هزمت العرب واستولت على عدن.
“عظائم الله“: كان الرسل يتحدثون بلغات الحاضرين عن أعمال الله العظيمة مثل تجسد الكلمة، ومعجزاته العجيبة، وعمل الخلاص الفائق من صلبٍ وقيامةٍ وصعودٍ، وخطة الله لخلاص البشرية.
لقد كانت أورشليم أشبه بمركز لا للشعب اليهودي وحده بل للعالم كله، حيث حضر يهود ودخلاء أتقياء من كل العالم، فكانت لحظات حلول الروح القدس أو ذاك اليوم هو يوم غرس بذار الإيمان في تربة الأرض كلها في فترة قصيرة. فقد عادت هذه الجماهير التي في شتات الدول تشهد لعظائم الله.
v إنه يدعو ممالك العالم كله: “يا ممالك الأرض سبحوا الله، غنوا للرب” (مز 68: 32). يقول: كل شخص في العالم ينال نور معرفة الله ويقدم تسبحة مترنمًا بوقارٍ.
الأب ثيؤدورت أسقف قورش
“فتحيّر الجميع وارتابوا، قائلين بعضهم لبعض:
ما عسى أن يكون هذا”. [12]
تطلع الجادون في أمر خلاصهم إلى ما حدث فاندهشوا وتحيروا، إذ لم يجدوا أمامهم تفسيرًا بشريًا، لكن لم تحمل هذه الحيرة ارتيابًا، بل رغبة صادقة في البحث عن ما وراء هذا الحدث. صار الكل في حيرة مما حدث؛ كانوا في حالة دهش. بدأ كل واحد يسأل الآخر: وما هو هدف هذا؟ إنه منظر له تقديره، فهل هؤلاء الرجال مرسلون من السماء؟ ألعلهم مثل العليقة الملتهبة نارًا التي رآها موسى النبي؟
“وكان آخرون يستهزئون قائلين:
أنهم قد امتلأوا سُلافة”. [13]
تطلع آخرون، غالبًا اليهود القاطنون في أورشليم واليهودية، خاصة رؤساء الكهنة والفريسيون المقاومون لروح الله القدوس، إلى ما حدث بنوعٍ من السخرية، إذ حسبوهم سكرى.
لقد حسبوا أن هؤلاء الرجال قد بالغوا في شرب الخمر يوم العيد، ولم يفكروا في جدية هل كثرة شرب الخمر تعلم الإنسان أن يتحدث بلغات جديدة حقيقية لم يسبق له أن تعلمها. هؤلاء الذين سبقوا فإتهموا السيد المسيح أنه ببعلزبول رئيس الشياطين يخرج الشياطين، الآن يتهمون تلاميذه المملوءين من الروح القدس أنهم سكرى.
يقول د ماكللاند McLelland بأنهم إذ أرادوا أن يهربوا من إدراكهم لجهلهم تبنوا في سخافة نظرية أن الإسراف في شرب الخمر يمكن أن يعلم اللغات.
v في استهزائهم تكلموا بالحق، لأنهم في الحقيقة كانت الخمر الجديدة هي نعمة العهد الجديد. هذا الخمر الجديد هو من الكرمة الروحية.
القديس كيرلس الأورشليمي
يرى بعض الدارسين أن البيت لم يسعْ تلك الأعداد الضخمة القادمة من كل أورشليم، فانطلق الكل إلى منطقة الهيكل، بجوار الدار، وصار نوع من الاضطراب نتيجة كثرة الوافدين، عجز الحاضرون عن تقديم تفسيرٍ لهذه الظاهرة الفريدة في تاريخ العالم كله.
٤. خطاب بطرس للشعب
“فوقف بطرس مع الأحد عشر ورفع صوته، وقال لهم:
أيها الرجال اليهود والساكنون في أورشليم أجمعون،
ليكن هذا معلومًا عندكم وأصغوا إلى كلامي”. [14]
يرى البعض أن الجميع تحدثوا، كل في دوره مبتدئين بالقديس بطرس.
وقف القديس بطرس ليؤكد للحاضرين أنهم ليسوا بسكرى، وأنه قادر أن يكشف الحق الإلهي من خلال النبوات التي بين أيديهم.
لم يوجه حديثه إلى طبقة معينة بل إلى كل الساكنين في أورشليم سواء المقيمين دومًا فيها أو الذين جاءوا يقطنون فيها من أجل العيد. فالحديث هنا موجه إلى القيادات الدينية مع الشعب، لأن عطية الخلاص هي لكل نفسٍ بشرية.
إذ فحص بعض الدارسين هذا الخطاب وجدوه يحمل لغة الرسول بطرس واصطلاحاته في تطابق مع رسالته الأولى، مما يكشف عن أن القديس لوقا نقل الخطاب كما هو، فالناقل أمين في نقله.
هذا ومن جانب آخر فإن معالجة القديس بطرس للنبوات التي استشهد بها مع بدء ميلاد الكنيسة يستحيل أن تكون من فكر رجلٍ جليليٍ، بل تحتاج إلى استنارة الروح القدس لفهم الكتب المقدسة. إنها عطية الروح القدس للتلاميذ والرسل أن يستخدموا النبوات ويفسرونها ويطبقونها على شخص السيد المسيح.
جاء خطاب القديس بطرس في ثلاثة أقسام:
القسم الأول [14- 21] تفسير الحدث نفسه، وهو عطية الروح القدس.
القسم الثاني [22- 28] الشهادة ليسوع الناصري أنه المخلص، خلال القوات والآيات التي صنعها.
القسم الثالث [29-36] قيامة السيد المسيح وصعوده وإرساله الروح القدس هو تحقيق للنبوات، وشهادة أنه الرب المسيح.
من العجيب أن بطرس الرسولي الجليلي كان يخاطب أناسًا قادمين من خمسة عشر دولة، لكل دولة لسانها الخاص مثل اليونانيين والمصريين والفارسيين والعرب، ولم يكن ممكنًا لهم أن يفهموا الآرامية العامية التي لأهل الجليل. فما تكلم به القديس سمعه كل واحد حسب لغته التي وُلد فيها. فإن كان القديس قد تحدث بالآرامية العامية أو بلغة بشريةٍ جديدة إنما ما يؤكده سفر الأعمال أن كل واحد فهم ما قاله، وأن نحو ثلاثة آلاف آمنوا واعترفوا واعتمدوا وتمتعوا بعمل الخلاص، الأمر الذي ما كان يمكن أن يحدث هذا لو لم يدركوا كلمات الرسول ويتمتعوا بفهمها، وما لم يهبهم الروح القدس استنارة ويجتذبهم إلى الإيمان. عمل الروح القدس في الرسول بطرس كما في قلوب السامعين.
يحمل تعبير “رفع صوته” الحديث بروح القوة واليقين، بلا خوف ولا تردد ولا تشكك. فإنه لم يقف في ضعفٍ محاولاً تقديم براهين على صدق إيمانه، إنما حمل قوة الشهادة الجريئة والجذابة للنفوس بالروح القدس. لم يأخذ موقف المتوسل أو مجرد المدافع، بل حامل قوة الروح!
“لأن هؤلاء ليسوا سكارى كما أنتم تظنون،
لأنها الساعة الثالثة من النهار”. [15]
ظنهم البعض أنهم سكارى، ربما لأنهم لاحظوا عليهم الفرح الشديد، وكأنهم في حالة دهش إلهي. أما دفاع القديس بطرس بأنها “الساعة الثالثة من النهار” فيعني إنه ميعاد مبكر، إذ يندر أن يأكل يهودي أو يشرب في هذه الساعة، حتى وإن كان مدمنًا للشرب، لأنها كانت ساعة صلاة، فيُحسب ذلك جريمة كبرى. هذا وكان الوقت غير مناسب لأنه يوم عيد الحصاد أو عيد الباكورات حيث كان اليهود في أورشليم مشغولين بتقديم الباكورات والذبائح وممارسة الصلوات حتى تمام الساعة العاشرة صباحًا.
v لكن آخرون سخروا قائلين: “إنهم سكرى“.
في استهزائهم تكلموا بالحق، لأن في الحقيقة كانت الخمر جديدة، هي نعمة العهد الجديد. هذا الخمر الجديد هو من الكرمة الروحية… كانت قبلاً تحمل هذا الثمر في الأنبياء، والآن قد انبتت برعمًا في العهد الجديد.
فإنه حتى في الأمور الحسّية نجد الكرمة تبقى كما هي، لكنها تحمل ثمارًا جديدة في موسمها، هكذا الروح هو بنفسه يستمر، فكما عمل في الأنبياء يعمل الآن أعمالاً جديدة وعجيبة.
بالرغم من أن نعمته قد قُدمت للآباء أيضًا، لكن هنا تأتي بغزارة، لأنه كان قبلاً فقط (نصيب) شركة من الروح القدس، أما الآن فاعتمدوا فيه تمامًا.
بطرس الذي له الروح القدس إذ عرف ما قد ناله يقول (موبخًا): يا رجال إسرائيل أنتم الذين يبشركم يوئيل لكنكم لا تعرفون الأمور المكتوبة “لأن هؤلاء ليسوا سكارى كما أنتم تظنون“.
إنهم سكارى لكنهم ليس كما أنتم تظنون، بل حسبما هو مكتوب: “يسكرون بدسم بيتك، ويشربون بملذاتك” (مز 8:36.).
إنهم سكارى بمسكرٍ سامٍ مميتٍ للخطية، وواهب حياة للقلب. مسكرٍ مضادٍ للسُكْرْ الخاص بالجسد. لأن هذا الأخير يسبب نسيانًا، حتى بالنسبة لما كان الإنسان يعرفه، أما هذا فيمنح معرفةً لما لم يكن يعرفه الإنسان.
إنهم سكرى، لأنهم شربوا خمر الكرمة الروحية القائلة: “أنا الكرمة وأنتم الأغصان”” (يو 5:15).
لكن إن كنتم لا تقتنعون، افهموا ما أخبركم به من ذات الوقت الذي نحن فيه، أنها الساعة الثالثة من النهار (أع 25:2، 5).
فكما يروي لنا مرقس قد صُلب في الساعة الثالثة، والآن الساعة الثالثة يرسل لنا فيها نعمته. لأن نعمته ليست شيئًا بخلاف نعمة الروح. إنما ذاك الذي صُلب وقتئذ هو أيضًا يهب الموعد…
وإن أردتم شهادة بذلك، أصغوا إلى ما قيل بيوئيل النبي: “يقول اللَّه ويكون في الأيام الأخيرة إني أسكب من روحي” (أع 18:2)، كلمة “أسكب” تحمل غنى العطية، إذ لا يُعطي اللَّه روحه بمقياس… “أسكب من روحي على كل بشر فيتنبأ بنوكم وبناتكم”، وبعد ذلك يقول: “وعلى عبيدي أيضًا وإمائي أسكب من روحي في تلك الأيام فيتنبأون” (أع 19:2).
لا يبالي الروح القدس بالأشخاص، إذ لا يطلب كرامات بل تقوى الروح. لا ينتفخ الأغبياء، ولا يخذل الفقراء، بل ليستعد كل واحد لتقبل النعمة السماوية.
القديس كيرلس الأورشليمي
v تأسيس الكنيسة هو خلق جديد للعالم، وكما قال إشعياء النبي (إش 17:65) هي خلق سماء جديدة، وكما قال بولس (كو 5:2 إيمانكم في المسيح هو القوة).
خُلقت أرض جديدة تشرب المطر النازل عليها، وخُلق إنسان آخر تجدد حسب صورة خالقه بالميلاد الجديد من أعلى. وُوجد نور جديد يقول عنه المسيح: “أنتم نور العالم” (مت 14:5)، “تضيئون بينهم كأنوار في العالم” (في 15:2)، لذلك تُضئ كواكب كثيرة في قوة الإيمان. ليست الأعداد الكبيرة من الكواكب التي سماها اللّه هي العجائب الوحيدة في الخليقة. يقول كلمة اللّه إن أسماءهم مكتوبة في السماء. لقد سمعت خالق العالم الجديد يقول لكواكبه: “افرحوا بالأحرى أن أسماءكم كُتبت في السماوات” (لو 20:10). وبالإضافة إلى هذه الكواكب التي خلقها السيد المسيح توجد شموس تُنير العالم بأعمالها الطيبة. ويقول صانع هذه الشموس: “فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الصالحة، ويمجدوا أباكم الذي في السماوات” (مت 16:5). ثم “حينئذ يضئ الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم” (مت 43:13).
القديس غريغوريوس النيسي
يرى العلامة ترتليان أنه مقابل الصلاة الداخلية الدائمة التي لا يحدها زمن توجد صلوات محددة الزمن عامة وهي الثالثة والسادسة والتاسعة كما جاء في الكتاب المقدس. وقد حل الروح القدس في وقت الساعة الثالثة (9 ص)، وشاهد بطرس الرسول الملاءة النازلة من السماء وقت الساعة السادسة (أع 10: 9)؛ ودخل مع القديس يوحنا إلى الهيكل وقت الساعة التاسعة. إذ ينتزع الإنسان نفسه من عمله في هذه الساعات للصلاة. وقد كان دانيال يصلى ثلاث مرات يوميًا حسب الطقس اليهودي (دا 6: 10)، هذا بجانب الصلاة عند الشروق وبالليل وعند الأكل، وعند دخول الحمام… علامة أننا نعطي السماويات أولوية عن الأرضيات.
“بل هذا ما قيل بيوئيل النبي”. [16]
ما يحدث ليس مصادفة، لكن تنبأ عنه يوئيل منذ قرون، وهو حدث مرتبط بالعصر المسياني، وكأنه يقول لهم: يلزمكم أن تراجعوا أنفسكم، فإن الذي قتلتموه هو المسيح موضوع نبوات الأنبياء.
v بخصوص الاتهام (أنهم سكرى) برأ نفسه من هذا ببرهان من عنده، أما عن النعمة فإنه استعان بالنبي كشاهد. “أسكب من روحي على كل جسدٍ”. وُهب للبعض خلال أحلام، ولآخرين انسكب عليهم علانية، فإنه بالحق بالأحلام رأى الأنبياء ونالوا إعلانات.
القديس يوحنا الذهبي الفم
يقول اللَّه: ويكون في الأيام الأخيرة،
أني أسكب من روحي على كل بشر،
فيتنبأ بنوكم وبناتكم،
ويرى شبابكم رؤى،
ويحلم شيوخكم أحلامًا”. [17]
بقوله: “يكون في الأيام الأخيرة” يعلن أن ما حدث هو بداية النهاية، حيث تدخل البشرية مرحلة انتظار مجيء المسيح الأخير وتترقب يوم الرب بفرحٍ عظيمٍ. هذا وقد عرف اليهود هذا الاصطلاح أنه خاص بعصر المسيا الذي طالما ترقبه اليهود عبر الأجيال (إش ٢: ٢؛ هو ٣: ٥). عندما تنبأ يعقوب لأبنائه عما سيحدث في العصر المسياني دعا هذا العصر “آخر الأيام” (تك ٤٩: ١)، وعندما تحدث ميخا النبي عن كنيسة العهد الجديد كجبل بيت الرب قال: “وفي آخر الأيام” (مي ٤: ١)، وأيضًا إشعياء النبي (٢: ٢).
هذا وتعبير “آخر الأيام” يكشف عن حلول “ملء الزمان” الذي فيه أرسل الآب ابنه مولودًا من امرأة مولودًا تحت الناموس (غل ٤: ٤)، أو “ملء الأزمنة” حيث يجمع الله بتدبيره كل شيء في المسيح ما في السماوات وما على الأرض (أف ١: ١٠). ويرى البعض إنه ملء الزمان الذي فيه يُنزع الملكوت من إسرائيل القديم، ويُنقض الهيكل ليُسلم الملكوت لإسرائيل الجديد، ويُقام الهيكل الجديد في قلوب المؤمنين.
حلت الأيام الأخيرة حيث يبطل الكهنوت اللاوي ليُعلن كهنوت المسيح الذي على طقس ملكي صادق (مز ١١٠: ٤؛ عب ٥: ٦؛ ٦: ٢٠)، هذا الذي ليس من نسل إبراهيم، ولا يعرف أحد أباه وأمه… ففي المسيح يسوع تنفتح الدعوة للعمل خلال المجهولين!
يرى البعض أن تاريخ الخلاص يحوي العصور التالية:
v الإنسان في الفردوس.
v عصر الآباء.
v عصر القضاة.
v عصر الملوك.
v عصر الأنبياء (خاصة أثناء السبي وبعده).
v العصر الأخير، أو الأيام الأخيرة: العصر المسياني حتى مجيء الرب الأخير أو يوم الرب. وقد استخدم الرب نفسه هذا الاصطلاح (يو ٦: ٣٩-٤٠، ٤٤-٤٥؛ ١١: ٢٤؛ ١٢: ٤٨). كما استخدمه الرسل (١بط ١: ٢٠؛ ٢بط ٣: ٣، ١يو ٢: ١٨؛ يهوذا ١٨؛ عب ١: ٢).
“على كل بشر” إذ لم يعد عمل الروح القدس قاصرًا على اليهود، وإنما يعمل أيضًا في الأمم. يعمل في أولاد الله من الجنسين لحساب ملكوت الله. يقول الربي تانخوم Rabbi Tanchum: [عندما وضع موسى يده على يشوع قال: يقول الله المبارك “في وقت النص (العهد) القديم تنبأ كل نبي بمفرده، لكن في أيام المسيا سيصير كل إسرائيل أنبياء”.]
لا تُفهم كلمة “يتنبأ” هنا بمعنى أنهم يخبرون بأحداث مستقبلية تُعلن لهم، وإنما يعلمون ويخبرون بالحق الإلهي خاصة خلاص المسيح، وما يعده للمؤمنين من أمجاد سماوية.
الرؤى والأحلام: كان الله قديمًا يعلن عن حضوره الإلهي وإرادته الإلهية خلال وسيلتين: إما عن طريق الرمز مثل ظهور نارٍ، كما حدث مع موسى على جبل حوريب، وأيضًا مع أبينا إبراهيم (تك ٢١: ١٧)، وإيليا النبي (١ مل ١٩: ١١-١٢). وأحيانًا بظهور ملائكة كما في عصر البطاركة حيث نجد أمثلة كثيرة في سفر التكوين. أما الوسيلة الأخرى فهي الأحلامكما حدث مع يوسف (تك ٣٧: ٥، ٩)، ويعقوب (تك ٢٨: ١ الخ؛ ٤٦: ٢ الخ)، ومع فرعون (تك ٤١: ١-٧)، ونبوخذنصر (دا ٤: ١٠-١٧).
ماذا يعني بالقول: “بنوكم وبناتكم“؟ كان حلول الروح القدس في العهد القديم مؤقتًا، يحل على فئة معينة مثل الكهنة وهم من سبط خاص (لاوي)، والملوك (من سبط يهوذا)، والأنبياء وهم أفراد معينون يظهرون بدعوةٍ إلهية. أما في العهد الجديد فصار الروح القدس هبة إلهية مُقدمة لكل المؤمنين، حيث يسكن في المؤمن ليهب نعم خاصة متباينة. حتى العمل القيادي الكنسي مثل الرسل والتلاميذ ثم الأساقفة والقسوس والشمامسة فهو ليس قاصرًا على سبطٍ ما أو عائلةٍ ما، لكن الرب اختار تلاميذه من بين عامة الشعب ليقيم من المزدرى وغير الموجود من يُبطل بهم الموجود (١ كو ١: ٨).
v سبق وقال أنه قد سكب الروح علينا، إذ ليس من طبيعة الخليقة ولا الأشياء المصنوعة أن تعطي الروح بسلطان، بل هو عطية اللََّه. فتتقدّس المخلوقات بواسطة الروح، أما الابن فحيث أنه لا يتقدّس بواسطة الروح بل بالأحرى هو الذي يعطي الروح للجميع، لذلك ليس مخلوقًا، بل هو ابن الآب الحقيقي.
البابا أثناسيوس الرسولي
v كان الروح يعمل في نفوسهم (الأنبياء) للتنبؤ والتكلّم حينما كانت تدعو الحاجة أن يُخبروا العالم بأحداث عظيمة. لأن الأنبياء لم يكونوا يتكلّمون في كل وقتٍ، بل حينما يشاء الروح الذي فيهم فقط، إلا أن القوّة الإلهية كانت معهم دائمًا. فإن كان الروح القدس قد انسكب بهذا المقدار في ذلك العهد الذي هو ظل لعهد النعمة، كم بالأحرى ينسكب في العهد الجديد، عهد الصليب ومجيء المسيح الذي حدث فيه انسكاب الروح والامتلاء به؟!
القديس مقاريوس الكبير
“وعلى عبيدي أيضًا وإيمائي،
أسكب من روحي في تلك الأيام فيتنبأون”. [18]
ما ورد هنا بدأ يتحقق في عصر الرسل خلال عمل السيد المسيح الذي بدأ بمواهب الروح التي لم تعد محصورة في سبطي لاوي (الكهنوت كميراثٍ) ويهوذا (الملوك)، وإنما الدعوة للخدمة مفتوحة أمام كل نفسٍ أمينة مشتاقة للعمل الكرازي، كما أن الدعوة للشهادة للمسيح هي لكل عضو حي في الكنيسة مهما كان جنسه أو وطنه أو سنه أو قدراته.
v في عنايته الكلية سكب الله القدير بنعمته روحه على كل جسدٍ في هذه الأيام الأخيرة، على خدامه وإمائه، فكبح عدم الإيمان المخادع والجامح هذا الذي يثير التشكك في إيمان البشر بقيامة الجسد، وأوضح دون أية عوائق من جهة الكلمات الغامضة في الكتب المقدسة القديمة، وذلك بالنور الواضح للكلمات المقدسة ومعانيها.
العلامة ترتليان
“وأعطي عجائب في السماء من فوق،
وآيات على الأرض من أسفل،
دمًا ونارًا وبخار دخان”. [19]
“تتحول الشمس إلى ظلمة،
والقمر إلى دم،
قبل أن يجيء يوم الرب العظيم الشهير”. [20]
لقد صاحبت خدمة العهد الجديد علامات وعجائب في السماء وعلى الأرض، كما حدث عند صلب السيد المسيح حيث حدثت ظلمة على وجه الأرض وزلازل، كما تشققت الصخور وانفتحت القبور، وخرج كثير من القديسين وظهروا في أورشليم، وفي قيامته حيث حدثت زلزلة. وفي صعوده أيضًا أعلنت السماء عن مجده، إذ ظهرت سحابة أخذته عن أعينهم (أع ١: ٩). هذا وسيصاحب مجيء السيد المسيح الأخير عجائب أيضًا من السماء وعلى الأرض تعلن عن قرب مجيئه (مت ٢٤: ٢٩).
يرى البعض أن الدم والنار والدخان والظلمة، هذه الظواهر تشير إلى ما سيحل عليهم من دمارٍ مدنيٍ ودينيٍ، حيث أحرق تيطس الهيكل سنة ٧٠م، وتشتت الشعب في أنحاء العالم، وحلت ظلمة فكرية برفضهم للخلاص.
v يُقال حقًا أن كثير من هذه الظواهر قد حدثت فعلاً في السماء كما شهد يوسيفوس. وفي نفس الوقت يرعبهم الرسول بأن يذَّكرهم بالظلمة التي حدثت مؤخرًا، وستقودهم إلى أمورٍ مقبلة… إن كانت هذه الأمور هي مقدمة لذلك اليوم (يوم الرب) فإن ما سيتبعه هو في غاية الخطورة ووشيك الحدوث.
v ماذا يعني: يتحول القمر إلى دم؟ إنه يشير إلى تزايد القتل. اللغة هنا محفوفة بالرعب مع اليأس!
القديس يوحنا الذهبي الفم
“ويكون كل من يدعو باسم الرب يخلص”. [21]
ما حدث هو تحقيق لنبوة يوئيل النبي، وهو أول مشاهد الملكوت وفتح الستار عن أعمال المسيح بحلول روحه القدوس من السماء، لا حلولاً مؤقتًا كما كان مع أنبياء العهد القديم، بل هو حلول واستقرار وملء في قلوب المؤمنين، لإقامة ملكوت المسيح، فيصير الكل ملوكًا وأنبياء وكهنة لله العلي.
v بسبب نعمة الروح التي أُعطيت لنا، صرنا نحن فيه وهو فينا (1 يو 13:4)…
خارج الروح نحن غرباء عن اللَّه وبعيدون عنه، أما بشركة الروح فصرنا قريبين للاهوت، فوُجدنا في الآب ليس من ذواتنا، إنما هو عمل الروح الذي فينا ساكنًا في داخلنا.
البابا أثناسيوس الرسولي
v على أي الأحوال جعل مقاله مشرقًا، إذ يقدم ما يخص الإيمان، ومرعبًا إذ يتحدث عن العقوبة، فإنه في الابتهال (لله) يوجد الخلاص.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“أيها الرجال الإسرائيليون،
اسمعوا هذه الأقوال:
يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل اللَّه،
بقواتٍ وعجائبٍ وآياتٍ،
صنعها اللَّه بيده في وسطكم،
كما أنتم أيضًا تعلمون”. [22]
رأينا في تفسيرنا لإنجيل يوحنا أن كثيرين تعثروا في شخص السيد المسيح لأنه كان ناصريًا، فاحتج نثنائيل على فيلبس حين دعاه للقاء مع من كتب عنه موسى، قائلا: “أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟” (يو 1: 46). وفي استخفاف وُضعت علة السيد على الصليب: “يسوع الناصري ملك اليهود”.
دُعيت “ناصرة“، لأنها مدينة صغيرة لا قيمة لها، تشبه فرع شجرة صغير ينبت بجوار الجذر في مكانٍ غير مناسب، غالبًا ما يقوم الزارع بقطعه، يسمى بالعربية “نسر” وبالعبرية “نتسير” ومنه جاء الاسم “ناصرة”.
واضح أن ما فعله السيد المسيح من قوات وعجائب وآيات إنما ليؤكد أنه قد جاء عصر المسيا الذي كان الآباء والأنبياء يشتاقون إليه ويترقبونه. لقد أقبل “ملكوت الله” (مت 12: 28).
“صنعها الله بيده“، ليؤكد القول: “لأني خرجت من قبل الله، وأتيت” (يو 8: 42)، ” أبي يعمل حتى الآن، وأنا أعمل” (يو 5: 17). “إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي، ولكن إن كنت أعمل، فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب فيّ وأنا فيه” (يو 10: 37-38).
يحدثنا القديس يوحنا الذهبي الفم عن حكمة القديس بطرس:
أولاً: بدأ بقوله: “أيها الرجال الإسرائيليون“، ليس كنوعٍ من المداهنة، وإنما لكي يستميلهم للاستماع إليه.
ثانيًا: لم يصدر حكمه في أمر يسوع، بل قال: “اسمعوا هذه الأقوال” لكي يصدروا الحكم بأنفسهم، ويتعرفوا عليه بحكمة وروية.
ثالثًا: لم يبدأ بالحديث عن حقيقته كابن الله الوحيد وكلمة الله، بل قال “رجل“، أي بأسلوبٍ متواضعٍ.
رابعًا: عندما أشار إلى معجزاته قال: “صنعها الله بيده“. هكذا نزل إليهم، إلى مستوى تفكيرهم لكي يرفع أفكارهم إلى الحق الذي لم يكن ممكنًا لهم أن يقبلوه دفعة واحدة. هكذا ينطلق بهم في كل مقالة من أسفل إلى أعلى.
في رده على فالانتينوسValentinus استخدم العلامة ترتليان هذه العبارة لتأكيد أن السيد المسيح قد أخذ جسدًا حقيقيًا، وصار إنسانًا، ولم يكن جسده روحيًا أو خيالاً.
“هذا أخذتموه مسلمًا بمشورة اللَّه المحتومة وعِلمه السابق،
وبأيدي آثمة صلبتموه وقتلتموه”. [23]
كان اليهود يدعون مملكة روما “مملكة الشر”، لذلك فكلمة “آثمة” هنا تشير إلى الرومان، وهي تعني “بلا ناموس”، وجاء في إنجيل مرقس: “هوذا ابن الإنسان يُسلم إلى أيدي الخطاة” (مر 14: 14).
هنا يوضح القديس بطرس أن موت السيد المسيح لم يكن جزافًا، فإنه وإن تم على أيدي آثمة، لا يستطيعون أن يتبرأوا مما فعلوه إلاَّ بالإيمان به، إلاَّ أن ما حدث كان خلال خطة إلهية أزلية، سبق أن أعلنها بالأنبياء الذين نالوا معرفة إلهية.
“الذي أقامه اللَّه ناقضًا أوجاع الموت،
إذ لم يكن ممكنًا أن يمسك منه”. [24]
الله الآب في حبه بذل ابنه الوحيد لخلاص العالم (يو ٣: ١٦)، هو أيضًا أقامه ليبرر الجميع. حقًا إذ في طاعةٍ لإرادة الآب التي هي واحدة مع إرادته سلم نفسه، وهكذا في طاعة قام من بين الأموات، وقد حل حبال الموت (مز 18: 4-5). أما قوله: “أوجاع الموت“، فيشّبه الموت بسيدةٍ تلد، وقد حاول الموت أن يغلق على السيد المسيح في أحشائه فلم يفلح. تمخض الموت بالآلام، وشق السيد المسيح رحم الموت والهاوية وأقام نفسه. يدعوها المرتل: “حبال الموت“، إذ ظن الموت قادرًا على فرض سلطانه على السيد، لكن السيد حلّ هذه الحبال، كما قطع شمشون أوتار الجلد التي أوثقه بها الفلسطينيون كخيطٍ أو كفتيلٍ إذا شم النار (قض 16: 9-12).
جاءت كلمة “الموت” هنا في نسخة بيزا Bezae والسريانية والقبطية والفولجاتا “الجحيم”، وهو المكان الذي كانت تذهب إليه النفوس بعد الموت. فقد مات حقًا ودخلت نفسه إلى الجحيم، لا ليُقبض عليه أبديًا، وإنما لكي يحطم متاريسه، ويحمل الغنائم إلى الفردوس. لقد بشر الراقدين، لا بكلمات بشرية ينطق بها، بل بقوة سلطانه على فك قيودهم وحملهم إلى الراحة.
“لأن داود يقول فيه:
كنت أرى الرب أمامي في كل حين،
إنه عن يميني لكي لا أتزعزع”. [25]
حالة التهليل التي عبَّر عنها المرتل لا تخصه هو بل تخص المسيا الذي لم يستطع الموت أن يفصل الابن الوحيد الجنس عن الآب، فالابن عن يمين الآب، والآب عن يمين الابن، لأنهما لا يخضعان لحدود مكانية، إنما “اليمين” هنا يشير إلى القوة. فالموت لا يشغل المسيح، لأنه تحت قدميه، أما ما يشغله أنه بقيامته فتح باب الرجاء لمؤمنيه كي يتمتعوا بها.
“لذلك سُرّ قلبي،
وتهلل لساني،
حتى جسدي أيضًا سيسكن على رجاء”. [26]
جاء اقتباس الرسول هنا عن الترجمة السبعينية: “تهلل لساني“، أما في العبرية “مجدي” عوض “لساني“.
“لأنك لن تترك نفسي في الهاوية،
ولا تدع قدوسك يرى فسادًا”. [27]
تصوير رائع لحقيقة موت الموت. وُضع الجسد في القبر إلى حين ليطمئن الأموات بوجوده فيه مؤقتًا. وانطلقت نفسه إلى الجحيم تحطم متاريسه، وتنطلق بنفوس الراقدين على رجاء للتمتع بالفردوس.
لم يسقط السيد المسيح تحت الحكم: “لأنك تراب، وإلى ترابٍ تعود” (تك ٣: ١٩)، لأنه بلا خطية، فلا يحل به هذا الفساد. لم يكن ممكنًا للناسوت الذي صار للكلمة أن يحل به ما حل بطبيعة آدم الساقطة. حقًا يمكن لنفسه أن تفارق جسده، لكن إلى حين دون فسادٍ للنفس أو الجسد.
v لأنه قام محطمًا الهاوية، وقائلاً للأسرى: اخرجوا، وللذين في الظلام: اظهروا (إش 49: 9). وصعد إلى أبيه فوق في السماء، إلى الموضع الذي لا يمكن للبشر الدخول إليه، أخذ على عاتقه خطايانا، وصار كفّارة عنّا.
القديس كيرلس الكبير
“عرفتني سبل الحياة،
وستملأني سرورًا مع وجهك”. [28]
لم يكن ممكنًا للمرتل أن يقول: “عرفتني القيامة من الأموات”، إذ ما كان يمكن لأحد أن يدركها، لكنه رأى في قيامة الرب “سبل الحياة“، حيث يتحطم الموت، ويرتفع المؤمنون إلى الحياة الأبدية.
“أيها الرجال الاخوة،
يسوغ أن يقال لكم جهارًا عن رئيس الآباء داود،
أنه مات ودفن وقبره عندنا حتى هذا اليوم”. [29]
ظن اليهود أن ما قاله داود النبي خاص به شخصيًا، وقد جاء في المدراش: [ليس من دودة ولا حشرة لها سلطان على داود.] لهذا أراد الرسول بطرس أن يوضح لهم أن داود لا يزال مدفونًا لم يقم، وها هو قبره قائم يشهد بذلك، فما قيل هنا يخص السيد المسيح، كما قال الربي يوسي Rabbi Jose أن داود قد مات في يوم الخمسين، وكان كل إسرائيل ينتحبونه، ويقدمون ذبائح في اليوم التالي.
يدعو القديس بطرس داود رئيس الآباء (بطريركًا)، قبره في الجهة الجنوبية من أورشليم بالقرب من سلوام، قد تحدث عن قيامة السيد المسيح الذي جاء من نسله (حسب الجسد) قائلاً: “نفسه لا تُترك في الهاوية، ولا جسده يرى فسادا”.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم الآن إذ يبدأ يشير إلى عظمة السيد المسيح يتحدث معهم كمن يبدأ يخاطبهم من جديد: “أيها الرجال الاخوة“. كان القديس بطرس يعلم جيدًا أن اليهود لم يقولوا بأن ما نطق به داود النبي لا يخصه هو، بل يتنبأ عن المسيح ابن داود، ومع هذا فهو يؤكد لهم أن ما قاله لا يخصه شخصيًا، حتى يوضح أنه تحقق في يسوع الناصري المصلوب.
“فإذ كان نبيًّا،
وعلم أن اللَّه حلف له بقسمٍ،
أنه من ثمرة صُلبه يُقيم المسيح حسب الجسد ليجلس على كرسيه”. [30]
“سبق فرأى وتكلّم عن قيامة المسيح،
أنه لم تترك نفسه في الهاوية،
ولا رأى جسده فسادًا”. [31]
v لم يرَ جسده فسادًا؛ أما جسدنا فبعد الفساد يلبس عدم الفساد في نهاية العالم. لم يكن هو محتاجًا إلينا ليتمم الخلاص، لكننا بدونه لا نقدر نحن أن نفعل شيئًا. يعطينا ذاته بكونه الكرمة ونحن الأغصان، أما نحن فلا يمكن أن تكون لنا حياة خارجًا عنه.
القديس أغسطينوس
في رسالة القديس جيروم إلى بماخيوس Pammachius يؤكد قيامة الجسد وتمتعه بشركة المجد مع النفس البشرية، لهذا فإننا نحمل نظرة مقدسة ومكرمة للجسد. كمثالٍ صوم الجسد بالنسبة لنا ليس معناه مقاومتنا للجسد كشيءٍ دنسٍ، وإنما هو وسيلة للتمتع بالشركة مع الله، ليس على مستوى النفس وحدها، بل الإنسان ككل.
v ما نهدف إليه في الصوم هو الشركة مع الله. فتقتات (حتى الأجساد) بالخبز السماوي، وتشبع بكلمة الله، إذ يكون طعامها كما هو ربها. استمع إلى المخلص: “جسدي يستريح في رجاء” (مز 16: 9) وفي موضع آخر قيل: “ولا رأى جسده فسادًا” (أع 2: 31)، وأيضًا: “ويرى كل جسد خلاص الله” (إش 40: 5).
القديس جيروم
“فيسوع هذا أقامه اللَّه،
ونحن جميعًا شهود لذلك”. [32]
بعد أن قدم الرسول بطرس شهادة الأنبياء وركز على سفر المزامير فيما يخص مجيء المسيا من نسل داود أو موته أو قيامته، ختم ذلك بشهادة التلاميذ أنفسهم، وفي موضع آخر أحالهم الرسول إلى الروح القدس كشاهدٍ للسيد المسيح (أع 5: 32).
رآه كل الحاضرين من الرسل والتلاميذ وغيرهم بعد قيامته من الأموات، وهم مستعدون للشهادة بذلك حتى في وجه الاضطهاد والموت.
“وإذ ارتفع بيمين اللَّه،
وأخذ موعد الروح القدس من الآب،
سكب هذا الذي أنتم الآن تبصرونه وتسمعونه”. [33]
يؤكد الرسول بطرس أن يسوع ليس فقط قام من بين الأموات، وإنما تمجد أيضًا عن يمين الآب، ومن خلال هذا المجد بعث الروح القدس الذي تنبأ عنه يوئيل النبي، وقد وعد به السيد المسيح نفسه (يو ١٤: ١٦ الخ؛ ١٦: ٧).
يستشهد الرسول بطرس بالمزمور: “يمين الرب رفعتني، يمين الرب صنعت قوة” (مز 119: 16). لا يفيد اليمين هنا مكانًا بل مكانة، فيشير إلى التساوي في المجد والكرامة “بجبروت خلاص يمينه” (مز 20: 6)، “يمينك يا رب تحطم العدو” (حز 15: 6).
يشير هنا إلى تحقيق وعد السيد المسيح بإرسال الروح القدس الذي يكمل عمل المسيح في قلوبنا. وكما يقول بولس الرسول: “لكي يعطيكم بحسب غنى مجده أن تتأيدوا بالقوة، بروحه في الإنسان الباطن: ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم…” (أف 3: 16).
سكب الآب الروح القدس من السماء ليشهد علنًا، ويشاهده الذين صلبوه. سكبه على التلاميذ الذين أغلقوا على أنفسهم الأبواب في رعبٍ وخوفٍ، لئلا يحل بهم ما حل بسيدهم. سكبه لكي يتحول خوفهم إلى شجاعة للشهادة للحق، ويتحول حزنهم إلى هتافٍ وتهليلٍ، وضعفهم إلى قوةٍ. يشهدوا بالروح القدس، ويسلموا الشهادة من جيلٍ إلى جيلٍ.
“لأن داود لم يصعد إلى السماوات،
وهو نفسه يقول:
قال الرب لربي اجلس عن يميني”. [34]
ما نطق به داود النبي لم يكن يخصه شخصيًا، ولا تحقق معه، بل مع ابن داود.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن القديس بطرس لم يعد يتكلم بأسلوب متواضع بخصوص يسوع، بل يكشف عن شخصه بأنه هو وليس داود الذي صعد إلى السماوات، وأن الأمر ليس بعجيبٍ، لأنه رب داود، إذ قال: “قال الرب لربي“.
v إذ هو نفسه أولاً صعد إلى السماء، أحضر الإنسان كعطية لله.
القديس هيبوليتس
“حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك”. [35]
لقد عرض الرسول أعمال السيد المسيح والبركات التي قدمها وشهادة الأنبياء له، والآن إن لم يقبلوه خلال الحب، فليلتزموا أن يخضعوا له خلال الخوف، لئلا يسقطوا كأعداءٍ تحت قدميه.
v لا ينجذب البشر بالمنافع بالقدر الذي به يتأدبون خلال الخوف.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“فليعلم يقينًا جميع بيت إسرائيل،
أن اللَّه جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم، ربًا ومسيحًا”. [36]
يقول الذهبي الفم أن القديس بطرس يتحدث بلغة اليقين إلى جميع بيت إسرائيل أنهم ملتزمون بقبول من صلبوه ربًا ومسيحًا.
ما كان يشغل ذهن اليهود هو التمتع بمجيء المسيا، وقد أكد لهم الرسول أنه قد جاء، وعلامات صدق مجيئه هي الآتي:
v قيامته من الأموات بشهادة الكثيرين.
v صعوده إلى السماء.
v جلوسه عن يمين الآب في العظمة.
v بعثه الروح القدس تحقيقًا للنبوات، وهو أول ثمر لمجده بعد الصعود.
v سقوط عدو الخير تحت قدميه، هذا الذي فقد بالصليب سلطانه.
تدرج الرسول بهم خلال شهادة المزامير حتى بلغ بهم إلى نبوة داود النبي عن صعود السيد المسيح وجلوسه عن يمين الآب، وأنه رب داود. وكما يقول الرسول بولس: “لذلك رفعه الله أيضًا وأعطاه اسمًا فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبةٍ ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسانٍ أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب” (في 2: 9-11).
الذين أرادوا أن يهبطوا به إلى الهاوية بالصليب نزلوا هم إليها، فحمل مؤمنيه معه إلى السماء، وصار أعداؤه تحت قدميه وأقدام مؤمنيه. لقد أُعلنت ربوبيته وانحنى الكل له، وانسحق إبليس وكل جنوده تحت قدميه.
في بساطة مع عمقٍ لاهوتيٍ، انطلق بهم القديس بطرس خلال النبوات للتعرف على سرّ الخلاص وادراك عمل الصليب، والتلامس مع قيامة السيد المسيح، وصعوده إلى السماء، وجلوسه عن يمين الآب، ليدركوا الخاتمة أن الله أعلن أن الذي صلبوه هو الرب المسيح المخلص. وكأنه يختم حديثه عن السيد المسيح طالبًا من صاليه أن يخلعوا عنهم إنسانهم العتيق، ويلتصقوا بالمصلوب واهب النصرة ومصدر الفرح والسلام السماوي.
v من جانبنا نقول بأنه ليس صحيحًا أن تشير كلمة “جعل” إلى الطبيعة الإلهية، إنما تشير إلى “شكل العبد” (في 2: 7) الذي وُجد خلال التجسد، في الوقت المناسب لظهوره في الجسد.
القديس غريغوريوس النيسي
استخدم كل من أريوس وأونوميوس هذه العبارة بكونها تخص جوهر الابن أنه من صنع الآب كخليقة، وأنه قد أقامه ربًا ومسيحًا، ورد القديس أثناسيوس الرسولي على أريوس، والقديس باسيليوس على أونوميوس، وقد أورد القديس غريغوريوس النيسي هذا الرد في عمله “ضد أونوميوس” في الكتاب الخامس.
v على أي الأحوال يكتب باسيليوس الكبير معبرًا هكذا: “علاوة على هذا فإنه ليس في نية الرسول أن يقدم لنا وجود الابن الوحيد الذي هو قبل الدهور، وإنما يتحدث بوضوح لا عن جوهر الله الكلمة ذاته الذي هو من البدء مع الآب، وإنما عن ذاك الذي أخلى ذاته وأخذ شكل العبد، وصار في الهيئة مطابقًا جسد تواضعنا (في 3: 31)، وصُلب عن ضعف. مرة أخرى يقول: “معروف لكل شخص حتى الذي على مستوى أقل في استخدام عقله في معاني كلمات الرسول أنه لا يضع أمامنا الوجود الإلهي، بل يستخدم تعبيرات تخص التجسد، إذ يقول: “جعله الله ربًا ومسيحًا”، يسوع هذا الذي صلبتموه، مركزًا على الكلمة التي تثبت أنه بشري ويراه الكل.
القديس غريغوريوس النيسي
٥. جاذبية الروح القدس
“فلما سمعوا نُخِسوا في قلوبهم،
وقالوا لبطرس ولسائر الرسل:
ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة؟” [37]
لم يدخل معه الحاضرون في حوارٍ ونقاشٍ، لأن الروح القدس الذي أعطى القديس بطرس الكلمة هو أيضًا عمل في قلوب السامعين، فخشوا السقوط تحت الدينونة ومقاومة الحق الإلهي.
نخس الروح القدس نفوس السامعين ليسألوا ماذا يفعلون. وقد جاءت الكلمة اليونانية التي ترجمت “نُخسوا” هي ذاتها ترجمت “طعن” عندما طعن واحد من العسكر جنب السيد المسيح بحربةٍ (يو 19: 34). فإن كان الأشرار قد طعنوه بالحربة ليضربوا قلبه بجرحٍ مميتٍ، يلقي السيد المسيح بحربة روحه القدوس، ليجرح قلوبهم ويبكتها، فيحملوا جراحات الحب الشافية خلال التوبة الصادقة.
إن كان الروح القدس هو الذي نطق على فم بطرس الرسول، فإنه هو عينه الذي نخس قلوب بعض السامعين ليتجاوبوا مع الكلمة. لقد اصطاد الروح القدس في أول عظة ألقيت في كنيسة العهد الجديد حوالي ثلاثة آلاف نفس دفعة واحدة.
v أترون أية عظمة للطف؟ فإنه ينخس قلوبنا أكثر من أي عنف، ويسبب جرحًا عارمًا… إنه بلطفٍ يذكرهم باعتداءاتهم التي ارتكبوها دون تعليق من جانبه، مضيفًا إلى هذا عطية الله، واستمر يتحدث عن النعمة التي حملت شهادة للحدث. هكذا وقفوا في رهبةٍ من لطف بطرس، إذ كان يحدث أناسًا صلبوا سيده وينفثون إجرامًا من نحو بطرس وزملائه، مع هذا يتحدث بصفته أبًا حنونًا وليس كمعلمٍ. إنهم لم يقتنعوا فقط، وإنما دانوا أنفسهم، وأدركوا تصرفهم في الماضي. إنه لم يعطهم مكانًا أن يثور غضبهم مما يجعل حكمهم مظلمًا، وإنما بكل تواضعٍ بدد غشاوة سخطهم وظلمته، وبعد هذا أظهر لهم اعتداءهم الجريء الذي ارتكبوه. فعندما نقول أننا قد أُضرنا يسعى الطرف المضاد أن يبرهن أنهم ليسوا علة الضرر، ولكن عندما نقول أنه لم يصبنا ضرر بل نحن مخطئون، يأخذ الطرف الآخر الخط المضاد. فإن أردتم أن تظهروا لعدوكم خطأه احذروا من اتهامه، بل بالأحرى دافعوا عنه، عندئذ حتمًا سيدرك أنه مذنب، فإنه يوجد في الإنسان روح طبيعي لأخذ الموقف المضاد.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v ليتعلّموا أن اللوغوس هو ابن اللََّه، كما قيل فيما سبق، وأنه غير مخلوقٍ، ولا ينبغي أن ينسبوا مثل هذه الألفاظ إلى أهميّته، بل عليهم أن يفتّشوا لماذا وكيف كُتبت هذه الأقوال. ومّما لا شك فيه أن تدبير التجسّد الذي صنعه لأجلنا سيجيب على الذين يتساءلون، لأنه عندما قال بطرس: “جعله ربًا ومسيحًا“، أضاف في الحال: “هذا الذي صلبتموه أنتم” [36]، مما جعل الأمر واضحًا للجميع… إن كلمة “جعل” ليست عن جوهر الكلمة – بل عن ناسوته. لأن ما هو الذي صُلب سوى الجسد؟… “جعله ربًا“، وليس هذا فحسب، بل “جعله ربًا لكم“، و“فيما بينكم“. هذا هو ما يعنيه بقوله “تبرهن” [22]… أي أثبت أنه ليس إنسانًا عاديَّا، بل هو اللََّه في الجسد، وأنه هو الرب، وهو المسيح… جعله الآب ربًا وملكًا في وسطنا، ولنا، نحن الذين كنّا قبلاً عصاة. فمن الواضح أن هذا الذي يظهر الآن أنه رب وملك، لم يبتدئ أن يصير عندئذٍ ملكًا وربًا، بل ابتدأ يظهر ربوبيّته، وأن تمتد ربوبيّته حتى على الذين يعصونه.
v الكلمة نفسه وهو بالطبيعة الرب الكلمة قد جُعل إنسانًا، ومن خلال صورة العبد صار رب الجميع ومسيحًا، أي لكي يقدّس الجميع بالروح.
البابا أثناسيوس الرسولي
v لم يقتلوه هو بقدر ما قتلوا أنفسهم. لقد خلصوا بواسطة ذاك الذي ذُبح من أجلهم. ولما تحدّث الرسول نُخسوا في ضميرهم، الذي نخس (السيّد) بالحربة. وإذ نُخسوا طلبوا مشورة فأعطيت لهم، أن يتوبوا ويجدوا نعمة، ويؤمنوا أن يتناولوا الدم الذي سفكوه في ثورتهم.
القديس أغسطينوس
“فقال لهم بطرس:
توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا،
فتقبلوا عطية الروح القدس”. [38]
v أرسل بطرس الشعب اليهودي التائب عن عمله الشرير لكي يعتمدوا في الحال.
القديس جيروم
v من ييأس من نوال غفران خطاياه إن كانت جريمة قتل المسيح قد غُفرت بالنسبة لمرتكبيها؟… لقد جاءوا إلى مائدة الرب، وبالإيمان شربوا الدم الذي في هياجهم سفكوه.
القديس أغسطينوس
v أية خطية أعظم من أن يصلب الإنسان المسيح؟! ومع هذا فالعماد يغسلها.
v يا لعظمة النعمة التي كانت تعمل في جميع الرسل معًا حتى آمن من اليهود صالبي المسيح هذا العدد العظيم، واعتمدوا باسم المسيح، و”كانوا يواظبون على تعليم الرسل والصلوات” (أع 2: 14).
القديس كيرلس الأورشليمي
من لم يسمع للقديس يوحنا المعمدان حيث نادى بالتوبة (مت 3: 1-2)، ولا تجاوب مع كرازة ربنا يسوع الذي نادى أيضًا بالتوبة (مت 4: 17)، يمكنه أن يبدأ الآن خلال عمل الروح القدس، فيقدم توبة أو ميتانويا (ميطانيا) وتعني تغيير القلب والفكر والإرادة، وإعادة النظر إلى حياة الإنسان الداخلية وسلوكه الظاهر. هي إعطاء الوجه لله عوض القفا (إر 7: 24؛ 32: 33)، وإعطاء القفا للخطية عوض الوجه.
التوبة هي اكتشاف حب الله الفائق، وكما قيل للمرأة الخاطئة: “لأنها أحبت كثيرًا مغفورة لها خطاياها الكثيرة”. يجد الخاطي في حب الله مصدر المغفرة والتعزية والفرح الفائق.
يشير العلامة أوريجينوس إلى المعمودية التي تُقدم حتى للأطفال الصغار “لمغفرة الخطايا” متسائلاً: [خطايا من هذه؟ متى ارتكبوا خطايا؟ أو كيف يمكن شرح غسل المعمودية الذي يحدث حتى مع الأطفال الصغار، إلا حسب شرحنا للأطفال الصغار الذي نتكلم عنه؟ فإنه ليس إنسان بلا غضنٍ، ولو كانت حياته يومًا واحدًا (أي 14: 4- 5). فإنه بسرّ المعمودية يُنزع كل غضن. ولهذا فإنه حتى الأطفال يعمدون، لأنه “إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت السماوات”. (يو 3: 5).]
إذ يعطون الوجه لله بالتوبة يقبلون العماد لنوال البنوة لله. تُغفر لهم خطاياهم ويتمتعون بعطية الروح القدس الذي يسكن في داخلهم.
يمكننا القول بأن التوبة هي قارب النجاة الذي يُقدم نعمة الله للمسافر بعد أن انكسرت السفينة ودمرتها أمواج الخطية وزوابع العصيان. يلزمه أن يلقي بنفسه في هذا القارب. أما العماد فهو التقاء المسافر في حضن أبيه، ودخوله كما إلى مسكنه الأبدي، فيجد راحته في بنوته للآب، وشركته مع الابن الوحيد الجنس، وفرحه بعمل روح الله الساكن فيه. بالتوبة يُقدم الدواء للشفاء من جراحات الخطية، وبالعماد ترتد للإنسان كرامته ليصير بالحق أيقونة المسيح حامل برّه، له حق الشركة في المجد الأبدي.
v لم يقل بعد “آمنوا”، بل “ليعتمد كل واحد منكم“، فهذا يتقبلونه في المعمودية. تحدث بعد ذلك على المنافع: “لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس”. إن كنتم تقبلون العطية، فالمعمودية تهب المغفرة، لماذا تتأخرون؟
القديس يوحنا الذهبي الفم
غسل خطايانا وتجديدنا لا يعني موت الجسد بل موت الشهوات الجسدية أو الإنسان القديم بأعماله، أما الجسد فصالح ومقدس.
v أريد أن يموت هذا الجسد عن الخطيئة. لست أسأل أن يموت الجسد بل ألا يخطئ مرة أخرى. وكما أن الميت يكون جثمانه فوق إمكانية الخطيئة، هكذا الذي يصعد من مياه المعمودية يخلص من الخطيئة. فإن كنتَ قد متَّ في هذه المياه يلزمك أن تبقى ميتًا عن الخطيئة.
v يليق بمن يتوب ألا يلتصق بعد بذات الخطايا التي تاب عنها. لهذا السبب نؤمر بأن نقول: “أجحدك أيها الشيطان” حتى لا نعود بعد إليه.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v المعمودية باب يردنا إلى الفردوس، فيها يدخل الإنسان إلى اللَّه ليكون معه.
المعمودية سفينة جديدة حاملة للأموات، بها يقومون ويعبرون إلى بلد الخالدين.
وُضعت المعمودية في العالم لأجل العالم الجديد، فيها يعبر الإنسان من عند الأموات إلى بلد الحياة…
v تعالوا أيها المدينون وادخلوا، خذوا صكِّكم مجّانا، فتُمحى ذنوبكم داخل المياه.
تعالوا أيها المساكين، واقتنوا الغنى بالعماد الروحي، وأقيموا الخزانة العظيمة عوض الفقر.
تعال أيها الخروف الضال الذي لسيد القطيع واعتمد، فبك يكمل العدد مائة.
تعال أيها الخاطئ المتعَب، والمنسحق، والمملوء جراحات، واقطع عنك ثقل الإثم بالمعمودية.
تعالوا أيها العميان المُظْلِِمون باختيارهم، اعتمدوا لتتفتح أعينكم، وتستضيئوا بابنة النهار.
تعالوا أيها الهالكون، لأن الراعي الصالح قد خرج وراءكم ليجمعكم عند الينبوع…
تعالوا، فإن طرق بيت اللَّه مفتوحة داخل المياه…
تعالوا أيها العتيقون الذين شاخوا وبلوا… اقتنوا تجديدًا في بطن المعمودية الجديد.
مار يعقوب السروجي
“لأن الموعد هو لكم ولأولادكم،
ولكل الذين على بُعد،
كل من يدعوه الرب إلهنا”. [39]
هذا الموعد الذي تنبأ عنه يوئيل النبي متسع جدًا، يُقدم حتى “لكل الذين على بعد”، يُقدم لكل البشر. الوعد مُقدم لمن يدعوه الرب الذي هو محب للبشر؛ فمن جانب الرب الدعوة مقدمة للكل. بقي من جانب الإنسان أن يتجاوب مع الدعوة إذ “كل من يدعو باسم الرب ينجو، لأنه في جبل صهيون وفي أورشليم تكون نجاة، كما قال الرب وبين الباقين من يدعوه الرب” (يؤ 2: 32). ” سلام، سلام للبعيد وللقريب، قال الرب، وسأشفيه” (إش 57: 19).
ما أسهل أن يهمل الإنسان في التمتع بحقوقه، لكن يصعب أن يقبل هذا بالنسبة لنسله. لهذا يؤكد الرسول: “الموعد هو لكم ولأولادكم“. لهذا قيل: “اسكب روحي على نسلك، وبركتي على ذريتك” (إش ٤٤: ٣)، “روحي الذي عليك، وكلامي الذي وضعته في فمك، لا يزول من فمك، ولا من فم نسلك، ولا من فم نسل نسلك، قال الرب”. (إش ٥٩: ٢١) (تك ١٧: ٧)
“وبأقوالٍ آخر كثيرة كان يشهد لهم ويعظهم قائلاً:
اخلصوا من هذا الجيل الملتوي”. [40]
ركز القديس بطرس في تكملة عظته التي لم يسجلها لنا لوقا البشير على خطية ذاك الجيل الذي يدعوه “الجيل الملتوي”، الذين سجلوا على أنفسهم: “دمه علينا وعلى أولادنا”. (مت 27: 25) فإذ يقدمون توبة عما فعلوه بالمخلص يتمتعون بالغفران على خطاياهم، أو بالمصالحة مع غافر الخطايا. لقد صار الأمر في سلطانهم، فمن جانب الله قدم كل شيء؛ أعلن الآب حبه ببذل ابنه، ودفع الابن الثمن، وصار الروح القدس حالاً في الكنيسة، فما عليهم إلاَّ أن يقبلوا الروح القدس واهب كل شيء. إنه وقت للخلاص قبل دمارهم الأبدي، وحلول التأديب الإلهي بدمار الهيكل.
إنه يحذرهم من الانضمام إلى غير المؤمنين والأشرار. وكما قال المرتل: “انصرفوا عني أيها الأشرار فاحفظ وصايا إلهي… وكزغلٍ عزلت كل أشرار الأرض، لذلك أحببت شهاداتك”. (مز ١١٩: ١١٥، ١١٩)
v أتوسل إليك أيها العزيز المحبوب، وارتمى عند قدميك متوسلاً أن تهبني وتهب نفسك هذه الصلاة الواحدة أن تخلص نفسك من الجيل الملتوي (أع 2: 40). انسحب أيها العزيز المحبوب من هرطقة أوريجينوس وكل الهرطقات.
القديس أبيفانيوس أسقف سلاميس
“فقبلوا كلامه بفرح،
واعتمدوا،
وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس”. [41]
دعوة الرسول بطرس للتوبة دفعتهم لحياة الفرح، لأنهم قدموا توبة صادقة، وتمتعوا بما كان يشتهيه داود الملك والنبي: “رد لي بهجة خلاصك“.
علامة عمل الروح القدس هو قبول الكلمة بفرحٍ، مما أهلهم للتوبة والاعتراف بخطاياهم ونوال المعمودية.
v من يحب بحقٍ أن يعيش بحسب الإنجيل، يهدم بداية حالته الشريرة ونهايتها، ويمارس كل فضيلة بالكلام والعمل. إنه يتحرر من كل مضايقات الشهوات، وإذ يتحرر عقله من هذا الصراع يمتلكه رجاء السعادة العتيدة، ولا يعرف شيئًا سوى الفرح الدائم الذي يغذي النفس.
القديس مرقس الناسك
يرى البعض أن انضمام الثلاثة آلاف نفس تحقق ليس فقط بخطاب الرسول بطرس وإنما بحديث بقية الرسل أيضًا، هذا بلغةٍ وذاك بلغةٍ أخرى، وكان محصلة الكرازة في خلال اليوم كله ٣٠٠٠ نسمة من كل أورشليم، لهذا قيل: “وانضم في ذلك اليوم“، ولم يقل “في تلك الساعة”. لم يكن بالأمر الهين أن يترك ٣٠٠٠ نسمة في يومٍ واحد الخضوع لرؤساء الكهنة ومجمع السنهدرين ليعلنوا قبولهم يسوع المصلوب ربًا ومسيحًا.
٦. كنيسة روحية متهللة
“وكانوا يواظبون على تعليم الرسل،
والشركة وكسر الخبز والصلوات”. [42]
كلمة “يواظبون” في اليونانية تحمل معنى تكريس النفس وتقديمها، أو التفرغ لهذا العمل والالتصاق به.
“تعليم الرسل” يشمل الإيمان الحي بيسوع أنه الرب والمسيح مخلص العالم، هذا مع فهمٍ جديدِ وإدراكٍ لغاية العهد القديم، خاصة ما يحويه من نبوات مسيحيانية، وتعليم التقليد الكنسي الشفاهي الذي تسلموه من السيد المسيح خلال خدمته.
“الشركة” مارست الكنيسة الأولى الشركة من جوانب متعددة.
أولاً: شركة الحب العملي الباذل كالاهتمام بالفقراء والمحتاجين والمتألمين والمسجونين والغرباء والحزانى والمرضى.
ثانيًا: شركة في ولائم المحبة، حيث يشترك الكل معًا في الطعام بروح الفرح والمحبة.
ثالثًا: شركة في العبادة معًا كالصلاة والصوم الخ.
رابعًا: الشركة حول الإفخارستيا للتناول من جسد الرب ودمه.
خامسًا: شركة الروح وإدراك الوحدانية على مستوى الأعضاء المتنوعة للجسد الواحد، جسد المسيح المتناغم معًا.
v هنا فضيلتان: المثابرة (المواظبة) والتوافق معًا… كل شيء كان مشتركًا، كل شيء كان في اتحاد.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v تصور دائرة تخرج من مركزها أشعة أو خطوط. فبقدر ما تبتعد الخطوط عن المركز بقدر ما تفترق عن بعضها البعض… وبالعكس كلما اقتربت من المركز، تقاربت نحو بعضها البعض.
افترض أن هذه الدائرة هي العالم، ومركز الدائرة هو اللّه. والخطوط من المركز إلى المحيط أو من المحيط إلى المركز هي طرق حياة البشر. فإننا نجد نفس الأمر، فبقدر ما يتحرك القديسون في داخل الدائرة تجاه المركز، راغبين في الاقتراب من اللّه، يقترب كل منهم نحو الآخر.
بقدر ما يقترب البشر نحو اللّه، يقترب كل منهم نحو بعضهم البعض. وبقدر ما يقتربون نحو بعضهم البعض يقتربون نحو اللّه…
وعندما يبتعدون عن اللّه ويتجهون نحو الأمور الخارجية… يبتعد كل منهم عن الآخر، وبالتالي يبتعدون عن اللّه (أكثر)…
هكذا في اقتنائنا للحب أيضًا، بقدر ما نكون خارجًا ولا نحب اللّه، يبتعد كل منا عن أخيه. ولكننا إن أحببنا اللّه، فإنه بقدر ما نقترب إليه نتحد بالحب باخوتنا، وبقدر ما نتحد بالحب باخوتنا هكذا نتحد باللّه.
الأب دوروثيؤس
v المحبة الكاملة هي أن يود الإنسان أن يقدم حياته من أجل كل البشر. لكن هل يبلغ الحب كل هذا العلو دفعة واحدة؟ لا، فإنه إذ يُولد يحتاج أن ينتعش، وإذ ينتعش يتقوى، وإذ يتقوى يصير كاملاً.
القديس أغسطينوس
“وكسر الخبز“: التسمية البدائية لسرّ الإفخارستيا.
v لم يستطع الملاك أن يلمس الجمرة النارية بأصابعه، وإنما أحضرها قريبًا من فم إشعياء (إش 6). لم يمسكها الملاك، ولم يلتهمها إشعياء، أما فسمح لنا ربنا أن نفعل هذا وذاك (بتناولنا جسده ودمه المقدسين).
القديس أفرآم السرياني
v بالحقيقة يعطي المسيح حتى جسده، الذي به ينتعش الذين يؤمنون كأطفال صغار.
القديس هيبوليتس الروماني
“والصلوات“: بدأوا بالشركة معًا في صلوات الهيكل بما تحتويها من مزامير وتسابيح وصلوات البركات الثمانية عشر حسب المواسم. بجانب هذا كانت لهم صلوات مشتركة معًا في البيوت. بلا شك لم يكن يشغلهم في صلواتهم سوى تقديم التسبيح والشكر لله الذي أشرق عليهم بالنور، واجتذبهم إلى حبه وإدراك أسراره، طالبين ذات العطية لكل نفسٍ بشريةٍ في العالم. لم يكن في أذهانهم شوق إلى مبانٍ كنسية ضخمة، ولا إلى طموحات معينة، سوى نشر الكلمة وبنيان كنيسة المسيح.
v لنخضع نحن أنفسنا للصلاة. إنها سلاح قدير إن قُدمت بغيرة، إن كانت بدون عجب، إن كانت بذهنٍ مخلصٍ. إنها تصد حروبًا، وتفيد الأمة كلها مع عدم استحقاقها. يقول: “سمعت أنينهم ونزلت لأنقذهم” [34]. إنها هي عينها دواء منقذ، له قوة لمنع الخطايا وشفاء الأفعال الشريرة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v لنجتمع معًا في جماعة تقدم صلاة متحدة معًا، ولنصارع معه في طلباتنا، هذا يبهج الله.
العلامة ترتليان
v إن كان لكم الابن نفسه، ابن اللَّه الوحيد، كمجد العماد، فلماذا أتكلم بعد عن إنسانٍ؟! حقًا كان يوحنا (المعمدان) عظيمًا، لكن ماذا يكون يوحنا بجانب الرب؟! أنه صوت صارخ، لكن ماذا يكون إن قورنت بالكلمة؟!
هذا الرسول نبيل جدًا، لكن ماذا يُحسب إن قورن بالملك؟!
نبيل هو هذا الذي عمد بماء، لكن ماذا يكون إن قورن بالذي يعمد بالروح القدس ونار؟! إذ عمد المخلص الرسل بالروح القدس ونار (مت 11:3)، عندما صار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة، وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين. وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت على كل واحدٍ منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس”.
القديس كيرلس الأورشليمي
“وصار خوف في كل نفس،
وكانت عجائب وآيات كثيرة تُجرى على أيدي الرسل”. [43]
“وصار خوف في كل نفس“: ملأ الروح القدس الكنيسة بروح المهابة، خاصة وأن كثيرين منهم كانوا قبلاً قد اشتركوا في صلب السيد المسيح أو قبلوا ذلك.
امتلأ الكل بمخافة الرب التي هي رأس الحكمة، وثمر الروح القدس، الذي قيل عنه: “يحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب” (إش ١١: ٢).
v خوف الرب يحث النفس على حفظ الوصايا، وعن طريق حفظ الوصايا يُشيد منزل النفس.
v إذًا ليتنا نخاف الرب ونُشيد منازل لأنفسنا، حتى نجد مأوى في الشتاء حيث المطر والرعد، لأن من لا منزل له يعاني من مخاطرٍ عظيمةِ في وقت الشتاء.
الأب دوروثيؤس
v إن أراد أحد أن ينال حب اللّه، فليكن فيه مخافة الرب، لأن الخوف يولِّد بكاء، والبكاء يولد قوة. وإذا ما كملت هذه كلها في النفس، تبدأ النفس تثمر في كل شيء. وإذ يرى اللّه في النفس هذه الثمار الحسنة، يشتمها رائحة بخور طيبة، ويفرح بها هو وملائكته، ويشبعها بالفرح، ويحفظها في كل طرقها حتى تصل إلى موضع راحتها دون أن يصيبها ضرر.
إذ يرى الشيطان الحارس العلوي العظيم يحيط بالنفس، يخاف أن يقترب منها أو يهاجمها بسبب هذه القوة العظيمة.
إذًا، اقتنوا هذه القوة حتى ترتعب الشياطين أمامكم، وتصير أعمالكم سهلة، وتتلذذوا بالعمل الإلهي، لأن حلاوة حب اللّه أشهي من العسل.
حقًا إن كثيرين من الرهبان والعذارى في المجامع لم يتذوقوا هذه الحلاوة الإلهية، ولم يقتنوا القوة الإلهية، ظانين أنهم قد نالوها، بالرغم من عدم جهادهم. أما من يجاهد لأجلها فينالها حتمًا خلال المراحم الإلهية، لأن اللّه لا يحابي الوجوه.
فمن يريد أن يكون له نور اللّه وقوته، يلزمه أن يستهين بكرامات هذا العالم ودنسه، ويبغض كل أمور العالم ولذة الجسد، وينقي قلبه من كل الأفكار الرديئة. ويقدم للّه أصوام ودموعًا ليلاً ونهارًا بلا هوادة كصلوات نقية، عندئذ يفيض اللّه عليه بتلك القوة.
اجتهدوا أن تنالوا هذه القوة، فتصنعوا كل أعمالكم بسهولة وُيسر، وتصير لكم دالة عظيمة قدام اللّه، ويهبكم كل ما تطلبونه.
القديس أنطونيوس الكبير
أخيرًا سند الروح القدس الرسل بإجراء عجائب وآيات كثيرة باسم ربنا يسوع.
“وجميع الذين آمنوا كانوا معًا،
وكان عندهم كل شيءٍ مشتركًا”. [44]
قبل أن يشير الإنجيلي لوقا عن الشركة في الممتلكات والاحتياجات تحدث عن شركة الروح والقلب والفكر، قائلاً: “كانوا معًا“. من الجانب الجسماني لا يمكن القول بأن المائة وعشرين مضافًا إليهم الثلاثة آلاف نسمة قد صاروا معًا في حجرة واحدة أو بيتٍ واحدٍ يتحركون معًا طول اليوم، وإنما كانوا معًا بالروح والفكر والحب الحقيقي.
v فجأة صار الجميع ملائكة؛ واظب الكل على الصلاة والاستماع، متطلعين إلى الأمور الروحية أنها مشتركة، ليس لأحد شيء أكثر من الآخر. جاءوا بسرعة معًا إلى ما هو عام، حتى في العطاء للكل…
إنها دولة ملائكية، ليس فيهم من ينسب شيئًا إلى نفسه. لقد نُزع جذر الشر فورًا. ما فعلوه أظهروا ما قد سمعوه، هذا الذي قيل: “اخلصوا من هذا الجيل الملتوي” (أع 2: 40).
v وحدة عشرة أشخاص أتقياء يجعلون من الواحد عشرة. بالتبعية كل واحدٍ منهم يمكنه أن يعمل خلال عشرين يدًا ويرى خلال عشرين عينًا؛ وكل واحد ينال رعاية كما للعشرة، كما يهتم هو بنفسه. لهذا فإن الأعين والأيادي والأقدام التي للعشرة تخدم كل واحدٍ منهم. فلا يكتفي إنسان بأن يهتم بنفسه وحده، بل يهتم أيضًا بالآخرين. بهذا يستطيع الواحد أن يفعل أمورًا كثيرة لأنه يحمل طاقات العشرة. إذن متى وًجدت وحدة بين مائة شخص تقي، كل واحد يحمل طاقة مائة شخصٍ.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“والأملاك والمقتنيات كانوا يبيعونها،
ويقسمونها بين الجميع،
كما يكون لكل واحدٍ احتياج”. [45]
لم يُلزم الرسل المؤمنين بقانونٍ معين بخصوص العطاء، بل صار المؤمنون يعشقون الحب الباذل والعطاء بسخاء حبًا في الله. إذ وهبهم الروح القدس ما هو لله، نسوا ما هو لهم، وحسبوا كل ما بين أيديهم لا يساوي شيئًا مقابل اقتناء اللؤلؤة الكثيرة الثمن.
v لم يتصرفوا بطيشٍ مثل بعض الفلاسفة اليونانيين الذين منهم من تخلوا عن أراضيهم، ومنهم من ألقى أمواله في البحر بكميات هائلة، لكن هذا لا يعني استخفافًا بالثروات، وإنما هو غباوة وجنون. فإن الشيطان يسعى بأن يستهين الإنسان بخليقة الله، كما لو كان من المستحيل استخدام الثروات بطريقة صالحة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
قدمت الكنيسة بالحب، وليس بالأوامر والقوانين، مثلاً حيًا أمام العالم كيف يمكن خلال الشركة أن يشبع الكل ويفرحون ويتهللون، ولا يوجد بينهم من هو في احتياج.
v إطعام الجائعين أعظم من إقامة الموتى.
v تطلّع كم وهبك اللَّه، خذ منه احتياجك، وما تبقّى وأنت لا تحتاج إليه يحتاج إليه الغير.
v قدّم له الكرامة التي يطلبها بنفسه، بتقديم مالك للفقراء.
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
“وكانوا كل يوم يواظبون في الهيكل بنفسٍ واحدةٍ،
وإذ هم يكسرون الخبز في البيوت،
كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب”. [46]
بالحب افرغوا أنفسهم من كل اهتمامٍ مقلقٍ، وكرسوا قلوبهم وحياتهم للعبادة المشتركة والحياة المشتركة، فتحولت حياتهم كما إلى عرسٍ دائمٍ، صاروا فرحين مبتهجين حتى أثناء تناولهم الطعام معًا.
v تذكر يا عزيزي أننا لن نكف عن الصلاة حتى نرى اليوم الذي نصير فيه جميعنا واحدًا، غير منقسمين في الفكر، وفي المجمع الواحد. حقا إننا نكون غرباء عن الله إن كنا نفرح بالانشقاقات والانقسامات التي تهدد الكنيسة.
القديس باسيليوس الكبير
v لاحظوا يا إخوة واعرفوا ما هو سرً الثالوث، كيف يقال يوجد الآب والابن والروح القدس، ومع هذا فالله واحد. انظروا كان يوجد ألوف (من المؤمنين) ولكنه يوجد قلب واحد، يوجد ألوف ونفس واحدة… ليقتربوا إلى الله، فيصير الكل نفسًا. إن كان بالاقتراب إلى الله القدوس تصير النفوس الكثيرة بالحب نفسًا واحدة، وتصير القلوب الكثيرة قلبًا واحدًا، فماذا يكون ينبوع الحب في الآب والابن؟
القديس أغسطينوس
لم يفارقوا الهيكل، ولا حملوا روح العداوة لليهود، لكنهم دون شك لم يشتركوا في تقديم ذبائح حيوانية، وقد بقوا هكذا حتى طردوهم ومنعوهم من دخوله والشركة في العبادة معهم.
بقوله: “في البيوت” واضح أن كل جماعة تتحدث بلغةٍ معينةٍ كانت تجتمع معًا مع رسولٍ أو أكثر ممن وُهب لهم عطية التكلم بهذه اللغة، ليمارسوا العبادة بلغتهم المفهومة بالروح والعقل معًا.
v لقد طرحوا ثرواتهم وفرحوا، وصارت لهم بهجة عظيمة، إذ نالوا غنى أعظم بدون تعبٍ. ليس من يوبخ، ولا من يحسد، ولا من يتذمر؛ ليس من كبرياءٍ ولا احتقار للغير بينهم. حسبوا أنفسهم كأطفالٍ تحت التعليم، كأطفالٍ حديثي الولادة، هكذا كانت نزعتهم.
v لم يعرف الفقراء العار، ولا الأغنياء التباهي؛ وهذه هي البهجة. يشعر الآخرون أنهم الفريق الملتزم السعيد (بالعطاء)، والأولون شعروا بأنهم مُكرمون هنا، وقد التصقوا تمامًا معًا.
v لم يعد يُوجد خوف في أحدٍ مع أنهم كانوا في وسط المخاطر.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“بساطة قلب“: للآسف تشوهت صورة البساطة، وصار كثيرون يحسبونها جهالة أو عدم حكمة أو توقف عن التفكير الجاد، مع أن الله نفسه يُوصف بأنه بسيط. فبساطة القلب هي شركة في إحدى سمات الله نفسه، حيث لا يوجد في القلب طريقان مختلطان مع بعضهما البعض، بل طريق واحد مستقيم بلا اعوجاج ولا امتزاج بطريقٍ آخر. وقد قدم لنا القديس فيلوكسينوس فصلاً رائعًا عن “البساطة” سبق لنا نشره.
v مكتوب: “مطوبة هي كل نفس بسيطة” (أم 11: 25) مرة أخرى: “من يسلك بالبساطة يمشي في آمان” (أم 10: 9). تقول: “حقًا، لكن التعقل أيضًا مطلوب”. أسألك: ما هي البساطة سوى التعقل؟ فحينما لا تشتبه في شر لا تستطيع أن تختلق شرًا، وحينما لا تساورك قلاقل لا تقدر أن تتذكر المضرات. هل شتمك أحد؟ إنك لم تتألم. هل سبَّك أحد؟ لم يصبك أي ضرر. هل حسدك أحد؟ لازال لم يصبك ضرر ما. البساطة هي الطريق العلوي للفلسفة الحقيقية. ليس من جمالٍ للنفس مثل تلك التي للبسيط… من له هذه السمة يمكنه بسهولة أن يقيم له صديقًا، وإذا حدث اختلاف بينهما بسهولة يمكنه التصالح. لا يحتاج مثل هذا إلى حرس ولا إلي قوات مخفر أمامية، ولا يحتاج إلى قيود وأغلال، إنما حريته عظيمة وحرية من يلتصقوا به، ربما تقول: ما هو موقف مثل هذا إن سقط بين أناس أشرار؟ الله الذي أمرنا أن نكون بسطاء في الذهن يبسط يده. من كل بريئًا أكثر من داود؟ ومن كان أشر من شاول؟ ومع هذا من الذي غلب؟ أيضًا في أمر يوسف، ألم يقترب إلى زوجة سيده فى بساطة هذه التي استخدمت معه فنون الشر؟ نعم، أسألك ما الذي أصابه ضرر؟ علاوة على هذا من كل أكثر بساطة من هابيل؟ ومن كان أكثر دهاء من قايين؟
القديس يوحنا الذهبي الفم
v لقد أعطانا ربنا مبدأ سهلاً في بشارته، ألا وهو الإيمان الحق البسيط. فالبساطة ليست هي المعروفة في العالم بالبلادة والخرافة، بل هي فكر وحيد بسيط، يسمع ولا يفحص، ويقبل ولا يبحث… دُعي إبراهيم وخرج تابعًا الله وما فحص صوت المنادي له، ولم يعقبه الأقارب ولا الأصدقاء ولا المقتنيات ولا أي شيء من رباطات البشرية. أنظر الآن، وليكن خروجك مثله، ولا تتأخر عن صوت المسيح الذي دعاك ببشارته قائلاً: “من يريد أن يكون لي تلميذًا، فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني” (لو ٩: ٢٣). وقد أظهر هذه الدعوة لجميع الناس، وهكذا دُعى الرسل فتركوا شباكهم وتبعوه (مر ١: ١٨)، وإذ لم يكن لهم من متعلقات ثقل محبة العالم انصاعوا لصوت الذي دعاهم.
v افرح بالبساطة لتجعلك محبوبًا عند الله والناس. وإن ظننت أن الناس يستهزئون بك، ويحسبونك جاهلاً أبلهًا بلا عقل أو إفراز، فليكن معلومًا عندك أنه ليس صلاح بلا عثرة. فإن كنت تهرب من معوقات الخير فلا يمكنك أبدًا أن تقتني فضيلة.
مار فيلوكسينوس
v الذين كانوا مرتعبين وخائفين وثبوا بعد أن نالوا الروح القدس في وسط المخاطر، وجردوا أنفسهم للمعركة ضد وحوش جديدة نارية متوحشة… وإذ كانوا أميين جهلة دخلوا في مباحثات بكل جرأة أدهشت السامعين لهم. فالروح جعل منهم رجالاً جددًا من أناسٍ من الطين، ووهبهم أجنحة، وسمح لهم ألا يهزمهم شيء بشري.
هكذا هي تلك النعمة، إن وجدت قنوطًا تبدده، وإن وجدت شهوات شريرة تحطمها، وان وجدت جبنًا تطرده خارجًا، ولا تسمح لشخصٍ يشترك فيها أن يصير بعد ذلك إنسانًا مجردًا، وإنما كمن تنقله إلى السماء نفسها وتجعله أن يتشبه بكل ما هو هناك. بهذا لا يقول أحد بأن أي شيء مما يملكه أنه له، بل يستمرون في الصلاة والتسبيح ووحدانية القلب. فإن هذا هو ما يطلبه الروح القدس بالأكثر. فإن ثمر الروح هو فرح، سلام، إيمان، وداعة (غل 5: 22- 23).
القديس يوحنا الذهبي الفم
٧. كنيسة ولود
“مسبّحين اللَّه،
ولهم نعمة لدى جميع الشعب،
وكان الرب كل يوم يضم إلى الكنيسة الذين يخلصون”. [47]
كانوا كنيسة متهللة دائمة التسبيح بسبب ما تمتع به جميع الشعب من نعمة إلهية. كان الشعب في حالة شبع روحي يفيض فرحًا على كل نفس في الداخل وعلى كل وجه. تهتم الكنيسة بالتسبيح، لأنه عمل ملائكي، وهو العمل الوحيد الذي لن يتوقف بخروجنا من هذا العالم. التسبيح سند للمؤمن وسط وادي هذا الدموع، يبتلع كل ضيق أو حزن أو مرارة، ليحيا المؤمن كما في وليمة سماوية دائمة.
أما النعمة التي يتمتع بها الشعب جميعه فهي نعمة الثالوث القدوس العامل بلا توقف في حياتهم. وقد سبق لنا تقديم ملحق للإصحاح الأول من إنجيل يوحنا عن “نعمة فوق نعمة” يمكن الرجوع إليه.
أما ثمرة الحياة المتهللة بالرب الدائمة التسبيح فهي: “وكان الرب كل يوم يضم إلى الكنيسة الذين يخلصون“. هذا هو عمل النعمة الإلهية في حياة الشعب المتهلل بالروح الدائم التسبيح.
من وحي أعمال الرسل ٢
لأنطق باللسان الناري!
v مع نسمات الريح الهادئة صعدت يا مخلصي إلى السماء!
ارتجت السماء كلها بالبهجة والتهليل،
فقد دخل ابن الإنسان يحمل البشرية فيه إلى العرش الإلهي.
v أرسلت روحك إلى أرضنا مثل ألسنة نارية!
لكي تهتز أعماقي بصوتٍ كما من هبوب ريحٍ عاصفٍ.
حقًا وهبتني روحك القدوس الناري ساكنًا فيَّ.
v روحك الناري يحولني إلى خادمٍ ناريٍ.
حتى صمتي وسكوني الداخلي ينطق كما بلسانٍ ناري،
لسان الحب الفائق الذي يجتذب الكثيرين إليك!
v أنت تعلم إني أميّ، عاجز عن النطق بالإلهيات.
روحك الساكن فيّ،
يتكلم بي في قلوب الكثيرين.
هو وحده يعرف لغة كل إنسانٍ وفكره وأحاسيسه وعلله.
هو وحده يتكلم مع كل بشرٍ بثقافته الداخلية.
v روحك يشبع احتياجات الكل.
يسكب فرحًا وتعزية في قلوب الحزانى والمتألمين.
يملأ النفس ويشبعها،
فلا تكون في عوزٍ.
يشرق في داخلها،
فتتبدد مملكة الظلمة،
يتسلم عجلة قيادتها،
فلا يقدر عدو أن يقتحمها.
يرفعها إلى السماء،
فلا يقدر العالم أن يهبط بها.
حقًا إنه يهبني لسانًا ناريًا واهب النور،
فيجتذب الكثيرين!
v مع بطرس أجبن أن أشهد لك أمام جارية،
لكن بروحك تقتنص بي الألوف،
ليصيروا أعضاء في جسدك.
سفر أعمال الرسل : 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15 – 16 –17 – 18 – 19 – 20 – 21 – 22 – 23 – 24 – 25 – 26 –27 – 28
تفسير سفر أعمال الرسل : مقدمة – 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7– 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 –15 – 16 –17 – 18 – 19 – 20 – 21 – 22 – 23 – 24 –25 – 26 –27 – 28