تفسير رسالة غلاطية 4 – أ/ حلمي القمص يعقوب
تفسير غلاطية – الأصحاح الرابع
في الآية الأخيرة من الأصحاح السابق تحدَّث بولس الرسول عن الذين للمسيح الذين هم من نسل إبراهيم وحسب الوعد ورثة لملكوت السموات، وهنا يستكمل حديثه عن الوارث القاصر، فهكذا كان حال الإنسان في العهد القديم، ابنًا قاصرًا، والقاصر لا يملك حق التصرف في ممتلكاته فهو يشبه العبد الذي لا يملك حرية التصرف في ممتلكات سيده، ولكن عندما جاء ملء الزمان أرسل اللَّه ابنه مولودًا من امرأة ليفتدي الذين تحت الناموس، فلم نعد قاصرين ولا عبيدًا بل أبناء، وقد عَبَرَ بنا الروح القدس من عبودية الناموس إلى حرية مجد أولاد اللَّه: “وَأَمَّا الرَّبُّ فَهُوَ الرُّوحُ وَحَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ“ (2كو 3: 17)، وما دمنا نحن أبناء فنحن ورثة بالمسيح لملكوت السموات (غل 4: 1 – 7).
ويحذّر بولس الرسول أولاده من التناقض الذي وقعوا فيه بين الماضي والحاضر، ففي الماضي هجروا عبادة الأوثان وعرفوا الإله الحي، بل أنهم عُرِفوا من اللَّه، أما الآن فأنهم يريدون أن يتركوا معرفة اللَّه ويرتدوا للأركان الضعيفة الفقيرة أي لعبودية الناموس (غل 4: 8 – 11).
ثم يدعوهم بولس الرسول للإقتداء به، ويذكّرهم بمحبتهم الأولى حيث أنهم قبلوه رغم التجربة التي كان يعاني منها سواء ضعف شديد ببصره، أو معاناة من جروح لا تندمل، فقد أحبوه حتى أنهم كانوا مستعدين أن يعطوه عيونهم، ولكن لأن الغلاطيين قوم مُتقلّبون، وهكذا الإنسان بصفة عامة، لذلك انقلبوا إلى النقيض ونظروا لبولس على أنه عدو لهم، فاتهموه أنه ليس له مبدأ وطعنوا في رسوليته، أما هو فأخذ ينصحهم وينبههم ويحذرهم من المتهوّدين الذين يتفاخرون بأنهم قادرين على ختان الأمم الذين أمنوا بالمسيحية، بينما هو الذي يحملهم في عقله وفي قلبه يتمخّض بهم إلى أن يتصوَّر المسيح فيهم، فإنهم يرفضونه (غل 4: 12 – 20).
ويستغرق بولس الرسول خلال الثلث الأخير من الأصحاح في التفسير الرمزي لزوجتي إبراهيم: هاجر الجارية التي ترمز للناموس، وسارة الحرة التي ترمز للإيمان بالمسيح (غل 4: 21 – 31).
ويقول “متى هنري“: “ما زال الرسول يواصل حديثه عن الهدف الذي من أجله أمعن التأمل في:
أولًا : التفوق الهائل الذي للإنجيل على الناموس (ع 1 – 7).
ثانيًا: التغيير المبارك الذي كان قد تم فيهم عند إيمانهم (ع 8 – 11).
ثالثًا: مشاعرهم من نحو شخص الرسول (ع 12 – 16).
رابعًا: شخصية المعلمين الكذبة (ع 17، 18).
خامسًا: مشاعر الرسول الرقيقة من نحوهم (ع 19، 20).
سادسًا: تاريخ كل من إسحق وإسماعيل (ع 21 – 31)” (221).
ويمكن تقسيم هذا الأصحاح إلى:
أولًا : ملء الزمان (غل 4: 1 – 7).
ثانيًا: الأركان الضعيفة (غل 4: 8 – 11).
ثالثًا: تذكير الغلاطيين بمحبتهم الأولى (غل 4: 12 – 20).
رابعًا: التفسير الرمزي لزوجتي إبراهيم (غل 4: 21 – 31).
أولًا: ملء الزمان (غل 4: 1-7):
“وَإِنَّمَا أَقُولُ مَا دَامَ الْوَارِثُ قَاصِرًا لاَ يَفْرِقُ شَيْئًا عَنِ الْعَبْدِ مَعَ كَوْنِهِ صَاحِبَ الْجَمِيعِ. بَلْ هُوَ تَحْتَ أَوْصِيَاءَ وَوُكَلاَءَ إِلَى الْوَقْتِ الْمُؤَجَّلِ مِنْ أَبِيهِ. هكَذَا نَحْنُ أَيْضًا لَمَّا كُنَّا قَاصِرِينَ كُنَّا مُسْتَعْبَدِينَ تَحْتَ أَرْكَانِ الْعَالَمِ. وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ أَرْسَلَ اللَّه ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ. لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ. ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ أَرْسَلَ اللَّه رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخًا يَاأَبَا الآبُ. إِذًا لَسْتَ بَعْدُ عَبْدًا بَلِ ابْنًا وَإِنْ كُنْتَ ابْنًا فَوَارِثٌ ِللَّهِ بِالْمَسِيحِ“ (غل 4: 1 – 7).
في هذه الفقرة يطرح بولس الرسول ثلاثة أسئلة ضمنية ويجيب عليها، وهيَ:
س1: كيف كان حالنا في ظل الناموس (غل 4: 1-3)؟
كنا قاصرين لا فرق بيننا وبين العبيد، فالعبد تحت أمرة سيده والقاصر يطيع الوصي أو الوكيل، وكليهما ليس له حق التصرف في الممتلكات، والإنسان في العهد القديم في ظل الناموس كان شبيهًا بالابن القاصر، فمكث الإنسان تحت حكم الناموس نحو 1500 عام يتعلَّم “الألف باء”، والناموس يؤدّبه ويهيئه لاستقبال المسيح الذي هو “الأَلِفُ وَالْيَاءُ” (رؤ 22: 13)، وظل الإنسان في العهد القديم يتعلَّم الحروف الهجائية دون أن يقرأ كلمة واحدة، إلى أن آمن بالمسيح الكلمة فبدأ الإنسان يجيد القراءة.
س2: ما الذي فعله اللَّه لينقذ الإنسان من عبودية النام-وس (غل 4: 4، 5)؟
أوضح بولس الرسول أنه في ملء الزمان أرسل اللَّه ابنه مولودًا من امرأة، فافتدانا من الناموس ومنحنا التبني له، وأوضح بولس الرسول من الذي أتى؟ ولماذا أتى؟.. الذي أتى هو ابن اللَّه بالحقيقة، وأتى لكيما يفتدينا أي يحرّرنا من عبودية الناموس.
س3: ما هو وضع الإنسان بعد الفداء (غل 4: 6، 7)؟
صار الإنسان مسكنًا للروح القدس، فصارت له دالة البنين، فلم يعد بعد ذلك عبدًا بل ابنًا والابن له حق الميراث، فصار الإنسان المتحد بالمسيح وارثًا بالمسيح ملكوت السموات.
“وَإِنَّمَا أَقُولُ مَا دَامَ الْوَارِثُ قَاصِرًا لاَ يَفْرِقُ شَيْئًا عَنِ الْعَبْدِ مَعَ كَوْنِهِ صَاحِبَ الْجَمِيعِ. بَلْ هُوَ تَحْتَ أَوْصِيَاءَ وَوُكَلاَءَ إِلَى الْوَقْتِ الْمُؤَجَّلِ مِنْ أَبِيهِ. هكَذَا نَحْنُ أَيْضًا لَمَّا كُنَّا قَاصِرِينَ كُنَّا مُسْتَعْبَدِينَ تَحْتَ أَرْكَانِ العَالَم” (غل 4: 1 – 3).
في هذه الآيات الثلاث الأولى من هذا الأصحاح يعقد بولس الرسول مقارنة بين الابن الوارث القاصر والإنسان تحت عصر الناموس، فالوارث القاصر له ممتلكات وامتيازات وثروات تنتظره ولكنه لا يستطيع التمتُّع بها إلاَّ بعد أن يصل إلى سن النضج، هكذا كان حال الإنسان تحت حكم الناموس، ولكن بعد أن جاء الإيمان ونال الحرية في المسيح يسوع ووصل إلى سن الرشد والنضج هل بعد هذا يشتهي العودة إلى عصر الطفولية وعبودية الناموس؟!
وَإِنَّمَا أَقُولُ مَا دَامَ الْوَارِثُ قَاصِرًا لاَ يَفْرِقُ شَيْئًا عَنِ العَبْدِ مَعَ كَوْنِهِ صَاحِبَ الجَمِيعِ.. نلاحظ أن الآية هنا بدأت بحرف العطف الواو في “وإِنَّمَا“، دلالة على أن القديس بولس الرسول يستكمل حديثه عن التبرير بالإيمان الذي بدأه عندما قال: “ولكِنْ بَعْدَ مَا جَاءَ الإِيمَانُ لَسْنَا بَعْدُ تَحْتَ مُؤَدِّبٍ“ (غل 3: 25)، فكما سبق بولس الرسول وشبَّه الناموس بالمؤدب قائلًا: “قَدْ كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ لِكَيْ نَتَبَرَّرَ بِالإِيمَانِ” (غل 3: 24)، يشبه هنا الناموس بالوصي أو الوكيل، فما دام الوارث قاصر فهو لا يملك حق التصرُّف في الميراث لأنه لم يبلغ بعد سن الرشد والنضوج العقلي، وحدَّد القانون الروماني سن الرشد بأربعة عشر عامًا (راجع الأب متى المسكين – شرح رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل غلاطية ص 263)، وكان من المتعارف عليه أنه عندما كان الابن يصل لسن النضج وهو في السابعة عشر أو الثامنة عشر من عمره يعلن والده هذا أمام الجميع، بل أن القانون كان يسمح بهذا لمن يبلغ الرابعة عشر ما دام قد نضج عقليًا، والقاصر ابن شرعي له الحق في الميراث من أبيه، ولكن طالما هو قاصر فلا يحق له التصرُّف في شيء من الميراث، مثله مثل العبد، فالعبد ليس له أي حق للتصرُّف في ممتلكات سيده، والقاصر هنا يشبه العبد في أنه لا يستطيع أن يشتري ولا أن يبيع ولا أن يكتب صكًا، وإن تصرّف هكذا فإن تصرفه يعدُّ باطلًا وغير معترف به.
ومع هذا فإن هناك فروق شاسعة بين العبد والابن القاصر:
1 سيظل العبد عبدًا لا يحق له التصرف في ممتلكات سيده إلاَّ بأمر سيده، وهذا حاله دائمًا وأبدًا، أما القاصر فعندما يصل إلى سن الرشد فأنه يستطيع أن يتمتع بالميراث ويحق له التصرف، ويحسب تصرُّفه قانونيًا مقبولًا لأنه هو الوارث الشرعي لأبيه.
2 لا يضمن العبد بقائه في البيت طوال حياته، حتى أن سارة عندما أرادت طرد جاريتها هاجر مع ابنها إسماعيل فعلت ذلك بدون أي عائق (مع أن إسماعيل كان ابنًا لإبراهيم)، والعبد قد يبيعه سيده لآخَر، بل قد يتعرَّض العبد لمرض قاسي فيُلقي به سيده على قارعة الطريق، أما الابن فهو يبقى إلى الأبد، فقال الرب يسوع: “وَالْعَبْدُ لاَ يَبْقَى فِي الْبَيْتِ إِلَى الأَبَدِ أَمَّا الابْنُ فَيَبْقَى إِلَى الأَبَدِ” (يو 8: 35).
بَلْ هُوَ تَحْتَ أَوْصِيَاءَ وَوُكَلاَءَ.. الأوصياء جمع وصي، ففي حالة موت الأب أو غيابه، ولديه ابن قاصر أو أبناء قاصرين، يُعيَّن لهم وصي يُكلَّف بمراعاة مصالح هؤلاء الأبناء والحفاظ على ميراثهم، فالناموس كان هو الوصي علينا ونحن قاصرين فلم نستطع التمتُّع بما لنا من ميراث، وكذلك في الوكالة نجد المُوكّل، والمُوكَل إليه أي الوكيل، وموضوع الوكالة، وهنا نجد الأب هو المُوكّل، والوكيل هو المكلَّف بالإشراف على الابن القاصر وممتلكاته، وكان الناموس هو بمثابة الوكيل على الإنسان القاصر في العهد القديم، وقال بولس الرسول: “تَحْتَ أَوْصِيَاءَ وَوُكَلاَءَ“ بصيغة الجمع دلالة على كثرة وصايا وأحكام وفرائض الناموس.
بَلْ هُوَ تَحْتَ أَوْصِياءَ وَوُكَلاَءَ.. يقول “القمص تادرس يعقوب“: “اُستخدمت كلمة” وارث ” في (غل 3: 29، 4: 7) حسب العادات الفلسطينية، حيث كان الوالد يعين في وصيته وصيًا لابنه، وعلى الوصي بعد وفاة الأب أن يدير شئون ميراث الابن حتى يبلغ سن الرشد. لهذا يعتبر هذا الابن أثناء مدة الوصاية في حكم العبد الذي ليس له حرية التصرف ولو كان من أغنى الأغنياء، هكذا الإنسان البعيد عن السيد المسيح، الخاضع تحت الناموس يحسب قاصرًا، ينال ميراثه في المستقبل. مثل هذا الإنسان لا يفضل عن عبد، ليس بمقدوره أن يرث ما وُعد به“(222).
بَلْ هُوَ تَحْتَ أَوْصِيَاءَ وَوُكَلاَءَ.. يقول “الأب متى المسكين“: “واضح أن الوصي هو المتولي القانوني على الطفل القاصر بحكم القانون ويكون مسئولًا عنه أمام القانون عن ماليته الموروثة، أما الوكيل فهو المعيَّن من البيت أو العائلة ليرعى أمور حياته وصحته وتعليمه ويكون بمثابة أبيه.
ونحن لو رجعنا إلى الناموس نجده يمثل الوصي بإحكام وصاياه ويمثّل الوكيل بتعاليمه المتعددة النواحي. واللَّه فعلًا كان يريد أن يقدِّم الناموس كوصي بواسطة وصاياه لإعداد الإنسان القاصر تحت الناموس بدون حرية لقبول الوصايا التي سيقدمها الإنجيل لاستخدام ميراث الحرية، كما يقدّم الناموس كوكيل تعليمي لتعاليم تهذيبية وأدبية ونفسية لإعداد الإنسان البدائي لحالة بلوغ الإنسان للتصرف في جدة الحياة أو الحياة الجديدة. وفي كلتا الحالتين قد أكمل الناموس كل المرجو منه وقدم لنا نماذج بديعة حقًا من الذين خرجوا من تحت الناموس لائقين لقبول الخلاص والسلوك بحرية البنين مثل الرسل والتلاميذ وسمعان الشيخ وحنة النبية وغيرهم“(223).
تَحْتَ أَوْصِيَاءَ وَوُكَلاَءَ إِلَى الْوَقْتِ الْمُؤَجَّلِ مِنْ أَبِيهِ.. مادام الابن قاصرًا، فهو تحت سلطان الغير سواء كان مؤدب أو وصي أو وكيل، وعندما يصل إلى سن الرشد سواء الذي يحدّده القانون أو الذي يحدّده الأب يُقام له احتفال عائلي ويُعلن فيه أن هذا الابن أصبح راشدًا مسئولًا عن تصرفاته وله أن يشارك في الحياة العامة فيدخل إلى معترك الحياة وله حرية التصرف القانوني. أما عند اليهود فكان الأب يأخذ ابنه في أول سبت بعد عيد ميلاده الثاني عشر إلى المجمع، فيعلن أمام الحاضرين أن هذا الابن قد صار ابنًا للناموسA son of the low، فكان الوالد يصلي قائلًا: ” مبارك أنت يا اللَّه يا من أخذت عني مسئولية هذا الغلام“(224)، ويصلَّي هذا الابن قائلًا: “يا إلهي وإله آبائي في هذا اليوم الرهيب المقدَّس الذي يتجدَّد فيه انتقالي من مرحلة الصبا إلى مرحلة الرجولة، أرفع عيني باتضاع إليك، وأعلن في إخلاص وصدق أن أحفظ وصاياك من الآن فصاعدًا وأقوم بمسئولية أفعالي من نحوك وأتحملها“(225)، ويدعو الأب ابنه أمام الحاضرين ليكون مسئولًا عن أعماله.. وفي الكنيسة يقوم الأشبين بتربية الطفل في الإيمان المستقيم حتى سن الثانية عشرة، ثم يعهد به لأب اعترافه ليتابعه في سلوكه وسائر حياته الروحية.
ويقول “ماكدونل“: “والصورة هنا هي لأب غني يقرّر وضع كل غناه تحت تصرُّف ابنه عند بلوغه سن النضج. ومع هذا ما دام الوارث قاصرًا فحالته شبيهة بحالة العبد فهناك مَن يخبره باستمرار بما يجب عليه فعله وبما لا ينبغي أن يفعله، وهنالك وكلاء يديرون شئون ممتلكاته وأوصياء مسئولون عنه شخصيًا. وهكذا مع أن الميراث نصيبه بالتأكيد، فهو لا يتمتع به فعليًا حتى يكبر”(226).
إِلَى الوَقْتِ الْمُؤَجَّلِ مِنْ أَبِيهِ.. كانت بعض الشرائع ومنها شرائع غلاطية تعطي الحق القانوني للأب أن يُحدّد اليوم الذي يبلُغ فيه ابنه سن الرشد، فيحق له التصرف كابن شرعي ناضج في أملاك أبيه، وهذا الوقت المؤجّل من الأب يشير إلى ملء الزمان، أي الزمن المحدَّد من اللَّه لتجسُّده وفداءه للإنسان، وهذا موضع حديث الرسول في الآية الرابعة. وكما أن الابن القاصر كان يتطلّع لليوم الذي يبلُغ فيه سن الرشد، هكذا كانت البشرية كلها يهود وأمم، اليهود ممثلين في الأنبياء، والأمم ممثلين في الفلاسفة، يتطلعون لليوم الذي يفتقد فيه اللَّه البشرية ( راجع مز 143: 5، أش 64: 1).
هكَذَا نَحْنُ أَيْضًا لَمَّا كُنَّا قَاصِرِينَ كُنَّا مُسْتَعْبَدِينَ.. سواء كنا يهود أو أمم، وبولس الرسول يضم نفسه لأهل غلاطية سواء كان أصلهم من اليهود أو الأمم، فقد كان شاول الطرسوسي يعيش كقاصر في ظل عبودية الناموس، وكان المؤمنون من الأمم يعيشون مستعبدين لعباداتهم الوثنية الباطلة التي هي وليدة فكرة الشيطان.
كُنَّا مُسْتَعْبَدِينَ تَحْتَ أَرْكَانِ الْعَالَمِ.. أركان العالم أي المبادئ الأولية للمعرفة، وفي الأصل هي “الألف باء” أي الحروف الأبجدية، ويقول “الأب متى المسكين”: ” أَرْكَانِ الْعَالَمِ.. كلمة “مستويخيا” باليونانية تعني: “أشياء مرصوصة وراء بعضها في صف”، وهذه الكلمة نفسها تستخدم للتعبير عن الألفا فيتا أي ألف باء تاء ثاء جيم وهكذا. ولأن دراسة الألفا فيتا أو الألف باء هي أول الدروس في دراسة التعليم بالحرف، فصارت تُستخدم الكلمة للتعبير عن الشيء البدائي أو البدائيات أو المبادئ الأولية كما جاءت في سفر العبرانيين: “لأَنَّكُمْ إِذْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ لِسَبَبِ طُولِ الزَّمَانِ تَحْتَاجُونَ أَنْ يُعَلِّمَكُمْ أَحَدٌ مَا هي أَرْكَانُ بَدَاءَةِ.. أَقْوَالِ اللَّهِ وَصِرْتُمْ مُحْتَاجِينَ إِلَى اللَّبنِ لاَ إِلَى طَعَامٍ قَوِيٍّ“(227).
كُنَّا مُسْتَعْبَدِينَ تَحْتَ أَرْكَانِ الْعَالَمِ.. أي تحت المعرفة البدائية للأطفال في ظلال الناموس، أو ظلال الفلسفات الباطلة كقول معلّمنا بولس الرسول لأهل كولوسي: “اُنْظُرُوا أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدٌ يَسْبِيكُمْ بِالْفَلْسَفَةِ وَبِغُرُورٍ بَاطِل حَسَبَ تَقْلِيدِ النَّاسِ حَسَبَ أَرْكَانِ الْعَالَمِ، وَلَيْسَ حَسَبَ الْمَسِيحِ“ (كو 2: 8)، فكثيرون يتوهون وراء فلسفات العالم وغروره الباطل، وهذه جميعها ليست حسب المسيح، كما سأل بولس الرسول أيضًا أهل كولوسي: “إِذًا إِنْ كُنْتُمْ قَدْ مُتُّمْ مَعَ الْمَسِيحِ عَنْ أَرْكَانِ العَالَمِ فَلِمَاذَا كَأَنَّكُمْ عَائِشُونَ فِي الْعَالَمِ تُفْرَضُ عَلَيْكُمْ فَرَائِضُ“ (كو 2: 20) ففرائض الناموس هي أركان العالم، واعتبرها بولس الرسول أنها موت، فترك الحياة مع المسيح والرجوع إلى فرائض الناموس هي موت.. لقد عاش الإنسان كقاصر وكعبد في ظلال الناموس وفشل فشلًا ذريعًا، فصار مديونًا ومستعبدًا للناموس، حتى جاء ملء الزمان وآتى إلينا ابن اللَّه متجسدًا، وقال لنا: “إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كَلاَمِي تَكُونُونَ تَلاَمِيذِي. وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ” (يو 8: 31، 32).. “فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا“ (يو 8: 46)، والذي لا يعرف الحق سيظل يعيش تحت نير العبودية.
كُنَّا مُسْتَعْبَدِينَ تَحْتَ أَرْكَانِ الْعَالَمِ.. وفي الآية التاسعة سيصفها بولس الرسول بالأركان الضعيفة الفقيرة مستهجنًا رجوع الغلاطيين لها: “كَيْفَ تَرْجِعُونَ أَيْضًا إِلَى الأَرْكَانِ الضَّعِيفَةِ الْفَقِيرَةِ الَّتِي تُرِيدُونَ أَنْ تُسْتَعْبَدُوا لَهَا مِنْ جَدِيدٍ” (غل 4: 9).. “ما المقصود بأركان العالم؟ بكل بساطة هي تعني الأفكار عن اللَّه، والطرق المختلفة التي يحاول بها أن يقترب من اللَّه. لندع الكتاب يفسّر الكتاب:
- إنها تعني المبادئ الأولية (ألف باء) لكلمة اللَّه، أي ذبائح وشعائر، وطقوس العهد القديم (عب 5: 12).
- إنها تعني فلسفة وتقليد الناس، والمبادئ الأولية أو التعاليم الأساسية للبشر. ألف باء طرق تُقرّب البشر إلى اللَّه (كو 2: 8).
- إنها تعني العناصر، وأجرام الكون السماوية (2بط 3: 10)..
- إنها تعني فرائض، وقواعد، وشعائر الناس (كو 2: 20).
- إنها تعني القوانين الطقسية، والنير الشرعي الموضوع على الناموس عندما يحاولون الاقتراب من اللَّه (أع 15: 10).
- إنها تعني ناموس العهد القديم. ونير العبودية (غل 5: 1، قارن 4: 3).
- إنها تعني حفظ الأيام الدينية، والشهور والسنين (غل 14: 10).
بكل بساطة، فإن المبادئ الأولية الأساسية للعالم تشير إلى كل الأشياء التي يتصالح بها الناس مع اللَّه ولضمان الرضا والقبول الإلهي. إنها تشير إلى أي شيء يستخدمه الإنسان ليبرّر نفسه أمام اللَّه، وأي طريقة يتخذها الإنسان تقربًّا إلى اللَّه من خلال نشاطه ومجهوده الخاص.. الفكر هكذا: قبل المسيح. كانت كل الطرق للوصول إلى اللَّه مجرد طرق بدائية، ولم تكن طريقة منها هي الطريقة الصحيحة، لأن الناس لم يكن لديهم سوى معرفة قليلة باللَّه. معرفة أولية كانت تتطلب انضباط وإرشاد الناموس.. ولكن عندما أعدّ كل شيء للعالم لكي يصل إلى سن الرشد ويحصل على معرفة ناضجة من اللَّه، جاء المسيح ليحرّر الناس من عبودية الناموس، ولكي يظهر أن الإنسان قصد له أن تكون له علاقة بنوية من الَّله في المسيح لم يعد هناك عبيد للناموس، فهم أبناء اللَّه. في المسيح عليهم أن يتناولوا ميراثهم“(228).
“ولكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ أَرْسَلَ اللَّهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ. لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ” (غل 4: 4، 5).
وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ.. كان ملء الزمان في معرفة اللَّه، وقد أشارت النبوات إلى ملء الزمان هذا، فأبونا يعقوب قال في نبواته: “لاَ يَزُولُ قَضِيبٌ مِنْ يَهُوذَا وَمُشْتَرِعٌ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ شِيلُونُ وَلَهُ يَكُونُ خُضُوعُ شُعُوبٍ“ (تك 49: 10)، ودانيال النبي عندما كان في أرض السبي حدَّد ميعاد مجيء المسيح وميعاد صلبه، وهو ما عُرف بأسابيع دانيال حيث قال: “سَبْعُونَ أُسْبُوعًا قُضِيَتْ عَلَى شَعْبِكَ وَعَلَى مَدِينَتِكَ الْمُقَدَّسَةِ لِتَكْمِيلِ الْمَعْصِيَةِ وَتَتْمِيمِ الخَطَايَا وَلِكَفَّارَةِ الإِثْمِ وَلِيُؤْتَى بِالْبِرِّ الأَبَدِيِّ وَلِخَتْمِ الرُّؤْيَا وَالنُّبُوَّةِ وَلِمَسْحِ قُدُّوسِ الْقُدُّوسِينَ. فَاعْلَمْ وَافْهَمْ أَنَّهُ مِنْ خُرُوجِ الأَمْرِ لِتَجْدِيدِ أُورُشَلِيمَ وَبِنَائِهَا إِلَى الْمَسِيحِ الرَّئِيسِ سَبْعَةُ أَسَابِيعَ وَاثْنَانِ وَسِتُّونَ أُسْبُوعًا.. وَبَعْدَ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ أُسْبُوعًا يُقْطَعُ الْمَسِيحُ.. وَلَيْسَ لَهُ، وَشَعْبُ رَئِيسٍ آتٍ يُخْرِبُ الْمَدِينَةَ وَالْقُدْسَ، وَانْتِهَاؤُهُ بِغَمَارَةٍ، وَإِلَى النِّهَايَةِ حَرْبٌ وَخِرَبٌ قُضِيَ بِهَا. وَيُثَبِّتُ عَهْدًا مَعَ كَثِيرِينَ فِي أُسْبُوعٍ وَاحِدٍ وَفِي وَسَطِ الأُسْبُوعِ يُبَطِّلُ الذَّبِيحَةَ وَالتَّقْدِمَةَ“(دا 9: 24 – 27)، والمقصود بالأسبوع هنا سبعة أيام يشير كل يوم نبوي إلى سنة.
لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ.. جاء ملء الزمان بعد أن مرَّ على البشرية ردحًا من الزمان مرت خلاله بعده مراحل أساسية:
1 الإنسان في جنة عدن منذ خلقته وحتى السقوط، ولا ندري كم استمرت هذه الفترة من السنين، ولكنها بلا شك كانت أجمل وأروع المراحل التي مرَّ بها الإنسان، عاش في سعادة غامرة وبراءة متناهية، حتى أن آدم وحواء كانا عريانين ولم يخجلا، وكان الإنسان هو الملك المتوَّج على هذه الخليقة كلها.
2 الفترة التي مرَّ بها الإنسان من السقوط والطرد من الفردوس وحتى الطوفان، تحت حكم الناموس الطبيعي وإرشاد الضمير، وفي هذه الفترة ازداد شر الإنسان وطغى ووصل إلى عنان السماء، فصدر الأمر الإلهي بإبادة كل الكائنات الحيَّة على الأرض باستثناء من حملتهم سفينة نوح، ثمانية أنفس خلصوا بالماء.
3 المرحلة التي مرَّ بها الإنسان بعد الطوفان وحتى عصر إبراهيم حيث عاد الإنسان إلى شره، وانحدرت البشرية بصورة أعمق إلى الرذائل والانحطاط الخُلقي والسحر والعرافة والعبادات الشيطانية وتقديم الأطفال ذبائح بشرية، وتاه العالم في غياهب الوثنية وقسوتها، فاختار اللَّه إبراهيم كبداية جديدة، ودعاه للخروج من أرضه ومن شعبه ووعده بالبركة، ليكون خميرة صالحة يُخمّر به عجين البشرية، وأعطاه الوعد الإلهي بأن بنسله تتبارك كل أمم وقبائل الأرض.
4 عصر الناموس، فبعد إعطاء الوعد لإبراهيم بأربعمائة وثلاثين سنة أعطى اللَّه موسى النبي الناموس ليضبط شعبه ويميزه عن بقية شعوب الأرض، وكشف الناموس للإنسان عن بشاعة الخطية، لكنه فشل في منحه الخلاص منها، وحيث أن الإنسان فشل في تنفيذ وصايا الناموس وأحكامه وفرائضه بالكامل، فقد سقط تحت اللعنة، واستمر عصر الناموس نحو ألف وخمسمائة عام، حتى جاء ملء الزمان.
لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ.. أي الوقت الذي عينه الآب، فهو الوقت المؤجل الذي حدَّده الآب ليحرّر الأبناء القُصَّر الذين هم تحت أوصياء ووكلاء مستعبدين لأركان العالم. مُغلَق عليهم تحت الخطية، محروسين تحت الناموس.. وتعبير “مِلْءُ الزَّمَانِ“ فيه تشبيه ضمني بليغ، إذ يشبه الزمن بكأس والسنون التي تمر واحدة تلو الأخرى تضيف كلٍ منها نقطة لهذا الكأس حتى امتلأ إلى حافته فاكتمل الزمان واقترب ملكوت السموات: “وَبَعْدَمَا أُسْلِمَ يُوحَنَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ اللَّهِ. وَيَقُولُ قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللَّهِ فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ“ (مر 1: 14، 15)، وعبّر بولس الرسول عن هذا الزمن بملء الأزمنة: “إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ.. لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ“ (أف 1: 9، 10)، ملء الزمان الذي يُعلن فيه الإيمان بالمسيح: “إِلَى الإِيمَانِ الْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ” (غل 3: 23).
لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ.. عندما أعدَّ اللَّه كل شيء:
1 تأكد الإنسان تمامًا من فشله الذريع في الخلاص من الخطية والشر، والسلوك في حياة الفضيلة والبر، لا فرق بين اليهودي والأممي في هذا، وفيما نجح الناموس في عمله التعليمي والكشف عن بشاعة الخطية فأنه عجز عن تبرّير الإنسان الخاطئ، وأضلّت الديانات الوثنية والفلسفات الباطلة الإنسان، فلم تُصلِح حاله بل صار إلى أردأ، ففي ظل عبادة الذات واللذات تاهت النفوس وعطشت الأرواح للبر والفضيلة.
2 أعدَّ اللَّه الشخصيات الهامة في التجسد والفداء، فوُلِدت العذراء مريم، قمة الفضائل، التي حملت جوهر اللاهوت في أحشائها تسعة أشهر ولم تحترق، كما أنها احتملت هذه الكرامة العظيمة ولم تحترق بنار الكبرياء والاستعلاء، ووُلِد يوسف النجار حامي الحبل الإلهي، ووُلِد يوحنا المعمدان السابق الصابغ أعظم مواليد النساء، وأصدر أوغسطس قيصر أمره الإمبراطوري بالاكتتاب، وكان سمعان الشيخ الذي تعدى عمره مئات الأعوام في انتظاره، وحنة بنت فنوئيل عابده بأصوام وطِلبات نهارًا وليلًا منذ أربعة وثمانين عامًا، ومن جانب آخَر كان هناك حنان وقيافا رأسي الأفعى، والتلميذ الخائن يهوذا، والوالي الذي خذل العدل بيلاطس البنطي.. إلخ.
3 اكتملت الرموز والنبوات التي تشير للمسيح الفادي، فكان هابيل، ونوح وملكي صادق، وإسحق، ويوسف، وموسى، وهارون، ويونان.. إلخ رموز ناطقة له، كما كانت شجرة الحياة، والعليقة، وخروف الفصح، والصخرة، والمن، والذبائح بأنواعها، وعصفوري تطهير الأبرص.. إلخ، رموز غير ناطقة ولكنها تحدثت بفصاحة عن شخصية الفادي وعمله الفدائي، وألقت مئات النبوات الضوء على كل أحداث قصة التجسد والفداء والقيامة والصعود.. ثم مرَّت فترة صمت تعدت الثلثمائة عام صمتت خلالها السماء ولم يسمع صوت النبوة في إسرائيل، وكان شعب اللَّه متلهفًا لسماع صوت السماء.
4 أعدَّ اللَّه الإمبراطورية الرومانية حيث بسطت الأمن وبذلت جهودًا كبيرة للقضاء على قراصنة البحار وقطَّاع الطرق، ومدَّت شبكات الطرق الضخمة التي ربطت المدن معًا، وربطت الدول المختلفة بروما، فهذه الطرق هي التي حملت أقدام المبشرين بالخيرات، المبشرين بملكوت السموات، رسل الحَمَل.
5- صارت اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية للإمبراطورية الرومانية التي بسطت سلطتها على شعوب الأرض، فصار التفاهم سهلًا بواسطة هذه اللغة، وبهذه اللغة كُتِبت جميع أسفار العهد الجديد، فانتشرت المسيحية من مشارق الأرض إلى مغاربها.
6 رَحل بعض اليهود إلى أماكن عديدة بالعالم وحملوا كتبهم المقدَّسة التي حوت مئات النبوات عن المسيا المُخلّص، وبمثل هذه النبوات أفحم بولس الرسول يهود دمشق مثبتًا لهم أن يسوع هو المسيح موضوع نبوات العهد القديم، وهكذا فعل يوستين الشهيد في حواره مع تريفو اليهودي، وفي الرحلات التبشيرية لبولس الرسول كان يلجأ أولًا إلى مجامع اليهود يحدّثهم عن تحقُّق رجائهم في الوعد الإلهي لإبراهيم، فقبلت أعداد منهم الإيمان بالمسيح.
لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ.. “مِلْءُ الزَّمَانِ“ الذي أعلن بواسطة الأنبياء ولا سيما أبينا يعقوب ودانيال النبي، يضعنا أمام “نهاية الزمان” الذي أُخفيَ عن الجميع ولكن من المؤكد أنه سيحدث في يوم ما، وعندما سأل التلاميذ السيد المسيح عن هذا الميعاد: ” فَقَالَ لَهُمْ لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا الأَزْمِنَةَ وَالأَوْقَاتَ الَّتِي جَعَلَهَا الآبُ فِي سُلْطَانِهِ” (أع 1: 7)، بل أن السيد المسيح قد سبق وقال: “وَأَمَّا ذلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ الابْنُ إِلاَّ الآبُ. اُنْظُرُوا اِسْهَرُوا وَصَلُّوا لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَتَى يَكُونُ الْوَقْتُ“(مر 13: 32، 33)، وأوصانا قائلًا: “فَاحْتَرِزُوا لأَنْفُسِكُمْ لِئَلاَّ تَثْقُلَ قُلُوبُكُمْ فِي خُمَارٍ وَسُكْرٍ وَهُمُومِ الْحَيَاةِ فَيُصَادِفَكُمْ ذلِكَ الْيَوْمُ بَغْتَةً. لأَنَّهُ كَالْفَخِّ يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ الْجَالِسِينَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ. اِسْهَرُوا إِذًا وَتَضَرَّعُوا فِي كُلِّ حِينٍ لِكَيْ تُحْسَبُوا أَهْلًا لِلنَّجَاةِ” (لو 21: 34-36).
أَرْسَلَ اللَّهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ.. لماذا لم يقل مولودًا من عذراء بالرغم من أن إشعياء تنبأ قبل ميلاد المسيح بنحو سبعمائة عام قائلًا: “هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ“(إش 7: 14)؟.. لأن القديس بولس أراد أن يوجه أنظارنا إلى الوعد الإلهي بأن نسل المرأة يسحق رأس الحيَّة، فقال اللَّه للحيَّة: “وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ“ (تك 3: 15)، كما يعرض يوحنا الرسول في سفر الرؤيا لقطة عجيبة لهذه المرأة: “وَظَهَرَتْ آيَةٌ عَظِيمَةٌ فِي السَّمَاءِ امْرَأَةٌ مُتَسَرْبِلَةٌ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرُ تَحْتَ رِجْلَيْهَا وَعَلَى رَأْسِهَا إِكْلِيلٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ كَوْكَبًا وهي حُبْلَى تَصْرُخُ مُتَمَخِّضَةً وَمُتَوَجِّعَةً لِتَلِدَ. وَظَهَرَتْ آيَةٌ أُخْرَى فِي السَّمَاءِ. هُوَذَا تِنِّينٌ أَحْمَرُ.. وَالتِّنِّينُ وَقَفَ أَمَامَ الْمَرْأَةِ الْعَتِيدَةِ أَنْ تَلِدَ حَتَّى يَبْتَلِعَ وَلَدَهَا مَتَى وَلَدَتْ. فَوَلَدَتِ ابْنًا ذَكَرًا عَتِيدًا أَنْ يَرْعَى جَمِيعَ الأُمَمِ بِعَصًا مِنْ حَدِيدٍ“ (رؤ 12: 1 – 5).
أَرْسَلَ اللَّهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ.. وُلِد من امرأة إنسانًا كاملًا يحمل الطبيعة البشرية كاملة، جسد بشري وروح بشرية، واتحد اللاهوت بالناسوت في أحشاء البتول العذراء مريم معمل الاتحاد، فمنذ اللحظة الأولى لتكوُّن الناسوت وَجَدَ اللاهوت فاتحًا أحضانه لاستقباله، وبعد الإتحاد لم ينفصل عنه قط لحظة واحدة ولا طرفة عين.
أَرْسَلَ اللَّهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ.. أوضح بولس الرسول طبيعة المولود، فمن جهة الناسوت هو مولود من امرأة إنسان كامل، ومن جهة اللاهوت هو الكائن منذ الأزل، وقول بولس الرسول : “أَرْسَلَ اللَّهُ ابْنَهُ“ يُلقي الضوء على الوجود السابق للابن، أي أن الابن كائن قبل أن يرسله الآب، فالابن هو قوة اللَّه وحكمته: “قُوَّةِ اللَّهِ وَحِكْمَةِ اللَّهِ“ (1كو 1: 24)، هو اللوغوس: “فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ“ (يو 1: 1)، هو الكائن في الحضن الأبوي كل حين: “اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ“ (يو 1: 18)، هو الأزلي بأزلية الآب: “إِنِّي أُخْبِرُ مِنْ جِهَةِ قَضَاءِ الرَّبِّ قَالَ لِي أَنْتَ ابْنِي أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ“ (مز 2: 7) والمقصود باليوم ليس زمنًا معينًا، لكنه اليوم الذي ليس قبله يوم، أي الأزل وقال لليهود: “قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ“ (يو 8: 58) وهو الدائم إلى الأبد: “يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ“ (عب 13: 8)، وعندما أرسل الآب ابنه لم ينفصل عنه، ولا الابن انفصل عن الآب، فدائمًا وأبدًا الابن في الآب والآب في الابن، والروح القدس هو روح الآب وروح الابن أيضًا. ومن له هذا الإيمان ويتمسَّك به لا تقوى رياح التجارب أن تهزه.
أَرْسَلَ اللَّهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ.. أرسل اللَّه الآب ابنه الوحيد الجنس، الذي هو من نفس طبيعته وكيانه وجوهره، المساوي له في كل شيء، والواحد معه في الجوهر الإلهي، الذي فيه حلَّ كل ملء اللاهوت: “الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللَّهِ لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلًا ِللَّهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ“ (في 2: 6، 7)، وقال: “اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ.. أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ.. صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ“ (يو 14: 9-11)، ولذلك “كُلُّ مَنْ يُنْكِرُ الابْنَ لَيْسَ لَهُ الآبُ أَيْضًا وَمَنْ يَعْتَرِفُ بِالابْنِ فَلَهُ الآبُ أَيْضًا” (1يو 2: 23).. لقد أخذ طبيعتنا وشابهنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها: “فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضًا كَذلِكَ فِيهِمَا لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ أَيْ إِبْلِيسَ“ (عب 2: 14).
مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ.. كرَّر بولس الرسول كلمة “مَوْلُودًا“ في الآية مرتين قائلًا: “مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ“، و“مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ“ مؤكدًا على ناسوت السيد المسيح، لقد وُلِدَ من امرأة تحت الناموس أي امرأة يهودية، وفي أسرة يهودية، مرتضيًا أن يلتزم بمطالب الناموس وهو واضع الناموس، في اليوم الثامن من ولادته خُتن بحسب الناموس، وفي اليوم الأربعين من ولادته دخلت أمه الهيكل لتتمم شريعة التطهير رغم أن وليدها هو القدوس البعيد عن كل شر وكل دنس: “وَعِنْدَمَا دَخَلَ بِالصَّبِيِّ يَسُوعَ أَبَوَاهُ لِيَصْنَعَا لَهُ حَسَبَ عَادَةِ النَّامُوسِ“ (لو 2: 27)، وقَبِل العماد من يوحنا المعمدان، وفي الأعياد كان يصعد إلى الهيكل، وبدأ خدمته وهو في الثلاثين من عمره بحسب الناموس، وقال: “لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ“ (مت 5: 17) وهو الوحيد الذي التزم التزامًا صحيحًا بجميع وصايا وأحكام وفرائض الناموس، وقال لليهود: “مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ“ (يو 8: 46)، وقال عنه بطرس الرسول: “الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ“ (1بط 2: 22) لقد تواضع المسيح ونزل حيث كان الإنسان لكيما يرفعه إليه، وُلِدَ من امرأة تحت الناموس وصار ابنًا للإنسان لكيما يصير الإنسان ابنًا للَّه.
ويقول “القس غبريال رزق اللَّه“: “أكمل السيد المسيح كل أحكام الناموس وفرائضه وأتمَّ كل أوامره ونواهيه وأنجز كل التزاماته كاملة حتى لمع بهاء طهارته وجمال نقاوته ومجد قداسته الكاملة على جبل التجلي حيث “أَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ” (مت 17: 1، 2).. وهكذا تمّت فيه غاية الناموس: “لأَنَّ غَايَةَ النَّامُوسِ هي الْمَسِيحُ لِلْبِرِّ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ“ (رو 10: 4)”(229).
لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ.. لقد حمل لعنة الناموس عنا: “اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ“ (غل 3: 13)، وفعل “يفتدي” أي يحرّر العبد بعد دفع الفدية (الثمن)، وكان هذا أمرًا متعارفًا عليه، إذ كان في الإمبراطورية الرومانية نحو 60 مليون عبدًا وأمة، وانتشرت هنا وهناك أسواق العبيد حيث يُباع العبيد ويُشترون، فكان أمرًا عاديًا أن يشتري الإنسان عبد أو أكثر ليخدمه، وقلما اشترى إنسان طيب القلب عبدًا بهدف تحريره، ولا سيما أنه كان هناك عدد ليس بقليل من العبيد من أصل شريف وقعوا فريسة في يد قطَّاع الطريق أو قراصنة البحار وبيعوا كعبيد، ومنهم المتعلّمين ومنهم الحكماء، ومنهم الأتقياء، ولمثل هؤلاء كان يُعهد بتربية أطفال أسيادهم.
لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ.. وكان ثمن هذا الفداء العظيم أن يُسفَك دمه على خشبة العار، ويقول “ماكدونل“: ” لقد طلب الناموس ثمنًا من الذين فشلوا في حفظه، وهذا الثمن هو الموت. وينبغي دفع هذا الثمن قبل أن يحضِر اللَّه البشر إلى مقام البنويَّة المجيد. وهكذا دفع الرب يسوع الأجرة التي تطلَّبها الناموس إذ أتى إلى العالم كأحد أفراد الجنس البشري وأحد أبناء الأمة اليهودية. وبما أنه هو اللَّه ذاته، فقد كان لموته قيمة لا متناهية، أي كافية لدفع أجرة خطايا أي عدد من الخطاة. وبما أنه إنسان بذاته، فقد استطاع أن يموت بديلًا عن الإنسان. ويقول “غوفت” (Goveit): “إن المسيح الذي هو بطبيعته ابن اللَّه، صار ابن الإنسان لكي يصبح ممكنًا لنا، ونحن بالطبيعة أبناء الإنسان، أن نصير أبناء اللَّه. فيا للمبادلة العجيبة!”. هذا ولم يستطع الناس أن يكونوا أبناء، إذ كانوا بعد عبيدًا. أما المسيح فقد خلَّصهم من عبودية الناموس لكي ينالوا التبني“(230).
لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ.. الفداء بالمسيح وحده: “الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ“(أف 1: 7).. “الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا لِكَيْ يَفْدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ وَيُطَهِّرَ لِنَفْسِهِ شَعْبًا خَاصًّا غَيُورًا فِي أَعْمَال حَسَنَةٍ“(تي 2: 14)، فقد عجز الناموس رغم ضخامة عدد الذبائح عن فداء الإنسان، فلم يجد الإنسان أي فداءً لنفسه غير دم المسيح المسفوك على خشبة الصليب: ” وَلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُول بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى الأَقْدَاسِ فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيًّا ” (عب 9: 12)، وقال لبطرس الرسول: “عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ مِنْ سِيرَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ الآبَاءِ بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ كَمَا مِنْ حَمَل بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ دَمِ الْمَسِيحِ” (1بط 1: 18، 19)، ورأى يوحنا الرائي الأربعة حيوانات والأربعة والعشرين قسيسًا: “وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً قَائِلِينَ مُسْتَحِق أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ السِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا للَّهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ“(رؤ 5: 9).
لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ.. هل معنى هذا أن المسيح جاء ليفتدي اليهود الذين هم تحت الناموس فقط؟.. بالطبع لا، لأنه مسيح العالم كله، قد جاء لفداء العالم كله، يهود وأمم، جاء ليفتدي الذين تحت الناموس سواء كان ناموس موسى، أو الناموس الطبيعي “لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ” (يو 3: 16)، وإذ أكمل السيد المسيح له المجد كل برّ تسلَّم من الناموس مفاتيح سجن الخطية المُغلَق وأطلق أسرى الرجاء للحرية، وكان ثمن الحرية غاليًا جدًا جدًا: “لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضًا الْمَسِيحَ قَدْ ذُبحَ لأَجْلِنَا“ (1كو 5: 7).. ” فَكَيْفَ نَنْجُو نَحْنُ إِنْ أَهْمَلْنَا خَلاَصًا هذَا مِقْدَارُهُ” (عب 2: 3).
لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ.. كان المجتمع الروماني يسمح بالتبني، والذي يريد أن يتبنى هو الذي لم ينجب ولدًا، وكان يحضر عملية التبني سبعة شهود، ويُعلن المتبني أن الولد الذي تبناه قد صار ابنه، فيصير هذا الابن مخلوقًا جديدًا للعائلة (راجع مكرم مشرقي – ما وراء الكلمات. خلفيات العهد الجديد ص 176، 177).
ويقول “دياكون ميخائيل مكس اسكندر“: “والتبني كلمة قانونية رومانية، تعني “أخذ مكانة الابن” (أصبح له حقًا شرعيًا في ميراث الذي يتبناه، فبالمسيح إذًا لم نعد عبيدًا تحت الناموس القديم، بل وهب لنا المسيح امتيازات الأبناء (الورثة البالغين)“(231).. ” كان التبني أمرًا خطيرًا، ومع ذلك فقد كان ممارسة شائعة لضمان عدم انقراض العائلة لعدم إنجاب أطفال ذكور. وعندما كان يُتبنَّى طفل كانت تتخذ ثلاث خطوات قانونية:
1 كان الابن المُتبنى يُتبنّى بصفة دائمة، فلا يمكن تبنيه يومًا وعدم توريثه غدًا. كان يصبح ابنًا للأب إلى الأبد. كان يضمن أنه ابن إلى الأبد.
2 كان الابن المُتبنى يحصل على الفور على كل حقوق الابن الشرعي في العائلة الجديدة.
3- كان الابن المُتبنى يفقد تمامًا كل الحقوق في عائلته القديمة. كان يُنظر إلى الابن المُتبنى كشخص جديد، جديد لدرجة أن الديون والالتزامات القديمة المرتبطة بعائلته السابقة كانت تُلغى وتُبطل كما لو لم تكن موجودة“(232).
لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ.. لماذا أرسل اللَّه ابنه إلى العالم؟.. لكي يفتدي البشرية، وما الهدف من فداء البشرية؟.. أن ينال الإنسان البنوة للَّه. إذًا الهدف من خلقتنا ومن فدائنا أن نصير أبناء اللَّه، بل أن شعب اللَّه في العهد القديم كان موضع رعاية اللَّه كأبناء له، وقال الرب: “رَبَّيْتُ بَنِينَ وَنَشَّأْتُهُمْ“ (إش 1: 2)، وسبق وقال الرب لموسى أن يقل لفرعون: ” أَطْلِقِ ابْنِي الْبِكْرَ“ (خر 4: 23)، وقال بولس الرسول عن اليهود: ” الَّذِينَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ وَلَهُمُ التَّبَنِّي وَالْمَجْدُ وَالْعُهُودُ وَالاشْتِرَاعُ وَالْعِبَادَةُ وَالْمَوَاعِيدُ” (رو 9: 4)، ولكنهم كانوا أبناء قاصرين، وبالفداء نلنا التبني في المسيح يسوع، وتكتمل صورة التبني في ملكوت السموات: “نَحْنُ الَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ الرُّوحِ نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا مُتَوَقِّعِينَ التَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا“ (رو 8: 23).
ويقول “دكتور وليم آدي“: “والتبني من ملحقات التبرّير من الخطيئة ومن دينونة الناموس ويؤهل الإنسان لدخول البيت الذي اللَّه الآب أبوه والمسيح بكره بين إخوة كثيرين. وفوائد التبني تفوق كثيرًا ما حصل عليه الإنسان بخلقه في حال البر، لأنه بالتبني يُخلَق جديدًا على صورة المسيح وينال الروح القدس“(233).
لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ.. وما أعظم هذه العطية في هذه الحياة وفي حياة الدهر الآتي: “يقول الكتاب المقدَّس عدة أشياء عن تبني المؤمن كابن اللَّه:
1- تبني المؤمن يؤسّس علاقة جديدة مع اللَّه إلى الأبد، أنه في أمان إلى الأبد كابن اللَّه.. (غل 3: 26، 4: 4، 5).
2- تبنّي المؤمن يؤسَّس علاقة جديدة مع اللَّه كأب. للمؤمن كل حقوق وامتيازات الابن الحقيقي للَّه (رو 8: 16 – 17، 1يو 3: 1 – 2).
3 تبنّي المؤمن يعطيه علاقة خاصة جدًا مع أبناء اللَّه الآخَرين، علاقة عائلية مرتبطة مع الآخرين في إتحاد روحي لا نظير له (أف 2: 11 – 18، 2: 19 – 22، 3: 6، 4: 4 – 6، 4: 17 – 19.. ).
4- تبنّي المؤمن يجعله شخصًا جديدًا. لقد أُنتزع المؤمن من تحت سلطان وقوة العالم وخطيئته. يُعين المؤمن كابن في عائلة وسلطان اللَّه. إن الحياة القديمة بكل ديونها والتزاماتها تُلغى وتُمحى (2كو 5: 17، غل 3: 23 – 27، 2بط 1: 4..).
5- تبنّي المؤمن يتحقق تمامًا في المستقبل عند عودة يسوع المسيح “لأَنَّ انْتِظَارَ الْخَلِيقَةِ يَتَوَقَّعُ اسْتِعْلاَنَ أَبْنَاءِ اللَّهِ” (رو 8: 19)، (أف 1: 14، 1تي 4: 14-17، 1يو 3: 2).
6- تبني المؤمن وفرحه سوف يُشارك به من قِبل كل الخليقة على مستوى كوني “لأَنَّ الْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضًا سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللَّهِ” (رو 8: 21) حيث ستكون هناك سموات جديدة وأرض جديدة (2بط 3: 12 – 14، رؤ 21: 1 – 7)“(234).
لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ.. لبس ابن اللَّه جسد إنسان متحدًا بطبيعتنا فدعيَ ابن الإنسان، وذلك لننال التبني ونُدعى أبناء اللَّه بالإيمان به، كقول يوحنا الحبيب: “وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ“ (يو 1: 12)، وقال يوحنا المعمدان: “الَّذِي يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ“ (يو 3: 36).. لقد فشل الإنسان أن يصير مثل اللَّه، فصار اللَّه إنسانًا مثلنا لكيما يرفعنا إليه، وبدونه لا يستطيع أي إنسان مهما كان يدَّعى أنه ابن اللَّه، ولكن كل الذين في المسيح صاروا أبناء اللَّه، بل هم معيّنين للبنوة قبل أن يُولدوا، وهذه هي مشيئة الآب ومسرته كقول بولس الرسول أن الآب اختارنا في الابن: ” كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ. إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ“ (أف 1: 4، 5)، فالذين لم يكن لهم الميراث من قبل، عندما صارت لهم البنوة صار لهم الحق في الميراث أيضًا.
“ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ أَرْسَلَ اللَّهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخًا يَا أَبَا الآبُ. إِذًا لَسْتَ بَعْدُ عَبْدًا بَلِ ابْنًا وَإِنْ كُنْتَ ابْنًا فَوَارِثٌ ِللَّهِ بِالْمَسِيحِ“ (غل 4: 6، 7).
ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ.. في هاتين الآيتين يَرُدْ بولس الرسول على سؤال ضمني: ما هو وضعنا بعد الفداء؟.. بالفداء صرنا أبناء اللَّه، وبما أننا أبناء ولسنا عبيد، فلنا الحق في الميراث السمائي.. لقد صرنا أبناء اللَّه بالإيمان بالمسيح يسوع والمعمودية بِاسمه، ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: “لولا نعمة البنوة لما تجاسرت أن أقول: يا أبانا الآب، وما دامت النعمة قد حرَّرت العبيد وأنضجت الأطفال وصيرتنا أبناء، أفلا تكون جهالة أن نرجع من هذه النعمة الغنية إلى التزامات الناموس؟!”(235).
وجاء في “الموسوعة الكنسية“: “بنوتك للَّه تفتح لك آفاقًا واسعة في العلاقة معه، فتعطيك طمأنينة وسعيًا للتشبُّه به وميلًا للوجود معه، فتختبره ليس فقط في الصلوات والقراءات والإتحاد في سر الأفخارستيا بل أيضًا تعاينه وتشعر به معك في كل خطواتك حتى تنعم بالوجود الدائم معه في السموات“(236).
أَرْسَلَ اللَّهُ رُوحَ ابْنِهِ.. في هذه العبارة نجد التثليث واضحًا، فقوله “اللَّهُ“ أي أقنوم الآب، وقوله “رُوحَ ابْنِهِ“ أي أقنوم الروح القدس، وقوله “ابْنِهِ“ أي أقنوم الابن، وفعل “أَرْسَلَ“ المستخدم هنا في الأصل اليوناني هو نفس الفعل الذي استخدمه بولس الرسول سابقًا عندما قال: “أَرْسَلَ اللَّهُ ابْنِهِ“ (غل 4: 4) فواضح أن الروح القدس مثله مثل الابن كائن قبل حلوله على المؤمنين، فهو أزلي بأزلية الآب والابن، وله جميع الصفات والكمالات الإلهيَّة التي للآب والابن، باستثناء الصفات الأقنومية، فالصفة الأقنومية التي ينفرد بها الآب أنه والد للابن وباثق للروح القدس، والصفة الأقنومية التي ينفرد بها الابن أنه مولود من الآب، والصفة الأقنومية التي ينفرد بها الروح القدس أنه منبثق من الآب.
وقال البعض بما أن الروح القدس هو “روح الآب” (مت 10: 20) ودُعيَ هكذا لأنه منبثق من الآب، وبما أنه دُعيَ هنا “روح الابن“ فهو لا بد أن يكون منبثق من الابن، وهذا اجتهاد غير صحيح، لأن الكتاب لم يقل هذا، فعندما تكلَّم عن الانبثاق قال بصراحة تامة: “وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ“ (يو 15: 26)، فذكر السيد المسيح انبثاق الروح القدس من الآب بصورة واضحة وقاطعة وحاسمة، بينما نسب لنفسه الإرسال فقال: “الذي سأرسله أنا“، فالابن أرسل الروح القدس المنبثق من الآب روح الحق المعزي، ولم يرد في الكتاب أي إشارة إلى أن الروح القدس منبثق من الابن، إنما هذه بدعة اعتقد بها الأخوة الكاثوليك بسبب الخلط بين الإرسال والانبثاق (راجع كتابنا – يا أخوتنا الكاثوليك متى يكون اللقاء؟ ج 2 أضواء على آراء).
أَرْسَلَ اللَّهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخًا يَا أَبَا الآبُ.. نتيجة التبني أرسل اللَّه الروح القدس ليسكن فينا، فنحن كمؤمنين صرنا مسكنًا للروح القدس: “أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللَّهِ وَرُوحُ اللَّهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ“ (1كو 3: 16)، والأمر العجيب أن هناك من يدَّعون أنهم مؤمنين ويطلبون معمودية الروح القدس وهم لا يدرون أننا صرنا مسكنًا للروح القدس، والقديس بولس يقول لمثل هؤلاء: “إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ رُوحُ الْمَسِيحِ فَذلِكَ لَيْسَ لَهُ“ (رو 8: 9)، والروح القدس ضد روح العبودية، ولذلك قال بولس الرسول: “إِذْ لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ الْعُبُودِيَّةِ أَيْضًا لِلْخَوْفِ بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ التَّبَنِّي الَّذِي بِهِ نَصْرُخُ يَا أَبَا الآبُ“ (رو 8: 15)، فروح اللَّه الساكن فينا يبدد كل خوف من اللَّه ما دمنا نثق في قيادته لنا، وإن كان أي أب جسدي يشعر بالحزن العميق عندما يشعر أن أولاده يخافون منه ولا يأنسون إليه، وكأنهم يتّقون غضبه، فكم يكون حزن الآب السماوي عندما يرانا متمسكين بروح العبودية بعيدين عن روح التبني؟!.. وبالطبع ليس معنى هذا أن تقل هيبة اللَّه في أعيننا، ولكن المقصود أن علاقتنا معه تتحوَّل إلى علاقة حب عوضًا عن علاقة الخوف، علاقة البنوة عوضًا عن علاقة العبودية، والحب يطرح الخوف خارجًا.
أَرْسَلَ اللَّهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخًا يَا أَبَا الآبُ.. الروح القدس الساكن في قلوبنا يئن ويصرخ ويشفع فينا: ” كَذلِكَ الرُّوحُ أَيْضًا يُعِينُ ضَعَفَاتِنَا. لأَنَّنَا لَسْنَا نَعْلَمُ مَا نُصَلِّي لأَجْلِهِ كَمَا يَنْبَغِي. وَلكِنَّ الرُّوحَ نَفْسَهُ يَشْفَعُ فِينَا بِأَنَّاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا” (رو 8: 26) فالروح القدس يشفع فينا ويصرخ في قلوبنا يعلّمنا ويرشدنا “وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ رُوحُ الْحَقِّ فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ” (يو 16: 13)، وأيضًا يعرّفنا كيف تكون الصلاة وكيف يكون الصراخ للَّه، صراخ البنين وليس صراخ العبيد، كما صرخ الابن الحبيب في البستان: “يَا أَبَتَاهُ إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ وَلكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ” (مت 26: 39).. “إِذْ قَدَّمَ بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ طَلِبَاتٍ وَتَضَرُّعَاتٍ لِلْقَادِرِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْمَوْتِ وَسُمِعَ لَهُ مِنْ أَجْلِ تَقْوَاهُ“ (عب 5: 7).
صَارِخًا يَا أَبَا الآبُ.. “أَبَا“ لفظة سريانية آرامية تعني “بابا”، وهي من الكلمات الأولى التي يتعلمها الطفل وينادي أبيه بها، وما زالت تُستخدم للآن، وكلمة “الآب“ باللغة اليونانية، فتعبير “يَا أَبَا الآبُ“ جمع كلمتين بمعنى واحد، الأولى آرامية (يَا أَبَا) والأخرى يونانية (الآب) والاثنان بمعنى الآب، وفي البستان استخدم الرب يسوع نفس التعبير: “وَقَالَ يَاأَبَا الآبُ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لَكَ فَأَجِزْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِيَكُنْ لاَ مَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ“ (مر 14: 36)، فتعبير “يَا أَبَا الآبُ“ الذي استخدمه الابن الوحيد الجنس يعلّمنا إياه الروح القدس، وقد استخدم بولس الرسول هذا التعبير مرتين مرة في الرسالة إلى رومية: “إِذْ لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ الْعُبُودِيَّةِ أَيْضًا لِلْخَوْفِ بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ التَّبَنِّي الَّذِي بِهِ نَصْرُخُ يَا أَبَا الآبُ“ (رو 8: 15) والمرة الأخرى في هذه الرسالة.
ويقول “الأب متى المسكين“: “يَا أَبَا الآبُ: وقد استخدم المسيح نفسه نداء “يَا أَبَا الآبُ” (مر 14: 36)، مُظهرًا أنه نداء إلى الأبوة الحميمة، فكونه قد أعطى لنا حق النطق بذات النداء، فهذا يُظهر أي أولاد للَّه قد صرنا نحن:
أما الفارق بين الابن الوحيد والابن المتبني هو أن الابن الوحيد يقول:
* “أَنَا أَعْرِفُهُ لأَنِّي مِنْهُ وَهُوَ أَرْسَلَنِي” (يو 7: 29).
* “أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ” (يو 14: 10).
* “مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَرَجْتُ” (يو 16: 27).
والابن الوحيد يقول “أبي” أما نحن فنقول: “أبانا”:
* “لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي” (يو 20: 17)“(237).
ويقول “الخوري بولس الفغالي“: “إن اختيار الألفاظ له معناه حين كتب بولس إلى أهل رومية الذين لا يعرفهم، احتفظ بلفظة “أبا” (كما مع الغلاطيين)، فهذا يعني أن هذه اللفظة تعود إلى تذكُّر إنجيلي محدَّد استعمله يسوع ليعبّر عن ثقته التامة بالآب وعن كامل تجنُّده لقضية اللَّه نقرأ في (مر 14: 36) بلسان يسوع: “يا أَبَا الآبُ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لَكَ. فَأَجِزْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِيَكُنْ لاَ مَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ“.
هذا التوافق بين غلاطية ورومية في هذه النقطة بالذات، يدل على أن بولس اهتم اهتمامًا خاصًا بأقوال يسوع. كما يبين لنا الطبيعة الحقيقية للصلاة المسيحية. إنها تدخل في صلاة يسوع الخاصة ويحرّكها الروح القدس”(238).
صَارِخًا يَا أَبَا الآبُ.. في العهد القديم كان الروح القدس يحل على الملوك والأنبياء والكهنة حلولًا مؤقتًا، أما نحن في العهد الجديد فقد صرنا مسكنًا للروح القدس: “لأَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا“ (رو 5: 5) فأصغر مؤمن يستطيع أن يصرخ: ” يَا أَبَا الآبُ“، وهذا دليل قوي على أننا تخلّصنا من عبودية الناموس، أما الذين يريدون أن يعودوا إلى الالتزام بالختان ومطالب الناموس فكأنهم ينكرون سكنى الروح القدس فيهم.
ويقول “ماكدونل“: “أرسل اللَّه الروح القدس في يوم الخمسين ليسكن فيهم. وقد أوجد الروح نوعًا من الوعي لحقيقة التبني أدى بالنتيجة لأن يخاطب القديسون اللَّه بوصفه الآب. والعبارة “أَبَا، الآب” تعبير دلاَّل دارج، وهو مزيج من كلمتين أرامية ويونانية بالمعنى نفسه “أب” لم يكن ممكنًا لأي عبد أن يخاطب رب العائلة بهذا الشكل، فهذه الطريقة في المخاطبة كانت مقتصرة على أفراد العائلة وكانت تعبر عن المحبة والثقة.. ليس المؤمن بعد عبدًا لأنه لم يعد تحت الناموس، فهو الآن ابن اللَّه“(239).
إِذًا لَسْتَ بَعْدُ عَبْدًا بَلِ ابْنًا وَإِنْ كُنْتَ ابْنًا فَوَارِثٌ ِللَّهِ بِالْمَسِيحِ.. قول بولس الرسول “إِذًا“ يعني أن ما سيأتي بعدها يعتبر نتيجة منطقية لما سبق، بما أنكم أبناء، إذًا لستم بعد عبيدًا، فهذه هي الخلاصة والنتيجة أنه بالفداء حصلنا على التبني، وبموجب التبني صرنا ورثة، ورثة بالمسيح، أي بإيماننا واتحادنا به، فهو الابن الوارث بالطبيعة، ونحن فيه وبه نرث ملكوت السموات تفضُّلًا منه، وبعد أن كان بولس الرسول يستخدم صيغة الجمع “بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ“ نجده في هذه الآية يتحوَّل إلى صيغة المفرد، فالعلاقة الجماعية مع اللَّه لا تغني عن العلاقة الشخصية، وقول بولس الرسول: “لَسْتَ“ يجذب الأنظار ويؤكد على العلاقة الشخصية مع اللَّه، فبولس الرسول يحدّث كل واحد بِاسمه قائلًا له: “لَسْتَ بَعْدُ عَبْدًا بَلِ ابْنًا” كقول داود النبي: “الرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ.. يُرْبِضُنِي.. يُورِدُنِي.. يَرُدُّ نَفْسِي يَهْدِينِي.. لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي.. يُعَزِّيَانِنِي“ (مز 23)، فلا غنى للمؤمن عن علاقته الشخصية مع اللَّه، فالمسيح للكل وهو أيضًا لي بصفة خاصة: “الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي” (غل 2: 20).
ويقول “الأب متى المسكين“: “إن ق. بولس انتقل في هذه الآية من استخدام الجمع في السابق إلى استخدام المفرد مرة واحدة، ومن هنا واضح أنه أراد بهدوء إقناع المخاطب أن يدخل إلى بيت الآب ليأخذ وثيقة الميراث كابن. إنها روعة البيان.. ويُلاحظ القارئ أيضًا أنه يخاطب اليهود المسيحيين الذين تداعبهم أفكار الإخوة الكذبة الذين يودون إرجاعهم إلى اليهودية، كما تنطق دعوة البنوة للأمميين الذين تنصَّروا ودخلوا عهد البنوة مع اللَّه بعد أن كانوا عبيدًا للخطية والشيطان“(240).
إِذًا لَسْتَ بَعْدُ عَبْدًا بَلِ ابْنًا.. ابنا للَّه ليس من نفس طبيعته وجوهره، إنما ابنًا بالتبني، وفي ظل القانون الروماني والثقافة الرومانية كان الابن بالتبني له كافة حقوق الابن الطبيعي، فهو ليس ابنًا من الدرجة الثانية بل ابنًا بكل ما تحمل الكلمة من معاني، ونحن إذ صرنا أبناء للَّه بالتبني صار لنا كافة حقوق البنوة، وشتان بين الابن والعبد:
1- الابن له طبيعة الأب الجسدي، ويحمل نفس الجينات الوراثية التي يحملها الأب، وقد يشبه أبيه كثيرًا في الشكل والسلوك، أما العبد فليس هكذا.
2 الابن يطيع أبيه حبًا، أما العبد فأنه يطيع سيده خوفًا من العقاب.
3- الابن من حقه أن يتمتع بالميراث وغنى أبيه، أما العبد فلا يملك شيئًا ولا يرث شيئًا من ممتلكات سيده.
4- الابن يبقى في بيت الأب إلى الأبد أما العبد فقد يبيعه سيده في أي وقت يشأ، وقد يطرده من خدمته.
وَإِنْ كُنْتَ ابْنًا فَوَارِثٌ ِللَّهِ بِالْمَسِيحِ.. ليس المقصود من قول بولس الرسول “وَإِنْ كُنْتَ“ الشك أو الاحتمال لكن المقصود: ما دمتَ ابنًا فلك حق الميراث، وقد أكد بولس الرسول هذه الحقيقة في بداية الآية عندما قال: “إِذًا لَسْتَ بَعْدُ عَبْدًا بَلِ ابْنًا“ وهذه الحقيقة ذكرها بولس الرسول من قبل عندما قال: “فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذًا نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ وَحَسَبَ الْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ“ (غل 3: 29)، فالسيد المسيح هو نسل إبراهيم الذي له الميراث، كل الميراث، وقال له الآب: “أَنْتَ ابْنِي أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ. اسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ الأُمَمَ مِيرَاثًا لَكَ وَأَقَاصِيَ الأَرْضِ مُلْكًا لَكَ“ (مز 2: 7، 8)، ونحن باتحادنا بالمسيح نرث معه وبه، لا نرث أرض كنعان بل نرث أورشليم السمائية، ولنا ثقة في هذا الميراث ولذلك ينبغي أن نشكر اللَّه كل حين: “شَاكِرِينَ الآبَ الَّذِي أَهَّلَنَا لِشَرِكَةِ مِيرَاثِ الْقِدِّيسِينَ فِي النُّورِ“ (كو 1: 12).. ” اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضًا يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اللَّهِ. فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَدًا فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضًا وَرَثَةُ اللَّهِ وَوَارِثُونَ مَعَ الْمَسِيحِ” (رو 8: 16، 17)، ومن الملاحظ أن بولس الرسول بعد أن تكلَّم عن الوارث القاصر (غل 4: 1) يتحدَّث هنا عن الوارث الناضج الذي له الإيمان المستقيم بالرب يسوع، وقال بطرس الرسول: “لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ مَحْفُوظٌ فِي السَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ (1بط 1: 4)، وقال القديس يعقوب: “أَمَا اخْتَارَ اللَّهُ فُقَرَاءَ هذَا الْعَالَمِ أَغْنِيَاءَ فِي الإِيمَانِ وَوَرَثَةَ الْمَلَكُوتِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ” (يع 2: 5).
ثانيًا: الأركان الضعيفة (غل 4: 8-11):
” لكِنْ حِينَئِذٍ إِذْ كُنْتُمْ لاَ تَعْرِفُونَ اللَّهَ اسْتُعْبِدْتُمْ لِلَّذِينَ لَيْسُوا بِالطَّبِيعَةِ آلِهَةً. وَأَمَّا الآنَ إِذْ عَرَفْتُمُ اللَّهَ بَلْ بِالْحَرِيِّ عُرِفْتُمْ مِنَ اللَّهِ فَكَيْفَ تَرْجِعُونَ أَيْضًا إِلَى الأَرْكَانِ الضَّعِيفَةِ الْفَقِيرَةِ الَّتِي تُرِيدُونَ أَنْ تُسْتَعْبَدُوا لَهَا مِنْ جَدِيدٍ. أَتَحْفَظُونَ أَيَّامًا وَشُهُورًا وَأَوْقَاتًا وَسِنِينَ. أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَكُونَ قَدْ تَعِبْتُ فِيكُمْ عَبَثًا” (غل 4: 8 – 11).
هذه الفقرة تعتبر تزييلًا لما سبق، فما زال بولس الرسول يدور حول فكرة أن الناموس كان يمثل مرحلة مؤقتة في حياة البشرية، وكأن الإنسان خلاله يمثل طفلًا صغيرًا عاجزًا يخضع لأوصياء ووكلاء. أما الحياة الكاملة الناضجة فهي المؤسسة على الإيمان بالمسيح. ويقول “الخوري بولس الفغالي“: ” كُتب هذا المقطع (غل 4: 8-20) بلهجة الحنان، فدلَّ على اهتمامات بولس الأمومية، لقد تحيرت فيكم، إن هذا المقطع يبدو مناقضًا للتوبيخات القاسية التي قرأناها في (غل 3: 1 – 5)، وللبراهين التي لاحظناها في (غل 3: 6-4: 7). ذكَّر بولس الغلاطيين بأيام اندفاعهم نحوه: كيف استقبلوه، رغم مرضه، وكأنه ملاك اللَّه. لقد شوَّه المتهوّدون مناخ الثقة بين المؤمنين ورسولهم، وها هو بولس يحاول أن يعيده في جو من المحبة” (241).
لكِنْ حِينَئِذٍ إِذْ كُنْتُمْ لاَ تَعْرِفُونَ اللَّهَ.. استخدم بولس الرسول ” لكِنْ” بكثرة للدلالة على الاستدراك أحيانًا، أو للتعبير عن الانتقال من وجهة نظر إلى وجهة نظر أخرى كما هو الحال هنا، وهو يخاطب الغلاطيين لأنهم عاشوا كأمم بعيدين عن رعوية إسرائيل مثل أهل أفسس الذي قال لهم: “أَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ الْمَوْعِدِ لاَ رَجَاءَ لَكُمْ وَبِلاَ إِلهٍ فِي الْعَالَمِ” (أف 2: 12)، وإنسان بلا مسيح فهو بلا شك بلا حياة: ” قَالَ لَهُ يَسُوعُ أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ” (يو 14: 6)، فبدون المسيح يفقد الإنسان الطريق التي يسلك فيها، وتمتلئ حياته بالزيف ويصبح مثل حي ميت، إذ هو بعيد عن مصدر الحياة، يعيش بحسب أهوائه وشهواته، ولذلك ينذر بولس الرسول أولاده حتى يعيشوا: “لاَ فِي هَوَى شَهْوَةٍ كَالأُمَمِ الَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ اللَّهَ”(1تس 4: 5).
ويقول “دكتور وليم آدي“: “إِذْ كُنْتُمْ لاَ تَعْرِفُونَ اللَّهَ.. أبان الرسول في رسالته إلى الرومانيين أن الوثنيين عرفوا اللَّه أصلًا ولكنهم لعدم استحسانهم أن يبقوا اللَّه في معرفتهم فسدوا وضلوا في سبيله. وكان يمكنهم أن يعرفوه من مصنوعاته ومع هذا جهلوا أزليته وقدرته وقداسته (رو 1: 21، 28)“(242).
إِذْ كُنْتُمْ لاَ تَعْرِفُونَ اللَّهَ.. وفي جهلكم غاب عنكم الحق أن المسيح ابن اللَّه الحي، واُستعبدتم للعبادات الشيطانية، ويقول “الأب متى المسكين“: “مَن لا يعرف اللَّه لا يعرف الحق، وهكذا تتزيف له كل الحقائق، ويكون هذا مدخلًا لتصديق الشيطان وأعماله وآلهته، ومع الحق تكون الحرية دائمًا من كل غش وخداع وسيطرة أباطيل العالم، وبدون معرفة الحق، أي اللَّه يدخل الإنسان في فخاخ الشيطان ويقع تحت عبوديته، بحيث يعبد شياطين عوض اللَّه ويقع أسيرًا لأفكار وعقائد وخزعبلات ويتعصَّب لها تعصبًا أعمى.
ولكي يقطع اللَّه على الشيطان أباطيله وكل أوهامه التي ضلَّل بها العالم. أرسل ابنه متجسدًا ليعلن حق اللَّه وحقيقة العبادة بالروح والحق، حاملًا كل كنوز الحكمة الإلهيَّة ومفتتحًا طريق الحق والحياة:
* “أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ” (يو 14: 6)..
* “الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ“ (كو 2: 3)..
والعجيب أن واسطة انفتاح نور اللَّه والحق على الإنسان لا تكلف الإنسان أكثر من أن يؤمن بأن اللَّه الذي أرسله الآب للعالم لا ليدين به العالم بل ليخلص به العالم من الشيطان وظلمة المعرفة التي يبثها في قلوب من وقعوا في شباكه. وهكذا يتضح أمامنا ما وراء هذه الآية التي نحن بصددها، إذ يقصد من “كُنْتُمْ لاَ تَعْرِفُونَ اللَّهَ” هو غياب الحق ونور المعرفة التي جاء بها المسيح، ومن جراء غياب المسيح دخلت شياطين العبادة لتضليل العالم وإخضاعه تحت عبودية الجهالة، حتى عبد الإنسان الأصنام: “هذِهِ آلِهَتُكَ يَا إِسْرَائِيلُ” (خر 32: 4)!“(243).
اسْتُعْبِدْتُمْ لِلَّذِينَ لَيْسُوا بِالطَّبِيعَةِ آلِهَةً.. صرتم عبيدًا للقوى الشيطانية ظنًا منكم أنها تسيطر على مجريات الأمور، ومن عَبَدَ هذه القوى صار عبدًا مُسترقًا لها، وشتان بين هذه العبودية وبين حرية مجد أولاد اللَّه، وقد اختبر الغلاطيون هذا، فبعد أن عاشوا حياتهم عبيدًا لهذه الأمور صاروا أحرارًا، ونقطة التحوُّل الفاصلة هي إيمانهم ببشارة الإنجيل والاستنارة بتعاليمه. وبولس الرسول في هذه العبارة لا يخاطب المؤمنين من أصل يهودي، إنما يخاطب الأمم الذين آمنوا بالمسيح، ويقول “القمص تادرس يعقوب“: “يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن البشرية قبلت الآلهة الباطلة كآباء لها عوض الآب { 8 }: “عصى البشر اللَّه وعبدوا من هم بالطبيعة ليسوا آلهة (انظر غل 4: 8) ومع كونهم أبناء اللَّه ارتبطوا بمن يُدعى شريرًا باطلًا“(244).. وإن كانت العبادات الشيطانية الوثنية ارتبطت بالأصنام والأوثان والكواكب والمخلوقات، فإن الشيطان دائمًا يطوّر من أساليبه بحسب مقتضيات العصر، فصار الإنسان في العصر الحديث يعبد الذات، والمال والثروة، والشهوة والعلم الكاذب، ووسائل الميديا المختلفة.. إلخ.
اسْتُعْبِدْتُمْ لِلَّذِينَ لَيْسُوا بِالطَّبِيعَةِ آلِهَةً.. عبدتم الأوثان والأصنام البكم والكواكب والنجوم ظنًا منكم أنها آلهة، بل صرتم عبيدًا لآلهة لا وجود لها إلاَّ في أذهانكم وخيالاتكم، وعبدتم المخلوق دون الخالق، وقال بولس الرسول للرومانيين الذين شابهوهم في هذه العبادة، الذين: “أَبْدَلُوا مَجْدَ اللَّهِ الَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَفْنَى وَالطُّيُورِ وَالدَّوَابِّ وَالزَّحَّافَاتِ.. الَّذِينَ اسْتَبْدَلُوا حَقَّ اللَّهِ بِالْكَذِبِ وَاتَّقَوْا وَعَبَدُوا الْمَخْلُوقَ دُونَ الْخَالِقِ” (رو 1: 23، 25).. إنها آلهة هي من صنع أيديهم: “طَبَعَ الحَدِيدَ قَدُومًا وَعَمِلَ فِي الْفَحْمِ وَبِالْمَطَارِقِ يُصَوِّرُهُ فَيَصْنَعُهُ بِذِرَاعِ قُوَّتِهِ.. نَجَّرَ خَشَبًا مَدَّ الْخَيْطَ. بِالْمِخْرَزِ يُعَلِّمُهُ، يَصْنَعُهُ بِالأَزَامِيلِ وَبِالدَّوَّارَةِ يَرْسُمُهُ. فَيَصْنَعُهُ كَشَبَهِ رَجُل كَجَمَالِ إِنْسَانٍ لِيَسْكُنَ فِي الْبَيْتِ. قَطَعَ لِنَفْسِهِ أَرْزًا وَأَخَذَ سِنْدِيَانًا وَبَلُّوطًا وَاخْتَارَ لِنَفْسِهِ مِنْ أَشْجَارِ الْوَعْرِ. غَرَسَ سَنُوبَرًا وَالْمَطَرُ يُنْمِيهِ. فَيَصِيرُ لِلنَّاسِ لِلإِيقَادِ. وَيَأْخُذُ مِنْهُ وَيَتَدَفَّأُ. يُشْعِلُ أَيْضًا وَيَخْبِزُ خُبْزًا ثُمَّ يَصْنَعُ إِلهًا فَيَسْجُدُ. قَدْ صَنَعَهُ صَنَمًا وَخَرَّ لَهُ.. يَتَدَفَّأُ أَيْضًا وَيَقُولُ بَخْ قَدْ تَدَفَّأْتُ رَأَيْتُ نَارًا. وَبَقِيَّتُهُ قَدْ صَنَعَهَا إِلهًا صَنَمًا لِنَفْسِهِ. يَخُرُّ لَهُ وَيَسْجُدُ وَيُصَلِّي إِلَيْهِ وَيَقُولُ نَجِّنِي لأَنَّكَ أَنْتَ إِلهِي“ (إش 44: 12-27) (راجع أيضًا إش 4: 18-20).. “فَشَدَّدَ النَّجَّارُ الصَّائِغَ. الصَّاقِلُ بِالْمِطْرَقَةِ الضَّارِبَ عَلَى السَّنْدَانِ قَائِلًا عَنِ الإِلْحَامِ هُوَ جَيِّدٌ. فَمَكَّنَهُ بِمَسَامِيرَ حَتَّى لاَ يَتَقَلْقَلَ“ (إش 41: 7).. ووصف إرميا النبي عبادات الأمم قائلًا: “لأَنَّ فَرَائِضَ الأُمَمِ بَاطِلَةٌ. لأَنَّهَا شَجَرَةٌ يَقْطَعُونَهَا مِنَ الْوَعْرِ. صَنْعَةُ يَدَيْ نَجَّارٍ بِالْقَدُومِ. بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ يُزَيِّنُونَهَا وَبِالْمَسَامِيرِ وَالْمَطَارِقِ يُشَدِّدُونَهَا فَلاَ تَتَحَرَّكُ” (إر 10: 3، 4)، وقال بولس الرسول لأهل أثينا: “فَإِذْ نَحْنُ ذُرِّيَّةُ اللَّهِ لاَ يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ أَنَّ اللاَّهُوتَ شَبِيهٌ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَجَرِ نَقْشِ صِنَاعَةِ وَاخْتِرَاعِ إِنْسَانٍ“ (أع 17: 29).. أنها أصنام بكماء لا تتكلّم ولا تسمع ولا تحس: “أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ أُمَمًا مُنْقَادِينَ إِلَى الأَوْثَانِ الْبُكْمِ كَمَا كُنْتُمْ تُسَاقُونَ” (1كو 12: 2).. ” كَيْفَ رَجَعْتُمْ إِلَى اللَّهِ مِنَ الأَوْثَانِ لِتَعْبُدُوا اللَّهَ الْحَيَّ الْحَقِيقِيَّ (1تس 1: 9).. هكذا كان حال هذه الشعوب التي كرز بها بولس الرسول وانتشلها من أعماق الجهالة والرذيلة إلى حرية مجد أولاد اللَّه.
وَأَمَّا الآنَ إِذْ عَرَفْتُمُ اللَّهَ.. في الآية السابقة قال بولس الرسول “حِينَئِذٍ” معبرًا عن حال الغلاطيين قبل معرفة اللَّه، وفي هذه الآية يقول “وَأَمَّا الآنَ“ معبرًا عن حالهم بعد إيمانهم ببشارة الإنجيل ومعرفتهم للَّه، وشتان بين هذا الحال وذاك الحال، وما أعظم الفارق بين الجهل باللَّه وبين معرفته، بين الظلمة والنور، بين الحماقة والحكمة، بين حياة النجاسة وحياة القداسة، بين الكبرياء والتواضع، بين مملكة إبليس ومملكة اللَّه.. “حِينَئِذٍ” أي فيما مضى حيث كان إبليس يعمل في هؤلاء الأمم: ” الَّذِينَ فِيهِمْ إِلهُ هذَا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ لِئَلاَّ تُضِيءَ لَهُمْ إِنَارَةُ إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللَّهِ” (2كو 4: 4). بينما “الآنَ” فإن “اللَّهَ الَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللَّهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ“ (2كو 4: 6).
إِذْ عَرَفْتُمُ اللَّهَ بَلْ بِالْحَرِيِّ عُرِفْتُمْ مِنَ اللَّهِ.. يعجز الإنسان بجهده البشري أن يعرف اللَّه المعرفة الحقيقية، ولكن اللَّه في ملء نعمته يعلن لنا ذاته ويعرّفنا بنفسه، فاللَّه هو صاحب المبادأة وهو الذي يُعرّف الإنسان بذاته، وهو الوحيد القادر أن ينقذه من سلطان الظلمة وينقله إلى ملكوت ابن محبته، ويهبه الميراث السمائي، ولهذا لا يجب أن نكفَّ عن شكرنا له: “شَاكِرِينَ الآبَ الَّذِي أَهَّلَنَا لِشَرِكَةِ مِيرَاثِ الْقِدِّيسِينَ فِي النُّورِ. الَّذِي أَنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ابْنِ مَحَبَّتِهِ“ (كو 1: 12، 13)، وقبول اللَّه للأمم كان سرًّا أعلنه اللَّه لعبده بولس الذي كرَّس حياته وكل جهده من أجل إتمام قصد اللَّه تجاه الأمم، فجاب البحار والأنهار والوديان وسلك الطرق المسلوكة وغير المسلوكة من أجل نشر هذا السر العجيب، إذ كان اللَّه في انتظار العائدين إليه من كل قبيلة ولسان ولون وجنس، سواء يهودًا أو أممًا.
يقول “الخوري بولس الفغالي“: “كنتم قديمًا تعرفون اللَّه.. هم يعرفون اللَّه لأنهم يعرفون يسوع المسيح بالكرازة، ولكن حين يعرف الإنسان اللَّه في يسوع المسيح، يجد نفسه موضوع مبادرة إلهيَّة. أجل لقد انقلبت الأدوار، فليس الإنسان هو الذي يطلب اللَّه أولًا، بل هو اللَّه يطلبه، يجده، يعرفه (1كو 8: 2 – 3، 13: 12). نحن لسنا فقط أمام معرفة عقلية، بل أمام معرفة حميمة وشخصيَّة (راجع فعل “عرف” في العهد القديم). وبعد أن عرف الغلاطيون اللَّه، فكيف يعودون إلى “العناصر” الحقيرة (مستويخيا)”(245).
إِذْ عَرَفْتُمُ اللَّهَ بَلْ بِالْحَرِيِّ عُرِفْتُمْ مِنَ اللَّهِ.. بعد أن مدح بولس أهل غلاطية قائلًا لهم: “إِذْ عَرَفْتُمُ اللَّهَ“ خاف عليهم من التفاخُر والكبرياء، ولذلك سريعًا ما استدرك الأمر قائلًا: “بَلْ بِالْحَرِيِّ عُرِفْتُمْ مِنَ اللَّهِ“ فلو لم يُعرّفهم اللَّه بنفسه أولًا ما كانوا استطاعوا أن يعرفوه، ولو لم يبحث اللَّه عن آدم بعد السقوط إذ افتقده وناداه ما كان التقى آدم به، ولولا نداءات النعمة القوية والمتكررة للخاطئ ما كان للخاطئ أن يتوب عن شروره وخطاياه، فالحقيقة أن اللَّه هو الذي يعرف الإنسان ويحبه أولًا، فيمنح الإنسان القدرة على معرفته وعلى محبته إياه.
والفرق شاسع بين “عَرَفْتُمُ اللَّهَ“ وبين “عُرِفْتُمْ مِنَ اللَّهِ“، فمثلًا قد تجد ملايين الناس يعرفون شخصًا مشهورًا مثل الأب البطريرك أو رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء، أي يعرفون عنه بعض المعلومات، ولكن هناك أعداد محدودة يعرفهم هذا الشخص المرموق ويعرف عنهم، وعندما يلتقي بهم يناديهم بأسمائهم، ويطمئن على أحوالهم، والتشبيه مع الفارق، لأن اللَّه يعرف كل الناس بلا استثناء ويعرف كل شيء عن كل إنسان، دواخله وخوارجه.
ويقول “القمص تادرس يعقوب“: “القول” عُرِفْتُمْ مِنَ اللَّهِ “هو وصف للحياة المسيحية، فإن معرفة اللَّه التي يتحدَّث عنها القديس بولس هنا تعني حبنا للَّه كاستجابة لمعرفتنا له، أي لحبه لنا (1كو 8: 2 – 3). نحن نعرف اللَّه أبًا لنا خلال إتحادنا مع الابن في استحقاقات دمه المخلص، وثبوتنا في هذا الاتحاد. نحن نُعرَف من اللَّه بكوننا أبناءه المبررين. ويقول القديس باسيليوس الكبير: { اللَّه يعرف الذين هم له. بمعنى يعرفهم خلال أعمالهم الصالحة (في المسيح). أنه يقبلهم في شركة عميقة معه}“(246).
وَأَمَّا الآنَ إِذْ عَرَفْتُمُ اللَّهَ بَلْ بِالْحَرِيِّ عُرِفْتُمْ مِنَ اللَّهِ.. الفعل اليوناني المستخدم هنا للتعبير عن المعرفة لا يعني المعرفة السطحية، بل العلاقة الوثيقة، وهو نفس الفعل المستخدم للتعبير عن العلاقات الحميمة بين الزوجين: ” وَعَرَفَ آدَمُ حَوَّاءَ امْرَأَتَهُ فَحَبِلَتْ” (تك 4: 1) (راجع الأفكار الرئيسية للعظات الكتابية ج 9 – الرسالة إلى غلاطية ص 59، والتفسير الحديث للكتاب المقدَّس)، فالقديس بولس يريد أن يقول لأولاده أنكم عرفتم اللَّه ليست معرفة المعلومات، بل إذ أحببتم اللَّه وآمنتم به حينئذٍ قد عرفتم اللَّه، واللَّه عرفكم، وهذا يشبه قوله لأهل كورنثوس: “إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُحِبُّ اللَّه، فَهذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَهُ“ (1كو 8: 3). وليس معنى هذا أن الذي لا يحب اللَّه أن اللَّه لا يعرفه، ولكن المقصود هنا المعرفة الاختبارية، فبينه وبين اللَّه مشاعر الحب والود والعشرة، وقد أرضى اللَّه بإيمانه القويم وتصرُّفه الحسن، فهو ليس مثل العذارى الجاهلات اللاتي سمعن صوت الحق الإلهي: “الْحَقَّ أَقُولُ لَكُنَّ إِنِّي مَا أَعْرِفُكُنَّ“ (مت 25: 12)، إنما مثل العذارى الحكيمات: “يَعْلَمُ الرَّبُّ الَّذِينَ هُمْ لَهُ” (2تي 2: 19)، ومعرفة اللَّه الاختبارية تنمو يومًا فيوم في إطراد مستمر: “الآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ الْمَعْرِفَةِ لكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ” (1كو 13: 12).
فَكَيْفَ تَرْجِعُونَ أَيْضًا إِلَى الأَرْكَانِ الضَّعِيفَةِ الْفَقِيرَةِ.. سبق الحديث عن الأركان الضعيفة، وهي الأركان البدائية في المعرفة مثل الحروف الأبجدية التي تمثل المعرفة الابتدائية للغة، فكل حرف بمفرده لا يعطي معنى، وأيضًا وضع الحرف في مكانه الخاطئ لا يعطي المعنى المقصود، فالأركان الضعيفة هي بمثابة الأف باء بالنسبة للجملة المفيدة، والرجوع للأركان الضعيفة الفقيرة أشبه بالكاتب الماهر الذي يشتهي العودة إلى الدرس الأول في تعلُّم القراءة! والمقصود بالأركان الضعيفة الفقيرة هنا الجهود البشرية المبنية على أعمال الناموس والخالية من النعمة الإلهيَّة والبركات الروحية والهبات السمائية وقد عجز الناموس تمامًا عن تبرير وخلاص الإنسان من قبضة الموت والخطية، وأن يهب للإنسان البنوة للَّه، وعطية الروح القدس: “لأَنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ نَامُوسٌ قَادِرٌ أَنْ يُحْيِيَ لَكَانَ بِالْحَقِيقَةِ الْبِرُّ بِالنَّامُوسِ“ (غل 3: 21).. “فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِبْطَالُ الْوَصِيَّةِ السَّابِقَةِ مِنْ أَجْلِ ضَعْفِهَا وَعَدَمِ نَفْعِهَا“(عب 7: 18)، وكلمة “فَقِيرَةِ“ في الأصل اليوناني تحمل معنى “الاستجداء” وكأنه يقول أركان الشحاذين.
فَكَيْفَ تَرْجِعُونَ أَيْضًا إِلَى الأَرْكَانِ الضَّعِيفَةِ الْفَقِيرَةِ.. سبق بولس الرسول وقال: “أَهكَذَا أَنْتُمْ أَغْبِيَاءُ أَبَعْدَ مَا ابْتَدَأْتُمْ بِالرُّوحِ تُكَمَّلُونَ الآنَ بِالْجَسَدِ“ (غل 3: 3)، كما قال لأهل كولوسي: “إِذًا إِنْ كُنْتُمْ قَدْ مُتُّمْ مَعَ الْمَسِيحِ عَنْ أَرْكَانِ الْعَالَمِ فَلِمَاذَا كَأَنَّكُمْ عَائِشُونَ فِي الْعَالَمِ تُفْرَضُ عَلَيْكُمْ فَرَائِضُ. لاَ تَمَسَّ وَلاَ تَذُقْ وَلاَ تَجُسَّ“ (كو 2: 20، 21) فهل من المنطقي أنه بعد أن عرفتم نور الشمس ترجعون لنور مصباح ضعيف في ظلال عبودية الناموس؟! وهل بعد أن تأكدتم أن اللَّه يعرفكم ترتدون على أعقابكم وتبحثون عن إنجيل آخَر؟! وهل بعد هذا الغنى الجزيل تشتهون العودة للأركان الضعيفة الفقيرة سواء كانت ناموسًا بالنسبة لليهود الذين آمنوا، أو عبادات آلهة باطلة بالنسبة للأمم الذين آمنوا؟!.. كثيرًا ما حذّر القديس بولس أولاده من المتهوّدين الذين يريدون أن يعودوا بهم إلى الختان وحفظ مطالب الناموس، وكثيرًا ما حذّر الأمم من الارتداد للعبادات القديمة الشريرة: “بَلْ إِنَّ مَا يَذْبَحُهُ الأُمَمُ فَإِنَّمَا يَذْبَحُونَهُ لِلشَّيَاطِينِ لاَ ِللَّهِ. فَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ شُرَكَاءَ الشَّيَاطِينِ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَشْرَبُوا كَأْسَ الرَّبِّ وَكَأْسَ شَيَاطِينَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَشْتَرِكُوا فِي مَائِدَةِ الرَّبِّ وَفِي مَائِدَةِ شَيَاطِينَ“ (1كو 10: 20، 21).
وإن كانت اليهودية في اتجاه والوثنية في اتجاه مضاد، وشتان بين هذه وتلك ولكن للأسف الشديد، فهما يلتقيان في نقطة واحدة، وهي أن الإنسان سواء كان يعيش في ظلال الناموس، أو ظل العبادات الوثنية، فأنه يظن أنه بأعماله الحسنة وبره الذاتي يَخلُص، ويرضي اللَّه، ويشتري الملكوت، فليست أعمال الناموس، ولا الأعمال الحسنة في ظل العبادات الوثنية تستطيع أن تعبر بالإنسان الهوة الهائلة التي صنعتها الخطية بين اللَّه القدوس والإنسان الملوث بالخطية.
فَكَيْفَ تَرْجِعُونَ أَيْضًا إِلَى الأَرْكَانِ الضَّعِيفَةِ الْفَقِيرَةِ.. ومع شديد الأسف فإن هناك أعدادًا لا تُحصى بعد أن جازوا بحر المعمودية وصاروا مسكنًا للروح القدس نسوا أنفسهم وتغافلوا الغِنى والمجد الجزيل الذي لهم، فراحوا يتسوّلون من العالم شهوة من هنا وشهوة من هناك. ويقول “الأب متى المسكين“: “أمَّا بالنسبة لنا نحن الآن، فالآية تنطبق على الذين اعتمدوا وتحرَّروا ولبسوا المسيح، أي الخليقة الجديدة، وصاروا بالإيمان المسيحي أبرارًا وقديسين في نظر اللَّه والملائكة، وانفتحت أمامهم الحياة الأبدية ليسلكوا بالحق وفي النور. كيف يعودون إلى شهوات العالم والجسد ويستعبدون ذواتهم لأصنام وشياطين الزنى والسرقة والاختلاس وتلفيق الأكاذيب، ويمدون أيديهم يستعطفون ذوي النفوذ والسلطان لعلهم يفوزون بغنيمة. يا بني الحق والنور والحياة، لقد حرَّركم المسيح بأغلى ثمن فلا تستعبدوا أنفسكم للعالم والجسد. أنتم للَّه ومن اللَّه، عيشوا وباللَّه اكتفوا فهو وحده القادر أن يغنيكم بغناه..
أحفظوا طهارة عيونكم لتؤهَّل لرؤية المسيح في مجيئه، وقدّسوا أذانكم لتسمعوا بها صوت العريس يناديكم بأسمائكم، واختموا على أعضائكم بصليب المجد لئلا توجدوا عراة مفضوحين يوم مجيئه. إن ما تمارسونه الآن سرًّا وكأنه بعيد عن عين الديان سيستعلن في وسط القديسين وملائكة اللَّه وعين الرب الفاحصة القلوب والكُلى“(247).
أَتَحْفَظُونَ أَيَّامًا وَشُهُورًا وَأَوْقَاتًا وَسِنِينَ.. وسؤال بولس الرسول هنا ينم عن الحسرة والأسى والأسف، وكأنه يقول لهم: هل هذه ثمرة تعبي معكم؟! ويود أن يصرف أنظارهم عن الاهتمام بالشكليات في حفظ المواسم والأعياد، وقد حوَّلوها على أمور شكلية، ونسوا أن الهدف الروحي من هذه الأمور هو أن يعيشوا حياة القداسة في الرب، وبينما شدَّد المتهوّدين على حفظ يوم السبت بطريقة حرفية قاتلة، فإن المسيحيين قدَّسوا يوم الأحد بطريقة روحية، وقال بولس الرسول: “الَّذِي يَهْتَمُّ بِالْيَوْمِ فَلِلرَّبِّ يَهْتَمُّ. وَالَّذِي لاَ يَهْتَمُّ بِالْيَوْمِ فَلِلرَّبِّ لاَ يَهْتَمُّ” (رو 14: 6) وقال لأهل كولوسي: “فَلاَ يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ فِي أَكْل أَوْ شُرْبٍ أَوْ مِنْ جِهَةِ عِيدٍ أَوْ هِلاَل أَوْ سَبْتٍ” (كو 2: 16)، وهذا ما قصده بولس الرسول من قوله “أَتَحْفَظُونَ أَيَّامًا؟” أي تقدّسونها بطريقة حرفية قاتلة.
وقوله “شُهُورًا“ إشارة إلى وصية الرب قديمًا بتقديس أول الشهر السابع: “وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا. كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَائِلًا فِي الشَّهْرِ السَّابعِ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ يَكُونُ لَكُمْ عُطْلَةٌ تَذْكَارُ هُتَافِ الْبُوقِ مَحْفَلٌ مُقَدَّسٌ” (لا 23: 23، 24).
وقوله “أَوْقَاتًا“ تشير إلى المواسم بحسب الوصية: “هذِهِ مَوَاسِمُ الرَّبِّ الْمَحَافِلُ الْمُقَدَّسَةُ الَّتِي تُنَادُونَ بِهَا فِي أَوْقَاتِهَا“ (لا 23: 4)، وقال الكتاب عن سليمان الملك: “حِينَئِذٍ أَصْعَدَ سُلَيْمَانُ مُحْرَقَاتٍ لِلرَّبِّ عَلَى مَذْبَحِ الرَّبِّ.. حَسَبَ وَصِيَّةِ مُوسَى فِي السُّبُوتِ وَالأَهِلَّةِ وَالْمَوَاسِمِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي السَّنَةِ فِي عِيدِ الْفَطِيرِ وَعِيدِ الأَسَابِيعِ وَعِيدِ الْمَظَالِّ“ (2أي 8: 12، 13).
وقوله “سِنِينَ“ تشير إلى تقديس السنة السابعة، فلا يزرع اليهودي زرعه ولا يقترب من كرمه: “أَمَّا السَّنَةُ السَّابِعَةُ فَفِيهَا يَكُونُ لِلأَرْضِ سَبْتُ عُطْلَةٍ سَبْتًا لِلرَّبِّ. لاَ تَزْرَعْ حَقْلَكَ وَلاَ تَقْضِبْ كَرْمَكَ“ (لا 25: 4)، وكذلك سنة اليوبيل التي تقابل السنة الخمسين.
أَتَحْفَظُونَ أَيَّامًا وَشُهُورًا وَأَوْقَاتًا وَسِنِينَ.. وهل حفظ الأيام والشهور والأوقات والسنين يُعد أمرًا سيئًا؟.. كلاَّ، ولكن ما كان يخشاه بولس الرسول أن يقتنع الإنسان بأفكار المتهوّدين وشيئًا فشيئًا يعود لحفظ الختان وأعمال الناموس، وكأنهم سينالون خلاصهم بأعمالهم البشرية.
ومن جانب آخَر اتخذ البعض هذه العبارة كحجة لرفض الأصوام والأعياد الكنسية، فيقول “ناشد حنا“: ” هل في المسيحية أعياد؟ كلاَّ. المسيحية لا ترتبط بالأرض، ولا بالأيام والأزمنة والأوقات، بل هي سماوية وكل ما فيها روحي.. فليس للمسيحيين أعياد مثل عيد الميلاد أو عيد القيامة أو عيد الصعود.. إلخ، لأن الأعياد تخصّ الشعب الأرضي أما الشعب السماوي فهو في عيد دائم “لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضًا الْمَسِيحَ قَدْ ذُبحَ لأَجْلِنَا إِذًا لِنُعَيِّدْ لَيْسَ بِخَمِيرَةٍ عَتِيقَةٍ وَلاَ بِخَمِيرَةِ الشَّرِّ وَالْخُبْثِ بَلْ بِفَطِيرِ الإِخْلاَصِ وَالْحَقِّ ” (1كو 5: 7)، ولو كان لهذا العيد وقت محدَّد لكان المسيحي يمتنع عن الخُبث والشر في ذلك الوقت المحدَّد فقط، ولكن بما أن حياة المسيحي يجب أن تكون دائمًا حياة الإخلاص والحق. إذًا هذا العيد دائم“(248).
والحقيقة أن بولس الرسول عندما تكلّم عن حفظ الأيام والشهور والأوقات والسنين كان يتكلّم عما يخصّ الناموس والذي يستخدمه المتهوّدون للترويج لبدعتهم، ولم يقصد بولس الرسول الأعياد في المسيحية، فالكنيسة على مدى تاريخها الطويل حفظت الأعياد الخاصة بالسيد المسيح مثل ميلاده وآلامه وقيامته وصعوده للسماء، والذين يعيشون في الكنيسة يختبرون مدى الفائدة الروحية لهذه الأعياد إذ يعيشون هذه الأحداث ويتفاعلون معها ويجنون من ثمارها، ولا سيما البسطاء الذين ليس لهم القدرة على قراءة الإنجيل، فأنهم من خلال الأعياد والأيقونات والطقوس يعيشون عمق تلك الأحداث، ومَن يعترض على هذا ليته يعايش أسبوع الآلام في كنيستنا القبطية بألحانها العذبة قبل أن يسجل اعتراضه، كما أن الأعياد والأيقونات والشموع والبخور والطقوس لا تتعارض مع روح الكتاب، على أن تُمارَس بوعي وفهم، أمّا الذين يمارسونها كعمل روتيني فأنهم يُفرّغون الطقس من محتواه فيصير أجوفًا مملًا.
ويقول “القمص تادرس يعقوب“: “نحن لا نحفظ العيد في حرفية كحافظين أيامًا، عالمين أن الرسول يوبّخ مَن يفعل هذا، قائلًا: “أَتَحْفَظُونَ أَيَّامًا..؟!” إنما نحسب اليوم مكرَّمًا بسبب العيد وبسبب الرب نفسه. فنجتمع معًا لكي نعبد اللَّه في كل مكان ونقدّم صلوات ترضي اللَّه. فإن الطوباوي بولس يعلن لا عن أيام عن الرب الذي من أجله نحفظ العيد قائلًا: “لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضًا الْمَسِيحَ قَدْ ذُبحَ لأَجْلِنَا” (1كو 5: 7)، إذ نتأمل في أبدية “الكلمة” نقترب إليه ونخدمه.
ويقول “القديس أثناسيوس الرسولي“: “لا يُحسَب العيد هكذا من أجل (حفظ) الأيام بل من أجل الرب الذي تألم لأجلنا نحن نحتفل به “لأَنَّ فِصْحَنَا الْمَسِيحَ قَدْ ذُبحَ“، فأنه حتى موسى علَّم إسرائيل ألا يعتبروا العيد انشغالًا بالأيام عن الرب، قائلًا: “هُوَ فِصْحٌ لِلرَّبِّ” (خر 12: 11)”(249).
والإخوة البروتستانت يقدّسون يوم الأحد ولا أحد يدينهم على هذا ولا أحد يعترض عليهم، بل أن “ناشد حنا” نفسه يقول عن يوم الأحد: “ولكننا نكرّمه لأنه يوم قيامة الرب يسوع من الأموات، واليوم الذي نمارس فيه عشاء الرب لذكرى موته لأجلنا، وهو أيضًا اليوم الذي نزل فيه الروح القدس يوم الخمسين. ونقرأ في (رؤ 1 : 10) أن الرسول يوحنا كان في الروح في ذلك اليوم يوم الرب“(250).
ويقول “نيافة الحبر الجليل الأنبا بنيامين” أسقف المنوفية وأستاذ اللاهوت الطقسي بالكليات الإكليريكية في كتابه “الأعياد السيدية” تحت عنوان: “قانونية الأعياد من خلال الكتاب المقدَّس وأقوال الآباء والبروتستانت: “لقد شهد البروتستانت أيضًا بالغرض الذي ترمي إليه الكنيسة من هذه الأعياد، فقد قال صاحب كتاب ريحانة النفوس: “إن الأعياد التي كانت عند المسيحيين الأولين كانت تحتفظ باعتبار واحترام عظيمين، وكان المقصود بها انتشار روح التقوى بواسطة مراجعة الحوادث والتعاليم العظيمة المدلول عليها بهذه الأعياد، ولا ريب أنه قد حصل من ذلك منفعة في تلك العصور الأولى.. وكذلك من عيد الميلاد قبل أن صار حفظه عموميًا. فكأن الأعياد تاريخ فعلي منظور محسوس ناطق يساعد التاريخ المكتوب المطوي في سطور الكتب المجهول من العامة وقليلي العلم من بني الإنسان.. بل هو تاريخ يقرأه البسطاء والعامة بما يرونه ممثلًا أمامهم في تلك الحفلات المقدَّسة التي تُقام في أوقاتها المعينة من كل عام.. ولا نظن أن واحدًا من العقلاء أو البسطاء من المؤمنين ينكر فائدة هذه الأعياد ما دام الرب أمر بها وباركها والرسل مارسوها.. وما دام هذا غرضها وما زالت ترمي إلى هذا القصد المقدَّس من التعليم وإحياء ذكرى تلك النعم والبركات التي نزلت من عن أبي الأنوار“(251).
أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَكُونَ قَدْ تَعِبْتُ فِيكُمْ عَبَثًا.. يقول بولس الرسول: “أَخَافُ عَلَيْكُمْ“ فهو كأب حنون يحب أولاده ويخاف عليهم، وكراعٍ أمين يحافظ على رعيته من الذئاب الخاطفة، يخشى على أولاده المراهقين من أفكار الحيَّة القديمة، وهكذا قال لأولاده في كورنثوس: “وَلكِنَّنِي أَخَافُ أَنَّهُ كَمَا خَدَعَتِ الْحَيَّةُ حَوَّاءَ بِمَكْرِهَا هكَذَا تُفْسَدُ أَذْهَانُكُمْ عَنِ الْبَسَاطَةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ (2كو 11: 3).
وقول بولس الرسول: “تَعِبْتُ فِيكُمْ“ إشارة للعمل الجاد الشاق والجهد الجبار الذي كان يبذله في الخدمة ليل نهار في أسفار وأخطار وسجون وضرب وجَلْد ورجم: “فِي تَعَبٍ وَكَدٍّ، فِي أَسْهَارٍ مِرَارًا كَثِيرَةً فِي جُوعٍ وَعَطَشٍ فِي أَصْوَامٍ مِرَارًا كَثِيرَةً فِي بَرْدٍ وَعُرْيٍ“ (2كو 11: 27)، فهل بعد هذا يأتي عدو الخير ويختطفهم من يده؟!
والفعل المُستخدم هنا “تَعِبْتُ“ هو نفس الفعل الذي استخدمه بولس الرسول في نهاية رسالته: “لاَ يَجْلِبُ أَحَدٌ عَلَيَّ أَتْعَابًا“، فالمقصود بالأتعاب الأعمال الرديئة التي تُرهق الرسول وتتعبه، وقول بولس الرسول “عَبَثًا“ أي بلا فائدة ولا طائل من ورائها، مع أن كلمة اللَّه لا ترجع فارغة كقول الرب: “بِذَاتِي أَقْسَمْتُ خَرَجَ مِنْ فَمِي الصِّدْقُ كَلِمَةٌ لاَ تَرْجعُ” (إش 45: 23).. “لأَنَّهُ كَمَا يَنْزِلُ الْمَطَرُ وَالثَّلْجُ مِنَ السَّمَاءِ وَلاَ يَرْجِعَانِ إِلَى هُنَاكَ بَلْ يُرْوِيَانِ الأَرْضَ وَيَجْعَلاَنِهَا تَلِدُ وَتُنْبِتُ وَتُعْطِي زَرْعًا لِلزَّارِعِ وَخُبْزًا لِلآكِلِ. هكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ فَمِي. لاَ تَرْجعُ إِلَيَّ فَارِغَةً بَلْ تَعْمَلُ مَا سُرِرْتُ بِهِ وَتَنْجَحُ فِي مَا أَرْسَلْتُهَا لَهُ“ (إش 55: 10، 11).
أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَكُونَ قَدْ تَعِبْتُ فِيكُمْ عَبَثًا.. ومن قبل أشار للآلام التي عاناها أهل غلاطية وسألهم: “أَهذَا الْمِقْدَارَ احْتَمَلْتُمْ عَبَثًا إِنْ كَانَ عَبَثًا” (غل 3: 4).. فقد رأى بولس الرسول رجوع الغلاطيين للختان نوع من العبث ولذلك قال لهم: “هَا أَنَا بُولُسُ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ إِنِ اخْتَتَنْتُمْ لاَ يَنْفَعُكُمُ الْمَسِيحُ شَيْئًا.. قَدْ تَبَطَّلْتُمْ عَنِ الْمَسِيحِ أَيُّهَا الَّذِينَ تَتَبَرَّرُونَ بِالنَّامُوسِ. سَقَطْتُمْ مِنَ النِّعْمَةِ“ (غل 5: 2، 4) وهنا نلاحظ أن بولس الرسول يترك جانبًا أسلوب المحاججة والإقناع العقلي، ويتحدث مع الغلاطيين بعاطفة الأب لأولاده، فيقول لهم: “أَخَافُ عَلَيْكُمْ“، وهكذا قال بولس الرسول لأهل تسالونيكي: “مِنْ أَجْلِ هذَا إِذْ لَمْ أَحْتَمِلْ أَيْضًا أَرْسَلْتُ لِكَيْ أَعْرِفَ إِيمَانَكُمْ لَعَلَّ الْمُجَرِّبَ يَكُونُ قَدْ جَرَّبَكُمْ، فَيَصِيرَ تَعَبُنَا بَاطِلًا“ (1تس 3: 5).
ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: “امتلأ الرسول خوفًا عليهم بسبب ارتدادهم، وعاتبهم في رقة ألا يضيّعوا مجهوده فيما بينهم باطلًا، وكلمة ” أَخَافُ ” تحمل معنى الاهتمام والتشجيع معًا كما أنها تحمل رجاء النصرة على هذه التجربة“(252).
ثالثًا: تذكير الغلاطيين بمحبتهم الأولى (غل 4: 12-20):
“أَتَضَرَّعُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ كُونُوا كَمَا أَنَا لأَنِّي أَنَا أَيْضًا كَمَا أَنْتُمْ. لَمْ تَظْلِمُونِي شَيْئًا. وَلكِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي بِضَعْفِ الْجَسَدِ بَشَّرْتُكُمْ فِي الأَوَّلِ. وَتَجْرِبَتِي الَّتِي فِي جَسَدِي لَمْ تَزْدَرُوا بِهَا وَلاَ كَرِهْتُمُوهَا بَلْ كَمَلاَكٍ مِنَ اللَّهِ قَبِلْتُمُونِي كَالْمَسِيحِ يَسُوعَ. فَمَاذَا كَانَ إِذًا تَطْوِيبُكُمْ لأَنِّي أَشْهَدُ لَكُمْ أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ لَقَلَعْتُمْ عُيُونَكُمْ وَأَعْطَيْتُمُونِي. أَفَقَدْ صِرْتُ إِذًا عَدُوًّا لَكُمْ لأَنِّي أَصْدُقُ لَكُمْ. يَغَارُونَ لَكُمْ لَيْسَ حَسَنًا، بَلْ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّوكُمْ لِكَيْ تَغَارُوا لَهُمْ. حَسَنَةٌ هي الْغَيْرَةُ فِي الْحُسْنَى كُلَّ حِينٍ وَلَيْسَ حِينَ حُضُورِي عِنْدَكُمْ فَقَطْ. يَا أَوْلاَدِي الَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضًا إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ. وَلكِنِّي كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ حَاضِرًا عِنْدَكُمُ الآنَ وَأُغَيِّرَ صَوْتِي لأَنِّي مُتَحَيِّرٌ فِيكُمْ“(غل 4: 12 – 20).
في هذه الفقرة ينتقل بولس الرسول من الحوار اللاهوتي للحوار الروحي، فيتوقف مؤقتًا عن سياق النقاش العقلي مُظهرًا لهم عميق محبتهم، ومُذكّرًا إياهم بمحبتهم الأولى وكيف قبلوه كملاك بل كالمسيح يسوع، ولم يزدروا به بسبب تجربته، فكيف ينقلبون ضده حتى صاروا ينظرون إليه كعدو لهم؟! وبعد أن كانوا يحبونه حبًا جمًا حتى تمنوا لو أنهم يقلعون عيونهم ويقدّمونها له عوض ضعف الإبصار الشديد الذي يعاني منه، الآن ينظرون إليه كخصم وعدو وذلك لأنه صارحهم القول وأخبرهم بالصدق عما أحاط بهم من ضلال. ثم وضعهم بولس الرسول أمام مقابلة: الجانب الأول يمثل المتهوّدون وأهدافهم الرخيصة وخدمتهم الزائفة وأنانيتهم وسعيهم لمجد أنفسهم وغيرتهم الخاطئة وتفاخرهم بمدى تأثيرهم على الغلاطيين، حتى أنهم عادوا بهم إلى عهد الختان وعبودية الناموس والأركان الضعيفة الفقيرة، أمّا الجانب الثاني من المقابلة فهو نفسه بخدمته الباذلة ومحبته العميقة لهم، حتى أنه يتمخَّض بهم لكيما يتشكَّل المسيح داخلهم ويتصوَّر فيهم، مُظهرًا رغبته الشديدة في أن يكون في وسطهم ليغير نبرات صوته من التعنيف والتوبيخ في الرسالة إلى الحنو والشفقة، لأنه بالحقيقة هو متحيّر بأي أسلوب يخاطبهم؟!
ويقول “الأب متى المسكين“: “موقف جديد للقديس بولس بالنسبة للغلاطيين الذين أخطأوا في إيمانهم بالمسيح بمحاولة النكوص نحو الناموس، وأخطأوا في حق ق. بولس الذي بشرهم بالإيمان الصحيح، يُقدّم لهم بالرغم من ذلك أرق مشاعر الكارز الخادم. فهو بعد أن طرح أمامهم عيوبهم، عاد يتودَّد إلى قلوبهم بصورة أبوية منقطعة النظير، فهو يقول لهم بما يعني أنا أحبكم أرجوكم أن تحبوني!! أنا أصفح عن كل أخطائكم لماذا تمسكون عليَّ أخطاءً لا وجود لها، سامحوني كما أنا أسامحكم!” (253).
“أَتَضَرَّعُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ كُونُوا كَمَا أَنَا لأَنِّي أَنَا أَيْضًا كَمَا أَنْتُمْ. لَمْ تَظْلِمُونِي شَيْئًا“ (غل 4: 12).
أَتَضَرَّعُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ.. تارة يُعنّف بولس الرسول أولاده الغلاطيين واصفًا إياهم بالغباء منتقدًا تصرفهم غير الحكيم (غل 3: 1، 3)، وتارة يصفهم بالإخوة متضرعًا لهم ليستجيبوا لندائه، فهو يستخدم كل من الشدة واللين، ويوازن بين التوبيخ والتشجيع ليكسب على كل حال قومًا، وليجذب قلوبهم لمعرفة الحق، وهكذا قال لأهل كورنثوس: “مَاذَا تُرِيدُونَ أَبِعَصًا آتِي إِلَيْكُمْ أَمْ بِالْمَحَبَّةِ وَرُوحِ الْوَدَاعَةِ” (1كو 4: 21).
أَتَضَرَّعُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ.. “تذكَّرْ أن البعض في كنائس غلاطية كان ينتقد بولس ويهاجمه. ولكن لاحظ عدّة حقائق هامة:
1 دعاهم بولس إخوة: لم يعاملهم كأعداء، ولا حتى كخصوم، لم يتذمَّر، أو يتضايق، أو يشكو، أو حتى يهاجمهم. ما حدث كان على النقيض من ذلك تمامًا، لقد تفهمهم وعبَّر عن عاطفة المحبة الأخوية من نحوهم.
2 لقد تضرَّع إليهم، أي أنه لم يأمرهم أو يعلمهم، ولكنه كان يتوسَّل ويتضرع من قلب خادم أمين للَّه.
3 لقد تضرَّع إليهم بولس لكي يكونوا كما هو، لأنه قد أصبح واحد منهم. كان دائمًا يحبهم ويعتني بهم ويُظهر العطف من نحوهم، وقد أرادهم أن يفعلوا نفس الشيء له، ألا يتركوه ويتحوَّلوا بعيدًا عن خدمته..
4 أكد لهم بولس أن ما فعلوه لم يؤذه بشيء. لم يكن لديه أي مرارة أو غضب، أو حقد عليهم“(254).
كُونُوا كَمَا أَنَا.. أي تمثلوا بي وأسلكوا كسلوكي لأني أنا أتمثل بسيدي المسيح وأسلك في طريقه، فهكذا طلب من أولاده في كورنثوس قائلًا لهم: “فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي” (1كو 4: 16).. “كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي كَمَا أَنَا أَيْضًا بِالْمَسِيحِ“ (1كو 11: 1)، وقال لأولاده في فيلبي: “كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي مَعًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ“ (في 3: 17).. “وَمَا تَعَلَّمْتُمُوهُ وَتَسَلَّمْتُمُوهُ وَسَمِعْتُمُوهُ وَرَأَيْتُمُوهُ فِيَّ فَهذَا افْعَلُوا“ (في 4: 9).. وكل هذا يعكس مدى نقاوة وطهارة وصدق بولس الرسول الذي أعطى حياته، كل حياته، كل مشاعره وأحاسيسه بالكامل للرب يسوع، حتى أنه صار كمرآة نقية تعكس صورة المسيح الساكن والمستريح في قلبه.
كُونُوا كَمَا أَنَا لأَنِّي أَنَا أَيْضًا كَمَا أَنْتُمْ.. كنت يهوديًا فريسيًّا متزمتًا أوفر غيرة من أترابي على حفظ الناموس ووصاياه وأحكامه وفرائضه، أما الآن فقد تخليت باقتناع كامل ورضى عن كل هذا، متشبثًا بنعمة المسيح الغنية التي حررتني من عبودية الناموس: “فَاثْبُتُوا إِذًا فِي الْحُرِّيَّةِ الَّتِي قَدْ حَرَّرَنَا الْمَسِيحُ بِهَا وَلاَ تَرْتَبِكُوا أَيْضًا بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ” (غل 5: 1)، فهل بعد أن تحرَّرنا من نير عبودية الناموس وتخلينا عن أركان العالم الضعيفة الفقيرة نعود إليها ثانية؟!.. ليتكم تكونون مثلي، لكيما أكون أنا وأنتم واحد في المسيح، فمن أجلكم صرتُ كأممي لكيما أجذبكم للمسيح.. ألقوا عن كاهلكم نير عبودية الناموس كما ألقيته أنا من قبلكم، فأنتم كأمم كنتم أحرارًا من الناموس فلماذا تضعون أعناقكم تحت ذلك النير الذي عجز آباؤنا ونحن عن حمله؟!.. لقد كان القديس بولس إنسانًا حكيمًا يحاول أن يكسب الكل للمسيح: ” فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ الْيَهُودَ. وَلِلَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ النَّامُوسِ لأَرْبَحَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ. وَلِلَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ كَأَنِّي بِلاَ نَامُوسٍ. مَعَ أَنِّي لَسْتُ بِلاَ نَامُوسٍ ِللَّهِ بَلْ تَحْتَ نَامُوسٍ لِلْمَسِيحِ لأَرْبَحَ الَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ. صِرْتُ لِلضُّعَفَاءِ كَضَعِيفٍ لأَرْبَحَ الضُّعَفَاءَ. صِرْتُ لِلْكُلِّ كُلَّ شَيْءٍ لأُخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَال قَوْمًا“ (1كو 9: 20 – 22).
ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: “أي اقتدوا بي واتركوا العادات القديمة، فلقد كنت أمارسها قبلًا كغيور على الناموس، ولكن قد خرجت من تحت سيطرة الناموس بنعمة المسيح”(255).
كما يقول أيضًا “القديس يوحنا الذهبي الفم“: “هذا الحديث موجّه إلى تلاميذه اليهود، مقدمًا نفسه مثالًا لهم لكي يحثهم على ترك عاداتهم القديمة.. تأملوا فيَّ، فإني كنت مرة في ذات وضعكم الفكري، خاصة من جهة غيرتي الملتهبة من جهة الناموس. لكنني بعد ذلك لم أخَفْ من ترك الناموس لأنسحب في نظام هذه الحياة. هذا ما تعرفونه جيدًا كيف كنت في عناد متعصبًا لليهودية، وكيف أنني بقوة أعظم تخلّصت من هذا.
حسنًا قدّم هذا الأمر في النهاية، فإن كثيرين متى قُدّمت لهم آلاف الأسباب والتبريرات يقتنعون بالأكثر بمن كان في نفس وضعهم ويتمسّكون بالأكثر بما يرونه قد تحقق عمليًا في حياة الآخرين“(256).
كُونُوا كَمَا أَنَا لأَنِّي أَنَا أَيْضًا كَمَا أَنْتُمْ.. قديمًا طلب آخاب الملك الشرير من يهوشافاط ملك يهوذا أن يخرج معه لحرب آرام ” فَقَالَ يَهُوشَافَاطُ لِمَلِكِ إِسْرَائِيلَ مَثَلِي مَثَلُكَ شَعْبِي كَشَعْبِكَ وَخَيْلِي كَخَيْلِكَ“ (1مل 22: 24) ومُني الاثنان بهزيمة ساحقة، فقُتِل آخاب وكاد يهوشافاط أن يفقد حياته، فقد كانت استجابة يهوشافاط استجابة خاطئة، وشتان بين دعوة آخاب وبين دعوة بولس الرسول، فليس كل من يدعوننا نذهب معه، ولا كل من يقول لنا تمثّلوا بي نتمثل به.. بولس الرسول يقول للغلاطيين ضعوا أنفسكم مكاني كما وضعت نفسي مكانكم، كونوا مُخلصين ومحبين لي كما أنا مُخلص ومُحب لكم، قابلوا محبتي بمحبة وإخلاصي بإخلاص وصدقي بصدق.
ويقول “الأب متى المسكين“: “فهو يقول لهم كونوا بلا ناموس كما أنا أيضًا بلا ناموس مع إني كنت وارثًا للناموس، فهذه الآية بالرغم من اختصارها الشديد فهي تضرب بقوة نحو اليمين واليسار لتجمع الكل في نموذج واحد كان يعيشه ق. بولس عن إيمان وثقة”(257).
ويقول “الخوري بولس الفغالي“: “أسألكم أن تكونوا مثلي، كما أنا الآن. وأن تكونوا أحرارًا من شريعة موسى، فحين يقدّم الرسول نفسه كمثال لمراسليه فهو يدعوهم إلى الاقتداء بحريته في الإيمان.. ويتابع: “وأنا أيضًا مثلكم“. هل نزيد “كنت” مثلكم أو “صرت” مثلكم؟ يريد بولس أن يقول أنه صار مثل الغلاطيين، هؤلاء الوثنيين القدماء، فتخلّى عن الشريعة. صار بدون شريعة ليربحهم للمسيح (1كو 9: 21)، وأكد بولس أن الغلاطيين لم يسيئوا إليه. قد يلمّح إلى أحداث قريبة نجهلها، أو يذكرهم بمحبتهم الصادقة التي بها أحاطوا الرسول”(258).
لَمْ تَظْلِمُونِي شَيْئًا.. تبدو هذه العبارة وكأنها جملة اعتراضية لا علاقة لها بما قبلها ولا بما بعدها، بعيدة عن سياق الحديث، والحقيقة أن بولس الرسول أراد أن يَرُدْ على التساؤل الذي ربما ثار في أذهان الغلاطيين وهو سبب غضبة بولس الرسول منهم، فأكد بولس الرسول في هذه العبارة أنه لا ثمة خلاف شخصي بينه وبينهم، فهم لم يأذونه ولم يظلمونه في أي شيء، بل هم ظلموا أنفسهم. كان القديس بولس يدرك ما بثه المتهوّدون في أذهان الغلاطيين ضده وضد رسالته وأنهم قد سرقوا قلوبهم وعواطفهم وأوغلوها بالحقد تجاهه، وغيَّبوا أذهانهم حتى احتسبوه عدوًا لهم، ولهذا فهو يؤكد لهم أنهم لم يظلموه في شيء بل بالأكثر قبلوا بشارة الإنجيل وأحبوه من كل قلوبهم، وهوذا الآن يناديهم ما دمتم لم تسيئوا إليَّ ولم أسيء إليكم، فلماذا لا تعودون إلى محبتكم الأولى؟!.. أين ذهبت فرحتكم وسعادتكم ببشارة الملكوت؟!
ويوضح “الدكتور القس غبريال رزق اللَّه” ارتباط هذه العبارة بسياق الحديث فيقول: “أما الباحث المدقّق فيستطيع أن يرى من بعيد قرينة الكلام قائمة على تحاشي الرسول عما يتطرَّق إلى أفكار الغلاطيين ضد موقف الرسول منهم، وكأن يحسبوه عدوًا لهم، فلا يستمعون إلى كلامه ويرفضونه، لذلك يأتيهم كأخ لهم، شريكًا في كل ما هم فيه وعليه، محققًا لهم محبته كأخ لهم مؤكدًا بأنه ليس في قلبه إلاَّ “المحبة الأخوية” فإنهم لم يظلموه شيئًا، فليس ما يدعو إلى الكراهية أو العداوة. هذا دليل سلبي ثم يأتي بعده بدليل إيجابي” (259).
“وَلكِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي بِضَعْفِ الْجَسَدِ بَشَّرْتُكُمْ فِي الأَوَّلِ. وَتَجْرِبَتِي الَّتِي فِي جَسَدِي لَمْ تَزْدَرُوا بِهَا وَلاَ كَرِهْتُمُوهَا بَلْ كَمَلاَكٍ مِنَ اللَّهِ قَبِلْتُمُونِي كَالْمَسِيحِ يَسُوعَ“ (غل 4: 13، 14).
وَلكِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي بِضَعْفِ الْجَسَدِ بَشَّرْتُكُمْ فِي الأَوَّلِ.. يستخدم اللَّه الضعفاء والفقراء والمحتاجين ليظهر مجده فيهم: ” بَلِ اخْتَارَ اللَّهُ جُهَّالَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ. وَاخْتَارَ اللَّهُ ضُعَفَاءَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الأَقْوِيَاءَ. وَاخْتَارَ اللَّهُ أَدْنِيَاءَ الْعَالَمِ وَالْمُزْدَرَى وَغَيْرَ الْمَوْجُودِ لِيُبْطِلَ الْمَوْجُودَ” (1كو 1: 27، 28)، فبينما كان بولس الرسول يبشر الغلاطيّين بالإنجيل أصيب بمرض عضال كان يسبب نفور الناس منه، ورغم ذلك فإن الغلاطيين أحبوه من كل قلوبهم بصدق لأنهم رأوا فيه نقاء السماء وصورة المسيح، والحقيقة أنه بسبب كثرة الاستعلانات والرؤى التي تمتَّع بها بولس الرسول، فقد أُعطيَ شوكة في الجسد حتى لا يسقط في الكبرياء، وطالما تضرَّع للَّه ليشفيه فقال له الرب: “تَكْفِيكَ نِعْمَتِي لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ“ (2كو 12: 9). وإن كان لا أحد يعرف على وجه الدّقة ما هي هذه الشوكة التي أصابت بولس الرسول لذلك خمَّنوا عدة تخمينات:
1- إنها الاضطهادات التي عانى منها، ولذلك قال في نفس الموضع: “لِذلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَالشَّتَائِمِ وَالضَّرُورَاتِ وَالاضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ لأَجْلِ الْمَسِيحِ. لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ” (2كو 12: 10).
2 إنها ضعف في الكلام والخطابة ومحادثة الآخَرين، ولهذا قال: “لِئَلاَّ أَظْهَرَ كَأَنِّي أُخِيفُكُمْ بِالرَّسَائِلِ. لأَنَّهُ يَقُولُ الرَّسَائِلُ ثَقِيلَةٌ وَقَوِيَّةٌ وَأَمَّا حُضُورُ الْجَسَدِ فَضَعِيفٌ وَالْكَلاَمُ حَقِيرٌ. مِثْلُ هذَا فَلْيَحْسِبْ هَذَا أَنَّنَا كَمَا نَحْنُ فِي الْكَلاَمِ بِالرَّسَائِلِ وَنَحْنُ غَائِبُونَ هكَذَا نَكُونُ أَيْضًا بِالْفِعْلِ وَنَحْنُ حَاضِرُونَ : (2كو 10: 9-11).. “وَإِنْ كُنْتُ عَامِّيًّا فِي الْكَلاَمِ، فَلَسْتُ فِي الْعِلْمِ بَلْ نَحْنُ فِي كُلِّ شَيْءٍ ظَاهِرُونَ لَكُمْ بَيْنَ الْجَمِيعِ” (2كو 11: 6).
3 ضعف شديد في الإبصار، ولذلك قال لأهل غلاطية: “لَوْ أَمْكَنَ لَقَلَعْتُمْ عُيُونَكُمْ وَأَعْطَيْتُمُونِي“ (غل 4: 15).. “اُنْظُرُوا مَا أَكْبَرَ الأَحْرُفَ الَّتِي كَتَبْتُهَا إِلَيْكُمْ بِيَدِي“ (غل 6: 11)، وقالوا أن ضعف الإبصار الذي أصابه كان من جرَّاء النور الإلهي الذي صدمه على أبواب دمشق، حتى أن حنانيا عندما وضع يده عليه: “فَلِلْوَقْتِ وَقَعَ مِنْ عَيْنَيْهِ شَيْءٌ كَأَنَّهُ قُشُورٌ“ (أع 9: 18).
4 جروح في جسده لا تندمل، تنبعث منها رائحة كريهة تنفر الناس منه، وإلى هذه أشار لوقا الطبيب عندما قال: “وَكَانَ اللَّهُ يَصْنَعُ عَلَى يَدَيْ بُولُسَ قُوَّاتٍ غَيْرَ الْمُعْتَادَةِ. حَتَّى كَانَ يُؤْتَى عَنْ جَسَدِهِ بِمَنَادِيلَ أَوْ مَآزِرَ إِلَى الْمَرْضَى، فَتَزُولُ عَنْهُمُ الأَمْرَاضُ وَتَخْرُجُ الأَرْوَاحُ الشِّرِّيرَةُ” (أع 19: 11، 12).
وقال رسول الأمم لأولاده في كورنثوس مشيرًا إلى هذه الشوكة: “وَأَنَا كُنْتُ عِنْدَكُمْ فِي ضَعْفٍ وَخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ كَثِيرَةٍ“ (1كو 2: 3)، وقول بولس الرسول “بَشَّرْتُكُمْ فِي الأَوَّلِ“ يشير إلى رحلته التبشيرية الأولى والثانية عندما بشر كورة غلاطية، ويقول “الدكتور وليم آدي“: “في سفره الثاني للتبشير سنة 52م لم يقصد أن يقيم طويلًا بغلاطية بل أن يمر بها لكنه أُعيق هناك لمرض أو ضعف اعتراه فكان له بذلك فرصة لتبشيرهم بالإنجيل.. فِي الأَوَّلِ هذا يدل على أنه زارهم مرتين وذكر لوقا الزيارة الأولى في (أع 16: 6) والثانية في (أع 18: 23)“(260).
وَتَجْرِبَتِي الَّتِي فِي جَسَدِي لَمْ تَزْدَرُوا بِهَا وَلاَ كَرِهْتُمُوهَا.. المقصود بالتجربة التي في جسده الآلام التي كان يعاني منها، والتي تم الإشارة إليها في الآية السابقة، وقوله “لَمْ تَزْدَرُوا بِهَا“ أي لم تزدروا بي ولم تحتقروني بسبب هذه التجربة المريرة، “وَلاَ كَرِهْتُمُوهَا“ والمعنى الحرفي للكره هنا “البصق”، وقال وليم باركلي أنها تعني حرفيًا: “ولم تبصقوا عليَّ”، وادعى البعض خطأ وزورًا أن بولس الرسول كان مصابًا بالصرع، وكان اليهود حينئذٍ عندما يرون إنسانًا تعاوده نوبات الصرع كانوا يبصقون على الأرض كنوع من الوقاية حتى لا يصابوا بذات المرض، ولكن هذا ادعاء غير حقيقي، ولا يوجد ما يؤيده في الكتاب المقدَّس، بل كان بولس دائمًا ذو حكمة عجيبة وذهن وقاد ومحل احترام الكل.
وَتَجْرِبَتِي الَّتِي فِي جَسَدِي لَمْ تَزْدَرُوا بِهَا وَلاَ كَرِهْتُمُوهَا.. ولا كرهتموها أي لم تحتقرونني وتتأففوا مني بسببها، وجاء في هامش الطبعة البيروتية “ولا قيأتموها” ومن هذه العبارة يتضح أن الشوكة التي كان يعاني منها بولس الرسول كانت ظاهرة يراها الجميع، وبالرغم من ذلك فأنهم لم يشمئزوا منه، ولا يصح أن ننظر إلى من شوّهتهم الأمراض من ذوي العاهات نظرة استخفاف واشمئزاز، بل أن السيد المسيح يعتبر زيارة المريض زيارة شخصية له: “كُنْتُ.. مَرِيضًا فَزُرْتُمُونِي“ (مت 25: 35، 36).
بَلْ كَمَلاَكٍ مِنَ اللَّهِ قَبِلْتُمُونِي.. عندما رأى يعقوب أخيه عيسو بعد عشرين سنة من الهروب من أمام وجهه، وكان يخشى أن يبطش به وبزوجاته وأولاده، قال له: “لأَنِّي رَأَيْتُ وَجْهَكَ كَمَا يُرَى وَجْهُ اللَّهِ“ (تك 33: 10) فلم يكن متوقعًا أن أخيه يقبله ويرضى عنه، وعندما استعطفت أبيجايل قلب داود حتى لا ينتقم من زوجها نابال فقالت له: “لأَنَّهُ سَيِّدِي الْمَلِكُ إِنَّمَا هُوَ كَمَلاَكِ اللَّهِ لِفَهْمِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ“ (2صم 14: 17)، وقال مفيبوشث لداود الملك العائد إلى عرشه في أورشليم: “وَسَيِّدِي الْمَلِكُ كَمَلاَكِ اللَّهِ. فَافْعَلْ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكَ” (2صم 19: 27)، وقال الكتاب عن يوحنا المعمدان “هأَنَذَا أُرْسِلُ مَلاَكِي فَيُهَيِّئُ الطَّرِيقَ أَمَامِي“ (ملا 3: 1)، ولهذا تُرسم أيقونة يوحنا المعمدان وله أجنحة الملاك، ومعنى ملاك أي مُرسَل، وكان بولس الرسول مُرسَلًا من قِبل اللَّه لهؤلاء الأمم، وقال الكتاب عن الملائكة: “أَلَيْسَ جَمِيعُهُمْ أَرْوَاحًا خَادِمَةً مُرْسَلَةً لِلْخِدْمَةِ لأَجْلِ الْعَتِيدِينَ أَنْ يَرِثُوا الْخَلاَصَ“ (عب 1: 14).
كَمَلاَكٍ مِنَ اللَّهِ قَبِلْتُمُونِي.. ما أجمل أن تقبل الرعية الراعي ليس بناءً على شكله ومظهره الخارجي، بل كملاك مُرسَل من اللَّه، لأنه ينوب عن اللَّه أمام البشر، وينوب عن البشر أمام اللَّه، ولا ينبغي أن تستمع الرعية لأصوات التشكيك في راعيها الأمين الساهر على خلاصها، ولا تتشبه الرعية باليهود الذي هتفوا للمسيح في أحد الشعانين وهتفوا ضده يوم صلبه، ولا تشابه الرعية الأمينة أهل لسترة، فعندما أقام بولس الرجل العاجز من بطن أمه قالوا: “إِنَّ الآلِهَةَ تَشَبَّهُوا بِالنَّاسِ وَنَزَلُوا إِلَيْنَا. فَكَانُوا يَدْعُونَ بَرْنَابَا زَفْسَ وَبُولُسَ هَرْمَسَ إِذْ كَانَ هُوَ الْمُتَقَدِّمَ فِي الْكَلاَمِ“ (أع 14: 12) وأراد كاهن زفس أن يقدّم ذبائح لهما، وسريعًا ما سمَّم اليهود أفكارهم فقاموا على بولس ورجموه بالحجارة حتى ظنوا أنه مات، وهوذا أهل غلاطية بعد أن قبلوه كملاك عادوا وانقلبوا عليه واحتسبوه كعدو لهم.
ويقول “متى هنري“: “فقد قبلوه كما لو كان ملاك اللَّه كالمسيح يسوع نفسه. لقد كانوا يرحبون به. نعم كان تقديرهم له عظيمًا، حتى أنهم لو أمكنهم لقلعوا عيونهم وأعطوها له، كم هي متقلبة صلات وعلاقات هؤلاء الناس وكم يميلون لتغيير أفكارهم حتى باتوا مستعدين لقلع عيونهم من أجله.
الرسول يتحاجج معهم هكذا. ماذا حدث لكل فرحكم؟ ذات مرة اعتبرتم أنفسكم سعداء بقبولكم الإنجيل، فهل هناك من سبب لتفكروا تفكيرًا آخر؟.. ثم يسألهم ثانية: “أَفَقَدْ صِرْتُ إِذًا عَدُوًّا لَكُمْ لأَنِّي أَصْدُقُ لَكُمْ” (ع 16)؟ من أنا بالنسبة لكم – بعد أن كنت أفضل شخص لكم – هل صرت عدوًا لكم الآن؟ الشائع بين الناس بأن يعدوا مَنْ كانوا أفضل أصدقائهم أعداء لهم عندما يقولون لهم كلمة حق، وكم من الخدام حُسبوا أعداء لمن قاموا بواجبهم معهم بأمانة، لكن على الخدام ألا يحجموا عن التكلم بالحق خوفًا من عداوة الآخرين وإذا أصبح الآخرون أعداء لهم فإن ذلك لأنهم قالوا الحق“(261).
بَلْ كَمَلاَكٍ مِنَ اللَّهِ قَبِلْتُمُونِي كَالْمَسِيحِ يَسُوعَ.. وقف الغلاطيون موقفًا سلبيًا وهو أنهم لم يزدروا ببولس الرسول بسبب التجربة التي في جسده، وكان من المفروض أن هذه التجربة تُنفّرهم منه، ووقف الغلاطيون أيضًا موقفًا إيجابيًا إذ ساروا للميل الثاني بأنهم أحبوا رسول الأمم وقبلوه كملاك اللَّه، ويقول “الدكتور القس غبريال رزق اللَّه“: “وهذا السلب والإيجاب يكمل أحدهما الآخَر، فيتولد نور المحبة الساطع ويظهر بهاؤه الناصع، ويتجلى مجده الفائق، في أسمى المحبة التي أظهروها نحوه عندما حضر إليهم، وبشرهم في الأول فقبلوه، لا في شخصه فحسب، بل بالأحرى في قبولهم كلمة البشارة الإنجيلية بفرح فاض في نفوسهم، أعمى عيونهم عن التجربة، وفتح أذانهم وقلوبهم لسماع كلمته التي بشرهم بها لذلك يقول: “لَمْ تَزْدَرُوا بِهَا وَلاَ كَرِهْتُمُوهَا بَلْ.. قَبِلْتُمُونِي“.. “(262).
بَلْ كَمَلاَكٍ مِنَ اللَّهِ قَبِلْتُمُونِي كَالْمَسِيحِ يَسُوعَ.. قبول الغلاطيين لبشارة بولس الرسول في ضعفه هو قبول للسيد المسيح الذي قال: “مَنْ يَقْبَلُكُمْ يَقْبَلُنِي“ (مت 10: 40).. “اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمُ الَّذِي يَقْبَلُ مَنْ أُرْسِلُهُ يَقْبَلُنِي“ (يو 13: 20).. “اَلَّذِي يَسْمَعُ مِنْكُمْ يَسْمَعُ مِنِّي. وَالَّذِي يُرْذِلُكُمْ يُرْذِلُنِي” (لو 10: 16)، وقال بولس الرسول لأهل تسالونيكي: ” نَحْنُ أَيْضًا نَشْكُرُ اللَّه بِلاَ انْقِطَاعٍ لأَنَّكُمْ إِذْ تَسَلَّمْتُمْ مِنَّا كَلِمَةَ خَبَرٍ مِنَ اللَّهِ قَبِلْتُمُوهَا لاَ كَكَلِمَةِ أُنَاسٍ بَلْ كَمَا هي بِالْحَقِيقَةِ كَكَلِمَةِ اللَّهِ“ (1تس 2: 13).. لقد قبل الغلاطيون بولس الرسول كملاك، بل كالمسيح يسوع لأنهم رأوا فيه صورة المسيح واضحة، فقد قبلوا السيد المسيح الساكن في قلب بولس.
ويقول ” الأب متى المسكين“: “آه يا إخوة ما أحوجنا إلى المسيح الحي فينا لكي نتكلَّم من كنز المجد الصالح ولكي نُخرِج الكلمات ملتهبة بنار حبّه ومطعَّمة بملح النعمة تُصلِح النفوس وتُطهِّر القلوب وتُشبع الأرواح الجائعة. لا يغالي ق. بولس في القول بأن أهل غلاطية قبلوه كالمسيح لأن نور المسيح كان يشع من وجهه، وكلمته كانت محيية. متى تأتي يارب وتؤازر الكارزين بِاسمك لتعود الكنيسة إلى مجدها الأول ويسطع وجهك عليها“(263).
“فَمَاذَا كَانَ إِذًا تَطْوِيبُكُمْ لأَنِّي أَشْهَدُ لَكُمْ أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ لَقَلَعْتُمْ عُيُونَكُمْ وَأَعْطَيْتُمُونِي. أَفَقَدْ صِرْتُ إِذًا عَدُوًّا لَكُمْ لأَنِّي أَصْدُقُ لَكُمْ” (غل 4: 15، 16).
فَمَاذَا كَانَ إِذًا تَطْوِيبُكُمْ.. سواء تطويبكم لأنفسكم إذ اعتبرتم أنفسكم سعداء ومغبوطون ببشارة الملكوت، فكنتم تهنئون بعضكم بعضًا بإيمانكم الصحيح، أو تطويبكم وتقديركم لي واغتباطكم بي الذي أظهرتموه في بداية الكرازة، بالرغم من التضحيات التي قدمتموها والأتعاب التي تحملتمونها بسب إيمانكم: “أَهذَا الْمِقْدَارَ احْتَمَلْتُمْ عَبَثًا إِنْ كَانَ عَبَثًا“(غل 3: 4)؟.. فأين تطويبكم وغبطتكم إياي الآن؟! ألم تطوبونني عندما بشرتكم بإنجيل الملكوت؟!
لقد أدرك بولس الرسول أن الغلاطيين بغباء قد فقدوا فرحتهم وسعادتهم، وسرورهم، وغبطتهم، بل أنهم بعد أن نظروا له كملاك مُرسَل من السماء أو كالمسيح يسوع، انقلبوا ضده واحتسبوه كعدو لهم.
ويقول “الدكتور القس غبريال رزق اللَّه“: “وأما التطويب فهو من أصل الفعل “طاب” يُقال طاب الشيء يطيب بمعنى: (لذ وزكا وحسن وحلا وحلَّ وجاد).. هكذا كان موقف أولئك الغلاطيين إزاء كرازة بولس بينهم، وتبشيره إياهم بإنجيل المسيح، فقد استطاب لهم ذلك الإنجيل المبارك فاستطيبوه وتلذَّذوا به وقبلوه بفرح وبهجة قلب وبنفس طيبة وحلَّ في عيونهم، وها هو الآن يكتب إليهم رسالته مُحذرًا من الرجوع عن هذا الإنجيل وحريته إلى الأركان الضعيفة الفقيرة ليستعبدوا لهم من جديد، مُذكّرًا إياهم بتلك الغبطة الفائقة في ذلك الموقف البهيج يوم قبولهم حق الإنجيل“(264).
لَوْ أَمْكَنَ لَقَلَعْتُمْ عُيُونَكُمْ وَأَعْطَيْتُمُونِي.. تشير العيون إلى أغلى ما يملكه الإنسان، وهذا ما يفسر لنا قول الكتاب عن رعاية اللَّه لشعبه: “أَحَاطَ بِهِ وَلاَحَظَهُ وَصَانَهُ كَحَدَقَةِ عَيْنِهِ” (تث 32: 10).. “مَنْ يَمَسُّكُمْ يَمَسُّ حَدَقَةَ عَيْنِهِ“ (تث 2: 8)، وصلّى داود النبي قائلًا: ” احْفَظْنِي مِثْلَ حَدَقَةِ الْعَيْنِ. بِظِلِّ جَنَاحَيْكَ اسْتُرنِي” (مز 17: 8).. وتعبير بولس الرسول هنا تعبير مجازي شرقي يُقصَد به مدى التضحية التي يقدّمها إنسان لآخَر، وهذا التعبير يظهر مدى محبة الغلاطيين لأبيهم الروحي، وهو نوع من فرض المستحيل، لأنه ماذا يستفيد إنسان أعمى أو أعور أو مُصاب بداء شديد في عينيه من عيني صديقه إذا اقتلعهما وأهداهما له؟!.. ما فائدة هاتين العينين في زمن لم يكن قد عُرِف فيه نقل الأعضاء؟!.. ولعل هذا التعبير يشير للتجربة التي أصابت بولس الرسول وهي ضعف شديد في الإبصار، وأيضًا تحمل شهادة تقدير للغلاطيين يعتزون بها إذ هي مقدَّمة من رسول الأمم، وهو صادق وأمين، وهو أب حازم وحنون.
ويقول “الدكتور القس غبريال رزق اللَّه“: “هو تعبير سامٍ قوي وعميق بهي لفعل “المحبة” التي وصفها الرسول بقوله: “لأَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا” (رو 5: 5)، تلك المحبة التي ليست البتة من نفائس الأرض وملئها، ولا من منبتات الأرض وأثمارها، بل من نفائس السماء وسر أسرارها“(265).
أَفَقَدْ صِرْتُ إِذًا عَدُوًّا لَكُمْ؟!.. أنه سؤال تهكُّمي أكثر منه استفساري، كما أنه يحمل روح العتاب الشديد لهم، فبولس الرسول يتعجب من انقلاب الغلاطيين المدهش من الحب الشديد الحار له والتقدير العظيم حتى أنهم كانوا على استعداد للتضحية بعيونهم، إلى جو غريب ملبَّد بالغيوم تسوده روح العداوة، وكل هذا نتيجة تأثير المعلمين الكذبة، فبولس الرسول يقول لهم: أبعد أن أحببتموني محبة تفوق محبتكم لعيونكم تتحوَّلون عني؟! ولم تتحوَّلوا عني فقط بل احتسبتموني عدوًا لكم.. هل كل هذا لأنني أخبرتكم بالحق؟!
ويقول “القديس يوحنا الذهبي الفم“: “هنا (غل 4: 15، 16) يظهر حيرته وتعجبه طالبًا أن يعرف منهم السبب في هذا التغير، فيقول لهم: من هو هذا الذي خدعكم وغير موقفكم من جهتي؟ ألتسم أنتم الذين أصغيتم إليَّ وخدمتموني، حاسبين إياي أثمن من عيونكم؟ فماذا حدث؟.. كان يجب عليكم بالحري أن تزيدوني تقديرًا أو تعيروني اهتمامكم، عوض أن تتخذوني عدوًا لكم، لأني أخبركم بالحق، فإني لا أجد علة أخرى لمقاومتكم لي غير هذه (توجيههم للحق وتحذيرهم من الكَذَبَة)“(266).
أَفَقَدْ صِرْتُ إِذًا عَدُوًّا لَكُمْ لأَنِّي أَصْدُقُ لَكُمْ.. حاول المتهودون قدر طاقتهم أن يثيروا مشاعر عداء الغلاطيين ضد بولس الرسول، وخشى القديس بولس أن يذكّي هذه المشاعر العدائية، لذلك وضع الغلاطيين أمام أنفسهم، سائلًا إياهم: هل لأنني أقول الصدق ولا أراءى وأنطلق بالحق وأصدق في قولي تنقلبون ضدي هكذا؟!.. أليس من المفروض أن محبتكم لي تزداد بسبب صدقي معكم؟! فأنا أخبرتكم عن انحرافكم عن الإيمان المستقيم، فكنت أستحق منكم الشكر والثناء، فكيف تنظرون إليَّ كعدو؟!.. ألم يقل الكتاب: ” أَمِينَةٌ هي جُرُوحُ الْمُحِبِّ وَغَاشَّةٌ هي قُبْلاَتُ الْعَدُوِّ” (أم 27: 6)؟!.. لقد كان مبدأ بولس الرسول الأمانة والصدق والحق وهكذا أوصى أولاده: “صَادِقِينَ فِي الْمَحَبَّةِ“ (أف 4: 15).. “غَيْرَ سَالِكِينَ فِي مَكْرٍ وَلاَ غَاشِّينَ كَلِمَةَ اللَّهِ“ (2كو 4: 2)، وكان بولس الرسول صادقًا أيضًا في مقاومة بدعة التهوُّد باذلًا قصارى جهده ليخلص أولاده من أنياب الإخوة المتهوّدين الكذبة.
ويقول “فؤاد حبيب“: “يشير الرسول هنا إلى ما حدث في زيارة ثانية كشف فيها مبادئ المنادين بالتهوُّد، ويتساءل متعجبًا، أفقد صرتُ عدوًا لكم لأني كلّمتكم بكلمات الصدق والصحو؟!
(1) العداوة التي نشأت بسبب التكلُّم بالحق تدل على حيدان عظيم عن الحق: والذي يتكلّم بالحق قد يكون نصيبه البغضة لأنه يسبب الألم لمستمعيه، لكن الألم يكشف عن وجود خطأ دفين، والناس عادة يكرهون الذين يعلمون بأخطائهم.
(2) الذي يكلّمنا بالحق هو أعظم وأخلص صديق (أم 17: 6).
(3) شجاعة الرسول وتضحياته: لم يتأخر عن أن يخبر الغلاطيين بالحق حتى لو كان ذلك على حساب الصداقة الشخصية. إن الخلاص الذي يعلنه الإنجيل لا يمكن التضحية به بأي ثمن، وهذا الخلاص معلَّق على الحق الإلهي، ولا يمكن خيانة الحق أو التضحية بالخلاص.
(4) إن كان إعلان الحق يعرضنا لعداوة الناس فلا يهم: لكن ما يهمنا بالدرجة الأولى أن نكون مرضيين عند اللَّه “أَمَّا أَنَا فَأَقَلُّ شَيْءٍ عِنْدِي أَنْ يُحْكَمَ فِيَّ مِنْكُمْ أَوْ مِنْ يَوْمِ بَشَرٍ ” (1كو 4: 3).
(5) لقد رأى الرسول أنهم قد يرجعون إلى صوابهم: عندما يتكشفون أنه وهو الصديق قد تحوَّل في عيونهم إلى عدو ليس لأي شيء إلاَّ لأنه قد كلمهم بالحق” (267).
“يَغَارُونَ لَكُمْ لَيْسَ حَسَنًا بَلْ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّوكُمْ لِكَيْ تَغَارُوا لَهُمْ. حَسَنَةٌ هي الْغَيْرَةُ فِي الحُسْنَى كُلَّ حِينٍ وَلَيْسَ حِينَ حُضُورِي عِنْدَكُمْ فَقَطْ“(غل 4: 17، 18).
يَغَارُونَ لَكُمْ لَيْسَ حَسَنًا.. من هم الذين يغارون؟.. أنهم المتهوّدون الذين استطاعوا أن يخدعوا قلوب الغلاطيين ويفسدوا إيمانهم القويم، وقد أقنعوهم بضرورة الختان وتتميم وصايا وأحكام وفرائض الناموس من أجل خلاصهم، وبذلك عادوا بهم إلى الأركان الضعيفة الفقيرة، وشتان بين كرازة هؤلاء المتهوّدين وكرازة بولس، فكرازة المتهوّدين اختلطت بالأنانية والغيرة الخاطئة، بينما كان بولس صادقًا وأمينًا في كرازته، وكان هدف المتهوّدين مجد أنفسهم وترسيخ عقائدهم الفاسدة، بينما كان هدف بولس الأول والأخير هو مجد المسيح وخلاص أنفس أولاده، وسَحَرَ المتهوّدون الغلاطيين بمعسول كلامهم وقبلاتهم الغاشة بينما بذل بولس الرسول في خدمته كل رخيص ونفيس فصار ينفق ويُنفَق حتى بذل دمه، واسترقَّ المتهوّدون قلوب البسطاء وهم غير صادقين بينما وضع بولس الرسول الغلاطيين أمام الحقيقة المجرَّدة.
ويقول “متى هنري“: “هنا يصف الرسول شخصية المعلمين الكذبة عندما يقول عنهم للغلاطيين:
بأنهم أُناس يجيدون وضع الخطط التي يهدفون منها تنصيب أنفسهم “يَغَارُونَ لَكُمْ” فيريد الرسول أن يقول: أنهم يظهرون لكم الكثير من المشاعر ولكن ليس حسنًا أنهم: “يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّوكُمْ لِكَيْ تَغَارُوا لَهُمْ“، بمعنى أنهم يهدفون أساسًا إلى استمالة مشاعركم إليهم عندما يُظهرون أنفسهم بأنهم غيورين جدًا عليكم، ولكنهم لا يضمرون لكم إلاَّ القليل من الحق والإخلاص“(268).
ويقول “الأب متى المسكين“: “يكشف هنا القديس بولس -بنعمة اللَّه- التواء المكر والخداع الذي يعمل به هؤلاء القوم الذين يدَّعون الأمانة على الإيمان والغيرة التعليمية الأبوية الصادقة على هؤلاء الغلاطيين المخدوعين بمكر الحيَّة ودهائها، فيرى ق. بولس في أمانتهم للأمانة ما هو ليس حسنًا بل سوء نية والتفافًا على غباوتهم. أما الغيرة التعليمية فهي أدوات الغش والخداع التي جلبت عليه الحيَّة القديمة في إلباس الفخ ثوب الحسن والبهاء، والقصد شرير لإبعادهم عن حق اللَّه وإنجيل المسيح، لكي لا يغاروا للَّه الغيرة المقدَّسة بل يستحوذون على غيرتهم لتعمل لحسابهم وأهدافهم!
وكانت الخدعة المميتة التي دسَّها هؤلاء اليهود المزعجون في تعليمهم لأهل غلاطية هي أنهم سحبوهم من تحت الإيمان بالمسيح، ليعودوا إلى إيمان موسى وعمل الفرائض وغلَّفوا خدعتهم بمظهر الغيرة نحوهم لكي يصيّروهم أولادًا لإبراهيم وتلاميذ لموسى“(269).
يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّوكُمْ لِكَيْ تَغَارُوا لَهُمْ.. إن الإخوة المتهوّدين الكذبة “يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّوكُمْ“ أي يبعدونكم عني ويقطعون علاقتكم بيّ ويوصدون أبواب الملكوت أمامكم، وقوله “لِكَيْ تَغَارُوا لَهُمْ“ أي تعتقدوا بعقيدتهم وتتعصبوا لتعاليمهم وتغيرون عليهم، ولذلك قال لهم بولس الرسول: “قَدْ تَبَطَّلْتُمْ عَنِ الْمَسِيحِ أَيُّهَا الَّذِينَ تَتَبَرَّرُونَ بِالنَّامُوسِ. سَقَطْتُمْ مِنَ النِّعْمَةِ“ (غل 5: 4)، ولمثل هؤلاء المتهوّدين قال مُعلِّمنا يعقوب: “إِنْ كَانَ لَكُمْ غَيْرَةٌ مُرَّةٌ وَتَحَزُّبٌ فِي قُلُوبِكُمْ فَلاَ تَفْتَخِرُوا وَتَكْذِبُوا عَلَى الْحَقِّ. لَيْسَتْ هذِهِ الْحِكْمَةُ نَازِلَةً مِنْ فَوْقُ بَلْ هي أَرْضِيَّةٌ نَفْسَانِيَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ. لأَنَّهُ حَيْثُ الْغَيْرَةُ وَالتَّحَزُّبُ هُنَاكَ التَّشْوِيشُ وَكُلُّ أَمْرٍ رَدِيءٍ“ (يع 3: 14-16).. “احترز من الخدام الكذبة وأرفضهم. لاحظ أن المعلمين الكذبة (المتهوّدين، المتحمسين حماسة دينية مغالَ فيها) كانوا غيورين في تعليمهم، وكانوا يعتزمون ضمان أكبر عدد من الأتباع بقدر الإمكان. ولاحظ كيف شرعوا في ذلك بصد الناس ومحاولة إبعادهم عن خادم اللَّه. لم يكونوا يستميلوا الناس فقط عن طريق ما لهم من مزايا تعليمهم، ولكنهم هاجموا ومزَّقوا الخادم لكي يبعدوا الناس عنه. لاحظ الفرق بين ما يفعله الخادم المسيحي (بولس) وما كان يفعله الكذبة“(270).
حَسَنَةٌ هي الْغَيْرَةُ فِي الْحُسْنَى كُلَّ حِينٍ.. قديمًا عيَّر جليات صفوف اللَّه الحي ولم يجرؤ أحد أن يتصدى له، لأن كل منهم بما فيهم ملكهم خشيَ على نفسه من عواقب الهزيمة، أما داود وهو فتى فكان لديه إيمان وغيرة أكثر من أي منهم، فقال: “مَنْ هُوَ هذَا الْفِلِسْطِينِيُّ الأَغْلَفُ حَتَّى يُعَيِّرَ صُفُوفَ اللَّهِ الْحَيِّ“ (1صم 17: 26)، فخاطر بحياته وقتل جليات، كما حمل إيليا النبي الناري غيرة قوية في قلبه، وقال للرب: “قَدْ غِرْتُ غَيْرَةً لِلرَّبِّ إِلهِ الْجُنُودِ لأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ تَرَكُوا عَهْدَكَ وَنَقَضُوا مَذَابِحَكَ وَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَكَ بِالسَّيْفِ” (1مل 19: 10)، وعندما رأى ابن داود حُرمة الهيكل تنتهك حمل سوطًا وطرد الصيارفة وباعة الحمام، وقال لهم: “بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ“.. “فَتَذَكّرَ تَلاَمِيذُهُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ: غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي“ (يو 2: 17)، ورسول الأمم كان لديه هذه الغيرة الواعية المقدَّسة نحو أولاده: “فَإِنِّي أَغَارُ عَلَيْكُمْ غَيْرَةَ اللَّهِ لأَنِّي خَطَبْتُكُمْ لِرَجُل وَاحِدٍ لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ” (2كو 11: 2)، بينما كان لليهود غيرة بلا معرفة: “لأَنِّي أَشْهَدُ لَهُمْ أَنَّ لَهُمْ غَيْرَةً ِللَّهِ وَلكِنْ لَيْسَ حَسَبَ الْمَعْرِفَةِ“ (رو 10: 2)، كما امتلأ الفريسيون غيرة وحسدًا، حتى أن السيد المسيح قال لهم: “لأَنَّكُمْ تَطُوفُونَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ لِتَكْسَبُوا دَخِيلًا وَاحِدًا وَمَتَى حَصَلَ تَصْنَعُونَهُ ابْنًا لِجَهَنَّمَ أَكْثَرَ مِنْكُمْ مُضَاعَفًا” (مت 23: 15) وعلى نفس المنوال غَزَلَ المتهوّدون.. الغيرة لدى الحكماء سلاح فتّاك ضد قوات الظلمة، أما الغيرة في أيدي الجهلاء فهي سيف نصال في يد هوجاء ضد ما هو حق وعادل ومقدَّس.
حَسَنَةٌ هي الْغَيْرَةُ فِي الْحُسْنَى كُلَّ حِينٍ.. يجاهد رسول الأمم لكيما يعيد أولاده إلى محبتهم الأولى وغيرتهم الأولى، فقد كانوا يغيرون على إيمانهم حتى أنهم تحمّلوا ما تحمّلوا من أجل هذا الإيمان، فالغيرة الحسنة تدفع الإنسان في الطريق الصحيح، والغيرة الحسنة تُزرع في تربة جيدة وتثمر فضائل حسنة، أما غيرة هؤلاء المتهوّدين فلم تكن حسنة، فقد سعوا نحو التفاخر بأعمالهم والسيطرة والهيمنة على الغلاطيين.
ويقول “فؤاد حبيب“:
“(1) الغيرة المسيحية يجب أن تكون بدافع مسيحي، المحبة للمسيح، المحبة للحق، المحبة لنفوس الناس، وهذه هي الغيرة التي حسب المعرفة.
(2) يجب أن يكون هدف الغيرة مجد اللَّه واستعلان الحق.
(3) يجب أن تكون الغيرة دائمة “كُلَّ حِينٍ“. هناك صعوبات عديدة تعترض طريق الغيرة، ولكن المؤمن الحقيقي تظهر غيرته دائمًا.
(4) يجب أن تكون الغيرة مستقلة عن المؤثرات الخارجية، سواء كان المعلمون الأمناء حاضرين أو غائبين“(271).
وَلَيْسَ حِينَ حُضُورِي عِنْدَكُمْ فَقَطْ.. عندما كان بولس الرسول وسط أولاده في غلاطية كانوا يُظهرون محبتهم الشديدة له وغيرتهم عليه، حتى تمنُّوا أن يقدّموا أعينهم له، ولكن عندما غاب عنهم استغل المتهوّدون الكَذَبَة غيابه فسلبوا قلوب أولئك الغلاطيين وساروا بهم في طريق معوج، ولو كان بولس هناك ما استطاع المتهوّدون فعل ذلك، فوجود بولس وسطهم كان يشعل الغيرة المقدَّسة في قلوبهم تجاه الملكوت، فهو الذي عاين ورأى أمجاد الفردوس، وهو الأقدر على نقل هذه المشاعر وتلك الأحاسيس المقدَّسة التي لا يُعبَّر عنها بلغة بشرية، وتظهر اشتياقات بولس الرسول في أنه كان يشتهي لو تظل هذه الغيرة المقدَّسة مشتعلة في قلوب الغلاطيّين ولا تخبو بفعل المتهوّدين والمعلمين الكذبة.. أنه يثير فيهم الحنين إلى محبتهم الأولى وإلى غيرتهم الحسنة: ” إِذًا يَا أَحِبَّائِي كَمَا أَطَعْتُمْ كُلَّ حِينٍ لَيْسَ كَمَا فِي حُضُورِي فَقَطْ بَلِ الآنَ بِالأَوْلَى جِدًّا فِي غِيَابِي تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ. لأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ” (في 2: 12، 13).
“يَا أَوْلاَدِي الَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضًا إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ. وَلكِنِّي كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ حَاضِرًا عِنْدَكُمُ الآنَ وَأُغَيِّرَ صَوْتِي لأَنِّي مُتَحَيّرٌ فِيكُمْ“ (غل 4: 19، 20).
يَا أَوْلاَدِي الَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ.. يتخطى بولس الرسول الحواجز الرسمية ويكشف لهم عن أعماق محبته، فدعاهم أولاده، وهم بالحقيقة هكذا لأنهم ثمرة بشارته وكرازته وتعبه وجهاده، وليس هناك كلمة أكثر تعبيرًا عن علاقة الخادم بمخدوميه مثل كلمة “أَوْلاَدِي“، وتعبير “أَوْلاَدِي“ المُستخدم هنا في الأصل اليوناني يعني الأولاد الصغار، وعندما يتم استخدامه للتعبير عن الكبار فهو يحمل عمق العواطف والأحاسيس الأبوية، ولذلك استخدم يوحنا الحبيب هذا التعبير عدّة مرات، وقال بولس الرسول: “بَلْ كَأَوْلاَدِي الأَحِبَّاءِ أُنْذِرُكُمْ. لأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَكُمْ رَبَوَاتٌ مِنَ الْمُرْشِدِينَ فِي الْمَسِيحِ لكِنْ لَيْسَ آبَاءٌ كَثِيرُونَ. لأَنِّي أَنَا وَلَدْتُكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ بِالإِنْجِيلِ“ (1كو 4: 14، 15)، وتشفَّع بولس الرسول لدى فليمون عن أنسيمس العبد الهارب من سيده قائلًا: “أَطْلُبُ إِلَيْكَ لأَجْلِ ابْنِي أُنِسِيمُسَ الَّذِي وَلَدْتُهُ فِي قُيُودِي“ (فل 10).. لقد قاد بولس الرسول الآلاف والربوات للإيمان بالمسيح لأنهم شعروا بمحبته الأبوية، وهوذا رسول الأمم تارة يثير في الغلاطيين مشاعر الإخوة: “أَتَضَرَّعُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ“ (غل 4: 12)، وتارة روح البنوة: “يَا أَوْلاَدِي الَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ“، فهو يتحايل عليهم مُصرًّا أن لا يتركهم فريسة لوحش الارتداد والتهوُّد.
يَا أَوْلاَدِي الَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ.. لقد عانى موسى النبي من رعاية الشعب العنيد القاسي الرقبة حتى قال للَّه: “أَلَعَلِّي حَبِلْتُ بِجَمِيعِ هذَا الشَّعْبِ أَوْ لَعَلِّي وَلَدْتُهُ حَتَّى تَقُولَ لِي احْمِلْهُ فِي حِضْنِكَ كَمَا يَحْمِلُ الْمُرَبِّي الرَّضِيعَ“ (عد 11: 12)، فالرعاية أبوة وأمومة، وهنا يشبه بولس الرسول نفسه بالأم التي تتمخّض لكيما تلد، وهذه صورة رائعة للأمومة، وساعات المخاض ساعات صعبة وقاسية تقاسيها المرأة وهي تلد، ولكنها عندما تلد تنسى هذه الآلام: ” اَلْمَرْأَةُ وهي تَلِدُ تَحْزَنُ لأَنَّ سَاعَتَهَا قَدْ جَاءَتْ وَلكِنْ مَتَى وَلَدَتِ الطِّفْلَ لاَ تَعُودُ تَذْكُرُ الشِّدَّةَ لِسَبَبِ الْفَرَحِ لأَنَّهُ قَدْ وُلِدَ إِنْسَانٌ في العَالَمِ” (يو 16: 21).
ويقول “الدكتور القس غبريال رزق اللَّه“: “الكنيسة، في خُدّامها الأمناء وعامليها الأتقياء، تقاسي في طريق ولادتها “لأبناء المجد” آلامًا لا تُطاق، عبَّر عنها الرسول نفسه قائلًا: “فِي تَعَبٍ وَكَدٍّ. فِي أَسْهَارٍ مِرَارًا كَثِيرَةً. فِي جُوعٍ وَعَطَشٍ. فِي أَصْوَامٍ مِرَارًا كَثِيرَةً. فِي بَرْدٍ وَعُرْيٍ. عَدَا مَا هُوَ دُونَ ذلِكَ. الترَاكُمُ عَلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ. الاهْتِمَامُ بِجَمِيعِ الكَنَائِسِ. مَنْ يَضْعُفُ وَأَنَا لاَ أَضْعُفُ. مَنْ يَعْثُرُ وَأَنَا لاَ أَلْتَهِبُ” (2كو 11: 27-29).
أحشاء تتحرّك متمخضة وهي تتوجع لأنها أحشاء رأفات (كو 3: 12) هي ذات الأحشاء التي أنشد بها زكريا الكاهن قائلًا: “بِأَحْشَاءِ رَحْمَةِ إِلهِنَا الَّتِي بِهَا افْتَقَدَنَا الْمُشْرَقُ مِنَ الْعَلاَءِ” (لو 1: 78).. وهل يمكن أن أحشاء الرحمة والرأفات لا تتحرَّك متوجعة ومتمخضة لأجل أولادها الذين تراهم منحدرين في طريق الارتداد والاستعباد“(272).
يَا أَوْلاَدِي الَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ.. الخادم الحقيقي ينظر لمخدوميه سواء المريحين أو المتعبين على أنهم أولاده الأعزاء، ليس لديه أي استعداد للتضحية بأي أحد منهم، يفرح لفرحهم ويتألم لآلامهم، ويسهر لحراستهم، فقد ولدهم للمسيح عندما قبلوا الإيمان بالمسيح، وعندما يضلون يعود ويتمخّض بهم ثانية إلى أن تظهر صورة المسيح واضحة فيهم.
ويقول “متى هنري“: ” في هذين العددين (ع 19، 20) يُعبّر الرسول عن مشاعره من نحوهم إذ لم يكن مثلهم، فهم يكونون في حالة معينة (من الفرح) عندما يكون هو معهم، وفي أخرى (فاترة) إذا ما افترق عنهم، كما أنه ليس كمعلميهم الكذبة الذين طالما أظهروا لهم مشاعر عظيمة، ولكنه في ذات الوقت كانوا يهدفون مصلحتهم منها. وهو يخاطبهم بأنهم أولاده، ولكنه في الحقيقة قد دعاهم أطفاله وذلك لأنهم تصرَّفوا معه ما أظهرهم بأنهم مثل الأطفال، وبالرغم من هذا فقد عبَّر عن عظيم اهتمامه بهم، إذ كان يتمخض بهم إلى أن يتصوَّر المسيح فيهم. أي حتى يكونون مسيحيين حقيقيين. من كل هذا نلاحظ:
أولًا: المشاعر الرقيقة جدًا التي يتمتّع بها خدام الرب الأمناء تجاه مَن يخدمونهم، فهي شبيهة بمشاعر الآباء ذوي العواطف الحارة تجاه أطفالهم.
ثانيًا: أشواق هؤلاء الخدام الأمناء الأساسية لمن يخدمونهم: وهي أن يتصوَّر المسيح في كل واحد منهم، ويا لفداحة التصرف غير المسئول الذي يصدر عن أولئك الذين يسمحون لأنفسهم بإهمال خدامهم الأمناء أو يظهرون كراهية لهم“(273).
ويقول “دكتور وليم آدي“: “أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضًا حسب تعبه في الإتيان بهم من تمسكهم بالأوثان إلى المسيح كألم الوالدة. ومثل حزنه بارتدادهم عن الحق وشوقه الشديد إلى رجوعهم إلى إيمانهم الأول ومحبتهم الأولى بألم الوالدة عند الولادة. وقال “أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضًا” لأنه اعتبرهم محتاجين إلى أن يوُلدوا ثانية بعد ارتدادهم كأن نجاتهم من التعليم اليهودي الكاذب وعودتهم إلى الإنجيل الحق الذي بشر به ليست أقل شأنًا من نجاتهم أولًا من عبادة الأوثان، وأن اهتمامه وتعبه وحزنه في الثانية ليست أقل منها في الأولى. وغني عن البيان ما في ذلك من المجاز وعدم تمام مطابقته للواقع حقيقة لأنه لا يمكن الإنسان أو يُولد غير مرة واحدة ولادة روحية كما لا يمكنه أن يُولد غير مرة واحدة ولادة طبيعية بدليل قوله: “لأَنَّ الَّذِينَ اسْتُنِيرُوا مَرَّةً وَذَاقُوا الْمَوْهِبَةَ السَّمَاوِيَّةَ وَصَارُوا شُرَكَاءَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. وَذَاقُوا كَلِمَةَ اللَّه الصَّالِحَةَ وَقُوَّاتِ الدَّهْرِ الآتِي. وَسَقَطُوا لاَ يُمْكِنُ تَجْدِيدُهُمْ أَيْضًا لِلتَّوْبَةِ” (عب 6: 4 – 6)“(274).
إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ.. أي إلى أن تصلّوا إلى مرحلة النضج الكامل في حياتكم الروحية بعمل الروح القدس الساكن فيكم، فمن قبل قال لهم: “أَنْتُمُ الَّذِينَ أَمَامَ عُيُونِكُمْ قَدْ رُسِمَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ بَيْنَكُمْ مَصْلُوبًا“(غل 3: 1)، والآن يقول لهم إني أتمخّض بكم “إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ“ فاشتياقات القديس بولس كأب أن يُرسَم ويُصوَّر المصلوب أمام عيون أولاده وفي قلوبهم عندئذٍ تتنقى حياتهم ويصيرون كمرآة نقية يرى فيها الآخرون صورة المسيح، فتكون أعظم شهادة، وعندئذٍ ينظر إليهم على أنهم إكليله ومجده: “مَنْ هُوَ رَجَاؤُنَا وَفَرَحُنَا وَإِكْلِيلُ افْتِخَارِنَا. أَمْ لَسْتُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا أَمَامَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ فِي مَجِيئِهِ. لأَنَّكُمْ أَنْتُمْ مَجْدُنَا وَفَرَحُنَا“ (1تس 2: 19، 20).
وَلكِنِّي كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَكُونَ حَاضِرًا عِنْدَكُمُ.. هذه رغبة القديس بولس أن يكون حاضرًا وسط أولاده في غلاطية ليتكلّم معهم فمًا لفم عوضًا عن الكتابة لهم، يتفاهم معهم في جميع مشاكلهم ويحل لهم كل الصعوبات التي تعترض حياتهم الروحية، يحنو أو يقسو عليهم بحسب طبيعة حالهم، كقوله لأهل كورنثوس: “مَاذَا تُرِيدُونَ. أَبِعَصًا آتِي إِلَيْكُمْ أَمْ بِالْمَحَبَّةِ وَرُوحِ الْوَدَاعَةِ“ (1كو 4: 21).
وَأُغَيِّرَ صَوْتِي لأَنِّي مُتَحَيِّرٌ فِيكُمْ.. أي أُغيّر نبرة صوتي وطريقة حديثي معكم، فأتحدَّث إليكم بلطف وحنو عوضًا عن التوبيخ الصارم، لأنني في الحقيقة إني متحيّر بأي أسلوب أخاطبكم وقد انتقلتم سريعًا من الإنجيل الذي بشرتكم به إلى إنجيل آخَر، ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: “لم يستطع الرسول أن يكتم مشاعره، وهذه طبيعة المحبة لقد رغب أن يكون حاضرًا في وسطهم ليتمكّن من تغيير صوته برثاء وبكاء وأنين بسبب ما حدث. كما أنه متحيّر فيهم: ماذا يقول وكيف يفكّر؟ كيف أن الذين قبلوا الكلمة في أخطار كثيرة وأثمرت فيهم بالمعجزات التي رفعتهم إلى السماء يسقطون هكذا فجأة إلى أعماق الانحلال فيرتبطون بالختان والسبت معتمدين وواثقين في أولئك اليهود؟ وحين يفاجئ الإنسان بحيرة غير متوقعة يجهش بالبكاء، لهذا يقول الرسول لأساقفة أفسس: “ثَلاَثَ سِنِينَ لَيْلًا وَنَهَارًا لَمْ أَفْتُرْ عَنْ أَنْ أُنْذِرَ بِدُمُوعٍ كُلَّ وَاحِدٍ” (أع 20: 31) وهكذا أفحمهم بولس بالأدلة، ثم شجعهم ثم بكى! ولما لانت قلوبهم بدموعه عاد إلى المناقشة يُكملها بجرأة أكثر مؤكدًا أن الناموس يحمل في نفسه أدلة عجزه، وإننا حين نتركه فنحن في الحقيقة نطيعه“(275).
لأَنِّي مُتَحَيِّرٌ فِيكُمْ.. فلا أعرف رد فعلكم على رسالتي هذه ومدى اقتناعكم بما جاء فيها من حوارات وأدلة، هل هي كافية أم أنكم مرتابين فيها فتحتاجون للمزيد، ولو كنت عندكم لعرفت رد فعلكم ولغيرت لهجتي، فإن كنتم تطيعون فأنتم تستحقون الحنو واللطف والتشجيع، أما إن كنتم متكبرون وتتمسّكون بأفكار المتهودين فأنتم تحتاجون للمزيد من التقريع والتوبيخ، ويقول “ماكدونل“: “إن بولس كان متحيّرًا بالنسبة لموقف الغلاطيين الحقيقي.. فهو يفضل لو استطاع أن يتكلم معهم فمًا لفم، وعندئذٍ يقدر أن يعبّر عن نفسه بشكل أفضل إذ يغير لهجة صوته. إذ ذاك يستطيع أن يخفّف من حدة لهجته إن هم تجاوبوا مع التوبيخ ويتحدث بحزم إذ تعالوا وتمردوا. وأما بالرسالة فأنه كان متحيّرًا من جهتهم لأنه لم يكن يعلم ردة فعلهم الحقيقية على تعليمه”(276).
رابعًا: التفسير الرمزي لزوجتيّ إبراهيم (غل 4: 21-31):
“قُولُوا لِي أَنْتُمُ الَّذِينَ تُرِيدُونَ أَنْ تَكُونُوا تَحْتَ النَّامُوسِ أَلَسْتُمْ تَسْمَعُونَ النَّامُوسَ. فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ كَانَ لإِبْرَاهِيمَ ابْنَانِ وَاحِدٌ مِنَ الْجَارِيَةِ وَالآخَرُ مِنَ الْحُرَّةِ. لكِنَّ الَّذِي مِنَ الْجَارِيَةِ وُلِدَ حَسَبَ الْجَسَدِ وَأَمَّا الَّذِي مِنَ الْحُرَّةِ فَبِالْمَوْعِدِ. وَكُلُّ ذلِكَ رَمْزٌ لأَنَّ هَاتَيْنِ هُمَا الْعَهْدَانِ أَحَدُهُمَا مِنْ جَبَلِ سِينَاءَ الْوَالِدُ لِلْعُبُودِيَّةِ الَّذِي هُوَ هَاجَرُ. لأَنَّ هَاجَرَ جَبَلُ سِينَاءَ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَلكِنَّهُ يُقَابِلُ أُورُشَلِيمَ الْحَاضِرَةَ فَإِنَّهَا مُسْتَعْبَدَةٌ مَعَ بَنِيهَا. وَأَمَّا أُورُشَلِيمُ الْعُلْيَا الَّتِي هي أُمُّنَا جَمِيعًا، فهي حُرَّةٌ. لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ افْرَحِي أَيَّتُهَا الْعَاقِرُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ. اِهْتِفِي وَاصْرُخِي أَيَّتُهَا الَّتِي لَمْ تَتَمَخَّضْ فَإِنَّ أَوْلاَدَ الْمُوحِشَةِ أَكْثَرُ مِنَ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ. وَأَمَّا نَحْنُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَنَظِيرُ إِسْحَاقَ أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ. وَلكِنْ كَمَا كَانَ حِينَئِذٍ الَّذِي وُلِدَ حَسَبَ الْجَسَدِ يَضْطَهِدُ الَّذِي حَسَبَ الرُّوحِ هكَذَا الآنَ أَيْضًا. لكِنْ مَاذَا يَقُولُ الْكِتَابُ اطْرُدِ الْجَارِيَةَ وَابْنَهَا، لأَنَّهُ لاَ يَرِثُ ابْنُ الْجَارِيَةِ مَعَ ابْنِ الْحُرَّةِ. إِذًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ لَسْنَا أَوْلاَدَ جَارِيَةٍ بَلْ أَوْلاَدُ الْحُرَّةِ“(غل 4: 21-31).
في هذه الفقرة يستكمل بولس الرسول حواره ومجادلاته مع المتهوّدين الذين عشقوا عبودية الناموس ونيره، فبعد الفقرة السابقة (غل 4: 12-20) والتي توقَّف فيها الحوار مؤقتًا، يعود بولس الرسول ليشرح التفسير الرمزي لزوجتي إبراهيم، وكان الربيون يفسرون النصوص المقدَّسة بأربعة طرق وهو بالمعنى الحرفي البسيط المباشر، وبالمعنى الذي يمكن استنتاجه، وبالمعنى العميق الذي يصلون إليه عبر الدراسات الطويلة، وأخيرًا بالمعنى الرمزي وهو الذي اتبعه بولس الرسول هنا، فتحدَّث عن الوضع التاريخي لابني إبراهيم وزوجتيه (غل 4: 22، 23) ثم قام بتفسير هذا الوضع التاريخي (غل 4: 24 – 27) وأخيرًا طبق الوضع التاريخي وخلص بنتيجة نهائية (غل 4: 28-31)، فإن الناموس يخبرنا أنه كان لإبراهيم زوجتان هما: سارة امرأته، وهاجر جارية سارة، وهاتان الزوجتان كانتا رمزًا للعهدين القديم والجديد:
1 هاجر الجارية تشير للعهد القديم والناموس الذي تسلَّمه موسى فوق جبل سيناء في وسط طبيعة مضطربة والجبل يدخن كأنه آتون نار لأن الرب نزل عليه، وربط بولس الرسول بين هاجر وجبل سيناء “لأن هاجر جبل سيناء في العربية“ وجبل سيناء يقابله أورشليم الأرضية المستعبدة مع بنيها تحت حكم الرومان، وولدت هاجر إسماعيل بحسب الطبيعة البشرية ومشورة سارة، فهو مولود بحسب الجسد.
2 سارة الزوجة الحُرّة وهي تشير للعهد الجديد وعصر النعمة، وقد وُلِدَت إسحق بطريقة معجزية فائقة للطبيعة، فإسحق هو ابن الوعد، وسارة تقابل أورشليم السمائية العليا أمنا جميعًا.
وكان إسماعيل الذي وُلِدَ حسب الجسد بمشورة بشرية يمزح مع إسحق ابن الموعد ويضايقه، فطلبت سارة من إبراهيم أن يطرد هاجر الجارية وابنها ففعل هكذا، فوجود هاجر وإسماعيل المؤقت هو إشارة للناموس الذي أُعطيَ بصفة مؤقتة، أما بقاء سارة وإسحق في البيت فهو إشارة لعهد النعمة الثابت، فالابن يبقى في البيت إلى الأبد أما العبد فلا يبقى في البيت إلى الأبد، وهكذا عصر النعمة يدوم أما عصر الناموس فيزول، وكما كان إسماعيل المولود حسب الجسد يضايق إسحق ابن الموعد، هكذا المتهوّدون المتمسكون بالناموس يضطهِدون المتمسكين بالنعمة الإلهيَّة.
وهذه الفقرة غنية بالمعاني كما سنرى في الشرح، وتعتبر الضربة القوية التي وجهها بولس الرسول إلى المتهوّدين والمعلمين الكذبة، فهو يكلمهم بلغتهم، ويواجههم بما يتمسَّكون به، فهم يتمسَّكون بالناموس فيحاورهم من الناموس، يدَّعون أنهم أبناء إبراهيم الذي حفظ عهد الختان فيستخدم قصة إبراهيم وزوجته ونسله لدحض آرائهم الخاطئة، ويركز على ما هو معروف ومقبول لدى الجميع، يستعرض القصة ويستخلص بنعمة الروح القدس نتائج باهرة يعجز أمامها هؤلاء المعلمين عن الاعتراض عليها.. لقد تعلَّم بولس الرسول من سيده عندما أجاب على الفريسيين والكتبة الذين قصدوا أن يجرّبوه حيث كلمهم بلغتهم وسألهم قائلًا: “مَاذَا تَظُنُّونَ فِي الْمَسِيحِ ابْنُ مَنْ هُوَ. قَالُوا لَهُ ابْنُ دَاوُدَ. قَالَ لَهُمْ فَكَيْفَ يَدْعُوهُ دَاوُدُ بِالرُّوحِ رَبًّا قَائِلًا: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي اجْلِسْ عَنْ يَمِيني حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ. فَإِنْ كَانَ دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبًّا فَكَيْفَ يَكُونُ ابْنَهُ. فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يُجِيبَهُ بِكَلِمَةٍ. وَمِنْ ذلِكَ الْيَوْمِ لَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ أَنْ يَسْأَلَهُ بَتَّةً“(مت 22: 42 – 46).
ويقول “الأب متى المسكين“: “إذًا فهناك في حياة إبراهيم عهدان: عهد الختان الذي أخذه في حياة إسماعيل وبوجود هاجر العبدة. وعهد الموعد الذي سيقيمه اللَّه في “نسله”. العهد الأول كان يرمز كما يرى ق. بولس للعبودية لأنه أخذه في حياة إسماعيل من هاجر. والعهد الثاني كان يرمز للحرية لأنه قد أخذه في حياة إسحق الذي وُلِد من سارة..
وهكذا كما عبر إبراهيم على عهد الختان – رمز العبودية – بسبب إسماعيل وهاجر، ثم عهد الموعد رمز الحرية بسبب إسحق وسارة، هكذا عبر إسرائيل كله عهد العبودية في سيناء الذي هو عهد الختانة والناموس، حتى جاء عهد الموعد للحرية بالمسيح النسل الموعود”(277).
ويقول “الخوري بولس الفغالي“: “يعتبر بعض الشرَّاح أن موضوع سارة وهاجر هو موضوع غامض في الرسائل، ويعتبر آخرون أننا أمام ملحق نستطيع أن نستغني عنه. لا، لم يعتبره بولس ملحقًا، بل من صلب موضوعه، إذ أن عليه أن يرد على اعتراضين قدمهما المتهوّدون:
قالوا: نحن نسل إبراهيم. أجاب بولس: لا يكفي أن نكون نسل إبراهيم لكي نرث الموعد، فإسماعيل وعيسو كانا من نسل إبراهيم ومع ذلك فقد رُذلا..
وقالوا: أورشليم هي مدينتنا. أجاب بولس: أورشليم هي المدينة التي اختارها الرب ليقيم فيها اسمه. وهي الموضع الذي تُدعى إليه جميع الأمم من أجل حجّ – لسماع كلام اللَّه (إش 2: 2 – 4).. نحن أبناء سارة ونحن ننتمي إلى أورشليم السمائية..
من جهة العبودية، نجد هاجر وإسماعيل، نجد المولود بحسب الجسد، نجد سيناء وعهد العبودية، نجد أورشليم الحالية وإسماعيل المُضطهِد والمُبعد مع أمه. ومن جهة الحرية، نجد سارة حسب الروح بالنظر إلى الموعد، نجد أورشليم العليا التي وارثها إسحق وحده“(278).
” قُولُوا لِي أَنْتُمُ الَّذِينَ تُرِيدُونَ أَنْ تَكُونُوا تَحْتَ النَّامُوسِ أَلَسْتُمْ تَسْمَعُونَ النَّامُوسَ. فَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ كَانَ لإِبْرَاهِيمَ ابْنَانِ وَاحِدٌ مِنَ الْجَارِيَةِ وَالآخَرُ مِنَ الْحُرَّةِ. لكِنَّ الَّذِي مِنَ الْجَارِيَةِ وُلِدَ حَسَبَ الْجَسَدِ وَأَمَّا الَّذِي مِنَ الْحُرَّةِ فَبِالْمَوْعِدِ” (غل 4: 21 – 23).
قُولُوا لِي أَنْتُمُ.. بهذه العبارة التنبيهية يجتذب بولس الرسول أذهان الغلاطيين إليه بشدة، فهو مزمع أن يطرح أمامهم القضية، وعليهم أن يبدوا الرأي فيها ويعطون جوابًا عما حوته من أسئلة.
أَنْتُمُ الَّذِينَ تُرِيدُونَ أَنْ تَكُونُوا تَحْتَ النَّامُوسِ.. أنتم الذين استهوتكم عبودية الناموس، حتى أنكم فضّلتم أعمال الناموس عن تعاليم الإنجيل، وما أعجب أن ترى سجينًا قد أُطلِق سراحه وسريعًا ما يسعى جاهدًا للعودة إلى زنزانته؟! وما أعجب أن ترى طيرًا انفلت من القفص وسريعًا ما يسعى للعودة لقفصه ثانية؟!.. هكذا أنتم يا من حملتم نير عبودية الناموس وما أثقله! وأُغلق عليكم في سجن الخطية المُظلم، وبعد أن نلتم الحرية وعرفتم اللَّه الحي بل عُرفتم من اللَّه تسعون للعودة إلى نير عبودية الناموس وللأركان الضعيفة الفقيرة.. لاحظ أن القديس بولس أكثر من الحديث عن العبد والعبودية في هذا الإصحاح:
- قال عن القاصر:“لاَ يَفْرِقُ شَيْئًا عَنِ الْعَبْدِ“ (غل 4: 1).
- “لَمَّا كُنَّا قَاصِرِينَ كُنَّا مُسْتَعْبَدِينَ” (غل 4: 3).
- “إِذًا لَسْتَ بَعْدُ عَبْدًا بَلِ ابْنًا“(غل 4: 7).
- “اسْتُعْبِدْتُمْ لِلَّذِينَ لَيْسُوا بِالطَّبِيعَةِ آلِهَةً“(غل 4: 8).
- “تُرِيدُونَ أَنْ تُسْتَعْبَدُوا لَهَا مِنْ جَدِيدٍ“(غل 4: 9).
أَلَسْتُمْ تَسْمَعُونَ النَّامُوسَ.. كان الناموس أي أسفار موسى الخمسة تُقرأ عليهم كل يوم سبت وللأسف لم يفهموا ولم يدركوا، بل صارت أذهانهم غليظة: “أُغْلِظَتْ أَذْهَانُهُمْ لأَنَّهُ حَتَّى الْيَوْمِ ذلِكَ الْبُرْقُعُ نَفْسُهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْعَهْدِ الْعَتِيقِ بَاق غَيْرُ مُنْكَشِفٍ.. حَتَّى الْيَوْمِ حِينَ يُقْرَأُ مُوسَى الْبُرْقُعُ مَوْضُوعٌ عَلَى قَلْبِهِمْ“ (2كو 3: 14، 15).. وأيضًا قال الرب لإشعياء: “فَقَالَ اذْهَبْ وَقُلْ لِهذَا الشَّعْبِ اسْمَعُوا سَمْعًا وَلاَ تَفْهَمُوا وَأَبْصِرُوا إِبْصَارًا وَلاَ تَعْرِفُوا. غَلِّظْ قَلْبَ هذَا الشَّعْبِ وَثَقِّلْ أُذُنَيْهِ وَاطْمُسْ عَيْنَيْهِ لِئَلاَّ يُبْصِرَ بِعَيْنَيْهِ وَيَسْمَعَ بِأُذُنَيْهِ وَيَفْهَمَ بِقَلْبِهِ وَيَرْجعَ فَيُشْفَى” (إش 6: 9، 10).
ويقول “الدكتور القس غبريال رزق اللَّه“: “أما الإشارة في هذا “الْبُرْقُعُ” فهو الإشارة إلى ما في ذلك “النَّامُوسَ” من رموز أدبية، وطقوس كهنوتية مبرقعة مخفاة وراء الحجاب ألغازًا وأمثالًا لا يمكن اكتشافها وظهور معانيها الروحية العميقة إلاَّ برفع البُرقع الذي كان يرفعه موسى عندما يتكلَّم مع الرب. أما ذلك الشعب فكان يسمع الناموس ويقرأه في رموزه وطقوسه وفرائضه، مع كل أسفار العهد العتيق، والبُرقع موضوع على قلبهم، لأنهم لم يروا فيه “مجد الرب” الفائق الذي به ومنه تتكشَّف الأسرار والحقائق“(279).
أما الذين انطلقوا من عبودية الناموس إلى حرية المسيح فقد أدركوا الحقيقة: “وحَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ. وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ“ (2كو 3: 17، 18).
أَلَسْتُمْ تَسْمَعُونَ النَّامُوسَ.. ألستم تفهمون قصد الناموس والشرعية؟.. ألا تدركون أن الناموس أُعطيَ بصفة مؤقتة لكيما يؤدّبنا ويُهيّئنا لاستقبال المسيح؟!.. إن كنتم لا تسمعون للإنجيل الذي أُبشّر به فارجعوا إلى إبراهيم مفخرة اليهود جميعًا، وقارنوا بين زوجته هاجر الجارية المصرية مع ابنها إسماعيل المولود حسب الجسد، وسارة الحرة وابنها إسحق ابن الموعد المولود حسب المشيئة الإلهيَّة، لتدركوا مدى الفارق الشاسع بين عصر الناموس وعصر النعمة.
أَلَسْتُمْ تَسْمَعُونَ النَّامُوسَ.. في مثل الغني ولعازر طلب الغني من إبراهيم أن يُرسل لعازر لإخوته “قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ عِنْدَهُمْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءُ، لِيَسْمَعُوا مِنْهُمْ.. إِنْ كَانُوا لاَ يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَلاَ إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ“ (لو 16: 29، 31).. وهذا ما حدث مع هؤلاء المتهوّدين الذين لم يسمعوا من ناموس موسى، ولم يسمعوا أيضًا من المسيح القائم من الأموات. وقال السيد المسيح لليهود القائمين ضده: “لأَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي لأَنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي. فَإِنْ كُنْتُمْ لَسْتُمْ تُصَدِّقُونَ كُتُبَ ذَاكَ فَكَيْفَ تُصَدِّقُونَ كَلاَمِي“ (يو 5: 46، 47)، وعقب مثل الزارع قال السيد المسيح: “مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ“ (مت 13: 9) وعند تفسير المثل لتلاميذه قال لهم: “مِنْ أَجْلِ هذَا أُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَال لأَنَّهُمْ مُبْصِرِينَ لاَ يُبْصِرُونَ وَسَامِعِينَ لاَ يَسْمَعُونَ وَلاَ يَفْهَمُونَ“ (مت 13: 13).. لو أصغى هؤلاء المتهوّدين للناموس لسمعوه يقول لهم: أتركوني وأذهبوا وراء المسيح، فقد جئت لأهيئ البشرية لقبول المسيا الفادي.
كَانَ لإِبْرَاهِيمَ ابْنَانِ وَاحِدٌ مِنَ الْجَارِيَةِ وَالآخَرُ مِنَ الْحُرَّةِ.. كان اسم إبراهيم أولًا “أبرام“ أي أب عظيم القدر رفيع المقام، وبعد أن قطع اللَّه معه العهد دعاه “إبراهيم“ أي “أَبًا لِجُمْهُورٍ مِنَ الأُمَمِ“ (تك 17: 4)، وبسبب عقورية زوجته سارة طلبت منه أن يتزوَّج بجاريتها هاجر: “هُوَذَا الرَّبُّ قَدْ أَمْسَكَنِي عَنِ الْوِلاَدَةِ. ادْخُلْ عَلَى جَارِيَتِي لَعَلِّي أُرْزَقُ مِنْهَا بَنِينَ” (تك 16: 2)، وكان هذا أمر متعارف عليه في ذلك الزمان، وهذا واضح جدًا في شريعة حمورابي التي عُرفت في عصر إبراهيم، فولدت هاجر “إسماعيل“ وكان عمر أبرام نحو ستة وثمانين سنة: “فَوَلَدَتْ هَاجَرُ لأَبْرَامَ ابْنًا. وَدَعَا أَبْرَامُ اسْمَ ابْنِهِ الَّذِي وَلَدَتْهُ هَاجَرُ إِسْمَاعِيلَ“(تك 16: 15)، وظن أن هذا هو النسل الموعود به من قِبل اللَّه، ولكن كان للَّه رأي آخر، فأكد له أن النسل سيأتي من زوجته سارة، وبطريقة معجزية ولدت سارة إسحق ابن الموعد ولها من العمر تسعين عامًا وعمر زوجها مائة عام: “وَافْتَقَدَ الرَّبُّ سَارَةَ كَمَا قَالَ. وَفَعَلَ الرَّبُّ لِسَارَةَ كَمَا تَكَلَّمَ.. وَدَعَا إِبْرَاهِيمُ اسْمَ ابْنِهِ الْمَوْلُودِ لَهُ الَّذِي وَلَدَتْهُ لَهُ سَارَةُ إِسْحَقَ“(تك 21: 1، 3).
لكِنَّ الَّذِي مِنَ الْجَارِيَةِ وُلِدَ حَسَبَ الْجَسَدِ.. من الناحية البيولوجية ليس هناك أي فرق بين ولادة إسماعيل وولادة إسحق، بل أنهما وُلِدا من أب واحد.. إذًا ما هو قصد بولس الرسول من قوله أن إسماعيل وُلِد حسب الجسد؟.. أي أنه وُلِد ولادة طبيعية عادية بحسب الطبيعة البشرية، أما ولادة إسحق فكانت بحسب القدرة الإلهيَّة بطريقة معجزية إذ كيف لزوجة في سن التسعين أن تنجب وقد انقطعت عنها عادة النساء؟!.. وُلِدَ إسماعيل بمشورة جسدية وهي مشورة سارة، ولم يكن هو النسل الموعود به: “وَلاَ لأَنَّهُمْ مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ هُمْ جَمِيعًا أَوْلاَدٌ. بَلْ بِإِسْحَقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ. أَيْ لَيْسَ أَوْلاَدُ الْجَسَدِ هُمْ أَوْلاَدَ اللَّه بَلْ أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ يُحْسَبُونَ نَسْلًا” (رو 9: 7، 8)، وكما قال الإنجيل: “اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُل بَلْ مِنَ اللَّه” (يو 1: 13) هكذا كانت ولادة إسحق.
وَأَمَّا الَّذِي مِنَ الْحُرَّةِ فَبِالْمَوْعِدِ.. فقد وعد اللَّه إبراهيم بإسحق، فبعد أن استضاف إبراهيم اللَّه والملاكين: “فَقَالَ إِنِّي أَرْجعُ إِلَيْكَ نَحْوَ زَمَانِ الْحَيَاةِ وَيَكُونُ لِسَارَةَ امْرَأَتِكَ ابْنٌ“ (تك 18: 10)، وعندما ضحكت سارة: “فَقَالَ الرَّبُّ لإِبْرَاهِيمَ لِمَاذَا ضَحِكَتْ سَارَةُ قَائِلَةً أَفَبِالْحَقِيقَةِ أَلِدُ وَأَنَا قَدْ شِخْتُ. هَلْ يَسْتَحِيلُ عَلَى الرَّبِّ شَيْءٌ. فِي الْمِيعَادِ أَرْجعُ إِلَيْكَ نَحْوَ زَمَانِ الْحَيَاةِ وَيَكُونُ لِسَارَةَ ابْنٌ“(تك 18: 13، 14)، فآمنت سارة: “بِالإِيمَانِ سَارَةُ نَفْسُهَا أَيْضًا أَخَذَتْ قُدْرَةً عَلَى إِنْشَاءِ نَسْل وَبَعْدَ وَقْتِ السِّنِّ وَلَدَتْ إِذْ حَسِبَتِ الَّذِي وَعَدَ صَادِقًا” (عب 11: 11)، فقد وُلِد إسحق بالقدرة الإلهيَّة على خلاف الطبيعة: “وَإِذْ لَمْ يَكُنْ ضَعِيفًا فِي الإِيمَانِ لَمْ يَعْتَبِرْ جَسَدَهُ وَهُوَ قَدْ صَارَ مُمَاتًا إِذْ كَانَ ابْنَ نَحْوِ مِئَةِ سَنَةٍ وَلاَ مُمَاتِيَّةَ مُسْتَوْدَعِ سَارَةَ. وَلاَ بِعَدَمِ إِيمَانٍ ارْتَابَ فِي وَعْدِ اللَّه بَلْ تَقَوَّى بِالإِيمَانِ مُعْطِيًا مَجْدًا ِللَّهِ“ (رو 4: 19، 20)، وعندما انجبت سارة ابنًا دعوه إسحق أي ضحك: “وَقَالَتْ سَارَةُ قَدْ صَنَعَ إِلَيَّ اللَّه ضِحْكًا. كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ يَضْحَكُ لِي. وَقَالَتْ مَنْ قَالَ لإِبْرَاهِيمَ سَارَةُ تُرْضِعُ بَنِينَ. حَتَّى وَلَدْتُ ابْنًا فِي شَيْخُوخَتِهِ (تك 21: 6، 7).
” لاحظ هذه الحقائق عن إسماعيل، لقد كان:
- مولود حسب النظام الطبيعي.
- مولود في العبودية، لأنه وُلِد من جارية.
- مولود بسبب عمل ومجهود وإرادة سارة.
- مولود بسب الدوافع والبواعث الجسدية واستمالة إبراهيم.
لاحظ الحقائق الآتية عن إسحق، لقد كان:
- مولود حرًا، مولود من امرأة حرة، سارة.
- مولود بحسب وعد اللَّه وحده. لقد وعد اللَّه إبراهيم أن سارة سوف تلد ابنًا. وعندما وُلِد إسحق، كان إبراهيم وسارة قد تخطيا سنوات إنجاب الأطفال بوقت طويل، حيث كان إبراهيم يبلغ المائة من العمر. كان إسحق طفلًا معجزيًا، مولود بمعجزة بعمل اللَّه. كل ذلك لأن اللَّه كان قد وعد إبراهيم بابن، لذلك كان إسحق ابن الموعد.
الفكرة هنا ويجب أن نتذكرها: إسماعيل، الابن المولود عن طريق الفكر والهمة، والمجهود البشري، وقد وُلِد في العبودية. ولكن إسحق الابن الموعود به من اللَّه، وُلِد بصورة معجزية بسبب وعد اللَّه – عن طريق محبته وقوته فقط – كل ذلك لأن اللَّه وحده هو الذي وعد“(280).
ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم” عن إسحق: ” كان هو الابن الحقيقي لإبراهيم، لقد شكَّله اللَّه في الداخل رغم عوامل السن والطبيعة، فكان نتاج أجساد ميتة ورحم ذابل، أما ابن الجارية فكان نتاج ناموس الزواج الطبيعي، فصارت هناك كرامة أعظم لمن لم يأتِ حسب الجسد“(281).
ويقول “الأب يوحنا المتوحد“: ” كن حرًا، وتحرّر من كل عبودية مدمّرة! إن لم تكن حرًّا لا تستطيع أن تعمل لأجل المسيح، فإن هذا الملكوت الذي في أورشليم السماوية الحرة لا يتقبل أبناء العبودية. أبناء الأم الحرة هم أحرار (رو 8: 15)، لا يستعبدون للعالم في شيء“(282).
“وَكُلُّ ذلِكَ رَمْزٌ لأَنَّ هَاتَيْنِ هُمَا الْعَهْدَانِ أَحَدُهُمَا مِنْ جَبَلِ سِينَاءَ الْوَالِدُ لِلْعُبُودِيَّةِ الَّذِي هُوَ هَاجَرُ. لأَنَّ هَاجَرَ جَبَلُ سِينَاءَ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَلكِنَّهُ يُقَابِلُ أُورُشَلِيمَ الْحَاضِرَةَ فَإِنَّهَا مُسْتَعْبَدَةٌ مَعَ بَنِيهَا. وَأَمَّا أُورُشَلِيمُ الْعُلْيَا الَّتِي هي أُمُّنَا جَمِيعًا، فهي حُرَّةٌ. لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ افْرَحِي أَيَّتُهَا الْعَاقِرُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ. اِهْتِفِي وَاصْرُخِي أَيَّتُهَا الَّتِي لَمْ تَتَمَخَّضْ فَإِنَّ أَوْلاَدَ الْمُوحِشَةِ أَكْثَرُ مِنَ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ“ (غل 4: 24 – 27).
كان المتهوُّدون يدَّعون أنه لا يوجد غير عهد واحد وهو عهد الختان والناموس، فأكد لهم بولس الرسول من قبل أنه كان هناك عهدان:
1 عهد اللَّه لإبراهيم بأن بنسله تتبارك كل أمم الأرض، ولم يكن هذا العهد مشروطًا، فقال الكتاب: “فِي ذلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ أَبْرَامَ مِيثَاقًا“(تك 15: 18)، ولم نجد أداة الشرط “أن” أو “إذا”، بل يقول: “فَأَجْعَلَ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ.. أَمَّا أَنَا فَهُوَذَا عَهْدِي مَعَكَ وَتَكُونُ أَبًا لِجُمْهُورٍ مِنَ الأُمَمِ” (تك 17: 2، 4)، فهذا هو عهد البركة غير المشروط.
2 عهد الختان والناموس، فعندما دخل شعب اللَّه إلى منطقة جبل سيناء قال لهم الرب: “فَالآنَ إِنْ سَمِعْتُمْ لِصَوْتِي وَحَفِظْتُمْ عَهْدِي تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ“ (خر 19: 5)، فالعهد هنا مشروط بطاعة الشعب، والشعب لم يلتزم بالناموس، بل منذ أن صعد موسى على الجبل وغاب عن أعين الشعب أربعين يومًا صنعوا عجلًا ذهبيًا ونادوا هذه آلهتك يا إسرائيل التي أخرجتك من أرض مصر، ويقول بولس الرسول: “جَبَلِ سِينَاءَ الْوَالِدُ لِلْعُبُودِيَّةِ“.
ولاحظ أن بولس الرسول كرَّر كلمة “عهد” في هذا الأصحاح اثنتي عشرة مرة، مما يؤكد أن هذا الأمر كان شغله الشاغل في الرد على بدعة التهوُّد التي تفشت بين الغلاطيين، وبعد أن ذكر بولس الرسول قصة ابني إبراهيم من زوجتيه بدأ يضع في هذه الآيات الأربع مقابلة بين هاجر (عهد الناموس) وسارة (عهد النعمة)، فهاجر الجارية كانت رمزًا لجبل سيناء الوالد للعبودية، كما أنها رمز لأورشليم الحاضرة الأرضية المستعبدة مع بنيها، أما سارة الحرة فهي رمز لأورشليم العليا السمائية أمنا جميعًا، ولعل هذه المقابلة تشبه كثيرًا المقابلة التي وضعها بولس الرسول أيضًا في رسالته لليهود الذين آمنوا بالمسيح (عب 12: 18 – 24):
1- عهد الناموس والعبودية: وعبّر عنه بولس الرسول قائلًا: “لأَنَّكُمْ لَمْ تَأْتُوا إِلَى جَبَل مَلْمُوسٍ مُضْطَرِمٍ بِالنَّارِ وَإِلَى ضَبَابٍ وَظَلاَمٍ وَزَوْبَعَةٍ وَهُتَافِ بُوق وَصَوْتِ كَلِمَاتٍ اسْتَعْفَى الَّذِينَ سَمِعُوهُ مِنْ أَنْ تُزَادَ لَهُمْ كَلِمَةٌ. لأَنَّهُمْ لَمْ يَحْتَمِلُوا مَا أُمِرَ بِهِ وَإِنْ مَسَّتِ الْجَبَلَ بَهِيمَةٌ تُرْجَمُ أَوْ تُرْمَى بِسَهْمٍ. وَكَانَ الْمَنْظَرُ هكَذَا مُخِيفًا حَتَّى قَالَ مُوسَى: أَنَا مُرْتَعِبٌ وَمُرْتَعِدٌ“ (عب 12: 18 – 21).
2 عهد النعمة والحرية: وعبر عنه بولس الرسول قائلًا: “بَلْ قَدْ أَتَيْتُمْ إِلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ وَإِلَى مَدِينَةِ اللَّه الْحَيِّ أُورُشَلِيمَ السَّمَاوِيَّةِ وَإِلَى رَبَوَاتٍ هُمْ مَحْفِلُ مَلاَئِكَةٍ. وَكَنِيسَةُ أَبْكَارٍ مَكْتُوبِينَ فِي السَّمَوَاتِ وَإِلَى اللَّه دَيَّانِ الْجَمِيعِ وَإِلَى أَرْوَاحِ أَبْرَارٍ مُكَمَّلِينَ. وَإِلَى وَسِيطِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، يَسُوعَ وَإِلَى دَمِ رَشٍّ يَتَكَلَّمُ أَفْضَلَ مِنْ هَابِيلَ” (عب 12: 22 – 24).
وَكُلُّ ذلِكَ رَمْزٌ.. أي أن هذه الحقائق كانت ترمز وتشير لمعاني أعمق وأسمى، ويقول “دكتور وليم آدي“: “وَكُلُّ ذلِكَ رَمْزٌ أي كل الأمور المتعلقة بهذا التاريخ لها معنى روحي غير ظاهر من لفظه، والمعنى الروحي مضاف إلى الحرفي غير مانع إياه. والرموز ليست ببراهين، لكنها توضح الأمر بعد بيانه وتزيّنه. وعلى هذا كان كل النظام اليهودي رمزًا إلى المسيح من تاريخ ونبوة وعبادة ورسوم وأعمال (كو 2: 17، عب 8 : 5، 9: 23، 10: 1)”(283).
وَكُلُّ ذلِكَ رَمْزٌ لأَنَّ هَاتَيْنِ هُمَا الْعَهْدَانِ.. بينما يدور حديث بولس الرسول عن العهدين القديم والجديد، والعهدان مُذكَّران مما يستلزم قوله “هذان”، ولكن بولس الرسول قال “هَاتَيْنِ“ بالمؤنث.. لماذا؟.. لأنه كان يشير إلى هاجر وسارة رمزي العهدين، فهاجر الجارية رمز للناموس، وسارة الحرة رمز للنعمة، والنعمة كانت قبل الناموس، فعندما خلق اللَّه الإنسان وقبل السقوط عامله بموجب النعمة، وعندما سقط الإنسان صنع له أقمصة من جلد ليستره وأعطاه الوعد بالخلاص بحسب النعمة، وكانت سارة رمز عهد النعمة زوجة لإبراهيم قبل هاجر رمز الناموس، وبدأ اللَّه معاملاته مع بني إسرائيل بالنعمة لأن الناموس لم يكن قد أُعطيَ بعد، وكما قامت هاجر بمهمة مؤقتة ثم اختفت من المشهد هكذا الناموس أُعطيَ لفترة مؤقتة لأداء مهمة معينة ثم تنحّى جانبًا لأن النعمة حلّت محله، ومن الملاحظ أن هاجر دُعيت بالجارية في الأعداد (22، 23، 30، 31) خمس مرات، فبالرغم من زواجها من إبراهيم لكنها ظلت جارية وفشلت أن تكون بديلًا لسارة، وابنها إسماعيل لم يرث أبيه إبراهيم، وكان إسماعيل إنسانًا وحشيًا (تك 16: 12) بعيدًا عن حياة النعمة، هكذا الناموس أورثنا العبودية، ولم يمنحنا الحياة ولا الحرية ولا الخلاص ولا التبرير ولا عطية الروح القدس ولا الميراث السمائي، فكل من يرتضي أن تكون هاجر (الناموس) أمًا له فلن يرث إلاَّ العبودية في أورشليم الأرضية المستعبدة للناموس مع أبنائها، أما من يجعل سارة (النعمة) أمًا له فبنعمة المسيح يرث ملكوت السموات.
ويقول “الأب متى المسكين“: ” فأنظر عزيزي القارئ كيف تتحوَّل هذه الحوادث المسجَّلة في حينها إلى رموز والرموز إلى حقائق تمسنا نحن من القريب ومن البعيد، إذ لا تخلو حياتنا من “هاجر” -أو الناموس الوالد للعبودية- فالميل إلى العبودية والالتصاق بها تحت وطأة الشهوات أو المظاهر أو الأباطيل أو العادات أو الأعمال التي تسلب الإرادة، هو عنصر لايزال ينخر في عظام الكثيرين“(284).
أَحَدُهُمَا مِنْ جَبَلِ سِينَاءَ الْوَالِدُ لِلْعُبُودِيَّةِ الَّذِي هُوَ هَاجَرُ.. “جَبَلِ سِينَاءَ“ هو “جَبَلِ اللَّه حُورِيبَ“ (خر 3: 1) ودُعيَ “جَبَلِ اللَّه“ لأن اللَّه ظهر فيه لموسى من خلال العليقة المشتعلة بالنار، ولكن كيف يلد “جَبَلِ اللَّه“ العبودية؟!.. لقد دُعيَ هذا الجبل والد للعبودية:
1- نظرًا للتحذير الذي حذّره اللَّه لموسى عندما مال لينظر ذاك المنظر العجيب، عليقة خضراء تشتعل فيها النيران ولا تحترق، وإذ بصوت اللَّه ينادي: ” مُوسَى مُوسَى.. لاَ تَقْتَرِبْ إِلَى ههُنَا. اخْلَعْ حِذَاءَكَ مِنْ رِجْلَيْكَ لأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَنْتَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ“ (خر 3: 4، 5)، كما حذر اللَّه الشعب من الاقتراب للجبل قائلًا لموسى: “وَتُقِيمُ لِلشَّعْبِ حُدُودًا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، قَائِلًا احْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْعَدُوا إِلَى الْجَبَلِ أَوْ تَمَسُّوا طَرَفَهُ. كُلُّ مَنْ يَمَسُّ الْجَبَلَ يُقْتَلُ قَتْلًا. لاَ تَمَسُّهُ يَدٌ بَلْ يُرْجَمُ رَجْمًا أَوْ يُرْمَى رَمْيًا. بَهِيمَةً كَانَ أَمْ إِنْسَانًا لاَ يَعِيشُ“ (خر 19: 12، 13).
2- نظرًا للرغبة والرعدة اللتان سقطتا على الشعب حتى قالوا لموسى: “وَأَمَّا الآنَ فَلِمَاذَا نَمُوتُ. لأَنَّ هذِهِ النَّارَ الْعَظِيمَةَ تَأْكُلُنَا. إِنْ عُدْنَا نَسْمَعُ صَوْتَ الرَّبِّ إِلهِنَا أَيْضًا نَمُوتُ. لأَنَّهُ مَنْ هُوَ مِنْ جَمِيعِ الْبَشَرِ الَّذِي سَمِعَ صَوْتَ اللَّه الْحَيِّ يَتَكَلَّمُ مِنْ وَسَطِ النَّارِ مِثْلَنَا وَعَاشَ” (تث 5: 25 – 27)، وقال بولس الرسول: “وَيُعْتِقَ أُولئِكَ الَّذِينَ خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعًا كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةَ“ (عب 2: 15).
وقوله “الَّذِي هُوَ هَاجَرُ“ أي أن جبل سيناء مسقط رأس الناموس الوالد للعبودية يماثل هاجر الجارية، وكما أن هاجر لم تتزوج بعد أن تركت بيت سيدها، هكذا الناموس الذي أُعطيَ لبني إسرائيل لفترة مؤقتة لم يُعطي لشعب آخر، فتمسّك المتهوّدين به هو في الحقيقة ضد خطة اللَّه وإرادته.
لأَنَّ هَاجَرَ جَبَلُ سِينَاءَ فِي الْعَرَبِيَّةِ.. هاجر هي أم إسماعيل أبو العرب، والعرب استخدموا اسم أمهم هاجر كناية عن جبل سيناء، ويقول “الدكتور وليم آدي“: “لأَنَّ هَاجَرَ جَبَلُ سِينَاءَ فِي الْعَرَبِيَّةِ.. معنى هذه العبارة غير واضح والأرجح أن معناها الجبل الذي سماه اليهود “سيناء” سماه قدماء العرب “هاجر”. وتُسمى اليوم رؤوس ذلك الجبل الثلاثة جبل موسى وجبل الصفصافة وجبل كاترينا. ومعلوم أن الأرض التي هربت إليها هاجر بإسماعيل هي العربية (تك 16: 7، 14)، وأن بعض عرب البادية سُموا بالمهاجرين (مز 83: 7، 1أي 5: 19)، ولم يُعطى الناموس على جبل صهيون في أرض الميعاد بل على سيناء خارجًا عنها، لذلك رأى بولس أن يشير إلى الناموس بهاجر التي هي أجنبية لأنها كانت آمة مصرية. وهذا مقصود الرسول وإن لم نتيقن معنى بعض الألفاظ” (285).
ويقول “ماكدونل“: “واللافت للنظر أن كلمة” هَاجَرَ “أُطلقت قديمًا على جبل سيناء في بلاد العرب.. لقد أنتج العهد الذي أُعطى في “سِينَاءَ” عبودية، وهكذا كانت “هَاجَرَ” الجارية (المستعبدة) رمزًا مناسبًا للناموس. وتمثل هاجر أورشليم التي تعتبرها الأمة اليهودية عاصمتها وقد استوطن فيها اليهود غير المخلصين الذين كانوا ما يزالون يسعون للحصول على البر بحفظ الناموس. فهؤلاء جميعًا مع بنيهم أو أتباعهم هم تحت عبودية روحية، وقد صوَّر بولس غير المؤمنين من اليهود تصويرًا لاذعًا إذ ربطهم بهاجر عوضًا عن سارة، وبإسماعيل عوضًا عن إسحق“(286).
والمقصود بالعربية أي الصحراء الممتدة من جنوب دمشق إلى جبل اللَّه حوريب، والتي اعتزل فيها بولس لمدة ثلاث سنوات “انْطَلَقْتُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ“ (غل 1: 17) فقديمًا اُحتسبت سيناء أنها في بلاد العرب الغربية (راجع القاموس الجديد لمورش NEW AND CONCISE DICTIONARY P148).
ويقول “الدكتور القس غبريال رزق اللَّه“: “يوجد في هذا التعبير شيء من الغموض، وليس لنا للخروج من هذا الغموض إلى الوضوح إلاَّ باعتبار كل الموضوع الذي أمامنا إنما هو صورة رمزية تمثيلية رسمها الروح القدس بالوحي المقدَّس أمام خادم العهد الجديد بولس، بلغة المجاز والاستعارة، لأنه حقيقة روحية فيها يظهر التمثيل واضحًا بين هاجر بوصف كونها جارية، وبين جبل سيناء بوصف كونه الوالد للعبودية. فإن لفظ الجارية ولفظ العبودية صنوان، أي شقيقان من أصل واحد هو الاستعباد، ولذلك يُقال “لأَنَّ هَاجَرَ جَبَلُ سِينَاءَ“..
ولعل الرسول يرى وجه شبه آخَر بين “هاجر الجارية” وبين “جَبَلُ سِينَاءَ فِي الْعَرَبِيَّةِ” وهو وجه شبه يتجلى في ذات الرسم “هاجر” ولعله اسم مأخوذ من الهجرة التي اضطرت إليها “هاجر” تحت ضغط مولاتها التي “أَذَلَّتْهَا فَهَرَبَتْ مِنْ وَجْهِهَا” (تك 16: 6) ولعل هروبها كان “هجرة” إلى “بادية العربية” التي كان فيها جبل سيناء الوالد للعبودية، فالتقت الجارية بالعبودية في تلك البادية“(287).
وَلكِنَّهُ يُقَابِلُ أُورُشَلِيمَ الْحَاضِرَةَ فَإِنَّهَا مُسْتَعْبَدَةٌ مَعَ بَنِيهَا.. أي أن جبل سيناء الذي هو يماثل عبودية هاجر يقابل أيضًا أورشليم الأرضية موطن اليهود المتعصبين، فكل من يريد أن يستعبد للناموس هو ابن لهاجر الجارية وابن لأورشليم الأرضية المستعبدة مع بنيها، وهنا نجد بولس الرسول وضع مقابلة ثلاثية، والمعنى واحد:
1 هاجر الجارية المصرية.
2 جبل سيناء الوالد للعبودية.
3 أورشليم الأرضية المستعبدة مع بنيها.
وأورشليم كانت في البداية مدينة لليبوسيين، وبها حصن صهيون المنيع، فلم يستطع لا سبط يهوذا ولا سبط بنيامين انتزاعها من اليبوسيّين، فسكن فيها اليهوذيون والبنيامينيون مع اليبوسيّين، وظلت في يد اليبوسيّين مئات السنين من قبل عصر يشوع بن نون إلى عصر داود الذي استطاع أن يستولي عليها بحيلة قام بها يوآب ابن صروية فدعاها مدينة داود: “وَأَخَذَ دَاوُدُ حِصْنَ صِهْيَوْنَ، هي مَدِينَةُ دَاوُد“ (2صم 5: 7) فجعلها عاصمة لمُلكه، ومركزًا للعبادة حيث نقل إليها تابوت العهد، ثم بنى سليمان فيها الهيكل العظيم، فعاصرت أورشليم أمجاد داود وسليمان وصارت مقرًا لملوك يهوذا حتى تعرَّض أولادها لسبي بابل بسبب شرورها العظيمة، وتهدَّم الهيكل وأسوار المدينة لمدة سبعين عامًا، ثم عاد إليها أولادها وجدَّدوا الهيكل وبنوا الأسوار ودُعيت “مَدِينَةِ الْقُدْسِ“ (نح 11: 1)، ومن أورشليم انطلقت الشرارة الأولى على أيدي الآباء الرسل الأطهار إلى شتى أنحاء المسكونة.
وقول بولس الرسول “مُسْتَعْبَدَةٌ مَعَ بَنِيهَا“أي خاضعة لأحكام الناموس من جهة وخاضعة للحكم الروماني من جهة أخرى، وبعد زمن قليل نحو سنة 70م تحقَّقت فيها نبوات السيد المسيح عن خرابها: “هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابًا” (مت 23: 38).. ” لاَ يُتْرَكُ ههُنَا حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ” (مت 24: 2) (راجع مت 24: 15 – 21).
وَأَمَّا أُورُشَلِيمُ الْعُلْيَا.. كانت سارة تشير لأورشليم العليا التي تنبأ عنها إشعياء النبي: “وَتَسِيرُ شُعُوبٌ كَثِيرَةٌ وَيَقُولُونَ هَلُمَّ نَصْعَدْ إِلَى جَبَلِ الرَّبِّ إِلَى بَيْتِ إِلهِ يَعْقُوبَ فَيُعَلِّمَنَا مِنْ طُرُقِهِ وَنَسْلُكَ فِي سُبُلِهِ لأَنَّهُ مِنْ صِهْيَوْنَ تَخْرُجُ الشَّرِيعَةُ وَمِنْ أُورُشَلِيمَ كَلِمَةُ الرَّبِّ” (إش 2: 3).
ويصف إشعياء النبي هذه المدينة: “مِنْ أَجْلِ صِهْيَوْنَ لاَ أَسْكُتُ وَمِنْ أَجْلِ أُورُشَلِيمَ لاَ أَهْدَأُ.. فَتَرَى الأُمَمُ بِرَّكِ وَكُلُّ الْمُلُوكِ مَجْدَكِ وَتُسَمَّيْنَ بِاسْمٍ جَدِيدٍ يُعَيِّنُهُ فَمُ الرَّبِّ. وَتَكُونِينَ إِكْلِيلَ جَمَال بِيَدِ الرَّبِّ وَتَاجًا مَلِكِيًّا بِكَفِّ إِلهِكِ. لاَ يُقَالُ بَعْدُ لَكِ مَهْجُورَةٌ وَلاَ يُقَالُ بَعْدُ لأَرْضِكِ مُوحَشَةٌ بَلْ تُدْعَيْنَ حَفْصِيبَةَ وَأَرْضُكِ تُدْعَى بَعُولَة.. وَيُسَمُّونَهُمْ شَعْبًا مُقَدَّسًا مَفْدِيِّي الرَّبِّ وَأَنْتِ تُسَمَّيْنَ الْمَطْلُوبَةَ الْمَدِينَةَ غَيْرَ الْمَهْجُورَةِ” (إش 62: 1-12). وهي المدينة التي يجتمع فيها القديسون من مشارق الأرض إلى مغاربها مع رب الجنود كقول زكريا النبي: “هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. هأَنَذَا أُخَلِّصُ شَعْبِي مِنْ أَرْضِ الْمَشْرِقِ وَمِنْ أَرْضِ مَغْرِبِ الشَّمْسِ. وَآتِي بِهِمْ فَيَسْكُنُونَ فِي وَسَطِ أُورُشَلِيمَ وَيَكُونُونَ لِي شَعْبًا وَأَنَا أَكُونُ لَهُمْ إِلهًا بِالْحَقِّ وَالْبِرِّ” (زك 8: 7، 8).
وهي محفل الملائكة: “بَلْ قَدْ أَتَيْتُمْ إِلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ وَإِلَى مَدِينَةِ اللَّه الْحَيِّ. أُورُشَلِيمَ السَّمَاوِيَّةِ وَإِلَى رَبَوَاتٍ هُمْ مَحْفِلُ مَلاَئِكَةٍ. وَكَنِيسَةُ أَبْكَارٍ مَكْتُوبِينَ فِي السَّموَاتِ” (عب 12: 22، 23).
وهي مدينة الغالبين المنتصرين: “مَنْ يَغْلِبُ فَسَأَجْعَلُهُ عَمُودًا فِي هَيْكَلِ إِلهِي وَلاَ يَعُودُ يَخْرُجُ إِلَى خَارِجٍ وَأَكْتُبُ عَلَيْهِ اسْمَ إِلهِي وَاسْمَ مَدِينَةِ إِلهِي أُورُشَلِيمَ الْجَدِيدَةِ النَّازِلَةِ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ إِلهِي وَاسْمِي الْجَدِيدَ” (رؤ 3: 12).
وهي المدينة المزينة كعروس لزوجها: “و(أَنَا يُوحَنَّا) رَأَيْتُ المَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ أُورُشَلِيمَ الْجَدِيدَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللَّه مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا” (رؤ 21: 2).
وهي مسكن اله مع الناس: “وَسَمِعْتُ صَوْتًا عَظِيمًا مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا هُوَذَا مَسْكَنُ اللَّه مَعَ النَّاسِ وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ” (رؤ 21: 3).
وهي أورشليم العليا مدينة المجد الإلهي: “وَذَهَبَ بِي بِالرُّوحِ إِلَى جَبَل عَظِيمٍ عَال وَأَرَانِي الْمَدِينَةَ الْعَظِيمَةَ أُورُشَلِيمَ الْمُقَدَّسَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللَّه. لَهَا مَجْدُ اللَّه“ (رؤ 21: 10، 11).
وَأَمَّا أُورُشَلِيمُ الْعُلْيَا الَّتِي هي أُمُّنَا جَمِيعًا، فهي حُرَّةٌ.. أورشليم السمائية هي أمنا جميعًا، فنحن بنو الملكوت، إليها نحنو ونحوها تتجه اشتياقاتنا وأحاسيسنا ومشاعرنا.. نعيش في العالم والعالم لا يستطيع أن يعيش فينا لأن أورشليم أمنا تملأ كل كياننا منذ الآن وإلى الأبد، فهي أم جميع القديسين القادمين من اليهود أو من جميع الأمم، مع الرسل الأطهار وأم النور العذراء مريم وكافة الملائكة والشهداء والقديسين ولُبّاس الصليب و“أَهْلِ بَيْتِ اللَّه” (أف 2: 19).. أورشليم أمنا التي تسمو فوق الحواس البشرية وترتفع فوق الماديات، وهي محط أنظار جميع أبنائها، فهي “الْمَدِينَةَ الَّتِي لَهَا الأَسَاسَاتُ الَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا اللَّه” (عب 11: 10).. إنها البهجة والفرح والسعادة، والتي فيها يختفي صوت البكاء والأنين: “بَلِ افْرَحُوا وَابْتَهِجُوا إِلَى الأَبَدِ فِي مَا أَنَا خَالِقٌ أُورُشَلِيمَ بَهْجَةً وَشَعْبَهَا فَرَحًا. فَأَبْتَهِجُ بِأُورُشَلِيمَ وَأَفْرَحُ بِشَعْبِي وَلاَ يُسْمَعُ بَعْدُ فِيهَا صَوْتُ بُكَاءٍ وَلاَ صَوْتُ صُرَاخٍ“ (إش 65: 18، 19) أورشليم أمنا الحرة والتي لا تحتضن غير الأحرار ” فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا“ (يو 8: 36)، أما الذين ربطوا أنفسهم بشهوات العالم ورباطات الخطية فلا مكان لهم فيها.
لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ افْرَحِي أَيَّتُهَا الْعَاقِرُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ.. وهذا ما سبق وقيل بفم إشعياء النبي في ترنيمته الرائعة:
” تَرَنَّمِي أَيَّتُهَا الْعَاقِرُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ.
أَشِيدِي بِالتَّرَنُّمِ أَيَّتُهَا الَّتِي لَمْ تَمْخَضْ.
لأَنَّ بَنِي الْمُسْتَوْحِشَةِ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي ذَاتِ الْبَعْلِ قَالَ الرَّبُّ.
أَوْسِعِي مَكَانَ خَيْمَتِكِ وَلْتُبْسَطْ شُقَقُ مَسَاكِنِكِ.لاَ تُمْسِكِي.
أَطِيلِي أَطْنَابَكِ وَشَدِّدِي أَوْتَادَكِ.
لأَنَّكِ تَمْتَدِّينَ إِلَى اليَمِينِ وَإِلَى اليَسَارِ.
وَيَرِثُ نَسْلُكِ أُمَمًا وَيُعْمِرُ مُدُنًا خَرِبَةً.
لاَ تَخَافِي لأَنَّكِ لاَ تَخْزَيْنَ.
وَلاَ تَخْجَلِي لأَنَّكِ لاَ تَسْتَحِينَ.
فَإِنَّكِ تَنْسَيْنَ خِزْيَ صَبَاكِ وَعَارُ تَرَمُّلِكِ لاَ تَذْكُرِينَهُ بَعْدُ.
لأَنَّ بَعْلَكِ هُوَ صَانِعُكِ رَبُّ الْجُنُودِ اسْمُهُ.
وَوَلِيُّكِ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ إِلهَ كُلِّ الأَرْضِ يُدْعَى“ (إش 54: 1 – 5).
وإن كانت هذه نبوة عن أورشليم التي هجرها أولادها واقتيدوا إلى أرض السبي ببابل، ولكنها ستعمَّر ثانية ويعود أولادها لأحضانها، فهي نبوة أيضًا عن كنيسة العهد الجديد التي جمعت اليهود والأمم معًا.
افْرَحِي أَيَّتُهَا الْعَاقِرُ الَّتِي لَمْ تَلِدْ. اِهْتِفِي وَاصْرُخِي أَيَّتُهَا الَّتِي لَمْ تَتَمَخَّضْ.. من هي العاقر الموحشة التي لم تلد؟.. في التفسير الحرفي هي سارة التي قالت عن نفسها: “هُوَذَا الرَّبُّ قَدْ أَمْسَكَنِي عَنِ الوِلاَدَةِ“ (تك 16: 2) وهي كانت “موحشة” من الفعل “أوحش”، فنقول أن الأرض صارت موحشة أي أنها خلت من سكانها، وسارة العاقر الموحشة كانت رمزًا للأمم الذين افتقدوا حياة القداسة والفضائل، ولكن بنعمة المسيح صاروا قديسين، وانتشرت كنيسة الأمم في أرجاء المسكونة، فصار أولادها أكثر بكثير جدًا من التي لها زوج أي الأمة اليهودية التي طالما أهدرت فرصًا منحها لها اللَّه لكي تثمر ولم تثمر، فصارت كشجرة التين التي استحقت اللعنة لأنها لم تحمل ثمرًا في أوانه، بل صارت عقيمة ويابسة، أما كنيسة الأمم العاقر فقد أفرخت وأوثقت ثمرًا كثيرًا فانتشر أولادها في العالم كله.
افْرَحِي.. اِهْتِفِي وَاصْرُخِي.. فالأمم الوثنية التي كانت عقيمة موحشة لا تعرف للخير طريقًا صارت تنجب أولادًا كثيرين للملكوت، فحق لها أن تفرح وتهتف، وهذه التعبيرات الدالة على الفرح والتهليل هي سمات أورشليم العليا: “وَسَمِعْتُ كَصَوْتِ جَمْعٍ كَثِيرٍ وَكَصَوْتِ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ وَكَصَوْتِ رُعُودٍ شَدِيدَةٍ قَائِلَةً هَلِّلُويَا. فَإِنَّهُ قَدْ مَلَكَ الرَّبُّ الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. لِنَفْرَحْ وَنَتَهَلَّلْ وَنُعْطِهِ الْمَجْدَ لأَنَّ عُرْسَ الْخَرُوفِ قَدْ جَاءَ“ (رؤ 19: 6، 7).
فَإِنَّ أَوْلاَدَ الْمُوحِشَةِ أَكْثَرُ مِنَ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ.. المرأة الموحشة التي افتقدت الأولاد، وربما هجرها زوجها أيضًا صار لها أولاد كثيرين فاندهشت وذُهلت: ” فَتَقُولِينَ فِي قَلْبِكِ مَنْ وَلَدَ لِي هؤُلاَءِ وَأَنَا ثَكْلَى وَعَاقِرٌ مَنْفِيَّةٌ وَمَطْرُودَةٌ وَهؤُلاَءِ مَنْ رَبَّاهُمْ. هأَنَذَا كُنْتُ مَتْرُوكَةً وَحْدِي. هؤُلاَءِ أَيْنَ كَانُوا“ (إش 49: 21)، فأولاد الأمم صار لهم مكانًا في أورشليم السمائية: “بَعْدَ هذَا نَظَرْتُ وَإِذَا جَمْعٌ كَثِيرٌ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَعُدَّهُ مِنْ كُلِّ الأُمَمِ وَالْقَبَائِلِ وَالشُّعُوبِ وَالأَلْسِنَةِ وَاقِفُونَ أَمَامَ الْعَرْشِ وَأَمَامَ الْخَرُوفِ“ (رؤ 7: 9)، وكثيرة هي النبوات عن رجوع الأمم للرب، وعندما أدرك المؤمنون من أصل يهودي ذلك ابتهجوا ومجَّدوا اسم اللَّه، أما المتهوّدون فقد أُعثِروا في هذا، فهم يريدون أن الأمم يعودون للإيمان اليهودي والختان وحفظ الناموس أولًا، ثم يؤمنون بالمسيح ثانيًا، وبهذا تصير المسيحية مجرّد شيعة يهودية لا أكثر.
“وَأَمَّا نَحْنُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَنَظِيرُ إِسْحَقَ أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ. وَلكِنْ كَمَا كَانَ حِينَئِذٍ الَّذِي وُلِدَ حَسَبَ الْجَسَدِ يَضْطَهِدُ الَّذِي حَسَبَ الرُّوحِ هكَذَا الآنَ أَيْضًا. لكِنْ مَاذَا يَقُولُ الْكِتَابُ. اطْرُدِ الْجَارِيَةَ وَابْنَهَا لأَنَّهُ لاَ يَرِثُ ابْنُ الْجَارِيَةِ مَعَ ابْنِ الْحُرَّةِ” (غل 4: 28 – 30).
في هذه الآيات يضع بولس الرسول الختام التطبيقي (4: 28 – 30).
وَأَمَّا نَحْنُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَنَظِيرُ إِسْحقَ أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ.. وأما نحن أيها الإخوة سواء كنا أممًا أم يهودًا ما دمنا آمنا بالمسيح فنحن نظير إسحق، أي مثل إسحق ابن الموعد وابن الحرية، وُلدنا بطريقة تفوق الطبيعة، وقد أشار بولس الرسول من قبل لإسحق دون أن يذكر اسمه عندما قال: ” كَانَ لإِبْرَاهِيمَ ابْنَانِ وَاحِدٌ مِنَ الْجَارِيَةِ وَالآخَرُ مِنَ الْحُرَّةِ” (غل 4: 22)، أما الآن فأنه يذكره بالاسم، لأنه يريد أن يؤكد أننا صرنا نظراءه، فليس كل من وُلِد من إبراهيم يعتبر ابنًا لإبراهيم وله حق الميراث لأنه كان لإبراهيم أولاد من قطورة بجوار إسماعيل، ولكن ولا واحد منهم ورث مع إسحق، وهذا ما أوضحه بولس الرسول في رسالته إلى رومية: “لأَنْ لَيْسَ جَمِيعُ الَّذِينَ مِنْ إِسْرَائِيلَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ. وَلاَ لأَنَّهُمْ مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ هُمْ جَمِيعًا أَوْلاَدٌ. بَلْ بِإِسْحَقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ. أَيْ لَيْسَ أَوْلاَدُ الْجَسَدِ هُمْ أَوْلاَدَ اللَّه بَلْ أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ يُحْسَبُونَ نَسْلًا“ (رو 9: 6 – 8). فمن القصة التي ساقها بولس الرسول عن إبراهيم وزوجتيه وابنيه إسماعيل ابن الجارية وإسحق ابن الحرة كان من الطبيعي أن يسألهم: ماذا تريدون أن تكونوا: أبناء العبودية نظير إسماعيل، أم أبناء الحرية نظير إسحق؟.. أراد أن يقول للمتمسكين بالختان والناموس أنكم بهذا لن تكونوا نظير إسحق ابن الحرة، بل نظير إسماعيل ابن الجارية ابن العبودية، ولا نظن أن أحدًا من الغلاطيين يريد أن يكون عبدًا بدلًا من أن يكون حرًا.. لقد استعمل القديس بولس كل طريقة وطريقة لينقذ أولاده من بدعة التهوُّد، تارة يقسو عليهم وتارة يخاطبهم بأسلوب رقيق مملوء بالثقة، حتى يذيب قلوبهم التي تقسَّت بفعل هؤلاء المعلمين الكذبة.
وَأَمَّا نَحْنُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَنَظِيرُ إِسْحَقَ أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ.. عقب شفاء الأعرج من بطن أمه قال بطرس الرسول لليهود أنهم بنو الأنبياء ونسل إبراهيم: ” أَنْتُمْ أَبْنَاءُ الأَنْبِيَاءِ وَالْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَ بِهِ اللَّه آبَاءَنَا قَائِلًا لإِبْراهِيمَ وَبِنَسْلِكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ” (أع 3: 25)، وقال بولس الرسول أن السالكين بالإيمان هم أبناء الموعد، أبناء إبراهيم: “أَيْ لَيْسَ أَوْلاَدُ الْجَسَدِ هُمْ أَوْلاَدَ اللَّه بَلْ أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ يُحْسَبُونَ نَسْلًا“ (رو 9: 8) فالذين آمنوا بالمسيح هم الذين يُحسبون أولاد الموعد حتى لو كانوا من الأمم: “فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذًا نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ وَحَسَبَ الْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ“ (غل 3: 29)، وبهذا أثبت بولس الرسول للغلاطيّين الأمميّين أنهم من نسل إبراهيم ما دام لهم إيمان إبراهيم، وفي هذه الفقرة يؤكد لهم أيضًا أنهم نسل سارة الحرة.
وَلكِنْ كَمَا كَانَ حِينَئِذٍ الَّذِي وُلِدَ حَسَبَ الْجَسَدِ يَضْطَهِدُ الَّذِي حَسَبَ الرُّوحِ.. عندما حبلت هاجر صارت تحتقر سارة: ” فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهَا حَبِلَتْ صَغُرْتُ فِي عَيْنَيْهَا“ (تك 16: 5)، وعندما وُلِد إسحق صار إسماعيل يحتقره ولا سيما أنه صار هو الوارث الحقيقي لميراث إبراهيم أبيه عوضًا عنه، فكان يمازح إسحق ويضايقه: ” وَرَأَتْ سَارَةُ ابْنَ هَاجَرَ الْمِصْرِيَّةِ الَّذِي وَلَدَتْهُ لإِبْرَاهِيمَ يَمْزَحُ “ (تك 21: 9) وكان مزاح إسماعيل مع إسحق مزاحًا سخيفًا ممتزجًا بالاستهزاء والسخرية، بل أنه كان يصوب السهام نحوه مما كان يمثل خطورة على حياة إسحق، ويقول “القمص تادرس يعقوب“: “يقرّر النص العبري لسفر التكوين (21: 10) إن إسماعيل كان يمزح مع إسحق، وقد جاء في التفسير الحاخامي لسفر التكوين الذي لرابا Rabbah إن الكلمة العبرية التي ترجمت “يَمْزَحُ“، أو يداعب أو يضحك “تحمل معنى رديئًا بحسب التقليد اليهودي “أمسك إسماعيل قوسًا وأسهمًا وبدأ يضرب السهام نحو إسحق كمن يمزح”. وقد استخدم القديس بولس الرسول هذا التقليد لتطبيقه بخصوص خبرة الغلاطيين مع المتهوّدين“(288). فقد أوضح بولس الرسول أن اضطهاد إسماعيل الذي وُلِد حسب الجسد لإسحق الذي وُلِد حسب الروح أمرًا مستمرًا، فهو يعبر عن العداوة بين الجسد والروح: “لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ وَهذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ“ (غل 5: 17)، ونشكر اللَّه أن الأمر انتهى لصالح سارة وابنها إسحق.
وَلكِنْ كَمَا كَانَ حِينَئِذٍ الَّذِي وُلِدَ حَسَبَ الْجَسَدِ يَضْطَهِدُ الَّذِي حَسَبَ الرُّوحِ.. الذي وُلِد حسب الجسد هو رمز للمستعبدين للناموس، والذي وُلِد حسب الروح رمزًا لكنيسة الأمم، ومن الملاحظ هنا أن القديس بولس استبدل كلمة “الموعد” بكلمة “الرُّوحِ“، فبدلًا من قوله عن إسحق: “الذي حسب الموعد” قال: “الَّذِي حَسَبَ الرُّوحِ“، لأن هذه الولادة تمت بحسب الإيمان وليس بحسب الطبيعة البشرية، فقال الكتاب عن سارة: “بِالإِيمَانِ سَارَةُ نَفْسُهَا أَيْضًا أَخَذَتْ قُدْرَةً عَلَى إِنْشَاءِ نَسْل وَبَعْدَ وَقْتِ السِّنِّ وَلَدَتْ إِذْ حَسِبَتِ الَّذِي وَعَدَ صَادِقًا“ (عب 11: 11)، كما آمن إبراهيم بأن”، الذِي يُحْيِي الْمَوْتَى وَيَدْعُو الأَشْيَاءَ غَيْرَ الْمَوْجُودَةِ كَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ. فَهُوَ عَلَى خِلاَفِ الرَّجَاءِ آمَنَ عَلَى الرَّجَاءِ” (رو 4: 17، 18)، والذين يولدون بحسب الروح مثل إسحق يقول عنهم الإنجيل: “اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُل بَلْ مِنَ اللَّه“ (يو 1: 13)، وقال السيد المسيح لنيقوديموس: “الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّه. اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ“ (يو 3: 5، 6)، ونحن نظراء إسحق الذي وُلِد بحسب الروح.
هكَذَا الآنَ أَيْضًا.. طالما اضطهد اليهود الكنيسة الأولى (أع 4: 3، 5: 18، 40، 7 : 57، 58، 13: 50، 14: 2، 16، 17: 5)، وقال لهم بولس الرسول: “الَّذِينَ قَتَلُوا الرَّبَّ يَسُوعَ وَأَنْبِيَاءَهُمْ وَاضْطَهَدُونَا نَحْنُ. وَهُمْ غَيْرُ مُرْضِينَ ِللَّهِ وَأَضْدَادٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ” (1تس 2: 15)، كما كان بولس مُضطَهدًا أيضًا من الإخوة المتهوّدين، ولو أنه أعتقد معتقداتهم وكرز بضرورة الختان فما كانوا قد اضطهدوه: “وَأَمَّا أَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَإِنْ كُنْتُ بَعْدُ أَكْرِزُ بِالْخِتَانِ فَلِمَاذَا أُضْطَهَدُ بَعْدُ” (غل 5: 11)، وما زال للآن المولودون بحسب الجسد يضطهِدون المولودين بحسب الروح، من جيل إلى جيل، ما زال قايين السالك بحسب الجسد يذبح أخيه هابيل السالك بالروح، وما زالت النفوس تحت المذبح تصرخ وتئن: “حَتَّى مَتَى أَيُّهَا السَّيِّدُ الْقُدُّوسُ وَالْحَقُّ لاَ تَقْضِي وَتَنْتَقِمُ لِدِمَائِنَا مِنَ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ. فَأُعْطُوا كُلُّ وَاحِدٍ ثِيَابًا بِيضًا وَقِيلَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَرِيحُوا زَمَانًا يَسِيرًا أَيْضًا حَتَّى يَكْمَلَ الْعَبِيدُ رُفَقَاؤُهُمْ وَإِخْوَتُهُمْ أَيْضًا الْعَتِيدُونَ أَنْ يُقْتَلُوا مِثْلَهُمْ (رؤ 6: 10، 11)، وهكذا في كل زمان لأن “جَمِيعُ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعِيشُوا بِالتَّقْوَى فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ يُضْطَهَدُونَ“ (2تي 3: 12)، أما نحن السالكين بحسب الروح فيجب أن نتفهَّم القضية ونرضى عن طيب خاطر بهذه الآلام، نتحملها بصبر ونشكر اللَّه عليها.
ويقول “الأب متى المسكين“: “والاضطهاد الذي نذوقه في حياتنا اليومية هو ثمن لتحيزنا للَّه ولما هو روحي وسمائي وكل ما يرضي اللَّه. وأما الموت والاستشهاد فهو تقرير ختامي ونهائي من جهة العالم أننا لسنا للأرض نعيش ولا بحسب الجسد نسلك.
ولكن أن أحزننا الاضطهاد ورفضته نفوسنا وتمرَّدت عليه وشكونا وعلا أنيننا وصراخنا، فهذا يعني بكل المعنى أننا نرفض نصيبنا السمائي وننكر أننا وُلدنا حسب الروح وحسب الروح نسلك، بل وأننا نطلب أن نتساوى مع المولدين حسب الجسد وحسب الجسد نطلب المجازاة“(289).
لكِنْ مَاذَا يَقُولُ الْكِتَابُ.. قال بولس الرسول من قبل: “وَالْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى“ قاصدًا رب الكتاب وصاحبه، كما قال: “أَلَسْتُمْ تَسْمَعُونَ النَّامُوسَ“ قاصدًا ما قاله اللَّه في الناموس، والآن يقول: “مَاذَا يَقُولُ الْكِتَابُ“ قاصدًا ماذا يقول اللَّه في الكتاب، وهنا يرسي معلمنا بولس مبدأ روحي هام، وهو أن يكون مرجعنا الأول هو الكتاب الصادق الأمين المُوحى به من اللَّه، فهو الذي يرسم لنا الطريق للملكوت.
اطْرُدِ الْجَارِيَةَ وَابْنَهَا.. عندما رأت سارة إسماعيل يمزح مع إسحق ويضايقه طلبت من زوجها أن يطرد هاجر وابنها: “وَرَأَتْ سَارَةُ ابْنَ هَاجَرَ الْمِصْرِيَّةِ الَّذِي وَلَدَتْهُ لإِبْرَاهِيمَ يَمْزَحُ. فَقَالَتْ لإِبْرَاهِيمَ اطْرُدْ هذِهِ الْجَارِيَةَ وَابْنَهَا لأَنَّ ابْنَ هذِهِ الْجَارِيَةِ لاَ يَرِثُ مَعَ ابْنِي إِسْحَقَ” (تك 2: 9، 10 )، وعندما قبح الكلام في عيني إبراهيم: ” فَقَالَ اللَّه لإِبْرَاهِيمَ لاَ يَقْبُحُ فِي عَيْنَيْكَ مِنْ أَجْلِ الْغُلاَمِ وَمِنْ أَجْلِ جَارِيَتِكَ. فِي كُلِّ مَا تَقُولُ لَكَ سَارَةُ اسْمَعْ لِقَوْلِهَا لأَنَّهُ بِإِسْحَقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ “(تك 21: 12)، فالتي قالت اطرد الجارية وابنها هي سارة، ومع هذا فإن بولس الرسول يقول: “مَاذَا يَقُولُ الْكِتَابُ“ أي اللَّه صاحب الكتاب، فمن القائل هل سارة أم اللَّه؟.. التي قالت هذه العبارة هي سارة، ولكن لأن اللَّه أمَّن على قولها وطلب من إبراهيم أن يستمع لها لذلك نُسب القول للَّه. ولا يعتبر طرد هاجر وإسماعيل ظلمًا من سارة ولا تحيزًا من اللَّه لإسحق ضد إسماعيل، لأن تصرفات إسماعيل لا تليق ببيت إبراهيم، ويقول “الأب متى المسكين“: “هذا هو حق سارة لأن البركة قد أعطيت لها ولابنها إسحق.. فمن حقها أن تطرد الجارية وابنها. ولكن من مجرد الكلام نجد أن إسماعيل ابن الجارية خرج عن حدوده كابن لإبراهيم بأن أهان سارة لأنها ولدت في شيخوختها فكأنه أهان تدبير اللَّه الحكيم. لذلك اشترك اللَّه مع سارة في هذا الأمر إذ ألزم إبراهيم بأن يطرد الجارية مع ابنها..
فالولد ولو أنه كان ابن أربع عشرة سنة حينما ولدت سارة إسحق إلاَّ أنه لم يطق أن يكون له غريم في البنوة لإبراهيم، وبالأكثر إذ أدرك أن إسحق هو ابن البيت الوريث أما هو فابن جارية. وهذا هو الذي دفعه أن يهزأ بسارة وابنها”(290).
وهذه هي النتيجة أن اللَّه سيطرد الذين يسعون لتبرّير أنفسهم بأعمال الناموس، فليس لهم مكان في بيت الآب، ويقول “ماكدونل“: “لو لجأ الغلاطيون إلى الكتاب لسمعوا هذا الحكم بعينه: أنه لا يمكن خلط الناموس بالنعمة، فمن المستحيل أن يرث أحد بركات اللَّه على أساس الاستحقاق البشري ومجهودات الجسد”(291).
ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: “ما دمنا أولاد العاقر فنحن إذًا أحرار ولكن أي حرية هذه إن كان اليهود يقبضون على المؤمنين ويضطهدونهم؟ يجب ألا ننزعج من هذا الأمر، فمنذ البداية كان ابن الجارية يضطهد ابن الحرة.. لا بد من الاضطهاد، ولكن كيف ستكون النهاية؟” اطْرُدِ الْجَارِيَةَ وَابْنَهَا” هنا نهاية الآلام والمظالم حين يُطرد ابن الجسد، ليس فقط لأنه يضطهد ابن الموعد ولكن أساسًا ليس له حق الميراث، لهذا لم يقل أطرد ابن إبراهيم بل “ابن الجارية” مميزًا إياه بأصله المنخفض. وهكذا نرى التشابه واضحًا بين سارة والكنيسة، فكما تأخرت تلك عن الولادة تأخر الأمم في دخول الإيمان حتى ملء الزمان. فنهتف إذًا بفرح إذ عرفنا اللَّه بعد عقم فصار أولادنا أكثر من أولاد المجمع اليهودي المولود“(292).
لاَ يَرِثُ ابْنُ الْجَارِيَةِ مَعَ ابْنِ الْحُرَّةِ.. لم يرث إسماعيل مع إسحق، ومع ذلك فإن اللَّه لم يحرم إسماعيل من البركات الأرضية التي تناسب طبيعته كإنسان وحشي، فقال اللَّه لإبراهيم: ” وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ. هَا أَنَا أُبَارِكُهُ وَأُثْمِرُهُ وَأُكَثِّرُهُ كَثِيرًا جِدًّا. اِثْنَيْ عَشَرَ رَئِيسًا يَلِدُ وَأَجْعَلُهُ أُمَّةً كَبِيرَةً. وَلكِنْ عَهْدِي أُقِيمُهُ مَعَ إِسْحقَ” (تك 17: 20، 21)، وهكذا يبارك اللَّه بعض المولودين بحسب الجسد فيصيرون سادة وعظماء يملكون الأرض ويستوفون خيراتهم في حياتهم الأرضية، ولكن ليس لهم ميراث في الملكوت ولا وطأة قدم واحد.
“إِذًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ لَسْنَا أَوْلاَدَ جَارِيَةٍ بَلْ أَوْلاَدُ الْحُرَّةِ“(غل 4: 31).
وهنا يصل بولس الرسول إلى النتيجة المفرحة المباركة ويقدِّم النتيجة النهائية والنصيحة لأولاده قائلًا لهم: “إِذًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ“ فهو يرفعهم إلى مستوى الإخوة قائلًا لهم ينبغي أن نكون أولادًا للمسيح وليس أولادًا للناموس، فإن أولاد الجارية هم في الحقيقة عبيد، والعبد لا يبقى في البيت إلى الأبد، ولا حق له في الميراث، أما نحن فنظير إسحق أولاد سارة الحرة أورشليم العليا سواء من اليهود أو من الأمم ما دام لنا إيمان إبراهيم وسارة.
فنحن أولاد الحرة طالما عشنا أحرارًا في المسيح وعرفنا الحق: “وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ.. فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا“ (يو 8: 32، 36).. علينا أن نتذكر دائمًا هذه الحقيقة أننا أبناء الملكوت أورشليم الحرة وليست أورشليم المستعبدة، وأن نسلم بمقتضى مركزنا وموقعنا ولا نتصرف كأبناء الجارية المستعبدة.. نحن أبناء ولسنا عبيد.. نحن أحباء ولسنا أجراء، فبحسب النعمة والحق ينبغي أن نسلك: “لأَنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا“ (يو 1: 17).
وأخيرًا علينا أن نتذكَّر:
1 أن سارة عندما حاولت حل مشكلتها بأن يكون لها بنين عن طريق هاجر فشلت، وهاجر احتقرتها، وابنها كاد يُفقِد إسحق بساطته، وانتهى الأمر بطرد سارة وابنها، الأمر الذي كان لا بد منه.
2 أقام إسماعيل في البيت أربعة عشر عامًا قبل ولادة إسحق كان هو الابن الوحيد لإبراهيم ووريثه، ولكن عندما وُلِدَ إسحق (الطبيعة الجديدة) بدأ الصراع بين الطبيعتين، وهذه طبيعة الحياة حيث يشتهي الجسد ضد الروح والروح ضد الجسد.
3 لا يمكن التوفيق بين السلوك بالجسد (الطبيعة القديمة) والسلوك بالروح (الطبيعة الجديدة)، فهذا لم ينجح في بيت إبراهيم، وصدر الأمر الإلهي بطرد الطبيعة القديمة (هاجر وابنها) لتعيش الطبيعة الجديدة (سارة وابنها) في سلام، بينما كان للمتهوِّدين رأي آخر وهو الجمع بين الطبيعتين بأن يبقى المؤمنون بالمسيح في إيمانهم، وفي نفس الوقت يلتزمون بالناموس فيمارسون الختان ويحفظون السبت والأعياد والذبائح والمأكولات والغسلات.. إلخ، وحتمًا فإن الأمر سينتهي بهم إلى عبودية الناموس والبُعد عن النعمة الإلهيَّة.
وجاء في “الموسوعة الكنسية“: ” لنتمسّك بعمل النعمة في حياتنا ونصارع بها لنتغلب على العادات الرديئة التي تتسلط علينا واثقين من قوة اللَّه مهما كانت خطايانا متكرّرة أو صعبة، وثقتنا في الحياة الجديدة التي وهبها لنا اللَّه تدفعنا للتوبة السريعة والتمسُّك بالكنيسة وعمل الخير“(293).
تفسير غلاطية 3 | تفسير رسالة غلاطية |
تفسير غلاطية 5 | |
أ/ حلمي القمص يعقوب | |||
تفاسير رسالة غلاطية | تفاسير العهد الجديد |