تفسير إنجيل يوحنا ١٤ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الرابع عشر
المعزي الآخر
الآن يقدم ثلاثة أحاديث وداعية سجلها لنا الإنجيلي في الأصحاحات ١٤-١٦.
في هذه الأحاديث يجتمع الراعي السماوي مع القلة القليلة التي تمثل قطيعه الضعيف، وقد أوشكت العاصفة أن تهب بكل قوة، وظن إبليس، الذئب المفترس، أنه حتمًا يحطم الراعي مع رعيته. أما الراعي وهو يتمم خطته الإلهية فيطََّمئن الرعية، طالبًا منها ألا تضطرب، بل يليق بها أن تتعرف على سرّ الحب الإلهي:
فمن جهة الآب، لديه منازل كثيرة تتسع للكل، وفي نفس الوقت مسرته أن يأتي مع الابن ويسكن في أعماق كل مؤمن.
ومن جهة الابن، فالعاصفة التي تهب ضده ما هي إلاَّ الطريق المُعد ليحمل رعيته خلال الصليب إلى العرش، وينعموا بشركة مجده. إنه أب يتحدث مع أولاده الصغار، الذي وإن فارقهم بالجسد إنما ليبعث لهم روحه القدوس معزيًا، فلا يتركهم يتامى، بل يقودهم إلى السماء عينها حيث المسيح صاعد!
ومن جهة الروح القدس، فهو المعزي الآخر، يقود الرعية إلى كل الحق الذي هو السيد المسيح، ويهبهم قوة للشهادة أمام العالم، مبكتًا العالم على عدم إيمانه ليجذبهم خلال كرازة التلاميذ إلى الإيمان، وعلى برّ لكي يدرك العالم أنه لن يتبرر إلاَّ ببرّ المصلوب، وعلى دينونة حيث يتحطم إبليس ويُدان.
تبقى هذه الأحاديث الوداعية سرّ قوة الكنيسة، إذ تجد فيها سرّ الخلاص الذي شغل الثالوث القدوس ويشغله حتى يكمل خلاص البشرية وتتمتع بما أعده الله لها.
هذا الأصحاح هو امتداد لحديث السيد المسيح مع تلاميذه بعد تأسيس سرّ الإفخارستيا وبعدما دان تصرف يهوذا، وأعلن ما سيفعله بطرس الرسول، منكرًا السيد المسيح ثلاث مرات. لقد أراد أن يهب بقية التلاميذ تعزية وراحة بعدما اضطربت نفوسهم وحزنت بحديثه أن أحدهم يسلمه والآخر ينكره. وقد رأينا في الأصحاح السابق أن الجلسة كانت أشبه بمؤتمر يتسم بالحوار المفتوح.
غالبًا ما يحدث الاضطراب بسبب الخوف من المجهول أو توقع خسارة فادحة تمس النفس أو الجسد أو الممتلكات، لهذا فإن علاج الاضطراب هو الإيمان، الذي يهب النفس بصيرة فتعرف موضع استقرارها الأبدي، وتدرك أنها بالله قادرة على هدم حصون، ولا تقدر قوة ما أن تحطمها، وتتمتع بالثبوت في الله ضابط السماء والأرض، وكل خليقة ظاهرة أو خفية.
-
الراحة الأبدية ١ – ٣
يري القديس يوحنا الذهبي الفم أن التلاميذ قد اضطربوا جدًا، خاصة بعدما كشف السيد المسيح عما سيفعله بطرس الرسول. فإن كان هذا التلميذ قد اتسم بالغيرة المتقدة، وكان في رفقة السيد، وقد أعلن رغبته أن يقدم حياته من أجل المسيح سينكره ثلاث مرات فأي رجاء لهم؟ لهذا قدم لهم السيد الحديث التالي لينزع ما في نفوسهم من اضطراب، ويفتح أمامهم أبواب الرجاء للتمتع بالسماء!
“لا تضطرب قلوبكم،
أنتم تؤمنون بالله، فأمنوا بي”. (1)
يحذرنا السيد المسيح من القلق والاضطراب، مقدمًا لنا الإيمان به كعلاجٍ عمليٍ للمعاناة من القلق. كان القلق واضحًا في نظراتهم. “كان التلاميذ ينظرون بعضهم إلى بعض وهم محتارون في من قال عنه” (يو ١٣: ٢٢). هذا وقد رأى السيد ليس فقط نظراتهم المضطربة، وإنما قلوبهم التي تدمي من القلق في الداخل. لم يتركهم في اضطرابهم إذ يهتم بسلامهم وسلامنا الداخلي. الآن يفتح لهم باب الأمان والسلام ألا وهو الإيمان به، يؤمنوا به كمخلص يتألم ويموت لأجلهم لكي يهبهم قوة القيامة وبهجتها، ويفتح لهم طريق السماء، ويهبهم حق العبور إلى مواضع الراحة الأبدية.
بدأ التلاميذ يفقدون رجاءهم في إقامة مملكة على الأرض، وبدأت أحلامهم من جهة يسوع تضيع، أما هو فرفعهم إلى الميراث الأبدي الروحي، رفع قلوبهم إلى السماء لكي تشتاق إلى ما قد يُعد لهم هناك.
v انظروا كيف عزى السيد المسيح تلاميذه بقوله: “لا تضطرب قلوبكم“، إذ أوضح بهذا القول الأول قدرة لاهوته، لأنه عرف الأفكار التي جازت في أنفسهم، ورد عليها في وسط كلامه.
وبقول السيد المسيح: “أنتم تؤمنون بالله، فآمنوا بي” كأنه يقول: “يجب أن تعبر هذه الشدائد كلها، لأن الإيمان بي وبأبي هو أقوى اقتدارًا من المصائب الواردة عليكم، ولا يسمح لأي شر أن يغلبكم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v يؤكد الرب دومًا هذا التعريف لإيمان الكنيسة الذي يتضمن التعليم بأنه يوجد إله واحد الآب، لكنه لا يفصل نفسه عن سرّ الإله الواحد… وهو ليس بإلهٍ ثانٍ، ولا بالإله المنفرد.
وحيث أن طبيعة الإله الواحد فيه لا يمكن أن يكون إلهًا مختلفًا عنه… فهو لا يقدر أن ينفصل عنه، ولا أن يندمج فيه. لهذا يتحدث بكلمات مختارة بتأنٍ، فما يدعيه بالنسب للآب يشير بلغة متواضعةً أنها تناسبه هو أيضًا. خذ كمثال الأمر: “تمسكوا بالإيمان بالله، فآمنوا بي“. إنه يتماثل مع الله في الكرامة. أسألكم كيف يمكنه أن ينفصل عن طبيعته؟ يقول: “تمسكوا بالإيمان بي أيضًا” كما قال: “تمسكوا بالإيمان بالله” أليس القول: “بي in me ” يعنى طبيعته؟
القديس هيلاري أسقف بواتييه
v أنتم تخشون الموت بخصوص شكل العبد هذا؛ “لا تضطرب قلوبكم” (١) فإن شكل الله سيقيمه ثانية.
القديس أغسطينوس
“في بيت أبي منازل كثيرة،
وإلا فإني كنت قد قلت لكم أنا أمضي لأعد لكم مكانًا”. (2)
يدعو السماء “بيت أبيه“، فهو يعود إلى بيت أبيه الذي هو بيته، وهناك يعد مواضع وشقق mansions لمؤمنيه، فيشعر كل واحدٍ أنه راجع إلى بيت أبيه السماوي أو بيته الذي ينتظره. وبقوله “مواضع كثيرة” يعطينا طمأنينة أن لله أبناء كثيرين، وأن السماء متسعة للجميع. وقد جاءت الكلمة اليونانية تعني مسكنًا دائمًا وإقامة مستمرة.
عوض المملكة الزمنية وجه أنظارهم إلى مملكة المجد الأبدي. وهي مملكة متسعة جدًا يمكن أن تضم كل البشرية إن أرادت، “في بيت أبي منازل (مواضع) كثيرة” (٢).
إن كان سيتركهم بالجسد، إنما من أجل مجدهم. “لأعد لكم مكانًا” (٢)، فهو لا يذهب من أجل راحته الشخصية ومجده، وإنما ليهيأ لكل واحدٍ موضعًا خاصًا به.
إن كان اليهود يفتخرون بالهيكل كبيت الله، وقد ضم غرف كثيرة (١ مل ٦: ٥؛ عز ٨: ٢٩؛ إر ٣٥: ٢، ٤؛ ٣٦: ١٠) فإن هيكل السماء به منازل كثيرة متنوعة ليجد كل مؤمن مكانًا فيه.
“وإلا فإني قد قلت لكم“: لست أقدم لكم رجاءً باطلاً، فقد وعدتكم بالميراث الأبدي، لتكونوا معي حيث أكون أنا. لو لم يوجد لكم مكان لما قلت هذا لكم.
v وكما سند السيد المسيح بطرس الرسول حين كان حزينًا بقوله: “ولكنك ستتبعني أخيرًا” (13: 36) هكذا قدم لهؤلاء هذا القبس من الرجاء، حتى لا يظنوا أنه قد أُعطي الوعد بذلك لبطرس وحده، قال لهم: “في بيت أبي مواضع كثيرة“. وفي قول السيد المسيح لتلاميذه: “أنا أمضي لأعد لكم مكانًا” يظهر أن ذاك المكان الذي يقبل بطرس يقبلهم أيضًا، لأن هناك فيض من السعة في المواضع.
القديس يوحنا الذهبي الفم
يرى جوفنيانوس Jovinianus أن المواضع الكثيرة في بيت أبينا هي الكنائس المنتشرة في العالم، ويرد عليه القديس جيروم بأن ربنا يناقش هنا لا عدد الكنائس بل المنازل السماوية والمساكن الأبدية.
v مع تنوع المجد في السماء إلا أن الكل يتمتعون ببيتٍ واحدٍ، وقد صعد الرب لا ليُعد مواضع كثيرة، بل يُعدّ بيتًا واحدًا، فالكل يشتركون في ذات البيت ويشعرون بالكفاية والشبع، وإن اختلف مجد كل نجمٍ عن الآخر.
القديس جيروم
v هل كان يمكن لأحدهم ألا يخاف إن كان بطرس أكثرهم ثقة وجراءة قيل له: “لا يصيح الديك حتى تنكرني ثلاث مرات” (يو ١٣: ٣٨)؟
فإذ حسبوا أنفسهم ابتداء من بطرس كمن مصيرهم الهلاك، لذلك اضطربوا. والآن إذ يسمعوا: “في بيت أبي مواضع كثيرة، وإلا فإني كنت قد قلت لكم، أنا أمضي لأعد لكم مكانًا” ينتعشون من اضطرابهم ويصيرون في يقين وثقة أنه بعد عبور مصائب التجارب يسكنون مع المسيح في حضرة الله.
فمع أن الواحد أقوى من الآخر، والواحد أحكم من الآخر، والواحد أبرّ من الآخر فإنه: “في بيت الآب يوجد مواضع كثيرة“. لن يبقى أحد منهم خارج هذا البيت، حيث يتقبل كل واحدٍ موضعًا حسب استحقاقه.
الكل يتشابه في أخذ الفلس الذي أمر صاحب البيت أن يعطيه لكل من يعمل في الكرم، دون تمييز بين الذين عملوا أقل أو أكثر (مت ٢٠: ٩). هذا الفلس حتمًا يشير إلى الحياة الأبدية، حيث لا يعيش أحد مدة مختلفة عن الآخرين، إذ لا يوجد في الأبدية مقياس متباين. لكن المواضع الكثيرة تشير إلى درجات استحقاق كل واحدٍ في الحياة الأبدية الواحدة. فللشمس مجد، وللقمر مجد آخر، وللنجوم مجد آخر، نجم يمتاز عن نجم في المجد. هكذا يكون في القيامة من الأموات.
القديسون، مثل كواكب في السماء، ينالون في الملكوت مواضع متنوعة بدرجات مختلفة من البهاء. ولكن بناء على ذلك الفلس لا يُحرم أحد من الملكوت. وسيكون الله هو الكل في الكل (١ كو ١٥: ٤١، ٤٢) بطريقة معينة هكذا، التي هي الله محبة (١ يو ٤: ٨). سيحقق الحب هذا بالأمر العام (الملكوت) الذي هو عام بالنسبة للكل. فإنه بهذه الطريقة كل واحدٍ بالحقيقة يقتني هذا (الملكوت)، وإذ يحب أن يرى في الآخرين ما هو ليس لديه. لهذا لن يكون هناك حسد بين هذا البهاء المتنوع، حيث أن وحدة الحب تملك على الكل.
v ليذهب الرب ويعد لنا مكانًا. ليذهب فلا يُرى، وليبقى مختفيًا حتى نمارس الإيمان. بهذا يعد لنا المكان، الذي هو بالإيمان نحيا. لتكن لدينا الرغبة في الإيمان بهذا المكان حتى يُقتنى الموضع المُعد. الاشتياق إلى الحب هو الإعداد للمنزل. لتعد يا رب ما أنت تعده، فإنك تعدنا لك، وتعد ذاتك لنا، وذلك قدر ما تعد لك موضعًا فينا، ولنا فيك. إذ تقول: “اثبتوا فيّ وأنا فيكم” (يو ١٥: ١). وكما أن لكل واحدٍ شركة فيك، البعض أقل والبعض أكثر هكذا يكون التنوع في المكافآت حسب الاستحقاقات المختلفة.
القديس أغسطينوس
يتساءل القديس أغسطينوس كيف يعد السيد المسيح بأنه يذهب ليعد لنا مكانًا وفي نفس الوقت يقول: “في بيت أبي مواضع كثيرة“، أي معَدَّة بالفعل؟ يجيب على ذلك بأنه بالفعل قد أعدها مسبقًا بتدبيره من أجلنا، وأنه يتمم ذلك في شيء من التفصيل العملي الدقيق. وذلك كما نرى في الأناجيل السيد المسيح يختار تلاميذه ويقدم لهم الدعوة، ومع ذلك يقول الرسول: “اختارنا قبل تأسيس العالم” (أف ١: ٤). هكذا تم تعيينهم قبل تأسيس العالم بخطته الإلهية، وحقق ذلك عمليًا عندما تجسد ودعا التلاميذ والرسل.
“وإن مضيت وأعددت لكم مكانًا آتي أيضًا وأخذكم إلي،
حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضًا”. (3)
ذهاب السيد المسيح هو فتح للطريق، إذ يُعد الموضع، ويعطي حق العبور به إلى مملكة المجد الأبدي. إنه يعود بذاكرتهم إلى موكب الشعب القديم حيث كان يتقدمهم ليلتمس لهم منزلاً (عد ١٠: ٣٣)، هكذا يتقدمهم السيد ليعبر بهم مسيرة الثلاثة أيام، أي مسيرة القيامة، والنصرة على الموت، ليجد الكل مواضع في السماء!
يرى السيد المسيح القيادات الدينية مع الشعب وهم في اضطراب شديد يريدون الخلاص منه، ويصرخون: “اصلبه، اصلبه!” لذا أوصى تلاميذه ألا يلحق هذا الاضطراب بقلوبهم، فإنه بينما يضطرب العالم حوله للخلاص من يسوع، إذا به ينطلق بإرادته ليفتح باب المجد حتى لمقاوميه. إنه يود خلاص الجميع!
جاء التعبير “آخذكم إليَّ” في اليونانية يحمل فيضًا من الحب والشوق والانجذاب نحو السيد المسيح. هذا هو عمل الروح القدس الذي يسكب الحب في القلب، فيشتاق إلى اللقاء معه وجهًا لوجه، وأن ينضم إلى حضنهم، حيث يستدفئ بقوة حب المسيح الفائق له. ما ننعم به من جاذبية الآن إلى السيد وثبوت فيه هو عربون لما سنناله، ولكن لا يمكن أن يُقارن به.
قبل الله الكلمة أن يصير إنسانًا، وحلّ بيننا، وصار مواطنًا معنا في عالمنا، لكي يحملنا إلى وطنه السماوي ننعم بالشركة في الطبيعة الإلهية، ونُحسب أهل بيت الله (أف ٢: ١٩). صارت شهوة قلبنا أن نقول مع الرسول: “لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جدًا” (في ١: ٢٣)، نتبعه حيثما ذهب (رؤ ١٤: ٤). هذه هي طلبة العريس السماوي من أجل عروسه: “يكونون معي حيث أكون أنا” (يو ١٧: ٢٤)، أي تتمتع العروس بالخدر السماوي.
v كأن السيد المسيح يقول لتلاميذه: إنني قد حرصت من أجل هذا الأمر حرصًا جزيلاً، موضحًا أنه ينبغى عليهم أن يثقوا ويؤمنوا بذلك، ويترجوه جدًا.
القديس يوحنا الذهبي الفم
-
المسيح طريق الراحة ٤ – ١١
“وتعلمون حيث أنا اذهب،
وتعلمون الطريق”. (4)
إذ تحدث معهم عن الصليب وقدم لهم جسده ودمه المبذولين، حسبهم السيد يعلمون أين هو ذاهب، وما هو الطريق الذي يسلكه، حيث يفتح بصليبه أبواب الدخول إلى حضن الآب السماوي.
إذ قدم لهم السيد المسيح الحياة السماوية المطوّبة كتعزية لهم وسط الآلام، أظهر لهم ما هو الطريق إلى هذه الحياة. يقول: “لقد عرفتم البيت السماوي، بيت أبيكم الذي تستقرون فيه، وعرفتم الطريق المؤدي إليه. لقد سبق فأخبرتكم عنه مرارًا بكل وضوح، وكان يليق بكم أن تعرفوه”.
v قال هذا إذ كان يعرف أنفسهم أنها تطلب فيما بعد أن تعرف هذا المطلوب. وبقوله: “وتعلمون الطريق” أوضح الشهوة التي في نيتهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v علمنا أن في بيت أبينا مواضع كثيرة (يو 2:14) يقابل هذا حدد ما هي حالة الصلاح التي بلغها كل شخص يرفض الشر كعلاج.
فمثلاً الشخص الوارث بعض المواهب الصالحة منذ بدء حياته وخروجه من ممارسة الشر حديثًا إلى السلوك السوي والحق، يقابله شخص آخر بلغ إلى السلوك السوي والحق بالمثابرة والتقدم فيها.
بينما شخص ثالث نمى بواسطة رغبته في الخير، وأيضا شخص آخر يبقى مستمرًا بحزم في ارتفاعه إلى مستوى عالٍ في الفضيلة، وقد يتمكن شخص آخر أن يتقدمه في الارتفاع إلى مستوى أعلى.
وقد يسبق البعض هؤلاء، بينما يحاول آخرون بشدة في الارتفاع.
يقبل اللّه كل شخص حسب إرادته الحرة، ويرتب الاختيار حسب استحقاق كل شخص، فيمنح تعويضًا للأشخاص الأكثر نبلاً، ويعطى مكافآت لمن هم أقل مستوى.
القديس غريغوريوس النيسي
“قال له توما:
يا سيد لسنا نعلم أين تذهب،
فكيف نقدر أن نعرف الطريق؟” (5)
مع كل ما أعلنه السيد عن الصليب والقيامة، لكن لم يكن ممكنًا لهم إدراك ذلك، ربما ظنوا أنه يرتفع مثل إيليا بمركبة نارية، أو تحمله ملائكة إلى السماء، أو ينطلق إلى حضن إبراهيم الذي يشتهيه كل يهودي. تحيَّر توما في الأمر كما تحيَّر التلميذان اللذان كانا في طريقهما إلى عمواس حتى بعد أن أكد لهما النسوة قيامته.
بحديثه اللطيف معهم فتح مجال الحوار معه، فتحدث معه على الأقل تلميذان: توما وفيلبس. سأله توما عن الطريق دون أن يعتذر بأنه يناقض كلمات السيد المسيح القائل: “تعلمون الطريق” (4). لم يخجل توما من الاعتراف بأنه لم يفهم كلمات السيد، ولا عرف إلى أين هو ذاهب حتى يعرف الطريق، على خلاف بطرس الذي ظن أنه يقدر أن يذهب مع المسيح حتى وإن كانت التكلفة هي حياته ذاتها (يو ١٣: ٣٧).
حسن أن يعترف توما بجهله، لكنه ملوم لأنه يفكر في ملكوت أرضي، لذا ظن أن السيد يذهب إلى بلدٍ آخر. لهذا لم يعرف الطريق. لم يعرف إن كان يذهب إلى بيت لحم أو الناصرة أو كفرناحوم أو إحدى مدن الأمم، كما ذهب داود إلى حبرون لكي يُمسح ملكًا ويرد الملك لإسرائيل. هل ظن توما أن السيد المسيح سيذهب إلى عالم الأرواح غير المنظور… لا نعلم!
v قال بطرس ما قاله (أين تذهب؟ يو 18: 36) لا ليتعلم، وإنما ليتبعه. ولكن عندما انتهر بطرس وكشف المسيح أن ما هو ممكن يبدو الآن مستحيلاً (بأن يتبعه التلاميذ)، وظهرت الاستحالة في تحقيق ذلك قاده ذلك إلى الرغبة في معرفة الأمر بدقة لذلك قال السيد للآخرين: “وتعرفون الطريق“. فإذ قال: “ستنكرني” (13: 39) قبل أن ينطق أحد بكلمة، إذ هو فاحص قلوبهم، قال:” لا تضطربوا“. الآن إذ يقول هنا: “تعرفون” كشف عن الرغبة التي في قلوبهم، معطيًا إياهم عذرًا لسؤالهم. الآن ما قاله بطرس “أين تذهب” عن محبة خالصة، قاله توما عن جبنٍ.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“قال له يسوع:
أنا هو الطريق والحق والحياة،
ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي”. (6)
جال فكر توما هنا وهناك لعله يدرك إلى أين يذهب يسوع، كما جال فكر مرثا إلى اليوم الأخير عندما أخبرها السيد أن أخاها يقوم. وفي الحالتين، كما في أغلب المواقف إن لم يكن جميعها يسحب السيد المسيح أنظار السامعين إلى شخصه، قائلاً: “أنا هو“. فهو الطريق والحق والحياة والقيامة والراعي والباب والخبز النازل من السماء، فيه كل كفايتنا. فالطريق ليس خارجًا عنه، والحق ليس له وجود بدونه، والحياة ليست إلاَّ فيه.
هو الطريق الذي إذ ندخله ندخل إلى الآب دون أن نخرج من الابن، لأن الابن في الآب، هكذا باتحادنا مع الابن ننعم بالاتحاد مع الآب.
إذ يقدم نفسه الطريق والحق والحياة لا يفصل بينهم، لأنه هو الكل لنا. هو الطريق، نؤمن به فنثبت فيه وهو فينا لينطلق بنا إلى حضن الآب، وهو الحق بروحه ينير أعماقنا فنكتشف الأسرار الإلهية الفائقة المعرفة، وهو الحياة إذ نقبل حياته حياة ممنوحة لنا. بهذا نتمتع بالدخول إلى الآب والتعرف عليه والتمتع به.
صحح السيد المسيح مفهوم توما، فأعلن له أنه هو الطريق الذي يقودهم إلى الآب وإلى معرفته. إنه الطريق بتعاليمه (يو ٦: ٨٦)، وبمثاله (١ بط ٢: ٢١)، وبذبيحته (عب ٩: ٨-٩)، وبروحه (يو ١٦: ١٣). إنه الطريق الذي فيه تتحقق كل الوعود الإلهية (٢ كو ١: ٢٠). لا يستطيع أحد أن يأتي إلى الآب إلاَّ به، ولا إلى معرفته ما لم يخبره الابن عنه.
إنه الطريق الذي تحدث عنه إشعياء النبي قائلاً: “وتكون هناك سكة وطريق يُقال لها الطريق المقدسة، لا يعبر فيها نجس بل هي لهم. من سلك في الطريق حتى الجهال لا يضل. لا يكون هناك أسد، وحش مفترس لا يصعد إليها، لا يوجد هناك، بل يسلك المفديون” (إش ٣٥: ٨-٩).
إنه الطريق الذي قدم فيه دمه ليعبر بنا إلى المقدس (عب ٩: ١٢)، فيه نتمتع بالصليب شجرة الحياة.
إنه الحق، الذي فيه كملت الظلال والرموز الواردة في العهد القديم. فهو المن الحقيقي النازل من السماء (يو ٦: ٣٢)، وخيمة الاجتماع (عب ٨: ٣).
إنه الحق الذي يبدد كل ما هو باطل وما هو خطأ.
إنه الحق الذي يحطم كل خداع؛ ففيه نجد الثقة الحقيقية والحقيقة (٢ كو ١: ٢٠).
هو الحياة والقيامة: “احسبوا أنفسكم أمواتًا عن الخطية، ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا” (رو٦: ١١).
إنه الطريق والحق والحياة، وكأنه هو البداية والنهاية وما بينهما. به نبدأ الحياة، ونسلك الطريق، ونبلغ إلى النهاية.
v إذن الطريق هو قوة اللَّه الفائقة، لأن المسيح هو طريقنا، الطريق الصالح، أيضًا هو الطريق الذي يفتح ملكوت السماوات للمؤمنين… المسيح هو بدء فضيلتنا، هو بدء الطهارة.
القديس أمبروسيوس
v “أنا هو الطريق“؛ هذا هو البرهان علي أنه “ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي”.
أنا هو الحق والحياة، بهذا فإن هذه الأمور ستتحقق حتمًا. فإنه لا يوجد معي باطل، إذ أنا هو الحق.
إن كنت أنا هو الحياة أيضًا، فإنه لا يقدر حتى الموت أن يعوقكم عن المجيء إلي.
بجانب هذا فإني إن كنت أنا هو الطريق، فلا تحتاجون إلى من يمسك بأيديكم ويقودكم. وإن كنت أنا هو الحق فكلماتي ليست كذبًا، وإن كنت أنا هو الحياة فإنكم وإن متم تنالون ما أخبرتكم به…
لقد نالوا تعزية عظيمة بكونه هو الطريق. كأنه يقول: “إن كان لي السلطة المنفردة أن أحضر إلى الآب، فإنكم حتمًا ستأتون إليه، إذ لا يمكن لكم أن تأتوا إليه بطريق آخر. ولكن بقوله قبلاً: “لا يستطيع أحد أن يأتي إليّ ما لم يجتذبه الآب” وأيضًا: “وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلي الجميع” (12: 32)، وأيضًا “لا يأتي أحد إلي الآب إلا بي” (14: 6)، يظهر بهذا أنه معادل لمن ولده.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v يقول المخلص نفسه: “أنا هو الطريق والحق والحياة” (٦). ويقول الرسول: “متى أُظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تظهرون أنتم أيضًا معه في المجد” (١ كو ٣: ٤). مرة أخرى جاء في المزامير: “رحمتك أفضل من الحياة lives” (مز ٦٢: ٤). الحياة بصيغة الجمع مضاعفة، لأن المسيح هو الحياة في كل أحد.
v هذا الطريق صالح يقود الإنسان الصالح إلى الآب الصالح، الإنسان الذي يجلب خيرات من كنزه الصالح، العبد الصالح والأمين (مت ٧: ١٤؛ لو ٦: ٤٥؛ مت ٢٥: ٢١). لكن هذا الطريق ضيق، لا يستطيع الغالبية، الذين هم بالأكثر جسديون أن يسافروا فيه. لكن الطريق ضيق أيضًا بالذين يجاهدون ليعبروا فيه إذ لم يُقل “إنه محصور” بل ضيق.
العلامة أوريجينوس
v الآن الطريق غير قابل للخطأ، أعني يسوع المسيح؛ إذ يقول: “أنا هو الطريق والحياة“. هذا الطريق يقود إلى الآب، إذ يقول “ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي” (يو 6:14).
القديس أغناطيوس الأنطاكي
v الآب الأسمى والمكرم هو أب الحق نفسه، أي أب الابن الوحيد الجنس. والروح القدس له روح الحق… لذلك فمن يعبدون الآب بالروح والحق، ويتمسكون بهذه الوسيلة للإيمان يتقبلون أيضًا طاقات خلالها. يقول الرسول: “لأن الروح واحد الذي به نقدم تكريمًا، وبه نصلى”. (راجع يو 4: 23، 24). الابن الوحيد الجنس يقول: “لا يأتي أحد إلى الآب إلا بي“، لذلك فإن الذين يكرمون الآب باسمي بالروح والحق هم عابدون حقيقيون.
الأب غريغوريوس بالاماس
v كل إنسان يرغب في الحق والحياة، لكن ليس كل أحدٍ يجد الطريق.
v سرْ به كإنسان (بتجسده صار طريقًا لخلاصنا)، فتأتي إلى الله. به تذهب وإليه تذهب.
لا تنظر خارجًا عنه إلى إي طريق به تذهب إليه. فإنه إن لم يهبنا أن يكون الطريق نضل على الدوام. لقد صار الطريق الذي به تذهبون إليه.
لست أقول لكم: ابحثوا عن الطريق. فالطريق ذاته يأتي إليكم، قوموا واسلكوا فيه. اسلكوا بالحياة لا بالأقدام. فإن كثيرين يسيرون حسنًا بأقدامهم، وأما بحياتهم فيسيرون بطريقة شريرة.
أحيانًا حتى الذين يسيرون حسنًا يجرون خارج الطريق. هكذا ستجدون أناسًا يعيشون حسنًا لكنهم ليسوا مسيحيين. إنهم يجرون حسنًا، لكنهم لا يجرون في الطريق. بقدر ما يجرون يضلون، لأنهم خارج الطريق. لكن إن جاء مثل هؤلاء إلى الطريق، وتمسكوا به كم يكون إيمانهم عظيمًا، إذ يسيرون حسنًا ولا يضلون! لكن إن لم يتمسكوا بالطريق، يا لشقاؤهم هم سلكوا حسنًا! كم يلزمهم أن ينوحوا. كان الأفضل لهم أن يتوقفوا في الطريق عن أن يسيروا بثبات خارج الطريق.
v يقول الرب إنهم يعرفون الأمرين (أين هو ذاهب، وما هو الطريق)، أما (توما) فيعلن أنه لم يعرفهما، أي لم يعرف الموضع الذي يذهب إليه (السيد) والطريق للبلوغ إليه. لم يعرف (توما) أنه ينطق بكلمات باطلة، إذ هم يعلمون ذلك، لكنهم لا يعرفون أنهم يعلمون. فالسيد يقنعهم بأنهم بالفعل عرفوا ما يظنون أنهم يجهلونه، إذ يقول: “أنا هو الطريق والحق والحياة” (٦)… إذ عرفوا الذي هو الحق، فإنهم يعرفون الحق. إذ عرفوا ذاك الذي هو الحياة، فقد عرفوا الحياة. انظروا، لقد اقتنعوا أنهم عرفوا ما لم يعرفوا أنهم عرفوه.
v لقد كان بنفسه ذاهبًا إلى نفسه. إلى أين نحن نذهب إلاَّ إليه؟ وبأي طريق نذهب إلا به نفسه، فبه نذهب إليه. بنفس الطريق هو ونحن نذهب هكذا إلى الآب.
v نال الرسول توما بأن تكون أمامه (أيها الرب يسوع) لكي يسألك أسئلة، ومع ذلك لم يستطع أن يدركك حتى اقتناك فيه.
إنني أسألك لأني أعرف أنك أعلى مني.
إنني اسأل وأبحث قدر ما أستطيع لكي ما أجعل نفسي تنتشر في ذلك الموضع الذي أعلى مني، حيث أصغي إليك يا من لا تستخدم صوتًا خارجيًا لكي تقنع بتعليمك.
أسألك اخبرني، كيف تذهب إليك؟
هل تركت نفسك لتأتي إلينا حيث أنك أتيت ليس من ذاتك بل من الآب الذي أرسلك؟
بالحقيقة أعلم أنك أخليت ذاتك، إذ أخذت شكل العبد. إنك لم تنزع عنك شكل الله لكي تعود إليه، ولا فقدته كأمر تسترده… إنك بهذا أتيت، لكنك كنت ولا تزال قاطنًا حيث كنت توجد، وتعود دون أن تترك الموضع الذي أتيت إليه.
إن كنت بهذه الوسيلة أتيت وعدت فبذلك أنت هو ليس فقط الطريق الذي به نذهب إليك، بل أنت الطريق لنفسك أن تذهب وترجع.
v كما لو أنه قال: بأي طريق تذهبون؟ “أنا هو الطريق“.
إلى أين تذهبون؟ “أنا هو الحق“.
أين ستقطنون؟ “أنا هو الحياة“.
لنسير إذن في الطريق بكل يقين، لكننا نخشى الشباك المنصوبة على جانب الطريق.
لا يجرؤ العدو أن ينصب شباكه في الطريق، لأن المسيح هو الطريق، لكن بالتأكيد لن يكف عن أن يفعل هذا في الطريق الجانبي.
لهذا أيضًا قيل في المزمور: “وضعوا لي عثرات في الطريق الجانبي” (مز ١٣٩: ٦ LXX). وجاء في سفر آخر: “تذكر أنك تسير في وسط الفخاخ” (ابن سيراخ ٩: ١٣ Ecclus). هذه الفخاخ التي نسير في وسطها ليست في الطريق، وإنما في الطريق الجانبي.
ماذا يخيفك؟ سرْ في الطريق!
لتخف إذن إن كنت قد تركت الطريق.
فإنه لهذا سُمح للعدو أن يضع الفخاخ في الطريق الجانبي، لئلا خلال أمان الكبرياء تنسى الطريق وتسقط في الفخاخ.
v المسيح المتواضع هو الطريق، المسيح هو الحق والحياة، المسيح هو الله العلي الممجد.
إن سلكت في المتواضع تبلغ المجد.
إن كنت ضعيفًا كما أنت الآن لا تستخف بالمتواضع، فإنك تثبت بقوة عظيمة في المجد.
v إنه الطريق “الكلمة صار جسدًا” (١: ١٤).
لديه الطريق: “أخلى ذاته وأخذ شكل العبد” (في ٢: ٧).
إنه البيت الذي إليه نذهب، إنه الطريق الذي به نذهب.
ليتنا نذهب به إليه فلا نضل.
القديس أغسطينوس
v ذاك الذي يُسيِّج حولي ويغلق طرقي الشريرة (هو 6:2) أجده هو الطريق الحقيقي القائل في الإنجيل: “أنا هو الطريق والحق والحياة” (6).
القديس جيروم
v المسيح ليس فقط هو اللَّه، بل بالحقيقة اللَّه الحق، إله حق من إله حق، إذ هو نفسه الحق.
القديس أمبروسيوس
v لا يمكن أن يوجد أي رجاء في الخلاص دون معرفة هذين الاثنين (الآب والابن) في نفس الوقت.
الشهيد كبريانوس
v انظر إلى نفسك داخل نفسك. “لماذا تنظر القذى في عين أخيك، ولا تدرك الخشبة التي في عينك؟” (مت ٧: ٣)
النفس التي تخرج من ذاتها مدعوة للدخول إلى نفسها، فبخروجها من ذاتها خرجت من ربها…
لقد انسحبت منه، ولم تقطن في ذاتها، ومن ذاتها تقاوم، وطردت من ذاتها وسقطت في أمور لا تخصها…
لقد نسيت النفس ذاتها خلال محبتها للعالم.
الآن فلتنسَ ذاتها لكن خلال محبة خالق العالم!
القديس أغسطينوس
v توجد طرق كثيرة للذين يؤمنون بالمسيح ويكونون تحت قيادته يلزمهم أن يسلكوها قبل الدخول إلى الأرض المقدسة، فإنهم بعد أن يخرجوا من مصر، ويعبروا كل هذه المراحل الواردة في الكتاب المقدس، يستريحون. “هذه رحلات بني إسرائيل… حسب قول الرب” (عد 1:33، 2).
من الذي نظَّم السبل التي يجب أن يسلكها بنو إسرائيل في هذه المراحل؟ من إلاَّ الله؟ لقد نظمها بعمود النار والسحابة المضيئة…
الآن، تأمل فإن نفس الشيء يحدث روحيًا في مسيرتك، إذا خرجت من مصر، وكنت قادرًا أن تتبع المخلص يسوع (يشوع) الذي يدخل بك إلى الأرض.
يبدو أن موسى (الناموس) هو القائد، لكن كان يشوع متواجدًا بجانبه دون أن يقود علانية.
انتظر لكي يقود موسى إلى اللحظة التي فيها يكمل زمانه، عندئذ يأتي ملء الزمان (غل 4:4) ويقود يسوع… يتسلم يسوع تعليم الشعب ويقدم وصاياه علنًا.
فلنسلك إذن فيها ونصلي قائلين: “ضع لي يا رب ناموسًا، في طريق حقوقك، فاتبعه كل حين” (مز 119: 33).
إنني أسعى (اتبعه) مادام يوجد “طريق الحقوق“.
إنه ليس بالطريق السهل، ولا يحتاج إلى يومين أو ثلاثة أيام أو حتى عشرة أيام، إنما في الواقع إلى كل أيام الحياة لعلي أجد طريق حقوقه.
وبنفس الكيفية احتاج أن أجد “طريق الشهادة“: “فرحت بطريق شهاداتك مثل كل غنى” (مز 119: 14)؛ كما يوجد “طريق الوصايا“: “في طريق وصاياك سعيت عندما وسعت قلبي” (مز 119: 32).
كل هذه الطرق هي في أصلها طريق واحد، وهو ذاك الذي يقول: “أنا هو الطريق” (يو 6:14). لنسلك إذن في كل هذه الطرق حتى نبلغ غايتها وهو “المسيح”.
العلامة أوريجينوس
v لا يتلوث الإنسان مرة أخرى بالتراب من الأرض بعدما غسل قدميه: تقول العروس: “قد غسلت رجلي فكيف أوسخهما” (نش 3:5). خلع موسى نعليه من رجليه (وهو مصنوع من جلد حيوان ميت)، لأنه كان يسير على أرض مقدسة (خر 5:3).
يقول الكتاب أن موسى لم يلبس نعليه مرة أخرى، بل حسب أوامر اللّه له على الجبل صنع ثياب الكهنة التي استخدم في حياكتها خيوطًا ذهبية وزرقاء وبنفسجية وحمراء والكتان الفاخر حتى يشع جمالها حولهم (خر 5:28، 8). ولم يعمل موسى أية زينة على قدميه، لأن أقدام الكهنة تبقى عارية دون غطاء. لأن الكاهن يسير على الأرض المقدسة، فيلزم ألا يستعمل حذاء من جلد حيوان ميت. لذلك منع السيد المسيح تلاميذه من لبس أحذية، لأنه أمرهم أن يسيروا في طريق القداسة (مت 5:10، 6).
أنتم تعرفون هذا الطريق المقدس الذي أمر السيد المسيح تلاميذه أن يسيروا فيه قائلاً: “أنا هو الطريق” (يو 6:14). لا نتمكن أن نسير في هذا الطريق إلا إذا خلعنا رداء الإنسان العتيق الميت.
القديس غريغوريوس النيسي
“لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضًا،
ومن الآن تعرفونه،
وقد رأيتموه”. (7)
إنها كلمات عتاب صادرة من السيد المسيح الذي تعَّرف عليه كثير من الآباء والأنبياء من خلال الرموز والظلال، واشتهوا أن يروه ويرتبطوا به. كان هو كل رجائهم. ولكن للأسف فإن التلاميذ وقد عاشوا مع السيد ورافقوه في خدمته، بل في رحلاته، وأحيانًا في خلواته، وقد حان وقت رحيله من العالم، لم يعرفوه بعد كما ينبغي.
يشتهي السيد المسيح أن يتعرف عليه كل المؤمنين ليدركوا حقوقهم فيه. وهذا هو موضوع صلوات الرسل أنفسهم من جهة البشرية. وكما كتب القديس بولس إلى أهل أفسس: “لا أزال شاكرًا لأجلكم، ذاكرًا إياكم في صلواتي، كي يعطيكم إله ربنا… لتعلموا نحونا، نحن المؤمنين، حسب عمل شدة قوته الذي عمله في المسيح، إذ أقامه من الأموات، وأجلسه عن يمينه في السماويات” (أف ١: ١٦-٢٠).
أما قوله: “من الآن تعرفونه، وقد رأيتموه” (٧) فيقصد بالآن ساعة الصليب. خلال بغض العالم للمسيح، وصلب السيد المسيح لمحبة العالم في مؤمنيه، يُعرف الآب الكلي الحب، ويراه المؤمنون في الابن المصلوب القائم من الأموات. ساعة الصليب هي فرصة إلهية مقدمة للمؤمنين لكي يتعرفوا على الآب ويروه، لأنهم بالصليب يدخلون إلى المصالحة معه، ويتمتعون بالاستقرار في حضنه.
من يعرف المسيح بحق يدرك أنه الابن، الله السماوي، مملكته ليست من هذا العالم، نزل من السماء ويصعد إليها بكونه في حضن الآب. فمن يبلغه يبلغ الأحضان الإلهية للآب، ويتعرف على شخصه وأسراره.
لاحظ القديس يوحنا الذهبي الفم وغيره من الآباء أن السيد المسيح يقول تارة بأنهم رأوه وعرفوه، وتارة أنهم رأوه ولم يعرفوه، وأخرى أنهم لم يروه ولا يعرفوه، فهل في هذا تناقض؟ يميز القديس بين رؤية الابن خلال الجسد وحده حيث يلمسونه بأيديهم الجسدية ويرونه بأعينهم الجسمانية دون رؤية جوهره وعدم إدراك لاهوته وبهاء مجده؛ هؤلاء يرونه ولا يرونه، وفي نفس الوقت لا يعرفونه. حتى التلاميذ رأوه والتصقوا به، لكن إلي لحظات صعوده وحلول روحه القدوس لم يكونوا قادرين على إدراك لاهوته كما يليق. هكذا يمكن للإنسان أن يعرفه ولا يعرفه؛ فيعرفه دون إدراك المعرفة الحقيقية لشخصه.
من يرى حقيقة الابن ويتعرف على شخصه كما يليق يرى الآب ويتعرف عليه.
v إنه لا يناقض نفسه؛ حقا لقد عرفوه، ولكن ليس كما كان ينبغي. لقد عرفوا الله، لكنهم لم يكونوا بعد قد عرفوا الآب. فإنه بعد ذلك إذ حل الروح القدس عليهم عمل فيهم مقدمًا لهم كل معرفة.
ما قاله هو هكذا: “إن عرفتم جوهري ورتبتي تعرفون أيضًا جوهر الآب ورتبته. ستعرفونه وترونه بواسطتي“. يقصد بالرؤية المعرفة بالإدراك الذهني، فإن هؤلاء الذين يُرون يمكن أن نراهم ولا نعرفهم، أما الذين يُعرفون لا نقدر أن نعرفهم ولا نعرفهم. لذلك يقول: “وترونه“، كما يقال: “يُرى بواسطة الملائكة” (1 تي 3: 16). أما ذات الجوهر فلا يُرى، ومع هذا يقال أنه يُرى، أي قدر ما يستطيعون أن يروا.
قيلت هذه الكلمات لكي تتعلموا أن الذين يرونه يعرفون من ولده. لكنهم لم يروه في جوهره غير المحتجب، إنما رأوه في ثوب جسده.
إنه يود في كل موضع أن يضع الرؤية موضع المعرفة، كما يقول: “طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت 5: 8). يعني بالأنقياء الذين تحرروا ليس من الزنا وحده، بل ومن كل الخطايا، لأن كل خطية تجلب دنسًا للنفس.
القديس يوحنا الذهبي الفم
يعلق القديس أغسطينوس على الآيات (٧-١٠) بأن السيد المسيح يؤكد أن من يعرفه يعرف الآب، لأنه لا يقدر أحد أن يأتي إلى الآب إلا به. وأن السيد المسيح هنا يؤكد وحدته مع الآب، وفي نفس الوقت التمايز بين الآب والابن.
“قال له فيلبس:
يا سيد أرنا الآب وكفانا”. (8)
إذ تحدث السيد المسيح عن الآب اشتاق فيلبس أن يراه، لكنه لم يكن بعد قادرًا.
أولاً: لأنه أراد رؤية اللاهوت حسيًا، يراه بالعين الجسدية كما يرى المسيح.
ثانيًا: سرّ عجزه عن الرؤية هو عدم رؤيته لحقيقة المسيح نفسه، يراه حسب الجسد دون أن يدرك لاهوته.
وأخيرًا: عدم إدراكه الوحدة الفريدة بين الآب والابن في ذات الجوهر، لذلك سأله: “يا سيد أرنا الآب وكفانا” (8).
طلبة فيلبس تشبه طلبة موسى النبي الذي اشتهى أن يرى مجد الله (خر ٣٣: ١٨). حقًا رؤية الله فيها الشبع والكفاية، وهي طلبة تفرح قلب الله، لكن الخطأ في طلبة فيلبس هو تجاهله لوحدانية الابن مع الآب، لأنه لم يتمتع بالتجلي مثل بطرس ويعقوب ويوحنا. وعدم إدراكه أنه حتى تلك اللحظات لم يعرف المسيح كما ينبغي ولا رأي جوهر لاهوته.
v قلب فيلبس النظام وقال: “أرنا الآب“، كمن قد عرف المسيح تمامًا. أما المسيح فوضعه في الطريق المستقيم، حاثًا إياه أن يقتني معرفة الآب من خلاله، بينما أراد فيلبس أن يراه بعينيه الجسديتين. ربما لأنه سمع عن الأنبياء أنهم رأوا الله. لكن هذه الحالات كانت من قبيل التنازل، لذلك يقول المسيح: “الله لم يره أحد قط” (1: 18)، مرة أخري: “كل من سمع وتعلم يقبل إليّ” (6: 45). “لم تسمعوا صوته قط، ولا أبصرتم هيئته” (5: 37). وفي العهد القديم: “لا يرى إنسان وجهي ويعيش” (خر 33: 20).
ماذا يقول المسيح؟ “أنا معكم زمانًا هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس؟” لم يقل له: “ولم تراني” بل قال: “ولم تعرفني“.
ربما يسأل فيلبس:” لماذا أرغب في أن أتعلم عنك؟ الآن أنا أطلب أن أري أباك، وأنت تقول لي لم تعرفني؟” أية علاقة بين هذا وبين السؤال؟ بالتأكيد العلاقة وثيقة جدًا، فإن كان هذا هو الذي له الآب ومازال هو الابن فإنه من خلاله يعرف الذي ولده. فمن أجل التمييز بين الأقنومين يقول: “من رآني فقد رأي الآب“، لئلا يظن أحد أن الآب نفسه هو الابن بعينه.
لماذا لم يجبه: أنت تطلب أمورًا مستحيلة لا يُسمح بها لإنسان، وإنما هي ممكنة لي وحدي؟ لأن فيلبس قال: “وكفانا“، فمع معرفته للمسيح أظهر له أنه لم يره. بالتأكيد لو أنه عرف الآب، لكان قادرًا أن يعرف الابن، لهذا يقول: “من رآني فقد رأي الآب”… وكأنه يقول له: “ليس ممكنًا أن تراني أو ترى الآب”. لأن فيلبس فكر في المعرفة حسب الرؤية، وإذ فكر هكذا ظن أنه رأى الابن، فأراد بنفس الطريقة أن يرى الآب، لكن يسوع أظهر له أنه لم يرَ الابن نفسه.
وإن أراد أحد أن يدعو المعرفة رؤية فلا أعارضه، إذ يقول المسيح: “لأن من يعرفني يعرف الآب”. لكنه لم يقل هذا، إنما أراد أن يعلن عن الشركة في الجوهر: من يعرف جوهره يعرف جوهر الآب أيضًا. هل يتحدث هنا عن حكمة الآب؟ هل عن صلاحه؟ ليس هكذا، وإنما ما هو الله عليه، ذات جوهره… بحق انتهره قائلاً: “أنا معكم زمانًا هذه مدته؟” لقد تمتعت بمثل هذا التعليم، ورأيت المعجزات التي فعلتها بسلطان، وكل ما يخص اللاهوت، التي يفعلها الآب وحده من غفران للخطايا وإعلان عن الأسرار الخفية وإقامةٍ من الموت وخلقة من التراب ولم تعرفني؟ إذ التحق بالجسد لهذا يقول: “ألم تعرفني؟” إنك ترى الآب، فلا تطلب ترى ما هو أكثر، ففيه تراني. إن رأيتني لا تكون محبًا للاستطلاع أكثر، لأنك تعرفه فيّ أيضًا.
v “ألست تؤمن إني أنا في الآب، والآب فيّ؟” بمعنى: إني أُري في ذات الجوهر. “الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي، لكن الآب الحال فيّ هو يعمل الأعمال” (10) كيف يبدأ بالكلام ويأتي إلي الأعمال؟ لأنه كان يلزم طبيعيًا أن يقول: “الآب هو يتكلم الكلام”، لكنه هنا وضع الأمرين معًا التعليم والمعجزات. وربما قال هذا لأن الكلام هو أيضًا كان أعمالاً. فكيف يعمل الآب كلاهما؟ يقول في موضع آخر: “إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا” (10: 37)، فكيف يقول هنا أن الآب هو يعملها؟ ليظهر نفس الشيء أنه لا يوجد فاصل بين الآب والابن. ما قاله هو هذا: “لا يعمل الآب في طريق، وأنا في طريق آخر”. كما يقول في موضع آخر: “أبي يعمل حتى الآن، وأنا أعمل” (5: 17)،مظهرًا في العبارة الأولي عدم الاختلاف في العمل بين الآب والابن، وفي الثانية الهوية للآب والابن.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“قال له يسوع:
أنا معكم زمانًا هذه مدته، ولم تعرفني يا فيلبس؟
الذي رأني فقد رأى الآب،
فكيف تقول أنت ارنا الآب؟” (9)
في عتابه لفيلبس بل ولكل التلاميذ يقول السيد: “أنا معكم“، ولم يقل: “أنتم معي”. فقد نزل إلينا وحلَّ بيننا، فمن جانبه جاء إلينا خلال مبادرة حبه. بقي لنا أن تستنير أعيننا الداخلية ونتقدم نحوه، لنصير نحن معه كما هو معنا. هو نزل إلينا لكي بروحه نصعد إليه.
إنه معهم ليس خلال رؤية سريعة إلى دقائق أو ساعات كما أعلن عن نفسه قديمًا للأنبياء خلال الرؤى والإعلانات والأحلام، إنما جاء وحلَّ بينهم، وعاش في وسطهم “زمانًا هذه مدته“، لهذا كان يليق بهم أن يروه كما ينبغي فيروا الآب، ويدركوه، ويتحدوا معه في المسيح يسوع. من رأى المسيح حقًا يرى الآب!
هل يمكن لخليقةٍ ما في السماء أو على الأرض أن تتجاسر وتنطق بهذا؟ مستحيل! لقد حسب السيد المسيح أن من رآه فقد رأى الآب، وذلك إن اكتشف حقيقة السيد. لهذا عاتب السيد المسيح فيلبس، لأنه لم يعرفه بعد عشرة دامت حوالي ثلاث سنوات. إنه لم يلمه لأنه يشتهي رؤية الآب، وإنما لأنه لم يدرك من هو المسيح، وبالتالي لم يستطع طوال هذه المدة أن يتمتع برؤية الآب. لم يدرك أن ملء اللاهوت في المسيح جسديًا (١ كو ٢: ٩)، فالآب هو فيه في كمال لاهوته. ما يعمله السيد المسيح يشترك فيه الآب بكونه العمل الإلهي الواحد.
v أما تؤمن إني أنا في الآب، والآب فيّ؟ نعم من يتطلع إلى الابن يرى الآب في صورة. لاحظ أي نوع من الصور يتحدث عنها. إنه الحق والبرّ وقوة اللَّه، ليس أخرسًا لأنه الكلمة، وليس بلا إحساس لأنه الحكمة، وليس باطلاً وغبيًا لأنه القوة، وليس بلا حياة لأنه الحياة، ليس ميتًا لأنه القيامة.
v في الكنيسة اعرف صورة واحدة، صورة الله غير المنظور التي قال عنها الله: “وصنع الإنسان على صورتنا”… (تك 1: 26). تلك الصورة التي كُتب عنها أن المسيح “بهاء المجد ورسم أقنومه” (راجع عب 1: 3). في هذه الصورة أدرك الآب، كما يقول الرب يسوع نفسه: “من رآني فقط رأى الآب”. لأن هذه الصورة غير منفصلة عن الآب، والتي هي بالحق تعلمني وحدة الثالوث، إذ يقول: “أنا والآب واحد” (10: 30) وأيضًا: “كل ما للآب فهو لي” (16: 15). وأيضًا عن الروح القدس يُقال أن الروح هو روح المسيح، كما هو مكتوب: “يأخذ مما لي ويخبركم” (16: 14).
القديس أمبروسيوس
v من يتأهل للتطلع إلى ربوبية الابن ينعم بربوبية الآب. هذا الكلام ليس من عندي، بل هي كلمات الابن الوحيد القائل: “أنا معكم زمانًا هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس؟ الذي رآني فقد رأى الآب“. وباختصار لا تفصلهما، ولا تصنع تشويشًا.
لا تقل قط أن الابن غريب عن الآب، ولا تقبل القائلين إن الآب في وقت ما الآب، وفي وقت آخر هو الابن. فإن هذه العبارة غريبة وجاحدة وليست من تعاليم الكنيسة. لكن الآب بولادته الابن بقي الآب ولم يتغير، ولد الحكمة ولم يفقد الحكمة. ولد القوة دون أن يصير ضعيفًا. ولد اللَّه ولم يخسر ربوبيته. لم يفقد شيئًا بالنقص أو التغير، ولا المولود ناقص في شيء.
كامل هو الوالد، وكامل هو المولود.
اللَّه هو الوالد، اللَّه هو المولود، اللَّه من اللّه، ولكنه يُدعى الآب إلهه دون أن يخجل من القول: “أصعد إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم” (يو 17:20).
القديس كيرلس الأورشليمي
يعبر القديس غريغوريوس النزينزي عن سرّ انجذابه إلى الثالوث الذي كرز به بين شعبه، بينما لمدة طويلة قد حُرم الثالوث من الكرازة به بين الشعب، وإن كان ليس تمامًا.
v ليقودني الكلمة الإلهي في نهاية حياة مملوءة بالدموع إلى المسكن غير المتغير، حيث يوجد ثالوثي، وبهاء سموه المجتمع، ظلال الثالوث تمجدني.
القديس غريغوريوس النزينزي
v بالحق انتهر السيد التلميذ، إذ رأى ما في قلب السائل. إن كان الآب بنوعٍ ما أفضل من الابن، حتى أن فيلبس أراد أن يعرف الآب، بهذا لم يعرف الابن، إذ ظن أنه أقل من الآب. فلكي يُصحح مثل هذا المفهوم قيل: “الذي رآني رأى الآب، فيكف تقول أنت أرنا الآب؟” (9)… لماذا تود أن تكتشف وجود مسافة بين من هما متشابهين؟ لماذا تتوق إلى معرفة منفصلة بين من هما غير منفصلين؟ ما قاله بعد ذلك لم يكن لفيلبس وحده، بل لهم جميعًا، هذا يلزم ألا نضعه كما في زاوية، حتى يمكننا بمعونته أن نفسره بأكثر حرص.
v لم تكن بعد عينا فيلبس سليمتين بما فيه الكفاية لتنظرا الآب، وبالتالي لتنظرا الابن الذي هو مساوٍ للآب. هكذا قام يسوع المسيح بشفائه بأدوية ومراهم الإيمان ليقوي عيني ذهنه اللتين كانتا بعد ضعيفتين وعاجزتين عن رؤية نورٍ عظيمٍ كهذا. وقال له: أما تؤمن إني في الآب، والآب فيَّ؟” ليت ذاك العاجز عن أن يرى ما سيظهره له الرب يومًا ما ألا يطلب أن يرى بل أن يؤمن. ليؤمن أولاً حتى تُشفى العينان اللتان بهما ينظر.
القديس أغسطينوس
“ألست تؤمن إني أنا في الآب، والآب فيّ؟
الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي،
لكن الآب الحال فيّ هو يعمل الأعمال”. (10)
إذ تتحقق رؤيتنا لله في هذا العالم خلال الإيمان لا العيان، لذا يتحدث السيد المسيح هنا عن “الإيمان”، وأي إيمان؟ إيمان بأن جوهر الابن ليس مضافًا إلى الآب، إذ كل منهما في الآخر، بكونهما جوهرًا واحدًا. فمن أراد أن يرى الآب، ويتعرف عليه يلزمه أن يؤمن بالمسيح أنه “الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو خبَّر” (يو ١: ١٨). فلا عجب إن قال: “الذي يراني يرى الذي أرسلني” (يو ١٢: ٤٥).
v لا يوجد أي اعتراض على فهم الابن أنه في الآب كما في مصدرٍ… الابن في الآب وعند الآب، ليس كمن وُجد خارجًا عنه، ولا في زمنٍ، بل في جوهر الآب مشرقًا منه، وذلك كأشعة الشمس المشرقة، وحرارة النار المتضمنة في صلبها. ففي هذين المثالين نجد شيئًا متولدًا من آخر، لكنه شريكه الدائم في الوجود معه مع عدم الانفصال عنه، فلا يوجد الواحد دون الآخر، وإنما يحفظ حالة طبيعته الحقيقية.
القديس كيرلس الكبير
v يقول الرب الحق: “أنا في الآب، والآب في“. بوضوح الواحد في كليته هو الآخر في كليته، فالآب ليس هو بإفراط في الابن، ولا الابن ناقص في الآب.
v نفس سمة اللاهوت تُرى في الاثنين.
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
v لأن الآب لا يفعل شيئًا إلا بممارسة قوته وحكمته، فقد صنع كل الأشياء بحكمة، كما هو مكتوب: “بحكمة صنعتً الكل” (مز 24:104)، هكذا أيضًا لا يفعل اللَّه الكلمة شيئًا بدون شركة الآب. لا يعمل بدون الآب، بدون مشيئة الآب لا يقدم نفسه للآلام كلية القداسة، ويُذبح لأجل خلاص العالم كله (يو 16:3، 17؛ عب 10:10-12). بدون إرادة الآب لا يقوم من الأموات إلى الحياة.
القديس أمبروسيوس
“صدقوني إني في الآب، والآب فيّ،
وإلا فصدقوني لسبب الأعمال نفسها”. (11)
إذ يتحدث مع خاصته عن أسراره الإلهية يشهد لنفسه بنفسه، إذ سبق فقال: “وإن كنت أشهد لنفسي، فشهادتي حق” (يو ٨: ١٤). هنا لا يخاطب فيلبس وحده، بل كل التلاميذ، مقدمًا رسالة لكل مؤمنيه. يقدم السيد المسيح أعماله أيضًا شهادةً حقة لصدق كلماته، فأعماله تشهد أن السيد إنما يعمل أعمال أبيه، ويتكلم كلمات أبيه، فهي أعمال الآب والابن معًا، وكلماتهما. يقول القديس بولس عن الآب: “كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه” (عب ١: ٢). كما يقول السيد عن نفسه: “الكلام الذي أكلمكم به، لست أتكلم به من نفسي، لكن الآب الحال فيَّ هو يعمل الأعمال” (11).
v يليق بكم عند سماعكم “أب” و”ابن” ألا تسألوا شيئا آخر غير تأكيد العلاقة في الجوهر، ولكن إن كان هذا غير كافٍ لكم لتأكيد الكرامة المشتركة والجوهر المشترك فتعلموا هذا من الأعمال.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v إنك ترى أن الابن هو اللَّه، فيه اللَّه الآب، إذ يقول نفس العبارة التي وردت في الإنجيل: “إني في الآب، والابن فيَّ“. إنه لم يقل: “أنا هو الآب”، بل” الآب فيّ، وأنا في الآب”. أيضًا لم يقل: “الآب وأنا هما أنا”، بل “أنا والآب واحد ” حتى لا نفصل بينهما دون أن نضع خلطًا في ابن الآب.
إنهما واحد من جهة شرف وحدة اللاهوت، إذ ولد اللَّه اللَّه. هما واحد في ملكوتهما، لأن الآب لا يملك على هؤلاء، والابن على أولئك، متكبرًا على أبيه كما فعل أبشالوم، إنما ملكوت الآب هو ملكوت الابن. إنهما واحد، إذ لا يوجد بينهما اختلاف ولا انقسام، بل ما يريده الآب يريده الابن. إنهما واحد، لأن أعمال الخلقة التي للمسيح ليست غير ما للآب، إنما خالق كل الأشياء هو واحد، خلقها الآب بالابن. وكما يقول المرتل: “هو قال فكانوا، هو أمر فخلقوا” (مز 9:33؛5:148).
الابن هو اللَّه بعينه Very God، له الآب فيه دون أن يصير هو الآب، لأن الآب لم يتجسد، بل الابن… الآب لم يتألم من أجلنا، بل أرسل من يتألم…
فليس بقصد تكريم الابن ندعوه “الآب”، ولا لتكريم الآب نتصور الابن أحد خلائقه. إنما هو أب واحد، نعبده خلال ابن واحد، دون أن نفصل العبادة بينهما.
ليعلن عن الابن الواحد، جالسًا عن يمين الآب قبل كل الدهور في العرش، ليس عن تقدم ناله في زمان بعد الآلام، بل منذ الأزل.
القديس كيرلس الأورشليمي
v بينما نحن نتكلم هو نفسه الذي لن يسحب حضرته منا يكون معلمنا.
v هل كلماته هي أعمال؟ واضح أن الأمر هكذا، لأنه بالتأكيد من يبني قريبه بما يقوله يعمل أعمالاً صالحة.
v ينسب ما يفعله للآب الذي منه يفعل. لأن الآب ليس الله (المولود) من آخر، أما الابن هو الله المساوي حقًا للآب لكنه مولود منه. لذلك فالآب هو الله الذي ليس من الله، والنور الذي ليس من نور، بينما الابن هو إله من إله، نور من نور.
القديس أغسطينوس
-
الصلاة والراحة ١٢ – ١٤
“الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي،
فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضًا،
ويعمل أعظم منها، لأني ماض إلى أبي”. (12)
بعد أن كشف سرَّ وحدته الفريدة مع الآب، وأن ما ينطق به أو يعمله به إنما هي أعمال الآب الحالّ فيه، أوضح أن هذه الحقيقة تمس خلاصهم وحياتهم. هي إيمان فعّال يهبهم قوة فائقة لممارسة أعمال المسيح الساكن فيهم. فاستعلان الآب ومعرفته تقود المؤمن إلى اختبار أعمال الله فيه. وكما يقول الرسول بولس: “ليحل المسيح في قلوبكم… لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله، والقادر أن يفعل كل شيء أكثر جدًا مما نطلب أو نفتكر، بحسب القوة التي تعمل فينا” (أف ٣: ١٧-٢٠). فالإيمان واهب المعرفة يبعث إلى خبرة الأخذ والامتلاك والممارسة حسب قوة الله. “لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا” (في ٢: ١٣).
هذا هو سرّ تعزية التلاميذ بعد أن عرفوا ترك السيد المسيح لهم فامتلأوا حزنًا، وشعروا أنهم كقطيعٍ بلا راعٍ، ليس لهم من يعينهم ولا من يسندهم، خاصة وأنهم يدركون مدى كراهية القيادات اليهودية لهم.
لهذا أكد لهم السيد المسيح أنه لا يتركهم في ضعفٍ، بل يهبهم قوة لممارسة أعمالِ عظيمةٍ من معجزات وآيات تسندهم، فيمارسون ما يعمله وأعظم منها. هذا لن يقلل من شأنه، ولا يخلط بين شخصيته كابن الله الوحيد وشخصياتهم كأبناء بالتبني وتلاميذ له، لأن ما يفعلونه إنما باسمه، وبالإيمان به، وهذا لحساب مجده. فإنه ليس فقط صانع عجائب، وإنما واهب تلاميذه صنع العجائب.
لماذا قال أنهم يعملون أعمال أعًظم منه؟
- هو صنع معجزات خلال الثلاث سنوات لخدمته على الأرض، أما هم فيعملون الآيات عبر الأجيال إلى انقضاء الدهر. هو صنع آيات في حدود المنطقة التي عاش فيها، أما هم فيصنعون آيات وعجائب في كل العالم حيث يكرزون. بعض الآيات لم يفعلها لأنه لم تكن هناك حاجة إليها مثل نقل جبل، وهذا تم على يد سمعان الخراز أيام المعز لدين الله الفاطمي.
- هو قدم أساس الكرازة ودفع الثمن بالصليب، لكنه ترك الكرازة تنتشر بعد صعوده وحلول روحه القدوس، فظهر العمل أعظم حيث انتشر الإيمان في المسكونة كلها ولم يُحد باليهودية.
أما سرّ قوتهم فهو كما يقول: “لأني ماضٍ إلى أبي” (١٢). سيكون شفيعًا لهم، يحملهم أمام الآب كأعضاء جسده. فيعملون بقوة الآب، ويرسل لهم المعزي الإلهي، الروح القدس العامل فيهم وبهم لحسابه.
v إنها مشيئة الرب أن ينال تلاميذه قوات عظيمة. إنها إرادته أن ما فعله حين كان على الأرض يصنعه خدامه باسمه… أعطاهم سلطانًا أن يقيموا موتى. بينما كان يمكنه أن يرد لشاول بصره، إلا أنه أرسله إلى تلميذه حنانيا لكي ببركته تسترد عينا شاول البصر الذي فقده.
القديس أمبروسيوس
v لكي يظهر أنه ليس فقط قادرًا على فعل هذه الأمور، بل وما هو أعظم منها، إذ يصنعها بزيادة. إنه لم يقل: “أستطيع أن أفعل أمورًا أعظم من هذه” وإنما ما هو أكثر دهشة يقول: أنني أستطيع أن أعطي للآخرين أن يعملوا ما هو أعظم من هذه… بمعنى انه قد بقي لكم الآن أن تعملوا عجائبي لأني أنا ماض.
v ألا تنظروا أنه هو الذي يعمل هذه؟ يقول: “أفعله“، وليس أسأل الآب، بل “الآب يتمجد بي“… كل العجائب التي فعلها (الرسل) إنما هو فعلها فيهم، وكانت يد الرب معهم (أع 11: 21).
v ألا ترون سلطانه؟ الأمور التي يفعلها الآخرون، إنما هو يفعلها، فهل هو بلا سلطان في الأمور التي يفعلها بنفسه ما لم يفعلها بالآب؟ كيف يمكن أن يقال هذا؟ لكن لماذا وضع هذه بعدها؟ ليؤكد كلماته، ويظهر أن أقواله الأولى هي من قبيل تنازله. فقوله: “أنا ماضٍ إلي الآب” معناها “إنني لا أهلك، بل أبقي في كرامتي اللائقة بي، فإنني في السماء”، قال هذا كله لتعزيتهم. حيث يبدو أنهم لم يفهموا أحاديثه عن القيامة. فظنوه أمرًا كئيبًا، ففي أحاديث أخرى يعد بأنه يعطيهم مثل هذه الأمور، ملطفًا من حالهم بكل وسيلة، ومظهرًا لهم أنه يبقى على الدوام، ليس فقط يبقي، وإنما سيظهر لهم قوة أعظم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v أعتقد بصدق أنه يعمل “أعظم” عندما يغلب إنسان ما – وهو لم يزل في الجسد، ضعيف وسهل وقوعه – في معركته مع الجبابرة وفرق الشياطين، وليس سلاحه سوى إنجيل المسيح وإيمانه شخصيًا به. فيُعْتَبَرُ حينئذ أعظم من ذاك الذي يربحه بذاته.
العلامة أوريجينوس
v لقد وعد أنه هو نفسه سيعمل هذه الأعمال الأعظم.
ليت العبد لا يفتخر على السيد.
إنه يقول أنه سيعمل أعمالاً أعظم مما يعملها هو، لكنه هو عامل الكل، سواء التي فيهم أو بواسطتهم، وليس أنهم يعملون كما من أنفسهم. لذلك فإن التسبحة الموجهة إليه هي: “أحبك يا رب قوتي” (مز ١٨: ١).
ولكن ما هي هذه الأعمال الأعظم؟
هل هي أنهم بظلهم إذ يسيرون يشفون المرضى (أع ٥: ١٥)؟ لأن الشفاء بالظل أعظم من لمس هدب الثوب الحامل لقوة الشفاء (مت ١٤: ٣٦). مع ذلك فإن ما يًمدح به هو القوة المؤثرة لكلماته. إذ في هذا يقول: “الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي، لكن الآب الحال فيَّ يعمل الأعمال” (١٠).
أية أعمال يشير إليها إلاَّ الكلمات التي ينطق بها؟
كانوا يسمعون ويؤمنون وكان إيمانهم هو ثمرة هذه الكلمات عينها. بينما ثمرة ذات هذه الكلمات عندما بشر التلاميذ بالإنجيل لم يكن بالعدد القليل مثلهم بل آمنت أمم كثيرة، وبلا شك هذا عمل أعظم.
v لقد أضاف للحال: “لأني ماضٍ إلى أبي، ومهما سألتم باسمي فذلك أفعله، ليتمجد الآب بالابن. إن سألتم شيئًا باسمي فإني أفعله” (١٢-١٤). ذاك الذي قال: “يعملها هو” عاد فقال: “أنا أفعله“. كأنه يقول: “لا يبدو لكم هذا مستحيلاً، لأن من يؤمن بي لن يمكنه أن يكون أعظم مني، إنما أنا الذي أعمل الأعمال الأعظم مما أعمل الآن. إني أعمل أعمالاً أعظم بالذي يؤمن بي مما أعمله أنا بدونه. لكن أنا الذي أعمل به… انظروا لقد صنع أعمالاً أعظم حينما كرز به المؤمنون عما عمله عندما تكلم هو مع سامعيه.
v إنه يعمل فينا، ولكن ليس بدوننا.
القديس أغسطينوس
“ومهما سألتم باسمي،
فذلك أفعله، ليتمجد الآب بالابن”. (13)
يعود السيد المسيح فيؤكد أن ما يعملونه هو باسمه، بل هو فاعله، دون تجاهل دور الآب، فهو يوجه أنظارنا إلى الآب لنسأله. وبقوله: “مهما سألتم” يطالبنا أن نسأل الآب حسبما يليق بنا، بما يبدو لنا أنه أمر فائق جدًا. نطلب منه أن نصير بالحق أبناء له، نحمل أيقونة ابنه الوحيد، فيكون الابن هو برنا وقداستنا وفداءنا (١ كو ١: ٣٠).
v يعمل الآب في الابن لكي يتمجد الابن في الآب، ويعمل الابن في الآب لكي يتمجد الآب في الابن، لأن الآب والابن هما واحد.
القديس أغسطينوس
“إن سألتم شيئًا باسمي، فإني أفعله”. (14)
إذ نرفق اسم المسيح بصلواتنا وطلباتنا التي نقدمها للآب، فنطلب برّ المسيح وقداسته يقوم المسيح نفسه بالعمل، إذ يقول: “فإني أفعله” (14). لأن استدعاء اسمه إنما هو استدعاء حضوره الإلهي، لهذا ففي كل الأسرار الإلهية كما في الصلوات الشخصية يعلن الكاهن أو المؤمن “باسم الآب والابن والروح القدس”، طالبًا حضرة الثالوث القدوس.
تركه لهم بالجسد يقوي من مركزهم، لأنه هو يعمل فيهم لمجد الآب، يراهم الآب خلاله، فيستجيب كل طلباتهم. بمعنى أنه بصعوده ينالون إمكانية العمل بالآب والابن خلال روحه القدوس الذي يرسله إليهم. صعوده إلى السماء يزيل أية مسافة بينهم وبين الآب، لأن حضور الابن بالجسد الممجد هو حضور لهم كأعضاء في هذا الجسد.
يطلبون لا خلال إمكانياتهم البشرية ولا استحقاقاتهم، بل باسم المسيح وخلال عمله الكفاري موضع سرور الآب.
المعزي الآخر ١٥ – ١٧
“إن كنتم تحبونني،
فأحفظوا وصاياي”. (15)
حدثنا قبلاً عن الإيمان كأساس للمعرفة الإلهية، والآن يضع البناء فوق الأساسات، وهو حفظ وصاياه. إن كان السيد المسيح من جانبه يحضركم فيه إلى الآب، فيُسر بهم، ويستجيب لطلباتهم، فمن جانبهم يلزمهم أن يحبوه ويحفظوا وصاياه. بهذا ينالون تعزية ليست بقليلةٍٍ، محبتهم العملية للسيد المسيح بحفظ وصاياه تهبهم قوة للعمل خاصة وسط الضيق.
v نحتاج في كل موضع إلى كل من الأعمال والممارسات، وليس مجرد استعراض لكلمات… الله يطلب الحب الذي يظهر بالأعمال. لهذا السبب قال لتلاميذه: “من يحبني يحب وصاياي”. فبعدما ما قال لهم: “إن سألتم شيئًا باسمي فإني افعله”، فلئلا يظنوا أن ذلك يتحقق بمجرد السؤال أضاف: “إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي“.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v إنه الروح المعزي هذا الذي وعد به المسيح تلاميذه. لكن لنلاحظ الطريق الذي فيه أعطى الوعد: “إن كنتم تحبونني، فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر…” (١٥: ١٦). لكن كيف يمكننا أن نحب لكي نقبل ذاك الذي بدونه لا نقدر أن نحب الله (رو ٣: ٥) ولا أن نحفظ وصاياه؟… لنفهم أن من يحب هو بالفعل له الروح القدس، وأن به قد صار مؤهلاً لاقتناء ما هو أكمل، وبنوال ما هو أكثر نحب أكثر.
v الوعد ليس باطلاً سواء بالنسبة للذي لم يقتنِ بعد الروح القدس أو من اقتناه. فإنه مقدم لمن ليس له لكي يقتنيه، ومن اقتناه لكي ينال بأكثر فيض. فإنه لو لم يُقتنِ بقياس أقل من الآخرين ما كان القديس اليشع يقول للقديس إيليا: “ليكن نصيب اثنين من روحك عليّ” (٢ مل ٢: ٩).
القديس أغسطينوس
“وأنا أطلب من الآب، فيعطيكم معزيًا أخر، ليمكث معكم إلى الأبد”. (16)
إذ يتمم عمل الفداء على الصليب، يصعد إلى السماء، ليرسل الروح القدس، ليهب كنيسته عذوبة الشركة في الصليب وخبرة قوة القيامة وعربون الحياة السماوية. هذا هو المعزي الآخر الذي يأخذ مما للسيد المسيح ويعطينا.
عمل الروح القدس يستمر في حياة الكنيسة حتى انقضاء الدهر ليقدمها عروسًا تحمل أيقونة عريسها السماوي.
كلمة “باراكليت” التي تترجم معزيًا تعني أيضًا محاميًا أو مدافعًا Advocate، فهو الذي يقف مدافعًا عن كنيسة المسيح ضد خصومها.
السيد المسيح يدعو نفسه “معزيًا” إذ يلقب الروح القدس “المعزي الآخر” وقد دعا الترجومTargum أيام المسيا بأيام التعزية. فالمسيح عزى تلاميذه حين كان معهم بالجسد، وإذ يفارقهم بالجسد يرسل لهم روحه القدوس معزيًا آخر.
الطلب هنا أو الصلاة ليست طلبة كلامية، لكنه إذ يقدم نفسه ذبيحة حب عن البشرية صار من حق مؤمنيه أن يحل الروح القدس ويستقر فيهم، هذا الذي لم يعد مستقرًا في الإنسان منذ لحظة سقوطه في الخطية. هذه العطية التي هي بالحقيقة نوال واهب العطايا، عطية دائمة تلازم المؤمن حتى يعبر من هذه الحياة. لن يفارقه الروح القدس مادام يقبله فيه ويتجاوب معه.
إذ سبق فقدم أساس المعرفة وهو الإيمان، ثم بنى على الأساس أعمال المحبة التي هي حفظ وصاياه، يبعث إلينا بروحه القدوس من عند الآب الذي وحده يقدر أن يحقق هذا كله.
هنا يكشف السيد المسيح عن دور الثالوث القدوس المتكامل معًا لتحقيق خطة تمجيدنا الأبدي. فالآب الذي أرسل ابنه معزيًا يبذل نفسه خلاصًا للعالم، الآن يستقبله عند صعوده، فيستقبل الكنيسة الجامعة، من آدم إلى آخر الدهور، في شخصه بكونه الرأس. يستقبل المعزي الأول فيُسر به، إذ أكمل خلاص البشرية وأعلن عن حب الآب عمليًا، وإذ يستقبله في السماء، يبقى هذا المعزي متغربًا عن البشرية بالجسد لكنه حاضر على الدوام في وسط كنيسته المقدسة. ويطلب عنها أمام الآب ليرسل المعزي الآخر، الذي يحل في الكنيسة وينيرها ويقدسها ويقودها دون أن يفارق الآب أو ينفصل عنه.
هكذا تظهر علاقة الحب المتبادل بين الثالوث القدوس العامل لخلاص البشرية ومجدها الأبدي.
v فإن قلت: لِمً قال السيد المسيح: “وأنا أطلب من الآب“؟ أجبتك: لأنه لو قال: “أنا أرسله” لما صدقوه، لذلك قال هنا: “وأنا أطلب من الآب” حتى يجعل كلامه عندهم مؤهلاً لتصديقه.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله،
لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه،
لأنه ماكث معكم ويكون فيكم”. (17)
إذ انطلق المعزي الأول، السيد المسيح، يطلب إرسال المعزي الآخر، روحه القدوس. وإذ صعد القائل: “أنا هو الحق” (١٤: ١٦) بعث إليهم “روح الحق”. وكما رفض العالم المعزي الأول، الحق ذاته، هكذا يرفض المعزي الآخر، روح الحق. “بهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا” (١ يو ٣: ٢٤). يهبنا الروح القدس مواجهة حادة بين روح العالم وروح الحق، إذ لا يطيق العالم الحق ولا يقبله ولا أن يراه، بل يقاومه. لا يقدر أن يراه أو يعرفه، لذلك: “إن أحب أحد العالم، فليست فيه محبة الآب” (١ يو ٢: ١٥).
روح العالم هو روح البطلان والخداع، فما يقدمه من ممتلكات ومباهج وأفراح، سرعان ما يتحول إلى حرمان وأحزان ومرارة، بهذا لا يعرف الحق له موضعًا فيه. كما لا تجد محبة العالم لها موضعًا في الحق الأبدي السماوي. ما يقدمه الله هو الحق غير المتغير، لهذا يقول السيد المسيح: “سلامي أعطيكم، ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا” (يو ١٤: ٢٧). “سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحد فرحكم منكم” (يو ١٦: ٢٢). “من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد” (يو ٤: ١٣). هذه هي طبيعة الحق وهباته وعطاياه، التي لا تتناغم مع طبيعة العالم وروحه وعطاياه الزائلة.
روح الحق هذا الذي لا يعرفه العالم هو موضوع معرفة المؤمنين، حيث يسكن ويستقر معهم، ويكون فيهم، يعرفونه معرفة الثبوت فيه.
“روح الحق” الذي يشهد للمسيح الذي هو الحق، ويجتذب النفوس لقبول إنجيله، والتعرف على أسراره.
“لا يستطيع العالم أن يقبله“، يقصد بالعالم الذين أحبوه فحملوا اسمه، هؤلاء الذين يجدون لذتهم في شهوات الجسد وشهوة العين وتعظم المعيشة (١ يو ٢: ١٦). هؤلاء مصابون بالعمى الروحي وفساد الفكر، فلا يقدرون أن يروا روح الحق أو يعرفوه.
“وأما أنتم فتعرفونه“، جاء في الفولجاتا وبعض المخطوطات “فستعرفونه“، إذ يتهيأون بالإيمان به خاصة بعد قيامة السيد المسيح لمعرفة الروح القدس الموعود به، ويتمتعون بحلوله عليهم ليستقر فيهم، وذلك في يوم البنطقستي. إنه يجتذبنا دومًا إلى ما فوق أنفسنا.
v ولكي إذا سمعوا “معزيًا آخر” لا يظنوا أيضًا شخصًا آخر، ويتوقعوا أن يروه بأبصارهم، تحاشى ذلك وقال: “الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه“.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v يرى السريان في الكلمات: “وكان الروح يرف فوق المياه”، كما لو أن الروح كان يعطي دفء الرعاية التربوية fostering، أي كان يهيئ طبيعة المياه لميلاد الكائنات الحية. في هذا يوجد برهان كافٍ على تساؤلات بعض الناس إن كان الروح القدس لم تنقصه القوة الخالقة.
القديس باسيليوس الكبير
v الحب العالمي (الزمني) ليس له تلك الأعين غير المنظورة بينما الروح القدس لا يمكن أن يُرى إلاَّ بالأعين غير المنظورة.
v إنه يُرى بطريقة غير منظورة، ولا يمكن أن تكون لنا أية معرفة عنه ما لم يكن فينا.
القديس أغسطينوس
ظهوره لهم ١٨ – ٢٤
“لا أترككم يتامى،
إني آتي إليكم”. (18)
لقد تعلق به تلاميذه كأبناء صغار بأبيهم، لذلك وهو في طريق تركهم خلال الصليب والصعود إلى السماء يريد أن يؤكد لهم أنه لا يريد السيد المسيح أن يتركهم مثل اليتامى، أي كأطفالٍ محرومين من الأبوة والأمومة ومن الحنو العائلي والتوجيه والعون في الحياة، لا يريد أن يتركهم فريسة للبؤس والحرمان.
بتركه إياهم خلال الصليب ثم القيامة فالصعود يبدو كمن صاروا في يُتم عظيم، إذ لم يعد بعد معهم حسب الجسد. لكنه يحول هذا اليُتم إلى بنوة جديدة فائقة، بإرسال روحه القدوس الذي يهب البنوة لله خلال المعمودية.
كان اليهود يدعون المعلمين آباء والتلاميذ أبناءهم، فبترك السيد المسيح تلاميذه يصيرون كمن هم بلا أب، وإذ هو سالك في طريق الموت، وبعد ذلك الصعود إلى السماء يرسل لهم المعلم الآخر والمعزي والمدافع عنهم وقائدهم في الطريق للتمتع بالأبوة الإلهية. لن يشعروا بحرمانٍ ما، لأن روحه القدوس يمكث معهم. أما من جهته هو فسيأتي إليهم بعد موته بقيامته وظهوره لهم، كما يأتي إليهم بعد صعوده في مجيئه الأخير ليحملهم إلى المجد. إنه يأتي أيضًا إلينا على الدوام بروحه، حاضر في قلوبنا، وفي وسطنا.
v لأن التلاميذ إذ لم يعرفوا معنى ما قيل لهم، ولا نالوا تعزية كافية، قال لهم السيد المسيح: “لا أترككم يتامى“، لأنهم طلبوا هذا الأمر أكثر من كل شيء. وقول السيد المسيح لتلاميذه: “إني آتى إليكم” يوضح لهم مجيئه إليهم ثانية.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“بعد قليل لا يراني العالم أيضًا،
وأما أنتم فترونني.
إني أنا حي، فأنتم ستحيون”. (19)
كان العالم يراه خلال تجسده، لكنه لم يره قط بعدم إدراكه للاهوته. الآن إذ يُصلب ويموت لا يعود العالم يراه، لا حسب الجسد ولا حسب لاهوته، إذ يختفي عنه. أما التلاميذ فيحرمون إلى حين من رؤية جسده، لكنهم يرون أسراره الإلهية، ويختبرون قيامته عاملة فيهم، فيحيون كما هو حي، بل هو يتمتعون بالحياة عينها. يقولون مع الرسول بولس: “أحيانا مع المسيح” (أف ٢: ٥)؛ “فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ” (غل ٢: ٢٠).
v كأنه يقول لهم: إنني سأجيء إليكم ليس مثلما جئت أولاً. وقوله: “إني أنا حي، فأنتم ستحيون“، كأنه يقول لهم: لأن الصليب لا يفصل بيننا إلى النهاية، لكنه يخفيني مدة قليلة فقط. وعلى حسب ظني أن السيد المسيح لا يقصد بالحياة الحياة الحاضرة فقط، لكن الحياة المستقبلة أيضًا.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v كنا أمواتًا عنه حينما عشنا لأنفسنا، ولكن إذ مات لأجلنا يحيا هو لنفسه ولأجلنا. لأنه إذ يحيا، نحن أيضًا نحيا. بينما كنا قادرين بأنفسنا أن نموت، فإنه ليس بأنفسنا نستطيع أن نقتني الحياة.
القديس أغسطينوس
“في ذلك اليوم تعلمون إني أنا في أبي،
وأنتم فيّ، وأنا فيكم”. (20)
كما أقوم من الأموات تقومون أنتم أيضًا. قيامتي هي تأكيد لقيامتكم. وإذ أنا حي أشفع فيكم لدى الآب. لن يقدر الموت أن يحطمكم، بل تحيون بنعمتي وتتمتعون بشركة مجدي.
بعد موته لم يقدر غير المؤمنين أن يروه، أما بالنسبة للمؤمنين فترآى لهم في ظهورات كثيرة، وإلى اليوم يتمتع المؤمنون برؤيته في أعماقهم. لازال المسيح حيًا في حياة الكنيسة وحياة مؤمنيه، يختبر المؤمنون حياة المسيح الساكن فيهم.
بقوله: “أنتم فيَّ” يعلن أنه أخذ البشرية فيه بتجسده، وبقوله: “وأنا فيكم” يعلن أنه صار فينا حيث ننعم بشركة الطبيعة الإلهية. أخذنا فيه أعضاء جسده، ووهبنا إياه فينا بإقامة ملكوته داخلنا.
وهبنا سرّ الافخارستيا حيث قال: “من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه” (يو ٦: ٥٦)، “فمن يأكلني فهو يحيا بي” (يو ٦: ٥٧).
v بالنسبة للآب تشير هذه الكلمات إلى الجوهر (الإلهي الواحد)، وأما بالنسبة للتلاميذ فتشير إلى وحدة الفكر وإلى العون الإلهي.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v
الآن أيضًا هو فينا ونحن فيه، هذا ما نؤمن به الآن، أما حينئذ فإننا سنعرف أيضًا هذا. وإن كنا ما نعرفه الآن هو بالإيمان، أما ما سنعرفه فسيكون بالرؤية الفعلية.
القديس أغسطينوس
“الذي عنده وصاياي ويحفظها، فهو الذي يحبني،
والذي يحبني يحبه أبي،
وأنا أحبه، وأظهر له ذاتي”. (21)
الشهادة الحقيقية لحبنا للسيد المسيح هو الطاعة لوصيته أو ناموسه، كحبٍ ملتزمٍ وقورٍ مطيعٍ، يجعل الإرادة متناغمة مع إرادة المحبوب، والسلوك متفق مع الحكمة الإلهية.
- أما ثمرة هذا الحب العملي، فهو تمتع المؤمن بحب الآب له، وحنوه واحتضانه لهم. فالآب يحب الابن، ويحب محبوبيه.
- ويتمتع أيضًا بحب المسيح له “وأنا أحبه” (21)، كأخٍ ومخلصٍ له، يهبه المغفرة ويمتعه بالحياة المحيية.
- كما يتمتع بإعلان الابن ذاته له، “وأُظهر له ذاتي” (٢١). إذ يشرق بنوره على الفكر كما على القلب، ويتمتع المؤمن باستنارة روحية.
هكذا يربط السيد المسيح التمتع بالحب الإلهي بالحياة العملية الاختبارية خلال حفظ الوصية الإلهية، كما يربطه بالكشف الإلهي أو الظهور الإلهي الذي يعلن الروح القدس، روح الاستنارة. هكذا من يود أن يرى الله يلزمه أن يحب، وأن يترجم الحب إلى خبرة الوصية الإلهية.
v لا يكفينا أن نقتني الوصايا فقط، لكننا نحتاج إلى حفظ مستقصى وبليغ لها.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v الذي عنده (وصاياي) في ذاكرته ويحفظها في حياته؛ الذي عنده في شفتيه ويحفظها سلوكيًا؛ الذي عنده في أذنيه ويحفظها في العمل؛ الذي عنده في الأعمال ويحفظها بالمثابرة، مثل هذا “يحبني“. بالعمل يعلن الحب، وبالتطبيق بغير ثمر يكون مجرد الاسم (للحب).
القديس أغسطينوس
v كل كلمة من كلمات المسيح تكشف عن مراحم اللّه وبره وحكمته، ويمكن أن تكون لهذه الكلمة قوتها في النفس عن طريق الأذن إن أصغت إليها طوعًا. هذا هو السبب في أن الإنسان القاسي القلب والشرير الذي لا يصغي إليها طوعًا ليس فقط لا يدرك الحكمة الإلهية، بل ويصلب (يسوع) الذي علّم بها.
لذلك يجب علينا أيضًا أن ننظر إن كنا نصغي إليه طوعًا، إذ قال: “إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي… الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني، والذي يحبني يحبه أبي، وأنا أحبه، وأظهر له ذاتي” (يو 15:14، 21).
ألا ترى كيف أنه يجعل في وصاياه مكمنًا لإعلان ذاته؟ إن أعظم الوصايا هي أن تحب اللّه والقريب، تلك التي تأتي بعدما نرفض كل الأمور الزمنية ويستقر ذهننا.
القديس مرقس الناسك
“قال له يهوذا ليس الاسخريوطي:
يا سيد ماذا حدث حتى أنك مزمع أن تظهر ذاتك لنا وليس للعالم؟” (22)
إذ قدم السيد المسيح هذه الوعود الإلهية عبَّر أحد التلاميذ عن دهشتهم أنه يظهر ذاته لهم دون العالم. هذا ما عبَّر عنه “يهوذا ليس الاسخريوطي“، وهو أخ يعقوب (لو ٦: ١٦)، أحد أقرباء يسوع المسيح حسب الجسد (مت ١٣: ٥٥)، كاتب رسالة يهوذا.
دُهش يهوذا إذ شعر بأنه ومعه بقية التلاميذ نالوا نعمة فائقة وإعلانًا لشخص المسيا وعمله، الأمور التي لم يتمتع بها العالم. لكن يبقى أن نتساءل: هل كان يهوذا يدرك في هذه اللحظات إعلان السيد المسيح عن نفسه، أم كان لا يزال يفكر فيه كملكٍ أرضيٍ، ويتلامس معه خلال الجسد وحده، بينما كان السيد يود أن يسحب كل أفكارهم نحو السماء؟
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيد المسيح وقد وعدهم أنه يظهر ذاته لهم، ظنوا أنه يترآى لهم في أحلام، إذ لم يتخيلوا أنه يقوم من الأموات، ويصعد حقيقة إلي السماء. حسبوه يظهر في أحلامهم كخيالات، وإذ لم يجسروا أن يسألوه صحح مفاهيمهم بأنه يأتي هو والآب ويسكنا فيهم، كما لو كانوا منزلاً لهما.
v ألا ترون كيف صارت نفوسهم تعاني من الخوف؟ فقد صار (يهوذا) مرتبكًا وفي ضيق، حاسبًا أنه سيرى كما نرى أجسادًا ميته في حلمٍ. فلكي يزيل عنهم هذا التصور اسمع ما يقوله: “إليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً” (23)… هذا أمر لا ينتمي إلي أحلام.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“أجاب يسوع وقال له:
إن أحبني أحد يحفظ كلامي،
ويحبه أبي،وإليه نأتي،وعنده نصنع منزلاً”. (23)
بدأ يوجه حديثه لا إلى تلاميذه وحدهم، بل إلى كل المؤمنين الذين يحبونه، ويظهر أن الوعد الإلهي عام للكل، وأنه لا يسكن معه الآب، إذ يقيم من القلب مسكنًا أو هيكلاً إلهيًا.
والعجيب أنه بينما يدهش يهوذا لإعلان السيد المسيح عن ذاته، يتكلم السيد المسيح بالجمع عن نفسه ومعه الآب، وكأنه يود أن يربط أذهان المؤمنين بوضعه الحقيقي أنه صاعد إلى الآب، وكائن معه. كأنه يقول لهم: أتريدون أن أعلن لكم ذاتي؟ إني غير منفصل عن الآب! أمكث معه في السماء، وإذ أحل في قلوبكم نحل نحن معًا فيها.
v المواهب التي يقسمها الروح القدس لكل واحدٍ تُمنح من الآب بالكلمة. لأن كل ما للآب هو للابن أيضًا. إذًا فتلك التي تُمنح من الابن في الروح القدس هي مواهب الآب. وعندما يكون الروح القدس فينا يكون فينا أيضًا الكلمة الذي يمنح الروح القدس، والآب الذي هو في الكلمة. وهذا يتفق مع ما قيل: “إليه نأتي، أنا والآب، وعنده نصنع منزلاً” (يو 23:14). لأنه حيث يوجد النور يوجد أيضًا الشعاع، وحيث يوجد الشعاع، يوجد أيضًا نشاطه، وتوجد نعمته الخافقة.
هذا ما نادي به أيضًا الرسول عندما كتب لأهل كورنثوس في الرسالة الثانية: “نعمة ربنا يسوع المسيح، ومحبة اللَّه، وشركة الروح القدس مع جميعكم” (2 كو 13:13). لأن هذه النعمة والموهبة التي تمنح، إنما تمنح في الثالوث من الآب بالابن في الروح القدس.
وكما أن النعمة المعطاة هي من الآب بالابن، هكذا لا يمكننا أن نشترك في الموهبة إلا في الروح القدس. لأننا عندما نشترك فيه تصبح لنا محبة الآب ونعمة الابن وشركة الروح القدس نفسه.
هذه الحقيقة أيضًا تبين أن عمل الثالوث واحد. فالرسول لا يعني أن ما يُعطي يُعطي بالتجزئة وعلي حدةٍ من كل أقنوم، بل أن ما يُعطي يُعطي في الثالوث، وإن كل ما يُعطي هو من اللَّه الواحد.
القديس أثناسيوس الرسولي
v برهان الحب هو إعلانه خلال العمل. هذا هو السبب الذي لأجله يقول يوحنا في رسالته: “من قال قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه فهو كاذب” (1 يو 2: 4). حبنا حقيقي أن حفظنا إرادتنا متناغمة مع وصاياه. من يجول هنا وهناك خلال شهواته الشريرة لا يحب الله بالحق، لأنه يضاد الله في إرادته.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v يوجد هنا نوع من الإعلان الداخلي عن الله، الأمر الذي لا يُعرف نهائيًا بالنسبة للأشرار الذين لا يقبلون أي إعلان عن الله الآب والروح القدس، وهكذا أيضًا بالنسبة للابن الذي لا يعرفون عنه إلاَّ ما هو بالجسد… ويكون لهم ذلك للدينونة لا للفرح، للعقوبة لا للمكافأة.
v لئلا يظن أحد أن الآب والابن وحدهما دون الروح القدس يصنعان لهما منزلاً لدى الذين يحبونهما، فليتذكر ما قيل قبلاً عن الروح القدس: “لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه، لأنه ماكث معكم، ويكون فيكم” (١٧).
هنا ترون أن الروح القدس أيضًا مع الآب والابن يجد له مسكنًا في القديسين، أي بكونه الله في هيكله.
يأتي الثالوث القدوس إلينا كما نأتي نحن إليه.
هو يأتي بالعون، ونحن نأتي بالطاعة، هو يأتي لينير، ونحن نأتي لنرى.
هو يأتي ليملأ، ونحن نأتي لكي نحتويه، فلا تكون رؤيتنا له خارجية بل داخلية.
سكنى الثالوث ليست مؤقتة بل أبدية.
لا يعلن الابن نفسه هكذا بهذه الطريقة للعالم. فإن العالم الذي تكلم عنه في عبارة سابقة يضيف إليه فورًا القول: “الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي” (٢٤). الذين هم هكذا لن يروا الآب والروح القدس، وإنما يروا الابن إلى حين لا كمصدر بركة بل لدينونتهم. لا يروه في شكل الله الذي فيه هو مساوٍ للآب والروح القدس، غير منظور معهم، بل الشكل البشري، الذي بإرادته كان موضوع استخفاف في آلامه ويكون موضوع رعب في دينونة العالم.
v السكنى التي وعد بها في المستقبل من نوعٍ ما… سكنى روحية تتحقق داخليًا في الذهن، والأخرى (الخاصة برؤية السيد المسيح أثناء خدمته على الأرض) جسدية مُعلنة خارجيًا للعين والأذن.
واحدة تجلب بركة أبدية للذين يقبلونها، والأخرى خاصة بالزمن للذين ينتظرون الخلاص.
بالنسبة لواحدة لن ينسحب الرب ممن يحبونه، وبخصوص الأخرى يأتي ويذهب. إنه يقول: “بهذا كلمتكم، وأنا عندكم” (٢٥)، أي حضور جسدي فيه يتحدث معهم بطريقة منظورة”.
القديس أغسطينوس
v يسكن روح المسيح في من يحملون شبهه، أقول، من جهة الشكل والسمات… فيقدم اللَّه في وعوده للأبرار: “إني سأسكن فيهم، وأسير بينهم، وأكون لهم إلهًا، وهم يكونون لي شعبًا” (2كو 16:6؛ لا 12:26؛ إر 33:3، 38:32؛ زك 8:8). ويقول المخلص: “إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً” (يو 23:14)…
وفي أجزاء أخرى من الكتاب المقدس يتحدث عن سرّ القيامة، للذين قد فُتحت آذانهم إلهيًا، ويقول إن الهيكل الذي تمّ تدميره يُعاد بنائه من جديد من أحجار حية وثمينة. هذا يجعلنا نفهم أن كل من تقودهم كلمة اللَّه إلى الكفاح معًا في طريق التقوى يكونون حجارة ثمينة في هيكل اللَّه العظيم الواحد.
لذلك يقول بطرس الرسول: “كونوا أنتم أيضًا مبنيين كحجارةٍ حيةٍ، بيتًا روحيًا، كهنوتًا مقدسًا، لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند اللَّه، بيسوع المسيح” (1 بط 5:2). ويقول أيضًا بولس الرسول: “مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه، حجر الزاوية” (أف 20:2). كما يوجد ما يشبه ذلك بتلميحٍ خفي في تلك الفقرة من إشعياء التي يخاطب فيها أورشليم: “هأنذا أبني بالأثمد حجارتكِ، وبالياقوت الأزرق أؤسسكِ، وأجعل شُرَفَكِ ياقوتًا، وأبوابكِ حجارة بهرمانية، وكل تخومك حجارة كريمة، وكل بنيك تلاميذ الرب، وسلام بنيكِ كثيرًا” (إش 11:54-14).
إذن يوجد بين الأبرار من هم أثمد، ومن هم ياقوت أزرق، وآخرون بهرمان، أو حجارة كريمة، أي فيهم كل الأنواع للاختيار…
العلامة أوريجينوس
“الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي،
والكلام الذي تسمعونه ليس لي،
بل للآب الذي أرسلني”. (24)
إذ تحدث عن شوقه نحو مجيئه مع الآب إلى قلوبهم وسكناهما فيها كهيكل مقدس يحذرهم من محبة العالم مباهجه الباطلة التي تحرمهم من حفظ كلامه الذي هو كلام الآب، بهذا يعلنون عن حبهم للظلمة لا للنور. فلن يكون له ولا للآب موضع فيهم.
v كأن السيد المسيح يقول: فمن هذه الجهة من لا يحفظ هذه الأقوال ليس من شأنه أنه لا يحبني فقط، لكنه ولا يحب أبي أيضًا، وإن كانت هذه دلالة الحب وهي الاستماع للوصايا، وهذه وصايا أبي، فمن يسمعها لا يحب الابن فقط، لكنه يحب معه أباه.
القديس يوحنا الذهبي الفم
المعزي المعلم ٢٥ – ٢٦
“بهذا كلمتكم وأنا عندكم”. (25)
يشجعهم السيد المسيح على قبول المعزي الآخر بكونه المعلم الذي لا ينافسه، بل يذَّكرهم بما قاله السيد، ويكشف لهم عن أسرار أخرى “يعلمكم كل شيء” (٢٦)، لأنه روح الحكمة. إنه لا يأتي بإنجيل جديد، بل يذكرهم بإنجيل المسيح، ويعلن لهم ما لم يكونوا قادرين على قبوله قبلاً.
“وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي،
فهو يعلمكم كل شيء،
ويذكركم بكل ما قلته لكم”. (26)
v يدعو الروح القدس معزيًا بسبب الهموم التي استحوذت عليهم حينئذ.
وهذه الأقوال قالها السيد المسيح لتلاميذه مكلفًا إياهم أن يحتملوا مفارقته بأوفر صبرٍ، إذ هي علة نعمٍ عظيمةٍ صالحةٍ لهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v لا يسكن الروح في إنسانٍ بدون الآب والابن، ولا الابن أيضًا بدون الآب والروح القدس، ولا الآب بدونهما. سكناهم غير منفصل، لكن أحيانًا يعلنون عن أنفسهم برموزٍ مقتبسة من الخليقة منفصلين، ليس في جوهرهم.
القديس أغسطينوس
v أرسل كل من الآب والابن الروح القدس. أرسل الآب الروح القدس، إذ كُتب: “وأما المعزّي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي” (16). وأرسله الابن إذ قال: ومتى جاء المعزّي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق” (26:15). إذن إن كان الابن والروح القدس يرسلان بعضهما البعض، كما يرسل الآب، فلا يوجد منزله أقل بالخضوع بل شركة في السلطة.
القديس أمبروسيوس
v الكلمة اليونانية “باركليت” معناها في اللاتينية “محامي” أو “معزي”. دعي المحامي، لأنه يتدخل أمام عدالة الآب لحساب الخطاة المخطئين.
هذا الذي هو جوهر واحد مع الآب والابن، قيل أنه يتوسل بغيرة من أجل الخطاة، إذ يجعل الذين يعلمهم أن يفعلوا هذا. لذلك يقول بولس: “الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا يُنطق بها” (رو8: 26)…
هذا الروح نفسه يُدعى المعزي، لأنه إذ يعد رجاءً في الغفران للذين يحزنون على خطاياهم. إنه يرفع قلوبهم من الحزن والضيق. إنه يعد أنه يعلمهم كل شيء، لأنه إن لم يكن الروح حاضرًا في قلب المستمع يكون قول المعلم بلا نفع.
لا يليق بأحدِ أن ينسب لمعلمه ما يفهمه منه، لأنه ما لم يوجد المعلم الداخلي يجهد المعلم الخارجي نفسه باطلاً. يقول يوحنا: “وأما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم، ولا حاجة بكم إلى أن يعلمكم أحد، بل كما تعلمكم هذه المسحة عينها عن كل شيء… كما علمتكم تثبتون فيه” (1 يو 2: 27).
لا يتعلم أحد بصوتٍ عندما لا يُمسح قلبه بالروح. “يذكركم بكل ما قلته لكم“، إذ يهبكم المعرفة ليس كمن هو أقل بل بكونه يعرف ما هو خفي.
البابا غريغوريوس (الكبير)
الكنيسة هي تمتع بالشركة في سرّ الثالوث القدوس. إنها عطية الحب والحياة من أب الأنوار، حضور المسيح وتذكره في الصلاة، وشهادته وخدمته لقوة الروح القدس المقدَّس الذي يقود الكنيسة وأبناءها إلى كمالهم خلال صوت الروح الداخلي.
يقول مار اسحق أسقف نصيبين: [عندما يؤسس الروح سكناه في إنسان، لا يتوقف الأخير عن الصلاة، لأن الروح لا يتوقف عن الصلاة فيه].
v إذ أبدأ في التأمل في الوحدة يغمرني الثالوث بإشراقه. وما أن أبدأ في التفكير في الثالوث حيث تستولي عليّ الوحدة. حينما يظهر لي أحد الثالوث أظن أنه الكل، يملأ عيني بالكامل، يهرب الفيض مني. ولا يكون في ذهني المحدود جدًا في إدراكه أقنوم واحد موضع لأكثر من ذلك. عندما اربط الثلاثة في فكر واحدٍ أرى لهيبًا واحدًا، فلا أستطيع أن أُقسّم النور الواحد ولا أحلّله.
القديس غريغوريوس النزينزي
v الثالوث القدوس كله يتكلم ويعلم (يو ٦: ٤٥؛ مت ٢٣: ١٠؛ أع ١٠: ٢٠)… لكنهم غير منفصلين.
القديس أغسطينوس
الكنيسة والثالوث القدوس
الكنيسة هي البيئة الإلهية التي تعمل فيها النعمة، وتقدم الخلاص. إننا وحدنا الذين نعرف أن الكائن البشري حسب تعبير القديس أغسطينوس “امتداد للعائلة الثالوثية”، بمعنى عندما يفكر اللَّه في الإنسان بكونه أيقونته، فإن يسوع المسيح يحتل المركز الأول. لهذا هذا الإنسان يحكمه نفس الديناميكيات كالثالوث نفسه، أي الحرية والوحدة والحب. إننا وحدنا نعرف صورة اللَّه هذه التي تتحقق في طوق إلهي، تتطلب منا ما فوق في الطبيعة. يلزمنا أن نتحرك إلى ما فوق الصراع من أجل الحياة، ونتعدى المركزة على ذواتنا، ليكون لنا تطلعًا نحو المشاركة وتحقيق جوهري لكل الإنسانية.
يرى القديس غريغوريوس النزينزي أن العهد القديم أعلن عن الآب علانية، وعن الابن بطريقة أكثر غموضًا. وأعلن العهد الجديد عن الابن، وأوحى بلاهوت الروح القدس. وهكذا جاء الإعلان عن الثالوث تدريجيًا، لئلا يصير الشعب أشبه بأناس تثقّلوا بطعام أكثر من طاقتهم، وقدّموا نور الشمس لأعينهم الضعيفة جدًا عن رؤيته، لئلا يحدث خطر فقدان حتى ما هو في حدود طاقتهم، وإنما كما يقول داود بالتدريج يصعدون ويتقدمون وينمون من مجدٍ إلى مجدٍ، فيشرق نور الثالوث على الذين يستنيرون.
v إننا نحفظ بكل اهتمام الإيمان الذي نتسلمه من الكنيسة، فإنه خلال عمل روح اللَّه، يكون وديعة ثمنها عظيم، مودعة في إناءٍ صالحٍ، تتجدد بغير انقطاع، وتجعل الإناء الذي يحفظها متجددًا. تُمنح عطية اللَّه (الروح القدس) للكنيسة كالنسمة التي قُدمت للإنسان في خليقته، حتى يشترك كل الأعضاء فيها ويحيون بها. في الكنيسة تودع الشركة مع المسيح أي الروح القدس، عربون عدم الفساد، ثبات إيماننا، سلم للصعود إلى اللَّه… فإنه حيث توجد الكنيسة يكون أيضًا روح اللَّه، وحيث يوجد روح اللَّه تكون الكنيسة وكل نعمة.
v وعد الرب بالأنبياء أن يسكب روحه على خدامه وخادماته في نهاية الأزمنة هذه. هذا هو سبب نزوله على ابن اللَّه الذي صار ابن الإنسان، إذ صار معتادًا به أن يسكن في الجنس البشري ويستقر على البشريين، وأن يحيا في خليقة اللَّه، يجددهم من العتق إلى جدة المسيح… لهذا السبب وعد الرب أيضًا أن يرسل الباراكليت الذي يهيئنا للَّه.
v كما أن الدقيق الجاف لا يقدر بدون سائل أن يصير عجينًا أو خبزة واحدة، هكذا نحن الكثيرون لا نقدر أن نصير واحدًا في المسيح بدون الماء الذي من السماء. هذا الماء تقَّبله الرب كهبة من الآب، والذي هو يعطيه أيضًا للذين يشتركون معه، مرسلاً الروح القدس على كل الأرض.
v يصف الكهنة تلاميذ الرسل مسيرة الذين يخلصون وخطوات صعودهم، فيصعدون بالروح إلى الابن، وبالابن إلى الآب، وأخيرًا يرد الابن عمله للآب كقول الرسول (1 كو 15: 24).
v الآب يخطط ويعطي أوامر، والابن يحقق ويخلق، بينما الروح ينعش وينمي، وعلى درجات يصعد الإنسان نحو الكامل.
v إذ ينشط التلاميذ بذات المشاعر يسبحون اللَّه، فيجلب الروح القبائل البعيدة إلى الوحدة، ويقدمون للآب بكور الأمم. هذا أيضًا هو السبب الذي لأجله وعد الرب بإرساله الباراكليت إلينا هذا الذي يهيئنا للَّه.
v كما أن الأرض القفر لا تقدر أن تأتي بثمرٍ ما لم تستقبل ماءً، هكذا نحن الذين كنا قبلاً خشبًا جافًا، ما كان يمكننا أن نحمل ثمر للحياة بدون المطر الفياض الذي من العلا. لأن أجسادنا تتقبل الاتحاد مع عدم الفساد خلال غسل المعمودية، وأما نفوسنا فخلال الروح. هذا هو السبب الذي لأجله أن هذا وذاك ضروريان، لأن هذا وذاك يساهمان في الحياة الإلهية.
القديس إيريناؤس
v لا نزال نحتاج إلى آخر يكشف لنا، ويعلن عن كل شيء… ومع التوبة التي كرز بها الرب والمخلص، والتحول من الشر إلى الصلاح، ومع غفران خطايانا الذي يُوهب لكل الذين يؤمنون، مع هذا فإن كمال كل الصلاح ومجمله في هذا: أنه بعد كل هذه الأمور يتأهل الإنسان أن يتقبل نعمة الروح القدس، وإلا فإنه لا يوجد شيء ما يُحسب كاملاً بالنسبة لمن ينقصه الروح القدس الذي به نبلغ سرّ الثالوث المطوّب.
العلامة أوريجينوس
v يُقاد حاملو الروح القدس إلى الكلمة، أي إلى الابن. لكن الابن يأخذهم ويقدمهم إلى الآب، والآب يمنحهم عدم الفساد. فبدون الروح لا يتم الاقتراب إلى الآب… لأن معرفة الابن تتم بالروح القدس، لكن الابن حسب مسرة الآب يمنح مواهب الروح حسب إرادة الآب، للذين يريد لهم لذلك.
دليل الكرازة الرسولية
عطية الروح القدس تعلن لنا حسبما نسعى ونطلب
v هذه العطية (الروح القدس) التي في المسيح هي واحدة، تقدم بالكامل للكل، ولا يُحرم أحد منها، ولكن كل واحد يأخذها حسب قياس إرادته في قبولها. إنها تقطن داخلنا حسب درجة ما يتأهل الإنسان لها بطلبه إياها في غيرة. هذه العطية تبقى معنا حتى نهاية العالم، عزاءً لترقبنا لها، وسلامُا بواسطة الامتيازات التي تهبنا إياها، على رجاء أنها تصير لنا نور أذهاننا، وشمس نفوسنا. هذا الروح القدس يلزمنا أن نطلبه، ونشتاق إليه، عندئذ نتمسك به بالإيمان والطاعة لوصايا اللَّه.
القديس هيلاري أسقف بواتييه
v تصعد طريق الحكمة الإلهية من الروح الواحد بالابن الواحد إلى الآب الواحد. هكذا الصلاح الطبيعي، والقداسة الموروثة، والكرامة الملوكية تبلغ من الآب بالابن الوحيد إلى الروح.
v عندما نثَّبت عيوننا خلال قوة الإنارة (التي للروح) على جمال صورة اللَّه غير المنظور (على الابن)، وبالصورة نُقتاد إلى الجمال الفائق للأصل (للآب)، عندئذ روح المعرفة الذي فينا لا ينقسم بالنسبة للذين يحبون رؤية الحق، بل يهبهم فيه قوة رؤية الصورة… إنه لا يعينها في الخارج، بل يقودهم إلى المعرفة في نفسه.
v إنه لا يقطن فيهم (الخطاة)، لأنهم يرفضون بسهولة النعمة التي يتقبلونها.
القديس باسيليوس الكبير
فرح المسيح برحيله ٢٧ – ٣١
“سلامًا أترك لكم، سلامي أعطيكم.
ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا.
لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب”. (27)
ماذا ترك السيد المسيح لتلاميذه الذين تركوا كل شيء وتبعوه؟ “سلامي أعطيكم” (27). إنه يتركهم ليس في حزنٍ ومرارةٍ، بل في سلام ليهبهم ميراثًا ثمينًا، هو سلامه! هو نفسه سلامنا (أف ٢: ١٤)، أورثنا ذاته سلامًا لنا.
إنه لا يقدم السلام كما يقدمه العالم، تحية كلامية شكلية، بل بركة حقيقية تتمثل في تقديم ذاته لمؤمنيه. هذا السلام لا يمكن للعالم بكل إمكانياته أن يقدمه ولا بكل أحزانه أن يسحبه من المؤمن. لأن ما يعطيه العالم يمس الجسد ويُحد بالزمن والمكان، أما سلام المسيح فيحتضن كيان الإنسان كله، ولا يقدر زمن ما أو مكان ما أن يحده. إنه يسحب أعماق الإنسان لتختبر الأبدية.
“لا تضطرب قلوبهم ولا ترهب“، لأن سلام المسيح أبدي، ليس من قوة تقدر أن تنزعه عن الإنسان المتمسك به. سلام العالم قد يدفع الإنسان إلى الخطية، سواء من جهة الملذات أو الكبرياء، أما سلام المسيح فهو عمل النعمة الغنية التي تحفظ الإنسان في القداسة والبر. لكي يسحب قلوب تلاميذه إلى الفرح الأبدي والسلام السماوي، تحدث معهم كمن يتهلل بعودته إلى السماء، واهبًا إياهم سلامه كي يمتلؤا به ويفرحوا بصعودهم معه.
v إذ اضطرب التلاميذ عند استماعهم قول السيد المسيح: “أنا أمضي لأعد لكم مكانًا“، متصورين أن انصرافه عنهم يثير العداوة والحروب عليهم، أنظر كيف إنه نزع ارتياعهم، فقال: “سلامًا أترك لكم، سلامي أعطيكم”، فأوشك أن يقول: “مادام السلام يشملكم فما الذي يضركم من العالم؟”
القديس يوحنا الذهبي الفم
v إنه يترك لنا سلامًا وهو راحل، وسيقدم لنا سلامه عندما يأتي في النهاية. سلامًا يتركه لنا في هذا العالم، وسلامه سيهبنا في العالم الآتي. يترك لنا سلامه، وإذ نسكن فيه نهزم العدو.
سيهبنا سلامه عندما لا يوجد بعد أعداء نحاربهم فنملك كملوك.
سلامًا يترك لنا حتى نحب أيضًا بعضنا البعض هنا، وسيعطينا سلامه حين نكون فوق إمكانية حدوث نزاع.
سلامًا يتركه لنا حتى لا يدين الواحد الآخر فيما هو سرّ لكل منهما ونحن على الأرض؛ سيهبنا سلامه عندما “يُظهر آراء القلوب وحينئذ يكون المدح لكل واحدٍ من الله” (١ كو ٤: ٥). ومع هذا ففيه ومنه ننال السلام سواء الذي يتركه لنا وهو ذاهب عند الآب أو ما سيمنحنا إياه عندما يحضرنا إلى الآب.
وماذا يترك لنا عندما يصعد من عندنا سوى حضوره الذي لن يسحبه منا؟ فإنه هو سلامنا الذي يجعل كلاهما واحدًا (أف ٢: ١٤). لذلك يصير هو سلامنا، سواء عندما نؤمن بأنه هو، أو عندما نراه كما هو (١ يو ٣: ٢).
لأنه إن كان ونحن بعد في هذا الجسد الفاسد الذي يثقل على النفس ونسير بالإيمان لا بالعيان لا يترك الذين يرحلون وهم بعيدون عنه (٢ كو ٥: ٦-٧)، كم بالأكثر عندما نبلغ تلك الرؤية، سيملأنا بنفسه.
v السلام الذي يتركه لنا في هذا العالم يمكن بالأكثر لياقة أن يدعى سلامنا لا سلامه. لأنه إذ بلا خطية تمامًا ليس فيه أي عنصر من الخلاف نفسه. أما السلام الذي لنا هو الذي في وسطه لا نزال نقول: “أغفر لنا ما علينا” (مت ٦: ١٢)… إنه ليس بالسلام الكامل، إذ نرى ناموسًا آخر في أعضائنا ضد ناموس ذهننا (رو ٧:٢٢-٢٣).
القديس أغسطينوس
“سمعتم أني قلت لكم:
أنا أذهب ثم آتي إليكم،
لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون،
لأني قلت أمضي إلى الآب،
لأن أبي أعظم مني”. (28)
يقدم سببًا آخر لعدم اضطراب قلوبهم، وهو أنه وإن كان ذاهبًا عنهم إلاَّ أنه سيأتي إليهم. إنه ذاهب ليتسلم الملكوت والسلطان والقوة لحسابهم، لذا لاق بهم أن يفرحوا بما سيتمتعون به.
“لأن أبي أعظم مني” (28)، إذ صار إنسانًا وتنازل ليحقق خلاصنا، صار في تنازله كمن هو أقل من الآب في المجد حسب ناسوته. إن كانت مسرة الآب والابن أيضًا أن يتنازل الابن من أجل البشرية ليمجدهم، فيليق بالمؤمنين وهم يسمعون الابن أن يعتز بتنازله أن يفرحوا معه، لأن في هذا خلاصهم ومجدهم.
v واضح أنه صار إنسانًا بينما بقي هو اللَّه، فإن اللَّه انتحل إنسانًا، ولم يُمتص اللَّه في إنسانٍ. لذلك بالكمال، بمنطق مقبول أن يُقال إن المسيح كإنسانٍ هو أقل من الآب، وأن المسيح كإله مساوٍ للآب، مساوٍ للَّه (يو 30:10).
v أمور كثيرة قيلت في الكتاب المقدس تتحدث عنه في شكل اللَّه، وأمور كثيرة في شكل العبد. اقتبس اثنين من هذه كمثالين، واحد يخص كل منهما. فبحسب شكل اللَّه قال: “أنا والآب واحد” (يو 30:10)، وبحسب شكل العبد: “أبي أعظم مني”.
القديس أغسطينوس
v ما هو غير طبيعي إن كان ذاك الذي هو اللوغوس قد صار جسدًا (يو 1: 14) يعترف بأن أباه أعظم منه، إذ ظهر في المجد أقل من الملائكة، وفي الهيئة كإنسان؟ لأنك “جعلته أقل قليلاً من الملائكة” (مز 8: 5)… وأيضا: “ليس فيه شكل ولا جمال، شكله حقير، وأقل من شكل بني البشر (إش 53: 2، 3). هذا هو السبب لماذا هو أقل من الآب، فإن ذاك الذي أحبك احتمل الموت، وجعلك شريكًا في الحياة السماوية.
القديس باسيليوس الكبير
v بسبب تواضعه يقول هذه الكلمات، هذه التي يستخدمها خصومنا ضده بطريقة خبيثة.
v يقولون مكتوب: “أبي أعظم مني“. أيضًا مكتوب: “لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً للَّه” (في 6:2). وأيضًا مكتوب أن اليهود أرادوا قتله، لأنه قال إنه ابن اللَّه معادلاً نفسه باللَّه (يو 18:5). مكتوب: “أنا والآب واحد” (يو 30:10). إنهم يقرأون نصًا واحدًا وليس نصوص كثيرة. إذن هل يمكن أن يكون أقل ومساوٍ في نفس الوقت لذات الطبيعة؟ لا، فإن عبارة تشير إلى لاهوته، وأخرى إلى ناسوته.
القديس أمبروسيوس
“وقلت لكم الآن قبل أن يكون،
حتى متى كان تؤمنون”. (29)
أخبرهم مقدمًا بموته حتى لا يتعثروا متى حدث، وقد أظهر لهم ما وراء موته كضرورةٍ لازمة لخلاصهم. بهذا يخفف السيد المسيح من حدة حزنهم واهبًا إياهم الرجاء.
“لا أتكلم أيضًا معكم كثيرًا،
لأن رئيس هذا العالم يأتي،
وليس له فيّ شيء”. (30)
ظن البعض أنه يتحدث عن بيلاطس بنطس كحاكم روماني، لكن يكاد يجمع الرأي على أنه يعني برئيس هذا العالم إبليس كما جاء في أف ٢: ٢ ويو ٢: ٣١؛ ودُعي إله هذا العالم في ٢ كو ٤: ٤.
صراع السيد المسيح ليس ضد إنسان بل ضد قوات الظلمة الروحية. الإنسان ليس طرفًا في المعركة، إنما المعركة هي بين المسيح وإبليس، وللإنسان أن يختفي في أحدهما. يتكلم السيد المسيح بلغة اليقين أنه ليس لإبليس موضع فيه. لذا فهو حتمًا غالب له.
v قول السيد المسيح: “لأن رئيس هذا العالم“، يعني به إبليس، وقد دعاه الناس الأشرار بهذا الاسم، ليس لأنه يرأس السماء والأرض، وإلا لقلب الخلائق وعكسها، وإنما يرأس الذين قد أسلموا إليه ذواتهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v إننا مُحاصرون بجيوش الأعداء، فإنهم حولنا من كل جانب. الجسد الضعيف سيصير قريبًا ترابًا، إنه واحد ضد كثيرين، يحارب ضد فرق هائلة. إلى أن يحل، إلى أن يأتي رئيس العالم، ولا يجد خطية فيه، إلى أن يحين ذلك، فلتنصت في أمان إلى كلمات النبي: “لا تخف من رعب الليل، ولا من سهم يصير في النهار…” (مز 5:91).
v إن نقص أسقف فضيلة أو فضيلتان في قائمة الفضائل لا يعني هذا أنه لا يعود يُدعى بارًا، ولا يُدان على نقائصه، وإنما يكلل على ما لديه. لأن اقتناء كل الفضائل وعدم النقص في شيءٍ منها هو من سمات (المسيح) وحده، الذي لم يفعل خطية، ولا في فمه غش الذي إذ شُتم لم يُشتم عوضًا (1 بط 22:2).
القديس جيروم
v بمثل هذه الكلمات يشير إلى الشيطان كرئيس ليس على خلائق الله بل على الخطاة، هؤلاء الذين يشير إليهم هنا باسم “هذا العالم“. عندما يستخدم اسم “العالم” بمعنى شرير يشير السيد فقط إلى محبي هذا العالم، الذين كُتب عنهم في موضع آخر: “محبة العالم عداوة لله” (يع ٤: ٤). حاشا لنا أن نفهم الشيطان أنه رئيس العالم كمن يسيطر على تدبير أمور كل العالم، السماء الأرض وما فيهما. مثل هذا العالم قيل عنه عندما تحدثنا عن المسيح الكلمة: “كوِّن العالم به” (يو ١: ١٠). العالم كله من أعلي السماوات إلى أسافل الأرض يخضع للخالق ليس للهارب؛ للمخلص لا للمخرب؛ للمنقذ لا للمستعبِد؛ للمعلم لا للمخادع.
القديس أغسطينوس
“ولكن ليفهم العالم إني أحب الآب،
وكما أوصاني الآب هكذا أفعل.
قوموا ننطلق من ههنا”. (31)
إن كان ليس لإبليس موضع في السيد المسيح، وليس في إمكانياته أن يحاربه، لكن سمح السيد له أن يدخل معه في المعركة الحاسمة، من أجل تحقيق خطة الآب للخلاص، وحب الابن للآب.
هذه هي وصية الآب له أن يخَّلص العالم بآلامه، لذلك سألهم أن يقوموا وينطلقوا كي يسلم نفسه للموت.
v قال السيد المسيح ذلك لينهض نفوس تلاميذه، وليعرفوا أنه يذهب إلى هذا الموت ليس كرهًا بل طوعًا.
القديس يوحنا الذهبي الفم
من وحي يو ١٤
ليحملني روحك القدوس إلى سماواتك المتسعة!
v إذ اضطربت نفسي في داخلي،
من أجل كثرة خطاياي،
كشفت لي عن اتساع سماواتك،
التي تنتظر كل مؤمن!
تهبنا حياة أبدية واحدة للجميع،
يتلألأ فيها مؤمنوك ككواكبٍ بهية.
كل منهم يفرح ويتهلل من أجل عظم بهاء أخيه!
v لأنطلق بك يا أيها الطريق إلى حيث توجد.
فأنت طريقي الإلهي، وأنت سماواتي.
بك أنطلق، إليك لأبقى معك في حضن أبيك!
v أتساءل: كيف وأنا الإنسان أبقى معك؟
وهبتني روحك القدوس يقدس أعماقي.
تركتني بالجسد بصعودك،
وأرسلت لي روحك الناري، يشكلني على صورتك!
يهبني معرفة الحق،
فأتعرف عليك يا أيها الحق.
أراك فأرى الآب، لأنكما واحد!
أراك في تنازلك تعلن: أبي أعظم مني.
لا أتعثر بهذه الكلمات،
بل ألمس فيها روح التواضع، يا من صرت عبدًا من أجلي!
v اسمع كلماتك هذه فأتعلق بحبك!
حبك أنزلك إليَّ، لكي يرفعني إلى حضن أبيك.
وأنت غير منفصل عنه صرت كمن هو أقل منه،
لكي تحملني من انحطاطي إلى علو شركة مجدك!
v كم كنت اشتهي أن أرافقك حين كنت هنا بالجسد،
لكن صعودك أصعد قلبي إليك.
عطية روحك القدوس، روح الحق، واهب كل العطايا، تعزي أعماقي.
عطيتك أثلجت قلبي، فلن أطلب من الآب غيرها!
عطيتك نزعت عني يتمي،
فصرت ابنا لملك الملوك الذي لا يموت!
عطيتك هو المعلم القادر أن يدخل أعماقي،
ويقودني لا بفلسفات نظرية،
بل يحملني إلى الحق كله!
v أشرقت عليَّ أيها الابن الوحيد بنور الروحٍ،
فامتلأت حياتي ببهاء الثالوث القدوس.
مات العالم عني بكل ظلمته، لأحيا في نور الحق.
مجدًا لك أيها الآب محب البشر، ومدبر الخلاص!
شكرًا لك أيها الابن خالق الكل، ومخلص الجميع!
لك التسبيح أيها الروح القدس، واهب القداسة والصلاح!
نفسي تغوص في لجة حب الثالوث القدوس،
تشتهي أن تنعم بالرؤية الكاملة في يوم الرب العظيم!
تفسير يوحنا 13 | تفسير إنجيل القديس يوحنا القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير يوحنا 15 |
تفسير العهد الجديد |