تفسير سفر أعمال الرسل ٨ للقمص تادرس يعقوب

الباب الثالث

في اليهودية والسامرة

ص 8- ص 9

الأصحاح الثامن

شاول يضطهد الكنيسة

كان استشهاد القديس استفانوس بداية لحركة اضطهاد قاسية على الكنيسة، دفعت كثير من المؤمنين إلى ترك أورشليم وتشتيتهم. فتح هذا التشتيت الباب للخدمة بكل قوة خارج أورشليم، في اليهودية والسامرة.

  1. اضطهاد عظيم على الكنيسة 1-3.
  2. خدمة فيلبس في السامرة 4-8.
  3. إيمان سيمون الساحر 9-13.
  4. بدء فكرة السيمونية 14-25.
  5. إيمان الوزير الأثيوبي 26-35.
  6. عماد الوزير الأثيوبي 36-38.
  7. القديس فيلبس في أشدود 39-40.
  8. اضطهاد عظيم على الكنيسة

“وكان شاول راضيًا بقتله،

وحدث في ذلك اليوم اضطهاد عظيم على الكنيسة

التي في أورشليم،

فتشتّت الجميع في كور اليهودية والسامرة، ماعدا الرسل”. [1]

أعلن السيد المسيح لتلاميذه وهو في طريقه للصليب “العالم يفرح، وأنتم تحزنون” (يو 16: 20). الآن إذ رُجم القديس استفانوس حزن كثير من المؤمنين عليه، بينما فرح شاول الطرسوسي، لأنه تخلص منه، وقد ظن أن هذه بداية نهاية التلاميذ والكنيسة وذِكرْ اسم يسوع المصلوب في العالم. فقد جاءت كلمة “راضيًا” تحمل الرضا القلبي مع البهجة، إذ وجد مسرته في ذلك. ولعل بولس الرسول اعترف بذلك أمام كثيرين من بينهم القديس لوقا، تبكيتًا لنفسه، وشهادة حية لنعمة الله الغنية التي حولته عن البهجة بقتل الكارزين، ليجد لذته في احتماله اليومي للموت من أجل الكرازة باسم يسوع المصلوب. كان بولس الرسول يشعر بالذنب والندم على تلك الأيام التي كان يُسر فيها باضطهاد المسيحيين، حيث كان يود أن يشبع مشاعره الداخلية أنه يقدم خدمة لله.

لم يكن في ذهن المؤمنين بعد فكرة الكرازة بين الأمم، فقد كانت أفكارهم محصورة في الكنيسة داخل أورشليم. ولعل التلاميذ والرسل أنفسهم وقد سمعوا الوصية المتكررة من فم السيد المسيح حتى قبيل صعوده أن يشهدوا له في كل العالم لم يعرفوا كيف يبدأون الخدمة خارج أورشليم.

استشهاد استفانوس وتفجير حركة اضطهاد ضد الكنيسة في أورشليم دفع المؤمنين للهجرة خارجًا، فكانوا أشبه بالبذار التي غُرست في بلاد كثيرة لنشأة كنائس هناك.

  1. استشهاد القديس استفانوس فجَّر اضطهادًا عظيمًا على الكنيسة التي في أورشليم، فما سرّه؟

يصعب جدًا تبرير بقاء الرسل في أورشليم بينما تشتّت الشعب خارجها، إنّما يمكن القول أولاً وآخرًا أن هذه هي مسرّة السيّد المسيح رأس الكنيسة، الذي أراد أن يبقى الرسل في أورشليم للعمل في الكنيسة الناشئة حديثًا، لكي تكون مركز قوّة روحيّة تسند الكنائس التي تنشأ بواسطة الذين تشتّتوا، وأيضًا الرسل فيما بعد. أراد السيّد المسيح أن يعلن خطّته، أن المدينة التي قاومته وصلبته تبقى مركزًا حيًا للعمل الروحي بواسطة رسله القدّيسين.

  1. إلى ذلك الحين كان اليهود والرومان يحسبون المسيحيين طائفة يهودية ملتزمة بالاشتراك في عبادة الهيكل، ولم تكن القيادات اليهودية، حتى مجمع السنهدرين، تدرك الموقف الحقيقي للإيمان المسيحي. لكن حديث القديس استفانوس الصريح وتأكيده لما سبق فأعلنه السيد المسيح أن الهيكل سيُنقض، وأن العادات اليهودية ستتغير، مثل ختان الجسد وحفظ السبت وقوانين التطهيرات، أثار اليهود للخلاص نهائيًا من أتباع يسوع، لأن وجودهم، خاصة في أورشليم، حيث الهيكل وطقوس الأعياد يمثل خطرًا فادحًا.
  2. امتلأت القيادات اليهودية مرارة إذ أدركوا في خطاب القديس استفانوس اتهامًا علنيًا بأن مجمع السنهدرين قد ارتكب جريمة قتلٍ ليسوع البار. لقد خشوا من نشر هذا الاتهام على مستوى شعبي، حتى بين اليهود غير المؤمنين بيسوع، فيهز صورة قدسية المجمع وربما سلطانه. لذا وجب الخلاص من أتباع المصلوب بأسرع ما يمكن.
  3. يُدعى سافكو الدماء في الكتاب المقدس “عطشى لسفك الدماء”، فيظن المحب لسفك الدماء أنه إذ يمارس الجريمة تشبع أعماقه فيستريح. لكن حينما يسفك الشخص دم أخيه يزداد ظمأ نحو سفك الدم، وهذا بدوره يولد رغبة أحر نحو سفك دمٍ آخر، وذلك كما يولد الغضب ثورة في النفس أكثر، فيزداد الغضوب حدة وكراهية.
  4. لعل استشهاد القديس استفانوس بروح الحب والقوة وهب حتى الضعفاء من المؤمنين قوة للشهادة ليسوع المسيح، فتحول كثيرون بسبب ذلك إلى الشهادة للسيد علانية، ودخل كثيرون في حوار مع اليهود، مما ألهب الموقف جدًا في أورشليم.
  5. كان لا بد أن تُطرد الكنيسة خارج أورشليم لتحمل مع سيدها عار الصليب خارج المحلة.
  6. الآن تخلص شاول الطرسوسي من القديس استفانوس الذي كان يفحمه، لكنه خشي أن يظهر استفانوس آخر يحمل ذات الأفكار، لذلك كرّس شاول طاقاته لمقاومة الكنيسة وتبديدها تمامًا.
  7. لقد ظن شاول أن بموت استفانوس يتنسم الحياة من جديدٍ بلا مقاومة روحية لاهوتية وفكرية، ولم يدرك أن موت استفانوس كان بداية انطلاقة ثورة فكرية في داخله، ليبدأ حياة جديدة على ذات الخط الذي عاش فيه استفانوس. وأن انطلاق استفانوس السريع إلي الفردوس صار سندًا لتحول شاول إلى الإيمان، وقبوله بفرحٍ الآلام والاضطهادات، بل والموت اليومي من أجل اسم يسوع المسيح. هنا يربط القديس لوقا بين استشهاد القديس استفانوس ودخول شاول الطرسوسي في إنجيل الكنيسة، حيث يبدأ الفصل الأول من هذا السفر العملي كأعنف مضطهدٍ للكنيسة، الذي يدفع بالمؤمنين إلى تشتتهم في كور اليهودية والسامرة. لم يدرك أن الروح القدس يستخدم حتى عنفه الشديد لكي ينطلق المؤمنون بعيدًا عن الهيكل بكل طقوسه واجتماعاته اليومية، فينفتح باب الإيمان للأمم.

لقد بقي الرسل في أورشليم، ربما لأن جميعهم عبرانيون فلم يخشَ مجمع السنهدرين من أن يغّيروا العوائد اليهودية، لكن المجمع لم يحتمل بقاء مؤمنٍ واحدٍ يهودي يوناني متنصر، لئلا يظهر استفانوس جديد يقاوم الهيكل والعوائد. ولعل الرسل بقوا هناك، لأنهم شعروا من واجبهم أن يحثوا الشعب على الهروب من الاضطهاد، حتى لا يسقط أحد الضعفاء في إنكار الإيمان، ولكي يشهدوا ليسوع خارج أورشليم. أما هم ففي شجاعة يواجهوا أول حلقة من حلقات الاضطهاد.

“وحمل رجال أتقياء استفانوس،

وعملوا عليه مناحة عظيمة”. [2]

يرى البعض أن “الأتقياء” هنا يُقصد بهم الدخلاء الذين بروح التقوى تركوا الوثنية وقبلوا اليهودية، ربما كان استفانوس نفسه واحدًا منهم. بينما يرى آخرون أنها تحمل معنى أوسع، وهم المؤمنون بالسيد المسيح أيا كان أصلهم، وقد كانوا مملوءين بروح التقوى والغيرة؛ هؤلاء اهتموا بالجثمان الذي تحطم بالحجارة وتهرأ، ليقوموا بدفنه.

يرى آخرون أنه يمكن أن يعني الأتقياء سواء من المسيحيين واليهود أيضًا الذين مع عدم قبولهم الإيمان المسيحي، لكنهم لم يحملوا روح عداوة ضد يسوع المسيح، ولا ضد تلاميذه وأتباعه، وربما اقتنعوا داخليًا بالإيمان المسيحي لكنهم لم يقدروا أن يجاهروا به بعد. هؤلاء لم يستريحوا لرجم القديس استفانوس. وربما شعروا بالظلم، إذ رأوا وجهه كوجه ملاكٍ حتى اللحظة الأخيرة من انتقاله، وسمعوا كلماته الخاصة بانفتاح السماء، وأيضًا طلب المغفرة لراجميه.

يرى البعض أن كلمة “مناحة” في اليونانية كوبتون kopeton معناها الضرب على الصدر؛ ومنها جاءت كلمة “اجيتو” أو “قبطي”، حيث كانت عادة المصريين الدق على الصدر في النواح. وقد تعلم اليهود ذلك منهم، كما حدث في دفن يعقوب حيث “ناحوا نوحًا (ضرب الصدور) عظيمًا وشديدًا جدًا، وصنع لأبيه مناحة (الضرب على الصدور)…” (تك 50: 7، 10، 11).

بحسب المشناة لا تُعمل مناحة لمن صدر عليهم حكم بسبب خروجهم على الناموس. لكن يبدو أن كثير من الفريسيين رأوا في رجم استفانوس خروجًا عن القانون، لذلك سمحوا بعمل مناحة عظيمة.

ربما يتعجب البعض متسائلين: لماذا صُنعت مناحة عظيمة لشهيدٍ رأى السماوات مفتوحة، ويسوع قائمًا عن يمين الله، وقد صار وجه استفانوس قبل استشهاده كوجه ملاكٍ؟

سألت القديسة باولا Paula القديس جيروم: لماذا لا أبكي على بلاسيلا Blaesilla التي تنيحت خلال ثلاثة شهور من قبولها الإيمان؟ أجابها: [لا نتعجب عندما نقرأ عن موسى وهرون أنه قد عُملت عليهما مناحة حسب العادة القديمة، فإنه حتى في أعمال الرسل، في كمال بهاء الإنجيل، نرى الإخوة في أورشليم قد عملوا مناحة عظيمة على استفانوس. لا تشير هذه المناحة العظيمة إلى الحزانى، وإنما إلى موكب الجنازة والجمهور الذي رافقها. هذا ما يقوله الكتاب المقدس عن يعقوب: “فصعد يوسف ليدفن أباه وصعد معه جميع عبيد فرعون شيوخ بيته وجميع شيوخ أرض مصر، وكل بيت يوسف واخوته وبيت أبيه” (تك 50: 7-8). وبعد أسطر قليلة أكمل: “وصعد معه مركبات وفرسان، فكان الجيش كثيرًا جدًا”، وأخيرًا “ناحوا هناك نوحًا عظيمًا وشديدًا جدًا” (تك 50: 10). لم تفرض هذه المناحة المهوبة على المصرين أن يستمروا في بكائهم، إنما تصف مراسيم الجنازة. ففي يسوع، أي في إنجيل المسيح الذي فتح لنا باب الفردوس، صار الموت يصحبه الفرح لا الحزن.]

أقيمت هذه الجنازة الفخمة للتعبير عن الآتي:

أ. أراد هؤلاء الأتقياء تكريم ذاك الذي رُجم ظلمًا.

ب. عبَّر المسيحيون عن عدم خجلهم من العلة التي بسببها رُجم القديس استفانوس، وأنهم لن يخشوا غضب مجمع السنهدرين أو غيرهم ممن يحملون عداوة نحو المؤمنين.

ج. إذ كان القديس استفانوس أول شهيد على اسم السيد المسيح بعد حلول روحه القدوس على الكنيسة، أعلنت الكنيسة اعتزازها بهذا الاستشهاد، بكونه ثمينًا في عيني الله وعيني الكنيسة، علامة كرامة ونصرة. إنهم يكرمون ذاك الذي يكرمه الله نفسه. أرادوا تقديم شهادة عملية لإيمانهم بالقيامة من الأموات وحياة الدهر الآتي.

الكلمة المترجمة “حمل” ترجمتها “جمع”، كما يُجمع محصول الفاكهة. لعل جثمان القديس قد تهرَّأ، فجمعوه ولفوه في أكفان، ووضعوا عليه أطياب. إنه بالحق أشبه بفاكهة سماوية، جُمعت من حديقة الحب الإلهي، ليجد فيها السمائيون نسمات المسيح الزكية ورائحة الحب الفائق.

“وأمّا شاول فكان يسطو على الكنيسة،

وهو يدخل البيوت ويجر رجالاً ونساء،

ويسلِّمهم إلى السجن”. [3]

الكلمة اليونانية elumaineto المترجمة “يسطو” في الأصل اليوناني تُستخدم لسطو الوحوش المفترسة على الإنسان لتمزقه، وهي قريبة من الكلمة التي استخدمها الرسول نفسه عندما اعترف: “كنت اضطهد كنيسة الله بإفراط وأتلفها” (غل 1: 13). هكذا كان شاول كوحشٍ مفترسٍ “لم يزل ينفث تهددًا وقتلاً” (أع 9: 1).

في أكثر من موقفٍ يصف الرسول بولس نفسه كيف كان يضطهد الكنيسة بسلطان من قِبَلْ رئيس الكهنة، مستخدمًا كل وحشية (أع 22: 4-5، 19؛ 26: 9-11؛ 1 تي 1: 13). وقد نتج عن هذا الاضطهاد قتل بعض المؤمنين كما شهد الرسول بولس عن نفسه (أع 21: 4؛ 26: 10).

كان السنهدرين يصادر ممتلكات المسيحيين، وكان اليهود ينهبون ثرواتهم، وكما يقول الرسول بولس عن خبرة عاشها: “قبلتم سلب أموالكم بفرحٍ، عالمين في أنفسكم أن لكم مالاً أفضل في السماوات وباقيًا” (عب 10: 34).

كان بسلطانٍ يقتحم كل بيتٍ به شخص مسيحي أو أكثر، ليلاً أو نهارًا، يكسر الأبواب بالقوةٍ. يقيد الرجال والنساء، ويجرهم في الشوارع، غير مبالٍ بمريضٍ أو شيخٍ أو سيدةٍ، مقتادًا الكل إلى السجن، حتى يصدر الحكم عليهم بالقتل، اللهم إلا إذا أنكروا الإيمان، وجدفوا على اسم يسوع المسيح، وقد ألزم البعض على ذلك (أع 26: 11).

كان في سلطان مجمع السنهدرين أن يسجن من يراهم مجرمين ضد الدين، لكن ليس من حقهم الحكم برجمهم أو قتلهم بدون إذن السلطات الرومانية.

كان شاول الفريسي الشاب المملوء غيرة على تقليدات آبائه أفضل أداة في نظر رئيس الكهنة لتحقيق هدفه، وأفضل رسول لمجمع السنهدرين لإتمام رسالته. وكان شاول مقتنعًا بما يفعله. ففي نظره كيف يمكن لمجرمٍ مصلوبٍ أن يدعي بأنه المسيا، وقد شهد الكتاب المقدس أنه ملعون من علق على خشبة. لهذا كان في نظر نفسه رجلاً مؤمنًا كتابيًا يتطلع إلى يسوع أنه مخادع، وإلى هذه الحركة الجديدة إنها تجديف على الله وعلي ناموسه وهيكله، كما على الأمة اليهودية كلها.

  1. خدمة فيلبس في السامرة

“فالذين تشتّتوا، جالوا مبشرين بالكلمة”. [4]

تحقق قول السيّد المسيح: “جئت لأُلقي نارًا، فماذا أريد لو اضطربت؟” (لو12: 49). فقد شعرت القيادات اليهوديّة بأن نار الكرازة بالمسيح المخلّص قد التهبت في أورشليم، وإذ أرادوا إخمادها صبّوا غضبهم وأثاروا الاضطهاد على من التهبت نفوسهم بنار الروح القدس. تشتّت المؤمنون خارج أورشليم، لكن لم يكن ممكنًا لقوّات الظلمة أن تطفئ نار الروح، بل التهبت النيران في المناطق المحيطة.

أرادوا طردهم من مدينة اللَّه أورشليم، فإذا باللَّه يقيم له مدنًا وقلوبًا يسكن فيها في مواضع كثيرة، بلغت إلى السامرة التي يكنّ اليهود لها كل عداوة.

تشتت المٌضطهدون، فجالوا يبشرون بالكلمة. وجاءت الكلمة اليونانية للتشتت تشير إلى نثر البذور. فقد أثمرت دماء الشهداء، وقدم الاضطهاد نموًا في حياة الكنيسة، فلم تحل بالكنيسة حالة من الإحباط والشكوى والتذمر والضيق، بل على العكس جال المُضطهدون ينثرون بذار الإيمان في بلادٍ كثيرةٍ، فلم يعد الإيمان حبيس مدينة أورشليم.

ليس من دليلٍ على أن الذين تشتتوا كانوا مُسامين للعمل الكرازي، بل كانوا من الشعب، فحيث يمتلئ القلب بالحب يفيض الفم بالحديث عن المخلص. ليس شيء أحب لدى المسيحي من الاهتمام بخلاص كل نفس، والعمل لحساب ملكوت الله كي يتمتع كل إنسان بعمل الله الفائق.

الكرازة أو الشهادة لإنجيل الخلاص هي عمل جوهري يمارسه كل مؤمن، سواء كان كاهنًا أو من الشعب، رجلاً أو امرأة، صاحب ثقافة عالية أو أمّيًا. بدون روح الكرازة يفقد المؤمن سمته كإنسانٍ مسيحيٍ. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [أي نفع لمصباحٍ بلا نورٍ، وأي نفعٍ للمسيحي بدون المحبة (حبه لخلاص إخوته).]

في مقال عن رسالة المسيحي وجه القديس يوحنا الذهبي الفم حديثه للشعب، قائلاً:

[يا لها من خسارة عظيمة في الإخوة! قليلون هم الذين يهتمون بالأمور الخاصة بالخلاص.

يا له من جزء كبير من جسد الكنيسة يشبه الميت الذي بلا حراك!!

تقولون: وماذا يخصنا نحن في هذا؟

إن لديكم إمكانية عظمى بخصوص إخوتكم. فإنكم مسئولون إن كنتم لا تنصحوهم، وتصدون عنهم الشر، وتجذبونهم إلى هنا بقوة، وتسحبوهم من تراخيهم الشديد. لأنه هل يليق بالإنسان أن يكون نافعًا لنفسه وحده، بل يلزم أن يكون نافعًا لكثيرين أيضًا.

ولقد أوضح السيد المسيح ذلك عندما دعانا “ملحًا” (مت 13:5)، و”خميرة” (مت 33:13)، و”نورًا” (مت 14:5)، لأن هذه الأشياء مفيدة للغير ونافعة لهم.

فالمصباح لا يضيء لذاته، بل للجالسين في الظلمة. وأنت مصباح، لا لتتمتع وحدك بالنور، إنما لترد إنسانًا ضل، لأنه أي نفع لمسيحي لا يفيد غيره؟! ولا يرد أحدًا إلي الفضيلة؟!

مرة أخرى لا يُصلح الملح نفسه، بل يصلح الطعام لئلا يفسد ويهلك… هكذا جعلك الله ملحًا روحيًا، لتربط الأعضاء الفاسدة أي الإخوة المتكاسلين المتراخين، وتشددهم وتنقذهم من الكسل كما من الفساد، وتربطهم مع بقية جسد الكنيسة.

هذا هو السبب الذي لأجله دعانا الرب “خميرة”، لأن الخميرة أيضًا لا تخمر ذاتها، لكن بالرغم من صغرها تخمر العجين كله مهما بلغ حجمه. هكذا افعلوا أنتم أيضًا. فإنكم وإن كنتم قليلين من جهة العدد، لكن كونوا كثيرين وأقوياء في الإيمان والغيرة نحو الله. وكما أن الخميرة ليست ضعيفة بالنسبة لصغرها، إذ لها قوة وإمكانية من جهة طبيعتها… هكذا يمكنكم إن أردتم أن تجتذبوا أعدادًا أكثر منكم، ويكون لهم نفس المستوى من جهة الغيرة.]

“فانحدر فيلبس إلى مدينة من السامرة،

وكان يكرز لهم بالمسيح”. [5]

إذ كانت اليهوديّة تخشى ظهور استفانوس آخر يحاجج بروح القوّة، غالبًا ما تطلّعت إلى الرجل الثاني بعد استفانوس مباشرة وهو الشمّاس فيلبّس. هنا في طاعة لوصيّة السيّد المسيح ترك المدينة وهرب إلى مدينة أخرى (مت 10: 23). اضطرّ إلى ترك أورشليم والهروب إلى السامرة، لا خوفًا على حياته، وإنّما للكرازة بإنجيل الخلاص. لقد سمح اللَّه له بالضيق لكي ينطلق للعمل خارج أورشليم، فتتحقّق خطّة اللَّه. فقد صار نجاح الخدمة في السامرة جسرًا للعبور بالإنجيل إلى الأمم. لأن السامريّين هم شعب مهجّن من اليهود والأمم.

ليس من الواضح إن كان يتحدث عن مدينة السامرة أم يقصد الإقليم ككل، فكلمة “السامرة” في العهد الجديد غالبًا ما يُقصد بها الإقليم لا المدينة. هنا تحقق لغز شمشون: “يخرج من الآكل أكلاً، ومن الجافي حلاوة”، فقد أخرج الاضطهاد نموًا للكنيسة واتساعًا لها. إذ لم يهرب المُضطهدون خوفًا من الضيق والألم، بل في طاعة لوصية سيدهم أنهم متى اضطهدوهم يهربون إلى مدينة أخرى، لا في رعبٍ وخوفٍ، بل للشهادة في موقعٍ جديدٍ يقبل الكلمة. إنه هروب لأجل انتشار الكرازة ولتنصير العالم.

مدينة السامرة: يظن البعض أنها هي بعينها شكيم أو سوخار، مدينة المرأة السامرية التي التقت مع السيد المسيح (يو4: 25). كانت مدينة السامرة القديمة عاصمة إقليم السامرة، قام بتدميرها هركانوس Hyrcanus تدميرًا كاملاً حتى لم يبقَ لها أثر. وكما يقول المؤرخ يوسيفوس أنه نزع عنها العلامات ذاتها التي تدل على وجود مدينة هناك. قام هيرودس الكبير فيما بعد ببنائها ودعاها سبسطية Sebaste التي تعني أوغسطا Augusta، تكريما للإمبراطور أوغطس Augustus. ولعلها كانت مدينة السامرة، ويرى البعض أن المدينة هي جت Gitta.

انطلق الشماس التالي للقديس استفانوس، وكان مملوءً من الروح القدس للخدمة الإنجيلية لأهل السامرة، الذين وجد بينهم من سبقوا فاعترفوا: “نحن قد سمعنا ونعلم أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم” (يو 4: 42).

انحدر” وهو تعبير يطلق على كل من نزل من أورشليم بكونها مرتفعة على الجبل.

حُسب ذهاب القديس فيلبس إلى السامرة لتبشيرها خطوة شجاعة وجريئة، حيث يكرز رجل عبراني بين السامريين، بالرغم مما كان يحمله اليهود من عداوة للسامريين. غير أننا نقرأ في قصة المرأة السامرية (يو 4: 25) كيف كان السامريون يترقبون مجيء المسيا بكل شوقٍ وغيرةٍ.

سلك على منوال القديس استفانوس الذي كشف عن جوهر الإيمان المسيحي والتحرر من الطقوس اليهودية الحرفية، وكأنه كان تلميذًا له. وفي نفس الوقت فتح الباب أمام بولس الرسول ليكرز بين الأمم. وكان القديس فيلبس مع القديس استفانوس يمثلان حلقة الوصل بين بطرس الرسول رسول الختان وبولس الرسول رسول الأمم، أو بين كنيسة أورشليم وكنيسة الأمم.

جاءت كلمة “يكرز” تحمل معنى الإعلان عن ظهور ملكٍ. جاء القديس فيلبس يعلن لهم أنه قد جاء المسيا المنتظر لكي يملك. لم يكن الكارزون يبشرون بشيء آخر سوى تحقق النبوات والوعود الإلهية بمجيء يسوع المسيح مخلص العالم ليملك على القلوب.

“وكان الجموع يصغون بنفسٍ واحدةٍ إلى ما يقوله فيلبس،

عند استماعهم،

ونظرهم الآيات التي صنعها”. [6]

دهشت المرأة السامريّة حين تحدّث معها يسوع المسيح طالبًا منها أن يشرب، ولم تصدّق نفسها، قائلة: “كيف تطلب منّي لتشرب، وأنت يهودي، وأنا امرأة سامريّة؟” (يو4: 9). الآن هوذا قادم السيّد المسيح في القدّيس فيلبّس المبّشر ليذبح العداوة، ويهبهم روح الحب حتى فيما بينهم، فكانت الجموع تصغي بنفسٍ واحدةٍ. قدّمت كلمة الإنجيل مصالحة بين النفس والجسد في الرب، ومصالحة بين السامريّين وبعضهم البعض ليحملوا النفس الواحدة، ومصالحة مع اليهود الذين قبلوا الإيمان، وحتى مع أعدائهم… هذا كلّه خلال مصالحتهم مع اللَّه واهب الحب والسلام.

شتان ما بين موقف اليهود وموقف السامريين، فاليهود كجماعة كانوا يقاومون الحق في أيام خدمة السيد المسيح كما في عصر الرسل، فكانوا يتحركون وراء القديس بولس ليفسدوا عمله في كل مدينة، لكن وُجد قلة قليلة قبلت الإيمان، أما السامريون ففي أيام خدمة السيد المسيح جاءت مدينة سوخار بأكملها لمجرد شهادة امرأة سامرية أنها وجدت من قال لها كل ما قد فعلته (يو4: 39-42)، وها هم في عصر الرسل قد أنصتوا للقديس فيلبس بنفسٍ واحدةٍ. تحركوا كجماعةٍ معًا لقبول الإيمان.

“لأن كثيرين من الذين بهم أرواح نجسة،

كانت تخرج صارخة بصوتٍ عظيمٍ،

وكثيرون من المفلوجين والعُرج شُفوا”. [7]

إذ كان السامريون يتلهفون على مجيء المسيا، كانوا يصغون بنفسٍ واحدةٍ إلى ما يقوله فيلبس، وقد أيده الروح القدس بكلمات الحكمة واخراج شياطين وعمل أشفية، فتحولت المدينة إلى فرحٍ عظيمٍ، أو إلى عرسٍ سماويٍ.

كلما انتشرت كلمة الكرازة بالإنجيل انهارت مملكة إبليس، ولم يعد لعدو الخير بجنوده موضع في المؤمنين، ولا أن يجدوا راحة في عقولهم، لأنها صارت في حيازة المخلص، يقيم مملكته فيهم. إذ يدخل القدوس الإنسان الداخلي، ويتجلى داخل النفس، لا يمكن للأرواح النجسة أن تبقى فيها، ولا للظلمة أن تسيطر عليه.

“فكان فرح عظيم في تلك المدينة”. [8]

كان القدّيس استفانوس قد صار موضوع سرور السماء، لأنّه تشبّه بمخلّصه حتى في لحظات رجمه، وحمل على ملامح وجهه سمات ملائكيّة، وصار الشهيد الأول والمثل الرائع للمؤمن شريك المسيح في صلبه. الآن زميله أو تلميذه فيلبّس موضوع سرور السامرة، عاصمة السامريّين، يفرحون لأنّهم اكتشفوا أنّهم موضوع حب اللَّه الفائق، وأن أبواب السماء مفتوحة أمامهم، وحضن اللَّه ينتظرهم. صار فيلبّس المبّشر الأول خارج أورشليم.

تهلّلت مدينة السامرة، فقد دخل إليها السيّد المسيح ليسكن في قلوب المؤمنين، محطمًا العداوة القديمة بينهم وبين اللَّه، وبينهم وبين اخوتهم اليهود، فقد جمع السيد اليهود والأمم معًا أعضاء في جسده المقّدس، الذي هو الكنيسة.

قبول الإنجيل أو البشارة المفرحة بالخلاص يرد النفس كما الجماعة إلى بهجة الخلاص. فتسمع هنا عن الفرح العظيم الذي عمّ مدينة السامرة. سرّه حلول السيد المسيح مصدر الفرح في أعماقهم وفي وسطهم. كما تهللوا حين رأوا مملكة إبليس تنهار تحت أقدامهم، ولم يعد للأرواح الشريرة سلطان عليهم. لقد شُفيت نفوسهم، كما رأوا المرضى جسديًا ينالون الصحة. أخيرًا، إذ صار لهم الروح الواحد، عمّ فيهم الفرح المشترك حيث يفرح كل عضو لفرح الأعضاء الأخرى ونموها.

البشارة بالخلاص أو بالإنجيل “الأخبار السارة” تنزع عن البشريَّة روح الكآبة التي ملكت عليهم بالخطيّة، لتقيم ملكوت اللَّه المفرح في أعماق النفس. فالمسيحيَّة دعوة لخبرة الحياة السماويّة المتهلّلة في الداخل.

  1. إيمان سيمون الساحر

“وكان قبلاً في المدينة رجل اسمه سيمون،

يستعمل السحر،

ويُدهش شعب السامرة،

قائلاً أنه شيء عظيم”. [9]

كان استخدام السحر أمرًا شائعًا في العالم القديم. في البداية كان السحرة يدرسون الفلسفة وعلم التنجيم والأفلاك والطب الخ. لكن صار اسم “السحرة” يشير إلى الذين يستخدمون معرفة الفنون بغرض التعرف على المستقبل، بدعوى أن ذلك يتحقق خلال تحركات الكواكب، ويشفون المرضى بالتعاويذ السحرية (إش 2: 6؛ دا 1: 20؛ 2: 2). وقد حرّمت الشريعة ذلك (لا 19: 31؛ 20: 6).

“وكان الجميع يتبعونه،

من الصغير إلى الكبير،

قائلين: هذا هو قوة اللَّه العظيمة”. [10]

يرى بعض الدارسين أن سيمون هذا هو الذي أشار إليه المؤرخ يوسيفوس، الذي وُلد في قبرص، وكان ساحرًا. استخدمه فيلكس الوالي لكي يغوي دروسللا Drusilla أن تترك زوجها عزيزوس Azizus وتتزوجه. لكن رفض بعض الدارسين ذلك، لأن سيمون هنا غالبًا ما كان يهوديًا أو سامريًا، كرَّس حياته لدراسة فنون السحر. درس الفلسفة في الإسكندرية، وعاش بعد ذلك في السامرة.

ادعي أنه المسيح، ورفض ناموس موسى، وكان عدوًا للمسيحية، وإن كان قد اقتبس بعض تعاليمها لكي يجتذب بها البعض.

“وكانوا يتبعونه

لكونهم قد اندهشوا زمانًا طويلاً بسحره”. [11]

إذ رأى عدو الخير كلمة الله يتجسد، وربما أدرك أن مملكته تنهار، بذل كل الجهد لإقامة العقبات في كل موضع، فحث سيمون على عمل السحر زمانًا طويلاً، وخدع الجميع من الصغير إلى الكبير.

كان سيمون الساحر (ماجوس) شخصية خطيرة، لها سمعتها في الأوساط التاريخية والعلمية، استخدم وسائل شيطانية كثيرة، وحسبه الجميع قوة الله العظيمة. وبحسب القديس إيريناوس كان يجول بامرأة تدعى هيلانة، تُدعي أنها من تجسد سابق من إله العقل، أو من فكر الإدراك الإلهي الذي خرجت منه كل القوة الملائكية والمادية. ويقدم القديس هيبوليتستقريرًا شاملاً لمنهجه القائم على أساس غنوسي، دعاه “الكشف الأعظم”.

ويروي الشهيد يوستين كيف استطاع هذا الساحر أن يجتذب أشخاصًا يكرسون حياتهم لنظامه بواسطة قوة السحر، ليس فقط في السامرة، بل وفي إنطاكية أيضًا وروما. وقد عُمل له تمثال في روما نُقش عليه: “تذكار لسمعان الإله المقدس”. وقد أثار الحكام في روما ضد المسيحيين. ويُقال أنه دخل في صراعٍ مريرٍ مع القديس بطرس انتهي بدحره. وبتقرير العلامة أوريجينوس بقت جماعة السيمونيين تخرب في الكنيسة حتى منتصف القرن الثالث.

قوة الله العظيمة“، وتعني: “الله القوي” أو “يهوه الجبار”. جاء في كتاب اليوبيل (أبوكريفا يهودي) أن الشعب في مصر كان يخرج وراء يوسف ويصيحون El- El wa abir El، ومعناه “الله والقوة الذي من الله”. ويرى البعض أن الترجمة الدقيقة لعبارة “قوة الله العظيمة” هي: “هذا هو قوة الله، الإله الذي يُدعى العظيم“.

تسبب سيمون في عزل بيلاطس بنطس، فقد أعلن أنه سيذهب إلى جبل جرزيم، ويستخرج من تحت أنقاض هيكل جرزيم الآنية التي كان يستخدمها موسى نفسه. فانطلقت وراءه الجماهير، مما اضطر بيلاطس أن يرسل حملة من الجنود فحدثت مذابح رهيبة. اشتكى السامريون للحاكم الروماني في سوريا، فأبلغ روما التي استدعت بيلاطس بلا عودة.

يروي هيبوليتس أنه في استعراض له بروما طلب أن يدفنوه حيًا، مدعيًا أنه سيقوم في اليوم الثالث، فدُفن ولم يقم.

“ولكن لمّا صدقوا فيلبس،

وهو يبشّر بالأمور المختصّة بملكوت اللَّه،

وباسم يسوع المسيح،

اعتمدوا رجالاً ونساء”. [12]

يقول لوقا البشير: “ولكن لما صدقوا فيلبس” [12]، وكأنهم قارنوا بين الحق الذي شهد له فيلبس الرسول، والسحر والأعمال المبهرة التي مارسها سيمون، فأعطى الروح القدس قوة لكرازة فيلبس حطمت أباطيل إبليس وجنوده.

يقرن القديس فيلبس ملكوت السماوات بالعماد باسم يسوع المسيح.

في عرضٍ رائعٍ، يقدم لنا الشهيد كبريانوس خبرته بخصوص معموديته، قائلاً:

[إنني مثلك، ظننت مرة إنني كنت حرًا، مع إنني كنت أسيرًا، مقيدًا في ظلمةٍ روحيةٍ.

نعم كنت حرًا، أحيا كيفما أشاء. ولكنني كنت في فراغٍ إلي زمنٍ طويلٍ. كنت أبحث على الدوام عن شيءٍ أؤمن به. مع تظاهري بأنني واثق من نفسي، كنت كموجةٍ تلطمها الريح. كنت أيضًا أنجذب إلي كل أمور هذه الحياة معتزًا بالممتلكات والسلطة. بينما كنت أعرف في قلبي أن كل هذه الأمور ليست إلا كفقاعةٍ علي البحر، تظهر الآن ثم تتفجر لتزول إلي الأبد. مع تظاهري باليقين الخارجي، كنت أعرف أنني مجرد تائه في الحياة، ليس لي خطة أسلكها، ولا مسكن تستقر فيه نفسي.

يمكنك أن ترى إنني لم أعرف شيئًا عن الحياة الحقيقية، الحياة الجديدة المقدمة لنا من فوق. لأنني كنت أبحث عن الحق خلال خبراتي الذاتية، معتمدًا علي طرق منطقي الذاتي، لذا بقي الحق مراوغًا. وإذ اعتمدت علي فهمي الخاص، كان نور الحضرة الحقيقية لله مجرد إشراقة بعيدة.

سمعت أن رجالاً ونساءً يمكنهم أن يُولدوا من جديد، وأن الله نفسه أعلن طريق تحقيق هذا الميلاد الجديد بالنسبة لنا، وذلك لمحبته للخليقة التائهة مثلي.

في البداية ظننت أن هذا مستحيل. كيف يمكن لشخص مثلي عالمي وعنيف أن يتغير ويصير خليقة جديدة؟ كيف يمكن لمن هو مثلي أن يعبر من تحت المياه ويعلن أنه قد وُلد من جديد؟ هذا بالنسبة لي أمر غير معقول، أن أبقى كما أنا جسمانيًا، بينما يتغير صُلب كياني ذاته، وأصير كأنني إنسان جديد.

لم أرد أن أترك عدم إيماني، ومقاومتي لهذه الفكرة بأنني أولد من فوق. لقد اعترضت: “نحن من لحمٍ ودمٍ، مسالكنا طبيعية، غريزية، مغروسة بحق في أجسامنا. إننا بالطبيعة نقدم أنفسنا على الغير، ونسيطر ونتحكم ونصارع لكي نغلب الآخرين مهما كانت التكلفة. توجد بعد ذلك عادات اقتنيناها حتى وإن كانت تضرنا، صارت هذه العادات جزًء منا، كأنها أجسامنا وعظامنا. كيف يُمكن لشخصٍ أحب الشرب والولائم أن يصير ضابطًا لنفسه ومعتدلاً؟ كيف يمكنك أن تستيقظ صباحًا ما وبمسرةٍ ترتدي ثوبًا بسيطًا وقد اعتدت علي الملابس الفاخرة وما تجلبه من الأنظار والتعليقات؟ كيف يمكنك أن تحيا ككائنٍ متواضعٍ بينما قد نلت كرامة في أعين الجماعة؟…

هكذا كان تفكيري الطبيعي، إذ كنت في عبودية لأخطاء لا حصر لها تسكن في جسدي. بالحقيقة يئست من إمكانية التغيير. فقد تكون تلك العادات ضارة لي، لكنها كانت جزءً مني. لذلك كان التغير مستحيلاً، فلماذا أصارع؟ فإنني كنت أشبع رغباتي بتدليلٍ.

ولكن… في يومٍ أخذت خطوة وحيدة بسيطة وضرورية متجهًا نحو الله. تواضعت أمامه وكطفل قلت: “أؤمن”. نزلت تحت المياه المباركة… فغسلت مياه الروح الداخلية وسخ الماضي، وكأن بقعة قذرة قد أُزيلت من كتانٍٍ فاخرٍ، بل وحدث ما هو أكثر.

أشرق نور عليَّ كما من فوق. اغتسلت في سلامٍ لطيفٍ. تطهرت في الحال. قلبي المظلم يتشبع بحضرته، وعرفت… عرفت… أن الحاجز الروحي القائم بيني وبين الله قد زال. تصالح قلبي وقلبه. أدركت الروح، نسمة الآب، قد حلّ فيّ من هو فوق هذا العالم. وفي تلك اللحظة صرت إنسانًا جديدًا.

منذ ذلك الحين وأنا أنمو في معرفة كيف أحيا بطريقٍ ينعش حياتي الجديدة المعطاة لي ويعينها. ما كنت أتشكك فيه صار لازمًا أن أتعامل معه بكونه الحق واليقين. ما كنت أخفيه يلزم أن يخرج إلي النور. بهذا ما كنت أسيء فهمه بخصوص الله والعالم الروحي بدأ يصير واضحًا.

وأما عن عاداتي الخاصة بإنساني القديم، فقد تعلمت حسنًا كيف تتغير… حيث تُعاد خلقة هذا الجسد الأرضي بواسطة الله. في كل يوم أنمو علي الدوام، صرت أكثر قوة، وحيوية في روح القداسة.

الآن أخبرك ببساطة الخطوة الأولي في طريق الروح: قف أمام الله كل يومٍ بوقارٍٍ مقدسٍ، كطفلٍ بريءٍ ثق فيه. هذا الاتجاه يحمي نفسك. يحفظك من أن تصير مثل الذين ظنوا أنهم متأكدون أنهم يخلصون، فصاروا مهملين. بهذا فإن عدونا القديم، الذي يتربص دومًا، أسرهم من جديد.

لتبدأ اليوم أن تسير في طريق البراءة، الذي هو طريق الحياة المستقيمة أمام الله والإنسان. لتسر بخطوة ثابتة. أقصد بهذا أنك تعتمد علي الله بكل قلبك وقوتك.

ألا تشعر به، الآب، إذ هو موجود حولك؟ إنه يود أن يفيض عليك… فقط اذهب إليه وأنت متعطش للحياة الجديدة… افتح الآن نفسك واختبر نعمته، التي هي الحرية والحب والقوة، تنسكب عليك من أعلى، تملأك وتفيض.

افتح نفسك أمامه الآن، هذا الذي هو أبوك وخالقك. كن مستعدًا أن تنال الحياة الجديدة وتمتلئ بها… هذه التي هي الله نفسه.]

“وسيمون أيضًا نفسه آمن،

ولمّا اعتمد كان يلازم فيلبس،

وإذ رأى آيات وقوات عظيمة تُجرى اندهش”. [13]

استطاع سيمون في البداية أن يميز بين الحق والباطل، وما هو من الله وما هو من الشيطان، فآمن وصار مرافقًا لفيلبس الرسول. لقد أبهرته الآيات والقوات العظيمة، وللأسف اندهش فاشتهاها، وصمم أن يشتريها بالمال.

v عندما نسمع: “من آمن واعتمد خلص” (مر 16: 16)، فبالطبع لا نفهم ذلك على من يؤمن بأيّة طريقة، فالشيّاطين يؤمنون ويقشعرّون (يع 2: 19). كما لا نفهم ذلك على من يتقبّلون المعموديّة بأيّة طريقة كسيمون الساحر الذي بالرغم من نواله العماد إلا أنه لم يكن له أن يخلص. إذن عندما قال: “من آمن واعتمد خلص” لم يقصد جميع الذين يؤمنون ويعتمدون بل بعضًا فقط، هؤلاء الذين يشهد لهم أنهم راسخون في ذلك الإيمان الذي يوضّحه الرسول: “العامل بالمحبّة” (غل 5: 6).

القديس أغسطينوس

v حتى سيمون الساحر جاء يومًا إلى الجرن (أع 13:8) واعتمد دون أن يستنير، فمع أنه غطس بجسمه في الماء، لكن قلبه لم يستنر بالروح. لقد نزل بجسمه وصعد، أما نفسه فلم تُدفن مع المسيح ولا قامت معه ( رو 4:6، كو 12:2).

ها أنا أقدم لكم مثالاً لساقطٍ حتى لا تسقطوا أنتم. فإن ما حدث كان عبرة لأجل تعليم المتقرّبين لهذا اليوم (يوم العماد).

إذن ليته لا يكون بينكم من يجرب نعمة اللَّه، لئلا ينبع فيه أصل مرارة ويصنع انزعاجًا (عب 15:12)!

ليته لا يدخل أحدكم وهو يقول: لأنظر ماذا يعمل المؤمنون! لأدخل وأرى حتى أعرف ماذا يحدث؟! (أي يدخل لمجرد حب الاستطلاع).

أتظن أنك ترى الآخرين وأنت (في نيتك أن) لا ترى؟! أما تعلم إنك وأنت تفحص ما يحدث معهم، يفحص اللَّه قلبك؟!

القديس كيرلس الأورشليمي

  1. بدء فكرة السيمونية Simony

“ولما سمع الرسل الذين في أورشليم أن السامرة قد قبلت كلمة اللَّه،

أرسلوا إليهم بطرس ويوحنا”. [14]

القديس يوحنا الذي سبق فطلب مع أخيه يعقوب من رب المجد يسوع أن يرسل نارًا ليحرق قرية سامرية (لو 9: 25 الخ)، هو نفسه الآن ينطلق مع القديس بطرس، منتدبين من الكنيسة في أورشليم، لمساندة القديس فيلبس في خدمته في السامرة. ذهبا الآن لكي تنزل نار الروح القدس الذي يجدد القلوب ويسكب المحبة الإلهية فيها، ويشَّكل النفوس لتصير العروس المقدسة للسيد المسيح.

إذ قبل السامريون الكلمة بأعداد كبيرة صار العمل يحتاج إلى أيدٍ أخرى للعمل بجانب القديس فيلبس. إنها أول حركة كنسية جريئة من أورشليم، أن تبعث رسولين إلى خارج اليهودية لخدمة السامريين، لينضم سامريون إلى العضوية الكنسية.

إرسال بطرس ويوحنا إلى السامرة من قبل الكنيسة في أورشليم يؤكد العمل الكنسي الجماعي، ودور الكنيسة في أورشليم القيادي، وأنه لم يكن بين الرسل رئيس، بل كان الكل متساوين في السلطان الرسولي. لا يحمل القديس بطرس رئاسة ليرسل رسلاً، بل في تواضعٍ وحبٍ وشركةٍ أطاع صوت جماعة الرسل الذين أرسلوه مع القديس يوحنا للعمل بحكمة. اختار الرسل القديس بطرس المعروف بغيرته واندفاعه ومعه القديس يوحنا المعروف بهدوئه ورقته؛ وقد حدث انسجام بينهما مع اختلاف سماتهما، إذ شعر كل منهما محتاجًا للآخر. فاختلاف السمات أو المواهب علامة صحية للكنيسة مادام الحب مع التواضع يعملان في حياة الجماعة.

“اللذين لمّا نزلا صلَّيا لأجلهم،

لكي يقبلوا الروح القدس”. [15]

“لأنه لم يكن قد حلّ بعد على أحدٍ منهم،

غير أنهم كانوا معتمدين باسم الرب يسوع”. [16]

“حينئذ وضعا الأيادي عليهم،

فقبلوا الروح القدس”. [17]

كان المؤمنون قد نالوا سرّ العماد، الآن وضع الرسولان بطرس ويوحنا الأيادي ليحل الروح القدس عليهم. وقد تسلم الأساقفة هذا التقليد أو التسليم: “وضع الأيادي“، وقد دُعي سرّ المسحة” أو “سرّ الميرون” حيث يسكن الروح القدس في أعماق النفس، ويقدس حياة المؤمن، ويقوده لكي يحمل أيقونة المسيح، وسأتحدث عنه في ملحقٍ خاص به في نهاية الحديث عن هذا الإصحاح.

لقد سبق فأوصى تلاميذه ألا يدخلوا مدينة للسامريين (مت 10: 5)، الآن بعد صعوده وإرسال روحه القدوس فتح أبوابها لهم ليكرزوا ويعمدوا.

قام القديس فيلبس بتعميدهم باسم الرب يسوع، فلماذا لم يضع يده عليهم ليحل عليهم الروح القدس؟ يرى البعض أن موضوع قبول الأمم للإيمان ونوالهم سرّ العماد وحلول الروح القدس كان أمرًا غاية في الخطورة، لم يكن ممكنًا لليهود المتنصرين في البداية أن يقبلوه. فلو تم ذلك خلال فيلبس وحده لأخذ اليهود المتنصرين منه موقفًا متشددًا، وربما حسبوا عمله باطلاً. لهذا قام بالكرازة والعماد، وجاءت كنيسة الختان ممثلة في شخصي بطرس ويوحنا تثبت صحة العمل بوضع الأيادي ليقبلوا الروح القدس. فما فعله الرسولان لا يقلل من شأن القديس فيلبس، ولا يضعه في موقف العجز عن وضع اليد لقبول الروح القدس، إنما كان بخطة إلهية لتأكيد وحدة العمل جميعًا في فتح باب الإيمان للأمم.

كان قبول الروح القدس في بداية الكرازة يختلف من حالة إلي أخرى حسب ما يراه الروح من أجل ظروف الكنيسة.

v في أيام موسى كان الروح يُعطي بوضع الأيدي (عد 11: 29)، وبوضع الأيدي يعطي بطرس الروح.

القديس كيرلس الأورشليمي

“ولما رأى سيمون أنه بوضع أيدي الرسل يُعطى الروح القدس،

قدّم لهما دراهم”. [18]

ظن سيمون أنه قادر أن ينال سلطان الرسل في صنع الآيات والعجائب بدفع دراهم للرسل، ولم يدرك أن الرسل أنفسهم تمتعوا بها كنعمةٍ مجانيةٍ، مُقدمة لهم من الله نفسه؛ وأن هؤلاء الرسل قد باعوا كل ما لهم ليتبعوا المصلوب. فما أراد أن يقدمه لهم سيمون ليس له موضع في قلوبهم ولا في فكرهم.

مع أن سيمون قد قبل الإيمان المسيحي، لكن قلبه كان لا يزال أسيرًا لعمل أمور فائقة خلال السحر، ولعله ظن في السلطان الرسولي أنه نوع من السحر، ولكن بطبيعة أخرى غير التي مارسه قبل الإيمان.

إنه مثل بلعام، قدم مالاً ليقتنى الموهبة، فكانت غايته نوال مكاسب مادية وراء هذا العمل.

أخيرًا فإن تصرف سيمون يكشف عما في قلبه من كبرياء واعتداد بالذات.

v أحب سيمون الساحر سلطان المسيحيين أكثر من البرّ.

القديس أغسطينوس

“قائلاً: أعطياني أنا أيضًا هذا السلطان،

حتى أي من وضعت عليه يدي يقبل الروح القدس”. [19]

يرى القديس ايريناؤس أن سيمون الساحر ظن أن ما يمارسه الرسل من عجائب هو عن معرفة أعظم للسحر وليس بقوة الله، لذلك أراد اقتناء هذه الموهبة بدراهمٍ، لكشف السرّ له. لقد أظهر رغبته في التعرف على أسرار أعظم للسحر عوض إيمانه بالله وتوبته.

v لا يقدر أن يرجو ملكوت السماوات من يفسد السماء بإصبعه وعصاته السحرية (أي باستخدامه النجوم في السحر).

العلامة ترتليان

v إذ تقبلت الكنيسة العطايا مجانًا من الله تخدم الآخرين مجانًا.

القديس إيريناؤس

v لم يقل: “أعطياني أنا أيضًا شركة الروح القدس” بل قال: “هذا السلطان“… لقد قدم مالاً لمن ليس لهم مقتنيات، مع أنه رأى الناس يقدمون ثمن الأشياء المُباعة ويضعونها عند أرجل الرسل.

القديس كيرلس الأورشليمي

v عندما رأى سيمون ذلك ظن أن هذه القوّة هي من البشر، فأراد أن تكون له هو أيضًا. ما ظنّه أنه من البشر، أراد أن يشتريه من بشر.

القديس أغسطينوس

“فقال له بطرس:

لتكن فضتك معك للَّهلاك،

لأنك ظننت أن تقتني موهبة اللَّه بدراهم”. [20]

كشف له القديس بطرس عن جريمته، وهي اعتقاده أنه قادر أن يقتني المواهب الإلهية التي لا تُقدر بثمن بدفع دراهمٍ.

يؤمن القديس بطرس أن محبة المال مدمرة للنفس، فإن كان قلب سيمون مرتبطًا بهذه الرذيلة إنما يهلك مع ما لديه من فضة، التي حتمًا تزول وتتبدد، بل والأرض كلها تزول. لقد ربط نفسه بما هو زائل فينحدر مع ما ارتبط به.

ظن سيمون أنه قادر أن يشتري من الله إحساناته الإلهية وعطاياه السماوية بالمال؛ وهو بهذا يهين الله الكلي الحنو.

“ليس لك نصيب ولا قرعة في هذا الأمر،

لأن قلبك ليس مستقيمًا أمام اللَّه”. [21]

“نصيب“: تستخدم في توزيع الميراث حيث ينال كل شخص نصيبه منه. فإذ كان قلب سيمون غير مستقيمٍ لم يعد يُحسب ابنا لله القدوس، وبالتالي ليس من حقه أي نصيب في الميراث. وكأن ما يشغل ذهن المسيحي ليس نواله النصيب من الميراث، مهما بلغت قيمته، وإنما التمتع بالبنوة لله، والثبات فيها، عندئذ ما يناله من مواهب في هذا العالم، أو من ميراث في الحياة الأبدية، هو ثمر طبيعي للبنوة الفائقة.

قرعة“: كانت تستخدم حين تتحقق نصرة جيشٍ ما، فيجمع الغنائم وتُستخدم القرعة في توزيعهما. ليس من حق سيمون أن يتمتع بالقرعة، لأنه عزل نفسه عن جيش الله، ولم يعد بالجندي الصالح الذي يهدم حصون إبليس ويسحقه بالنعمة تحت قدميه، فأي قرعة تعمل لحسابه؟

أخيرًا، فإن علاج الموقف ليس مجرد التراجع عن طلب الموهبة بدراهمٍ، بل التحول من الاعوجاج أو عدم استقامة قلبه إلى الاستقامة والقداسة والإخلاص في محبته لله.

لقد آمن سيمون واعتمد، لكنه أصر على الاعوجاج وعدم التمتع بالحياة الجديدة التي في المسيح يسوع. فالله يراه حسبما يكون قلبه عليه، لأنه فاحص القلوب والكلي.

تُنسب السيمونية لسيمون الساحر الذي ظن أنه قادر أن يقتني مواهب الروح القدس بدراهمٍ، إما لمكسبٍ مادي أو لنوال كرامةٍ زمنيةٍ. تناقض السيمونية عمل الروح، لأن مواهب الروح تقدم لمن باعوا العالم وصلبوا الذات مع الشهوات من أجل المجد السماوي. فمن كان نصيبه السماء لا ينتظر مكاسب مادية أو مجدًا زمنيًا.

جاء في إبيفان Epiphan [قال سيمون عن نفسه أنه الابن، وأنه لم يتألم حقيقة، بل بدا لهم هكذا.] [وأنه جاء بنفسه بين اليهود بكونه الابن، وبين السامريين الآب، ولبقية الأمم بكونه الروح القدس.]

في دفاعه الموجه إلى أنطونيوس بيوس كتب الشهيد يوستينوس [كان يوجد سيمون السامري من قرية تدعى Gitton في أيام حكم كلاديوس قيصر في روما مدينتكم الملكية، هذا صنع أعمالاً وسحرًا، وذلك بواسطة الشياطين العاملة فيه. لقد حسبوه إلهًا وكُرم بينكم بعمل تمثال له، حيث أقيم في نهر التيبر بين جسرين، وحمل هذا النقش “Simoni Deo Sanceto” الذي هو “سيمون، اللَّه القدوس.”] وذكر القديس إيريناؤس والعلامة ترتليان ذات القصة.

v سيمون الساحر هو مصدر كل هرطقة، هذا الذي جاء عنه في سفر أعمال الرسل أنه فكَّر أن يشتري بمالٍ نعمة الروح القدس، فسمع القول: “ليس لك نصيب في هذا الأمر” الخ.، وعنه أيضًا كُتب: “منا خرجوا، لكنهم لم يكونوا منا، لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا” (1 يو 19:2).

هذا الإنسان بعدما طرده الرسل جاء إلى روما، حيث استمال إليه زانية تدعى هيلين Helene. وقد تجاسر بفمه المملوء تجديفًا أن يُدعي أنه هو الذي ظهر على جبل سيناء كالآب، وظهر كيسوع المسيح بين اليهود، ليس في جسدٍ حقيقيٍ بل كان يبدو هكذا، وبعد ذلك كالروح القدس الذي وعد المسيح أن يرسله كمعزٍ.

لقد خدع مدينة روما حتى أقام له كلوديوس تمثالاً نقش عليه من أسفل بلغة الرومان: Simoni Deo Sancto، وهى تعني “إلى سيمون اللَّه القدوس”.

القديس كيرلس الأورشليمي

v اشترى سيمون من صور، وهي مدينة فينيقية، زانية معينة تدعى هيلين، اعتاد أن يأخذها معه، معلنًا أن هذه السيدة هي أول إدراكات ذهنية، وأنها أم الجميع، بواسطتها أدرك منذ البداية خلقة الملائكة ورؤساء الملائكة.

القديس ايريناؤس

كشف له الرسول عن سمات شخصيته الخفية وهي “عدم استقامة قلبه”؛ فجريمته تكمن في أعماقه، ولا تقف عند ما نطق به أو سلك به. فهو في حاجة إلى تجديدٍ داخليٍ للقلب. إنه يحمل فكرًا عالميًا ماديًا، أو طبيعيًا، لا يقبل ما لروح لله، فكيف ينال مواهب الروح؟

“فتبْ من شرِك هذا،

وأطلب إلى اللَّه،

عسى أن يغفر لك فكر قلبك”. [22]

قدم له الرسول العلاج وهو “التوبة”، فقد آمن واعتمد، لكن لم يرجع إلى الله بالتوبة… متى قدم توبة يمكنه أن يرفع عينيه إلى الله، فيراه غافر الخطايا، مهما كان جرمها. فالصلوات والطلبات والتضرعات لن تُقبل بدون التوبة.

فكر قلبك“: إنك محتاج ليس فقط إلى التوبة عن تصرفك بطلب مواهب الله المجانية بدراهم، وإنما أيضًا عن فكر قلبك الذي تخفيه في داخلك، لكنه ظاهر أمام الله.

طالبه أن يحول نظره عن المال الذي بين يديه، أو الذي يتوقع نواله، كما يحوله عن حب السلطة والكرامة، ليتطلع إلى أعماقه ويكتشف ما بلغه قلبه من فسادٍ ونجاسةٍ ويصرخ إلى الله مخلصه ليغفر له خطاياه.

مع قوله: “لتكن فضتك معك للهلاك”، بمعنى دعْ سيدك في جيبك لدمارك، يفتح له باب التوبة: “تب من شرك هذا” [22].

“لأني أراك في مرارة المرْ، ورباط الظلم”. [23]

مرارة“: تشير الكلمة هنا إلى السائل الأخضر باصفرار الذي يوجد خفية في الكبد، فإن الخطية تفيض في داخل النفس سائلاً مرًا، يُفقد القلب سلامه، والنفس فرحها، ليعيش الإنسان مرْ النفس، أحيانًا بلا سبب خارجي.

نال سيمون شهرة عظيمة، حسده الكثيرون عليها، وظنه الكثيرون من أسعد الناس وأقواهم، أما القديس بطرس فرأى مرارته الداخلية، وقيود نفسه التي تكبله وتحبسه داخل الظلمة.

لأني أراك في مرارة المر ورباط الظلم” [23]. أدرك القديس بطرس كيف دخل الشيطان بسيمون إلى الكنيسة ليفسدها، فقد كان لعمله هذا أثره على الشرق والغرب إلى قرابة ثلاثة قرون. بل ولازال عدو الخير يبذل كل الجهد لإفساد كنيسة الله بالسيمونية. إنه لا يزال يثمر سيمون علقمًا وأفسنتينًا (تث 29: 18).

يفضل البعض ترجمتها: “مرًا وأفسنتينا”.

رباط الظلم” الأصل اليوناني معناه “قيود الشر“. كان الرسول بولس يطالبه بالتوبة والرجوع إلى الله، وهو يراه مقيدًا بقيود الشر.

v لماذا لم يضرباه بالموت كما حدث مع حنانيا وسفيرة؟ فإنه حتى في الأوقات القديمة الذي جمع الحطب في يوم السبت قُتل (رجمًا) ليكون عبرة للآخرين (عد ١٥: ٣٢)، ولم يحدث هذا بعد في الأمثلة التي بعد ذلك، هكذا في المناسبة الحاضرة.

v هذه كلمات تحمل سخطًا شديدًا. لكنه لم يعاقبه، حتى لا يكون الإيمان بالإكراه، ولكي لا يبدو الأمر فيه قسوة، لكي يفتح باب التوبة، فإنه يكفي لإصلاح أمره أن يقنعه ويخبره بما في قلبه حتى يجتذبه إلى الاعتراف بخطئه. فإن قوله: “أطلبا أنتما إلى الرب من أجلي” هو اعتراف أنه ارتكب خطأً.

القديس يوحنا الذهبي الفم

تًمثل الخطية هنا بالمرارة، السم القاتل، الحرمان من الفرح، هذه كلها من عمل الخطية بكونها مدمرة لكل ما هو صالح، كما تُمثل أيضًا بقيود العبودية والحرمان من حرية الحركة والعمل، والتمتع بالبرّ الإلهي (مز 116: 16؛ أم 5: 22؛ رو 7: 23- 24).

“فأجاب سيمون وقال:

أطلبا أنتما إلى الرب من أجلي،

لكي لا يأتي عليّ شيء مما ذكرتما”. [24]

اظهر سيمون انزعاجًا شديدًا بسبب اللعنة التي حلت عليه، لكن يبدو أنه لم يكن جادًا في توبته. لقد طلب الرسول بطرس منه أن يتوب وأن يصلي، لكي ما يكشف الله عن خطاياه كما يكشف له عن نعمة الخلاص، حيث ينال مغفرة خطاياه ويتمتع بالبركات الأبدية، أما سيمون فيبدو أنه لم يكن يشغله خلاص نفسه، بل يشغله ما تحل به من إهانات وفقدان للكرامة، أي عقوبة الخطية. لهذا لم يطلب من الرسولين أن يسنداه بصلواتهما لأجل توبته، بل لكي لا تحل به العقوبة. حسن أن نطلب صلوات الآخرين عنا، على أن تكون سندًا لنا في صلواتنا؛ نطلبها في شعورٍ حقيقي بالحاجة إلى التوبة، لا بالخوف من العقوبة الإلهية أمام الناس.

لقد تمثل سيمون بفرعون في طلبه من موسى الصلاة عنه (خر 8: 28، 32)، وأيضا يربعام (1 مل 13: 6). هكذا يطلب أحيانًا الأشرار الصلاة من أجلهم، مع تشبثهم وإصرارهم على ممارسة الشر.

“ثم أنهما بعدما شهدا وتكلّما بكلمة الرب،

رجعا إلى أورشليم،

وبشّرا قُرى كثيرة للسامريّين”. [25]

إذ نجح الرسولان في مهمتهما عادا إلى أورشليم، وفي طريقهما كانا يبشران في القرى السامرية التي في الطريق. هكذا مع كل تحرك كان الرسل يهتمون بالشهادة للسيد المسيح والكرازة بالإنجيل.

لماذا عادا إلى أورشليم؟ يرى بعض الدارسين أن الرسل اهتموا بالخدمة في أورشليم حيث صُلب السيد وقام من الأموات، حتى متى آمن به من صلبوه يمكن الكرازة في كثير من البلاد بسهولة، لأن الصالبين آمنوا بقيامته.

رجعا إلى أورشليم“، لم يستخدم الأصل اليوناني صيغة المثنى مما يدل على أن الرسول فيلبس رجع معهما إلى أورشليم حيث قاده الروح القدس إلى غزة.

  1. إيمان الوزير الأثيوبي

ثم أن ملاك الرب كلم فيلبس قائلاً:

قم واذهب نحو الجنوب على الطريق المنحدرة من أورشليم،

إلى غزة التي هي بريّة”. [26]

جاءت كلمة “ملاك” في الكتاب المقدس تحمل معانٍ كثيرةٍ. ولعل ملاك الرب هنا يشير إلى رسول سماوي من قبل الله، ظهر له إما في حلم أثناء نومه، أو في يقظته شاهد رؤيا سماوية.

لم يُعهد العمل الكرازي للملائكة بين البشر، لكنه يُعهد لهم تبليغ رسائل إلهية خاصة لرجال الله سواء في العهد القديم أو الجديد، لتشجيعهم وللكشف عن إرادة الله وخطته، خاصة فيما لا يتوقعه رجل الله.

ظهر له ملاك الرب ودعاه للذهاب في الطريق المنحدرة من أورشليم إلى غزة، أما كيف ذهب، وكيف عرف موضع المركبة، وكيف لحق بها، فهذا كان من عمل الروح القدس قائد الكنيسة في طريق الملكوت.

كان هذا الوزير يسير في طريقه بمركبته التي تجرها الخيول السريعة، فكيف لحق به الرسول فيلبس؟ حتمًا نقله الروح القدس بطريقةٍ أو أخرى.

v انظروا، فإن الملائكة تساعد في الكرازة، لكنهم لا يقومون بالكرازة نفسها، إنما يدعو (البشر) للعمل.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v إننا نعلم أن الخصي الذي كان يقرأ إشعياء النبي ولم يفهم ما كان يقرأه، لم يُرسل إليه ملاك كرسول، ولم يقم ملاك يشرح ما لم يفهمه، ولا استنار داخليًا بنعمة الله دون تدخل إنسانٍ، بل على العكس بناء على مشورة الله جاء إليه فيلبس هذا الذي فهم النبي، وجلس معه، وبكلمات بشرية، ولسان إنساني، شرح له الكتب المقدسة.

القديس أغسطينوس

يا لها من صورة رائعة وحية عن اهتمام الله بنفسٍ واحدةٍ تشتاق إلى معرفة الحق. فإن الله نفسه يعمل، ويحرك أحد السمائيين للعمل، ويبعث أحد خدامه (القديس فيلبس) ليلحق به بوسيلةٍ أو أخرى. إنه لا يكف عن العمل من أجل كل نفس!

غزة أو عزة (تك 10: 19)، وهي إحدى مدن الفلسطينيين، وهبها يشوع ليهوذا (يش 15: 47؛ 1 صم 6: 17)؛ وهي إحدى المدن الخمس الرئيسية للفلسطينيين، تبعد حوالي 60 ميلاً جنوب غرب أورشليم.

توجد مدينتان تحملان ذات الاسم، غزة القديمة، وغزه الجديدة. تنبأ النبي صفنيا عن هجر غزة أي دمارها. وقد قام الاسكندر الأكبر بإعادة بناء جزء منها. بنيت مدينة أخرى فيما بعد حملت ذات الاسم تبعد قليلاً عن غزة القديمة التي هُجرت تمامًا.

توجد طرق كثيرة بين غزة وأورشليم. الطريق المشهور حاليًا وهو أطول الطرق، هو خلال رملة.

التي هي برية“: هنا يشير إما إلى الطريق إليها بكونه طريق صحراوي أو إلى الموضع نفسه.

“فقام وذهب،

وإذا رجل حبشي خصي وزير لكنداكة ملكة الحبشة،

كان على جميع خزائنها،

فهذا كان قد جاء إلى أورشليم ليسجد”. [27]

v يوجد خصيان كثيرون يظنون في أنفسهم أنهم أشجار جافة… اسمع فم إشعياء القائل أنه يوجد مكان مُعد لهم في السماء ولأبناءٍ وبناٍت لهم (إش 56: 3). رمزهم هو عبد ملك الخصي المذكور في ارميا (إر 38: 7)، والخصي للملكة كنداكة في سفر أعمال الرسل (8: 27) الذي بسبب قوة إيمانه اقتنى اسم “رجل” هؤلاء هم الذين كتب لهم إكليمنضس خلف الرسول بولس والذي أشار إليه الرسول رسائل موجهًا كل حديثه تقريبًا إلى طهارة البتولية.

القديس جيروم

v من هو هذا إذن؟.. يقول النبي بوضوح فيما بعد: “لأني حينئذ أقدم للشعوب لغة” (صف 9:3). إذ بعد القيامة أرسل الروح القدس وأعطيت موهبة الألسن “ليعبدوه بكتفٍ (نير) واحدٍ”.

كذلك تنبأ النبي نفسه قائلاً: “ليعبدوه بكتف واحد، ومن عبر أنهار كوش يقدمون تقدمتي” (صف 10:3).

إنكم تعلمون ما جاء في سفر الأعمال حينما جاء الخصي الحبشي عبر أنهار أثيوبيا “كوش”.

القديس كيرلس الأورشليمي

لم يخبره ملاك الرب عن سبب دعوته للسير في هذا الطريق، ولم يطلب القديس فيلبس أيضًا توضيحًا للموقف، لكنه في طاعةٍ كاملةٍ لخطة الله قام ينفذ ما قيل له.

خصي“: كان الخصيان قديمًا يحتلون مراكز سامية في القصور الملوكية في الشرق، ربما لأنهم كانوا على اتصال بنساء الملك وسراريه، وقد صارت كلمة “خصي” لا تعنى بالضرورة أن الشخص مخصي جسديًا، وإنما صاحب مركز سامٍ يأتمنه الملك (أو الملكة) على أسراره ويستشيره في أمور الدولة.

كنداكة: ليس اسم الملكة، بل هو لقب. يرى البعض أن هذا الخصي كان يهوديًا يعمل في قصر الملكة، كما كان دانيال في بابل، ويوسف في مصر، وربما كان دخيلاً إلى الديانة اليهودية.

“وكان راجعًا،

وجالسًا على مركبته،

وهو يقرأ النبي إشعياء”. [28]

قيل إنه يُقصد بإثيوبيا في ذلك الوقت منطقة النوبة، تمتد من الشلال الأول بأسوان حتى الخرطوم، وأن مدنها الكبرى هي ميروي Meroe العاصمة، ونباتا Napata، وأن ملك إثيوبيا يُقدس كإله “ابن الشمس”، له مهابته الدينية، لا يليق به أن يهتم بأمور الدولة المدنية لأنه شخص روحي، والذي يحكم البلاد الملكة الأم، تلقب دومًا كنداكة Candake، Candace.

كان هذا الخصي متدينًا متعلمًا، سافر إلى أورشليم ليسجد في الهيكل؛ كان ضليعًا في قراءة الترجمة السبعينية للعهد القديم. كان في رحلته يقرأ في سفر إشعياء، وقد انشغل قلبه بالبحث عمن يشير إليه هذا النبي.

يقدم لنا القديس ايريناؤس هذا الخصي مثلاً لتأكيد أهمية دراسة الأنبياء، فالكرازة معه لم تأخذ جهدًا من فيلبس بسبب إيمان الخصي بالأنبياء.

v في الحال عندما عمده (فيلبس) فارقه، لأنه لم يعد محتاجًا إلى شيء، إذ كان مهيئًا خلال تعليم الأنبياء. لم يكن يجهل الله الآب، ولا أحكام طريقة الحياة (اللائقة)، إنما كان يجهل مجيء ابن الله. وإذ تعرف عليه ففي وقت قصير من الزمن ذهب في طريقه فرحًا ليكون مبشرًا في إثيوبيا بمجيء المسيح. لذلك لم يجد فيلبس تعبًا عظيمًا أن يدخل إلى حياة هذا الرحل، لأنه كان معدًا في خوف الله بواسطة الأنبياء.

القديس ايريناؤس

v بقراءة النبي صار خصي كنداكة ملكة أثيوبيا مستعدًا لنوال معمودية المسيح.

القديس جيروم

v رافق الروح فيلبس وهو يسلك هذا الطريق. لم يكن الخصي نفسه متراخيًا، ولم تحل به الغيرة فجأة لكي يعتمد، وإنما بعد صعوده إلى الهيكل ليصلي انشغل بالكتاب المقدس.

العلامة ترتليان

تعتبر شخصية هذا الخصي مثلاً رائعًا في التزام الإنسان أن يجاهد في قراءة الكتاب المقدس بمثابرة، طالبًا أن يتفهم الحكمة، ليس فقط من كتب الفلاسفة، وإنما بالأكثر من رجال الله القديسين. كتب القديس جيروم إلى بولينوس أسقف نولا:

v ظهر في سفر الرؤيا سفر مختوم بسبعة ختوم، هذا الذي إذا تسلمه شخص متعلم ويُقال له: اقرأ. هذا يجيب: “لا أقدر لأنه مختوم”. كم من كثيرين اليوم يتباهون بأنفسهم أنهم متعلمون، مع أن الكتاب المقدس بالنسبة لهم مختوم. إنهم لا يقدرون أن يفتحوه إلا بذاك الذي له مفتاح داود، “الذي يفتح ولا أحد يغلق، ويغلق ولا أحد يفتح”. فإن الخصي في أعمال الرسل عندما قرأ إشعياء سأله فيلبس: “ألعلك تفهم ما أنت تقرأ؟” [30]، أجاب: “كيف يمكنني إن لم يرشدني أحد؟” [31]…

إنني لست أقدس من هذا الخصي، ولا أكثر منه مثابرة، هذا الذي جاء من أثيوبيا، أي من أقصى العالم إلى الهيكل، تاركًا قصر الملكة، وبحبٍ عظيمٍ للناموس والمعرفة الإلهية كان يقرأ الكتب المقدسة حتى وهو في المركبة. ومع أن الكتاب كان في يده وفي ذهنه كلمات الرب، لا بل وكانت على لسانه تنطق بها شفتاه، مع هذا لم يعرفه، لم يعرف ذاك الذي يتعبد له في الكتاب. عندئذ جاء فيلبس وأظهر له يسوع الذي كان مخفيًا وراء الحرف.

يا له من معلمٍ رائعٍ عجيبٍ!

في نفس اللحظة آمن الخصي واعتمد؛ صار أحد المؤمنين وصار قديسًا. لم يعد تلميذًا بل صار معلمًا، ووجد في جرن معمودية الكنيسة وهو في البرية أكثر مما وجده في هيكل المجمع المطلي بالذهب.

القديس جيروم

كان من عادة القدماء أن يقرأوا بصوتٍ عالٍ، فسمعه القديس فيلبس وهو يقرأ في اشعياء من الترجمة السبعينية للعهد القديم، التي تمت في عهد بطليموس لكي تودع في مكتبة الإسكندرية.

لم يتوقع الخصي أنه يتمتع بفهمٍ لما يقرأه بما حدث معه. لكن لأنه كان محبًا للكلمة، لم يرجع من العيد ليحمل ذاكرة عن الأعداد الضخمة للمشتركين في العيد، ولا انشغل بمدح العاملين في الهيكل أو ذمهم، إنما ألهب العيد قلبه للتمتع بكلمة الرب، مشتاقًا أن يتعرف على أسرارها. هكذا يليق بنا بعد عودتنا من العبادة الجماعية أن يكون إنجيلنا رفيقًا لنا. نقرأ الكتاب أينما وجدنا، حتى وإن كنا في رحلة، حتى يحفظ قلوبنا من الاهتمامات الزمنية، ويشغلها بالحب الإلهي. لنقرأ الكتاب كلما وُجدت فرصة، واثقين في عمل روح الله القدوس الذي ينير عقولنا وقلوبنا للتلامس مع الكلمة بطريقٍ أو آخر.

“فقال الروح لفيلبس:

تقدّم ورافق هذه المركبة”. [29]

هنا كشف الروح القدس عن غاية الرؤيا، إنه قد أرسله لا ليعظ في مجمع، ولا ليتحدث في بيت مع جماعة كبيرة أو صغيرة، أو حتى مع أسرة، وإنما أرسله ليكرز لفردٍ واحدٍ في الطريق.

لا يخفي الله أسراره عمن يطلبها بتواضعٍ واخلاصٍ. وقد اتسم هذا الخصى بهاتين السمتين كما يظهر من حديثه مع الرسول فيلبس. لهذا في غير محاباة أرسل له الله فيلبس الرسول في لحظاتٍ معينة وبخطةٍ إلهيةٍ فائقة.

بدأ القديس فيلبس يشرح له سرّ الحمل الذبيح، المخفي منذ الدهور. ما كان لغزًا بالنسبة له قبل تعرفه على المصلوب صار بسيطًا وسهلاً، بل وموضع عذوبة بعد أن اكتشف سرّ الصليب. لا يعوقه الجسد عن الحركة السريعة، وكأنه قد حمل نصيبًا من سمة الجسد المقام.

“فبادر إليه فيلبس،

وسمعه يقرأ النبي إشعياء فقال:

ألعلّك تفهم ما أنت تقرأ”. [30]

في غيرةٍ متقدةٍ وشوقٍ حقيقيٍ لخلاص كل نفس أطاع القديس فيلبس دعوة الروح القدس، فبادر أو جرى مسرعًا نحو المركبة دون تردد أو تفكير في العقبات التي قد تمنعه عن العمل. فمن المعروف أن الحوار مع العظماء والأغنياء فيما يخص الإيمان غالبًا ما يكون صعبًا. هذا والقديس فيلبس كان يسير على قدميه بينما الخصي كان في مركبة تقودها خيول سريعة وقوية، فكيف يلحق بها، وكيف يطلب أن يصعد إلى المركبة ليتحدث معه.

كان الخصي يقرأ بصوتٍ عالٍ، فتجاسر القديس وسأله: “ألعلك تفهم ما أنت تقرأ؟

لعل من أهم السمات التى اتصف بها هذا الخصي جديته في الإهتمام بخلاص نفسه، فلم ينشغل في مثل هذه الرحلة الشاقة بتسليةٍ ما أو قراءة بعض القصص الهزلية أو قراءة في السياسة، بل في التمتع بكلمة الله. إنه كقائدٍ في الدولة شعر أن مسئوليته مضاعفة، ليس فقط من أجل نفسه، بل ومن أجل الآخرين، يلتزم أن يختبر الحياة التقوية القائمة على كلمة الله. وأن كثرة مشغولياته تضاعف إحتياجاته للحياة المقدسة.

يدرك هذا الخصي قيمة الوقت، فلا يفسد منه أي نصيب، ولا يعطي عذرًا أنه على سفر في رحلة شاقة.

v لم يخجل من أن يعترف بجهله، وتوسل أن يتعلم، لذلك أعطي لذاك الذي صار معلمًا له عطية الروح.

البابا أثناسيوس الرسولي

“فقال: كيف يمكنني إن لم يرشدني أحد،

وطلب إلى فيلبس أن يصعد ويجلس معه”. [31]

في تواضعٍ لم يستخف الخصي بالمتحدث، بل طلب منه أن يصعد ويجلس معه في المركبة، ويفسر له ما ورد في السفر.

بلا شك أدرك الخصى من نبرات صوت القديس أنه لم يحمل السؤال نوعًا من الكبرياء أو التشامخ عليه، بل لمس فيه الروحانية المتسمة بالتواضع مع المحبة لذلك كان رد الفعل هو شعور الخصي بالحاجة الى من يعينه. كشف عن شوقه الحقيقي والملتهب نحو المعرفة، يتقبلها ولو عن طريق شخصٍ غريبٍ لم يسبق له أن تعَّرف عليه.

v حسنًا، لم يتطلع الخصي إلى المظهر الخارجي للرجل، ولم يقل له: “من أنت؟” لم يوبخه ولا أوقفه عن الكلام، ولا قال أنه يعرف؛ بل على العكس اعترف بجهله لذلك تعلم. لقد أظهر جرحه للطبيب… انظروا كيف كان متحررًا من التشامخ… كان راغبًا في التعلم، منصتًا باهتمامٍ لكلماته، فتحقق فيه القول: “من يطلب يجد” (مت ٧: ٨).

القديس يوحنا الذهبي الفم

“وأمّا فصل الكتاب الذي كان يقرأه فكان هذا:

مثل شاةٍ سيق إلى الذبح،

ومثل خروفٍ صامتٍ أمام الذي يجزّه،

هكذا لم يفتح فاه”. [32]

هذا النص مقتبس من الترجمة السبعينية (إش 53: 7-8). ولعله سمع هذا الفصل أثناء عبادته في أورشليم، فعاد في مركبته يقرأ ما سمعه ويتأمل فيه.

v يُدعى “الحمل” (يو 29:1؛ إش 7:53، 8؛ أع 32:8) لا كغير عاقلٍ، بل لأن بدمه الثمين يطهر العالم من خطاياه، ويقف صامتًا أمام جازيه. هذا الحمل دُعي مرة بـ “الراعي” إذ يقول: “أنا هو الراعي الصالح” (لو 11:10) هو حمل من جهة ناسوته، وراعٍ بالحب المترفق الذي للاهوته. هل تريد أن تعرف حملان عاقلة؟! اسمع المخلص يقول للرسل: “ها أنا أرسلكم كحملانٍ بين ذئابٍ” (مت 10: 10، 16).

القديس كيرلس الأورشليمي

“في تواضعه أُنتزع قضاؤه،

وجيله من يخبر به؟

لأن حياته تنتزع من الأرض”. [33]

جاءت ترجمة النص العبري: “أخذ من الحبس، ومن الحكم” وقد وردت كلمة “الحبس” هنا أو “السجن” بمعنى أنه تحت الحفظ، فقد قُيدت يدا السيد، واقتيد تحت الحفظ للمحاكمة.

“فأجاب الخصي فيلبس، وقال:

أطلب إليك عن منْ يقول النبي هذا؟

عن نفسه؟ أم عن واحدٍ آخر؟” [34]

تساءل الخصي: عن من يقول النبي هذا، عن نفسه أم عن واحدٍ آخر؟” بلا شك تطلع إشعياء إلى هذا السرّ بروح النبوة كما من خلال الظل، ولم يكن ممكنًا له ولا للأنبياء جميعًا ولا للسمائيين إدراك كمال هذا السرّ حتى رُفع السيد المسيح على الصليب.

قبل مجيء ربنا يسوع كان اليهود يحسبون أن ما ورد هنا يشير إلى شخص المسيا، وأن الحديث عن آلام العبد إنما هو نبوة عن آلام المسيا. لكن بعد رفضهم يسوع المصلوب بدأوا يفسرون النص أنه خاص بآلام النبي نفسه، ويفسره البعض أنها آلام شعب إسرائيل.

بدأ القديس فيلبس يوضح للخصي أنها نبوة مسيانية، وأنها تحققت في شخص ربنا يسوع المسيح.

“ففتح فيلبس فاه، وابتدأ من هذا الكتاب،

فبشّره بيسوع”. [35]

بلا شك كان حديث القديس فيلبس معه مطولاً، فتعرض للكشف عن شخص السيد المسيح من خلال النبوات كما تحدث عن عمله الخلاصي، وأيضًا عن الحاجة الى العماد للتمتع بالميلاد الثاني. الآن الروح القدس الذي أملى على إشعياء النبي بالنبوة هو بعينه كشف عن عيني الخصي ليدرك غنى هذا السرّ.

v لقد عاد إلى الملكة ليس كوزيرٍ لخزائنها المادية، وإنما وزير كنوز الروح القدس والحكمة الإلهية والحياة الأبدية. لاحظوا حديثه، كان أبعد ما يكون عن الجفاف (الخشونة) أو التملق، بل بالأحرى كان صادرًا عن شخصٍ لطيفٍ يحمل صداقة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

  1. عماد الوزير الأثيوبي

“وفيما هما سائران في الطريق أقبلا على ماء،

فقال الخصي:

هوذا ماء ماذا يمنع أن اعتمد؟” [36]

يوجد في شمال شرقي غزة وادي حيث فيه ماء جاري، وقد جاء في الديداكية (7: 1-3) التي ترجع إلى القرن الأول وبدء القرن الثاني أن العماد يتم في ماءٍ جارٍ إن أمكن.

v أما عن العماد، فعمدوا هكذا:

بعدما تعلمون كل ما تقدم،

عمدوا باسم الآب والابن والروح القدس بماء جار (حيّ).

فإذا لم يكن هناك ماء جار فعمد بماءٍ آخر.

إذا لم تستطع أن تعمد بماء بارد فعمد بماء دافيء.

إذا كنت لا تملك كليهما فاسكب الماء فوق الرأس ثلاثًا،

باسم الآب والابن والروح القدس.

الديداكية

لا يوجد في هذه المنطقة نهر، لكن غالبًا ما كان هذا مجرى ماء أو ينبوع ماء.

“فقال فيلبس: إن كنت تؤمن من كل قلبك يجوز،

فأجاب وقال:

أنا أؤمن أن يسوع المسيح هو ابن اللَّه”. [37]

تطلع الخصى إلى نبع في وادي الحسي Wadi El Hessi في شمال شرقي غزة برية، فتهللت نفسه، وطلب نوال سرً المعمودية، فتمتع بهذا الكنز المفرح.

“فأمر أن تقف المركبة،

فنزلا كلاهما إلى الماء: فيلبس والخصي، فعمّده”. [38]

  1. القديس فيلبس في أشدود

“ولما صعدا من الماء

خطف روح الرب فيلبس،

فلم يبصره الخصي أيضًا،

وذهب في طريقه فرحًا”. [39]

في فترة قصيرة للغاية تتلمذ الخصي على يديّ القدّيس فيلبّس المبّشر، وفتح الرب عينيه ليّدرك سرّ خلاصه. لكنّه ما أن نال العماد حتى خطف روح الرب فيلبّس فلم يره الخصي. لقد فقد معلّمه في لحظات، لكنّه وجد المسيّا المخلص، نال ما هو أعظم بما لا يُقاس من معلّمه، لقد شعر أنّه قد صار إنسانًا جديدًا قائمًا كما من بين الأموات، ليسلك في النور عوض الظلمة، بل صار بالرب نورًا. قيل أنّه عاد إلى أثيوبيا يكرز بالخلاص، فيُنير الطريق لإخوته.

واضح أن العماد كان يتم بالتغطيس، وإلا كان يمكن عماد الخصي داخل المركبة، ولما قيل: “ولما صعدا من الماء“.

نال الخصي العماد ليرجع إلى أثيوبيا يكرز ببشارة الخلاص. وخطف روح الرب فيلبس فلم يعد يبصره. ما كان يشغله ليس لقاؤه بفيلبس، بل تمتعه بالمعمودية ونوال فرح الروح القدس، فقد نال ميلادًا جديدًا، وصار خليقة جديدة.

“وأمّا فيلبس فوُجد في أشدود،

وبينما هو مجتاز كان يبشّر جميع المدن حتى جاء إلى قيصرية”. [40]

في لحظة حمله الروح إلى أشدود التي تبعد حوالي 20 ميلاً شمال غزة. صار فيلبس أشبه بروح بلا جسد.

أشدود، وفي اليونانية Azotus، وهي إحدى المدن التي لم يأخذها يشوع بل بقيت في يد الفلسطينيين. في هذه المدينة نقل تابوت العهد عندما أخذه الفلسطينيون من الإسرائيليين. وفيها سقط تمثال داجون أمام التابوت (1 صم 5: 2-3)، وهي تبعد حوالي 30 ميلاً من غزة، كانت تقع على ساحل البحر الأبيض المتوسط، بها ميناء ليس له أثر الآن. صارت المدينة الآن على بعد ميلين من البحر، إذ ترسب الرمل على الشاطئ كما انتقلت الرمال من الصحراء خلال الرياح.

عاد فيلبس الرسول يكرز ويعمد، ويحصد الثمر، وأخيرًا استقر في قيصرية. بشر جميع المدن حتى جاء إلى قيصرية؛ هذه المدن هي يافا، وليدة، واسكلون، واريمارها Arimarha الخ.، جميعها تقع على ساحل البحر.

قيصرية: كانت قديمًا تدعى برج ستراتو Strato’s Tower تقع على ساحل البحر عند فم نهرٍ صغيرٍ، وكان بها ميناء جميل يبعد حوالي 36 ميلاً جنوب اقرا Acra وحوالي 62 ميلاً شمال غرب أورشليم، ونفس المسافة تقريبًا شمال شرق أشدود. يرى البعض إنها هي هازرHazor الواردة في يشوع 11: 1، أعاد بناؤها هيرودس الكبير، ودعيت قيصرية تكريما لأوغسطس قيصر. صارت مركز الحاكم الروماني عندما كانت اليهودية ولاية رومانية (أع 23: 33).

يقول د. كلارك أنه لا يوجد في التاريخ مثل لمدينة سمت بسرعة فائقة في وقت قصير، وانهارت في وقت قصير مثل قيصرية. لم يعد بها مسكن واحد. قصورها ومعابدها التي كانت غاية في الإبداع والفن يصعب جدًا وجود أثر لها. في خلال عشر سنوات بعد وضع الأساسات صارت من أعظم مدن سوريا كلها، الآن نجد خرابًا تامًا!

ملحق للأصحاح الثامن

عن

حلول الروح القدس

ووضع الأيدي

المسحة المقدّسة والعُرس الأبدي

الأسرار الكنسيَّة في جوهرها هي تمتّع بعمل نعمة اللَّه القدّوس في حياة الكنيسة، كما في حياة كل عضوٍ فيها، لكي تتهيّأ للعرس الأبدي. بها تنفتح أبواب السماء أمامه، فيمتلئ المؤمن رجاءً في غنى نعمة اللَّه الفائقة، فيعبر قلبه من مجدٍ إلى مجدٍ، حيث يختبر عربون السماء وهو بعد يجاهد على الأرض.

ففي سرّ العماد يتمتّع المؤمن بعمل الروح القدس في مياه المعموديّة لينال الميلاد الجديد، ويحمل طبيعة الإنسان الجديد الذي على صورة خالقه. إنّه يولد كطفلٍ يحتاج أن يرضع من لبن أمًه، الكنيسة، غير الغاش، لكنّه يبقى محتاجًا إلى النموّ والنضوج ليتهيّأ بالحق للعرس الأبدي، فتصير نفسه عروسًا تحمل مع كل يوم إشراقات بهاء عريسها، ملك الملوك، وتسمع صوته يناجيها: “جمُلتِ جدًا جدًا، فصلحتِ لمملكة، وخرج لك اسم في الأمم لجمالك لأنّه كان كاملاً ببهائي الذي جعلته عليكِ يقول السيد الرب” (حز16: 13-14).

هذا ما تود كلمة اللَّه وتعليقات آباء الكنيسة أن نختبره خلال ما يُدعى “سرّ المسحة“.

إلهنا الذي يود أن يقيم من شعبه ملكة سماويّة، تحمل أيقونة عريسها ملك الملوك يهبنا خبرة يوميّة لعمل الروح القدس الساكن فينا والذي نلناه في سرّ المسحة المقدّسة.

لنرى الآن كيف بدأ هذا السرّ في عصر الرسل بوضع الأيادي، ثم لماذا استخدمت الكنيسة المسحة المقدسة مع وضع الأيادي.

حلول الروح القدس ووضع الأيادي

تَقدّم ربّنا يسوع المسيح كنائبٍ عنّا إلى مياه المعموديّة ليعتمد على يد القدّيس يوحنا المعمدان، لكي يهبنا البنوّة للآب فيه. وقد حلّ الروح القدس بعد نزوله المعموديّة مباشرة وهو في نهر الأردن (مت 3: 16؛ مر 1: 10؛ لو 13: 21-22؛ يو 1: 31-34).

وإذ كان الرسل يعمّدون يصلّون طالبين حلول الروح القدس على المعمّدين حديثًا بوضع الأيدي عليهم (أع 8: 14-17؛ 19: 1-6). وكان الأساقفة أيضًا يضعون الأيادي على المؤمنين بعد عمادهم مباشرة لنوال عطيَّة الروح القدس. وإذ تزايد عدد الراغبين في الانضمام إلى كنيسة المسيح، وأيضًا المولودين من عائلات مسيحيَّة صار الكاهن يقوم بمسح المعمّد حديثًا بزيت الميرون xrisma. وهي كلمة يونانيَّة وقبطيّة معناها “طيب” أو “دهن”، هذا الطيب يُصنع من عقاقير وأطياب كثيرة، يقدَّس بكلمة اللَّه والصلاة، يقوم الأساقفة بإعداده؛ يُمسح به المعمّد حديثًا على إشارة الصليب على ستّة وثلاثين عضوًا من أعضاء الجسم ليمتلئ كل كيانه بالروح القدس، ويصير مسيحًا للرب. غير أن هذه المسحة لم تبطل طقس وضع الأيادي بالنسبة للأساقفة.

سرّ الميرون أو المسحة Chrism يُعرف في الغرب بسرّ التثبيت Confirmation. ومنذ بدء انطلاق الكنيسة عُرف باسم “ختم الروح” يُوهب مع العماد.

بين سرّ العماد وسرّ المسحة

نتمتّع في سرّ العماد بالميلاد الجديد وغفران الخطايا، وفي سرّ المسحة ننال الروح القدس ساكنًا فينا. ولمّا كان السرّان يتمّان غالبًا في وقتٍ واحدٍ، لهذا يتحدّث البعض عن سرّ العماد بمعنى واسع يضمّ معه سرّ المسحة.

وردت عبارة في كتابات العلامة أوريجينوس توضّح الاستخدام المحدّد والمتّسع لكلمة “العماد”. إذ يقول: [في أعمال الرسل يُعطى الروح القدس بوضع الأيادي في المعموديّة.] هذا هو المعنى الواسع للعماد، حيث يضم السرين معًا. ويكمل العلامة أوريجينوس بعد قليل: [كانت نعمة الروح القدس وإعلانه تُسلّم بوضع أيادي الرسل بعد العماد.] هنا المعنى المحدد للعماد. جاءت العبارتان تكمّلان بعضهما البعض، وتوضّح التمييز بين السرّين، مع ارتباطهما معًا.

يميّز القديس أغسطينوس بين العماد والمسحة، الأول يدعوه “ميلادًا بالروح” والثاني “قوتًا بالروح“. بالعماد يولد المؤمن بالروح، فيتقبّل غفران الخطايا. هذه الهبة الأولى تهيئ لعطايا أخرى للروح. إنّها تهب قبول الروح نفسه الذي به نتطهّر حيث نقبل العفو، ويسكن فينا لعمل البرّ ونموّه وكماله.

v لسنا نقبل الروح القدس في مياه المعموديّة، بل نتطهّر في الماء… وبهذا نتهيّأ لقبول الروح القدس.

v تُوضع اليد علينا في البركة، داعيّا ومستدعيًا الروح القدس… عندئذ يحلّ الروح الكلي القداسة بإرادته من عند الآب على أجسامنا التي تطهّرت وتباركت.

العلامة ترتليان

v لا يولد الإنسان ثانية خلال وضع اليد عندما يقبل الروح القدس، وإنّما في العماد، فإذ يكون بالفعل قد وُلد ينال الروح القدس.

الشهيد كبريانوس

لن يتم العماد بدون عمل الروح القدس

v الماء وحده لا يقدر أن يزيل الخطايا ويقدّس الإنسان، وإنّما فقط عندما يصاحبه الروح القدس… ليس من عماد حيث لا يوجد الروح القدس، فإنّه لا يمكن العماد بدون الروح.

القديس كبريانوس

وضع الأيادي

وضع اليد علامة على نقل القوّة، ليس من شخص إلى آخر، وإنّما من اللَّه مصدر كل قوّة ونعمة إلى من تكرّس للعمل الإلهي. كما فعل موسى النبي (عد 27: 18)، وكما فعل الرسل ليحلّ الروح القدس على المعمّدين (أع 8: 17-18) والتي دُعي بسرّ “ختم الروح” أو “سرّ التثبيت” أو “سرّ المسحة” موضوع حديثنا، وأيضًا في السيامات (أع 6: 6؛ 2 تي 1: 6؛ 1 تي 4: 14)، وفي طلب الحِلّ (1 تي 5: 22)، وفي مسحة المرضى (مر 16: 18)، واعتبر القدّيس بولس “تعليم المعموديّات ووضع الأيادي” من كلام بداءة المسيح (عب 6: 1-2)، أي ألف باء أو أحد الأساسيات في الحياة المسيحيّة.

استخدم الرسول بولس بخصوص مسحة الروح القدس في 2 كو 1: 21-22 أربع كلمات يونانيَّة: التثبيت والمسحة والختم وعربون الروح. يقول: “ولكن الذي يثبتنا معكم في المسيح، وقد مسحنا هو الله. الذي ختمنا أيضًا وأعطى عربون الروح في قلوبنا”.

يتحدّث العلامة ترتليان في القرن الثاني عن المسحة كعادة مستقرّة في أيّامه، وأنّها مرتبطة بالعماد، مع وضع الأيادي.

v بعد الخروج من مكان الغسل (أي من جرن المعموديّة بالتغطيس)، نُدهن بالكامل بالمسحة الغبوطة… تجري المسحة على الجسد لكنّها تفيدنا روحيًا. بنفس الطريقة كما أن العماد في ذاته عمل مادي حيث فيه نغطس في الماء، لكن فاعليّته روحيّة، إذ نتحرّر من الخطايا. بعد هذا توضع اليد للبركة مستدعيًا وداعيًا الروح القدس (ليحلّ) خلال البركة.

العلامة ترتليان

وكان هذا الطقس قائمًا في أيام القديس كبريانوس.

v السامريّون الذين عمّدهم فيلبّس الشمّاس الذي أرسله الرسل] نالوا عماد الكنيسة القانوني، ولم يكن لائقًا أن يعمّدوا من جديد، وإنّما ما كان ينقصهم هو ما مارسه بطرس ويوحنا، أعني الصلاة التي قدّموها عنهم ووضع الأيدي، لكي يستدعوا الروح القدس وينسكب عليهم. والآن أيضًا يحدث هذا بيننا، الذين يعتمدون في الكنيسة ُيقدّمون لأساقفة الكنيسة وبالصلاة ووضع الأيادي يقبلون الروح القدس ويكملون بختم الرب.

القديس كبريانوس

ويتحدّث القديس أغسطينوس أيضًا عن وضع الأيادي والمسحة أيضًا في علاقتهما بعطيّة الروح القدس.

v صلّى التلاميذ لكي يحلّ الروح القدس على الذين وضعوا عليهم أياديهم؛ لم يعطوا هم الروح القدس. ولاتزال الكنيسة تحافظ على هذه العادة في قادتها الرئيسيين. لذلك عندما قدّم سيمون الساحر مالاً لم يقل: “أعطوني أنا أيضًا هذا السلطان لكي أعطي الروح القدس، وإنّما “على من أضع يدي يقبل الروح القدس…”، لذلك فإن الرب يسوع المسيح نفسه ليس فقط أعطي الروح القدس بكونه هو اللَّه، وإنّما كإنسان أيضًا قبله. لهذا قيل أنّه كان ممتلئًا بالنعمة والروح القدس (يو 1: 14). وبأكثر وضوح في أعمال الرسل قيل أنّه مسحه اللَّه بالروح القدس (أع 10: 38)، ليس بمسحة منظورةٍ وإنّما بعطيّة النعمة التي يعني “المسحة المنظورة التي تمسح بها الكنيسة المعمّدين… لقد قبل الروح القدس كإنسانٍ، وبكونه اللَّه سكب الروح القدس (أع 2: 32). ونحن تبعًا لذلك يمكننا أن نقبل هذه العطيّة حسب قياسنا، أمّا أن نسكبه على الآخرين فهذا خارج قوّتنا. لكي يتم ذلك نصلّي عليهم للَّه الذي يتمّم ذلك.

القديس أغسطينوس

وجاء في القانون 60 من القوانين الخاصة بالكنيسة الإنجليزيّة (الأسقفيّة) عام 1603م أن كل أسقف يتمّم التثبيت عند زيارته للإيبارشيّة كل ثالث سنة. يبدأ القانون هكذا: [كما كانت هناك عادة قديمة مكرّمة لدى كنيسة اللَّه استمرّت منذ عصر الرسل، أنّه يلزم على كل الأساقفة أن يضعوا أياديهم على الأطفال المعمّدين والذين تعلّموا التعليم (كاتكيزم catechism) للدين المسيحي، مصلّين عليهم ومباركين إيّاهم، الذي تدعوه عامة بالتثبيت.]

وفي طقس التثبيت في الكنيسة الأسقفية يُقرأ الفصل الخاص بوضع الرسولين بطرس ويوحنّا الأيادي لحلول الروح القدس على السامريّين (أع 8).

بين يد القدير واليد البشريَّة

يذكر فريدريك أن طقس وضع الأيادي أشير إليه 20 مرّة في صيغة فعل و4 مرّات في صيغة اسم. هذا الطقس المُستخدم في الشفاء، وفي حلول الروح القدس، وفي السيامات يشير إلى تحالف يد القدير مع العمل البشري. فاللَّه القدير في محبّته للإنسان وتقديره يقدّم إمكانيّاته خلال كنيسته على الأرض، ولا يحتقر اليد البشريَّة، وإن كانت العطيّة هي من اللَّه لا من الإنسان.

ولعلّ كثير من اليهود خاصة القادة لاحظوا أن يسوع المسيح اعتاد أن يضع يديه على المرضى عند شفائهم، إذ جاءه يايرس أحد رؤساء المجمع، وقال له وهو ساجد عند قدميه: “ابنتي الصغيرة على آخر نسمة، ليتك تأتي وتضع يدك عليها لتُشفى فتحيا “(مر 5: 23). والملاحظ أنّه في وصف عمل السيد المسيح هذا أنه كان يضع يديه على كل واحدٍ منهم(لو 4: 0)، وليس يده، غالبًا ما يضعهما على شكل صليب.

لقد فنّد القديس أغسطينوس بكل قوّة مقاومًا ايّة فكرة بأن الروح القدس يُوهب خلال طقس سحري، أو يُسلّم من رسول أو أسقف بذاته. يقول أن هذا الفكر غريب عن الكنيسة، فإن وضع اليد في المسحة كما الماء في المعموديّة وأيضًا وضع اليد في سيامة الكهنة هذه علامات خارجيّة تصحبها الصلوات لنوال مواهب الروح القدس من عند اللَّه، وليس من إنسانٍ ما.

النمو الروحي الدائم والنضوج

قيل عن ربّنا يسوع: “وكان الصبي ينمو يتقوّى بالروح ممتلئًا حكمة، وكان نعمة اللَّه عليه” (لو2: 40). صار طفلاً لكي يحملنا فيه كأطفالٍ بولادتنا الجديدة في المعموديّة، وإذ كان ينمو ويتقوّى بالروح إنّما لكي بروحه القدّوس ننمو ونتقوّى فيه، فلا نبقى أطفالاً على الدوام، بل نبغي النضوج حتى تكمل أيقونته فينا تمامًا. وكما يقول القدّيس يوحنًا: “ولكن نعلم أنّه إذا أُظهر نكون مثله، لأنّنا سنراه كما هو” (1 يو 3: 2). هذا هو عمل الروح القس الدائم فينا، والذي نلناه في سرّ المسحة أو وضع الأيادي بعد العماد. يقول الرسول بولس: “لا بأعمال في برّ عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس. الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا” ( تي 3: 5-6).

v يُطحن الموعوظون كالقمح خلال الصوم ويعجنون بالماء في المعموديّة، ويتشكّلون كجسد المسيح، ويُخبزون بنار الروح القدس في الدهن بالمسحة.

القديس أغسطينوس

v روحك القدّوس يا رب الذي أرسلته على تلاميذك القدّيسين ورسلك المكرّمين في الساعة الثالثة، هذا لا تنزعه منّا أيّها الصالح، لكن جدده في أحشائنا. قلبًا نقيًا اخلق فيّ يا اللَّه، وروحًا مستقيمًا جدّده في أحشائي.

من صلوات الساعة الثالثة

الأجبيّة

سرّ التثبيت

يقول الرسول بولس: “ولكن الذي يثبتنا معكم في المسيح، وقد مسحنا هو الله. الذي ختمنا أيضًا وأعطى عربون الروح في قلوبنا” (2 كو 1: 21-22). كما يقول القيس يوحنا الحبيب: “ومن يحفظ وصاياه يثبت فيه وهو فيه وبهذا نعرف انه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا” (1 يو 3: 24)

v وسمك اللَّه الآب بعلامة المسيح ربّنا وثبّتك، وأعطاك الروح القدس عربون الخلاص كما يُعلّم الرسول.

القديس أمبروسيوس

v كانت سفينة نوح تبشّر بمجيء المزمع أن يقود كنيسته في المياه، وأن يرتدّ أعضاؤها إلى الحرّيّة باسم الثالوث القدّوس (اليهوديّة في المعموديّة). وأما الحمامة فكانت ترمز إلى الروح القدس المزمع أن يصنع مسحة هي سرّ الخلاص.

القدّيس مار أفرآم السرياني

v الذين وضعوا (الرسل) أياديهم عليهم قبلوا الروح القدس الذي هو الطعام القوي للحياة (مقابل اللبن الذي قال القدّيس بولس أنّه أطعمهم به).

القديس إيريناؤس

مسحاء

جاء ذكر “المسحة” في الكتاب المقدّس لأول مرّة عندما رأى يعقوب في حلمٍ سلمًا منصوبًا على الأرض ورأسه يمس السماء، والرب واقف عليه وملائكة اللَّه صاعدين ونازلين، قال: “ما أرهب هذا المكان، ما هذا إلاّ بيت اللَّه! وهذا باب السماء!” ثم أخذ الحجر الذي وضعه تحت رأسه، وصبّ زيتًا على رأسه (تك 28: 12-18). جاءت المسحة تعلن تقديس الموضع وتكريسه ليكون “بيت إيل” أو “بيت اللَّه”. وأوصت الشريعة الموسويّة بمسح أشخاص (الملوك والكهنة)، وأماكن (الهيكل)، والآنية المكرّسة لخدمة بيت الرب… غاية هذه المسحة أن الشخص أو الشيء يصير مكرّسًا للَّه وحده. كان هذا كلّه عبر الأجيال يشير إلى مجيء المسيح الذي مسحه الآب بزيت البهجة (مز 45: 7) ليبشّر المساكين (إش 61: 1). فهو موضع سرور وبهجة الآب، لأنّه وهو الكلمة الإلهي والابن وحيد الجنس يتجسّد ليصالح البشريَّة كلّها مع الآب، فيبعث بالفرح السماوي على المساكين الذين حرموا من فيض بهجة الحياة السامريّة.

مُسح لكي نمسح نحن فيه، بكوننا أعضاء جسده، فنُحسب مسحاء.

v دُعي المسيحيّون بهذا الاسم، لأنّهم ممسوحون بزيت اللَّه.

القدّيس ثيؤفيلس الأنطاكي

v من اعتمد يلزم أن يُمسح أيضًا، لكي يصير بواسطة المسحة ممسوحًا للَّه ويأخذ نعمة المسيح.

v الذي يتخلّص من خطاياه في العماد يتقدّس ويتجدّد روحيًّا في إنسانٍ جديد، وبهذا يتهيّأ لقبول الروح القدس.

القديس كبريانوس

v إن اسم المسيح من المسحة، فكل مسيحي يقبل المسحة، إنّما ذلك ليس للدلالة على انّه صار شريكًا في الملكوت فقط، بل صار من المحاربين للشيطان.

القديس أغسطينوس

v بحق دُعيتم للمسيح، وعنكم قال اللَّه: “لا تمسوا مسحائي، ولا تسيئوا إلى أنبيائي” (مز15:105).

جُعلتم مسحاء بقبولكم نموذج الروح القدس. وكل الأشياء عُملت فيكم امتثالاً (بالمسيح) لأنكم صورة المسيح. هو اغتسل في نهر الأردن ونشر معرفة ألوهيته في الماء. وصعد منها وأضاء عليه الروح القدس في تمام وجوده وحلّ كذلك عليه. ولكم أنتم فشبه ذلك بعد أن صعدتم من الينابيع المقدسة صار لكم دهن شبه الذي مُسح به المسيح. وهذا هو الروح القدس الذي قال عنه المطوّب إشعياء في نبوته عن شخص الرب: “روح السيد الرب عليّ، لأن الرب مسحني” (إش 1:61).

لأنه لم يُمسح المسيح بأناسٍ بزيتٍ أو دهنٍ ماديٍ، لكن الآب عيّنه من قبل ليكون مخلصًا للعالم أجمع، كما قال بطرس: “يسوع الذي من الناصرة، كيف مسحه اللَّه من الروح القدس” (أع 38:10).

صرخ داود النبي أيضًا قائلاً: “كرسيك يا اللَّه إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب ملكك. أحببت البرّ وأبغضت الإثم لذلك مسحك اللَّه إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك” (مز 6:45، 7).

وإذ صُلب المسيح ودفن وقام حقًا، أنتم في العماد حُسبتم جديرين أن تصلبوا وتدفنوا وتقوموا معه على مثاله: هكذا في الدهن أيضًا. وكما مسح بزيتٍ مثاليٍ، زيت الابتهاج، لأنه منشئ الفرح الروحي، هكذا أنتم مسحتم بدهن، إذ أصبحتم شركاء للمسيح وأتباعه.

v لكن احذروا أيضًا لئلا تظنوه دهنًا بسيطًا، لأنه كما في خبز الإفخارستيا بعد حلول الروح القدس لا يصير خبزًا عاديًا بعد بل جسد المسيح، هكذا هذا الدهن لا يكون دهنًا بسيطًا أو عاديًا بعد الصلاة، لكن هي موهبة المسيح بالنعمة وبحلول الروح القدس أصبح لائقًا لعلم طبيعته الإلهية.

الدهن الذي يرمز بالرشم على جبهتك وحواسك الأخرى.

وإذ يُرشم جسدك بالدهن المنظور تطهر نفسك بالروح القدس واهب الحياة.

ورُشمت على الجبهة كأنك تتخلص من العار الذي حمله الإنسان الأول معه في كل مكان، وأنه بوجه مكشوف كما في مرآة ناظرين مجد الرب (2 كو 18:3). ثم على آذانك حتى تتقبل الآذان سريعًا سماع الأسرار الإلهية التي قال عنها إشعياء النبي: “أعطاني الرب أذنًا للسمع” (إش 4:1). وقال سيدنا الرب يسوع المسيح: “من له أذنان للسمع فليسمع” (مت 15:11، مت 9:13، 43، مر 9:4، 23، 16:17، لو 35:14). ثم على الأنف حيث تتقبل الدهن المقدس، فيمكنك أن تقول: “لأننا رائحة المسيح الذكية للَّه في الذين يخلصون” (2 كو 18:3). بعد ذلك على صدرك حيث “قد لبستم درع البرّ” (أف 14:6) ، حتى تقدروا “أن تثبتوا ضد مكايد إبليس” (أف 11:6).

لأن المسيح بعد عماده وحلول الروح القدس ذهب وغلب الشرير، هكذا أنتم أيضًا بعد العماد المقدس والمسحة السرية، إذ لبستم كل سلاح الروح القدس، لكي تقفوا ضد قوة الشرير وتقهروه قائلين: “أستطيع كل شي في المسيح الذي يقويني” (في 13:4).

القديس كيرلس الأورشليمي

v هكذا أيضًا توضح عبارة داود في مز 44: 7- 8 أنه ما كان لنا أن نصير شركاء الروح القدس ولا أن نتقدس لو لم يكن اللوغوس المتجسد، الذي هو واهب الروح قد مسح نفسه بالروح لأجلنا، ولهذا فمن المؤكد أننا كنا نحن الذين قبلنا الروح القدس حينما قيل انه مُسح بالجسد. لأن جسده الخاص هو الذي تقدس أولاً، وإذ قيل عنه كإنسان، إن جسده قد نال هذا (الروح)، فلأجل هذا ننال نحن نعمة الروح آخذين إياها “من ملئه”.

القديس أثناسيوس الرسولي

v كان سكب للروح علينا، أما للرب يسوع الذي كان في شكل إنسانٍ، فالروح استقر عليه… بخصوصنا فإن سخاء المُعطي يعين بفيضٍ، أما بالنسبة له فيسكن فيه كمال الروح أبديًا. يسكب إذن حسبما يكفينا، وما يسكبه لا ينفصل ولا ينقسم، أما ما هو له فهو وحدة الكمال الذي به ينير بصيرة قلوبنا حسب قدرتنا على الاحتمال. أخيرًا نحن نتقبل حسب ما يتطلبه تقدم ذهننا. من أجل كمال نعمة الروح غير منظور، ولكنه يساهم فينا حسب إمكانية طبيعتنا.

القديس أمبروسيوس

v لداود الحق أن يصرخ، كإنسانٍ قد تجدد، “وسآتي إلى مذبح الله، إلى الله الذي يعطي فرحًا لشبابي” (مز 43:4). كما قال قبلاً إنه شاخ وسط أعدائه… وهو يقول هنا إنه قد استعاد الشباب بعد طول شيخوخة وسقوط الإنسان. لأننا قد تجددنا بالتجديد الذي نلناه في المعمودية، وتجددنا خلال سكب الروح القدس، وسنتجدد أيضا بالقيامة، كما يقول في نصٍ آخر: “فيتجدد مثل النسر شبابك” (مز 103:5) فاعلموا طريقة تجديدنا: “تنضح علَّي بزوفاك فأطهر، تغسلني فأبيَّض أكثر من الثلج” (مز 51:9) وفي إشعياء: “إن كانت خطاياكم حمراء كالقرمز، تبيض كالثلج” (إش 1:18) ومن يتغير من الظلمة، ظلمة الخطية، إلى نور الفضيلة وإلى النعمة، إنما قد تجدد فعلاً. لهذا فإن ذاك الذي تلطخ قبلاً بالدنس الأحمق، يشرق الآن بسطوع أكثر بياضًا من الثلج.

القديس أمبروسيوس

ختم الله على النفس

“ولا تحزنوا روح الله القدوس، الذي به خُتمتم ليوم الفداء” (أف 4: 30).

“الذي فيه أيضًا أنتم إذ سمعتم كلمة الحق إنجيل خلاصكم، الذي فيه أيضًا إذ آمنتم، خُتمتم بروح الموعد القدوس. الذي هو عربون ميراثنا لفداء المقتنى لمدح مجده” (أف 1: 13-14).

v كما أن الرسولين بطرس ويوحنا بعد صلاة واحدة استحدرا الروح القدس على سكّان السامرة بوضع الأيادي (أع8: 14-17)، هكذا الكنيسة أيضًا منذ ذلك الحين، ينال جميع المعمّدين الروح القدس، ويُختمون بختمه عند دعاء الكهنة ووضع أياديهم.

القديس كبريانوس

v قد ختمت جميع قواكم النفسيّة بختم الروح القدس… وقد وضع الملك عليكم رسالته، خاتمًا إيّاها بختم النار لكي لا يقرأها الغرباء ويحرّفوها.

القدّيس مار أفرآم السرياني

v يمسحك اللَّه ويختمك المسيح. كيف ذلك لأنّك تُختم برسم صليبه وآلامه.

v قد قبلت الختم الروحي… حافظ على ما اقتبلت… فقد وسمك اللَّه الآب بعلامة المسيح ربّنا وثبّتك وأعطاك الروح القدس.

القديس أمبروسيوس

تدشين النفس وتكريسها

“أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم” (1 كو 3: 16).

v يُغسل الجسد لكي تتطهّر النفس من الدنس (بالمعموديّة)؛ ويُمسح الجسد لكي تتكرّس النفس؛ يُرسم الجسد (بعلامة الصليب) لكي ما تُحفظ النفس؛ يُظلّل الجسد بوضع اليد لكي ما تستنير الروح، يتغذّى الجسد بجسد المسيح ودمّه لكي ما تقتات النفس باللَّه. لا يمكن فصلهما (الجسد والنفس)… عندما يتّحدا معًا في أعمالهما.

العلامة ترتليان

كهنة وملوك وأنبياء

بالخطيّة عزل الإنسان نفسه عن اللَّه واهب المجد، ولم يعد ممكنًا لروح اللَّه أن يستقر في نفسٍ بشريّة، حتى بالنسبة الآباء العظماء والأنبياء. وإذ أراد الرب أن يرد للإنسان مجده وهب شعبه أن يُمسح ملوك بدهن مقدّس كداود الذي مسحه صموئيل النبي، ويُمسح البعض كهنة كهرون، ويُعتبر الملك كما الكاهن مسيح الرب. وكما يقول العلامة أوريجينوس أنّه لم يكن ممكنًا أن يوجد إنسان يحمل مجد الملوكيّة والكهنوت معًا. لأن الملوك يُقامون من سبط يهوذا والكهنة من سبط لاوي. أمّا وقد جاء يسوع المسيح ملك الملوك من سبط يهوذا فهو الوحيد الملك والكاهن (على طقس ملكي صادق). خلال مسحة الميرون ترجع إلينا كرامة الكهنوت مع الملوكيّة.

من يقدر أن يعبّر عن مدى حزن حزقيال الكاهن والنبي في أرض بابل وهو يتطلّع في رؤيا مجد الرب يفارق الهيكل (حز 10: 18)، بهذا فقد إسرائيل الملوك حيث سقطت خيمة داود وسُبي السبط الملوكي في بابل، وها هو يسقط الكهنة حيث لم يعد مجد الرب موضع في هيكل أورشليم. لكن في ملء الزمان سمعت ابنة إسرائيل الصوت الملوكي المتهلّل يبشّرها: “الروح القدس يحل عليك وقوّة العيّ تظلّلك، فلذلك أيضًا القدّوس المولود منكٍ يُدعى ابن اللَّه” (لو1: 35). لم يرجع مجد الرب إلى هيكل أورشليم، إنّما بحلول الروح القدس جاء رب المجد، كلمة اللَّه ليتجسّد في أحشاء البتول، فصارت أمًا لملك الملوك ورئيس الكهنة السماوي الأعظم. صارت ملكة فريدة تجلس عن يمين الملك (مز 45: 9).

انفتح الباب لكل المؤمنين عبر كل العصور ليحلّ الروح القدس (خلال وضع الأيادي أو مسحة الميرون) فيظلّل على النفس البشريَّة، ويقيم منها مريم ثانية، لا ليتجسّد الكلمة مرّة أخرى، وإنّما ليحل المسيح بالإيمان فيها (أف 3: 17)، فتصير ملكة وكاهنة ونبيّة روحيًا. هكذا في مسحة الميرون نُمسح ملوكًا أصحاب سلاطين حتى على أفكارنا وحواسنا، وكهنة نقدّم تقدمات شكر وذبائح تسابيح للَّه (رو 12:1)، وأنبياء ندرك بكل وضوح مستقبلنا في حضن أبينا السماوي.

مسحة الميرون تهبنا اعتزازًا بنعمة الروح القدس العجيب الذي يهبنا مجدًا لا ينقطع!

لقد صارت القدّيسة مريم أمًا لذاك الذي تجسّد منها، أمّا نحن فنحمل ملك الملوك في قلوبنا. وكما يقول الرسول بولس: “يا أولادي الذين أتمخّض بكم أيضًا إلى أن يتصوّر المسيح فيكم” (غل 4: 19).

يقول الرسول يوحنا: “وجعلنا ملوكًا وكهنة لله أبيه له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين آمين” (رؤ 1: 6).

v انظروا كيف صرتم مشاركي اسم المسيح كهنوتيًا، وكيف أُعطي لكم ختم شركة الروح القدس.

الشهيد كبريانوس

v أظن انّه ليس أحد من بين المؤمنين يشك بأن كهنوت اليهود كان رمزًا للكهنوت الملوكي الذي كان يلزم أن يتحقّق بالكهنوت الذي في الكنيسة، حيث يتكرّس الكل، هؤلاء الذين ينتمون إلى جسد المسيح، رئيس الكهنة الأعظم والأسمى. فالآن الكل ممسوحون، بينما في تلك الأيّام كانت المسحة للملوك والكهنة وحدهم. وعندما كتب بطرس إلى الشعب المسيحي تحدّث عن “كهنوت ملوكي“، وأظهر بوضوحٍ أن هذا الشعب يوصف باللقبين معًا هذه التي من أجلها قد تخصّصت المسحة.

القديس أغسطينوس

v يُمسح كل مؤمن كاهنًا وملكًا، غير أنّه لا يصير ملكًا حقيقيًا ولا كاهنًا حقيقيًا، بل ملكًا روحيًا وكاهنًا روحيًا، يقرّب للَّه ذبائح روحيّة وتقدمات الشكر والتسبيح.

القديس أمبروسيوس

v الذين كانوا يُمسحون في العهد القديم هم إمّا كهنة أو أنبياء أو ملوك. أمّا نحن المسيحيّون، أصحاب العهد الجديد، فيلزم أن نُمسح لكي نصير ملوكًا متسلّطين على شهواتنا، وكهنة ذابحين أجسادنا، ومقدّمين إيّاها ذبيحة حيّة مقدَّسة مرضيّة عبادتنا العقليّة، وأنبياء لإطلاعنا على أسرارٍ عظيمةٍ جدًا وهامة للغاية.

القديس يوحنا الذهبي الفم

مسحة ربّانيّة كهنوتيّة

أول ما عًرف عن مسحة الأشخاص في تاريخ الخلاص هو مسحة الكهنة، هرون وبنيه، (خر 29: 7). وكان هرون كرئيس للكهنة يلتزم أن يضع الصفيحة التي من ذهب نقي ونُقش عليها “قدس للرب” على جبهته دائمًا للرضا عن الشعب أمام الرب (خر 28: 36-38). ونحن إذ صرنا كهنة الرب نحمل هذه الصفيحة على جباهنا وأذهاننا وحواسنا وكل طاقاتنا التي للجسد والنفس والروح.

مسحة ربّانيّة ملوكيّة

كما مُسح أول رئيس كهنة وبنوه بالدهن المقدّس ليكونوا مقدَّسين ومكرّسين للرب، هكذا مُسح أول ملك بالدهن. هذه المسحة قام بها صموئيل النبي، لكنّه قال له: “أليس لأن الرب قد مسحك على ميراثه رئيسًا؟!” (1 صم 10: 1). وفي عتاب ناثان النبي لداود حين أخطأ قال له: “هكذا قال الرب إله إسرائيل: أنا مسحتك ملكًا” (2 صم 12: 7)، فإن كان النبي قد مارس طقس المسحة بسكب الدهن المقدّس على رأس الملك، لكن يد الرب الخفيّة هي التي تمتد لتمسح الشخص، فيتمتًّع بمسحة ربّانيّة، بكونه رمزًا للسيّد المسيح القادم لخلاص العالم، وبكونه كملكٍ صار يمثّل كل الشعب في عيني اللَّه.

مسحة زيجيّة مفرحة

والعجيب في المزمور 45 حيث يتغنّى المرتّل بسرّ اتحاد السيّد المسيح بكنيسته أو زواجه بها، يرى اللَّه الآب نفسه يقوم بالمسحة الإلهيَّة الفريدة غير المنظورة، فيقول: “مسحك اللَّه إلهكبزيت البهجة” (مز 45: 7). وقد أخذت الكنيسة القبطيّة عن هذا المزمور المسياني الزيجي طقس دهن العروسين بالزيت أثناء سرّ الزيجة.

الإنارة العقليّة والتمتّع بالحماية الإلهيَّة

“وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء، ويذكركم بكل ما قلته لكم” (يو 14: 27).

v إنّك تُحفظ بختمك (أي بالمسحة) من هجمات الشرّير الشرّيرة، هذا الذي بعمادك لم يعد له سلطان عليك.

v احفظوا هذه المسحة طاهرة، لأنّها تعلم كل شيء إذا لبثت فيكم كما سمعتم أقوال يوحنا الطوباوي (1 يو 2: 20، 27) الذي نطق بأقوالٍ حكيمة كثيرة في هذه المسحة، لأن الروح القدس حرز للجسد وخلاص للنفس.

القديس كيرلس الأورشليمي

v كيف يدافع عنك الملاك الحارس، كيف يحفظك من العدو، إن لم يكن قادرًا على رؤية ختم المسحة؟ ألا تعلم أن المُهلك عبر على بيوت المختومين بالدم في الأيّام الأولى لموسى المنقذ، وقتل أبكار البيوت التي لغير المختومين؟ الكنز غير المختوم يسرقه اللصوص بسهولة، والقطيع الذي لا يحمل علامة يسرق بأمان.

القديس باسيليوس الكبير

التبكيت على الخطية

“ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى برِّ وعلى دينونة” (يو 16: 8).

يهب تعزيات روحية

“وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد” (يو 14: 16).

يشفع فينا

“وكذلك الروح أيضًا يعين ضعفاتنا، لأننا لسنا نعلم ما نصلي لأجله كما ينبغي، ولكن الروح نفسه يشفع فينا بأناتٍ لا ينطق بها. ولكن الذي يفحص القلوب يعلم ما هو اهتمام الروح لأنه بحسب مشيئة الله يشفع في القديسين” (رو 8: 26-27).

يعلن لنا الحق الإلهي

“روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم” (يو 14: 17).

يقدم مواهب روحية

“ولكن هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه قاسما لكل واحد بمفرده كما يشاء” (ا كو 12: 11).

من وحي أعمال 8

افتح عن بصيرتي يا روح اللَّه،

وقدني في بهجة القيامة!

v تهلّل السمائيّون بلقائهم بأول شهيد مسيحي!

واضطربت أورشليم، إذ لم تحتمل عملك العجيب!

تهلّل شاول برجم استفانوس،

في نظره المناحة العظيمة على استفانوس غباوة!

شمّر عن ساعديه، ليتحرّك كوحشٍ مفترس.

ظن أن في عنفه خدمة للَّه،

وحسب تدميره بناءً للملكوت!

v في تشفٍ شاهد شاول أفواج الهاربين من أورشليم.

ظن في نفسه أنّه القدير.

قادر بعنفه أن يطفئ نارك الإلهيَّة،

ويمحو اسم يسوع عن الأرض.

تبعثر المؤمنين كفحمٍ ملتهب بنارك.

فاشتعلت نار حبّك الإلهي في مواضعٍ كثيرة!

v أغلق اليهود أبواب قلوبهم أمامك،

فانفتحت قلوب السامريّين، لتستقبل الشاهدين لك.

استنارت أعينهم، إذ تجلّى الملكوت السماوي أمامهم.

وامتلأوا فرحًا، إذ انهارت مملكة إبليس المسيطرة عليهم.

صارت المدينة في عيد عجيبٍ، وفرحٍ عظيمٍ!

v رأى سيمون الساحر قوّتك العجيبة،

فظنّ أنّه قادر أن يشتري مواهبك بماله!

قدّم مالاً لعلّه يغري الرسل،

ولم يدرك أن ما اقتنوه مجّانًا لا يبيعونه بمالٍ.

قدّم لهم ما قد صار عند أقدامهم بلا قيمة!

v في حركة سريعة كنت تحرك فيلبّس المبّشر.

ألهب السامرة بنارك الإلهيَّة.

وها هو منطلق تحت قيادتك، ليلحق بخصي كنداكة ملكة أثيوبيا.

لم يصنع أمامه عجائب وآيات كما في السامرة.

لكن تحدث معه حديث الروح الجذّاب.

سحبت قلب الخصي، لأنّه جاد في خلاص نفسه.

جاء يطلب تعزية في الهيكل،

وفتح الأسفار المقدّسة في مركبته يطلب معرفة الحق الإلهي.

تطلّعت إلى قلبه المشتاق للحق،

فاجتذبته إلى الصليب، ينعم برؤية حمل اللَّه حامل خطية العالم!

اشتهى أن يُصلب معه ويدفن،

ليقوم، حاملاً سمات القائم من الأموات.

وجد ضالته المنشودة، حين رأى ماءً في الطريق.

غطس ليعتمد، وخرج ليرى ما لا يُرى.

رأى فيلبّس اختفى من أمام وجهه،

لكن يسوع المصلوب يتجلّى أمامه.

رأى النبوّات قد تحقّقت،

ووعود اللَّه الفائقة بين يديه.

صار بالعماد ابنًا للَّه، مصدر كل فرحٍ.

v لك المجد يا أيّها الروح الناري!

عجيبة هي أعمالك في كل جيل!

ولتهبنا مسحتك، فنُحسب ملوكًا وكهنة وأنبياء.

هبنا ختمك الإلهي، فتهرب من أمامنا قوّات الظلمة.

هبنا العربون، فنحيا في السماويّات!

فاصل

سفر أعمال الرسل : 123456789101112131415161718192021222324  – 25262728

تفسير سفر أعمال الرسل : مقدمة1 23456789101112131415161718192021222324 25262728

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى