تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 16 للأنبا غريغوريوس

الفصل السادس عشر

لو16: 1-3 مثل الوكيل غير الأمين :

وقد كان مخلصنا دائم التعليم لتلاميذه، ليجعل منهم طليعة المعلمين لتعاليمه وكان مما لقنهم من تعليم أن يحسنوا استخدام كل ما تحت أيديهم من ممتلكات هذا العالم، لأنها غير مملوكة في الحقيقة لهم وإنما هي كلها مملوكة لله، وما هم إلا وكلاء عليها، فليستخدموها إستخدام الوكلاء الحكماء الأمناء . ولكي يوضح لهم هذا المعنى ضرب لهم مثلا كعادته في التعليم، قائلا لهم ،كان لرجل غنى وكيل، وقد بلغته وشاية عنه أنه يبدد أمواله، فدعاه إليه وقال له: ما هذا الذي أسمعه عنك؟ قدم الحساب عن وكالتك، لأنك لا يمكن أن تكون وكيلاً بعد الآن . فقال الوكيل في نفسه: ماذا أفعل، فإن سيدي سيعزلني عن وكالتي، ولست قادراً على الفلاحة، كما أننى أخجل أن أستعطى؟. وقد استدعى إليه كلا من مديني سيده ، وقال للأول: كم عليك لسيدي ؟ قال: مائة مكيال من الزيت. فقال له: خذ صكك وإجاس سريعاً واكتب خمسين. ثم قال لآخر: وأنت كم عليك ؟. قال: مائة مكيال من القمح ، فقال له: خذ صكك واكتب ثمانين. فأثنى السيد على الوكيل غـيـر الأمين، إذ تصرف بفطنة، لأن أبناء هذا الدهر أكـثـر فطنة في زمانهم من أبناء النوره . ويرمز الرجل الغني هنا إلى الله المالك لكل شيء. كما يرمز الوكيل إلى كل إنسان، لأن الناس جميعاً لا يملكون في العالم شيئا مما فيه، وإنما هم وكلاء من الله في إدارته وتدبيره واستغلاله وإستثماره . بيد أن كل إنسان، أو في القليل الغالبية العظمى منهم لا يتصرفون كما ينبغي في إدارة ما استودعه الله إياهم من ممتلكات في هذا العالم أو في تدبيره أو إستغلاله أو إستثماره . وإنما هم يبددونه كله، أو يبددون بعضه، كأنه مملوك لهم، في شهواتهم الأرضية وملذاتهم الدنيوية، غير حاسبين حساباً للغد حتى فيما يتعلق بمصلحة أنفسهم. بيد أن الرجل الغني في هذا المثل الذي ضربه مخلصنا لم يلبث أن بلغته الأنباء بأن وكيله يبدد أمـواله ، فاستدعاه وطلب إليه أن يقدم الحساب عن وكالته، لأنه قرر عزله، إذ أثبت أنه غير أمين في وكالته. وعندئذ تصرف ذلك الوكيل تصرفاً ذكياً، إذ وجد نفسه عاجزاً عن أن يكسب عيشه من سبيل آخر. وقد أبت عليه كبرياؤه أن يتسول أو يستعطى، فعمل على إسترضاء الناس وإكتساب صداقتهم ومحبتهم، حتى إذا عزله سيده عن وكالته استضافوه في بيوتهم، فيتجنب بذلك الفاقة والعوز، ومن ثم استدعى كلا من مدينى سيده، وخفض لكل منهم الدين المستحق لسيده عليه. وقد استحق هذا الوكيل الثناء على تصرفه هذا، لا لأنه بدد أموال سيده ، أو لأنه خدعه فيما له من استحقاق عند مدينه، وإنما لأنه كان ذا فطنة في تأمين مستقبله، لا فطنة أبناء السماء التي تنطوي على الأمانة الكاملة والصـدق الكامل، وإنما فطنة أبناء الأرض الذين يفكرون تفكيراً دنيوياً فيما يلجأون إليه من أساليب وسبل لاجتناب إنقطاع سبل العيش أمامهم، في حين أن أبناء السماء حتى وهم على الأرض لا يمكن ولا ينبغي أن يلجأوا إلى مثل هذه الأساليب أو السبل، لأن أساليبهم دائماً روحية وسبلهم دائماً سماوية. وهذا هو معنى قول مخلصنا إن وأبناء هذا الدهر أكثر فطنة في زمانهم من أبناء النوره. بيد أن مخلصنا يوضح في هذا المثل لتلاميذه وللبشر جميعاً أنهم ينبغي أن يستخدموا ماهم وكلاء عليه من أموال وأملاك أنتمنهم عليها في هذا العالم في التخفيف من أعباء غيرهم من الناس الذين هم مدينون لله وعاجزون عن سداد ديونهم. لأنهم بذلك يكتسبون صداقة أولئك الناس أو مـحـبـتهم، حتى إذا غضب الله عليهم وسلبهم ما إنتمنهم عليه من أموال وأملاك في هذه الدنيا، وجدوا لدى أولئك الناس عونا لهم فيما بقي لهم من حياتهم على الأرض. كما أن ما يفعلونه إنما يحتسبه الله صدقة يكافئهم عليها في السماء.

وقد أوضح مخلصنا مغزى هذا المثل قائلاً لتلاميذه وأنا أقول لكم: اجعلوا لأنفسكم أصدقاء بالمال الذي لا يحق لكم، حتى إذا فنى يقبلونكم في المساكن الأبدية . إن الأمين في القليل أمين أيضاً في الكثير، وغير الأمين في القليل غير أمين أيضاً في الكثير، فإن كنتم غير أمناء في المال غير الحق، فمن يأتمنكم على المال الحق؟ وإن كنتم غير أمناء فيما هو للغير، فمن يعطيكم ما هو لكم؟. ما من خادم يستطيع أن يخدم سيدين، فإنه إما أن يبغض أحدهما ويحب الآخر، وإما أن يتعلق بأحدهما وينبذ الآخر. لا يمكنكم أن تخدمـوا الله والمال معاه . أي أن عليهم أن يجعلوا لأنفسهم أصدقاء بالمال غير الحق الذي هو مال هذا العالم المادي الدنيوي الفاني، الذي لا يمثل البركة الحقيقية التي يتمتع بها الإنسان، والذي لا يلبث أن يفقده بموته فيصبح بالنسبة إليه كالعدم، وإنما البركة الحقيقية هي النعمة الروحية السماوية الخالدة التي يتمتع بها الإنسان في الحياة الأخرى ولا يفقدها أبداً، وإنما يظل ينعم بها إلى الأبد. وأما المال غير الحق، إما لأن مالكه الحقيقي هو الله ولكن الإنسان مجرد وكيل، فإذا اغتصبه لنفسه، أو ادعاء له، فقد صار بالنسبة له مالاً غير حق. وإما لأن المال في الحياة الدنيا اختلط بالسلب والسرقة والاغتصاب، فصار غير حق بهذا المعنى. فإذا تصدق الإنسان بهذا المال غير الحق على المحتاجين إليه في الدنيا يجعل لنفسه أصدقاء، لا بين أبناء الأرض أثناء حياته في الدنيا فحسب، وإنما كذلك من أبناء السماء الذين يحيون في مساكنهم السماوية الأبدية حياة أبدية. ومن ثم إذا انتهت حياتهم في الأرض ففنيت بذلك حياتهم الأرضية وفنيت بالنسبة لهم أموالهم الأرضية، قبلوهم هناك في تلك المساكن الأبدية في السماء، فتمتعوا فيها بما يتمتع به أولئك من حياة أبدية مثلهم، وذلك لأن الذي برهن على أنه أمين فيما أودع لديه في الدنيا من مال دنيوي يعتبر قليلاً مهما بدا للناس كثيراً، يبرهن بذلك على أنه خليق بأن يكون أميناً فيما يودع لديه من نعمة سماوية كثيرة جداً لا يساوى كل مال الأرض شيئاً بالنسبة إليها، وأما الذي يبرهن على أنه غير أمين في ذلك المال الدنيوي القليل الذي أودع لديه في الدنيا، فإنما يبرهن بذلك على أنه سيكون غير أمين إذا أودع لديه من النعمة السماوية الكثيرة، ومن ثم يبرهن على أنه غير خليق بتلك النعمة، لأنه إن كان غير أمين في ا المال غير الحق الذي هو زائف وزائل وفان، فكيف يؤتمن على المال الحق الذي هو النعمة الحقيقية الباقية الخالدة ؟ وإن كان غير أمين في المال الدنيوي الذي لا يملكه هو وإنما يملكه الله، فكيف يكون خليقاً بالنعمة السماوية التي إذا نالها إنسان تصبح مملوكة له هو، لا ينتزعها أحد منه إلى الأبد؟. ذلك أنه إذا تشبت إنسان بالمال الدنيوي واستأثر به لنفسه هو وحده ، غير متصدق منه على أحد سواه ، وغير مستخدم إياه في الأوجه التي أرادها الله ـ وهو المالك الحقيقي لذلك المال ـ أن يستخدمه فيها، أصبح بذلك عبداً لذلك المال وخادما له وحاصراً كل إهتمامه فيه، فأنساه الله وما يجب له من عبادة ومن خدمة ومن إهتمام. لأن عبادته للمال تتعارض مع عبادته لله، ولأن خدمته للمال تلهيه عن خدمته لله، ولأن إهتمامه بالمال يصرفه عن إهتمامه بالله. إذ أنه لا يمكن لإنسان أن يخدم سيدين في وقت واحد، ولا سيما إن كان هذان السيدان متناقضين كل التناقض في طبيعتهما، فكان أحدهما سماوياً سامياً، وكان الآخر أرضياً رضيعاً، فإنه إما أن يبغض هذا ويحب ذاك، وإما أن يتعلق بهذا وينبذ ذاك. ومن ثم لا يمكن عبادة المال وعبادة الله معاً، ولا يمكن خدمة المال وخدمة الله في وقت واحد. ويخلص من ذلك كله أن حب الإنسان للمال يبعده عن الله، فيبعد الله عنه. وواضح أن نتيجة هذا ، هي غضب الله عليه، وقضاؤه بهلاكه.

لو16: 14-18 توبيخ الفريسيين على محبتهم للمال:

وحين كان مخلصنا يلقن تلاميذه هذه التعاليم عن وجوب الابتعاد عن مـحـبـة المال التي تؤدي إلى الابتعاد عن محبة الله، ومن ثم تؤدي إلى الهلاك الأبدي. كان الفريسيون كعادتهم مختلطين بالذين يسمعونه ليمسكوا عليه تهمة يتهمونه بها، فكانوا هم أيضا يسمعون هذا كله . وقد كانوا ـ على الرغم من أنهم فقهاء الدين وعلماؤه والمتظاهرين بالتمسك به والعمل في تزمت بمقتضاه . – محبين للمال، شرهين في جمعه، حريصين على اكتنازه، مسرفين في إستخدامه لشهواتهم الجسدية وملذاتهم الدنيوية، ومن ثم إستهزأوا بتعليم مخلصنا في هذا الشأن، لأنهم وهم فقهاء الشريعة كانوا يفسرون الشريعة لا على حقيقتها، كما وضعها الله، وإنما على مقتضى مصلحتهم هم، وبما يتفق مع أهدافهم وأهوائهم. فلم يكونوا يرون تعارضاً بين عبادة الله وعبادة المال ، مما يدل على أن عبادتهم لله كانت شكلية وسطحية وزائفة وكاذبة، ومنطوية على النفاق والرياء والتظاهر والغش. ولذلك وبخهم مخلصنا قائلاً لهم وأنتم تظهرون أنفسكم أمام الناس أبراراً، ولكن الله يعرف قلوبكم، لأن التعالي بين الناس مكروه عند الله. لقد قامت الشريعة والأنبياء حتى زمن يوحنا . ثم منذ ذلك الحين بدأت البشارة بملكوت الله. وكل واحد يشق طريقه عنوة إليه. وإنه لأيسر أن تزول السماء والأرض من أن تسقط نقطة واحدة من الشريعة. كل من طلق زوجـتـه وتزوج أخـرى فـقـد زني. وكل من تزوج التي طلقها زوجـهـا فـقـد زني، . أي أن الفريسيين كانوا يتظاهرون أمام الناس بأنهم أتقياء أبرار، بل إنهم متزمتون في تقواهم وبرهم، لـيـمـتـدحـهم الناس ويحـتـرمـوهم ويكرموهم ويجعلوا منهم أولياء وأئمة ومعلمين لهم. ولكن الله العارف بما تخفيه القلوب يعرف ما تمتلئ به قلوبهم من شرور وفجور وأدناس وأرجاس واستعلاء وكبرياء. ومن ثم فهم مكرهون لديه لأن كل هذه الصفات الذميمة التي يتصفون بها إنما هي مكروهة لديه، وقد كانوا يفسرون الشريعة تفسيراً لفظياً ظاهرياً لمنفعتهم، متغاضين في سبيل تلك المنفعة عن روح الشريعة، متغافلين عن جوهرها. وقد ظلوا يفعلون ذلك في أيام أنبياء العهد القديم كله، حتى بدأ يوحنا المعمدان يبشر بطلوع فجر العهد الجديد الذي يأتي فيه ملكوت الله، والذي لا يسود فيه لفظ الشريعة وإنما روحها، ولا ظاهرها وإنما جوهرها، ولا يأخذها الناس فيه . على ضوء تعاليم ذلك العهد الجديد – مأخذا سهلا، وإنما يعرفون ما تتطلب عقولهم لفهمها وقلوبهم العمل بها على حقيقتها من جهد وجهاد، ومشقة وكفاح، ومعاناة ومكابدة، فلا يستطيعون أن يشقوا طريقهم إليـهـا وإلى ملكوت الله الذي لا نسود فـيـه إلا بالعزيمة الصادقة والإرادة الصلبة التي لا تلين ولا تتزعزع. لأن تلك الشريعة في روحها وجوهرها ستظل أبدية حتى إنه لأيسر أن تزول السماء والأرض من أن تسقط نقطة واحدة من أحكامها. ولكن كانت تلك الشريعة مثلا تسمح في ظاهرها بأن يطلق الرجل زوجته، إنها على حقيقتها وفي جوهرها ـ كما علم بذلك الرب يسوع المسيح – لا تسمح بذلك أبدأ، وإنما تعتبر كل من طلق زوجته وتزوج أخرى زانيا، كما تعتبر كل من تزوج التي طلقها زوجها زانيا ويستحق كل من هذا وذاك جزاء الزناة وهو الهلاك. وهذا هو الشأن أيضاً بالنسبة لمحبة المال التي كان فقهاء العهد القديم يعتبرونها حقا وحلالاً، في حين أنها في حقيقتها ليست إلا باطلا وضلالاً، فلا يحق للفريسيين أن يتظاهروا إذن بأنهم أتقياء أبرار لمجرد أنهم نفذوا أحكام الشريعة كما فهموها فهماً  خاطئاً، أو تعمدوا أن يفهموها على هذا النحو لإستغلالها في شهواتهم وملذاتهم، لأن نور العهد الجديد قد طلع عليهم ففضح نفاقهم ورياءهم وأوضح خبيثة نفوسهم وحقيقة شرهم ومكرهم. على أن نص ما يقوله السيد المسيح له المجد فيما يتصل بالطلاق يضع علامة على الطريق هامة في فهم العلاقة بين الرجل وزوجته كما يريدها الله أن تكون. وهذه هي شريعة السيد المسيح في العـهـد الجـديد . حيث رفع هذه العلاقة بين الرجل وزوجته إلى درجـة رباط إلهي مقدس، وإلى مرتبة سر من أسرار الروح القدس في الكنيسة، عرف بسر الزيجة المقدس. ولما كان الروح القدس، روح الله، هو الذي يجمع بين الرجل وزوجته، لذلك يصير الاثنان جسداً واحداً، فلا يكونان بعد اثنين إذن وإنما جسداً واحداً، (مت 19: 5، 6).

ومن هنا فإن الزواج في المسيحية لا يقبل الانحلال بطبيعة الرباط الإلهي الذي ربط بين الرجل وزوجته ،ومن ثم فما جمعه الله لا ينبغي أن يفرقه الإنسان، (مت 19: 6). فإذا طلق الرجل زوجته بإرادته المنفردة لم يستطع طلاقه لها أن يحل الرباط المقدس بينهما، ولذلك فإنه إذا طلقها بغير حكم كنسي وتزوج بامرأة أخرى صار زانيا، لأنه مازال مرتبطاً بزوجته الأولى بالرباط الإلهي الذي ربطه الروح القدس، وبالتالي فإن زوجته التي طلقها بإرادته المنفردة لا تزال مرتبطة به في الواقع على الرغم من طلاقه لها، فإذا تزوجها رجل آخر، صار هذا الآخر بزواجه منها زانياً، لأنها مازالت مرتبطة بزوجها الأول. ولذلك يقول بولس الرسول إن «المرأة تظل مرتبطة شرعاً بزوجها في الرب فقط، (۱كو 7: 39) : ولا تصير المرأة طالقة من زوجها بإرادة زوجها أو بإرادتها هي، وإنما بحكم الكنيسة، لأن الكنيسة هي التي ربطت بينهما بالسلطان الممنوح لها من الله . فالكنيسة هي وحدها التي تملك أن تفصل بينهما إذا كانت هناك أسباب تقتضى فصم العلاقة المقدسة بين الزوجين فما جمعه الله لا ينبغي أن يفرقه الإنسان، .

لو16: 19-31 مثل الغنى ولعازر المسكين

وإذ رأى مخلصنا غلظة قلوب الفريسيين وإغلاقهم إياها دون الاستماع إلى تعاليمه، ولا سيما بشأن محبة المال وعاقبتها. بل إنهم رفضوها واستهزأوا بها، وإذ لم تقنعهم التعاليم التي نادي بها صراحة، كما لم تقنعهم التعاليم التي مضرب لهم الأمثال على سبيل الرمز والتشبيه ليتغلبوا بها على غبائهم أو تغابيهم، ويدركوا مغزاها، كشف لهم النقاب عن مشهد من مشاهد السماء التي تتضح فيها عاقبة الأشرار الذين ينحصر همهم وإهتمامهم في التنعم والرفاهية وإكتناز المال. كما تتضح فيها عاقبة الأبرار الذين يعانون في الحياة ويلاتها ونكباتها في وداعة وقناعة وصبر وطول إحتمال، فقال لهم كان ثمة رجل غنى يرتدي الأرجوان والبز، ويتنعم كل يوم مترفها. وكان رجل فقير اسمه لعازر منطرحاً عند بابه، وقد إمتلأ جسمه بالقروح. وكان يشتهي أن يشبع الفـتـات الذي يسقط من مائدة ذلك الغني، فلم يكن يعطيـه أحـد، وإنما كانت الكلاب تأتى وتلحس قروحه. ثم مات الفقير فحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم، ومات الغنى أيضاً ودفن. وفي الجحيم رفع عينيه وهو يقاسي العذاب، فرأى إبراهيم من بعيد ولعازر في حضنه، فنادى وقال: يا أبي إبراهيم ارحمني وأرسل لعازر ليغمس في الماء طرف إصبعه ويبرد لساني، لأنني أتعذب في هذا اللهيب . فقال إبراهيم: تذكر يا بني أنك في حياتك قد استوفيت مسراتك. وأما تعازر فقد استوفى بلاياه . ومن ثم فهو الآن يتعزى وأنت تتعذب. ومع ذلك كله فإن بيننا وبينكم هوة عظيمة راسخة، بحيث إن الذين يريدون العبور من هنا إليكم لا يستطيعون. كما لا يستطيع ذلك الذين يريدون العبور من عندكم إلينا. فقال: أتوسل إليك إذن يا أبتاه أن ترسله إلى بيت أبي، حيث لي خمسة إخوة حتى ينذرهم لئلا يجيثوا هم أيضاً إلى مكان العذاب هذا. فقال له إبراهيم: إن لديهم موسى والأنبياء، فليستمعوا إليهم، قال: كلا يا أبي إبراهيم، لكنهم إذا ذهب إليهم أحـد الموتى يذوبون . فقال له : إن كانوا لم يستمعوا إلى موسى والأنبياء فإنهم وإن قام أحـد الموتى لا يقتنعون .

وندرك من هذا المشهد السمائي الذي وصفه مخلصنا أن ذلك الرجل الغنى، كان عظيم الثراء، يرتدي رداء الملوك وهو الأرجوان، ولا يرتضى لنفسه إلا أفخر وأفخم الأردية وأكثرها نعومة في عصره وهو البر، ويتنعم كل يوم بأطايب المأكل والمشرب، ويترفه بكل ما تتيح له أمواله الكثيرة من ألوان الرفاهية. ولكنه كان أنانيا قاسي القلب عديم الرحمة، إذ كان يرى ذلك الرجل المقعد الفقير المسكين منطرحاً عند بابه، وقد إبتلاه الزمان فضلاً عن فقره وعن بلواه التي أقعدته ببلوى أخـرى أفظع وأبشع تجعل جسمه كله ممتلئاً بالفروح التي لا تفتأ تنضح بالدماء، ولا تفتأ تؤلمه وتعذبه أشد عذاب. وكان جائعاً يشتهي أن يسد رمقه، لا مما تزخر به مائدة ذلك الغنى من أشهى ألوان الطعام، وإنما من الفتات الذي يتساقط من تلك المائدة، والذي لا تأكله إلا الكلاب، فلم يكن ذلك الغني – لفرط أنانيته وقسوة قلبه وإنعدام رحمـتـه ـ يلقى إليه بشيء حتى من ذلك الفتات. أو يأمر عبيده وخدمه بأن يلقوا إليه منه شيئا، تاركاً إياه تحت سمعه وبصره يتلوى من الجوع الذي كان ينهش أحشاءه . وياليت عناء هذا النص الشقي كان يقف عند هذا الحد، وإنما كان يزيد من تعاسته وشقائه وما يكابد من كرب وعذاب أن الكلاب كانت تأتي وتلحس فروحه، فتزيده كريا على كرب، وعذاباً فوق عذاب. وهكذا مضت الأيام بذلك الرجل الغني الذي لم تكن تزيده الأيام إلا ثراء وكبرياء، كما مضت بذلك الرجل الفقير الذي لم تكن تزيدة إلا ألما وعناء، وإحتمالاً وصبراً على ما أصابه من بلاء، حتى جاءت النهاية المحتومة بالنسبة للغنى وللفقير على السواء، وهي الموت. فماذا كانت النتيجة؟ لقد مات لعازر الفقير فحملت الملائكة روحه الطاهرة في موكب نوراني إلى حضن إبراهيم في السماء، حيث اشترك في وليمة رب المجد جنباً إلى جنب مع أبي الأنبياء، ومات ذلك الرجل الغنى أيضاً فدفن ذروه جسده في الأرض التي طالما عشقها وحصر كل إشتياقه وإشتهائه فيها، فتعفن وانتهى إلى تراب, وأما روحه الأثيمة فلم تحملها ملائكة، وإنما هوت مع الشياطين إلى الجحيم الذي يتلظى بكل نيران العذاب. وهناك رفع عينيه وهو يتقلب في لهيب تلك النيران ويكتـوى بها، فرأى إبراهيم من بعيد وهو في نعيم السماء. وقد استولت عليه الدهشة ولا شك، إذ رأى في حضنه لعازر الذي كان يراه كل يوم ملقي كالحيوان الجائع الجريح عند بابه فلم يكن يأبه له أو يتنازل بالنظر إليه أو يتفضل عليه ولو بكسرة جافة فائضة عن مائدته الضخمة الفخمة الحافلة. بيد أ أنه فيما هو يعاني من عقاب جسيم وعذاب أليم استحقه بعدل نسى كبرياءه، وصرخ في مذلة، متوسلا إلى إبراهيم منقباً إياه بأنه أبوه، لأن اليهود جميعاً كانوا يتفاخرون دائماً بأنهم أبناء إبراهيم. وعلى الرغم من أنه ولا ريب كان على يقين من أنه لم يعد الآن مستحقاً لتلك الأبوة من ناحية الروح، فإنه قد تشبث بها ولو من ناحية الجسد، وتضرع إليه أن يرسل لعازر الذي كان من قبل يزدريه ويحتقره ولم يتصدق عليه قط في أشد حالات عوزه ومحلته ليتنازل ويعمل معه معروفاً فيغمس في الماء طرف أصبعه ويبرد لسانه وهو يتعذب في ذلك اللهيب، ولو كان هذا قد حدث أثناء حياته على الأرض واحتاج ذلك الغنى إلى معونة لعازر المنطرح أمام بابه على الرغم من قسوته عليه لكان لعازر البار قد استجاب له بدافع من صلاحه وبره ، وقدم إليه بقدر إستطاعته ما احتاج إليه، ولكن الموت يغلق أمام الأشرار باب الرحمة إلى الأبد، وقد كان مفتوحا أمامهم طوال حياتهم في الدنيا على مصراعيه، وكان يمكنهم في أي لحظة أن يطرقوه وأن يدخلوه . ولكنهم لم يفعلوا بسبب كبريائهم وفساد نفوسهم وسواد قلوبهم وسيطرة الشر عليهم، ومن ثم رفض إبراهيم طلب الغنى مبرراً ذلك الرفض بسببين عظيمين في مغزاهما، رهيبين في مدلولهما، إذ قال له إنه في حياته على الأرض كان مهتما كل الإهتمام بالمسرات الأرضية، مهملاً كل الإهمال البركات السمائية، فنال كل ما يشتهيه من مسرات على الأرض، وبذلك استوفى كل استحقاقه الذي طلبه هناك، فلم يعد له أي حق يطلب استيفاءه هنا في بركات السماء، في حين أن لعازر قد استوفي بلاياه على الأرض، وقد كان على الرغم من كل تلك البلايا وقسوتها صالحاً باراً، يتطلع إلى بركات السماء، فنال ما طلب، وتعزى هنا بقدر ما تعذب هناك، في حين أنه هو ذلك الغنى الأناني الشرير – يتعذب هنا بقدر ما تمتع هناك. أن ثمة سبباً آخر أعظم وأرهب لرفض إبراهيم إلتماس ذلك الغنى، يجعل الإستجابة لذلك الإلتماس متعذراً، بل مستحيلاً، وهو أن بين الصالحين البررة وهم في فردوس النعيم، والأنانيين الأشرار وهم في نار الجحيم، فاصلاً لا يمكن تخطيه أو إجتيازه ، وهو هوة عظيمة عميقة راسخة لا يمكن أن تتزحزح أبدأ من مكانها أبد الدهر بحيث إن الذين يريدون العبور من فردوس النعيم إلى نار الجحيم يستحيل عليهم ذلك ، كما يستحيل ذلك على الذين يريدون العبور من الجحيم إلى النعيم، لأن هذه الهوة العظيمة هي بمثابة باب ضخم إذا أغلقه رب البيت بعد أن أدخل خاصته معه، لا يستطيع خاصنه، أو بالأحرى لا يريدون أو يرغبون أن يخرجوا منه . كما لا يستطيع أعداؤه الذين رفضهم ورفض دخولهم معه أن يدخلوا منه مهما طرقوا الباب، ومهما توسلوا وتضرعوا. لأن هذا الباب ظل مفتوحاً أمامهم إلى آخر لحظة من لحظات حياتهم على الأرض، وكان لا يفنا يدعوهم في كل لحظة ليلاً ونهاراً إلى دخوله، فكانوا يرفضون، ومن ثم كان الجزاء العادل بعد ذلك ألا يدخلوه أبداً، لأنهم برهنوا أثناء حياتهم الأرضية على أنهم غير جديرين بدخوله، أو التمتع بالنور الإلهي الذي يغمر الداخلين منه بالنعمة الأبدية. وإنما الأجدر بهم أن يظلوا هائمين في الظلمة الخارجية، معذبين بما يؤدى إليه البعد عن نورالله من العذاب الأبدى، وإذ عرف ذلك الرجل الغني تلك الحـقـيـقـة التي لا تقبل مزيداً من الجدل، والتي تجعل طلبه ضـرياً من المحال، تقدم إلى إبراهيم بإلتماس آخر ظن أنه ممكن الإستجابة، إذ أنه وقد اكتشف بعد فوات الأوان ما تمتلئ به نفسه من شر، وعرف ما استوجبه ذلك الشر لدى العدل الإلهي من عقاب، أراد أن يبعث بتحذير إلى إخوته الخمسة الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة في الدنيا، والذين كانت تتصف نفوسهم بمثل ما تتصف به نفسه هو من شر، عسى أن يتوبوا فلا يكون مصيرهم هو نفس مصيره، ولا يلاقوا بعد موتهم من العذاب ما يلاقي هو، فتوسل إلى إبراهيم أن يرسل لعازر إلى أولئك الإخوة فينذرهم بما ينتظرهم، ولكن إبراهيم رفض هذا الطلب، لأن إخوته وقد نادی موسى وسائر الأنبياء بينهم بتحذيرات وإنذارات من الله كافية جداً لأن تجعلهم – إن كانوا يريدون التوبة حقاً. يتوبون. ولو أنهم استمعوا إليها لما أعورهم بعد ذلك أي تحذير أو نذير. ولكنهم صموا آذانهم عنها قاصدين وعامدين، وتجاهلوها معاندين لها، ومتمردين عليها. بيد أن الغنى الشـريـر أخـذ فـي هـذه للمرة يجادل إبراهيم قائلا له إنهم وإن كـأنـوا لـم يستمعوا إلى موسى والأنبياء، فإنهم إذا ذهب إليهم أحد الموتى ووصف لهم ما رآه بعينيه وسمعه بأذنيه فسيكون ذلك كفيلا بتوبتهم. وقد كانت هذه حجة واضحة البطلان، لأنه كان معلوماً لدى اليهود جميعاً أن أقوال موسى والأنبياء إنما هي أقوال الله نفسه. والله أعلم بما بعد الموت من أي أحد من الموتى، وأصدق منهم جميعاً. ومن ثم أجاب إبراهيم قائلا إنهم إن كانوا لم يستمعوا إلى موسى والأنبياء الذين كانوا ينطقون بأقوال الله العالم بكل شيء، والصادق في كل ما قال، فإنهم بالأحرى وإن قام أحـد الموتى الذين ليسوا إلا بشراً لا يقتنعون أو يتوبون، وإنما سيظلون فيما هم غارقون فيه من شر وضلال.

والمعروف أن مقال ربنا يسوع عن الغني ولمعازر الوارد في هذا الفصل هو واحد من أمثاله الجميلة المشحونة بالتعاليم الروحانية السمانية. وهذا لا ينفى أن المثل هو في نفس الوقت قصة حقيقية وواقعة تاريخية، إذ أن مخلصنا يفتتحه بما يدل على أنه يحكى قصة وقعت بالفعل فيقول كان ثمة رجل غنى يرتدي الأرجوان والبره، كما يذكر أشخاص القصة بأسمائهم، ومنهم لعازر الفقير، وإبراهيم الخليل أبو المؤمنين، كما يذكر وقائع حدثت فعلاً، ومنها لعازر المطروح على باب الغنى يشتهي الفتات المتساقط من مائدة الغني، والكلاب تلحس قروحه، والغني الذي له خمسة إخوة في العالم يشفق عليهم أن يكون مصيرهم كمصيره. أما الغلي، فحقا أن الرب مخلصنا لم يذكـر اسـمـه، ولعل السبب في ذلك أنه شرير، وفي هذا تعليم لنا حتى لا نقع في خطيئة إدانة الأشرار، وأما الأبرار فنذكرهم، ولا سيما الذين انتقلوا إلى العالم الآخر، تكريماً لهم، ولكي ننسج على منوالهم.

وفي هذا المثل أو القصة الواقعية نلاحظ:
(أولا) أن لعازر حملته الملائكة إلى حضن إبراهيم، مما يتبين معه أن من بين مهام الملائكة وخدماتهم للناس، أنهم يحملون أرواح القديسين إلى النعيم، ولم يذكر الرب يسوع عن الغني أنه حملته الملائكة بعد موته إلى حضن إبراهيم الذي يرمز إلى مواضع الراحة والنعيم المخصصة للأبرار والصديقين، فتحت كنف إبراهيم أبي المؤمنين يلتقى الأبرار والصديقون.
(ثانياً) أن الجحيم هو مقر العذاب لأرواح الأشرار. ولذلك فإن العذاب فيه عذاب مؤقت للروح دون الجسد لأن الجسد يبقى في التراب إلى يوم القيامة العامة والحساب العظيم. والجحيم هو عربون العذاب الأبدي الذي يشقى به الأشرار كاملاً في جهنم النار الأبدية التي ستفتح للأشرار ولإبليس وملائكته بعد يوم . الحساب والدينونة العظيم.
(ثالثا) أن مخلصنا يوضح في المثل عذاب الأشرار في الجحيم الآن وقبل يوم الدينونة، لأنه جاء على لسان الغنى الشرير أن له خمسة إخوة في العالم ما زالوا أحياء، وهو يريدهم ألا يأتوا إلى
مكان العذاب الذي ذهب إليه هو.
(رابعاً) أن قول إبراهيم للغني ، إن لديهم موسى والأنبياء، دليل على أن المنتقلين إلى العالم الآخر، على علم بما حدث وما يحدث في الأرض، إذ أن موسى والأنبياء جاءوا بعد إبراهيم بمئات السنين.
(خامسا) أن الحوار بين الغني الشرير وأبينا إبراهيم برهان على التعارف بين الأرواح في العالم الآخر، فالغنى عرف إبراهيم الخليل مدركاً أنه أبوه ، كما عرف لعازر باسمه
(سادسا) أن تفكير الغني في إخوته الذين في العالم دليل على أن المنتقلين – ولو كانوا أشراراً. لا يفقدون بالموت ذاكرتهم وذكرياتهم، كما لا يفقدون بالموت عواطفهم ومشاعرهم والروابط الإنسانية والتاريخية التي تربطهم بأقربائهم وأصدقائهم وإذا كان الغني الشرير لم ينس إخوته الذين في العالم، وطلب أن يذهب إليهم لعازر لينذرهم بالتوبة حتى لا يكون لهم مثل مصيره ، فكم بالأحرى تكون مشاعر القديسين من المنتقلين نحو إخوتهم الذين في العالم، وكيف بالأولى تكون رغبتهم في خلاصهم ونجاتهم، والصلاة عنهم وبذل الجهود في سبيل إنقاذهم من الهلاك الأبدى. ومن ثم فإن هذا المثل من فم مخلصنا دليل على أن المنتقلين يتمتعون بالحياة أعظم ما تكون الحياة، بكل الذكريات والمشاعر والعواطف والإهتمامات الروحية. (سابعاً) أن المثل نفسه دليل على عدالة الجزاء الأخروي، وأن ما يزرعه الإنسان فإياه يحصد أيضاً، وأن المظلوم سيجد في العالم الآخر إنصافاً وعدلاً وجزاء صالحاً. وأما الظالم فله عند الله عقابه. ولا رحمة في العالم الآخر لمن لم يعمل رحمة في دنياه .

زر الذهاب إلى الأعلى