تفسير إنجيل يوحنا ١٥ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الخامس عشر
حديث وداعي
الأصحاحان ١٥ و١٦ هما حديث وداعي تحدث به السيد مع تلاميذه في الليلة التي ألقي القبض عليه ليُسلم للموت. وها هو يهيئهم في هذا الحديث لمواجهة التجربة. ففي هذا الأصحاح حدثهم عن:
الحاجة إلى الثبوت فيه ١ – ٨.
“أنا الكرمة الحقيقية،
وأبي الكرام”. (1)
إذ تنازل من أجلنا استخدم أيضًا تشبيهات زمنية للتعرف على شخصه وعمله فينا، فيُدعى شمس البرّ المُشرق على الجالسين في الظلمة، وكوكب الصبح المنير، والكرمة.
ما كان يمكن لشخصٍ يهوديٍ أن يتوقع من المسيا أن يشبه نفسه بالكرمة، فقد ترقوا مجيئه ملكًا مخلصًا لهم، صاحب سلطان يرد لشعبه كرامتهم في العالم، ويهبهم سلطة ملوكية. أما التشبيه بالكرمة فيخص الشعب أو كنيسة الله.
لقد غرس الله جنة عدن ليتمتع آدم وبنوه بثمارها، ولا يحرم أحد إلا من ثمرة شجرة معرفة الخير والشر. وإذ طرد الإنسان نفسه من هذه الجنة ليعيش في أرض تنبت له شوكًا وحسكًا، قدم الله عبر الأجيال إمكانيات إلهية ليجعل من شعبه كرمة مثمرة تقدم عنبًا يُستخرج منه خمر روحي مفرح. وجاء العهد القديم مليء بالمراثي على هذه الكرمة التي لم تثمر إلا مرارة.
ففي مرثاة الكرمة التي أنشدها آساف جاء: “كرمة من مصر نقلت، طردت أممًا وغرستها؛ هيأت قدامها فأصلت أصولها، فملأت الأرض. غطى الجبال ظلها، وأغصانها أرز الله. مدت قضبانها إلى البحر، وإلى النهر فروعها. فلماذا هدمت جدرانها ليقطفها كل عابري الطريق، يفسدها الخنزير من الوعر، ويرعاها وحش البرية؟” (مز 8:80-13) هكذا يئن المرتل، لأن الكرمة التي غرستها يمين الرب حطمت الحصون التي أقامها الرب حولها ليصير ثمرها، لا للرب بل لعابري الطريق وخنزير الوعر ووحش البرية.
وقدم لنا الله نفسه مرثاة على كرمه في إشعياء حيث يقول: “والآن يا سكان أورشليم ورجال يهوذا أحكموا بيني وبين كرمي. ماذا يُصنع لكرمي وأنا لم أصنعه له؟ لماذا إذ انتظرت أن يصنع عنبًا، صنع عنبًا رديئًا¿ (إش 5: 3-4).
مرة أخرى في مرثاة على ذات الكرمة يقول الله: “وأنا قد غرستكِ كرمة سورق (من صنفٍ ممتازٍ)، زرع حق كلها، فكيف تحولت لي سروغ جفنة غربية؟” (إر 2: 21).
هذه هي مسرة الله أن يصير شعبه كله كرمة، تهب حياتها لمن حولها، تفرح قلب الله بثمر الروح، وتبهج السمائيين بعمل الله فيها. لكن ماذا حدث؟ يقول هوشع النبي:”إسرائيل جفنة ممتدة، يخرج ثمرا لنفسه، على حسب كثرة ثمره قد كثر المذابح، على حسب جودة أرضه أجاد الأنصاب. قد قسموا قلوبهم” (هو 10: 1-2). صار شعب الله ليس كرمة مقدسة لحساب ملكوت الله، بل جفنه تخرج مرارة، لحساب عبادة الأوثان ومملكة الظلمة. لم يعد بعد يوجد حل آخر سوى أن يصير المسيا نفسه كرمة حقيقية يتطعم فيها المؤمنون، فيأتون بثمرٍ روحيٍ سماويٍ فائقٍ.
السيد المسيح هو الكرمة المغروسة في التربة، إذ هو الكلمة الذي صار جسدًا، رآه إشعياء النبي بروح النبوة بلا شكل ولا جمال (إش ٥٣: ٢). ثمر الكرمة يفرح الله والناس (قض ٩: ١٣). ثمر الحكمة (السيد المسيح) خير من الذهب ومن الإبريز (أم ٨: ١٩). إنه كرمة يهوذا التي تغنيه بدم العنب (تك ٤٩: ١١)، وكرمة يوسف التي تجري فروعها على الحائط (تك ٤٩: ٢٢)، كرمة إسرائيل التي يجلس تحتها بسلام (١ مل ٤: ٢٥).
v لم يذكر الكرمة هنا لأجل معنى آخر إلا لكي يعلم التلاميذ أنهم بدون قوة السيد المسيح لا يمكنهم أن يعملوا شيئًا، وأنهم على هذا المثال يحتاجون أن يتحدوا به كاتحاد الغصن بالكرمة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v إننا أقرباء الرب حسب الجسد، لذا يقول: “أخبر باسمك اخوتي” (عب 12:2؛ مز 22:22). وكما أن الأغصان واحدة مع الكرمة (الأصل) وهي منها (يو 1:15) هكذا نحن أيضًا جسد واحد متجانس مع جسد الرب، ومن ملئه نحن جميعًا أخذنا (يو 16:1)، ولنا هذا الجسد كأصل لقيامتنا وخلاصنا.
القديس أثناسيوس الرسولي
يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح يدعو نفسه الكرمة ويدعونا نحن بالأغصان، والكرمة والأغصان من طبيعة واحدة. هكذا إذ صار إنسانًا حمل ناسوتنا، فصار كرمة ونحن الأغصان الثابتة فيه إذ حملنا فيه.
بقوله: “أنا هو” رأينا خلال هذا السفر أن السيد المسيح يتحدث على مستوى حضوره الذاتي، فقد حل بيننا كرمة حقيقية، الحق ذاته، نُغرس فيه ككنيسة العهد الجديد التي تتمتع بالحياة الأبدية، فتفيض بالخمر الروحي الذي يفرح السماء!
الآب ليس فقط صاحب الكرم، لكنه هو العامل فيه والمهتم به، إنه الكرّام، يهتم بكل فرعٍ من فروعها. هو الحافظ للثبوت الإلهي، حيث نثبت في الكرمة كأغصانٍ حية فيها، وثبوتنا في الكرمة، الابن الوحيد الجنس، نثبت في الآب، ونتحد به، لنستقر في أحضانه أبديًا، لن نُنزع منه.
الآب الذي جاء بشعبه من مصر قديمًا ليغرسهم كرمة في أرض الموعد، هو بعينه الذي أرسل ابنه من السماء ليغرسنا فيه أعضاء جسده، فروع كرمة سماوية حية. أقام كلمته المتجسد كرمة أو رأسًا، لنصير نحن فيه فروعًا أو أعضاء جسده. وكما يقول الرسول:” وإياه جعل رأسًا فوق كل شيء للكنيسة التي هي جسده، ملء الذي يملأ الكل في الكل” (أف 1: 22-23). “ما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين، حسب عمل شدة قوته، الذي عمله في المسيح” (أف 1: 19-20).
“كل غصن فيّ لا يأتي بثمر ينزعه،
وكل ما يأتي بثمر ينقيه، ليأتي بثمرٍ أكثر”. (2)
يُطلب من الكرمة عنبًا جيدًا (إش ٥: ٢)، ويطلب من المسيحي حياة مسيحية لائقة، بفكر مسيحي، وسلوك مسيحي، وقلب مسيحي محب لكل البشرية. ما نفع الكرمة بلا عنب؟ وما نفع المسيحي بلا حب؟!
مع النمو المستمر في الحياة المسيحية، ومع الثمر المتكاثر إلا أنه يوجد دائمًا ما لا يرغبه الله فينا فينقيه، فيقوم الله بالعمل ككرام يقلم أغصان الكرمة لكي تأتي بثمر أكثر. لقد قال السيد المسيح لتلاميذه عند غسل أقدامهم أنهم أطهار، لكنهم يحتاجون أن يمد يديه ليقوم بنفسه بغسل أقدامهم حتى تتنقى أو تطهر مما لحق بها أثناء سيرهم في العالم.
يرى البعض أنه يشير هنا إلى يهوذا الذي لم يحمل ثمرًا، فاستحق نزعه من الرسولية وحرمانه من الملكوت. إنه كشجرة التين التي جاء إليها السيد وهو في طريقه ولم يجد فيها ثمرًا، فلعنها وجفت للحال.
جاء الوعد لمن يأتي بثمر إنه ينقيه ليأتي بثمر أكثر أو يقلّمة، أي ينزع عنه كل ما هو زائد وما يعوق نموه وإثماره. هذا التقليم لا يحمل عنفًا أو قسوة من الكرام، بل هو اهتمام ورعاية لكي يتزايد الثمر. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم إن التقليم هنا يشير إلى الاضطهادات التي تواجه المؤمنين، فهي لا تحطمهم، بل تزيدهم قوة وإثمارًا.
المؤمنون هم الأغصان الكثيرة الظاهرة التي ترتمي في اتجاهات مختلفة لكنها تجتمع معًا في المسيح، الجذر الخفي واهب الحياة والثمار، وهو مركز وحدتهم. المؤمنون كأغصان الكرمة الضعيفة التي لا تقدر أن تقوم بذاتها بدون الجذر. يقول الرب في حزقيال: “يا ابن آدم ماذا يكون عود الكرم فوق كل عودٍ أو فوق القضيب الذي من شجر الوعر؟” (حز ١٥: ٢).
v لا تعجب إذن إن كان من تلك الكرمة التي تنمو وتملأ كل البقاع (مز 10:79) توجد أغصان تُقطع منها، هذه التي رفضت أن تنتج ثمر الحب.
v لماذا لم يقل: “أنتم أنقياء خلال المعمودية التي فيها تغتسلون” بل قال: “لسبب الكلام الذي كلمتكم به” (٣)، إلا لأنه في الماء أيضًا الكلمة هي التي تنقي؟ انزع الكلمة، فيصير الماء ليس بأكثر ولا أقل من ماء. إذ تُضاف الكلمة إلى العنصر فتكون النتيجة هي “السرّ” كما لو كانت هي نفسها نوعًا من الكلمة المنظورة.
v كلمة الإيمان هذه تحمل مثل هذه الفضيلة في كنيسة الله، حتى أنه بوسطة ذاك الذي هو حاضر في الإيمان ويبارك ويرشه يطهر حتى الرضيع الصغير وإن كان عاجزًا بقلبه أن يؤمن بالبرّ، وأن يعترف بفمه للخلاص. كل هذا يتم بواسطة الكلمة التي قال عنها الرب: “أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به” (3).
v إنهم ليسوا فيه بنفس الطريقة التي فيها هو فيهم. ومع ذلك فكلا الطريقتين هما لصالحهم وليس لمنفعته هو. فبالنسبة لعلاقة الأغصان بالكرمة، فالأغصان لا تساهم في شيء بالنسبة للكرمة، وإنما تستمد كل وسائل حياتها من الكرمة. أما عن علاقة الكرمة بالأغصان فهي التي تمد الأغصان بالقوت الحيوي لها، ولا تأخذ من الأغصان شيئًا… إن قُطع غصن ينبت غيره غصن آخر حي، لكن الغصن المقطوع لا يقدر أن يحيا منفصلاً عن الأصل.
القديس أغسطينوس
v في قول السيد المسيح لتلاميذه: “كل غصن فيّ لا يأتي بثمر ينزعه” يذكر عيشتهم بطريقة غامضة، موضحًا أنه بدون أعمال لا يحق لهم أن يوجدوا فيه. وقوله “كل غصن فيّ لا يأتي بثمر ينزعه”، معناه أن هذا الغصن يتمتع باهتمام كثير من السيد المسيح.
v لم يقل أن الأصل (الجذر) محتاج إلي رعاية الكرام بل الأغصان، أما ذكر الأصل هنا فليس لهدف سوى أن يتعلموا أنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا بدون قوته، وأنه يلزمهم أن يتحدوا معه بالإيمان كما تتحد الأغصان بالكرمة. “كل غصن فيّ لا يأتي بثمر ينزعه“.
هنا يشير إلي طريقة الحياة، مظهرًا أنه بدون أعمال لا يمكن أن نكون فيه “كل ما يأتي بثمر ينقيه“. مع أن الجذر يتطلب عناية أعظم من الفروع حيث يُحفر له وينقب حوله، لكنه لم يقل شيئًا من هذا، إنما كل ما قاله يخص الأغصان. يظهر أن الأصل فيه الكفاية في ذاته، وأما التلاميذ فيحتاجون إلي عونٍ عظيمٍ من الكرام، مع أنهم ممتازون. لهذا يقول: “كل ما يأتي بثمر يقلمه“… هذا يمكن الجزم به أنه قيل بخصوص الاضطهادات التي تحل بهم. فإن “ينقيه” هو أن يقلمه فيجعل الغصن يحمل ثمرًا أفضل. لهذا يُظهر أن الاضطهادات تجعل الناس أكثر قوة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v في غيرته أن يفعل وصية الآب قام وأسرع ليتمم سرّ آلامه الجسدية. لكن في لحظة تالية كشف سرّ تجسده. بأخذه جسدًا صرنا فيه كأغصان في الكرمة. فلو لم يصر كرمة ما كان يمكننا أن نحمل ثمارًا صالحة. إنه يحدثنا على الثبوت فيه بالإيمان بتجسده. فإذ صار الكلمة جسدًا فإننا نحمل طبيعة جسده، كما الأغصان في الكرمة. لقد اعتزل شكل عظمة الآب بتواضعه، إذ أخذ جسدًا ودعا نفسه الكرمة، مصدر وحدة كل الأغصان، ودعا الآب الكرام الذي يقلم الأغصان العقيمة التي بلا نفع لكي تُحرق بالنار.
القديس هيلاري أسقف بواتييه
“أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به”. (3)
ربما يشير هنا إلى حديثه أثناء تأسيس الإفخارستيا عن يهوذا مسلمه (يو ١٣: ٢١-٣٠) والتي على أعقابها خرج يهوذا وتمم صفقته مع رئيس الكهنة، فنزع نفسه كما عن جسم المسيح، وتم تقليم الأغصان (تلاميذ الرب) لهذا لاق القول عنهم: “أنتم الآن أنقياء” (٣). جاءت كلمة المسيح تفصل بين الحق والباطل، وما هو ثمين وما هو مزيف. صار كل منهم نقيًا بكلمة الحق التي للمسيح (يو ١٧: ١٧)، بالإيمان به الذي يطهر قلوبهم وينقيها من كل شائبة (أع ١٥: ٩)، تنقوا من خميرة الفريسيين التي هي الرياء.
لعله أيضًا يشير هنا إلى ما ورد في سفر اللاويين (١٩: ٢٣-٢٤) عن الكروم التي في كنعان، فإنها تبقى إلى ثلاث سنوات غير نقية، وفي السنة الرابعة تصير نقية لمجد الله. هكذا بقي التلاميذ مع السيد المسيح ثلاث سنوات، والآن إذ يعبر بهم إلى صليبه وقيامته كبكرٍ مُقدم عنهم وباسمهم للآب يصيرون أنقياء في عيني الله. لقد عبر بالكرمة ثلاث سنوات، والآن سنة النعمة التي بها تصير ثمارها مقدسة للرب. السنة الأولى هي البشرية في جنة عدن، والثانية تحت الناموس الطبيعي إلى مجيء موسى النبي، والثالثة تحت الناموس الموسوي، والرابعة سنة النعمة الإلهية حيث جاء مخلص العالم. به صارت الثمار قُدس للرب.
v أرأيت كيف أن السيد المسيح يوضح أنه مهتم بأغصانه، إذ أظهر أنه عمل هذا العمل ليس احتياجًا إلى خدمتهم، لكن لكي ينجحوا.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“اثبتوا فيّ، وأنا فيكم،
كما أن الغصن لا يقدر أن يأتي بثمر من ذاته إن لم يثبت في الكرمة،
كذلك أنتم أيضًا إن لم تثبتوا فيّ”. (4)
كثيرًا ما نتحدث عن الحياة الإيمانية إنها التصاق بربنا يسوع، لكن هذا في عيني السيد ليس كافيًا. إنه يطالبنا ويعدنا بما أعظم، أن نحيا فيه، ويسكن هو فينا. إيماننا الحي هو خبرة “في المسيح”، التعبير الذي يكرره الرسل في رسائلهم باستمرار.
كلمة “الثبوت” محببة جدًا لدى القديس يوحنا، وردت في العهد الجديد 112 مرة، منها 66 مرة في إنجيل معلمنا يوحنا ورسائله: 40 مرة في إنجيله و33 مرة في رسالته الأولى و3 مرات في رسالتيه الثانية والثالثة. فقد جاء السيد المسيح لكي يتمتع المؤمنون بالثبوت فيه، فتبقى علاقتهم به ليست وقتيه بل أبدية. في العهد القديم نقرأ عن عمل الروح في حياة الأنبياء والملوك وغيرهم في فترات وقتية. أما في العهد الجديد فلم يأتِ السيد، ولا أرسل روحه القدوس ليقدم إشراقات وقتية، كما ادعي بعض الفلاسفة، وإنما للثبوت الدائم فيه. فإن كان يقيم من مؤمنيه أغصانًا إنما ليؤكد موضعها فيه، فيثبتون فيه (1 يو 2: 6) وفي الحق (2 يو 2)، وفي الحياة (1 يو 3:15). هذه وصية إلهية، بل وعد إلهي يلزمنا أن نتمسك به.
كما أن الغصن يشارك طبيعة الشجرة وينتعش بعصارتها ويحيا بحياتها هكذا يليق بنا أن نكون شركاء في الطبيعة الإلهية ونسلك بحكمته، ونحمل قوته وإمكانياته، ونتطهر ببرّه وقداسته.
v ولكي لا ينفصلوا عنه بسبب جبنهم، شدد أنفسهم عند استرخائها بالخوف، وألصقهم فيه، وبسط لهم فيما بعد آمالاً صالحة، في المستقبل. فإن الأصل باقٍ، أما النزع أو البقاء فخاص بالأغصان. فإنه إذ يحثهم بالطريقين، بالأمور المبهجة أو المؤلمة، فإنه يطلب أولاً ما يلزم عمله من جانبنا.
القديس يوحنا الذهبي الفم
“أنا الكرمة، وأنتم الأغصان،
الذي يثبت فيّ، وأنا فيه، هذا يأتي بثمرٍ كثيرٍ،
لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا”. (5)
يقدم السيد المسيح نفسه سرّ حياة وثمار المؤمن فهو المخلص والصديق والطريق والباب والحياة والقيامة والمعزي والراعي الصالح.
يطالبنا أن نثبت فيه بالإيمان، فيثبت فينا بروحه القدوس وبتقديم جسده ودمه المبذولين طعامًا وشرابًا لنا. عليه نعتمد، وبه نثق، وبالشركة معه نحيا. هكذا نلتصق به، وهو بنا بسكناه فينا بروحه القدوس. نحن نعتمد عليه، لا كما يرتمي الفرع على حائط يسنده، وإنما كغصنٍ لا قيمة له بدون الجذر. هكذا يكشف مسيحنا عن قصده الإلهي من تجسده، بل ومن جهة الإنسان، وهو أن يتمتع المؤمن بالحياة الحقيقية من المنبع الإلهي بغير توقف.
الثبوت فيه أمر اختياري، لكنه لازم للمؤمن، بدونه لن يتمتع بثمرٍ روحيٍ، هو شرط قاطع؛ إما ثبوت فإثمار، وإلا فلا إثمار قط! ليس من حل وسط بين الأمرين.
v ينسب القديسون كل شيء إلى الرب. فلنتعلم أننا لا نستطيع أن نصنع شيئًا بدون الرب؛ يقول الرب: “إن لم تثبتوا فيّ لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا” (راجع يو 5:15).
ربما يعترض أحد على ذلك، قائلاً: إذ أنسب كل شيء للرب، فماذا يخصني أنا؟ لنفحص في كل موضع ما يخصنا حتى لا يمتزج مع ما يأتي من قبل الرب.
يقول: “ضع لي يا رب ناموسًا في طريق حقوقك” (مز 119: 33). ما يخصنا نحن “أطلبه في كل حين” (مز 119: 33).
مرة أخرى أطلب من الله: “أعطني حكـمة، فأفحص ناموسك” (مز 119: 34).
مرة ثالثة أطلب: “اهدني في سبيل وصاياك” (مز 119: 35)، ماذا يخصني؟ يشير إلى ما يخصني بالكلمات: “فإني إياها هويت” (مز 119: 35)…
لنطلب ما يأتينا من الله لكي نحصل عليه، ولنعده أيضًا بما يعتمد علينا نحن، ولا نتخلى عن وعدنا، حتى لا ننقض الميثاق الذي يربطنا بالرب.
هذا ما يقوله المرتل “أمل قلبي إلى شهـاداتك، لا إلى الطمع” (مز 119: 36)، عالمًا بأن الطمع هو رذيلة ذات نفوذ قوي تؤله مكاسب الأشرار، وقد دعاها الرسول: “عبادة الأوثان” (كو 3:5). هذا ونتعلم من هذه العبارة أن الطمع لا يتفق مع شهادات الرب.
العلامة أوريجينوس
“إن كان أحد لا يثبت فيّ، يُطرح خارجًا كالغصن،
فيجف ويجمعونه، ويطرحونه في النار، فيحترق”. (6)
هنا يحذرنا من الرياء، إذ يوجد من لهم اسم المسيح دون الشركة معه والثبوت فيه، مثل هؤلاء يشبهون أغصانًا تثقل على الشجرة بلا نفع، ولا حاجة إليها. فإنهم إذ رذلوه عمليًا، يصيرون مرذولين، وإذ رفضوا الشركة معه، لا يتمتعون بالحياة الخفية فيه، ولا يستحقون إلاَّ الطرح في النار لأنهم جافون. النار هي أنسب مكان للخلاص من الأغصان الجافة.
لا تُقدر قيمة أي فرع بالخشب الذي فيه، لأنه إذا عُزل عن الأصل لا يُستخدم في شئ إلا للنار؛ أما ثبوته في الأصل، واتصاله الخفي فيه فيقيم منه فرعًا حيًا يزهر ويثمر، لأنه يحمل حياة. بهذا يصير موضع كرامة الكرام وشغله الشاغل ليأتي بمزيد من الثمار.
بحديثه هنا لا يرعبنا مسيحنا، الكرمة الحقيقية، إنما يوجه أنظارنا إلى عهده الأمين، فهو المتكفل بذلك حسب غني نعمته وسخائه الإلهي الفائق. هذا الذي “به كان كل شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان ” (يو 1: 3).
“يطرح خارجًا” إذ يعزل الشخص نفسه عن الكرمة يخرج من دائرتها، فلا يحمل فيه حياة المسيح، ولا يشرق فيه نوره، ولا يتمتع بغنى نعمته وقوته، ولا يعمل روحه القدوس فيه. هذا هو حال المسيحي الذي بعد أن صار غصنًا في الكرمة يعتد بإمكانياته ومواهبه وقدراته وفكره الخاص، فيطرح نفسه خارجًا، ويصير فرعًا جافًا مبتورًا لا يصلح إلا للحريق.
يصف الرب نفسه في حزقيال حال الغصن الجاف بقوله: “كل إنسان من بيت إسرائيل أو من الغرباء المتغربين في إسرائيل إذا ارتد عني (عزل نفسه عن الكرمة)، وأصعد أصنامه (أي اعتد بذاته) إلي قلبه، ووضع معثرة إثمه تلقاء وجهه، ثم جاء إلي النبي ليسأله عني، فإني أنا الرب أجيبه بنفسي. وأجعل وجهي ضد ذلك الإنسان، وأجعله آية ومثلاً، وأستأصله من وسط شعبي” ) حز 14: 6-8).
v يقول السيد المسيح لتلاميذه: “بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا“. إنه لخسارة عظيمة ألا يقدر الغصن أن يعمل شيئًا، ولكن السيد المسيح لم يوقف العقوبة عند هذا الحد، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، لأنه قال: “يطرح خارجًا كالغصن فيجف“. وبقوله: “ويطرحونه في النار فيحترق” يوضح أن الذين يقاومونه يحترقون.
v يقول: “يطرح خارجًا“، فلا يعود يتمتع بيد المزارع. “إنه يجف”، بمعنى إن كان ليس له جذور فإنه يتعرض للخطر، إن كانت لديه أية نعمة يتعرى منها، وبهذا يُحرم من كل عون وحياة.
وما هي النهاية؟ يُطرح في النار. لكن لا يكون هذا حال من يثبت فيه. عندئذ يشير إلى ما هو الذي يثبت قائلاً: “إن ثبت كلامي فيكم”. فإنه إذ يقول: “إن سألتم شيئًا باسمي أفعله لكم” يضيف: “إن كنتم تحبونني احفظوا وصاياي (يو 14: 15). هنا: “إن كنتم تثبتون في، ويثبت كلامي فيكم، تسألون لأنفسكم ما فيكون لكم“. قال هذا ليظهر من جانب أن الذين يتآمرون ضده يحترقون، ومن جانب آخر فإنه يظهر للآخرين أنهم لا يُقهرون، إذ يقول: “في هذا يتمجد أبي أنكم تأتون بثمرٍ كثيرٍ، وتصيرون تلاميذي”.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v إنك لا تتقبل درعًا فاسدًا بل درعًا روحيًا!
منذ الآن تُزرع في فردوس غير منظور!
إنك تتسلم اسمًا جديدًا لم يكن لك من قبل، إذ كنت تدعى موعوظًا، أما الآن فمؤمنا!
من الآن فصاعدًا تُطعم في زيتونة روحية (رو 24:11)، إذ قُطعت من الزيتونة البرية، وطُعمت في الزيتونة الجيدة. نُزعت من الخطايا إلى البرّ، ومن الدنس إلى النقاوة.
ها أنت تصير شريكًا في الكرمة المقدسة (يو 1:15، 4، 5)! حسنًا فإن ثبت في الكرمة تنمو كغصنٍ مثمرٍ، وإن لم تثبت فيها تهلك بالنار.
إذن ليتك تحمل ثمرًا باستحقاق! فلا يسمح اللٌه أن يحل بك ما حل بشجرة التين العقيمة (مت 19:21)، إذ لم يأت بعد المسيح (للدينونة) ولا لعننا بسب عُقمنا ليته تكون لنا القدرة أن نقول: “أما أنا فمثل زيتونة مثمرة في بيت اللٌه، توكلت على رحمة اللٌه إلى الدهر والأبد” (راجع مز 8:52). وهنا لا نفهم الزيتونة بمعناها المادي، بل نفهمها ذهنيًا بكمال النور.
إن كان اللٌه يزرع ويسقى، فإنه يليق بك أن تأتى بثمارٍ. اللٌه يهب نعمته، وأنت من جانبك تتقبلها وتحافظ عليها. لا تحتقر النعمة من أجل مجانيتها، بل اقبلها واكتنزها بورعٍ.
القديس كيرلس الأورشليمي
v يصلح الغصن فقط لأحد أمرين: إما في الكرمة أو في النار. إن لم يكن في الكرمة فمكانه يكون النار. ولكي يهرب من النار يلزمه أن يكون في الكرمة.
القديس أغسطينوس
“إن ثبتم فيّ، وثبتت كلمتي فيكم،
تطلبون ما تريدون فيكون لكم”. (7)
يربط السيد المسيح بين الثبوت فيه والثبوت في كلمته، فإنه خلال إنجيله نتمتع بالوحدة الصادقة. هذا الإنجيل المترجم عمليًا بحفظ الوصية الإلهية وممارستها والفرح بها (١٠-١١).
الثبوت في كلمة المسيح هو لقاء دائم مع الكلمة، وتعرف على شخص السيد المسيح خلال كلمته، فنثبت فيه بكل قلبنا وفكرنا ومشاعرنا وأحاسيسنا وإرادتنا. ليس ما يقدر أن يفصلنا عنه قط!
إنه يقدم لنا وعدًا ثابتًا أن كل ما نريده حسب مسرته يكون لنا خلال ثبوتنا فيه. وما هي طلبتنا سوى أن نصير أيقونته، ونحمل مشيئته فينا، ونلتقي به، ونتمتع بالشركة في مجده.
ثبوتنا في المسيح وفي كلمته، وبالتالي ثبوته فينا، يجعلنا بالحق رجال صلاة نعرف ماذا نطلب، وننعم في يقين ما نطلبه، لأنه حسب مسرة الله أبينا. وكأن سرّ قوة الصلاة هو ثبوتنا فيه وسكناه فينا.
v ألا ترون أن الابن لم يساهم بأقل من الآب في اهتمامه بالتلاميذ؟ الآب هو الذي يقّلم من جانب، ويحفظهم فيه من الجانب الآخر. الثبوت في الأصل (الجذر) هو الذي يعطي الأغصان ثمارًا.
إن ما لا يّقلم وإن ثبت في الأصل يحمل ثمرًا لكن ليس بالقدر اللائق، أما الذي لا يثبت في الأصل فلا يأتي بثمرٍ نهائيًا، لكن لا يزال التقليم يظهر أنه خاص بالابن والثبوت في الأصل خاص بالآب الذي ولد الأصل. ألا ترون أن كل الأشياء عامة سواء التقليم والإمكانية بالتمتع بما هو من الأصل؟
القديس يوحنا الذهبي الفم
v حقًا تكون لنا طلبات لأمورٍ معينة عندما نكون في المسيح، وتكون لنا طلبات أخرى لأننا لا نزال في هذا العالم… لذلك إذ نثبت فيه، عندما تثبت كلمته فينا، نطلب ما نريد فيكون لنا. لكن إن كنا نسأل ولم يتحقق سؤالنا، فإن ما نسأله لا يتعلق بثبوتنا فيه، بل برغبات الجسد الملحة وضعفاته، التي ليست في المسيح، والتي لا تثبت كلمات المسيح فيها. فبخصوص كلماته، في كل الأحوال، هي تنتمي إلى تلك الصلاة التي علمنا إياها حيث نقول: “أبانا الذي في السماوات” (مت ٦: ٩). ليتنا لا نسقط من كلمات هذه الصلاة ومعانيها في طلباتنا، فكل ما نسأله يكون لنا… أما إن كانت كلماته تسكن فقط في الذاكرة، وليس لها موضع في الحياة، فلا يُحسب الغصن ثابتًا في الكرمة، إذ لا يستمد حياته من الأصل.
القديس أغسطينوس
“بهذا يتمجد أبي، أن تأتوا بثمرٍ كثيرٍ، فتكونون تلاميذي”. (8)
هنا يكشف السيد المسيح عن ثمر الثبوت فيه العجيب ألا وهو:
* تمجيد الآب، حيث يُعلن حب الآب الفائق في حياتنا، ويتجلى بهاؤه على أعماقنا، ونمارس بالحق بنوتنا له، “حتى متى أظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو”.
* الثمر المتزايد، حيث تتحقق كل طلباتنا في الصلاة.
* نتمتع بالتلمذةٍ له، فنصير رجال الله، نشهد له لنرد كل نفس إليه، لكي يصير الكل “أهل بيت الله” (أف 2: 19).
v أترون كيف أن الذي يحمل ثمرًا هو تلميذ؟ ولكن ماذا: “بهذا يتمجد أبي؟ يعني: “أنه يُسر عندما تثبتون فيه، حينما تأتون بثمرٍ”.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v يرى البعض أن الكلمة اليونانية doxazein تعني حرفيًا: “أكثر بهاءً أو وضوحًا” في نظر الناس، كما تعني “يتمجد”.
v منه (من المسيح) مثل هذه النعمة، ولهذا فإن المجد ليس مجدنا بل مجده هو… هنا يتمجد الآب أننا نحمل ثمرًا كثيرًا، وأننا صرنا تلاميذ المسيح. بمن نحن صرنا هكذا إلاَّ بذاك الذي رحمته تسبق فتعمل فينا؟ نحن عمله، مخلوقون في المسيح يسوع لأعمال صالحة (أف ٢ : ١٠).
القديس أغسطينوس
محبتهم لبعضهم البعض ٩ – ١٧.
“كما أحبني الآب كذلك أحببتكم أنا.
اثبتوا في محبتي”. (9)
يحدثنا السيد المسيح الذي هو الحب عينه، عن الحب من أربعة جوانب:
محبة الآب له (٩).
محبته هو للآب (١٠).
محبة المسيح لنا (٩).
محبتنا له وثبوتنا فيها (٩).
بهذا يكشف السيد المسيح أن أساس كل عمل إلهي هو “الحب” الذي بين الآب والابن، هذا يوضح أن محبة الله لنا لا تقوم على عاطفة مؤقتة، لكنها ثمرة حب إلهي سرمدي بين الآب والابن، وأخيرًا فإن المؤمنين يلتزمون من جانبهم أن يحملوا ثبوتًا دائمًا في الحب. فكما أنه لا يجد ما يوقف قط حب الله لنا يلزمنا أن نحمل ذات السمة في حبنا له. هذا ما يطلبه السيد المسيح لأجلنا: “ليكون فيهم الحب الذي أحببتنني به، وأكون أنا فيهم” (يو 17: 26).
يعلن حبه لهم ليؤكد لهم أنه وإن كان سيتركهم جسديًا سواء بموته أو فيما بعد بصعوده، لكنه يحبهم بلا حدود. يحبهم كما يحبه الآب، مع أنهم ليسوا أهلاً للحب كما يليق.
السيد المسيح هو الابن الوحيد المحبوب لدى الآب، في محبته له أعطاه كل شيء، لأنه واحد معه في ذات الجوهر، كما سلمه خلاص البشرية. فجاء عمل المسيح الخلاصي موضوع حب الآب وسروره. خلال الحب المتبادل بين الآب والابن يوصينا السيد المسيح أن نحبه ونثبت في محبته.
الثبوت في محبته يحمل معنى اختفائنا فيه، لنتمتع بحبه بلا انقطاع، ونشاركه سمة الحب، ونتعرف عمليًا على أعماق أسراره بممارستنا الحياة فيه.
v إذن هنا ترون ما هو مصدر الأعمال الصالحة. من أين تكون لنا (هذه الأعمال) أليست من الإيمان العامل بالمحبة (غلا ٥: ٦)؟ وكيف يمكننا أن نحب؟ أليس لأنه أحبنا أولاً؟
أعلن الإنجيلي نفسه بوضوحٍ شديدٍ في رسالته: “نحن نحب الله لأنه أحبنا أولاً” (١ يو ٤: ١٩). لكنه حين يقول: “كما أحبني الآب كذلك أحببتكم أنا” (٩) لا يشير إلى مساواة بين طبيعته وطبيعتنا كما هي بينه وبين الآب، بل يشير إلى النعمة التي للوسيط بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح (١ تي ٢: ٥)… فإن الآب بالحقيقة أيضًا يحبنا ولكن فيه. هنا يتمجد الآب أننا نحمل ثمرًا في الكرمة، أي في الابن، وبهذا نصير تلاميذه.
القديس أغسطينوس
“إن حفظتم وصاياي، تثبتون في محبتي،
كما أني أنا قد حفظت وصايا أبي،
وأثبت في محبته”. (10)
إذ حمل السيد المسيح رسالة الخلاص ثبت كابن الإنسان في محبة الآب خلال مثابرته في العمل. “لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض، وتنتظر الجزائر شريعته” (إش ٤٢: ٤). لقد حفظ وصية الآب، لا بتسجيلها فقط بالروح القدس خلال النبوات في العهد القديم، وإنما أيضًا بتسجيلها عمليًا حين أخلى ذاته، وأخذ صورة العبد، وصار في شبه الناس، ووضع نفسه حتى الموت موت الصليب (في 2: 5-8). حفظ الوصية بالطاعة الكاملة، وقبول الآلام بمسرة (عب 5: 8؛ 12: 2). حقق الوصية بالكامل حتى أعلن على الصليب: “قد أكمل” (يو 19: 30). ونحن خلال ثبوتنا فيه، وشركتنا في سماته نحفظ الوصية، لا عن ظهر قلب، ولا بالتأمل فيها ودراستها فحسب، وإنما بممارستها في سهرٍ دائمٍ وتدقيقٍ وشوقٍ حقيقيٍ داخليٍ لتتمتع بها. فالوصية ليست ثقيلة، وإنما تحمل في داخلها قوة التنفيذ بتهليل وبهجة، لأنها تخفي في داخلها “الكلمة” نفسه كقول القديس مرقس الناسك. الوصية الإلهية هي مفتاح السماء، بها نتمتع بمسيحنا الكنز السماوي.
علامة الثبوت في محبته حفظ وصاياه، كما يحفظ هو وصايا الآب ويتمم مشيئته. فإننا لن نتمتع بالحب بدون الطاعة والتسليم.
v انظر كيف يشدد السيد المسيح تلاميذه أيضًا عندما يقول: “اثبتوا في محبتي“. فإن قلت كيف يكون هذا؟ أجابك: “إن حفظتم وصاياي، تثبتون في محبتي، كما أني أنا قد حفظت وصايا أبي، وأثبت في محبته”. تأمل كيف يخاطبهم السيد المسيح بسلطان، لأنه لم يقل: “اثبتوا في الحب الذي لأبي”، بل قال: “اثبتوا في محبتي”.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v “اثبتوا في محبتي” (٩). كيف نثبت؟ لتصغوا إلى ما يلي ذلك: “إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي” (10).
يجلب الحب حفظ وصاياه، لكن هل حفظ وصاياه يجلب حبًا؟
من يقدر أن يشك في أن الحب هو الذي يسبق؟ فإن من ينقصه الحب ليس له الأساس السليم لحفظ الوصايا. بهذا فإن قوله: “إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي” لا يظهر مصدر الحب بل الوسيلة التي بها يُعلن الحب. وكأنه يقول: لا تظنوا أنكم تثبتون في محبتي إن كنتم لا تحفظون وصاياي. فإنه فقط إن حفظتم إياها تثبتون…
إذن لا يخدع أحد نفسه بالقول أنه يحبه إن كان لا يحفظ وصاياه. فإننا نحبه قدر قياس حفظنا لوصاياه، وكلما قل حفظنا لها يقل حبنا له.
القديس أغسطينوس
يؤكد القديس أغسطينوس أن محبة المسيح لنا قائمة وتطلب خلاصنا، وهي المبادرة والتي تحثنا على حفظ وصاياه؛ أما عدم حفظنا للوصية فيعلن عن نقص حبنا نحن له، وعدم ثبوتنا في محبته المبادرة.
“كلمتكم بهذا لكي يثبت فرحي فيكم،
ويكمل فرحكم”. (11)
في حديثه الوداعي هنا يكرر تعبير “كلمتكم بهذا” سبع مرات، وهو ذات التعبير الذي يعلنه حزقيال النبي تكرارا: “أنا الرب تكلمت” (حز 5: 13). وكأن الذي يحدثهم هنا هو ذاك الذي تحدث إليهم خلال الأنبياء منذ قرون.
نتمتع بالوعد الإلهي كأغصان في الكرمة، نثبت في المسيح الكرمة الحقيقية، ونثبت في كلمته، وفي محبته، وأيضًا في فرحه. لقد كمل فرح القديس يوحنا المعمدان حين رأى العريس قادمًا وسمع صوته، حيث يلتقي بعروسه خلال الصليب (يو3: 29). فرح المسيح أن يبذل حياته من أجل عروسه، ويقتنيها عذراء عفيفة مشتراة بالدم الثمين. وها هو يدعونا للتمتع بفرحه، حيث نرى في خلاصنا وخلاص اخوتنا كمال الفرح السماوي.
في العهد القديم ارتبط الخلاص بالفرح، فكان داود المرتل يردد: “رد لي بهجة خلاصي” (مز 51). ويتطلع إشعياء النبي إلي مفدي الرب الراجعين إليه، إذ “يأتون إلي صهيون، بترنمٍ وفرحٍ أبدي على رؤوسهم. ابتهاج وفرح يدركانها، ويهرب الحزن والتنهد” (إش 35: 10). يرى الطبيعة ذاتها: الجبال والآكام وكل شجر الحقل تشيد ترنمًا وتصفق بالأيادي (إش 55: 12). وفي العهد الجديد كلما اجتمعت الكنيسة في سرّ الإفخارستيا يتناولون الطعام بابتهاج (أع 2: 46).
إذ كان في طريقه للصليب بسرور يوصي تلاميذه أن يثبتوا في فرحه وهم يشاركونه الصليب، بهذا يكمل فرحهم.
v نطق السيد المسيح بهذه الأقوال لتلاميذه موضحًا لهم أن المصائب الحاضرة ليست مؤهلة للحزن بل للتلذذ بها.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v ما هو فرح المسيح فينا سوى أنه يُسر بأن يفرح بنا؟ وما هذا الفرح الذي لنا الذي يقول أنه يصير كاملاً إلاَّ بأن تكون لنا شركة معه؟ لهذا قال للطوباوي بطرس: “إن لم أغسلك ليس لك نصيب معي” (يو ١٣: ٨). إذن فرحه فينا هو النعمة التي يمنحنا إياها، وهي أيضًا فرحنا.
علاوة على هذا، فقد فرح منذ الأزل عندما اختارنا قبل تأسيس العالم (أف ١: ٤). ولا نستطيع القول بأن فرحه لم يكن كاملاً، لأن فرح الله لم يكن في أي وقت غير كاملٍ.
لكن هذا الفرح لم يكن فينا، لأنه يُمكن أن يكون هذا بالنسبة لنا نحن الذين لم نكن موجودين. بل وحتى عندما بدأ وجودنا لم يبدأ فينا. لكن (هذا الفرح) كان فيه دائمًا، هذا الذي في الحق غير القابل للسقوط الذي لسابق معرفته فرح بأننا سنكون له، بهذا كان له فرح فينا، هذا الذي كان كاملاً، إذ فرح بسابق معرفته وسابق تعيينه لنا.
v فرحه بخلاصنا الذي كان دائمًا فيه بسابق معرفته وسابق تعيينه لنا بدأ يكون فينا عندما دعانا، وصار لائقًا أن يُدعى هذا الفرح فرحنا، إذ به نحن أيضًا نُطوَّب. لكن هذا الفرح الذي يزداد وينمو ويتقدم بمثابرة لكماله. وبهذا فإنه يكون له بدايته في الإيمان بالتجديد (الميلاد الجديد) وكماله بالمكافأة عندما نتقدم…
v فرحي دائمًا كامل حتى قبل دعوتكم حين كنتم في سابق معرفتي بأنني سأدعوكم، لكنه وجد له موضعًا فيكم أيضًا، حين تشكلتم حسب ما سبق فعرفته عنكم. “يكمل فرحكم“، إذ ستطوبون، الأمر الذي لستم عليه بعد، كما أنكم الآن أنتم مخلوقون، أنتم الذين لم يكن لكم وجود سابق.
القديس أغسطينوس
“هذه هي وصيتي:
أن تحبوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم”. (12)
وصية السيد المسيح الأخيرة والأساسية في حديثه الوداعي هي “المحبة”، وقد ربط خلال هذا الحديث بين الوصية والحب. إن أدركنا مفهوم المحبة في حياتنا المسيحية، فإننا لا نحتاج إلى وصية أخرى. لهذا يقول القديس أغسطينوس: “حب الله وأفعل ما شئت”. حقا لقد أساء البعض فهم هذه العبارة، واستخدموها كتصريح للحياة المتسيبة، لكن من يدرك “الحب” لا يقدر إلا أن يسلك في المسيح يسوع حسب فكره الإلهي. لنحب ذات حب المسيح للخطاة، لكي يصيروا أيقونته الحية، الخليقة الجديدة في المسيح يسوع.
وكما يقول الرسول بولس: “من أحب غيره فقد أكمل الناموس” (رو 13: 8)، “المحبة هي رباط الكمال” (كو 3: 14). بل والسيد المسيح نفسه إذ تحدث عن وصيتي المحبة لله والمحبة للقريب يقول: “بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء” (مت 22 :40).
أدرك القديس يوحنا الحبيب أن الحب هو عصب الوصية. وكما يقول القديس چيروم أنه في شيخوخته المتأخرة كان يُحمل القديس يوحنا إلى اجتماعات المؤمنين العامة، وكان حديثه دومًا: “يا أولادي حبوا بعضكم بعضًا”. ولما سُئل عن استمراره على ذلك، أجاب: “لأن هذه هي وصية الرب، وفي حفظها وحدها كفاية”.
v يتحقق الثبوت بالحب، والحب بحفظ الوصايا، ووصية السيد المسيح هي أن نحب بعضنا بعضًا، فالثبوت في إلهنا إنما يتكون من الحب الذي نحب به بعضنا بعضًا.
إنه لم يذكر حبًا على بسيط حاله، لكنه أوضح طبيعته فقال: “كما أحببتكم“…
مادام الحب أمرًا قديرًا لا يُقاوم، وليس كلمة مجردة، فلنعلنه بأعمالنا.
لقد صالحنا ونحن أعداء؛ فإذ صرنا أحباءه لنثبت هكذا في محبته.
لقد قاد الطريق، فعلى الأقل نتبعه.
أحبنا لا لمصلحة خاصة به (إذ هو لا يحتاج إلي شيء)، فعلي الأقل نحبه من أجل نفعنا.
أحبنا ونحن أعداؤه، فلنحبه على الأقل بكونه صديقنا.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v لماذا يتحدث عن الحب كما لو كانت وصية خاصة؟ ذلك لأن كل وصية هي تخص الحب، والوصايا كلها تضاف إلى وصية واحدة، لأنه أيا كانت الوصية فهي تتأسس على الحب وحده. كما أن أغصانًا كثيرة للشجرة تصدر عن جذرٍ واحدٍ، هكذا فضائل كثيرة تصدر عن الحب وحده. الغصن الذي هو أعمالنا الصالحة لا يكون له تُسغ (السائل داخل أوعية النبات) ما لم يبقَ ملتحمًا بجذر الحب.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v “هذه هي وصيتي” (١٢)، كما لو لم توجد وصية أخرى غيرها، فماذا تظنون يا اخوتي؟…
لنتأمل كلمات الرسول: “المحبة هي كمال الناموس” (رو ١٣: ١٠). هكذا حيث يوجد الحب فماذا ينقص؟ وحيث لا يوجد الحب أي شيء يمكن أن يكون نافعًا؟
الشيطان يؤمن (يع ٢: ١٩)، لكنه لا يحب. ليس أحد يحب إن لم يكن مؤمنًا…
من لهم الحب المتبادل يكون لهم الله نفسه هدفًا للحب، هؤلاء بالحق يحبون بعضهم بعضًا، وأيضا غاية محبتهم لبعضهم البعض هي حبهم لله. لا يوجد مثل هذا الحب في كل البشر، إذ قليلون من لهم هذا الدافع لحبهم الواحد للآخر، وهو أن يصير الله هو الكل في الكل (١ كو ١٥: ٢٨).
القديس أغسطينوس
“ليس لأحد حب أعظم من هذا،
أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه”. (13)
جاءت هذه الكلمات لا كعظة للدراسة، لكنها وقد قدمت في ليلة صلبه، يعلن ما يكرز به عمليًا، موجهًا أنظارهم نحو الصليب كتجلٍ عملي للحب الإلهي نحو كل بشر، نحو أحبائه، ليس الأبرار، بل الخطاة. وكما يقول الرسول، “ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه” (رو 5: 10). لقد مات مسيحنا حتى من أجل مضطهديه وهو علي الصليب، أو خلال جسده “الكنيسة”.
لا يستطيع أحد أن يحب صديقه أكثر من هذا، إذ يضع نفسه لأجله، يضع كل ما لديه. دفعت الصداقة العظيمة التي ربطت بين داود وناثان الأخير أن يُسلم تاج الملك له، لكنه لم يكن قادرًا أن يضع حياته من أجله. أما السيد المسيح فوضع حياته ليس من أجل أحبائه بل ومن أجل أعدائه، طالبًا المغفرة لصالبيه. أعظم برهان على محبته لهم هو بذل ذاته من أجلهم، الأمر الذي لا يفعله إنسان ما على ذات المستوى، لأنه وهو الخالق بذل ذاته عن خليقته المحبوبة لديه جدًا. بذل ذاته عن البشرية وهي معادية له (رو ٥: ٨، ١٠).
v “المحبة من قلب طاهر وضمير صالح وإيمان صادق” هي حقًا فضيلة حقيقية، إذ هي “غاية الوصية” (1 تي 5:1). بحق قيل أنها “قوية كالموت” (نش 6:8)، إما لأنه لا يغلبها أحد كما لا يغلب أحد الموت؛ أو لأنه في هذه الحياة قياس المحبة هو أنه حتى الموت. كما يقول الرب: “أي حب أعظم من أن يبذل إنسان حياته عن أصدقائه ؟” (راجع يو 13:15). أو بالأحرى لأن الموت ينزع النفس عن حواس الجسد، هكذا المحبة تنزعها عن شهوات الجسد. المعرفة هي أمة المحبة، عندما تكون نافعة، لأنه بدون المحبة “العلم ينفخ” (1 كو 1:8)، وليس في قياس المحبة تملأ المحبة القلب بالتهذيب، ولا تجد المعرفة شيئًا فارغًا لتنتفخ.
القديس أغسطينوس
v ليس من أحد يضطهدنا حتى الموت، فكيف إذن نبرهن على حبنا لأحبائنا؟
يوجد أمر ما يلزمنا أن نفعله في أزمنة السلام في الكنيسة لكي نوضح إن كنا أقوياء بما فيه الكفاية حتى أننا نموت من أجل حبنا في أوقات الاضطهاد. يقول يوحنا في موضع آخر: “من له وسائل الحياة في العالم ويرى أخاه في احتياج ويغلق عنه حنوه في داخله، كيف يثبت محبة الله فيه” (1 يو3: 17)؟ ويقول يوحنا المعمدان: “من له ثوبان ليعطِ من ليس له” (لو 3: 11). فهل الذي لا يعطي ثوبه يسلم حياته؟
تعهد فضيلة الحب في أزمنة الهدوء بإظهار الرحمة، عندئذ لا تُقهر في أزمنة الاضطراب.
تعلم أولاً أن تسلم ممتلكاتك لله القدير، وعندئذ تسلم نفسك.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v ليتنا نقتدي به في مثل هذا الروح من الطاعة الوقورة، لا أن تكون لنا الجسارة أن نقيم مقارنة بينه وبين أنفسنا.
القديس أغسطينوس
“أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيكم به”. (14)
دُعي إبراهيم خليل الله أو حبيبيه (إش 41: 8؛ يع 2: 23)، إذ آمن بالله في طاعة له، فحسب له برًا. ودُعي موسى صديقًا لله (خر 33: 11)، هذا ما يود أن يتمتع به كل مؤمن خلال الإيمان الحي.
v أي شيء أثمن من الصداقة التي يشترك فيها الملائكة تمامًا كالبشر؟ لذلك يقول الرب يسوع: “اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم حتى يقبلونكم في المظال الأبدية” (لو ١٦: ٩).
الله نفسه يجعلنا أصدقاء عوض كوننا عبيدًا، إذ بنفسه يقول: “أنتم أحبائي إن فعلتم ما أمرتكم به”. أعطانا مثالاً للصداقة كي نتبعه.
يلزمنا أن نحقق رغبة الصديق (الرب يسوع)، ونكشف له أسرارنا التي نحتفظ بها في قلوبنا، ولا نتجاهل ثقته. لنريه قلوبنا فيفتح قلبه لنا. لذلك يقول: “قد سميتكم أحباء، لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي” (١٥). إذن الصديق إن كان صديقًا حقًا لا يخفي شيئًا، بل يسكب نفسه، كما يسكب ربنا يسوع أسرار أبيه.
هكذا من يفعل إرادة الله هو صديقه، ويتكرم بهذا الاسم. هذا الذي له فكر واحد معه هو أيضًا صديقه، إذ توجد وحدة فكر بين الأصدقاء. وليس أحد مكروه أكثر من إنسان يسيء إلى الصداقة.
القديس أمبروسيوس
“لا أعود أسميكم عبيدًا،
لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده،
لكني قد سميتكم أحباء،
لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي”. (15)
لم يقف الأمر عند بذل ذاته عنهم، وإنما أقام عهدًا معهم ليصيروا أحباء، يتمتعون بمعرفة أسراره، وليسوا عبيدًا.
يحمل لسانه ناموس اللطف والحنو، فيدعوهم هنا أحباء، وبعد قيامته يقول: “اذهبوا إلى اخوتي” (يو ٢٠: ١٧)، كما يقول لهم: “يا غلمان (أبنائي المحبوبين) هل عندكم طعامًا؟” (يو ٢١: ٥). أما هم فمن جانبهم يدعون أنفسهم عبيدًا له كما في ١ بطرس ١: ١. كلما قدم لنا كرامة يلزمنا نحن من جانبنا أن نكرمه بالأكثر. كلما ارتفعنا في عينيه، نشعر بالأكثر بانسحاقنا أمامه.
ليس من وجه للمقارنة بين العبد والصديق، فقد يحب السيد عبده ويترفق به، لكنه لا يسمح له بمشاركته أسراره الخاصة. العبد يتقبل الأوامر الصادرة من سيده، وليس له حق الحوار بل يلتزم بالتنفيذ، لا يعرف ما وراء هذه الأوامر من هدف في ذهن سيده، له أن يطيع طاعة عمياء.
كأحباء لهم لم يقدم لهم الوصايا من عرشه، بل نزل إليهم ليتحدث معهم، فيدركوا أنهم في قلبه، لهم تقديرهم الخاص في أعماقه. بنزوله إليهم أنهى عهد العبيد، بانتهاء الحرف القاتل للناموس، وجاء بنا إلى عهد الحب الفائق حيث ننعم بالبنوة لله خلال دم الابن الوحيد الجنس، وذلك بعمل روحه القدوس في مياه المعمودية. هكذا رفعنا وجدد خلقتنا لنصير أيقونته، لنا حق التمتع بمعرفة الآب، وإدراك أسراره الإلهية.
v هكذا عندما رأي ربنا يسوع المسيح أن تلاميذه قد اقتربوا من قبولهم البنوة، ويعرفوه ويتعلموا من الروح القدس، قال لهم: “لا أعود أسميكم عبيدًا… لكني قد سميتكم أحباء، لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي” (يو 15:15).
فالذين أدركوا ما قد آلوا إليه في المسيح يسوع، صرخوا قائلين: “لم نأخذ روح العبودية أيضًا للخوف بل أخذنا روح التبني الذي به نصرخ يا آبا الآب” (راجع رو 15:8).
فإن فشل الإنسان في إظهار استعدادٍ كاملٍ وغيرةٍ للقيام (من الخطية)، فليعلم مثل هذا أن مجيء ربنا ومخلصنا يكون دينونة عليه. لذلك قال سمعان (الشيخ) منذ البداية: “إن هذا وُضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل، ولعلامة تُقاوم” (لو 34:2). قال الرسول من بعده: “لهؤلاء رائحة موت لموت، ولأولئك رائحة حياة لحياة” (2 كو 16:2).
القديس أنطونيوس الكبير
v إنه يُدخل اسم “أحباء” بطريقة يسحب بها اسم “عبيد“، وليس كمن يضم كليهما في تعبيرٍ واحدٍ، وإنما الواحد يحتل الموضع الذي يتخلى عنه الآخر.
ماذا يعني هذا؟… إنه يوجد نوعان من الخوف، يُنتجان نوعين من الخائفين، هكذا يوجد نوعان من الخدمة، تنتجان نوعين من الخدم. يوجد خوف يطرده الحب الكامل (١ يو ٤: ٢٨) ويوجد خوف آخر طاهر يبقى إلى الأبد (مز ١٩: ٩). الخوف الذي ليس فيه حب، يشير إليه الرسول عندما يقول: “إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضًا للخوف” (رو ٨: ١٥). لكنه أشار إلى الخوف الطاهر عندما قال: “لا تستكبر بل خف” (رو ١١: ٢٠).
في ذلك الخوف الذي يطرده الحب خارجًا توجد أيضًا الخدمة المرتبطة به، فإن الرسول يربط الاثنين معًا، أي الخدمة والخوف، إذ يقول: “إذ لم تأخذوا روح العبودية (الخدمة) للخوف”. مثل هذا الخادم يرتبط بهذا النوع من الخدمة هذا الذي كان أمام عيني الرب عندما قال: “لا أعود أسميكم عبيدًا، لأن العبد لا يعلم ما يعمله سيده“. بالتأكيد ليس العبد المتسم بالخوف الطاهر، الذي يُقال عنه: “أيها العبد الصالح، أدخل إلى فرح سيدك”، وإنما العبد الذي يتسم بالخوف الذي يطرده الحب خارجًا، والذي قيل عنه في موضع آخر: “العبد لا يبقى في البيت إلى الأبد، أما الابن فيبقى إلى الأبد” (يو ٨ : ٣٥).
إذن حيث أعطانا سلطانًا أن نكون أبناء الله (يو ١: ١٢)، ليتنا لا نكون عبيدًا بل أبناء. فبطريقٍ حقيقيٍ عجيبٍ لا يوصف يكون لنا نحن العبيد السلطان ألا نكون عبيدًا.
حقًا إننا عبيد بالخوف الطاهر الذي يميز العبد الذي يدخل إلى فرح سيده، ولسنا عبيدًا بالخوف الذي يُطرد والذي يخص من لا يسكن في البيت إلى الأبد.
لنضع في ذهننا أن الرب هو الذي جعلنا قادرين أن نخدم ليس كعبيدٍ لا يعرفون ما يعمل سيدهم، ولا كمن عندما يصنع عملاً صالحًا يتعالى، كما لو كان قد فعله بنفسه وليس بربه، وهكذا يتمجد لا في الرب بل في ذاته، خادعًا بذلك نفسه إذ يفتخر كمن لم ينل شيئًا (١ كو ٤: ٧).
ليتنا أيها الأحباء لكي ما نصير أحباء الرب نعلم ما يعمله سيدنا. فإنه هو الذي جعلنا ليس فقط بشرًا بل وأبرارًا، ليس نحن الذين جعلنا أنفسنا هكذا.
v لا تقل: قبل أن أومن كنت أصنع أعمالاً صالحة ولذلك اختارني، فإنه أية أعمال صالحة تسبق الإيمان، إذ يقول الرسول: “وكل ما ليس من الإيمان فهو خطية” (رو ١٤: ٢٣).
v إذن انظروا أيها الأحباء، إنه لم يختر الصالحين، وإنما جعل المختارين صالحين. “أنا اخترتكم وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمر ويدوم ثمركم” (١٦). أليس هذا هو الثمر الذي سبق فقال عنه: “بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا” (يو ١٥: ٥)؟ لقد اختارنا وعيننا أن نذهب ونأتي بثمر، وبذلك ليس من ثمر يكون لنا لكي نحثه على اختيارنا… إننا نذهب لنأتي بثمر، وهو نفسه الطريق الذي فيه نذهب، والذي عيننا لنذهب فيه. هكذا هي رحمته للكل.
v ليدم الحب، إذ هو نفسه ثمرنا.
هذا الحب في الوقت الحاضر يكمن في شوقنا وليس في كمال تمتعنا به، وكل ما نسأله خلال شوقنا هذا باسم الابن الوحيد يهبنا إياه الآب. أما ما نطلبه، ولا يخص خلاصنا فلا نظن أننا نطلبه باسم المخلص. فإننا نطلب باسم المخلص ما هو بالحقيقة يخص طريق خلاصنا.
القديس أغسطينوس
“ليس أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم،
وأقمتكم لتذهبوا، وتأتوا بثمرٍ،
ويدوم ثمركم،
لكي يعطيكم الآب كل ما طلبتم باسمي”. (16)
اختارهم ليس على أساس كفاءتهم أو حكمتهم أو صلاحهم، بل من قبيل حبه ونعمته المجانية. الله هو صاحب المبادرة، اختارهم قبل أن يختاروه هم أو يأخذوا قرارًا بهذا. وكما جاء في سفر التثنية: “إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعبًا أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض، ليس من كونكم أكثر من سائر الشعوب التصق بكم الرب، واختاركم لأنكم أقل من سائر الشعوب، بل من محبة الرب إياكم…” (تث ٧: ٦-٨).
إذ اختارهم “أقامهم” hetheka hymas أي وضعهم في مركز الخدمة (١ تي ١: ١٢)، متوجًا هامتهم بهذه الكرامة، وواهبًا إياهم ثقته فيهم كسفراء عنه يتسلمون شئون مملكته في هذا العالم. وهم في هذا يلتزمون بالعمل “لتذهبوا وتأتوا بثمرٍ ويدوم ثمركم“. دعاهم ليحملوا النير في كل موضعٍ، يتنقلون من موضعٍ إلى آخر في العالم كله، لا يعرفون الاستكانة والراحة، بل العمل والجهاد والبذل، لكي يكون لهم ثمر كما في سائر الأمم (رو ١: ١٣). يرى الأب ثيؤدور أسقف المصيصة أن الكلمة اليونانية تعني “زرعتكم”، فبكونه الكرمة غرسهم كأغصان فيه.
سرّ نجاح الخدمة أن السيد المسيح هو الذي اختار التلاميذ والرسل وكان عونًا لهم يعمل فيهم وبهم. لذا لاق بمن يخدم في كرم الرب الآتي:
- أن يغرسه الرب نفسه بيمينه أو يختاره للخدمة.
- أن يثبت في الكرمة الحقيقية حتى يثمر ولا يجف.
- أن يدرك أنه مدعو للعمل لا للخمول، فإن كان السيد المسيح قد بادر بالحب وباختيار تلاميذه، يلتزم المختارون أن يذهبوا ليعلنوا كمال حب الله للبشرية. مع مطالبتهم بالوحدة يسألهم ألا يلتصقوا ببعضهم بعضًا، بل ينطلقوا للكرازة، يشتركوا في رحلة الكنيسة عبر العالم ليتمتع بالمخلص (مر 16: 15).
- أن ينتظر الثمر بطول أناة ولا ييأس، فإن الذي اختاره هو متكفل بتقديم الثمر الدائم.
- أن ينسب كل ثمرٍ أو نجاح للرب.
“ويدوم ثمركم” ليس كسائر الفلاسفة الذين تلألأت فلسفتهم إلى حين ثم صارت ماضيًا قد عبر، وإنما ثمرهم هو في كنيسة الله التي لا تقوى عليها قوات الجحيم. يتسم المؤمن المحب بالاستمرارية في كل شيء، استمرارية في التمتع بكلمة الله (7)، واستمرارية في محبة المسيح (٩-١٠)، واستمرارية في فرح المسيح (١١)، واستمرارية في الإثمار (١٦).
علامة حبه ليس فقط أنه اختارهم وأقامهم للعمل وجعل ثمرهم مستمرًا، وإنما وهبهم أيضًا نعمة لدى الآب، فكل ما يطلبونه باسمه منه ينالونه.
v لنؤمن أنه مهما سألنا الآب ننال باسمه، “لأن إرادة الآب هي أن نطلب خلال الابن، وإرادة الابن أن نطلب من الآب… لا تفهم من ذلك أن الآب غير قادر أن يفعل، وإنما توجد قوة واحدة تتكشف.
القديس أمبروسيوس
v كأن السيد المسيح يقول لتلاميذه: أنا بادرت بحبكم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v لقد هيأتكم للنعمة. لقد غرستكم لكي تنطلقوا بإرادتكم، وتأتوا بثمر أعمالكم. أقول أنه يلزمكم أن تذهبوا بإرادتكم، فإن القول بأن تفعلوا شيئًا يعني أن تذهبوا في قلوبكم. أضاف بعد ذلك: “ثمركم يبقى“… ما نفعله من أجل الحياة الأبدية يبقى حتى بعد الموت. لنعمل لأجل الثمر الذي يبقى.
v لماذا سأل بولس الرب ثلاث مرات ولم يتأهل أن يُسمع له (2 كو 12: 8)؟ يطلب المسيح من المبشر العظيم أن يسأل باسم الابن؟
لماذا لم ينل ما سأله؟
اسم الابن هو يسوع الذي يعني “الخلاص”. من يسأل باسم المخلص يطلب ما يخص خلاصه الواقعي. فإن كان ما يسأله ليس لصالحه فإنه لا يطلب من الآب باسم يسوع. لهذا يقول الرب لرسله عندما كانوا لا يزالوا ضعفاء: “إلى الآن لم تطلبوا شيئًا باسمى” (يو 16: 24). هذا هو السبب الذي لأجله لم يُسمع لبولس. لو أنه تحرر من التجربة لما كان يوجد ما يعينه على خلاصه…
لاحظوا طلباتكم. هل تسألون من أجل مباهج الخلاص؟ “اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه، وهذه كلها تزاد لكم” (مت 6: 33).
البابا غريغوريوس (الكبير)
“بهذا أوصيكم حتى تحبوا بعضكم بعضًا”. (17)
يمزج السيد المسيح الحب لله بالحب للاخوة (١٢، ١٧)، مقدمًا نفسه مثالاً لنا إذ أحبنا وبذل ذاته عنا (١٣)، ودعانا أحباء (١4)، وكشف لنا أسراره (١5)، واختـارنا (١6)، وأقامنا لخدمته (١٦)، وأعطانا نعمة لكي تقبل طلباتنا باسمه لدى الآب… هذا كله نرده له بحبنا لاخوتنا.
v بمعنى إني أخبرتكم بأني أضع حياتي لأجلكم لا للتوبيخ، أو لأني أجرى لكي ألتقي بكم، وإنما لكي أقودكم إلى الصداقة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v هذا هو الثمر الذي لا يمكننا أن نقتنيه بعيدًا عنه، كما أن الأعضاء لا تقدر أن تفعل شيئًا بدون الكرمة. ثمرنا هو المحبة التي يشرحها الرسول أنها: “من قلبٍ طاهرٍ وضميرٍ صالحٍ وإيمانٍ بلا رياء” (١ تي ١: ٥). هكذا نحب بعضنا البعض، وهكذا نحب الله. فإنه لن يكون حبًا حقيقيًا لبعضنا البعض إن كنا لا نحب الله. فإن كل واحد يحب أخاه كنفسه إن كان يحب الله. وأما من لا يحب الله فلا يحب نفسه.
القديس أغسطينوس
مواجهة بغض العالم ١٨ – ٢٥.
“إن كان العالم يبغضكم، فإعلموا أنه قد أبغضني قبلكم”. (18)
البغض هو سمة إبليس ودعامة مملكته، كما أن الحب هو سمة مملكة المسيح. فلا عجب إن كان محبو العالم يبغضون مملكة المسيح بلا سبب، فإن هذه هي طبيعتهم. لو أن الكراهية تقوم بسبب شر ارتكبوه لما كانت لهم تعزية، أما إن قامت لأن العالم لا يطيق مسيحهم، فهذه الكراهية هي مجد لا يستحقه المؤمن، لأنه يحمل شركة آلام السيد المسيح.
دُعي الأشرار “العالم“، لأنهم محبون له فيحملون اسمه، ولأنهم يمثلون الغالبية العظمى من سكان العالم. لا نعجب إن كان العالم لا يطيق أولئك الذين يحبهم الرب ويباركهم. فقد حدثت عداوة بين العالم الشرير وأولاد الله منذ زحفت الحية إلى حواء لكي تغريها، فقد قتل قايين هابيل لأن أعماله كانت بارة، وأبغض عيسو يعقوب لأنه نال البركة، وحسد اخوة يوسف أخاهم لأن أباه قد أحبه، وأبغض شاول داود لأن الرب كان معه يُنجح طريقه… هكذا في كل هذه الأمثلة لم يحمل القديسون كراهية، ولا صنعوا شرًا يستحقون عليه البغض.
إذ لحقت المتاعب القديس جيروم كتب إلى أسيلا Asella عند تركه روما متجهًا إلى الشرق: [أكتب إليك في عجالة أيتها السيدة العزيزة أسيلا، فإنني ذاهب إلى السفينة مبتلعًا بالحزن والدموع، إلا أنني أشكر إلهي إني حُسبت مستحقًا لبغض العالم].
v لا يرتعب أحدكم أيها الاخوة الأعزاء المحبوبين بالخوف من الاضطهاد القادم، أو من مجيء ضد المسيح الذي يهدد، حيث لا يوجد سلاح ضد كل الأمور غير النصائح الإنجيلية، والوصايا والتحذيرات السماوية.
ضد المسيح قادم، لكن المسيح يغلب.
العدو يقترب ويثور، ولكن الرب الذي يبرئ آلامنا وجراحاتنا يتبعنا.
المقاوم في غضب يهدد، لكنه يوجد الذي يحررنا من يديه.
الشهيد كبريانوس
v مع هذا الحب يلزمنا أيضًا أن نحتمل بغض العالم لنا بصبرٍ… لماذا يتعالى العضو نفسه على الرأس؟ إنك ترفض أن تكون في الجسد إن كنت لا تريد أن تحتمل بغض العالم لك مع بغضه للرأس.
القديس أغسطينوس
“لو كنتم من العالم، لكان العالم يحب خاصته،
ولكن لأنكم لستم من العالم، بل أنا اخترتكم من العالم،
لذلك يبغضكم العالم”. (19)
يُحسب المؤمنون أنهم ليسوا من العالم، ليس بسبب حكمتهم وفضائلهم، ولا لأنهم من طبيعة تختلف عن بقية البشر، وإنما لأنهم قبلوا دعوة الله لهم وصاروا مختارين منه، أفرزهم للعمل في ملكوته. لهذا يبغضهم العالم. حياة المسيحي الحقيقي تدين العالم الشرير في صمت، لذا لا يجد العالم له طريقًا سوى الانتقام ممن لا يشاركه شره ويهدئ من ضميره.
هنا يشير إلى المزمور ٦٩: “أكثر من شعر رأسي الذين يبغضونني بلا سبب” (مز ٦٩: ٤)، وقد جاء المزمور كله يتنبأ عن شخص السيد المسيح.
v كأن السيد المسيح يقول لتلاميذه: “إن شئتم أن تحبوا فيجب عليكم أن تتألموا”، إذ يذكر هذا المعنى بغموضٍ في قوله: “لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته“، فإن أحبكم العالم فواضح أنكم قد أردتم خبثه فيكم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v العالم يحب نفسه باطلاً، ويبغض نفسه حقيقة. لأن من يحب الشر، يبغض نفسه (مز ١١: ٣). ومع ذلك قيل أن العالم يحب ذاته قدر ما يحب الشر الذي جعله شريرًا. ومن الجانب الآخر قيل أنه يبغض ذاته بقدر حبه لما يسبب له ضررًا. لذلك فهو يبغض طبيعته الحقيقية التي فيه ويحب الرذيلة.
إنه يبغض ما هو عليه حسبما خلقه صلاح الله، ويحب ما قد جلبه هو بإرادته الحرة… لقد مُنعنا من أن نحب فيه ما هو يحبه، وأُمرنا أن نحب فيه ما هو يبغضه، أي عمل الله والتعزيات المتنوعة لصلاحه.
مُنعنا من أن نحب الرذيلة التي فيه، وأُوصينا أن نحب الطبيعة، أما العالم فيحب الرذيلة في ذاتها ويكره الطبيعة.
وبهذا نحن نحب ونكره بطريقة سليمة، بينما العالم يحب ويكره ما فيه بطريقة شريرة.
القديس أغسطينوس
“أذكروا الكلام الذي قلته لكم:
ليس عبد أعظم من سيده.
إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم.
وإن كانوا قد حفظوا كلامي، فسيحفظون كلامكم”. (20)
حقا لقد دعاهم السيد أحباء، لكن يليق بهم أن ينظروا إلى أنفسهم أنهم عبيد لله. لم يرد أن يبدأ حديثه بما سيعانوه من اضطهاد، إنما بدأ بما سيحتمله هو من متاعب. وضع نفسه في مقدمة المعركة التي بين النور والظلمة، وأن متاعبهم ليست إلا شركة في آلام السيد المسيح. وضع السيد تمييزًا فاصلاً بين المؤمنين المقدسين في حقه وبين الأشرار السالكين في ظلمة الجهالة.
v فقد أظهر السيد المسيح هنا أن تلاميذه مماثلون له، وكأنه يقول لهم: “إن كانوا يضطهدونكم، فإنكم بهذا تشاركونني في آلامي، فلا ينبغي أن تضطربوا، لأنكم لستم أفضل مني”.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v إن كان “ليس عبد أعظم من سيده” فليت أولئك الذين يتبعون الرب يبقون مقتربين إلى خطواته، متواضعين، صامتين، هادئين، حيث أن الذين يتواضعون بالأكثر يتمجدون.
الشهيد كبريانوس
“لكنهم إنما يفعلون بكم هذا كله من أجل اسمي،
لأنهم لا يعرفون الذي أرسلني”. (21)
أحد الأسباب الرئيسية لبغض العالم للمؤمنين هو الجهل وعدم المعرفة، فإنهم لا يعرفون الآب الذي أرسل السيد المسيح. خلال هذه الجهالة يأكلون شعب الله. وكما يقول المرتل: “قال الجاهل في قلبه ليس إله… ألم يعلم كل فاعلي الإثم الذين يأكلون شعبي كما يأكلون الخبز والرب لم يدعوا” (مز ١٤: ١، ٤).
لم يعرفوا الآب ولا عرفوا الابن المرُسل منه. “لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد” (١ كو ٢: ٨).
لا نتعجب من أن السيد الذي يقول: لست أدعوكم عبيدًا” يعود فيقول: “ليس العبد أعظم من سيده“، فهو لا يريد أن يدعونا عبيدًا، وفي نفس الوقت يدعونا “عبيدًا” وأننا لسنا أفضل منه الذي هو سيدنا. وكما يقول القديس أغسطينوس أنه واضح أنه يقصد في العبارة الأولى العبد الذي لا يسكن في البيت إلى الأبد، المتسم بالخوف الذي يطرده الحب خارجًا.
يعلق القديس أغسطينوس على تعبير “من أجل اسمي” الذي يعني “من أجل البرّ”، لأن مسيحنا هو برّنا. فالأشرار يضطهدون الأبرار في المسيح يسوع ليس من أجل جريمة ارتكبوها، بل من أجل البرّ. وأحيانًا يمارس الأبرار تأديبات قاسية ضد الأشرار، كما يفعل القضاة ضد المجرمين، أو كما يمارس رجال الشرطة ذلك ضد المقاومين للأمن، فإن كان القاضي أو رجل الشرطة مقدسًا في الرب فلا يُدان على معاقبته للشرير، لأن الشرير لا يحتمل العقوبة من أجل البرّ بل من أجل شره. كما يقول أيضًا إن الأشرار أحيانًا يضطهدون أشرارًا. قد يُسأل إن اضطهد الأشرار أشرارًا كما يفعل الأمراء الأشرار والقضاة الأشرار فإنهم وهم يضطهدون الأبرار بالتأكيد يعاقبون أيضًا القتلة والزناة وكل طبقات فاعلي الأشرار، هؤلاء الذين يمارسون ما هو ضد القوانين العامة، فكيف نفهم كلمات الرب: “لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته” (١٩)؟ فإن هؤلاء الذين يُعاقبون بسبب الجرائم السابق ذكرها إنما يُعاقبون لأنهم يسببون ضررًا للعالم نفسه. غير أن ذاك العالم موجود في الذين يعاقبون هذه الجرائم وفي الذين يحبون هذه الجرائم. لذلك فإن العالم إذ يوجد في الأشرار وغير الصالحين يكره الذين له بخصوص هذه الفئة من الناس المجرمين، ويحب الأشرار الذين يقدمون نفعًا له.
v ما هذا إلاَّ أنه يقول: إنهم يبغضونني فيكم؛ إنهم يضطهدونني فيكم؛ وإذ كلمتكم هو كلمتي، فإنهم لا يحفظونها.
فإن كل هذا يفعلونه بكم، ليس من أجلكم بل من أجلي. لهذا فإن هؤلاء الذين يفعلون هذه الأمور بسبب اسمي بؤسهم أعظم. كما يطوَّب الذين يحتملون هذه الأمور من أجلها. فإنه هو نفسه يقول في موضع آخر: “طوبى للذين يُضطهدون من أجل البرّ” (مت ٥: ١٠). إنهم يحتملونه من أجل اسمي، لأنه كما يعلمنا الرسول: “صار من الله لنا حكمة وبرًا وقداسة وفداءً، كما هو مكتوب: “من يفتخر فليفتخر بالرب” (١ كو ١: ٣٠-٣١). فإن الأشرار يصنعون مثل هذه الأمور من أجل الشر، وليس من أجل البرّ، لذلك فكلا الطرفين لهما بؤس متشابه، الذين يمارسون الاضطهاد والذين يُضطهدون. أيضًا الصالحون يمارسون هذه الأمور (لتأديب) الأشرار، ليفعل الأولون ذلك من أجل البرّ، بينما الآخرون يعانون منه ليس من أجل البرّ.
القديس أغسطينوس
“لو لم أكن قد جئت وكلمتهم، لم تكن لهم خطية،
وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم”. (22)
لقد تحققت الوعود الإلهية، وجاء من كان يتطلع إبراهيم إلى يومه فرآه وتهلل، كما اشتهى بقية الآباء والأنبياء مجيئه. بهذا ليس لهم عذر في رفضهم له. حملوا كراهية سبق فتنبأ عنها الكتاب المقدس (مز 35: 19؛ 69: 4؛ 109: 3).
v لا يُفهم هنا كل خطية، بل خطية ما عظيمة… لأن هذه الخطية تحوي فيها كل الخطايا، ومن يتحرر منها ينال غفرانًا لكل خطاياه. هذه الخطية العظمى هي عدم إيمانهم بالمسيح الذي جاء خصيصًا لكي يجدد إيمانهم. لو لم يأتِ لتحرروا من هذه الخطية. بمجيئه صارت حياة غير المؤمنين بالأكثر محفوفة بالدمار كما هو بخلاص الذين يؤمنون. فإنه هو رأس الرسل ورئيسهم صار كما أعلنوا: “للبعض رائحة حياة لحياة، وللبعض رائحة موت لموت” (٢ كو ٢: ١٦).
v إذ أكمل قائلاً: “وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم” (٢٢). ربما يتحرك أحد قائلاً: إن كان يوجد عذر للخطية بالنسبة لمن لم يأتِ المسيح إليهم، ولا تحدث معهم… أجيبه بأنه لهم عذرهم ليس عن كل خطية ارتكبوها، وإنما عن هذه الخطية الخاصة بعدم إيمانهم بالمسيح… هذا وهو يأتي بكنيسته إلى الأمم، ويتحدث معهم. هنا يُشار إلى الكلمات التي قالها: “من يقبلكم يقبلني” (لو ١٠: ١٦). ويقول الرسول بولس: “إذ تطلبون برهان المسيح المتكلم فيّ” (٢ كو ١٣: ٣).
v لكن واضح أنهم ليسوا بهذا يهربون من الدينونة. “لأن كل من أخطأ بدون الناموس فبدون الناموس يهلك؛ وكل من أخطأ في الناموس، فبالناموس يُدان” (رو ٢ : ١٢). كلمة الرسول “يهلك” هذه لها رنين مرعب أكثر من القول “يُدان“، هذا يُظهر أن مثل هذا العذر (بأنه لم يأتِ إليهم المسيح، ولا تحدث معهم) لن
ينفعهم شيئًا، بل يضيف عليهم تفاقمًا. فإن الذين يعتذرون بأنهم لم يسمعوا يهلكون بدون الناموس.
القديس أغسطينوس
“الذي يبغضني يبغض أبي أيضًا”. (23)
يتساءل القديس أغسطينوس كيف يُمكن لليهود وهم لا يعرفون الآب الذي أرسل الابن الوحيد الجنس (٢١) أن يبغضوه (٢٣)؟ ويجيب في شيء من الإطالة بأن الإنسان كثيرًا ما يحب آخر أو يبغضه دون أن يراه أو يتعرف عليه، وإنما حسبما يتصوره عنه، أو ما يسمعه عنه. هكذا اليهود ابغضوا الآب وهم لا يعرفونه، وإنما حسبما تصوروا عنه. كما يقول القديس أغسطينوس: [كيف يمكن لهم أن يحبوا أب الحق هؤلاء الذين امتلأوا بالكراهية نحو الحق نفسه؟ فإنهم لا يرغبون في أن يُدان سلوكهم، بينما عمل الحق هو أن يدين مثل هذا السلوك. وهكذا ابغضوا الحق قدر ما أبغضوا معاقبتهم التي يسقطها الحق على مثل هؤلاء. وإذ لم يعرفوا أنه هو الحق الذي يدين من هم مثلهم، لذلك فقد كرهوا من لا يعرفوه، وإذ يبغضوه، فبالتأكيد لن يستطيعوا إلاَّ أن يبغضوا ذاك الذي ولد الحق. وهكذا إذ لم يعرفوا الحق الذي بحكمه يدانون، والمولود من الله الآب، فبالتأكيد هم أيضًا لم يعرفوا الآب ويبغضونه. يا لهم من أناس تعساء! فإنهم إذ يرغبون في أن يكونوا أشرارًا يجحدون ما هو حق إذ يدينهم].
“لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالاً لم يعملها أحد غيري، لم تكن لهم خطية،
وأما الآن فقد رأوا، وأبغضوني أنا وأبي”. (24)
لقد صنع السيد المسيح بينهم أعمالاً عجيبة وفريدة، ليس فقط من جهة السلطان، وإنما أيضًا من جهة الحنو والحب والرحمة. ومع هذا أبغضوه هو والآب الذي أرسله، فما العجب إن أبغضوا الذين صاروا مؤمنين به وتلاميذ له.
v لم يكونوا بلا خطية قبل أن يتكلم معهم ويعمل مثل هذه الأعمال بينهم، وإنما لم تكن لهم خطية عدم الإيمان به، هذه التي يُشار إليها على وجه الخصوص، لأنها بالحقيقة تشمل كل الخطايا الأخرى. فلو أنهم تخلصوا منها وآمنوا به، لغُفرت لهم كل الخطايا الأخرى.
القديس أغسطينوس
رأوا بعيونهم المملوءة حسدًا وكراهية فكرهوه، أما القديس يوحنا فقد رآه وتمتع بالشركة معه، إذ يقول: “الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه، ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة… الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به، لكي يكون لكم أيضًا شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب، ومع ابنه يسوع المسيح” (1 يو :1 -3).
يقول القديس أغسطينوس أن كثير من الأنبياء قاموا بأعمال لم يقم بها غيرهم، لكنه ليس من وجه للمقارنة بين أعمالهم وأعمال السيد المسيح، ليس فقط من جهة كثرة العجائب التي بلا عدد، ولا بتنوعها، وإنما أيضًا بصنعها بسلطانه الشخصي، وبدونه لا يستطيع أحد أن يفعل شيئًا. هذا بجانب ميلاده من عذراء بتول وقيامته في اليوم الثالث الخ.
v إنهم هم أنفسهم شهود بهذا، إذ قيل: “لم يظهر قط مثل هذا في إسرائيل” (مت 9: 33). “منذ الدهر لم يسمع أن أحدًا فتح عيني مولود أعمى” (يو 9: 32). ونفس الأمر بخصوص لعازر (إقامته من الأموات)، وفي كل الأعمال الأخرى، وعجائبه التي كانت جديدة وفوق كل تفكير. قد يقول قائل:” فلماذا إذن يضطهدونك ويضطـهدوننا؟ “لأنكم لستم من العالم، لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته” (19)… ولما كان الأمر مذهلاً بالنسبة لنا أخبرنا عن السبب، وهو شرهم. لم يقف عند هذا بل قدم النبي (مز 35: 19؛ 69: 4) ليظهره أنه سبق فأعلن عن ذلك منذ زمن قديم، قائلاً: “أبغضوني بلا سبب” (25).
القديس يوحنا الذهبي الفم
“لكن لكي تتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم:
إنهم أبغضوني بلا سبب”. (25)
بغضهم للسيد المسيح بلا سبب، فكلماته وتعاليمه كانت علانية تقدم الحق ممتزجًا بالحب، وأعماله فائقة فريدة تقوم على نعمته الغنية وحبه اللانهائي. جاء في المزامير: “الذين يبغضونني بلا سبب” (مز 35: 19؛ 69:4). جاءت “بلا سبب” في اليونانية لتعني: “بدون مقابل”، فقد أبغضوه ولم يكن في ذهنهم نوال مقابل لهذه الكراهية.
يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح قد أعلن عن بغض اليهود له ولأبيه، أبغضوه بلا سبب، وأنهم يقتلونه، لكن متى جاء الباراقليط في عيد العنصرة بعد صعود السيد المسيح يجتذب الحاضرين خلال كلمة بطرس الرسول، فيؤمن حوالي ثلاثة آلاف نسمة ممن كانوا مشتركين في الثورة ضده والمطالبة بصلبه. وهكذا يشهد الروح القدس له عمليًا بتحويل مبغضي الحق إلى مؤمنين بالحق.
v كأنه يقول: لقد أبغضوني وقتلوني عندما كنت منظورًا بين أعينهم، لكن ستُحمل الشهادة لي بواسطة المعزي الذي يجتذبهم إلى الإيمان بي عندما لا أكون منظورًا منهم.
القديس أغسطينوس
الآن، بعد أن قدم لهم طريقًا يبدو غاية في الصعوبة، إذ طالبهم أن يثبتوا فيه كالأغصان في الكرمة، وهذا يبدو مستحيلاً في نظر الإنسان، كيف يثبت الإنسان الضعيف في ابن الله السماوي؟ كيف يتحد الترابي مع السماوي؟
عاد فسألهم أن يحبوا، لا خلال عواطف بشرية مؤقتة، بل أن يبذلوا حتى الموت كما بذل هو ذاته من أجل العالم، وهكذا صارت الوصية كأنها مستحيلة، من يقدر أن يتممها؟
وأخيرًا كشف عن بغض العالم واضطهاده لهم… هذا كله صار أشبه بطريق ضيق لا يقدر إنسان ما أن يسلكه، لهذا عزاهم بوعده بإرسال روحه القدوس الباراكليت. هذا هو المعلم السماوي والمرشد الحقيقي الذي يحملهم إلى كمال حق المسيح. هو يثبتهم في الكرمة، وهو يسكب الحب السماوي في قلوبهم، وهو يهبهم قوة الشهادة للمسيح لتجتذب حتى المقاومين لهم للحق.
إرسال المعزي لهم 26 – 27.
“ومتى جاء المعزي،
الذي سأرسله أنا اليكم من الآب،
روح الحق الذي من عند الآب ينبثق،
فهو يشهد لي”. (26)
يتحدث هنا عن المعزي بكونه أقنومًا يدعى “روح الحق“، ينبثق من عند الآب، يشهد للابن خلال عطاياه ونعمته على المؤمنين.
إنه روح الآب، إذ يقول الابن نفسه: “من عند الآب ينبثق” (يو 26:15)، وفي موضع آخر يقول: “لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم” (مت 20:10). وهو روح الابن أيضًا، إذ يقول الرسول “أرسل اللَّه روح ابنه إلي قلوبكم صارخًا يا أبا الآب” (غلا 6:4)، أي يجعلكم تصرخون، لأن هذا هو ما نصرخ به ولكن فيه، أي يملأ قلوبكم بالمحبة التي بدونها يكون صراخكم باطلاً، حيث يقول: “ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له” (رو 9:8).
سبق فقال أنه يطلب من الآب أن يرسل المعزي (يو ١٤: ١٦)، وهنا يقول: “سأرسله أنا إليكم من الآب“. فُهو مُرسل من الآب من جهة أنه مدبر الخلاص والتقديس، ومُرسل من الابن بكونه قد دفع الثمن على الصليب لكي يستقر الروح في الإنسان ويجد فيه برّ المسيح.
الروح القدس يشهد للابن، وإذ يسكن في التلاميذ يشهدون للسيد المسيح بقوة الروح.
v نفس المعزي يرسله أيضًا الآب كما سبق فعلمنا قائلاً: “وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي” (١٤: ٢٦). انظروا وحدتهما، فإن من يرسله الآب يرسله الابن أيضًا.
القديس أمبروسيوس
v حتى لا يقول التلاميذ للسيد المسيح: فماذا نعمل إن كانوا لم يحفظوا قولك، فلهذا السبب لا يحفظون قولنا، إن كانوا قد طردوك فإنهم سيطردوننا، إن كانوا قد أبصروا آيات لم يبصرها أحد كائنة من غيرك، إن كانوا قد سمعوا أقوالاً لم يُسمع مثلها من غيرك ولم يستفيدوا، إن كانوا كرهوا أباك وكرهوك معًا، فلِم ألقيتنا في معاندتهم؟ كيف نتأهل فيما بعد عندهم للتصديق؟ من يصغي إلينا من الذين قبيلتهم قبيلتنا؟ ولكي لا يفتكروا هذه الأفكار فيضطربوا، عزاهم فقال: “ومتى جاء المعزي، الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي”. قول السيد المسيح لتلاميذه: “روح الحق“، وما يدعوه الروح القدس لكي يكون مؤهلاً لتصديقه.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v نؤكد أن الروح القدس نفسه أيضًا الذي يعمل في الأنبياء، فيض اللَّه يفيض منه ويرجع كشعاع الشمس.
العلامة أثيناغورس
v الروح القدس هو في الواقع روح، يصدر بالفعل عن الآب، ولكن ليس بذات الطريقة التي لإصدار الابن، إذ يتم لا بالولادة بل بالانبثاق.
القديس غريغوريوس النزينزي
v هكذا لا يمكن لخاصية أقنوم الآب أن تنتقل إلى الابن أو إلى الروح القدس. إنها خاصية الآب أن يكون موجودًا دون علة، وهذا لا ينطبق على الابن والروح، فإن الابن خرج من عند الآب (يو28:16)، ويقرر الكتاب أن “الروح ينبثق من اللَّه، من الآب” (يو 26:15).
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
استخدم القديس أبيفانيوس عبارة إن الروح القدس ينبثق من الآب ويأخذ من الابن، وإنه من ذات جوهر الآب والابن. ويقرر القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن الروح ينبثق من الآب ويأخذ من الابن.
يؤكد القديس كيرلس تعليمه بخصوص الانبثاق، قائلاً: [ينبثق الروح القدس من اللَّه الآب، كما من ينبوع، أما الابن فيرسله للخليقة].
جاء في اللجنة اللاهوتية الدولية المشتركة بين الأرثوذكس والكاثوليك القدامى: [يتميز الآب عن الأقنومين الآخرين بكونه من طبيعته منذ الأزل يلد الابن ويبعث الروح القدس. ويتميز الابن عن الأقنومين الآخرين بكونه مولودّا من أبيه؛ ويتميز الروح القدس بكونه ينبثق من الآب. هكذا الآب غير مولود وبدون أساسanaitios سابق له أو أصل، وفي نفس الوقت هو “الأصل الواحد، الجذر الواحد، الينبوع الواحد للابن والروح القدس”. هو وحده الأساس aitios الذي منذ الأزل يلد الابن ويبعث الروح القدس… لذلك، فالآب بلا أساس (علة) سابقة anaitiosوهو نفسه الأساس autoatitos، بينما للابن والروح القدس أساس في الآب].
v يليق بنا أن نتحقق كم من أشياءٍ كثيرة يجب أن تُقال عن (هذا) “الحب”. وأيضًا، كم من أشياء عظيمة نحتاج لمعرفتها عن اللَّه، حيث أنه بذاته هو “الحب”. فكما أنه “ليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يعلن له” (مت 27:11)، كذلك لا يعرف أحد الحب سوى الابن، وبنفس الطريقة لا يعرف أحد الابن، الذي هو الحب ذاته، إلا الآب. بالإضافة إلى ذلك، إذ يُدعى الحب، فالروح القدس المنبثق من الآب، هو وحده الذي يعرف ما باللَّه، كما “يعرف أمور الإنسان روح الإنسان الذي فيه” (1 كو 11:2). هنا إذن الباراقليط الذي هو “روح الحق، الذي من الآب ينبثق” (يو 26:15)، يجول باحثًا عن أنفسٍ مستحقةٍ وقادرةٍ على تَقَبُل عِظَمِ محبته، أي محبة اللَّه، التي يرغب في إعلانها لهم.
العلامة أوريجينوس
v جعل المسيح رسله يعمدون باسم الآب والابن والروح القدس، أي الاعتراف بالخالق والابن الوحيد الجنس والعطية. لأن اللَّه الآب هو واحد، منه كل شيء؛ وربنا يسوع المسيح الابن الوحيد الذي به كان كل شيء (1 كو 8: 6) هو واحد؛ والروح عطية اللَّه لنا، الذي يتخلل كل شيء هو أيضًا واحد (أف 4: 4). هكذا الكل قد تعظّم حسب القوى التي لهم والمنافع التي يمنحونها، القوة الواحدة التي منها الكل، الابن الواحد الذي به كل شيء، العطية الواحدة التي تهبنا رجاء كاملاً. لا يمكن أن يوجد نقص في هذا الاتحاد السامي الذي يحتضن الآب والابن والروح القدس، غير محدود في سرمدية، مثاله في صورة تعبر عنه، وتمتعنا به في العطية.
v لأن أذهاننا الساقطة عاجزة عن إدراك الآب أو الابن، فإن إيماننا الذي وجد صعوبة في تصديق تجسد اللَّه يستنير بعطية الروح القدس، رباط الوحدة ومصدر النور.
القديس هيلاري أسقف بواتييه
v إنه يملأ الكل بقوته، لكنه يُشترك فيه بالنسبة للمتأهلين وحدهم… والذين لهم شركة الروح يتمتعون به قدر ما تسمح طبيعتهم، وليس قدر ما يستطيع هو أن يهب نفسه في الشركة.
v الباراكليت مثل الشمس للعين النقية يُظهر لك في نفسه الصورة (الابن) التي (للآب) غير المنظور. وبالتأمل الطوباوي للصورة سترى الجمال غير المنطوق به الذي للأصل. إنه هو الذي يشرق في أولئك الذين يتطهرون من الدنس، ويجعلهم روحيين خلال الشركة معه. وكما أن الأجسام البهية الشفّافة متى سقطت عليها أشعة الشمس، تصير بهية تعكس منها بهاءً على الآخرين، هكذا النفوس الحاملة للروح إذ تستنير بالروح تصير هي نفسها روحية وتبعث نعمة على الآخرين.
القديس باسيليوس الكبير
v المسيح وُلد، والروح هو السابق له. المسيح اعتمد والروح حمل شهادة له. المسيح جُرّب، وهو الذي عاد به (إلى الجبل). المسيح صنع عجائب، والروح رافقه. المسيح صعد، والروح خلفه.
v أعمال المسيح الجسمانية انتهت، وأعمال الروح تبدأ.
v إن كان الروح لا يُعبد، فكيف يمكنه أن يؤلهني في المعمودية؟… من الروح ننال ما يجددنا. هكذا أنتم ترون الروح يعمل بكونه اللَّه واهب المِنح لنا. هكذا أنتم ترون ما نُحرم منه إن أنكرنا أن الروح هو اللَّه. بالروح أعرف اللَّه. هو نفسه اللَّه، وفي الحياة الأخرى يؤلهني.
القديس غريغوريوس النزينزي
v إصلاحنا هو من عمل الثالوث القدوس كله والمساوي لبعضهم، وخلال الطبيعة الإلهية كلها الإرادة والقوة تجتازا في كل شيء يُعمل به. لهذا فإن خلاصنا حقيقة هو من عمل اللاهوت الواحد. وإن كان ما قد تحقق من أجلنا أو تم في الخليقة، الأمر الذي يبدو أنه يُنسب لكل أقنوم، فإننا نؤمن أن كل الأشياء هي من اللَّه بالابن في الروح القدس.
القديس كيرلس الكبير
عمل الروح القدس اللائق به هو تحقيق وحدتنا مع المسيح.
v إنه الروح الذي يوحدنا، نقول أنه يجعلنا نتجانس مع اللَّه؛ استقباله يجعلنا شركاء الطبيعة الإلهية، ونحن نتسلم هذا من الابن، وبالابن من الآب.
v (الابن نفسه) يشَّكلنا حسب مجده، ويوسمنا بخاتم شكله.
v إنه يمنحنا الرائحة الكاملة لذاك الذي ولده.
v واهب الروح الإلهي المعطي الحياة ومعطيه هو الابن المولود من اللَّه.
v الملء المُعطى لنا بالآب والابن يتحقق… بالروح القدس الذي يملأنا بالمواهب الإلهية به ويجعلنا شركاء في الطبيعة التي لا يُنطق بها.
v هكذا حيث يعيش الابن فينا بطريقةٍ لا توصف وذلك بروحه (غلا 4: 6)، نقول أننا مدعوّون لروح البنوة.
v شكرًا للاتحاد مع الابن الذي يتحقق بوساطة الروح في الذين يقبلونه حتى أننا نتشكل للبنوة.
v إن كانت الصورة الحقيقية التي تعبر بكمال عن التشبه بالابن نفسه، بلا خطأ، فالشبه الطبيعي للابن هو الروح الذي نتوافق معه بدورنا خلال التقديس، والذي يشكلنا إلى شكل (الآب) نفسه.
v نحن نتشكل حسب المسيح، ومنه نتقبل الصورة (غلا 4: 9)، وشكل الروح حسنًا جدًا، كمنْ مِنْ أحد شبيه له بالطبيعة.
v بسبب قوته وطبيعته يمكن للروح بالتأكيد أن يُصلحنا إلى الصورة الفائقة.
القديس كيرلس الكبير
جاء في كتابات القديس باسيليوس الكبير كما في كتابات القديس كيرلس الكبيرالروح القدس هو العامل ليقيم منا صورة للآب، ومرة أخرى أنه البيئة الحية التي خلالها يخلق فينا الشبه للآب والابن.
v واهب الروح الإلهي المحيي هو الابن المولود من اللَّه، الذي يشارك الحياة، ويتقبل الطبيعة الإلهية الكاملة من الآب؛ والذي فيه الابن والروح المحيي، يقوم الأخير بخلق الحياة للذين ينالونه.
v في الطبيعة الإلهية الواحدة الثلاثة أقانيم المتمايزون يتحدون في جمالٍ سامٍ واحد؛ ونحن أيضًا نتشكل بقبولنا ختم بنوي بالابن في الروح.
v شكرًا للروح، إذ نتشكل حسب جمال الابن الإلهي الفائق، نشترك في الطبيعة الإلهية.
v يمنحنا الابن كمال رائحة الذي ولده (الآب). به وفيه نتقبل رائحة معرفة اللَّه، ونغتني بها.
القديس كيرلس الكبير
يقول القديس كيرلس الكبير أن الروح القدس يعطي “طاقته إذ هي طاقة اللَّه”.
v كرز الابن عن نفسه وعن الآب مثله. صار الكلمة نفسه منظورًا وملموسًا.
v بخصوص عظمته لا يمكن معرفة اللَّه… أما بخصوص حبه فهو معروف دومًا بكلمته… وبالروح الذي يحتضن الإنسان ويهبه سلطة إلى مجد الآب.
القديس إيريناؤس
v الآب يُعلن، والروح حقًا يعمل، والابن يخدم.
القديس إيريناؤس
عيد البنطقستي هو مجيء الروح القدس الذي وعد به المسيح، والروح في عيد البنطقستي الدائم هو تأكيد لحضور المسيح في الكنيسة. هكذا فإن عيد العنصرة هي عيد مسياني ليس بأقل مما هو خاص بالروح القدس pneumatological، حيث أنه يدشن حضور المسيح في الكنيسة سرائريًا. عيد البنطقستي يزيل الارتباك بين صعود المسيح إلى السماء وجلوسه على يمين الآب وبين وعده: “ها أنا معكم كل الأيام وإلى الانقضاء” (مت 28: 20).
يقول القديس مقاريوس أنه عندما يحل المسيح والروح فينا نختبر ذلك بطرق متنوعة: في فرح أو دموع، في سكون أو نشوة طرب. توجد أشكال متعددة لحضور اللَّه، أما ثمر الروح فهو دائمًا حضور المسيح واهب الوحدة، الذي يعيش في الكنيسة وفي قلب المؤمن.
“وتشهدون أنتم أيضًا،
لأنكم معي من الابتداء”. (27)
يقول القديس أغسطينوس إذ يحل الروح القدس على الكنيسة يحمل التلاميذ الذين رافقوا السيد المسيح منذ بداية خدمته إمكانية الشهادة له، الأمر الذي لم يكونوا قادرين عليه أثناء حديث السيد المسيح معهم، إذ لم يكن ملء الروح قد حلّ فيهم. متى حلّ الروح القدس يهبهم الإيمان العامل بالمحبة، والمحبة الكاملة تطرد الخوف خارجًا. فلا يعود بطرس الرسول ينكر المسيح كما حدث عند الصلب، بل يشهد له محتملاً الآلام والاضطهادات من أجل اسمه بفرحٍ. [إذ يشهد له الروح القدس، ويوحي بمثل هذه الشهادة بشجاعة لا تُقهر، يجرد أحباء المسيح من خوفهم، ويحولهم إلى حبهم لبغض أعدائهم لهم].
v في الكلمات السابقة قوَّى الرب تلاميذه ليحتملوا كراهية أعدائهم، وأعدَّهم أيضًا بتقديم نفسه مثالاً لكي يزدادوا شجاعة في الاقتداء به، مقدمًا لهم الوعد بالروح القدس الذي يأتي ليشهد له، ولكي يصيروا هم شهودًا خلال عمل الروح القدس في سامعيه. فإن هذا هو معنى: “وتشهدون أنتم أيضًا، لأنكم معي من الابتداء” (٢٧). بمعنى إذ يحمل شهادة تحملون أنتم أيضًا شهادة. إنه في قلوبكم، أنتم في أصواتكم؛ هو بالوحي وأنتم بالنطق، حتى تتحقق الكلمات: “إلى أقصى الأرض بلغ صوتهم” (مز ١٩ : ٤). فإنه إن لم يملأهم بروحه لا يحقق كثيرًا تقديم نفسه مثلاً للهدف.
القديس أغسطينوس
من وحي يو ١٥
طمعني فيك،
يا أيها الكرمة الحقيقية!
v محبوبي العجيب، اكشف لي عن حبك الفائق.
غرستني كما في جنة إلهية،
وسيَّجت حولي بحبك،
وترقبت لعلي أقدم لك ثمرًا يفرح قلبك!
وإذ أخرجت عنبًا رديًا لم تهملني.
v اقتلعتني من فسادي،
وطعمتني فيك، يا أيها الكرمة الحقيقية!
أحمل ثمر روحك القدوس، عنب الحب والفرح!
أحمل طعم عذوبتك، ورائحتك الذكية!
بدونك لا أصلح إلاَّ للمزبلة والنار!
v ليجري حبك في عروقي،
إذ أنا غصن حيّ فيك وبك.
فيصير فرحك بي كاملاً، وفرحي بك كاملاً.
أحبك، فأتعرف على أسرارك وإرادتك.
أحبك، فأبذل نفسي من أجل اخوتك الأصاغر!
v أحبك، وإن كانت تكلفته بغض العالم لي.
إني غصن فيك، يا أيتها الكرمة الإلهي،
العالم لا يطيقك، فلا يطيقني!
العالم لا يحتمل صوتك، فلا يقبل كلماتك التي على لساني!
v من يثبتني فيك، فلا أُقتلع منك؟
من يهتم بي إلاَّ أباك الكرَّام العجيب؟
من يحوط حولي ويعمل فيَّ،
إلاَّ روحك القدوس المعزي؟
لك المجد أيها الثالوث الكلي الحب!
تفسير يوحنا 14 | تفسير إنجيل القديس يوحنا القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير يوحنا 16 |
تفسير العهد الجديد |