تفسير إنجيل يوحنا ١٧ للقمص تادرس يعقوب

الاصحاح السابع عشر
الصلاة الوداعية

 

بعد هذا العرض المفرح والمعزي لحديث السيد المسيح الوداعي المسهب مع التلاميذ الذي شغل قرابة أربع أصحاحات (١٣-١٦) يقدم لنا الإنجيلي يوحنا الصلاة الوداعية العلنية أمامهم. وهي حديث فريد مقدم من الابن في اللحظات الأخيرة قبل تسليمه للصلب. تختلف عن الصلاة الربانية التي علمنا إياها السيد المسيح نفسه، لأن الأخيرة تركز على طلب غفران الخطايا، أما هذه الصلاة فتكشف عما في قلب السيد المسيح من اشتياقات نحو الكنيسة يحققها خلال الصليب. لم يكن محتاجًا إلى الصلاة لمغفرة الخطايا لأنه بلا خطية، بل هل نفسه غافر الخطايا.

تعتبر أطول صلاة للسيد المسيح سجلها لنا الإنجيليون، لكننا لا نستطيع القول بأنها أطول حديث بين السيد المسيح والآب، فقد قضى الليل كله مصليُا قبل اختياره الاثنى عشر تلميذًا (لو6:12). كما وُجدت مناسبات أخرى قضى فيها فترات طويلة للصلاة.

لهذه الصلاة قدسية خاصة في نظر المؤمنين حيث جاءت في ظل الصليب. إنها تناسب ذاك الشفيع الكفاري الفريد حيث يحمل كنيسته فيه كأعضاء جسده المقدس ليقدمها لأبيه القدوس. هي طلب بنوي من أجل الخلاص (24)، يمزق الحجاب الذي فصل البشرية عن الآب.

تٌعتبر صلاة عائلية قدمها رب العائلة: يسوع المسيح عن عائلته، التلاميذ أو الكنيسة ككل. أو صلاة وداعية، قدمها على مسمع من تلاميذه، بعد حديثه الوداعي معهم عن سرّ علاقته مع الآب، الآن يتحدث مع الآب علانية من أجلهم، ليكشف لهم عن دوره لدى الآب من جهتهم.

هي صلاة كهنوتية، وكما يقول القديس اكليمنضس الإسكندري أن يسوع في هذه الصلاة هو رئيس الكهنة الذي يعمل لحساب شعبه، وأن هذه الصلاة تدعى صلاة كهنوتية عليا، أو صلاة رئيس الكهنة. يقدمها كإعداد للبشرية لقبول ثمار ذبيحته الفريدة. وهي تشكل ذروة إعلان سرّ الوحدة بين الآب والابن. إنها ليست عملاً مجردًا، بل هي حضوره في الآب، حيث يحملنا إلى حضنه.

قدمها كصلاة سرائرية بعد تقديم سرّ الفصح المسيحي، أي بعد أن قدم لهم جسده ودمه المبذولين لغفران خطاياهم وحياة أبدية لهم، وقد جاءت الصلاة من أجل حفظهم في النعمة التي تسلموها. وكأن السيد المسيح يؤكد لنا حاجتنا إلى الصلاة المستمرة حتى نحفظ النعم الإلهية، أو حتى يحفظنا الله في غنى نعم أسراره الإلهية.

هي صلاة ربانية يقدمها رب المجد لكي يعلمنا كيف نصلي.

هي صلاة في مواجهة الموت، وقد امتلأت صلاته بالعذوبة، لأنه يواجه الموت من أجل تقديس أحبائه. بارك يعقوب الاثني عشرة بطريركًا (أبًا) قبل موته، وبارك موسى الأسباط الاثني عشر أيضًا قبل موته، والآن يبارك السيد المسيح الكنيسة في العالم كله قبل تقديم حياته ذبيحة حب من أجلهم. الخط الواضح في هذه الصلاة هو تأكيد عملي لما قاله لتلاميذه: “افرحوا، أنا قد غلبت العالم” (16: 33). الآن وقد اقتربت جدًا لحظات صلبه، يتطلع إلي موته، لا ككارثة تحل به، بل كنصرة يحققها لحساب البشرية. لقد كرر مرارًا وتكرارًا لتلاميذه هذه الحقيقة، لكنهم لم يكونوا بعد قادرين علي إدراكها، لهذا طلب من الآب مساندتهم في وسط أحداث القيامة حتى يدركوها سريعًا ويتمتعوا بفاعليتها. الآن يسلم تلاميذه في يدي الآب أثناء عبوره طريق الصليب، فإنه ليس من قوى أخرى يمكن أن تسندهم سوى العمل الإلهي.

طلبة خاصة به ١ – ٥.

“تكلم يسوع بهذا ورفع عينيه نحو السماء”. (1)

إذ صار كلمة الله إنسانًا حقيقيًا كاملاً مارس العبادة لتأكيد خضوعه حتى للناموس ولنظام العبادة، وصلى أيضًا ليكشف عن علاقته بالآب، إذ أُتهم بأنه بعلزبول رئيس الشياطين، وأنه ليس من عند الله.

لم يكن السيد المسيح في حاجة إلى الصلاة، لأنه هو واحد مع أبيه في الجوهر. لكنه كممثلٍ لنا يقدم الصلاة عن نفسه: “مجد ابنك” (1) لكي لا نكف عن الطلبة من أجل مجدنا فيه.

المسيح بكونه الله نصلي إليه، وإذ صار إنسانًا صار يصلي حتى يكمل فيه كل برّ. لقد قيل له كما قيل لنا: “اسألني فأعطيك” (مز ٢: ٨). وها هو يسأل الآب، معطيًا كرامة خاصة للصلاة، لكي نجد فيها شبعنا. ويقول الرسول بولس: “الذي في أيام جسده، إذ قدم بصراخٍ شديدٍ ودموعٍ وطلباتٍ وتضرعاتٍ للقادر أن يخلصه من الموت، وسُمع له من أجل تقواه، مع كونه ابنًا تعلم الطـاعة مما تألم به” (عب ٥: ٧-٨). لقد اشترى البشرية بدمه، فقدم الدم ليسأل الآب أن يهبه البشرية تسكن فيه فتتبرر. أما نحن فبدونه لا نقدر أن نسأل من الله كأبٍ لنا، ولا نقدر أن ننال. بصلاته قدس صلواتنا، وفتح لنا طريق الالتقاء مع الآب خلال المسرة الإلهية. صلى باسمنا، إذ يعرف أعماق قلوبنا (خر ٢٣: ٩) ويدرك تمامًا احتياجنا، وهو الطريق الذي وحده يصعد إلى السماء، إلى حضن أبيه، لذا فهو وحده القادر أن يقدس صلواتنا.

رفع السيد المسيح عينيه إلى السماء كما فعل ذلك من قبل (يو ١١: ٤١)، لماذا؟ إنه ساكن السماء بلاهوته ولا يحتاج إلى رفع عينيه إلى السماء كمن يتوسل أمرًا ما من الآب. لكنه إذ صار ابن البشر قدَّس السيد المسيح حتى حركات الجسد، حتى نرفع أعيننا نحن أيضًا مع عينيه، فيرفع قلوبنا إلى السماء أثناء الصلاة (مز ٢٥: ١). كان اليهود في ذلك الوقت يرفعون رؤوسهم إلى فوق، ويفتحون أعينهم نحو السماء أثناء الصلاة، وقد استخدم السيد المسيح ذات الوضع الذي كان سائدًا في أيامه، لكي نلتزم نحن بالعبادة بروح جماعية في تدبير كنسي منظم بلا تشويش. هذا لا يعني أنه لا تقدم الصلاة إلا بهذا الوضع، فقد امتدح السيد المسيح العشار الذي لم يجسر أن يرفع عينيه، هكذا وقد قرع صدره في ندامة (لو 18: 23). والسيد المسيح نفسه انحنى أثناء حديثه مع الآب في البستان (مت 26: 39).

” أيها الآب قد أتت الساعة،

مجد ابنك، ليمجدك ابنك أيضًا”. (1)

يدعو السيد المسيح الآب أباه، وهو الأب بالطبيعة، لكي إذ نرفع نحن أعيننا معه، نتطلع إلى الله كأبٍ لنا، وذلك بالتبني الذي نلناه بروحه القدوس. إنه يوجهنا إلى أبيه بروح التشجيع والرجاء في نوال العطايا من يديه الإلهيتين.

قد أتت الساعة” (١)، كثيرًا ما كان يكرر بأن ساعته لم تأت بعد. الآن إذ بدأ طريق الصليب يقول: “قد أتت الساعة“، وهو يعرفها. لا يعرف الإنسان ساعته (جا ٩: ١٢) أما ابن الإنسان فقد عرفها. دعاها “هذه الساعة” (يو ١٢: ٢٧) و”الساعة” (يو ١٧: ١). فإنه لا توجد ساعة في كل التاريخ البشري، بل منذ بدء الزمن حتى نهايته كساعة الصليب التي فتحت أبواب السماء، وصالحت البشرية مع الآب، وأعطتهم حق الميراث الأبدي والمجد السماوي.

ساعة آلام المسيح هي في خطة الله؛ ذروة هدف السيد المسيح منذ البداية، بل وقبل تجسده من أجل هذه الساعة. لقد جاءت الساعة الحاسمة حيث المعركة بين السماء والجحيم من أجل مجد الله وسعادة الإنسان على مستوى أبدي. وكأنه يقول: “لقد جاءت الساعة التي فيها اتحدت قوات الظلمة لكي تسيء إلى ابنك، الآن أيها الآب مجد ابنك!” إنها ساعة فريدة، ساعة المعركة بين النور وسلطان الظلمة؛ بين السماء وجهنم. رآها يوحنا الحبيب فقال: “خرج غالبًا ولكي يغلب” (رؤ ٦: ٢)، خرج ممتطيًا مركبة الصليب التي تحطم كل قوات الظلمة.

في وسط الآلام التي قبلها الابن بمسرة مجد الآب ابنه أثناء آلامه، عندما حاولت الجموع القبض عليه فسقطوا على الأرض، وبعد أن سلمه يهوذا اعترف بجريمته وختمها بانتحاره، وأرسلت امرأة بيلاطس إلى زوجها تحذره من أن يصنع به شرًا. مجدته الطبيعة إذ انكسفت الشمس وانخسف القمر، والصخور تشققت، والقبور تفتحت. أيضًا شهد له الهيكل إذ انشق حجابه. هذا ما شاهدته البشرية أثناء محاكمة السيد وآلامه وموته. هذه كلها أمجاد لكنها لا تشغل ذهن السيد المسيح، وهو يقول: “مجد ابنك“، إنما ما يشغله هو المجد الذي لا تنظره العيون الجسدية، هو الغلبة على إبليس والتشهير بقوات الظلمة، وإطلاق الأسرى من الجحيم، ودخول اللص اليمين إلى الفردوس. مجَّده الآب أيضًا إذ أقامه من الأموات، وأرسل الروح القدس على تلاميذه وأسس مملكته في قلوب البشرية. هذا ما كان يشغله ويصلي لأجله.

أراد الشيطان أن يقدم له ممالك العالم أثناء تجربته بشرط أن يجحد بنوته لله ويرفض المجد الذي يقدمه الآب، لكن السيد المسيح كممثلٍ لنا لن يقبل المجد إلا من يدي أبيه، ففيه نرث المجد، إن تقدسنا كأبناء الله.

قدم السيد هذه الصلاة قبل تسليم نفسه للموت ذبيحة عن خطايانا، لكي نقدم صلاة مماثلة في لحظات عبورنا من العالم. عندما نشعر أن ساعة انتقالنا من العالم قد جاءت نصرخ إلى الله: “قد أتت الساعة“. لتقف بجانبي، ولتعلن عن ذاتك لي. هوذا خيمتي الأرضية تنحل، فألبس البناء المصنوع بغير يدٍ بشرية. كما مجدت نفسي بنعمتك، مجِّد جسدي في يوم لقائي معك على السحاب”.

ليمجدك ابنك أيضًا“، فإنني أسلمك إرادتي، وأكرس كل طاقاتي ومواهبي لحساب ملكوتك. نصرتي وخلاصي ومجدي شهادة حية لمجدك الفائق ونعمتك الغنية.

كتب الإنجيلي يوحنا هذا السفر لكي تختبر كل نفس عربون المجد الأبدي في أعماقها، حتى يمكن للإنسان بكليته نفسُا وجسدًا أن ينعم بشركة المجد. لهذا نجد الاسم “مجد” قد تكرر في هذا السفر 18 مرة أكثر من أي سفر آخر في العهد الجديد باستثناء الرسالة الثانية إلي أهل كورنثوس، حيث يحدثنا الرسول عن الخادم في آلامه وأتعابه كخادمٍ ممجدٍ بالرب. أما الفعل “يمجد” فقد تكرر هنا 23 مرة بينما لم يتكرر في أي سفر آخر في العهد الجديد أكثر من 9 مرات. وكأن الإنجيلي يوحنا يود أن ننطلق بالروح القدوس لننعم بالأمجاد التي يعدها لنا السيد المسيح. إنه سفر المجد الحقيقي الذي فيه أخلى الكلمة نفسه حتى نلتقي به ونتعرف عليه وعلى حبه ونتحد به فنتمجد معه!

هذا هو مجد الابن أن نتمتع بصليبه فنشاركه أمجاده. وهذا هو مجد الآب أيضًا، إذ احب العالم وبذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية (يو 3: 16) أي ينعم بالمجد الأبدي. هكذا مجد الابن واحد مع مجد أبيه، وهو مجد يقوم لا عن احتياج أو زيادة في مجدهما، وإنما في حبهما لنا ننعم بشركة المجد خلال العمل الإلهي للخلاص.

v “تكلم يسوع بهذا ورفع عينيه نحو السماء“، عندما قال السيد المسيح لتلاميذه: “في العالم سيكون لكم ضيق” (يو 16: 32)، فلكي لا يزعزع نفوسهم أنهضهم بالصلاة أيضًا، لأنهم كانوا ينظرون إليه في صورة إنسان، ولأجل أولئك صلى عند إقامته لعازر، وذكر العلة “أي بسبب الجمع الحاضر”. قال: “أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي. وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي، ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا أنك أرسلتني” (يو 11: 41-42).

ولعلك تقول: نعم كان يجب حدوث هذه الأمور في حضرة اليهود، أما كونها حدثت في حضرة تلاميذه، فلماذا؟ فأجيبك: كان يجب حدوثها أمام تلاميذه، لأن الذين قالوا: “الآن نعلم أنك عالم بكل شيء، ولست تحتاج أن يسألك أحد” (يو 16: 30) احتاجوا أن يحقق لهم ذلك أكثر من كل الناس. ولسبب آخر وهو أن البشير لم يدعو فعل السيد المسيح صلاة، لكنه قال: “ورفع يسوع عينيه إلى فوق” (يو 11: 41) وخاطب أباه بقولٍ أكثر اختصاصًا.

وقول السيد المسيح للآب: “قد أتت الساعة، مجد ابنك، ليمجدك ابنك” أرانا أيضًا أنه جاء إلى صليبه ليس كرهًا، لأنه كيف يكون كرهًا وهو يبتهل أن يتحقق ذلك، ويسمي ذلك شرفًا ومجدًا ليس للمصلوب وحده، بل ولأبيه معه، لأنه بالصليب لم يتمجد الابن وحده، بل به تمجد معه أبوه أيضًا. فإنه قبل الصلب لم يعرف حتى اليهود (الآب)، فقد قيل: “إسرائيل لا يعرفني” (إش1: 3)، أما بعد الصلب فقد ركض العالم كله نحوه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v لو أن الابن قد مات (بالجسد) ولم يقم، فإنه بلا شك لا يكون قد تمجَّد بواسطة الآب، ولا هو مجَّد الآب. الآن إذ يتمجد بقيامته بواسطة الآب، يمجد الآب بالكرازة بقيامته. انكشف هذا الأمر بترتيب الكلمات عينه: “مجد ابنك، ليمجدك ابنك أيضًا“. بمعنى: أقمني حتى بي يعرفك العالم كله.

القديس أغسطينوس

يرى القديس أغسطينوس أن الكلمة اليونانية للمجد (دكصا) تفسر في اللاتينية clarifica أو يجعل الأمر ساطعًا. فعندما يكشف الابن عن الآب ويظهر حقيقته، تتعرف الخليقة على حقيقة بهائه فتسبحه. [من هنا قيل في الكتاب المقدس: طوبى للذين يسكنون في ديارك، يسبحونك إلى أبد الأبد” (مز ٨٤: ٤). يستمر التسبيح لله بلا نهاية، حيث توجد معرفة الله الكاملة. وبسبب كمال المعرفة يوجد البهاء والمجد.]

“إذ أعطيته سلطانًا على كل جسد،

ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته”. (2)

إذ هو الابن الوحيد الجنس ينسب سلطانه للآب، بكونه المولود منه، وهو في هذا لا يحمل سلطانًا من مصدر خارجي، لأنه واحد معه في الطبيعة الإلهية والجوهر الإلهي. وبكونه قبل في طاعة أن يتمم خلاصنا ومصالحتنا مع الآب حسب أنه نال منه السلطان. هذا السلطان يختلف عن سلطان ملوك العالم ورؤسائه. سلطانه أن يصالح البشرية مع الآب، ويهبهم البنوة بروحه القدوس، فيصيروا كمن في قرابة، بهذا سلطانه يهب الحياة الأبدية. وهو الحياة الأبدية ذاتها كابن الإنسان تقبل الحياة الأبدية نيابة عن البشرية لكي بحبه يسكبها في كل بشر.

أعطيته“: قيل عن القديس يوحنا أنه مُغرم بالفعل “يعطي“، فقد تكررت في هذا السفر 76 مرة، وجاءت في هذه الصلاة 17 مرة، منها 13 مرة عن عطاء الآب للابن، وأربع مرات عطاء الابن لتلاميذه. تكرار هذا الفعل يحمل معانٍ كثيرةٍ في ذهن الإنجيلي. فإنه إذ يتحدث عن الكلمة الإلهي بكونه ابن الله الوحيد الجنس يرى الآب يلد الابن أزليًا فيعطيه كل ما له، لأنه يحمل ذات الجوهر، فهو يعطي ليس بالمنحة أو الهبة أو النعمة المقدمة كما من الخارج، لكنه عطاء الآب للابن وهما أقنومان متمايزان لكنهما جوهر واحد. إنه عطاء لا يمكن إدراكه ولا التعبير عنه، لا يخضع للزمن، ولا للتغيير بالنقص أو الزيادة. كل ما للآب فهو للابن، وما للابن فهو للآب من حيث السمات الإلهية. خلال هذا السرّ الإلهي الفائق يرى الإنجيلي أن الابن وقد تجسد يفيض بالعطاء خلال النعمة الإلهية كهبة لمؤمنيه. هذا العطاء مجاني، مقدم من الآب والابن والروح القدس. كل عطية إلهية تقدم لنا من الآب بالابن في الروح القدس كما يكررالقديس كيرلس الكبير.

إن كان يحلو للكنيسة في أغلب ليتورجياتها أن تردد لقب “محب البشر” إنما لتؤكد أن مسرة الثالوث القدوس هي في العطاء المستمر للبشر دون توقف، حتى يحملوا أيقونة المسيح، ويتمتعوا بالعرس السماوي معه أبديًا.

كلمة “جسد” هنا يعني بها “الإنسان” ككل (تك ٦: ٣)، فهو صاحب سلطان على البشرية، على الأجساد كما الأرواح. فإذ يقدم نفسه ذبيحة مرة واحدة يصالح الكل مع الله، إذ ذاق الموت بنعمته عن كل أحدٍ (عب ٢: ٩). بكونه المسيا مخلص العالم الذي صار إنسانًا لتحقيق الخلاص نال من الآب سلطانًا عامًا على كل جسد، أي على كل الجنس البشري، حتى بتقديس ذاته لهذا العمل يصالح الكل مع الآب. بنعمته ذاق الموت من أجل كل أحدٍ (عب ٢: ٩). بهذا تحقق الوعد بأن ينال المسيا ميراثًا جامعًا (مز ٢: ٨) يضم الأمم مع اليهود (٢ كو ٥: ١٤-١٥؛ رو ٥: ٢١؛ ١ تي ٢: ٤-٦). سلطان السيد المسيح على كل البشر، أما الحياة الأبدية فيهبها للمؤمنين الذين يعطيهم الآب لابنه ميراثًا أبديًا. إنه صاحب سلطان على بني البشر ليهب حياة لأبناء الله، ويجعل كل شيء هو لهم (٢ كو ٤: ١٥)، كل الوعود الإلهية هي من أجلهم.

في صلواته من أجل نفسه لكي يمجده الآب حمل حبًا للآب كما لنا، لأن مجده هو مجد لأبيه، وفيه نتمتع بشركة أمجاده، ونختبر قوة قيامته، وتصعد قلوبنا معه لتحمل بهاء مجده!

لم يقل “سيعطي” بل قال: “يعطي“، فعطاء الابن لنا؛ أو تقديم ذاته هبة لنا هي عطية حاضرة الآن؛ نقبلها ونعيشها ونتمتع بها وننمو فيها، حتى ننعم بها بصورة أعظم وأبهى يوم لقائنا معه وجهًا لوجه.

v إن قلت: وما هو معني قول السيد المسيح: “إذ أعطيته سلطانًا على كل جسد“؟ أجبتك: قد أظهر مقدمًا أن الكرازة به ليست مقصورة على اليهود وحدهم، ولكنها تمتد إلى العالم كله. هنا يعلن مقدمًا الدعوة الأولي للأمم (بعد رفض اليهود له). فقد سبق فقال: “في طريق الأمم لا تمضوا” (مت 5:5)، لكن اقترب الوقت الذي يقول فيه: “اذهبوا وتلمذوا كل الأمم” (مت 28: 19). لقد أظهر أن الآب يريد ذلك.

هذا الأمر كان يعارض اليهود تمامًا، ويعارض التلاميذ أيضًا. فإنه حتى بعد هذا لم يكن سهلاً أن يقبلوا إعلان الدعوة للأمم إلى أن نالوا تعليم الروح، لأن ذلك فيه عثرة ليست بقليلة لليهود.

v ماذا يعنى “كل جسد“؟ بالتأكيد لم يؤمن الكل، لكن من جانبه هو قدم لكي يؤمن الكل، فإن لم يبالِ الناس بكلماته، فالخطأ ليس من جانب المعلم، بل من جانب الذين لم يقبلوا كلماته.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“وهذه هي الحياة الأبدية،

أن يعرفوك أنت الاله الحقيقي وحدك،

ويسوع المسيح الذي أرسلته”. (3)

الحياة الأبدية“: إذ يقدم المسيح نفسه ذبيحة يبطل مفعول الخطية وهو الموت، ويثبت في المؤمنين وهم فيه، فيتمتعوا به بكونه الحياة التي لا تُقاوم. به يعبر المؤمن فوق حدود الزمن، فتتمتع النفس بالخلود في السماء، ويتمجد الجسد حاملاً طبيعة جديدة لائقة بالأبدية. دُعي الخلاص المقدم من السيد المسيح حياة أبدية للأسباب الآتية:

أولاً: صار للمؤمن حق الوقوف أمام العدالة الإلهية متحصنًا بذبيحة المسيح التي تحميه من الموت الأبدي.

ثانيًا: صار للحياة حتى في العالم الحاضر طعمها الخاص ورسالتها، حيث يبث المؤمن في الآخرين روح السعادة والفرح والسلام الداخلي خلال عمل السيد المسيح الخلاصي.

ثالثًا: حياة أبدية، لأنها تتعدى حدود الزمن، وتتحدى الموت.

رابعًا: تكشف عن خلود المؤمن نفسًا وجسدًا.

“أن يعرفوك”: المعرفة هي طريق الحياة الأبدية، معرفة الآب الإله الحقيقي وحده، والعبادة له، والطاعة، وقبول السيد المسيح المعلم والذبيحة والكاهن والمخلص، المسيح الحقيقي وحده.

الإله الحقيقي“: الله ليس اسما مجردًا أو فكرة في الذهن، لكنه الإله الحقيقي الذي ينشغل بخليقته، ويهتم بخلاص بني البشر، العملي في حبه اللانهائي. هذا الذي في حبه الإلهي أرسل ابنه الوحيد خلاصًا للبشر. إنها ليست معرفة عقلانية مجردة، لكنها معرفة اختبار وتذوق لخطة الله الخلاصية. إنها تجاوب مع هذه الخطة، فيقبل المؤمن يسوع المسيح ربًا وفاديًا ومعلمًا ومشبعًا لكل احتياجاته. قبول عملي لإرسالية السيد المسيح الإلهية. فيتمتع المؤمن بتجديد حياته المستمر خلال عمل روح الله القدوس. بهذا فإن المعرفة هي حياة وشركة مع من نتعرف عليه. ما قيل عن الله الحقيقي وحده لا يحمل هنا تعارضًا مع يسوع المسيح، إنما مع العبادة الوثنية وتعدد الآلهة.

يترجم البعض هذا النص: “لكي يعرفوك، ويسوع المسيح الذي أرسلته، الإله الحقيقي وحده“.

يرى القديس أمبروسيوس أن المؤمن أشبه بتاجرٍ ناصحٍ يتقدم إلى مائدة الصيارفة الروحية ليقدم الوزنات والتمسك بالوعود الإلهية مقابل تمتعه بالحياة الأبدية المجانية، فينعم بالمعرفة الإلهية الحقيقية.

v هذه هي كلمة الرب، هذه هي الوزنة الثمينة التي بها تخلصون. هذا المال يلزم أن يُرى على مائدة النفوس حتى بالتجارة الدائمة الصادقة للعملات الصالحة يمكن التنقل في كل مكان بشراء الحياة الأبدية. “هذه هي الحياة الأبدية” التي تهبها لنا أيها الآب القدير مجانًا، لكي نعرف أنك “أنت هو الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته” (3).

v بهذا يضع النهاية لأتباع سابيليوس (الذين يدعون أن الأقانيم الثلاثة مجرد ثلاثة أسماء أو أشكال لأقنومٍ واحدٍ) ولليهود، هؤلاء الذين سمعوه يتكلم. فالأولون يلزمهم ألا يقولوا أن الآب هو ذاته الابن، إذ كان يمكنهم هذا لو لم يُضف “المسيح” إلى العبارة، والآخرون يلزمهم ألا يفصلوا الابن عن الآب.

v تقول الكتب المقدسة أن الحياة الأبدية تستند على معرفة الإلهيات وعلى ثمر الأعمال الصالحة.

القديس أمبروسيوس

v “الإله الحقيقي وحدك“، يقول ذلك بطريقة ما لتمييزه عن الذين ليسوا بآلهة، إذ كان على وشك أن يرسلهم إلى الأمم… أما إذا لم يقبل (الهراطقة) هذا، بل بسبب كلمة “وحده” يرفضون أن يكون الابن هو الله الحقيقي، فهم بهذا يرفضون كونه الله نهائيًا… لكن إن كان الابن هو الله، وهو ابن الله الذي يدعى “الإله وحده“، فمن الواضح أنه هو أيضًا الإله الحقيقي وأن “وحده” توضع للتمييز عن الآخرين.

لو أن الابن ليس هو الإله الحقيقي فكيف يكون هو “الحق”؟ ،لأن الحق يفوق بمراحل “الحقيقي”.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v أولاً: لا توجد حياة أبدية في الاعتراف بالله الآب بدون يسوع المسيح.

v ثانيًا: يتمجد المسيح في الآب. فالحياة الأبدية بكل دقة هي أن نعرف الإله الحقيقي وحده ونعرف ذاك الذي أرسله، يسوع المسيح.

v إذن يتمجد الآب بالابن الذي عرفناه به.

المجد هو هذا أن الابن، إذ صار جسدًا، قبل منه سلطانًا على كل جسد، مع القيام بإعادتنا للحياة الأبدية…

ولكن ماذا تحتوى أبدية الحياة؟ تخبرنا كلماته: الحياة هي “أن يعرفوك” الإله الحقيقي وحده ويسوع المسيح الذي أرسلته. هل يوجد أي شك أو أية صعوبة هنا أو أي تضارب؟ الحياة هي أن تعرف الإله الحقيقي وحده.

القديس هيلاري أسقف بواتييه

“أنا مجدتك على الأرض،

العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته”. (4)

يعلن السيد المسيح أنه قد جاء لا لكي يستريح بل ليعمل طول نهاره حتى يكمل عمل الخلاص. وإذ يحملنا فيه لا نعرف الراحة إلا في العمل المستمر، حتى نتمم خلاصنا بخوفٍ ورعدة ٍ(في 2: 12). لن نسلك بأنصاف الحلول، بل كل الوقت لحساب خلاصنا.

أنا مجدتك“: لقد حسب ربنا يسوع أن عمله الخلاصي قد تم فعلاً، إذ أحنى رأسه لقبول الكأس بالحب ليحمل خطايانا في جسده ويقدم نفسه ذبيحة عنا، وكأنه قد تمم رسالته. يتحدث مع الآب أنه أكمل العمل الذي تسلمه من يديه، متطلعًا إلى انتشار الإنجيل في العالم، وتعرف المؤمنين على محبة الله الآب الحقيقي، والتمتع بالاتحاد معه، وتعبد المؤمنين له. لقد مجَّد الآب لأنه سرَّه وتمم عمله الكامل، وفي هذا سرور أيضًا للابن ومجد له.

لم نرَ السيد المسيح يشكو من حياته التي رافقها الصليب منذ الحبل به؛ ولا مما عاناه كابن البشر من إهانات واتهامات وآلام وتجارب، لأنه جاء إلى العمل ليمجد الآب بإعلان الحب الإلهي العملي لكل بشر. وهو في طريق الجلجثة لا يشغله إلا تحقيق إرادة الآب التي هي واحدة مع إرادته. ونحن إذ نتحد به نعبر فوق كل الأحداث وكل الآلام لنهتم بمجد الله فينا وفي اخوتنا ونكمل رسالتنا لحساب ملكوت الله. لم يأتِ السيد المسيح إلى العالم ليعبر طريقًا مفروشًا بالورود، وإنما ليجد مسرته في تحقيق كل برّ، كما يجد الآب مسرته فيه، لأنه يخبر عنه عمليًا، ويحقق خطته من نحو الإنسان. لقد تمم السيد المسيح عمل الآب وإرادته لنتمتع بالخلاص، والآن لا يزال يتممه فينا لكي يتجلى في داخلنا فنشاركه أمجاده.

بذات الروح يليق بالخدام، وهم يتمتعون بإمكانية الله لتحقيق خطته الإلهية للخلاص، أن يتطلعوا إلى البشرية بمنظار الرجاء في خلاص الكثيرين. يليق بنا نحن كأعضاء في جسد المسيح أن نمجد الآب بأن نتمم إرادته وعمله قدر استطاعتنا. نمجده على الأرض التي أعطاها لبني البشر كإعدادٍ للعبور إلى الأبدية. يليق بنا أن نثابر حتى النفس الأخير لنتمم العمل الإلهي.

v قال السيد المسيح للآب: “أنا مجدتك على الأرض”، لأنه قد تمجد في السماء، إذ له المجد في طبيعته، وملائكته ساجدون له، فهو لم يتحدث عن ذلك المجد الذي للآب في جوهره… إنما يذكر المجد القائم من عبادة الناس له…

قال: “العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته”. فإن قلت: إن كان عمل السيد المسيح لم يكن قد أكمل، فكيف يقول: “قد أكملته“؟ أجيبك: إما يعني أنه عمل ما يخصه كله من جانبه، وإما يتحدث عما سيكون كأنه قد حدث. وإما فوق هذا كله أن الكل قد أُنجز، لأن جذر البركات قد أعد، وأن الثمار حتمًا تتبعه بالضرورة، وذلك بحضوره ومساندته في هذه الأمور التي تتحقق فيما بعد. لهذا يقول مرة أخري في تنازل: “العمل الذي أعطيتني”.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v أي شيء لم تتقبله الطبيعة البشرية في الابن الوحيد؟ ألم تتقبل هذا، أنها لن تصنع شرًا بل كل خير، باتحادها بشخص الكلمة الذي به كان كل شيء؟ لكن كيف أكمل العمل المعهود إليه بينما كان قد بقي بعد دخوله في الآلام الذي به يسند الشهداء، مقدمًا نفسه مثالاً يقتدون به؟ لهذا يقول بطرس الرسول: “فإن المسيح أيضًا تألم لأجلنا تاركًا لنا مثالاً لكي تتبعوا خطواته” (١ بط ٢: ٢١). وإنما يقول أنه أكمل ما قد عرف بتأكيد تام أنه يتممه. وذلك كما استخدم سابقًا في النبوة صيغة الماضي عن أمور تحدث بعد سنوات طويلة. إذ يقول: “ثقبوا يدي رجلي، وأحصوا عظامي” (مز ٢٢: ١٦، ١٧). لم يقل: “سيثقبوا وسيحصوا”… هكذا يقول هنا كما لو أنه هو أولاً مجد الآب، ويطلب أن يتمجد. لذلك يلزمنا أن ندرك أنه استخدم كل الكلمات السابقة الخاصة بالمستقبل… وصاغها في الماضي.

القديس أغسطينوس

“والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك،

بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم”. (5)

لأجلنا أخلى ذاته عن مجده، ولأجلنا تمجّد، نال من الآب الكرامة والمجد (1 بط 17:1)، المجد الذي كان له من قبل تأسيس العالم (يو 5:17).

يضع ربنا يسوع، ملك الملوك، التيجان الملوكية على رؤوس مؤمنيه الأتقياء بيده. ما من درجة من الكرامة مهما علت لا يمكن للَّه أن يرفعنا إليها إن أراد ذلك؛ فهو يرفع المسكين من المزبلة، ويقيمه وسط الأشراف “الملوك الروحيين” (مز 7:113-8). فقد أخذ الرب داود من بين أغنامه، وأقامه ملكًا متوجًا على أعظم عرش في المسكونة كلها في ذلك الحين. في استحقاقات الدم الثمين وهبنا ربنا يسوع المسيح روحه القدوس، الذي يشكل إنساننا الداخلي لنحمل شركة المجد والبهاء بصورة فائقة.

يحمل مجد الابن كرامات وسلطانًا وأفراح من أجل تحقيق إرادة الآب وإتمام العمل. هذا المجد الذي يسأله هو مجده من قبل تأسيس العالم:

أولاً: مجد أزلي، شريك مع الآب في المجد، فهو بهاء مجده (عب ١: ٣)؛ لا ينفصل عنه. ورد تعبير “قبل تأسيس العالم” وأمثاله في الكتاب المقدس ليعني الأزلية (يو ١٧: ٢٤؛ مز ٩٠: ٢؛ أف ١: ٤؛ يو ١: ١).

ثانيا: بتأنسه أخلى الكلمة الإلهي ذاته عن مجده، كمن يضع حجابًا يغطي به بهاءه، لكن الحجاب لم يغير من طبعه، ولم ينزع عنه حقيقة مجده الأزلي. إن كان الآب قد تمجد بالابن بتجسد الابن وتنازله حتى الصليب لتحقيق الخلاص، فإن تنازل الابن لن يفقده مجده.

ثالثًا: عاد فارتدى مجده والتحف به، ليفتح لنا طريق المجد السماوي. فباتحادنا بالسيد المسيح الممجد للآب ننعم بشركة المجد في الدهر الآتي.

يطلب الابن أن يلتحف بالمجد الذي له منذ الأزل قبل خلقة العالم، فيتمتع الناسوت الذي التحف به ببهاء القيامة من الأموات والصعود إلى السماء، إذ له سلطان أن يضع حياته بالموت ويأخذها بالقيامة، لأنه هو القيامة. يعلن الآب مجد الابن في قيامته وصعوده وجلوسه عن يمينه في الأعالي، فوق كل خليقة (في ٢: ٦-٩). هذا ما أعلنه إشعياء النبي بكل وضوح: “أما الرب فسُرَّ بأن يسحقه بالحزن؛ إن جعل نفسه ذبيحة إثم يرى نسلاً تطول أيامه ومسرة الرب بيده تنجح… لذلك أقسم له بين الأعزاء ومع العظماء يقسم غنيمة، من أجل أنه سكب للموت نفسه، فأُحصي مع آثمة، وهو حمل خطية كثيرين، وشفع في المذنبين” (إش ٥٣: ١٠-١٢). هكذا يُسر الآب بالصليب لأنه به تصير البشرية المؤمنة غنائم يحملها المصلوب إلى العرش الإلهي مبررة وممجدة فيه. إنه مجد الآب، وهو مجد الابن واهب البرّ، ومجد البشرية التي تشاركه مجده السماوي! لكنه إذ يحقق مشيئة الآب يقبل الألم كإرادة أبيه، ويقبل القيامة حسب مسرة أبيه.

هذا هو مجد الابن المتجسد، إنه لا ينال مجدًا من الخارج، لكن من الذي له أزليًا ينعكس على ناسوته. إنه لم يطلب أن يتمجد مع رؤساء هذا العالم وسلاطينه. فقد قدم له إبليس في التجربة ممالك العالم فرفض، حتى نستخف بالأمجاد الزمنية ونطلب ما هو سماوي. كأنه يقول: “لتعطي أمجاد العالم لمن يشتهيها، أما أنا فنصيبي في المجد هو معك في السماء على مستوى أزلي. لست أطلب أن أتمجد مع الناس بل معك!”

نصرخ مع مسيحنا لنطلب مجدنا لا على الأرض بل الذي “عند الآب“، أي في الأحضان الإلهية، فيتحقق فينا الوعد الإلهي: “من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي، كما غلبت أنا أيضًا، وجلست مع أبي في عرشه” (رؤ ٣: ٢٠).

v تأمل كيف لم يطلب السيد المسيح من الآب أن يمجده بالمجد الذي له على الأرض، لكنه طلب منه أن يمجده بالمجد الذي كان له عنده.

v أين هو ذاك المجد؟ إذ سمح ألا يكرم من البشر بسبب الغطاء الذي وضعه حول نفسه، فكيف يطلب أن يمجده الآب؛ ماذا يقول هنا؟ ما يقوله خاص بالتدبير، فإنه إذ لم تتمجد طبيعته الجسدية بعد، ولا نال بعد عدم الفساد، ولا شارك (جسده) العرش الملوكي. لهذا لا يقول: “على الأرض” بل “عندك”.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v وهكذا يمكنني أن أذكركم بأمور كثيرة الآن بطرق مغايرة، لكن على أي الأحوال أقدم لكم شهادة أخرى حتى تتأكدوا أن الله يدعى” أبًا البشر”في معنى غير مناسب” أي ليس بالطبيعة.

هكذا خوطب الله في إشعياء: “فإنك أنت أبونا وإن لم يعرفنا ابراهيم” (إش 16:63) و”سارة لم تتمخض بنا”.

وإذ يقول المرتل: “ليضطربوا من هيئته، أب اليتامى وقاضي الأرامل”” (مز 5:68 LXX )، أليس من الواضح للجميع أنه يدعو الله أبًا للذين فقدوا آباءهم متأخرًا، ليس لأنه ولدهم بل من أجل اهتمامه بهم وحمايته لهم؟

ولكن بينما نحن ندعو الله أبًا للبشر في معنى غير مناسب، فهو أب المسيح وحده بالطبيعة لا بالتبني.

فبالنسبة للبشر هو أب في زمان، أما للمسيح أب قبل كل زمان، إذ يقول: “والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم“.

القديس كيرلس الأورشليمي

v نفهم أن المجد الذي لناسوته من أنه وهو قابل للموت يصير خالدًا مع الآب، هذا قد تحقق بالتدبير السابق المحتم قبل وجود العالم، وقد تحقق في الوقت المعين في العالم.

القديس أغسطينوس

فاصل

طلبة عامة عن الغير ٦ – ١٠.

“أنا أظهرت اسمك للناس،

الذين أعطيتني من العالم كانوا لك،

وأعطيتهم لي،

وقد حفظوا كلامك”. (6)

طلبته الخاصة به قصيرة جدًا بالنسبة لصلاته من أجل الآخرين، لكنها تسبقها حتى ندرك حبنا لاخوتنا كما لأنفسنا. فإن كنا نطلب من أجل مجدنا الأبدي، ونعلن عن حبنا لخلاصنا، يلزمنا أن نطلب للآخرين كما لأنفسنا. احتلت الصلاة عن الآخرين مركزًا خاصًا، حتى لا تحتل صلواتنا من أجل الكنيسة وخلاص البشرية ركنًا صغيرًا في صلواتنا. لا نضَّيق قلبنا من جهة الغير، بل يتسع بالروح القدس، ليطلب بكل فيض من أجلهم.

بعد أن طلب من أجل نفسه ليس عن احتياج، إنما علامة الشركة بينه وبين الآب، والمجد المتبادل بل الواحد فيهما، الآن يطلب عن خاصته، وهم معروفون لديه بالاسم، من أجل كل الذين يؤمنون به ويقبلونه. أنه يعلمنا أننا في الصلاة نربط الحب الإلهي بالحب الأخوي. ففي طلبته عن نفسه كشف عن وحدته العجيبة مع الآب مع اتساع قلبه نحو البشرية.

إنه يريد أن الكل يخلصون وإلي معرفة الحق يقبلون، لكن في هذه الصلاة الشفاعية يقدم الذين يقبلون أن يقدمهم للآب. إنه يود أن يحمل العالم كله إلى العرش، لكنه لا يحمل أحدًا قسرًا، ولا يطلب عمن لا يقبل عمله فيه. إنه يقدم من سُجلت أسماؤهم بدمه في سفر الحياة.

أنا أظهرت اسمك للناس” (6). إن كانت الطبيعة تعلن عن الله في حدود معينة، والناموس الموسوي يعلن عنه بالأكثر، فإن تجسد الكلمة قدم إعلانًا كاملاً عن الله في محبته للبشر وسماته. إنه يصلي إلى الآب كمعلمٍ قدم لتلاميذه المعرفة الإلهية، ما تسلمه من الآب بكونه الابن العارف بأسرار أبيه قدمه لتلاميذه حتى يتعرفوا على اسمه أو شخصه. إنه يشرق عليهم بنور المعرفة، فيبدد ظلمة الجهل، فيحبوه ويعبدوه ويمجدوه. في تعليمه لم يطلب ما لنفسه مع أنه واحد مع أبيه، لكنه يطلب أن يتعرفوا على اسم الآب، فإنه لا يعرف الآب إلاَّ الابن ومن يعلن له (مت ١١: ٢٧). هو وحده القادر أن يكشف عن الحق ويدخل بتلاميذه إليه ويدخل بالحق إلى أعماقهم.

اسمك“: كان اليهود يتطلعون إلى اسم الله بوقارٍ شديدٍ، فكانوا لا يخاطرون بذكر اسمه “يهوه”، لئلا يخطئ الشخص في نطقه. وكان الكتبة عند نسخ الأسفار المقدسة يمارسون طقسًا خاصًا عند كتابة اسم الله مثل غسل القلم قبل كتابته مباشرة. كان النطق بالاسم يحمل معنى الحضور الإلهي ذاته. وقد حملت الكنيسة الأولى ذات الفكر الإنجيلي، فحسبت النطق باسم “يسوع” يحمل معنى حضرته. وكان الآباء يمارسون “صلاة يسوع” حيث يرددون اسمه إعلانًا عن شعورهم بحضوره بينهم وفي داخلهم. فالاسم ليس مجرد تمييز بين شخص وآخر بلقبٍ معين، وإنما يحمل كيانه كله. فلا نعجب إن قام نبوخذنصر بتغيير اسم متَّنيا إلى صدقيا (2 مل 24: 17). بهذا يعني أن متًّنيا صار رجل نبوخذنصر، وكل من يستخدم اسمه الجديد إنما يدرك أن كيانه مرتبط بنبوخذنصر. وعندما ولدت راحيل ابنًا وكانت في طريقها للموت دعته “ابن أوني” أي “ابن حزني”، لكن أباه رفض أن ترتبط شخصية ابنه بحزن أمه، فأعطاه اسما يملأه رجاءً وقوةً، إذ دعاه “بنيامين” أي “ابن يميني” (تك 35: 18).

أيضًا كثيرًا ما يغير الله نفسه أسماء مؤمنيه، لكي يحملوا سمات جديدة لائقة بدعوة إلهية لعملٍ معينٍ. فدعا إبرام إبراهيم إذ جعله أبًا لأممٍ كثيرةٍ (تك 17: 5). وبنفس الطريقة دعا ساراي سارة لتدرك دورها كأميرة. وأيضًا دعا يعقوب إسرائيل، فعوض أن يحمل سمة التعقب لاخوته يتمتع بسرّ قوة الله كجندي أو مصارع من أجل الله (تك 32: 28). وإذ أهان فشحور إرميا وضربه ووضعه في مقطرة غير الله اسمه إلي مجور مسابيب (إر 20: 3) إذ يحمل سمة الخوف من كل جانب، مشيرًا إلي ما سيناله من عقابٍ إلهيٍ بسبب عنفه.

هكذا أيضًا أمرنا السيد المسيح أن نتمم العماد باسم الآب والابن والروح القدس (مت 28: 19؛ أع 8: 16)، أي بالتمتع بعمل الثالوث وحضرته وسكناه في الشخص المعمد.

هكذا كثيرًا ما يستخدم الاسم في الكتاب المقدس بمعنى الشخص نفسه. فبحبنا لاسم الله إنما نعلن عن حبنا لشخصه وكيانه.

“الذين أعطيتني من العالم كانوا لك”: يقصد بالذين أعطيتني مبدئيًا التلاميذ الذين قبلوه، لكن الأمر يمتد ليشمل كل الذين يقبلونه عبر الأجيال ويسمعون كلماته ويتجاوبون معها. مع معرفتهم بأسمائهم لم يذكر اسمًا ما منهم، بل طلب باسم الجميع. يكرر كلمة “أعطيتني” ليقصد بهم الذين صاروا للمسيح خلال الإيمان به. ينسبهم لله أبيه، ويقدمهم الآب له كعطية ليكونوا ورثة المسيح. بالصليب يقدمهم السيد المسيح للآب مبررين متأهلين للمصالحة معه، والآب بدوره يقدمهم للابن كأعضاء جسده لهم حق الميراث الأبدي.

يُنسبون لله الآب بكونهم خليقته الذين نالوا الحياة بابنه، وبكونهم البقية الباقية الأمينة التي تقدست بدم المسيح، وبكونهم المختارين من قبله.

حفظوا كلامك“، أي ثبتوا فيه واستمروا فيه وعملوا به، تُحفظ الوصية بقبولها داخل القلب ويُختم عليها بممارستها عمليًا. ليظهر التزامنا بدقة التعليم، يقول أنه يعطيهم الكلمات التي أعطاها له الآب. هكذا يليق بنا أن نقدم ذات الكلمات التي قدمها لنا السيد المسيح، والتي أوحى بها روحه القدوس على تلاميذه ورسله القديسين. لقد أودع هذه المعرفة الحية في حياة تلاميذه ورسله الذين اختارهم. هؤلاء يحفظون الكلمة، إذ يتقبلون في حياتهم الكلمة المتجسد، وإن كان العالم يرذلهم ويقاومهم.

v قال السيد المسيح للآب: “أنا أظهرت اسمك للناس”، إذ أظهر اسمه بأقواله وأفعاله.

وقال: “الذين أعطيتني من العالم” كما قال قبلاً: “لا يقدر أحد أن يأتي إليَّ إن لم يُعط منه” (راجع 6: 65) “إن لم يجتذبه أبي”. هكذا يقول هنا “الذين أعطيتني”. الآن يدعو نفسه “الطريق”، حيث يؤسس بما يقوله هنا أمرين: أنه لا يعارض الآب، وأن إرادة الآب هي أن يودعهم لدى الابن. “كانوا لك، وأعطيتهم لي“. هنا يريد السيد المسيح أن يوضح أن أباه يحبه حبًا عظيمًا، لأنه لم يتوسل إليه أن يعطيه إياهم.

وقال: “وقد حفظوا كلامك“، كأنه يقول: حفظوه بأنهم صدقوني.

القديس يوحنا الذهبي الفم

يتساءل القديس أغسطينوس: هل الذين كانوا للآب لم يكونوا للابن؟ حتمًا من هم للآب هم للابن أيضًا، فلماذا يقول: “كانوا لك، وأعطيتهم لي” (٦)؟ كانوا للآب كما للابن الكلمة، وإذ جاء للعالم متجسدًا قبلوا الابن المتجسد فصاروا تلاميذ له. لم يقل: “كانوا لنا” لأن الابن وهو من الآب ينسب السلطان للآب.

“والآن علموا أن كل ما أعطيتني هو من عندك”(7).

v لو جاز أن سأل أحد السيد المسيح: ومن أين علموا ذلك؟! لأجاب: من أقوالي، لأنني علمتهم هذا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v عندما قال: “وعلموا يقينًا” (٧) أراد أن يفسرها: “وآمنوا” (٨).

القديس أغسطينوس

“لأن الكلام الذي أعطيتني قد أعطيتهم،

وهم قبلوا وعلموا يقينًا إني خرجت من عندك،

وآمنوا أنك أنت أرسلتني”. (8)

ما يقدمه السيد المسيح لتلاميذه هو التعليم الإلهي السماوي، أما جوهره فهو اكتشاف شخصيته أنه من عند الآب خرج.

يدرك المؤمنون أن السيد المسيح هو الكلمة الإلهي المتجسد، تعاليمه هي حقائق إلهية، ووصاياه شريعة سماوية، ووعوده صادقة وأمينة لأنها إلهية.

أعطيتهم الكلمات والتعاليم التي لك، فصار لهم التعليم النقي الصادر مباشرة من السماء، والذي لا يمتزج بتعاليم بشرية مفسدة لكلمة الحق.

لقد تأكدوا في يقين إني المسيح الموعود به، وها هم لا يطلبون آخر، إنهم يتمتعون بعملي الإلهي وتعاليمي السمائية.

“من أجلهم أنا أسأل،

لست أسأل من أجل العالم،

بل من أجل الذين أعطيتني لأنهم لك”. (9)

لقد قدم حياته مبذولة من أجل العالم كله، لكنه إذ يصلي أو يشفع بدمه إنما يقدم الذين قبلوه ويؤمنون به. إنه يموت من أجل العالم كله، لكن الرب يعرف تمامًا من يُصرون على رفضه، فهم ليسوا له. لذلك فإن عينيه على وجه الخصوص على الذين أُعطوا له من العالم. أما الذين يصرون على رفضه فيبقون في العالم كالتبن الذي تهب الرياح فتبدده، أو يُلقى في النار، إنه تبن بلا قيمة.

إنه لا يشفع فيمن صمموا أن يملأوا كأس الشر والتمرد وعدم الإيمان، ليس لعدم حبه لهم، وإنما لرفضهم عمله فيهم. إنه لم يقل: “إني أطلب ضدهم”، فهو لا يحمل كراهية، إنما هم الذين يبغضونه ولا يقبلونه. أما نحن فإذ لا نعرف من هم للرب ومن هم ليسوا للرب، ولا نستطيع أن نحكم على أحدٍ، لذلك نلتزم بالصلاة من أجل كل الناس (١ تي ٢: ١، ٤). فحيث يوجد نَفًسْ واحد في إنسان ما نترجى خلاصه، وبهذا الرجاء تجد الصلاة لها مكانًا، فنردد ما يقوله صموئيل النبي: “وأما أنا فحاشا لي أن أخطئ إلى الرب فأكف عن الصلاة من أجلكم بل أعلمكم الطريق الصالح المستقيم” (١ صم ١٢: ٢٣).

لقد كرس السيد المسيح إمكانياته الإلهية لحساب مختاريه لكي يتأهلوا للكرازة بإنجيله في العالم كله. ويصلي من أجل بني البشر الذين يحملهم فيه أبناء لله، لهم حق الشركة في الميراث، ولم يذكر أنه يصلي من أجل السمائيين.

بالحب المتبادل في طاعة للآب يقدم الابن المتجسد دمه ثمنًا لخلاص البشر، وفي حب للابن يقدمهم الآب للابن عروسًا مقدسة. يتقبل الابن هذه العطية من الآب التي لحساب البشر، حيث يُحسبون الأواني المكرمة.

الذين قبلوا كلمة السيد المسيح وآمنوا بها دخلوا في ميثاق جديد مع الآب، فحسبهم السيد المسيح أنهم للآب، إذ يقول: “إنهم لك“. وهم عطية الآب للابن، إذ أعلن الآب محبته للبشر ببذل ابنه الوحيد الجنس، وإذ تقبلهم الابن كعطية من أبيه حسبهم للآب، إنهم باكورة الله (رؤ ١٤: ٤). خلال الوحدة الحقيقية نُحسب للابن كما للآب، إننا شعب الله الآب، وشعب المسيح.

v “من أجلهم أنا أسأل (أصلي)” (9).

هل أنت تُعلِم الآب (بأمورهم) كما لو كان جاهلاً؟

هل تتحدث معه كما مع إنسان بلا معرفة؟…

ألا ترون أن هذه الصلاة ليست إلا لكي يفهموا حبه لهم؟ فإن الذي ليس فقط يعطي ما له، بل ويطلب من آخر أن يفعل ذات الشيء، إنما يظهر حبًا أعظم.

ماذا إذن “أنا أسأل من أجلهم“؟ يقول: “لست أسأل من أجل العالم، بل من أجل الذين أعطيتني“. إنه يضع على الدوام “أعطيت” لكي يدركوا أن هذا يحسبه الآب أمرًا صالحًا.

ولأنه علي الدوام كان يقول: “لأنهم لك” و”أنت أعطيتني إياهم“، فلكي ينزع أي شك شرير، ولئلا يظن أحد أن سلطانه حديث، وأنه نال ذلك حديثًا، ماذا قال؟ “وكل ما هو لي فهو لك، وما هو لك فهو لي” (10).

القديس يوحنا الذهبي الفم

v يضيف “لأنهم لك” (9). فإن الآب لم يفقد الذين أعطاهم للابن، حيث أن الابن يستمر قائلاً: “كل ما هو لي فهو لك، وما هو لك فهو لي” (10). واضح بما فيه الكفاية كيف أن كل ما يخص الآب يخص الابن أيضًا.

القديس أغسطينوس

“وكل ما هو لي فهو لك،

وما هو لك فهو لي،

وأنا ممجد فيهم”. (10)

من بين ما للابن هو الشعب المقدس بدمه، فهو أيضًا للآب. حقًا يمكن لأية خليقة أن تقول للآب: “كل ما هو لي فهو لك”، لكن السيد المسيح وحده الواحد معه في ذات الجوهر يمكنه القول: “وما هو لك فهو لي، وأنا ممجد فيهم“، فهما واحد ومتساويان في القدرة والسلطان والمجد. ليس بين الآب والابن أي نزاع، ليس بينهما “هذا لك وذاك لي” كما يحدث بين البشر. فمنذ الأزل الآب ولد الابن كالنور من النور، الآب للابن، والابن للآب، لهما جوهر واحد، وطبيعة واحدة. من هم للآب بالضرورة هم للابن. ومن يقتني الابن ويتعرف عليه يقتني الآب ويدرك أسراره. كل ما قدمه الابن من بركات للخلاص، إنما هي لمجد الآب، كأنما قدمها منه.

ليس لدى الابن شيء ما ليس لحساب أبيه، ولا ما لدى الآب ليس من عمل ابنه، لأنه هو قوة الآب وحكمته وكلمة قدرته. إذ صرنا أعضاء في جسد المسيح يقدمنا الرأس إلى الآب بكوننا له، إذ يتمجد الآب فينا، خلال ما ننعم به في المسيح من استماع للكلمة وطاعة وشهادة حقة للحب الإلهي وعمل لحساب ملكوته. ما نفعله باسم المسيح، إنما نمارسه بقيادة روحه القدوس لمجد الآب كما الابن والروح القدس.

أنا ممجد فيهم“: يعلن السيد المسيح مقدمًا عن نجاح كرازة تلاميذه، خلالها يتمجد المسيح في المؤمنين به في العالم. السيد المسيح ممجد في مؤمنيه الذين يسمعون له، ويطيعونه، ويعملون باسمه، ويكرزون بنعمته؛ هذا المجد مقدم للآب أيضًا.

يطلب السيد المسيح من أجل المؤمنين به، لأنه هو صاعد إلى السماء، آتٍ إلى الآب، وتبقى أعضاء جسده، أي المؤمنون، تمجد الآب، وتشهد له، خلال حملها لاسم المسيح. لقد كرز التلاميذ، وصنعوا آيات باسم المسيح، والروح القدس الساكن فيهم مجَّد المسيح (يو ١٦: ١٤)، وهو ينسب للآب أيضًا.

v ألا ترون المساواة في الكرامة؟ فلئلا عند السماع: “أعطيتني” يبدو لكم أنهم قد تحولوا عن سلطان الآب، أو كانوا قبل ذلك خارج سلطان الابن، لذلك أزال هاتين الصعوبتين بقوله هذا…

لهذا فإن القول: “أعطيتني” قيل من قبيل التنازل، لأن ما للآب هو للابن، وما للابن هو للآب. هذا ما لا يمكن أن يقال عن ابن بالنسبة للبشر، ولكن لأنهما (الآب والابن) هما على مستوي المساواة في الكرامة…

عندئذ قدم السبب والبرهان بقوله: “وأنا ممجد فيهم“، بمعنى إما “أنا لي سلطان عليهم” أو “هم سيمجدونني ويؤمنون بك وبي ويمجدوننا بالتساوي”…

كيف يتمجد (هو والآب) فيهم بالتساوي؟ لأن الكل يموتون من أجله كما من أجل الآب، ويكرزون به كما يكرزون بالآب، وإذ يقولون أن كل الأشياء صنعت باسمه، هكذا باسم الابن أيضًا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v “وأنا ممجد فيهم” (10). يحدث الآب عن تمجيده كأنه قد تم، مع أن ذلك حدث في المستقبل. منذ قليل طلب من الآب أن يحقق مجده… بقوله أنه قد تحقق فعلاً، مظهرًا أنه قد تم تدبير ذلك فعلاً، وأراد أن يظهر أنه ما سيتحقق في المستقبل هو أمر أكيد.

القديس أغسطينوس

فاصل

طلبة من أجل حفظهم ١١ – ١٦.

“ولست أنا بعد في العالم،

وأما هؤلاء فهم في العالم،

وأنا آتي إليك.

أيها الآب القدوس احفظهم في اسمك.

الذين أعطيتني ليكونوا واحدًا كما نحن”. (11)

ولست أنا بعد في العالم” كأنه يقول: إنني علي وشك أن أترك العالم حسب الجسد، فهم محتاجون إلى عونٍ خاص ومساندة. محتاجون أن أقدمهم لك لكي تحفظهم في الحق.

إذ يطلب من أجل حفظهم يدعو الله: “أيها الآب القدوس“. عطيته الثمينة لأبنائه هي القداسة، ليصيروا قديسين كما هو قدوس. إنه يبغض الخطية، لذا يحوط بأبنائه كي لا تتسرب إليهم، وهم بدورهم كأبناء له لا يطيقوا الخطية، ويرتعبون منها كأخطر عدو يواجههم.

“احفظهم في اسمك”: إذ ينتسب المؤمنون إلى الله القدوس، فمن أجل كرامة اسمه يحفظ أبناءه، وليس لأجل استحقاقهم الذاتي. إذ هو صاعد إلى السماء عند الآب يحمل أسماء مؤمنيه كما على الصدرة، كرئيس الكهنة الأعظم السماوي، يدخل بهم إلى العرش، يحمل لهم كل حبٍ وحنوٍ. لن ينساهم فإن أسماءهم منقوشة على كفه، مختومة على صدره، قائمة داخل قلبه. لقد سبق فأخبر بطرس الرسول أنه سأل من أجله حتى لا يسقط في الخطر المحدق به وهو لا يعلم (لو ٢٢: ٢٣)، قائلاً: “طلبت من أجلك”. وهو المخلص يطلب عن تلاميذه لكي يحفظهم الآب بلا عثرة كل أيام حياتهم، ويكونوا دومًا تحت رعايته ووصايته الأبوية، حتى نشاركه ذات الحب، فلا نكف عن الصلاة الدائمة لأجل خلاص الكثيرين وبنيان النفوس وحفظها ونموها في الرب.

إذ يعلن الابن أن الآب أعطاه المختارين ليكونوا له، حيث يقدم الابن دمه كفارة عن العالم كله، يعود يقدم الابن بالحب هؤلاء المؤمنين إلى الآب القدوس، سائلاً إياه: “احفظهم في اسمك“. لم يطلب لهم الغنى، ولا المجد الزمني، ولا النصرة الأرضية، لكنه يطلب منه أن يحفظهم في اسمه من الخطية والعالم الشرير، حتى يجتازوا أيام غربتهم، ويبلغوا إلى حضن الآب. يطلب حفظهم في الوصية الإلهية في اسم الآب، مع التمتع بروح الوحدة.

الذين أعطيتني ليكونوا واحدًا كما نحن“. يربط السيد المسيح بين القداسة والوحدة الحقيقية، فحيث توجد القداسة يُوجد الحب الفائق الذي يوّحد، وحيث توجد الخطية يُوجد الحسد والخصام والبغض والانقسام. من ينعم بالقداسة التي من فوق يتمتع بالوحدة على مستوى علوي، فيصير القديسون واحدًا متشبهين بالوحدة بين الثالوث القدوس.

إذ يطلب من الآب أن يحفظهم في اسمه، إنما يعني فيه وفي الإيمان به. أما غاية هذا الإيمان أو هذا التعليم فهو أن يتمتعوا مع كل المؤمنين بالوحدة. يصيروا جسدًا واحدًا وروحًا واحدًا متشبهين بوحدة الآب مع الابن. هكذا يتمجد الآب فيهم.

v “ولست أنا بعد في العالم” (11)، بمعنى “مع أنني لا أعود أظهر في الجسد لكنني أتمجد بواسطتهم”. ولكن لماذا يقول على الدوام: “لست في العالم” وأنني “إذ أتركهم أعهد بهم إليك” وأنه “إذ كنت في العالم كنت أحفظهم؟ لأنه إذ فهم إنسان هذه الكلمات بمعانيها البسيطة فسيلحقه سخافات كثيرة. إذ كيف يُعقل القول أنه لا يعود بعد في العالم، وأنه إذ يرحل يعهد بهم إلي آخر؟ إذ أن هذه كلمات إنسان مجرد يفارقهم أبديًا… لقد أظهر بهذه الكلمات أنه نطق بها هكذا ليهبهم راحةً وفرحًا.

v قال: “احفظهم في اسمك” أي احفظهم في معونتك.

v هذا ما تشككوا فيه… قدم نفسه لأفكارهم، ليأخذوا نفسًا صغيرًا عندما يسمعونه يقول هكذا، ويسلمهم إلى رعاية الآب. فإذ بعد سماعهم نصائح كثيرة لم يستجيبوا دخل في حوارٍ مع الآب معلنًا حنوه عليهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

بعد تحول القديس غريغوريوس النزينزي إلى الإيمان المسيحي وجحده للعالم انبهر فجأة ببهاء الثالوث القدوس الذي حفظه فيه وهو بعد في هذا العالم، إذ يقول: [منذ اليوم الذي فيه جحدت أمور العالم لكي أكرس نفسي للتأمل المنير السماوي، عندما حملني التفكير السامي ليضعني بعيدًا عن كل ما يخص الجسد، ويخفيني في أماكن خفية في الخيمة السماوية؛ منذ هذا اليوم وعيناي قد أصيبتا بعمى بنور الثالوث، الذي يتعدّى بهاؤه قدرة الذهن على إدراكه، إذ يشرق على الكل من العرش الممجد جدًا بأشعة مشتركة للثالوث لا يمكن وصفها. هذا هو مصدر كل ما هو هنا تحت، وقد انفصل بالزمن عن الأمور العلوية… من هذا اليوم مُت عن العالم ومات العالم عني].

v لقد أعلن أنه ليس بعد في العالم، أي بحضوره الجسدي… لقد أوصي الآب الاهتمام بأولئك الذين أوشك أن يتركهم بغيابه الجسدي، قائلاً: “أيها الآب القدوس احفظهم في اسمك الذي أعطيتني“. إنه كإنسان يطلب من الله لحساب تلاميذه الذين استلمهم منه.

القديس أغسطينوس

“حين كنت معهم في العالم كنت احفظهم في اسمك.

الذين أعطيتني حفظتهم،

ولم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك ليتم الكتاب”. )12(

كنت أحفظهم في اسمك“، رأينا أنه كثيرًا ما يستخدم الكتاب المقدس تعبير “اسم الله” بمعنى “الله نفسه”. فغاية الكلمة المتجسد أن يحفظ مؤمنيه في الآب، بتقديم نفسه لهم بكونه الحق الإلهي. يطلب السيد المسيح حفظ مؤمنيه، كما حفظ هو تلاميذه وهو على الأرض لكي لا يهلك منهم أحد إلاَّ ذاك الذي أصر أن يكون ابنا للهلاك. هكذا يطلب من أجل المؤمنين أيضًا لكي يحفظهم الآب القدوس ليتمموا رسالة الإنجيل المقدسة ويشهدوا للحق الإلهي.

لم يهلك منهم أحد سوى الذي أصر على أن يصير ابنا لإبليس المخادع، فصار ابنا للهلاك بإرادته. لقد نال نعمة التلمذة لكنه أفسد العطية بإرادته الشريرة، ومحبته للمال. يدعو يهوذا “ابن الهلاك” لأنه سحب نفسه من التمتع بالعضوية في الأسرة الإلهية، أن يكون ابنًا لله، وأصر على البنوة لإبليس المدمر والمهلك. إنه “ابن الهلاك“، لأنه لم يرد خلاص نفسه، بل أفسد بإرادته الشريرة العطايا الإلهية المقدمة له، وفتح قلبه لسلسلة من الخطايا كالطمع والخيانة واليأس.

ليتم الكتاب“، إذ تنبأ عنه الكتاب المقدس كما في (مز ٤١: ٩؛ ١٠٩: ٨). وفيه تحققت الرموز كخيانة أخيتوفل لداود الملك، وأبشالوم لأبيه، تحققت في صورة أبشع في يهوذا الخائن.

v قال السيد المسيح للآب: “حين كنت معهم في العالم كنت احفظهم في اسمك”.يتكلم بمنزلة إنسان ومثل نبي، ولا يظهر أنه يفعل شيئا باسم الله.

وقال: “الذين أعطيتني حفظتهم، ولم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك، ليتم الكتاب”. وفي موضع آخر يقول: “من كل الذين أعطيتني بالتأكيد لا أتلف منهم أحدا” (راجع 6: 39). مع هذا لم يهلك (الخائن) وحده، وإنما هلك بعد ذلك كثيرون، فكيف يقول: لا أتلف قط أحدا”؟ فمن جانبي أنا لا أتلف. وفي موضع آخر يعلن عن الأمر بأكثر وضوح:” لا أطرد أحدًا” (راجع 6: 37). وكأنه يقول: ليست علة الهلاك مني، ولا أنا أهملتهم، فإن ابتعدوا بإرادتهم لا أجتذبهم عن إلزام.

v “ليتم الكتاب”… لا لكي يتحقق الكتاب… ولكن هذا هو أسلوب الكتاب المقدس الذي يضع الأمور في تطابق مع بعضها البعض كما لو كانت قد حدثت بسبب كتابتها.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v يقول إذ أنا آتٍ إليك احفظهم في اسمك، الذي فيه أنا حفظتهم حين كنت معهم. في اسم الآب حفظهم الابن كإنسان يحفظ تلاميذه حين كان بجانبهم في حضوره الجسدي، لكن الآب أيضًا حفظ الذين سمع لهم في اسم الابن واستجاب لصلواتهم المقدمة باسم الابن. إذ قال الابن نفسه لهم: “الحق الحق أقول لكم إن كل ما طلبتم من الآب باسمي يعطيكم” (يو ١٦: ٢٣). لكننا لا نأخذ هذا بمفهومٍ جسدانيٍ، أنهما يتناوبان معًا على حفظنا، كما لو أن الواحد يخلف الآخر عندما يرحل. فإننا نُحفظ في نفس الوقت بواسطة الآب والابن والروح القدس، الذين هم الله الواحد الحقيقي المبارك.

القديس أغسطينوس

“أما الآن فإني آتي إليك،

وأتكلم بهذا في العالم،

ليكون لهم فرحي كاملاً فيهم”. (13)

إذ يكمل السيد المسيح رسالته على الصليب ويقوم من بين الأموات، يذهب إلى الآب حيث يجد الآب مسرته في هذا، ويفرح الابن بعمله الخلاصي. إنه يسأل أن يتمتع مؤمنوه بفرحه. بصعوده حمل شعبه بروح الحب، وسجل أسماءهم كرئيس الكهنة السماوي على الصدرة، ليدخل بها إلى قدس الأقداس السماوي؛ بل حملهم في قلبه ثابتين فيه كما هو ثابت فيهم، ونقشهم بمسامير الصليب على كفيه. فإن كان لم يعد بعد منظورًا لهم لأنه في السماء، لكنه ليس بعيدًا عنهم ولا هم عنه، إنه في قلوبهم كما هم في قلبه وفكره، مشغول بهم حتى يدخل بهم إلى حضن أبيه.

من يقبل إرادة الله الصالحة وكلمته الصالحة يتوقع مقاومة العالم بإرادته الشريرة وكلمته الشريرة. لذلك يطلب السيد المسيح لتلاميذه بل ولكل أعضاء كنيسته أن يتمتعوا وهم في هذا العالم بفرحه كاملاً. هذه هي مشيئة السيد المسيح وشهوة قلبه أن يتمتع كل مؤمنٍ بالفرح السماوي الكامل غير المتقطع. إنه يتركهم وسط الدموع والآلام والتجارب، لكنه يحقق في داخلهم فرحه الفائق للطبيعة.

ليتنا في وسط دموعنا نرفع أعيننا لنرى مسيحنا يطلب لنا من أبيه أن ننعم بفرحه الكامل. إنه وعد إلهي نلتزم أن نسمعه بروح الإيمان والصمت والهدوء ونتمسك به ونناله. من يحفظ كلمة المسيح بصبرٍ يتمتع بحماية إلهية خاصة في ساعة التجربة (رؤ ٣: ١٠). هذا ما تحقق عمليًا حيث كان الشهداء يتهللون بفرح عظيم وسط آلامهم.

فرح المسيح هو عطية إلهية، نعمة مجانية، وفي نفس الوقت وصية نلتزم بها. تُقدم للمجاهدين فيها، لذا يوصينا الرسول: “أخيرًا يا اخوتي افرحوا في الرب” (في ٣: ١). “افرحوا في الرب في كل حين، وأقول أيضًا افرحوا” (في ٤: ٤).

من يسلك في العالم بفكر السيد المسيح يتشكل بروحه القدوس ليكون أيقونة له يسلك على اثر خطواته، لا ينشغل بأمور العالم، ولا يكرس حياته لخدمته، مثل هذا يقدم له الآب حماية من أجل ابنه القدوس.

ليكون فرحي كاملاً فيهم“: غاية حديثه مع المؤمنين أن يسكب فرحه الإلهي فيهم. مسيحنا هو فرحنا الأبدي الكامل، وهو مصدر الفرح وسيد البهجة الحقيقية. بدونه يذبل كل فرح، لأنه مرتبط بالعالم الزائل. أما فرح المسيح فأبدي على مثاله. وهو موضوع سرور الآب لذلك يطلب المسيح ذلك منه.

دون شك أن الشركة مع الأحياء تعطي نوعًا من السعادة، والحرمان منها يسبب حزنًا وألمًا. الآن جاء الوقت ليعلن لهم السيد أنه سيفارقهم حسب الجسد، ولن يعودوا يتمتعوا بالاجتماع معه بذات الكيفية التي مارسوها أثناء سنوات خدمته العلنية على الأرض. هذه العزلة ليست مصدرًا للحزن بل للفرح. إنهم يتمتعون بحضوره في وسطهم وفي داخلهم، حيث يسكن في قلوبهم ويبعث فرحه الكامل فيهم، يصير فرحه هو فرحهم، فيختبروا الفرح الكامل.

v يقول إن الفرح الذي له الممنوح لهم بواسطته يجب أن يكمل فيهم. ولهذا الهدف أعلن أنه تكلم في العالم. هذا هو سلام العالم العتيد وتطويبه بنوال ما يجب أن نحياه في الحاضر باعتدالٍ وبرٍّ وتقوى.

القديس أغسطينوس

“أنا قد أعطيتهم كلامك، والعالم أبغضهم،

لأنهم ليسوا من العالم، كما إني أنا لست من العالم”. (14)

يسأل الآب أن يقف مع المؤمنين كصديقٍ شخصيٍ لهم، لأن لهم أعداء كثيرون، لأن العالم يقدم لهم الكراهية بلا سبب إلا لأنهم ليسوا من العالم، ويحثوا البشرية على الخروج من العالم الشرير، ليتمتعوا بالقدوس. لهذا يقول المرتل: “أكثر من شعر رأسي الذين يبغضونني بلا سبب… لأني من أجلك احتملت العار” (مز ٦٩: ٤، ٧). إذ قبلوا الكلمة الإلهي لم يعد يطيقهم العالم، لأنه لا يقبل الخلاص. العالم يحتقر ما يُقدم له لأجل مجده، ويبذل كل الجهد ليدمر الإيمان الذي يحطم الدمار. هكذا فإن أبناء العالم يرفضون كلمة المجد والخلاص ويكرسون طاقاتهم لتحطيم الإيمان الحي، فيحطمون أنفسهم وهم لا يدرون.

يعلم العالم أنهم كانوا منه، والآن صاروا ليسوا منه، صاروا خليقة جديدة (2 كو 5: 17)، أشبه بعالمٍ جديدٍ منافسٍ له، مع أنه عالم حب وبذل وخدمة حتى للمقاومين. يبقى العالم القديم يبذل كل الجهد حتى لا يفلت أحد من يديه، إذ يريد أن يكون الكل منه. قد يعجب بقدراتهم وإمكانياتهم وسلوكهم، لكنه في أنانيته لن يكف عن إغرائهم للعودة إلى أحضانه، أو مقاومتهم للخلاص منهم.

يوجد مثل يهودي قائل: “إن لم يعرف العالم قيمة الأبرار فيه يقيم (بالكراهية لهم) سياجًا من اللآلئ يحميهم”.

صلاة السيد المسيح الوداعية تكشف عن عمل الله الفائق في حفظ الخدام والمؤمنين وكلمة الكرازة. بدون هذه النعمة الإلهية لاندثر الإيمان منذ أجيال طويلة، فعبر كل القرون كتَّل العالم طاقاته لإبادة الإيمان وتحطيم الكنيسة وتدمير المسيحيين، لكن تبقى كلمات السيد المسيح هي سرّ بقاء الإيمان والمؤمنين إلى اليوم.

إنه الآب القدوس الذي يقول: “مرة حلفت بقدسي، إني لا أكذب لداود” (مز ٨٩: ٣٥). بكونه القدوس لا يطيق الخطية، ويحسب المقدسين له، ويحفظهم من الخطية التي هم أيضًا يبغضونها ويحسبونها شرًا خطيرًا. إنه كأب قدوس يهتم بأبنائه ويعلمهم ويحفظهم تحت رعايته مباشرة. هم بأنفسهم عاجزون عن أن يثبتوا فيما نالوه من نعم إلهية، لذا فهم محتاجون إلى عون إلهي. يُحفظون لحساب الله كأبناء له.

v إذ نصير راسخين في الفضيلة ويضطهدنا الأشرار، أو عندما نرغب في الفضيلة فيسخرون بنا، لا نرتبك ولا نغضب, فإن هذه الأمور طبيعية، وفي كل موضع توَّلد الفضيلة كراهية لدي الأشرار. لأنهم يحسدون الذين يريدون أن يعيشوا بلياقة، ويفكرون في إيجاد عذر لأنفسهم إن أهانوا سمعة الآخرين.

إنهم يبغضونهم لأنهم يسلكون علي خلافهم، ويستخدمون كل وسيلة ليهينون طريقة حياتهم.

يلزمنا ألا نحزن، إذ هذه هي علامة الفضيلة. ولهذا السبب يقول السيد المسيح: “لو كنتم من العالم، لكان العالم يحب خاصته” (15: 19)، وفي موضع آخر يقول: “ويل لكم إذا قال فيكم جميع الناس حسنًا” (لو 6: 26). وبهذا المعنى يقول هنا: “أنا أعطيتهم كلامك، والعالم يبغضهم”. إذ يقول: “لأجلك ولأجل كلمتك ابغضوهم”، لهذا يؤهلوا للتمتع بكل عناية إلهية.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v هذه الكراهية (من العالم) لم تكن بعد قد لحقت بهم في حياتهم، لكنها تحققت فيما بعد.

إنه يتحدث كعادته عن المستقبل في صيغة الماضي. وقد ألحق ذلك بسبب بغض العالم لهم قائلاً: “لأنهم ليسوا من العالم، كما أني لست من العالم” (١٤). هذا قد مُنح لهم خلال ميلادهم الجديد، لأنهم حسب ميلادهم كانوا من العالم، كما سبق فقال لهم: “أنا اخترتكم من العالم” (يو ١٥: ١6). إنه امتياز لطيف وُهب لهم أن يصيروا مثله إذ هو “ليس من العالم” وذلك خلال الخلاص من العالم الذي قدمه لهم. على أي الأحوال لم يكن هو قط من العالم، فإنه حتى بالنسبة لأخذه شكل العبد وُلد من الروح القدس الذي وُلدوا هم منه ثانية. فإن كانوا هم بسبب هذا لم يعودوا بعد من العالم لولادتهم الثانية من الروح القدس، فبنفس السبب لم يكن هو قط من العالم لميلاده (تجسده) من الروح القدس.

القديس أغسطينوس

“لست اسأل أن تأخذهم من العالم،

بل أن تحفظهم من الشرير”. (15)

إذ طلب من الله أن يحفظهم من العالم الشرير أوضح أنه يوجد طريقان لحفظ أولاد الله من العالم.

الطريق الأول أن يأخذهم من العالم بموتٍ مفاجئٍ سريعٍ ليعبروا إلى عالم أفضل. هذا ما اشتهاه بعض رجال الله عندما ضاق بهم الأمر؛ مثل أيوب وإيليا ويونان وموسى، حين اشتدت بهم الضيقات والتجارب. لكن السيد المسيح لم يطلب هذا الطريق لتلاميذه، لأنه جاء إلى العالم ليقدم لمؤمنيه حياة النصرة خلال حمل الصليب، لا أن يهربوا من العالم. ولأن السيد جاء إلى العالم ليخدم البشرية، فصار العالم غير مستحقٍ للمؤمنين (عب ١١: ٣٨).

إن كان العالم بشره صار مظلمًا، فقد جاء السيد المسيح نورًا للعالم يغلب الشر والظلمة، وأقام من تلاميذه كواكب منيرة تضيء في العالم. محبة السيد لمؤمنيه لم تدفعه لسحبهم فورًا من العالم المظلم، وإنما لتقديسهم ليضيئوا في العالم، لهم روح النصرة. لقد اشتهى إرميا النبي أن يهرب إلى البرية (إر ٩: ٢)، لكن مسيحنا يعمل بالكل، وكما يقول بولس الرسول: “وأنا أشكر المسيح يسوع ربنا الذي قوَّاني أنه حسبني أمينًا إذ جعلني للخدمة” (٢ تي ١: ١٢). وكتب القديس بطرس: “فإذا الذين يتألمون بحسب مشيئة الله فليستودعوا أنفسهم كما لخالقٍ أمينٍ في عمل الخير” (١ بط ٤: ١٩). فلا يستطيع حتى الراهب المتوحد أن يهرب من شعوره بالالتزام بالعمل بوسيلة أو أخرى من أجل تقديس العالم. لم يطلب الابن من الآب أن يرسل مركبات نارية تحمل تلاميذه إلى السماء ليخرجهم من وجه العالم الشرير.

والطريق الآخر أن يهبهم روح القوة والنصرة على شر العالم، هذا ما طلبه السيد لتلاميذه، وهو حفظهم من الفساد الذي حلَّ بالعالم، وذلك أن يعهد بهم في حضن الآب، فلا يقترب إليهم الشرير. إنه لم يطلب حفظهم بإزالة التجارب والضيقات من طريقهم، وإنما لينعموا بالنصرة في صراعهم ضد الشر، وشهادتهم لإمكانيات النعمة الغنية العاملة فيهم.

v ماذا يقول المسيح للآب؟…. “احفظهم من الشرير“، يعني من الشر الأخلاقي، من الرذيلة، وضعف القلب.

v لا يتكلم لأجل خلاصهم من التجارب فحسب، بل ايضًا من أجل استمرارية إيمانهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v من المهم وجودهم في العالم، وإن كانوا لم يعودوا بعد ينتسبون إليه.

القديس أغسطينوس

“ليسوا من العالم،

كما إني أنا لست من العالم”. (16)

يطالب بحفظهم لأنهم تشبهوا به، إذ صاروا كمسيحهم ليسوا من العالم، لا تشغلهم ملذات العالم، ولا يرتبكوا لأتعابه، لأن خدمتهم لمسيحهم تبتلع أفكارهم، وتملأ قلوبهم.

v فإن قلت: وما معني قول السيد المسيح أن تلاميذه: “ليسوا من العالم“؟ أجبتك: إنهم ينظرون إلى عالم آخر، وليس فيهم شيء من الأرض، لكنهم قد صاروا كمواطني السماوات. بهذه الأقوال أظهر السيد المسيح حبه لهم إذ مدحهم عند أبيه واستودعهم عنده.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v ربما يُسأل: إن كانوا لم يعودوا بعد من العالم، سواء وهم لم يتقدسوا بعد في الحق أو تقدسوا فعلاً، فكيف يطلب هكذا (ألاَّ يأخذهم من العالم)؟ أليس هذا لأن حتى هؤلاء الذين تقدسوا يلزم أن يستمروا لأجل نموهم في التقديس، أو في القداسة؛ وهذا لا يتم بغير نعمة الله، بتقديس نموهم كما قدسهم في البداية؟ من هنا يقول بولس عن نفس الأمر: “الذي ابتدأ فيكم عملاً صالحًا يكمل إلى يوم يسوع المسيح” (في ١: ٦).

القديس أغسطينوس

فاصل

طلبة من أجل تقديسهم ١٧ – ١٩.

“قدسهم في حقك، كلامك هو حق”. (17)

ما معنى “قدسهم“؟ لا يقف عمل الله فيهم عند حفظهم من من الشر والشرير، وإنما يمتد إلى العمل الإيجابي أن يسلكوا بالقداسة والصلاح وعمل البرّ، يطلب أن تلتهب قلوبهم بحب القداسة. تقديسهم أيضًا يحمل معنى النمو المستمر في الإيمان والالتهاب الدائم للقلب بروح الله.

أما وسيلة التقديس فهي “في حقك“، أي خلال كلمة الله. بالكلمة والصلاة يتقدس كل عمل كنسي كالأسرار المقدسة، وأيضا تتقدس النفس، ويتقدس خدام الله.

بالتقديس مارس الأنبياء عملهم مثل إرميا ١: ٥؛ وأيضًا الكهنة واللاويين. هكذا بالتقديس يتأهل خدام العهد الجديد للعمل ويتكرسوا له (رو ١: ١). هنا يقوم السيد المسيح كرئيس الكهنة بتقديس الكهنة.

كلمة “قدسهم Hagiason” مشتقة من مقطعين: “َA” أو “Ha” وهي في اليونانية تعني النفي، وgee تعني “الأرض”، أي “لا أرض”. وكأن القداسة هي نزع كل ما هو أرضي من القلب، ليتفرغ لحب الله وعبادته وخدمته. وهي تحمل أيضًا معنى “النقاوة” حيث يتنقى القلب من كل شائبة زمنية ليحمل سمة روحية سماوية. الكاهن أو الخادم الذي يرتبك بأمور العالم حتى في خدمة الكنيسة يهين الإنجيل، ويفقد الحق الإلهي، ويخسر قدسية قلبه الداخلي.

جاءت كلمة “مقدس” في العبرية بمعنى تقديم ذبيحة، إذ صارت الذبيحة مخصصة لله وحده، غايتها تمتع الشعب بالشركة مع الله القدوس، بكونهم شعب الله.

سمة “القداسة” خاصة بالله القدوس وحده، لهذا يسبحه السمائيون قائلين: “قدوس، قدوس، قدوس”. فتقديسنا لا يحمل سوى معنى اتحادنا مع القدوس، وتمتعنا بالشركة في الطبيعة الإلهية. الحياة المقدسة ليست مجرد حياة أخلاقية فاضلة، لكنها ارتباط بالحياة الإلهية، وتمتع بعمل القدوس.

v ماذا يعني بكلماته: “قدّسهم في حقك” (١٧) سوى “قدّسهم فيّ”… فالآب يقدس في الحق، أي في كلمته، في ابنه الوحيد، يقدس ورثته والوارثون مع الابن.

القديس أغسطينوس

v “قدسهم في حقك“، بمعنى “اجعلهم قديسين بعطية الروح والتعاليم الصادقة”. كما أنه عندما قال: “أنتم أنقياء بسبب الكلام الذي كلمتكم به” (يو 15: 3). هكذا يقول الآن نفس الشيء: “أرشدهم، علمهم الحق”… فإن النطق بالتعاليم المستقيمة بخصوص الله يقدس النفس. وإذ يقول إنهم يتقدسون بالكلمة، لا يتوقف ذلك على أعمالٍ العجيبة… إذ يعرف أن كلمة الله هي أيضًا تطهر. لكن القول: “قدسهم” يبدو لي أيضًا أن تعلن عن أمر آخر مشابه. “كرسهم (اعزلهم) لأجل الكلمة والكرازة. هذا ما يظهر مما جاء بعد ذلك.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v الآب والابن والروح القدس يقدسوا معًا، ويُحيوا، وينيروا، ويهبوا راحة. لا ينسب أحد طاقة التقديس على وجه خاص ومعين لطاقة الروح، بعد سماعه قول المخلص “قدسهم في اسمك” (يو17: 11، 17). هكذا كل الطاقات تتحقق بالتساوي للمتأهلين لها بواسطة الآب والابن والروح القدس، بمعنى كل نعمة وفضيلة وإرشاد وحياة وتعزية وتحول إلى عدم الموت والعبور إلى حياة الحرية وكل الأمور الصالحة الأخرى النازلة إلى الإنسان.

القديس باسيليوس الكبير

v كما أن الآب يقدس، هكذا أيضًا الابن يقدس، والروح القدس يقدس.

الآب يقدس حسب المكتوب: “إله السلام نفسه يقدسكم بالتمام، ولتُحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم عند مجيء ربنا يسوع المسيح” (1 تس 13:5). وفي موضع آخر الآب يقدس: “أيها الآب قدسهم في حقك” (17).

ويقول نفس الرسول عن الابن: “قد صار لنا حكمة من اللَّه وبرًا وتقديسًا وبرًا” (1 كو30:1)…

ويعلم الرسول أيضًا أن الروح القدس يقدس، إذ يقول: “وأما نحن فينبغي لنا أن نشكر اللَّه كل حين لأجلكم أيها الاخوة المحبوبين من الرب أن اللَّه اختاركم من البدء للخلاص بتقديس الروح وتصديق الحق” (2تس13:2)…

لكن التقديس واحد، لأن المعمودية واحدة، ونعمة السرّ واحدة.

القديس أمبروسيوس

“كما أرسلتني إلى العالم

أرسلتهم أنا إلى العالم”. (18)

إذ كرس الابن نفسه لعمل الخلاص بعثه الآب في إرسالية لتحقيق هذا العمل الإلهي. لقد دُعي بالشفيع (١ يو ٢: ١)، والرسول (عب ٣: ١)، والخادم (رو ١٥: ٨)، والمُرسل (غلا ٣: ١)، لكنه أُرسل كابن لله، وليس مثل الخدام والعبيد.

لماذا يربط إرساليته من عند الآب بإرساليتهم من قِبَله؟ لأن الإرسالية صعبة والمهمة قاسية، لهذا أراد أن يؤكد لهم أنه يقف بجوارهم، ويعمل معهم وبهم وفيهم، لأن عملهم هو امتداد لعمله هو. كابن الإنسان قبل السيد المسيح عطايا من أجل الناس (مز ٦٨: ١٨)، قدمها بعد ذلك لهم (أف ٤: ٨).

إذ قدم نفسه ذبيحة، فتح الطريق لرسله أن يشاركوه الحب العملي فيصيروا بالثبوت فيه ذبائح مقدسة (في ٢: ١٧؛ ٢ تي ٤: ٦). صار موت القديسين عزيز في عيني الرب، لأنه يرتبط بموت المسيح.

v أرسل الآب ابنه ليس في الجسد الخاطئ، بل في شبه الجسد الخاطئ (رو٨: ٣). وأرسل ابنه أولئك الذين وُلدوا في الجسد الخاطئ وقد تقدسوا به من دنس الخطية.

القديس أغسطينوس

v كان من عادته أن يتحدث عن المستقبل كأمرٍ قد حدث فعلاً.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“ولأجلهم أقدس أنا ذاتي،

ليكونوا هم أيضًا مقدسين في الحق”. (19)

إذ بإرادته يسلم نفسه للموت ليفتدي البشرية يحسب أنه قدس ذاته أو كرس حياته كلها لاقتناء خلاصنا. وكما يقول الرسول بولس: “وأما المسيح… بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس، فوجد فداءً أبديًا” (عب ٩: ١١- ١٣). لقد كرس حياته بالكامل ليتعهد خلاص بني البشر، ليس ما يشغله سواهم، خاصة وأنه الوحيد القادر أن يقدم نفسه ذبيحة بلا عيب عن العالم كله. الآن بكونه رئيس وفي نفس الوقت هو الذبيحة، فتقديسه لنفسه ليس بالأمر الخارجي. إنه غير محتاج إلى دم حيوانات لتقديسه، لأنه بلا خطية، إنما بإرادته كرس كل إمكانياته لتقديس خدامه وشعبه، حتى الموت موت الصليب.

كما كرس الابن رسالته في خلاص البشرية، كمن لا يوجد ما يشغله سوى الإنسان، هكذا يتقدس المؤمن فيكرس كل إمكانياته وطاقاته ووقته لمحبوبه المسيح الذي هو “الحق”. هذا ما تمتع به الرسول بولس فدعا نفسه “المفرز لإنجيل المسيح” (رو ١: ١). هذا ما ناله الأنبياء فيسمعون الصوت الإلهي: “قبلما خرجت من الرحم قدستك” (إر ١: ٥). هكذا كان مفهوم الكهنة واللاويين أنهم مكرسون لخدمة الله. والمؤمن أيضًا وإن لم يتفرغ بوقته للخدمة والكرازة والعبادة، فإن قلبه يتقدس حيث يعمل كل شيء لمجد الله، حتى أكله وشربه ونومه!

v يقول هنا يقدس نفسه، وليس أنه يعين نفسه على التقديس بتطهير النفس أو الروح، ولا لكي يشترك في الروح القدس، لأن الروح القدس فيه بالطبيعة، وهو دائمًا وأبدًا مقدس، وسيظل هكذا. يقول هنا: “أقدس أنا ذاتي“، لأنني أقدم نفسي وأحضرها كذبيحة بلا عيب لرائحةٍ ذكيةٍ، لأن ذاك الذي يؤتى به إلى المذبح الإلهي كان مقدسًا، أو يُدعى حسب الناموس مقدسًا.

v إذ هو شريك الآب في الوجود سرمديًا يتقبل البنوة بالروح، وبكونه صار في الجسد صار مشابهًا الأبناء بالتبني… لهذا يُقال إنه تقدس. فالتقديس هو خاص بناسوته، أو الجسد، لأن الطبيعة البشرية لا يمكنها أن تقتني القداسة من ذاتها.

القديس كيرلس الكبير

v ماذا يعني: “أقدس ذاتي؟” أقدم ذاتي ذبيحة، فالذبائح كلها تُدعى مقدسة، والتي تقدم لله فهي على جهة التحقيق مقدسة. هذا يقوله إما لأن رأسهم كان في طريقه أن يكون هكذا، أو لأنهم هم أيضًا يُقدمون ذبيحة، إذ قيل: “قدموا أجسادكم ذبيحة حية” (رو 12: 1).

القديس يوحنا الذهبي الفم

v قال الرب هذا لكي تعرف أنه هو مقدس في الجسد لأجلنا، وأيضًا يقدس بفضيلة لاهوته.

القديس أمبروسيوس

ليس فقط تقدس الكلمة كإنسانٍ، وإنما يقدس ذاته، إنه مصدر التقديس لناسوته. يؤكدالقديس كيرلس الكبير أن السيد يقدس جسده. إنه يقبل الروح الذي هو روحه، يقبله بكونه إنسانًا، لكنه يهب الروح لنفسه بكونه اللَّه. صنع هذا لأجلنا، لا لأجله هو.

v الكلمة الذي يسكن في جسده يقدس ذات هيكله بالروح القدس ويحول إياه إلى صورة (قوة) طبيعته.

v إن قال أحد أن الرب يسوع المسيح الواحد قد تمجد بالروح القدس، بكونه استخدم به قوة غير قوته هو، وأنه منه نال قوة ضد الأرواح الشريرة، وقوة لصنع المعجزات أمام الناس، ولا يعترف أنه هو روحه الذي به يعمل هذه الإلهية، فليكن محرومًا.

أناثيما 9 للقديس كيرلس الكبير

v ماذا عني بكلماته: “ولأجلهم أنا أقدس ذاتي” (١٩) إلاَّ إني أقدسهم فيّ، إذ هم (جزء) مني؟ فإن هؤلاء الذين يتحدث عنهم، كما قلت هم أعضاؤه؛ والرأس مع الأعضاء هم المسيح. وذلك كما يعلم الرسول عند حديثه عن ذرية إبراهيم: “فإن كنتم للمسيح فأنتم إذًا نسل إبراهيم”، وذلك بعد قوله: “لا يقول وفي الأنسال فإن كان نسل إبراهيم هو المسيح” (غلا ٣: ١٦-19)، فماذا يُعلن للذين يقول لهم: “أنتم إذًا نسل إبراهيم” سوى أنتم المسيح؟ وبنفس السمة يقول الرسول نفسه في موضع آخر: “الآن أفرح في آلامي لأجلكم، وأكمل نقائص شدائد المسيح في جسمي” (١ كو ١: ٢٤). لم يقل شدائدي بل “شدائد المسيح”، لأنه كان عضوًا في المسيح، وفي اضطهاداته إذ تعَّين للمسيح أن يحتملها في كل جسده، كان يملأ نصيبه من الشدائد. ولكي تتأكد من هذا في العبارة الماثلة أمامنا لاحظ ما يلي بعد ذلك… “ليكونوا هم أيضًا مقدسين في الحق” (١٩). وماذا يعني هذا سوى “فيّ”، وذلك حسب الحقيقة أن الحق هو الكلمة التي في البدء، والتي هي الله؟

القديس أغسطينوس

فاصل

طلبة من أجل الوحدة ١١، ٢٠ – ٢٣.

“ولست أسأل من أجل هؤلاء فقط،

بل أيضًا من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم”. (20)

إنه يطلب من أجل الذين يؤمنون به خلال كرازة تلاميذه ورسله. تمتد هذه الصلاة عبر كل الأجيال، وتحمل كل نفس لكي تتمتع بطلبة السيد المسيح الكفارية من أجلها، فتصير محفوظة في الدم الكريم، مقدسة ومتمتعة بالوحدة مع بقية الأعضاء.

تمتد صلاته الوداعية لتشمل البشرية المستعدة لقبول الخلاص عبر كل الأجيال حتى انقضاء الدهر. فهو يشفع بدمه عن كل من يقبل عمله الفدائي، لكي يصير الكل واحدًا. يتمتعون بالوحدة الحقيقية والحكمة السماوية الطاهرة والمجد الذي من عند الآب.

لماذا يحد هذه الطلبة على الذين يقبلونه سواء في الحاضر أو المستقبل بينما نلتزم نحن بالصلاة من أجل جميع البشر؟ قلنا إنه يريد أن الكل يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون، لكنه لا يُلزم أحدًا على الخلاص أو قبول معرفة الحق. وإذ هو عالم بمن يرفضه لا يصلي ضدهم، لكنه لا يشفع فيهم كفاريًا ماداموا مصرين على رفض الخلاص، لئلا تُحسب شفاعته إلزامًا عليهم بقبول الإيمان أو تكون بلا نفع، حاشا لله! أما بالنسبة لنا فإننا لا نعرف من الذي يقبل الإيمان ويثبت فيه، ومن الذي يرفضه تمامًا أو ينكره فيما بعد، لذا لاق بنا أن نصلي عن الجميع.

إنه يصلي عن الضعفاء في الإيمان لكي يتمتعوا بالقوة والثبات فيه. ويصلي من أجل القادمين في الإيمان فيما بعد.

v قال السيد المسيح من قبل عن تلاميذه: “ولأجلهم أقدس أنا ذاتي” (19)، ولئلا يظن أحد أنه إنما يعمل هذا العمل من أجل رسله فقط قال هنا: “ولست أسأل من أجل هؤلاء فقط، بل أيضًا من أجل الذين يؤمنون بي بكلامهم”. وبهذا أراح أنفس رسله، إذ أراهم أن كثيرين سيكونون تلاميذ لهم، وعزاهم أيضًا، إذ أوضح لهم أنهم يصيرون سبب خلاص لكثيرين.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v إذ كرز الرسل بكلمة الإيمان هذه بصورة رئيسية وفي البداية، هؤلاء الذين التصقوا به لذلك دُعيت “كلامهم” (٢٠). على أي الأحوال، ليس بسبب هذا توقفت عن أن تكون “كلمة الله” لأنها دعيت “كلمتهم”، إذ يقول الرسول أن أهل تسالونيكي قبلوا منه “ككلمة أناس، بل كما هي بالحقيقة ككلمة الله” (1 تس ٢: ١٣). “كلمة الله” لأنها أُعطيت بواسطة الله مجانًا. لكنها دعيت “كلمتهم” لأنها عُهدت إليهم بصفة رئيسية وفي البداية لكي يُكرز بها.

القديس أغسطينوس

“ليكون الجميع واحدًا،

كما أنك أنت أيها الآب فيّ، وأنا فيك،

ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا،

ليؤمن العالم أنك أرسلتني”. (21)

بعد أن سأل من أجل حفظهم من الشرير وقداستهم، سأل من أجل وحدة الكنيسة كلها، هذه التي لن تقوم إلا على طرد الشر مسبب الخصومة والانقسام والتمتع بالحياة المقدسة واهبة الحب والوحدة. تقوم الوحدة على عمل الله في حياة الخدام (الرسل والتلاميذ والكهنة)، كما تقوم على عمله في كل المؤمنين على مستوى الشعب.

يكرر السيد المسيح تعبير “ليكونوا” سبع مرات (11 ،19، 21(مرتان)، 22، 23 ،24). أربع مرات من السبع مرات يطلب أن يكون أتباعه واحدًا. هكذا كان رب المجد يسوع مهتمًا على وجه الخصوص بالوحدة.

شغل موضوع الوحدة قلب السيد المسيح، فقد سبق أن طلب لأجلها (١٣)، وها هو يطلبها من الآب كما في لجاجةٍ. يود أن تتشبه الكنيسة في علاقتها الداخلية بالعلاقة بين الآب والابن، الأمر الذي يكرره السيد في صلاته. سرّ الوحدة في الكنيسة التصاقها بالثالوث القدوس الذي يحمل وحدة فريدة في ذات الجوهر، واتساع قلب المؤمنين بالحب ليجد كل أحدٍ موضعًا فيه.

يصير الكل واحدًا، جسدًا واحدًا بقلبٍ واحدٍ وفكرٍ واحدٍ ورجاءٍ واحدٍ في التمتع بالوعود الإلهية.

لقد تحققت هذه الصلاة في الكنيسة الأولى حيث كان الرعاة وأيضًا الشعب بإيمانٍ واحدٍ وقلبٍ واحدٍ مع اختلاف الثقافات بين الأمم. كل يعبِّر عن إيمانه بثقافته اللائقة به. كما اجتمع المؤمنون الذين من أصل يهودي مع الذين من أصل أممي في جسدٍ واحدٍ. ولنا ملء اليقين أن صلاته الوداعية أيضًا ستتحقق حين تجتمع الكنيسة في العالم حول الإيمان الواحد وبروح واحد وغاية واحدة: الالتقاء بالسيد المسيح أبديًا، يحملون روح التبني للآب الواحد.

v “ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا“؟ أي ليكونوا واحدًا في إيمانهم بنا.

v ماذا يعني “فينا“؟ في الإيمان بنا. فإنه إذ لا يوجد ما يؤذي كل البشر مثل الانقسام، يشترط أن يكونوا واحدًا… فإن كل الذين يؤمنون خلال الرسل هم واحد، وإن كان البعض منهم قد انشقوا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v يلزمنا أن نتحقق ما عليه اللَّه (الآب)، وما سيكون عليه المخلص نهائيًا، وكيف قد وُعد القديسون بأن ينالوا التشبه بالآب والابن، إنهما واحد في ذاتهما، فسنصير واحدًا فيهما.

v يلزم أن يُطبع الحق في الذهن في أكثر تفصيل، إننا لسنا واحدًا في الآب والابن بالطبيعة بل بالنعمة. لأن جوهر النفس البشرية وجوهر اللَّه ليسا واحدًا كما يزعم أتباع ماني.

v يوحنا الإنجيلي الذي شرب الكلمة من صدر المسيح يقول: “بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فينا، أنه قد أعطانا من روحه… من اعترف أن يسوع هو ابن اللَّه فاللَّه يثبت فيه وهو في اللَّه” (1 يو 13:4-15). إن آمنتم بالمسيح، كما آمن الرسل، تصيرون جسدًا واحدًا معهم في المسيح. أما إذا كنتم في تسرع تدعون أن لكم الإيمان والأعمال مثلهم بينما ليس لكم ذات إيمانهم وأعمالهم فلن تستطيعوا أن تنالوا نفس المركز.

v “أما تعلمون أنكم هيكل للروح القدس” (1 كو 16:3؛ 19:6)؟ يقول: “هيكل” وليس “هياكل” ليظهر أن اللَّه يسكن في الكل بطريقة متشابهة… دعوا الكنيسة كما تريدون: العروس، الأخت، الأم، فإن اجتماعها واحد فقط، لا يعوزها الزوج أو الأخ أو الابن. إيمانها واحد، ولا تتدنس بالتعاليم المتغيرة، ولا تنقسم بالبدع. تبقى عذراء حيثما ذهب الحمل تتبعه؛ وهي وحدها تعرف أغنية المسيح.

القديس جيروم

v إنهم (الثالوث) فينا ونحن فيهم، بكونهم هم واحد في طبيعتهم، ونحن واحد في طبيعتنا. إنهم فينا بكونهم الله في هيكله، ونحن فيهم كخليقة في الخالق.

v “ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا” (٢١). أضاف “فينا” لكي نعرف أن صيرورتنا واحدًا في الحب الذي بالإيمان غير المتغير يُنسب لنعمة الله وليس لأنفسنا، ولكن إذ يقول الرسول: “أنتم الذين كنتم قبلاً في ظلمة الآن نور”، فلكي لا ينسب أحد هذا الفعل لنفسه يقول: “في الرب” (أف ٥: ٨).

القديس أغسطينوس

v من الأوفق هنا أن أذكر كلمات الإنجيل: “ليكون الجميع واحدًا كما أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضًا واحدًا فينا، ليؤمن العالم أنك أرسلتني” (يو 21:17). العظمة والمجد لرابطة هذه الوحدة! الروح القدس هو هذا المجد والعظمة، ولا يمكن أن ينكره أي شخص يفحص بدقة كلام السيد المسيح وهو يقول: “وأنا أعطيتهم المجد الذي أعطيتني” (يو 22:17). في الحقيقة أعطى السيد المسيح هذا المجد لتلاميذه عندما قال لهم: “اقبلوا الروح القدس” (يو 22:20).

لقد استقبل كلمة اللّه هذا المجد الذي كان عنده قبل تأسيس العالم، عندما ألبس نفسه الطبيعة البشرية. لذلك تمجدت الطبيعة البشرية بالروح القدس، ونتج عن تلك العلاقة توزيع مجد الروح القدس على كل واحد يتحد بالمسيح، ابتداء من التلاميذ. وهكذا يقول المسيح: “وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحد. أنا فيهم وأنت فيّ، ليكونوا مُكملين إلى واحد، وليعلم العالم أنك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني” (يو 22:17، 23).

فالذي ينمو بسرعة من مرحلة الشباب إلى مرحلة الرجولة الكاملة يصل إلى مستوى هذا العصر الروحي (أف 13:4)، حتى لو كان مولودًا من عبد وإحدى السراري، فإنه يحصل على الاستحقاق الملكي ومجد الروح القدس بالانفصال والنقاء.

هذه هي الحمامة الكاملة التي يبحث عنها العريس عندما يقول: “واحدة هي حمامتي كاملتي الوحيدة لأمها هي عقيلة والدتها هي”.

القديس غريغوريوس النيسي

“وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني،

ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحد”. (22)

ربما يشير هنا إلى المجد الذي يناله الكلمة المتجسد بصنع العجائب وجذبٍ النفوس التائهة إلى خلاصها، فإنه يهب تلاميذه هذه الإمكانية في اسمه القدوس، إذ لم يخجل السيد المسيح من دعوة المؤمنين اخوة له (عب ٢: ١١). فإنهم نالوا التبني للآب، وصار لهم هذا المجد، مجد البنوة، لكن ليس بالطبيعة كالسيد المسيح، إنما بالنعمة. المجد هو عطية إلهية: “الرب يعطي رحمة ومجدًا” (مز ٨٤: ١١).

خلال آلام الصليب يحملنا السيد إلى مجده: “لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل وهو آتٍ بأبناء كثيرين إلى المجد أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام” (عب ٢: ١٠). إذ ترتفع قلوبنا نرى المجد الذي قيل عنه إن الملائكة يغطون وجوههم أمامه (يو ١٢: ٤١)، هذا المجد المشرق على أورشليم العليا، إذ الحمل هو نور أورشليم الجديدة (رؤ ٢١: ٢٣).

لا يعرف العالم الله معرفة خبرة الحياة والاتحاد معه، أما المؤمنون فيعرفونه بكونه أباهم الذي يتحدون معه، ويلمسون حبه المستمر، فيقدمون ذبائح شكر لا تنقطع.

يؤكد السيد المسيح أن الوحدة التي يتمتع بها المؤمنون مصدرها هو قبوله كابن الإنسان المجد من أبيه ليهبه لمؤمنيه. وكأن ثبوتنا في المسيح الواحد وتمتعنا بعطية المجد هو طريق الوحدة الأصيلة. الوحدة الكنسية الصادقة، الصادرة كنعًمة إلهية، هي شهادة حية ليسوع أنه المسيا الحقيقي، وعن حب الله الفائق للبشرية.

هكذا يركز السيد المسيح على الوحدة كأمرٍ أساسي وجوهري، وهي ليست بالوحدة الظاهرية كتجمع القيادات الكنسية معًا، لكنها وحدة عمل الروح القدس الذي يضم الكل بالروح بالقوة الإلهية لغاية مقدسة كاملة وليس على مستوى سياسات كنسية. مركز هذه الوحدة أن يصير الكل واحدًا في الآب والابن كما هما واحد. فمن يقبل السيد المسيح “الطريق” يسير به إلى حضن الآب متحدًا معه، كما يسير به إلى قلوب المؤمنين ليختبر وحدة الاخوة.

لما كان الروح القدس هو روح الآب وروح الابن، لذا يرى البعض أنه روح الوحدة ، هو واهب عطية الوحدة، إذ يجمع الكل معًا ليعمل الكل في الكل (١ كو ١٢: ٤).

v “المجد الذي أعطيتني أعطيتهم“، لكي بالآيات وبالعقائد يلزمهم أن يكونوا نفسًا واحدة. فإن هذا هو المجد أن يكونوا واحدًا، وهذا أعظم حتى عن الآيات. فكما أننا نعجب من الله حيث لا يوجد في طبيعته صراع أو خلاف، وهذا هو مجده العظيم، هكذا يقول أيضًا ليت هذه الأمور تكون علة للمجد. قد يسأل أحد: كيف يسأل الأب أن يعطيهم هذه بينما يقول أنه هو نفسه يعطيهم إياها؟ سواء كانت عظته خاصة بالعجائب أو الانسجام بينهم أو السلام، فإنه هو يهبهم هذه الأمور، بينما يقدم هذه الطلبة لكي يهبهم راحة (أنه يطلب من الآب عنهم).

القديس يوحنا الذهبي الفم

v إنه يسوع الذي صلى: “ليكونوا واحدًا فينا، كما أنا وأنت واحد أيها الآب” (راجع يو 17: 21، 22). لأنه عندما يكون الله الذي هو واحد في كل واحدٍ، فإنه يجعل الكل واحدًا، ويضيع العدد في حلول الوحدة.

القديس باسيليوس

v ماذا كان هذا المجد إلا الخلود الذي تتقبله الطبيعة البشرية فيه؟

فإنه لم يتقبله هو وحده، ولكن كطريقته المعتادة بتدبيره المسبق الثابت يشير إلى المستقبل في صيغة الماضي، فإنه إذ هو الآن في موضع مجده، أي قيامته بالآب، يقيمنا هو نفسه إلى ذات المجد في النهاية.

ما يقوله هنا مشابه لقوله في موضع آخر: “كما أن الآب يقيم من الأموات ويحييهم، هكذا الابن يحيي من يشاء”…

“ما يفعله الآب” ليس بطريقة ما بينما “ما يفعله الابن” بطريقة أخرى، بل “بنفس الطريقة” (راجع يو ٥: ٢١، ١٩). بهذا قام المسيح بذاته. لهذا قال: “انقضوا هذا الهيكل، وفي ثلاثة أيام أقيمه” (يو ٢: ١٩). بهذا فإن مجد الخلود الذي قال إنه أخذه من الآب يُفهم أنه قد وهبه هو أيضًا لنفسه، وإن لم يكن قد قال هذا.

القديس أغسطينوس

v يطرد الحب الخوف كما يقول الرسول: “لا خوف في المحبة، بل المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى الخارج، لأن الخوف له عذاب، وأما من خاف فلم يكتمل في المحبة” (1 يو 18:4). لكن إذا تغير الخوف إلى حب، يتم ذلك الاتحاد، نتيجة للخلاص. لأن الجميع يتحدون مع هذا الخير الوحيد من خلال الكمال الذي يرمز إليه بالحمامة: “واحدة هي حمامتي كاملتي الوحيدة لأمها. هي عقيلة والدتها هي” (نش 9:6).

يشرح السيد المسيح هذه الفكرة في الإنجيل بوضوح أكثر. عندما منح التلاميذ كل القوة من خلال بركته، أعطى أيضا بركات لقديسيه بواسطة صلاته للآب. وأضاف تاج هذه البركات حيث قيل: “وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدًا كما أننا نحن واحد” (يو 22:17). أي يجب ألا يختلفوا على الخير، بل يتحدوا في رأيٍ واحدٍ من خلال وحدة الروح القدس. وكما يقول الرسول بولس: “مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برابطة السلام، فإنما يوجد جسد واحد وروح واحد” (أف 3:4).

القديس غريغوريوس النيسي

“أنا فيهم، وأنت في،ّ

ليكونوا مكملين إلى واحد،

وليعلم العالم أنك أرسلتني،

وأحببتهم كما أحببتني”. (23)

v هل بالحق يمكن أن يُحب البشر بواسطة اللَّه (الآب) بذات الحب الذي للابن، هذا الذي به يُسر الآب (مت17:3)؟ إنه موضع سرور الآب في ذاته، ونحن موضع سروره بالابن. نحن الذين يرى اللَّه فيهم أنهم على مثاله، خلال بنوتنا نُدعى للتبني.

الحب السرمدي لطبيعة اللَّه شيء، الحب الذي بالنعمة شيء آخر… الابن يحبه الآب حسب كمال الحب الثابت سرمديًا، أما بالنسبة لنا فالنمو في النعمة يؤهلنا لحب اللَّه.

القديس أمبروسيوس

v كيف يعطيهم المجد؟ بأن يكون فيهم، هو ومعه الآب، لكي يلتحموا معًا… إنه يظهر أن السلام له قوة أعظم في جذب البشر عن صنع المعجزة، فكما أن طبيعة الصراع تسبب شقاقًا، هكذا طبيعة السلام تهب التحامًا معًا.

v أوضح السيد المسيح هنا أنه ليس وحده يحب تلاميذه، لكن أباه أيضًا يحبهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v “أنا فيهم، وأنت فيّ” (٢٣)، بمعنى إني في أولئك الذين أرسلتني إليهم، وأنت فيَّ أنا المُصالح العالم معك خلالي.

القديس أغسطينوس

v الآب يحبنا في الابن، لأن فيه اختارنا قبل تأسيس العالم (أف ١: ٤). لأن من يحب الابن الوحيد بالتأكيد يحب أعضاءه خلال عمله، إنه طعَّمنا فيه بالتبني، لكننا لسنا بهذا معادلين الابن الوحيد الذي به خُلقنا وأُعيدت خلقتنا، إذ يُقال: “لقد أحببتهم كما أحببتني“. فإن الشخص لا يكون دائما مساويًا للآخر حين يُقال: “كما هذا هكذا الآخر”…

إنه يحب الابن من جهة لاهوته، إذ ولده مساويًا لنفسه. يحبه أيضًا بكونه جسدًا لأن الابن الوحيد صار إنسانًا، وبكونه الكلمة فإن جسد الكلمة هو عزيز عليه. أما بالنسبة لنا فبكوننا أعضاء في ذاك الذي يحبه، ولكي ما نصير هكذا. لقد أحبنا لهذا السبب قبل أن يخلقنا.

القديس أغسطينوس

طلبة من أجل تمجيدهم ٢٤ – ٢٦

“أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا،

لينظروا مجدي الذي أعطيتني،

لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم”. (24)

غاية شفاعة السيد المسيح الكفارية عن المؤمنين به أن يتمتعوا بالوجود معه أبديًا في السماء. فبعد أن طلب لأجلهم الحفظ في الاسم القدوس، والتقديس، والوحدة، يطلب لهم المجد. وكما يقول المرتل: “الرب يعطي رحمةً ومجدًا” (مز ٨٤: ١١). هذه هي خطة الله من نحونا أن ننعم بالاتحاد معه أبديًا، ونتمتع بالملكوت السماوي والحياة المجيدة المطوَّبة.

ما هي السماء؟ إنها حيث يوجد السيد المسيح يكون الموضع، إن صح التعبير، سماءً. “يكونون معي حيث أكون أنا“. حضوره هو سماء السماوات وكمال التطويب والفرح. السماء هي شركة معه (في ١: ٢٣). هي رؤية مجد الابن الذي يغطي الملائكة وجوههم أمامه (يو ١٢: ٤١). الحمل هو نور أورشليم الجديدة العليا (رؤ ٢١: ٢٣). كما أن العروس تشرق بنور عريسها، هكذا ينعكس بهاء المجد على الكنيسة الحاملة أيقونته والمرتفعة من مجدٍ إلى مجدٍ.

يشفع لدى الآب بكونه صاحب سلطان أن يهب حياة أبدية. يتحدث كملك الملوك، وكرئيس الكهنة الأعظم، وكمخلصٍ العالم، وكذبيحة الحب للبشرية والطاعة للآب. فهو يطلب من مركز القوة كابن الله الوحيد واهب الحياة.

v قال: “أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا”.هذا هو ما ابتغوه، إذ كثيرًا ما كانوا يقولون: “يا سيد إلى أين تذهب؟” (يو 13: 36). وقال السيد المسيح للآب: “لينظروا مجدي“، إذ يذكر هنا بطريقة غامضة أن الراحة كلها هي أن ينظر تلاميذه إلى ابن الله، هذا يجعلهم يتمجدون. هذا ذكره بولس الرسول قائلاً: “ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجهٍ مكشوفٍ كما في مرآة، نتغير إلى تلك الصورة عينها، من مجدٍ إلى مجدٍ كما من الرب الروح” (2 كو 3: 18). وكما أن الذين ينظرون إلى أشعة الشمس ويتمتعون بهواء لطيف، يتمتعون بمعاينتهم هذا، هكذا يكون حالنا، حينئذ يقدم لنا هذا النظر لذة أكثر من لذة الناظرين إلى أشعة الشمس بكثير.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v المجد الذي للكلمة هو أيضًا مجد الآب. ويقول الرسول: “لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل إنسانٍ أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب” ( في 2: 10، 11). لذلك بخصوص لاهوته فللابن مجده، وأن مجد الآب والابن هو واحد. إنه ليس بأقل منه في السمو، لأن المجد واحد، ولا هو أقل في اللاهوت، لأن ملء اللاهوت في المسيح.

القديس أمبروسيوس

v بلا شك لا يكفي أن يقول: “أريد أن هؤلاء يكونون حيث أكون أنا” (٢٤)، بل أضاف “معي“. فإن الوجود معه هو أعظم بركة… إننا لا نستطيع أن نشك أن المؤمن الحقيقي هو مع المسيح بالإيمان، ففي هذا يقول: “من ليس معي فهو علي” (متى ١٢: ٣٠). ولكن حين قال: “أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا” تكلم على وجه التحديد عن تلك الرؤية التي بها نراه كما هو (١ يو ٣: ٢).

القديس أغسطينوس

“أيها الآب البار إن العالم لم يعرفك،

أما أنا فعرفتك،

وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني”. (25)

حينما طلب من أجل تقديسهم دعا الآب “أيها الآب القدوس“، وإذ يطلب من أجل تمجيدهم يدعوه “أيها الآب البار“. فما نتمتع به من أمجاد إنما هي أكاليل البرّ التي يقدمها لنا الديان البار. فبرّ الله هو مصدر كل صلاحٍ ومجدٍ لنا، هذه التي وعد بها الآب البار، وقدم الابن المصلوب ثمنًا لها لنتأهل لقبولها.

v قد أرانا هنا أنه لا يعرف الله (الآب) إلا الذين عرفوا ابنه، وكأن السيد المسيح يقول للآب: كنت أشاء أن يكون للناس نصيبهم إلا أنهم لم يعرفوك. وعلى ما يلوح لظني أنه يقول هنا هذا القول مستصعبًا غباوتهم، لأنهم لم يريدوا أن يعرفوا هذه الصفة إنه صالح وبار.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v لأنك بار لا يعرفك العالم. إنه العالم المعين للدينونة التي بحق يستحقها، لا يعرفك. أما العالم الذي يتصالح بالمسيح فيتأهل لمعرفتك، لا عن استحقاق ذاتي بل بالنعمة. لأنه ماذا يعني بمعرفته سوى الحياة الأبدية؟ هذه التي بينما هو يحجزها عن العالم المُدان يهبها للعالم المُصالح معه. بهذا فإن العالم لا يعرفك لأنك بار، إذ يرد له ما يستحقه وهو ألا يعرفه. بينما بنفس الطريقة فإن العالم المُصالح معه يعرفك لأنك أنت رحوم، وليس عن استحقاق ذاتي للعالم، إنما يتمتع بذلك بالنعمة لحاجته إلى العون أن يعرفك.

تبع ذلك “أما أنا فعرفتك” (٢٥). إنه هو ينبوع النعمة الذي بالطبيعة الله، وبالنعمة صار إنسانًا لا يوصف بالروح القدس والعذراء… وإذ نعمة الله هي بالمسيح يسوع ربنا يضيف: “وهؤلاء عرفوا أنك أنت أرسلتني” (٢٥). هكذا هو حال العالم المُصالح معه. لكن لأنك أرسلتني هم عرفوا، أي بالنعمة عرفوا.

القديس أغسطينوس

“وعرفتهم اسمك، وسأعرفهم،

ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به،

وأكون أنا فيهم”. (26)

يختم صلاته الوداعية بطلب المعرفة الإلهية لهم، فبعد أن طلب حفظهم من الشر، ثم تقديسهم للعمل الإلهي، والوحدة السماوية، يطلب لهم المعرفة، هذه التي لن تتحقق ما لم يرتفعوا معه بقلوبهم لتحيا في السماويات، وتكتشف المجد الإلهي.

المعرفة التي نتمتع بها هي ثمرة اتحادنا معه، فنتعرف علي الابن الذي يحملنا إلى معرفة الآب. وهي معرفة دائمة النمو: “عرفتهم اسمك وسأعرفهم“. هذه المعرفة بأسرار الله يقدمها الابن، العارف وحده بكمال الأسرار الإلهية، إذ هو واحد مع أبيه. لقد عرفنا الابن وحملنا إلى معرفة اسم الآب، وسيعرفنا أيضًا خلال نمونا في حبنا الإلهي واكتشافنا المستمر لمحبة الله وحلول الكلمة في قلوبنا.

المعرفة عمل ديناميكي لا يتوقف، خلالها يتمتع المؤمن بالنمو المستمر في معرفة الآب واهب العطايا، والابن المسيا محقق الخلاص، والروح القدس الذي يدعوه السيد المسيح في هذه الصلاة “روح الحق”.

من بركات الوحدة أن يختبر المؤمنون حب الآب لهم خلال حبه للابن الوحيد الجنس. تمتعهم بالحب الإلهي وسكنى الابن، الحب ذاته، فيهم هو مصدر الفرح الكامل (رو ٥: ٣، ٥).

v سنتمتع نحن أيضًا حسب قياسنا، إن كنا متعقلين. لذلك يقول بولس: “إن كنا نتألم معه فنتمجد أيضًا معه” (رو 8: 17). أما الذين ببلادتهم ونومهم يعملون ضد أنفسهم، حينما يُقدم أمامهم مثل هذا المجد وعدم دخولهم الجحيم، حين يكون في قدرتهم أن يملكوا ويتمجدوا مع ابن الله، ومع ذلك يحرمون أنفسهم من بركات عظيمة كهذه، هؤلاء يستحقون ربوات الدموع ويصيرون أكثر بؤسًا من أي كائن.

v أرأيت كيف بلغ السيد المسيح بكلامه إلى غاية جيدة؟ إلى المحبة التي هو أم الأفعال الحسنة كلها وكمالها… ليتنا إذن نؤمن بالله ونحبه، فلا يقال لنا: “يعترفون بأنهم يعرفون الله، ولكنهم بالأعمال ينكرونه” (تي 1: 16). مرة أخري: “فقد أنكر الإيمان وهو شرٌّ من غير المؤمن” (1 تى 5: 8). لأنه بينما يهتم (غير المؤمن) بأهله وأقاربه والغرباء لا تسعف أنت حتى الذين ينتمون إلى عائلتك، فأي عذر لك عندما يُجدف علي الله ويُهان بسببك؟

القديس يوحنا الذهبي الفم

v لقد عرفتهم اسمك بالإيمان، وسأجعله معروفًا بالعيان. جعلته معروفًا للذين هم في رحلة في أرض غريبة لها نهاية معينة، وسأجعله معروفًا للذين سيكون ملكهم بلا نهاية.

v صلاة المسيح تنتهي، وآلامه تبدأ.

القديس أغسطينوس

فاصل

من وحي يو ١٧

هل ينقصك مجد،

يا كلي المجد؟

v وقفت مع تلاميذك مندهشًا!

سمعتك تقول: مجد ابنك، ليمجدك ابنك أيضًا!

هل ينقصك مجد يا كلي المجد؟

وهل يحتاج الآب إلى مجد،

ذاك الساكن في نور لا يُدنى منه؟

v مجدك ومجد أبيك واحد،

أن تتمجد البشرية الساقطة بالمجد السماوي!

تريد أن الكل يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون.

تريد أن يصير التراب سماءً!

ويتمتع الفاسد بعدم الفساد!

هذا هو مجدك العجيب!

v احملني معك إلى حيث تحدث أباك.

فتطمئن نفسي وسط ظلمة هذا العالم،

مادمت تضع نفوس مؤمنيك في خزانة أبيك،

تُحفظ ولا يقترب إليها لص!

v تحملهم إلى أبيك القدوس!

لكي كما كرست حياتك لقداستنا،

نتقدس فيك،

ونُحسب قديسين وأبرارًا أمام أبيك.

v تحملنا جميعًا إلى الآب،

كأعضاء جسدك الواحد،

فلا يتسلل إلينا روح انشقاق!

بل ننعم بالوحدة الحقيقية أبديًا!

v تطلب من أجلنا لأنك رئيس الكهنة السماوي.

تطلب عنا لأنك رأس الكنيسة.

أنت وحدك قادر بدمك أن تطلب،

لأنك بصليبك رفعتنا إلى السماء.

وفي جنبك المطعون أخفيتنا،

وبدمك اشتريتنا وفديتنا!

v طلبتك حتمًا تتحقق فينا!

متى نراك في مجدك،

فتنعم ببهاء مجدك على كل كنيستك،

ويتمجد الكل بك وفيك إلى الأبد!

فاصل

فاصل

تفسير يوحنا 16 تفسير إنجيل القديس يوحنا
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير يوحنا 18
تفسير العهد الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى