تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 17 للأنبا غريغوريوس

الفصل السابع عشر

لو17: 1-10 العثرات ووجوب المغفرة وفعل الإيمان :

 وقد كان مخلصنا وفادينا ومعلمنا جميعاً لا تسنح فرصة يختلى فيها بتلاميذه إلا يعلمهم فيها شيئاً مما ينبغي أن يكون عليه سلوكهم نحو الآخرين ونحو أنفسهم، لتهيئتهم للرسالة العظيمة التي إختارهم لأدائها. واتهيئتهم كذلك ليعلموا سائر الناس ما سبق له أن علمهم هو، ومن ثم قال لهم لأبد أن تأتي العثرات، ولكن الويل لذلك الذي تأتي العثرات بواسطته. كان أجدر له أن يعلق في عنقه حجر الرحا ويطرح في البحر من أن يتسبب في إعثار أحد هؤلاء الصغار.. أي أن البشر لضعف طبيعتهم معرضون على الدوام لأن يعثروا أثناء مسيرة حياتهم في هذه الدنيا، فيرتكبوا الخطيئة ويقترفوا الإثم، ومن ثم يكونون معرضين لدى العدل الإلهي – إن لم يندموا ويتوبوا ـ لأن ينالوا العقاب الذي يستحقونه عن خطاياهم وأثامهم. بيد أن الذين يسـتـحـقـون العقاب الأشد والعذاب الأكبر والويل الذي ليس أشد ولا أكبر منه ويل أو هول، هم أولئك الذين يدفعون غيرهم لأن يعثروا، بأن يشجعوهم على إرتكاب الخطيئة، ويدفعوهم إلى إقتراف الإثم، ولا سيما رجال الدين ومعلميه الذين باسم الدين أو تحت ستاره يضللون الناس عن حقيقة مبادئه وعقائده ، ويؤولون وصاياه وأحكامه لمصلحتهم الذاتية، فيصورون لهم الشر خيراً، والفساد برا. أو يجعلون من أنفسهم في سيرة حياتهم الشخصية قدوة شريرة فاسدة للناس، ولا سيما صغار السن، أو قليلي المعرفة والخبرة، الذين سرعان ما يقتدون بهم، فيتحولون من الخير إلى الشر، ومن البر إلى الفساد، ومن حياة الفضيلة إلى موت الرذيلة. ومن ثم تكون جريمة أولئك الذين تأتي العثرات بواسطتهم أشنع من جريمة القاتل أو المحرض على القتل، وتكون جزيرتهم أبشع من جريرة الزاني أو المحرض على الزني، ويكون أجدر بمن يفعل ذلك منهم أن يكون عقابة أشنع وأبشع من كل جريمة يرتكبها بشر، إذ يستحق عندئذ أن يطرح في البحر بعد أن يعلق في عنقه أثقل الأثقال كحجر الرحا كي يغوص بأسرع ما يكون إلى أعمق الأعماق، فيختلق على الفور في الماء، أو بالأحرى في اللهيب، ويهلك بأفظع أساليب الهلاك.

ثم قال مخلصنا لتلاميذه احترسوا لأنفسكم. فإن أخطأ إليك أخوك فوبخه، فإن تاب فاغفر له. وإن أخطأ إليك سبع مرات في اليوم، ثم رجع إليك سبع مرات قائلاً إنني تائب فاغفر له..

وهذا درس ثمين في التسامح والغفران ينبغي للتلاميذ وللناس جميعاً أن يسمعوه في حرص

واحتراس حتى لا يقعوا هم أنفسهم في عثرة شريرة هي عثرة الحقد، وربما في عشرة أشد شراً وهي شهوة الانتقام. فإن أخطأ إلى أحدهم أخوه، سواء أكان من بنى أبيه وأمه، أو كان من بني الإنسان على العموم، فلا ينبغي أن يسارع إلى الغضب منه غضبا أعمى، أو يندفع إلى مقابلة ما لحقه منه من ضرر مادي أو معنوي بضرر مثله أو يخاصمه ويقطع صلته به، معادياً إياه أو معتدياً عليه. وإنما فليوبخه معاتبا إياه على ما بدر منه من خطأ عسى أن يتبين له أنه كان وإهما وظالماً لأخيه، أو كان أخوه غير متعمد ولا قاصد الخطأ إليه، وعندئد فليصافحه ويصافيه ويعتذر إليه عن سوء ظنه فيه. فإن تبين له أنه كان متعمداً وقاصداً الخطأ بالفعل إليه ثم أعرب عن ندمه على ما بدر منه وتوبته عما أخطأ به إليه فليغفر له وليسامحه وليمسح من نفسه كل أثر للغضب منه أو الحقد أو الضغينة عليه، عائداً إلى مودته، حريصاً كل الحرص على محبته. وحتى إن أخطأ إليه في نفس اليوم مرة أخرى أو مرات كثيرة مهما كان عددها، ثم رجع إليه في كل مرة نادما تائياً، فليغفر له كما فعل في المرة الأولى، جاعلاً قدوته في ذلك أباه السماوي الذي فتح باب مغفرته على مصراعيه لكل من يخطئ إليه من البشر إلى آخر نسمة في حياته على الأرض. على أن في قول مخلصنا إن أخطأ إليك أخوك فوبخه، فإن تاب فاغفر له . وإن أخطأ إليك سبع مرات في اليـوم ثم رجع إليك سبع مرات قائلاً: إنني تائب، فاغفر له، بياناً للسلوك المسيحي نحو المسيئين بصورة تقطع كل شك. فقد أعطى مخلصنا له المجد في شريعته الحق لمن أسئ إليه أن يوبخ من أساء إليه. والتوبيخ ينطوي على العتاب، بل أعطاه ما هو أكثر وهو الحق في توجيه اللوم. فمعلمنا وفادينا الرب يسوع لم يطلب هنا ممن أسئ إليـه أن يصفح عمن أساء إليه مباشرة وبغير مقابل، وإنما أعطاه أولا حق العتاب وتوجيه اللوم، فإذا رجع إليه العسئ واعتذر له عن خطئه إعتذاراً صريحاً، قبل إعتذاره وتوبته وغـفـر له بروح المسيح والمسيحية، أي أن الغفران هنا مشروط بشرط هو إعتذار المخطئ أو المسئ وتوبته عن خطئه. أما حق العتاب فأمر مقرر في الكتاب المقدس، إذ جاء في سفر يشوع بن سيراخ وعاتب صديقك فلعله لم يفعل. وإن كان قد فعل فلا يعود يفعل، عاتب صديقك فلعله لم يقل . وان كان قد قال فلا يكرر القول. عاتب صديقك فإن النميمة كثيرة. ولا تصدق كل كلام. فرب زال ليست زلته من قلبه، ومن الذي لم يخطأ بلسانه، (ابن سيراخ 19: 13- 17) . ولقد مارس مخلصنا نفسه حق العتاب وتوجيه اللوم والتوبيخ عندما صفعه خادم رئيس الكهنة على وجهه، إذ «أجابه يسوع: إن كنت قد أسأت في الكلام فاشهد بما أسأت، وإن أصبت فلماذا تضربني؟» (یو 18: 23).

بيد أن رسل مخلصنا بدا لهم ذلك الصفح عن الإساءة وذلك الغفران للمسىء أمـرا فـوق الطاقة، إذ أن تعاليمه لهم وللبشر جميعاً تحتاج إلى قدر عظيم عميق من الإيمان لاستيعابها والعمل بها. وإذ كان التلاميذ لا يزالون في بداية الطريق إلى ذلك الإيمان العظيم العميق، قالوا للرب ، زدنا إيماناً، ، أي حدثنا عن ذلك المدى من الإيمان الذي تستطيع به أن تمتلك تلك القدرة التي لا حد لها على الغفران، وامنحنا من الإيمان القدر الذي يؤهلنا لإمتلاك تلك القدرة ، فقال الرب ، لو كان لديكم من الإيمان مثل حبة الخردل، لقلتم لشجرة التوت هذه إنقلعي من جذورك وانغرسي في البحر فتطيعكم، . أي أنهم لو كان لديهم من الإيمان الحقيقي الراسخ الصلب الذي لا تشوبه شائبة من الشك أو تخالطه ذرة واحدة من الريبة أو التردد أو التأرجح أو الحيرة ولو قدراً صليلاً جداً لا يزيد في حجمه على حبة الخردل التي هي . أصغر البذور حجماً، لكان هذا القدر كافياً وكفيلا بأن يهبهم القدرة على صنع ما يبدو للناس من المعجزات أو المستحيلات، كأن يأمروا شجرة التوت التي كانت أمامهم عند ذاك بأن تنقلع من جذورها وأن تنغرس في البحر لأطاعتهم وانقلعت من هنا على الفور وانغرست هناك. ولعل هذه المعجزة على غرابتها وما يبدو من استحالتها لا تساوي شيئاً إذا قورنت بالمعجزات التي صنعها التلاميذ بالفعل فيما بعد حين اكتمل إيمانهم، إذ استطاعوا بقوة ذلك الإيمان بالرب مخلصهم ومخلصنا أن يأمروا المقعد الكسيح أن يقوم ويمشى فكان يقوم ويمشي (أع 3: 1-10) . بل استطاعوا أن يأمروا روح الميت بأن تعود إليه بعد أن فارقته فكانت تعود (أع 9: 36 -41).

ثم تكلم مخلصنا مع تلاميذه عن وجوب خدمتهم لله دون أن يتوهموا إذا خدموه أنهم بذلك يداينونه، بل أن يدركوا أنهم مهما خدموا الله فلن يستطيعوا أن يسددوا ما عليهم من دين له يتمثل فيما أغدقه عليهم من نعمة وبركة لا حدود لها، وأنهم من ثم سيظلون مدينين له إلى الأبد، إذ ضرب مخلصنا لهم مثلا يوضح لهم به هذا المعنى قائلاً لهم من منكم إن كان له عبد يحرث أو يرعى، إذا عاد من الحـقـل يقول له من فـوره : هلم اجلس إلى المائدة ؟ ألا يقول له بالأحرى هيئ لى العشاء، ثم تطوق بحزام واخد منى حتى آكل وأشرب، وبعد ذلك تأكل أنت وتشرب؟ فهل عليه أن يشكر ذلك الخادم لأنه فعل ما أمره به؟ هكذا أنتم إذا فعلتم كل ما تؤمرون به، فقولوا إننا عبيد لا نستحق الشكر، لأننا إنما فعلنا ما كان واجباً علينا أن نفعله، ، وذلك أن الله هو سيد البشر، وقد كلف كلا منهم بعمل يؤديه. حتى إذا أداه لا يحق له بعد ذلك أن يظن أنه قدم لله صنيعاً يستحق من أجله أن ينال منه المكافأة على الفور، وإنما الواجب عليه أن ينتظر ليتلقى منه أي تكليف بعمل آخر يتضمن خدمة الله في إستعداد عظيم وتعبد كامل، حتى إذا أنجز كل ما كلفه به الله يحق له عندئذ أن يتطلع لأن يجلس إلى المائدة الإلـهـيـة لينعم بما تزخر به من بركات روحية وإمتيازات سماوية، ومع ذلك لا يحق له أن يظن أن الله مدين له بالشكر لأنه فعل ما أمره به، ومن ثم يتسلط عليه الغرور أو تسيطر عليه الكبرياء، متوهماً أنه قدم لله بذلك فضلاً، لأن خدمته لله إنما هي واجب عليه باعتبار الله سيده ، ولأنه مهما بذل في خدمته، فلن يوازي ذلك شيئاً بالنسبة لفحصل الله عليه، وإنما فليعترف بينه وبين نفسه، وبينه وبين الله، في وداعـة وتواضع، أنه لا يستحق الشكر مادام لم يفعل أكثر مما هو واجب عليه أن يفعله، وأن سماح الله له بالجلوس إلى مائدته الإلـهـيـة لا يرجع إلى أنه مـدين له بشيء، وإنما ينبع من محض صلاح الله وجوده ونعمته وحنانه ومحبته، ومن سائر صفات كماله.

لو17: 11-19 شفاء العشرة المصابين بالبرص :

وفيما كان مخلصنا ذاهباً إلى أورشليم، مر في طريقه إليها في وسط السامرة والجليل. وإذ دخل إحدى القرى قابله عشرة رجال مصابون بمرض شنيع بشع هو البرس، الذي كان منتشراً إنتشاراً كبيراً بين اليهود، وكان يتعذر شفاؤه . وإذ كان اليهود يعتبرون الأبرص نجساً لا يصح له أن يقترب من الناس أو يخالطهم، ولا يصح للناس أن يقتربوا منه أو يخالطوه، بل لا يصح لهم أن يلمسوه ، فقد وقف أولئك العشرة من بعيد حين أبصروا مخلصنا، لا يجرؤون على الإقتراب منه. وإذ كانوا قد سمعوا بمقدرته على شفاء الأمراض التي لا سبيل إلى شفائها، رفعوا أصواتهم في توسل وضراعة قائلين ، يا يسوع المعلم أرحمناه. وقد برهنوا بقولهم هذا على إيمانهم بقدرته وعلى إجلالهم له إذ لقبوه بالمعلم، وقد كان هذا لقباً جليلا عند اليهود لا يلقبون به إلا كبار علمائهم وفقهائهم الدينيين. وكان إيمانهم به وإجلالهم له يتضمن يقينهم بأنه قادر على أن يرحمهم من الآلام الفظيعة التي يعانونها من جراء مرضهم اللعين، ومن جراء ما يجره عليهم ذلك المرض من نبذ الناس لهم، ونقورهم منهم، ومن ثم حرمانهم مما يتمتع به غيرهم من أسباب العيش الكريم، مما كان يسبب لهم من الآلام النفسية بقدر ما كان يسبب لهم من الآلام الجسدية، وربما أكثر بكثير، وإذ رأي مخلصنا إيمانهم رحمهم بالفعل من شقائهم وتعاستهم، وقرر شفاءهم بمجرد إرادته الداخليـة وحـدها، دون أن ينطق كـلـمـة واحدة، بيد أنه إذ كـانت الشـريـعـة اليـهـودية تحتم على الأبرص الذي تم شـفـاؤه أن يذهب إلى الكهنة ليعلنوا شـفـاءه (لا 14: 1 -14). وإذ كان مخلصنا أثناء حياته على الأرض يعمل بأحكام الشريعة ولا يخالفها، نظر إلى أولئك العشرة وقال لهم اذهبوا أروا أنفسكم للكهنة.. فأطاعوه في غير شك أو ريبة في أنه قد استجاب لهم واتجهت إرادته إلى شفائهم. وبالفعل فإنهم فيما كانوا ذاهبين برتوا من مرضهم، ومن ثم طهروا من النجاسة التي كان ذلك المرض يلصقها بهم. ولعل مخلصنا إذ أمرهم بأن يذهبوا إلى الكهنة بعد شفائهم أراد فضلا عن إتمام ما أوصت به الشريعة – أن تكون هذه المعجزة شهادة لدى الكهل بقدرته الإلهية. عسى أن يكون فى ذلك سبيل إلى إيمانهم؛ وباب للخلاص الذى كان يفتحه للبشر جميعا ويدعوهم لأن يدخلوا منه وينعموا بنعمته.

وإذ رأى واحد من أولئك العشرة الذين اسنجاب مخلصنا لضراعتهم أنه برئ من مرضه. أحس بالواجب عليه نحو ذلك الذى بمعجزته التى صنعهاً معه رحمه من تعاسته وأنقذه من محنته. فرجع يُمجد الله بصوت عظيم وخر على وجهه عند قدمى مخلصنا شاكرا إياه. مقدما اليه أروع فروض التقديس والتبجيل وعرفان الجميل. مع أن هذا الرجل بالذات كان سامرياً ممن كان اليهود ينكرون عليهم إنتسابهم إليهم؛ ويعتبرونهم ملعونين من الله؛ لأنهم على الرغم من أنهم كانوا من أصل يهودى ۔ كانوا لا يقبلون من أسفار التوراة إلا أسفار موسى . وكانوا لا يقدمون قرابينهم فى هيكل أورشليم وإنما في جبل جرزيم. وأما التسعة الباقون الذين شفاهم مخلصنا فمع أنهم كانوا يهودا لم يعودوا إلى مُخصنا ليشكروه على نعمة الشفاء التى أنعم بها عليهم. مما دل على ظلام قلوبهم؛ ونكرانهم للجميل الناشئ عن غلظة مشاعرهم» ومن ثم عتاب مرير ليس قد طهرواء فأين التسعة الآخرون؟ اما من واحد منهم رجع ليمجد الله إلا هذا المختلف الجنس؟؛ أى هذا السامرى الذ كان اليهود يعتبرونه من غير جنسهم. ثم إلتفت مُخلصنا إلى هذا السامري النى أبدى من نقاء القلب ورقة الشعور ما لم يصدر عن أولئك
الذين كاتوا يتفاخرون فى زهو وكبرياء بيهوديتهم قائلا له انهض وامض فى سبيلك. إن
إيمانك قد خلصك فبقدر ما ندد خلصنا بمسلك أولئك اليهود التسعة الذين ذهبوا دون أن يسمع منهم كلمة شكر واحدة على رحمته لهم ونعمته التى أسداها إليهم؛ مجد ذلك السأمرى الذى رجع شاكرا إياه معبراً عن أصدق آيات الإيمان به. وأعمق مشاعر الامتنان والعرفان بفضله والتكريم والتعظيم له. ومن ثم أعلن له مخلصنا أنه لم يشفه من مرضه فقط وإنما قضى بخلاصه أيضا غافر بذلك له خطاياه؛ مسيغا عليه فضلا فوق فضل؛ ونعمة فوق نعمة.

لو17: 20-37 ‏متى يأتى ملكوت الله؟ والمجىء الثانى للدينونة

‏وقد سأل الفريسيون مخلصنا أثناء تعليمه الجموع قائلين «متي يأتى ملكوت الله؟! . والراجح‎ أنهم لم يكونوا يقصدون من سؤالهم هنا أن يستفيدوا من تعليم معلمنا وإن تظاهروا بذلك؛ لأنهم كانوا على الدوام قد أغلقوا عقولهم وققويهم عن أن يستغيدوا من تعاليمه. بل لقد كانوا على للدوام مُعاندين لها متمردين عليها. وإنما سألوه كعادتهم ليتصيدوا من إجابته تهمة يوجهونها إليه ليهلكوه بمقتضاها. وقد كانوا يعتقدون أن ملكوت الله هو ملكوت أرضى يؤسسه المسيح الذي كانوا ينتظرونه ليعيد إليهم مجد مملكة داود، ويقودهم إلى غزو العالم والتسلط على كل شعوبه، ومن ثم كانوا يقصدون بالسؤال الذي وجهوه إليه أن يجاهر بأنه هو المسيح الذي ينتظرونه، وأن يحدد الموعد الذي سيقوم فيه على هذا الأساس بثورته عند الرومان ليطردهم ويجلس هو على عرش إسرائيل، فتكون هذه هي التهمة التي نصبوا هذا الفخ ليلقوا به في حبائلها ويشوا به لدى الرومان ليقتلوه . وقد علم فادينا بحقيقة مقصدهم، ففضح – بطريق غير مباشر – تدبيرهم الذي يضمرونه، وأوضح لهم – بطريق مباشر ـ أن هذا التدبير إنما نشأ عن جهلهم وعن سوء فهمهم لملكوت الله على حقيقته، إذ أجابهم قائلاً إن ملكوت الله لا يأتى بترقب، فلا يقال هوذا هنا أو هوذا هناك، لأن ملكوت الله إنما هو في داخلكم، . أي أن ملكوت الله ليس مملكة أرضية ليترقبوا قيامها في أي زمان من الأزمنة أو مكان من الأمكنة، ويتطلعوا إلى ما يرتبونه في فهمهم الخاطئ على قيامها من نتائج وآثار دنيوية، وإنما هو ملكوت روحی سماوي تسود فيه شريعة الله على الأرض كما هي سائدة في السماء، ولو شاءوا أن يفهموه على هذا الوجه ويقبلوه على هذا الاعتبار لو أنهم فتحوا عقولهم وقلوبهم لقبول تعاليمه التي تبشرهم بهذا الملكوت وندعوهم إليه، فإنهم لن يلبثوا أن يجدوه في داخلهم في هذه اللحظة ذاتها التي يوجهون فيها سؤالهم إليه.

وبعد أن أفضى مخلصنا بهذه الحقيقة إلى الفريسيين ليحبط مكيدتهم هذه ، ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون، ويوجههم إلى الفهم الصحيح لما لم يكونوا يفهمون استخدم هذه الفرصة ليكشف لتلاميذه على الخصوص بعض جوانب هذه الحقيقة بصدد ذلك الملكوت الإلهي الذي كانوا هم أيضاً بتأثير الفهم السائد لدي اليهود يخطئون فهم كنهه، ويظنون أنه مملكة دنيوية سيقيمها على الأرض معلمهم الذي آمنوا بأنه هو المسيح الذي تنبأ بمجيئه الأنبياء، وأنهم سيكونون هم أمراء هذه المملكة ووزراءها، فقال لهم ستأتي أيام تشتهون فيها أن تروا يوماً واحداً من أيام ابن الإنسان فلا ترون. وسيقولون لكم إنه هنا أو هناك، فلا تذهبوا ولا تتبعوهم، لأنه كما أن البرق الذي يبرق في ناحية من السماء يضيء في الناحية الأخرى منها، هكذا سيكون مجىء ابن الإنسان في يومه. ولكنه ينبغي أولا أن يعاني آلاماً كثيرة، وأن يرفضه هذا الجيل. وكما كان في أيام نوح، هكذا سيكون أيضاً في أيام ابن الإنسان. فقد كانوا يأكلون ويشربون ويتخذ الرجال زوجات وتتخذ النساء أزواجاً إلى يوم أن دخل نوح الفلك فجاء الطوفان وأهلك الجميع. وكما كان في أيام لوط، إذ كانوا يأكلون ويشربون ويشترون ويبيعون ويغرسون ويبنون، ثم يوم أن خرج لوط من سدوم أمطرت السماء ناراً وكبريتا فأهلكت الجميع، هكذا يكون في اليوم الذي فيـه سيظهر ابن الإنسان. فمن كان في ذلك اليوم على السطح وأمتعته في البيت فلا ينزل ليأخذها. ومن كان في الحقل فلا يرتد أيضاً إلى الوراء. تذكروا زوجـة لوط. لأن من سعى لأن يخلص نفسه يهلكها، ومن أهلكها يحييها. أقول لكم إنه في تلك الليلة سيكون إثنان في فراش واحد، فيؤخذ أحدهما ويترك الآخر، وستكون إثنتان تطحنان معاً، فتوخذ إحداهما وتترك الأخرى. سيكون إثنان في الحقل فيؤخذ أحدهما ويترك الآخره . أي أن التلاميذ لا ينبغي أن يتوقعواـ كغيرهم من اليهود . مملكة أرضية، ولا ينبغي أن يتوهموا أنهم إذ سيكون هو الملك على هذه المملكة سيكونون هم العظماء فيها، وإنما فليدركوا أن ذلك الجيل من اليهود الذين كانوا معاصرين له سيرفضونه، ويعذبونه ألوانا من العذاب يعاني من جرائها كثيراً من صنوف الآلام . ثم إن يقتلونه ويصعد إلى السماء بعد قيامته، سيجدون أنفسهم كاليتامى، يشتهون أن يروا يوماً واحداً من الأيام التي كانوا ينعمون فيها بصحبته والاستماع إلى تعاليمه، والاستمتاع بالنعمة التي يسبغها عليهم، فلا يرون ذلك اليوم الذي يشتهونه. وإنما سيحدث على العكس أن يحاول كثيرون أن يقنعوهم بأنه لم يكن هو المسيح الحقيقي، وإنما ذلك المسيح الحقيقي قد ظهر هنا أو هناك ليقضوا على إيمانهم به. ومن ثم حذرهم مخلصنا من أن يصدقـوهـم فـيـمـا يقولون أو يذهبـوا وراءهم حيث يزعمون، أو يتبعوهم إلى حيث يقودونهم، لأن مجيئه الحقيقي، أي انتصار إنجيله ، وسيادة ملكوته الروحي السمائي على الأرض، مـهـمـا تأخـر ومهما لقى من مقاومة وعناد واضطهاد، فإنه لن يلبث أن يسطع ضوءه في أي مكان من الأرض كلها، كالبرق الذي إذا سطع في أي ناحية من أنحاء السماء يمتد ضياؤه على الفور في الناحية الأخرى منها .. فلكن لقى تلاميذ مخلصنا كل صنوف العلت والعسف والعنف والآلام والأوجاع من المقاومين لملكوته والمعائدين لإنجيله والمضطهدين للمؤمنين به، فلا ينبغي أن يضعفوا أو يفزعوا أو يتضعضعوا، لأن مجيء ملكوته بانتصار إنجيله وإن يكن مصحوباً بالنقمة والهلاك على مقاوميه ومعانديه ومضطهديه من أبناء الأمة اليهودية على يد الرومان الذين سيجيئون إليهم ويقضون عليهم، فإنهم هم الذين آمنوا به وصمدوا في إيمانهم سينجون من هذه النقمة والهلاك، إذ سيمد يده الإلهية وينقذهم باعتبارهم رعيته ومختاريه ، وسيحدث عندئذ ما حدث في أيام نوح، حين كان الناس تاركين طاعة الله متمردين عليه، منهمكين كل الانهماك في إهتمامات الدنيا، ومنغمسين كل الانغماس في شهواتها وملذاتها، يأكلون ويشربون ويتزاوجون، عابدين الجسد والجسديات، مهملين الروح والروحيات. حتى إذا غضب الله لذلك عليهم وقضى بهلاكهم اختار الصالحين منهم وفي مقدمتهم نوح وأدخلهم الفلك لينجيهم، ثم صب طوفانه على من عداهم من أهل الأرض جميعاً فأهلكهم. كما أنه سيحدث عندئذ ما حدث في أيام لوط، حين كان الناس أيضاً في مدينة سدوم تاركين طاعة الله، متمردين عليه، منهمكين كل الانهماك في إهتمامات الدنيا ومنغمسين كل الانغماس في شهواتها وملذاتها، يأكلون ويشربون ويشترون ويبيعون ويغرسون الأشجار ويبنون الديار، عابدين هم أيضاً الجسد والجسديات، مهملين الروح والروحيات. حتى إذا غضب الله عليهم وقضى بهلاكهم، اختار الصالحين منهم وفي مقدمتهم لوط وأمرهم بالخروج من سدوم، حتى إذا خرجوا صب ناراً وكبريتاً على من عداهم من أهل تلك المدينة فأهلكهم جميعاً، وهذا هو الذي سيفعله مخلصنا حين يسخر الرومان لتنفيذ حكمه بهلاك الأمة اليهودية، فعندئذ سيعمل على نجاة المؤمنين به من هذا الهلاك. ومن ثم نصح مخلصنا تلاميذه وكل الذين سيكونون قد آمنوا به في الـيـوم الذي حدده لهذا الهلاك، بأنهم متى رأوا الرومـان قـد حاصروا أورشليم فليهربوا منها على الفور غير مبطنين لأي سبب من الأسباب، حتى ينزل الذي يكون منهم عندئذ على سطح بيته إلى الطريق مباشرة ولا يفكر حتى في أن يدخل حجرات بيته ليأخذ معه بعض أمتعته، والذي يكون منهم في الحقل خارج المدينة لا يفكر في أن يعود إليها لأى سبب من الأسباب . وإنما ينطلق هارباً في شعاب الجبال تاركاً كل ما له من أمتعة وأموال، لأن إنقاذ حياته أهم وأثمن من كل أمتعته وأمواله. ولأن الذي وهو هارب من المدينة إذا نظر خلفه إلى ما ترك فيها إنما يدل بذلك، على أنه لا يزال متعلقاً باهتمامات الدنيا ومقتنياتها لا يريد أن يفارقها، فيكون مثله في ذلك مثل زوجة لوط التي وهي هارية معه بأمر الله من سدوم نظرت خلفها فبرهنت بذلك على أنها مازالت متعلقة بتلك المدينة الفاسدة الفاسقة، ومن ثم عاقبها الله بأن أحالها على الفور إلى عمود من الملح (تك 19: 26) . ومن ثم قال مخلصنا لتلاميذه محذراً تذكروا زوجة لوط، ، أي تذكروا ما حدث لهذه المرأة حين أبدت تعلقها بما في مدينتها من فساد وفسق، وما كان يتضمنه ذلك من رغبة في الارتداد عن الطريق الذي أراده الله لخلاصها وإنقاذها من الهلاك. ولذلك استحقت أن تهلك هي الأخرى بتلك الطريقة ذات المغزى العميق التي دبرها الله بحكمته وعدالته .

وإن كان مخلصنا في هذه العبارات التي أفضى بها إلى تلاميذه ، یعنی ما سيحدث في يوم هلاك الأمة اليهودية، ومـا ينبغي على تلاميذه وسائر المؤمنين به أن يفعلوا في ذلك اليـوم لخلاصهم، فإنه كان يعني أيضاً، وربما في المقام الأول، ما سيحدث في يوم الدينونة الأخير الذي سماه يوم ابن الإنسان والذي سيأتي فيه هو ليدين البشر جميعاً فيقضى بخلاص الأبرار وهلاك الأشرار، طالباً إلى تلاميذه وإلى البشر جميعاً أن يهربوا من الاهتمامات الدنيوية إلى الخلاص الأبدي في ملكوت السماوات، لأنه سيجيء بغتة في ذلك اليوم الذي لا يعلمه أحد، مضيئاً بنوره الإلهى الكون كله في وقت واحد ولحظة واحدة . وسيكون الأشرار من الناس عندئذ تاركين طاعة الله متمردين عليه منهمكين كل الانهماك في إهتمامات الدنيا ومنغمسين كل الإنغماس في شهواتها وملذاتها، يأكلون ويشربون ويتزاوجون ويشترون ويبيعون ويغرسون الأشجار ويبنون الديار، عابدين الجسد والجسديات، مهملين الروح والروحيات . فأولئك سيهلكهم المسيح الذيان شر هلاك.. . وأما الأبرار من الناس الذين آمنوا بالمسيح وعملوا بتعاليمه، تاركين حياة الجسد إلى حياة الروح، ونابذين الإهتمام بالجسديات، حاصرين كل همهم وإهتمامهم في الروحيات، فأولئك هم مختارو المسيح الذين سينقذهم من الهلاك ويضمهم إلى أحضان ملكوته ليجعلهم رعيته في ذلك الملكوت ورعاياه ، لأن من سعى إلى الخلاص بإنتهاج حياة الروح مهلكاً بذلك في نفسه حياة الجسد، يستحق الخلاص والحياة الأبدية في ملكوت المسيح الذي هو ملكوت السماوات. و . وأما من إنهمك في حياة الجسد مهلكا بذلك في نفسه حياة الروح فإنه لا يستحق إلا الهلاك الأبدي. وبذلك ينقسم الناس في ذلك اليوم الرهيب المهيب . في عملية فرز دقيقة . إلى فريقين، ولو كانوا إخوة يعيشون معاً في بيت واحد، أو زملاء يشتركون معاً في عمل واحد . فريما كان إثنان نائمين معاً في فراش واحد فيهلك الشرير منهما ويخلص البار، وربما تكون إثنتان تطحنان معاً على رحى واحدة فنهلك الشريرة وتخلص البارة. وربما يكون إثنان يعملان معا في حقل واحد فيهلك أحدهما لأنه من الأشرار ويخلص الثاني لأنه من الأبرار. وإذ قال مخلصنا ذلك سأله تلاميذه قائلين «أين يارب؟.. أي في أي مكان ستحدث عملية الفرز هذه بين الأشرار والأبرار ؟. فأجابهم الرب قائلاً حيثما تكن الجثة فهناك تجتمع النسور، أي أينما يوجد الأشرار فسيهلكون، وأينما يوجد الأبرار فسيخلصون، لأنه كما أنه حيثما توجد جثة الفريسة ترقبها على الـفـور أعين النسـور التي هي مضرب المثل في حـدة البصر، فتنقض عليها وتختطفها، هكذا فإنه حيثما يوجد الأشرار ترقبهم عينا المسيح الديان التي لا يحتجب عنها إنسان، فيختطفهم إلى نار جهنم الأبدية، وحيثما يوجد الأبرار ترقبهم عيناه فيختطفهم إلى النعيم الأبدي.

زر الذهاب إلى الأعلى