تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 19 للأنبا غريغوريوس
الفصل التاسع عشر
لو19: 1-10 إيمان زكا العشار:
ثم دخل فادينا مدينة أريحا، وإذ كان ماشياً فيها، إذا برجل اسمه زكا، كان رئيسا للعشارين، أي جباة العشور وهي الضرائب، وكان بحكم وظيفته غنياً، لأن العشارين كانوا يستغون وظائفهم في جباية أكثر كثيراً مما تفرضه القوانين من الضرائب على الشعب، مستخدمين في ذلك العنف والعسف والاغتصاب والافتراء، ليستولوا لأنفسهم على ما تفرضه القوانين وما يجبونه فعلاً من الأموال بتلك الوسائل الظالمة الغاشمة، ولذلك كان اليهود يكرهونهم، ويعتبرونهم نجسين أشراراً، ويقرنونهم دائماً بالخطاة والزناة. وقد كان رؤساء العشارين أكثرهم عنفا وعسفاً واغتصاباً وافتراء، ولذلك أصبحوا أكثرهم جاهاً وثراء. بيد أن رئيس العشارين هذا الذي كان يسمى زكا دفعه دافع قوى لأن يرى يسوع، ذلك المعلم الذائع الصيت، من عساه يكون؟ ولكن زكـا كـان قصير القامة، وكانت الجموع التي تتزاحم حول فادينا كثيرة جداً، بحيث كان عسيراً عليه أن يراه ، ومن ثم ركض متقدماً الجمع، وتسلق شجرة جميز ليراه ، إذ أدرك من اتجاه الموكب أنه سيمر من هناك، وظل ينتظر في موقعه هذا مترقباً، حتى إذا بلغ قادينا ذلك الموضع رفع عينيه ورآه . وإذ علم ـ وهو العالم بخفايا النفوس ـ ما كان يجيش في نفس هذا الرجل في ذلك الحين، وعلم أنه على الرغم من ثراثه، ومما ارتكبه في ماضيه من الشرور والآثام، قد أصبح مستعداً في تلك اللحظة لأن يولد ولادة جديدة، و ، وأن يفتح للإيمان أبواب قلبه المغلق.، قال له يا زكا أسرع وانزل، لأننى ينبغي أن أقيم اليوم في بيتك، . وهكذا، إذ دعاه باسمه مع أنه لم يكن يعرفه من قبل قد أبان أنه هو العالم بكل شيء. كما أنه إذ أبدى رغبته في أن يقيم اليوم في بيته، مع أنه لم يكن عـشـاراً خاطئاً فحسب، وإنما كان رئيساً للعشارين الخطاة، قد أبان أنه هو حـقـا الراعي الصالح، وفقاً لقوله كما جاء في إنجيل القديس يوحنا أنا هو الراعى الصالح، (يو 11:10). ووفقاً لقوله كما جاء في إنجيل القديس لوقا إنه إذا كل واحد من خرافه ، يذهب وراء ذلك الضال باحثاً عنه حتى يجده ، فإذا وجده يحمله على كتفيه فرحاً، (لو 15: 4 و 5). وبالفعل أسرع رئيس العشارين هذا ونزل عن الشجرة واستقبل مضيفه الرفيع المكانة بفرح يدل على مدى إستعداده لأن يتجدد روحـاً وقلبـاً وضميـراً وشعوراً على يديه. بيد أن جميع الذين كانوا مع مخلصنا تذمروا ـ عن جهل وقصور عقل – قائلين إنه دخل ضيفاً في بيت رجل خاطئ. وأما زكا رئيس العشارين فوقف وقال للرب وها أناذا يارب سأعطى الفقراء نصف أمـوالي. وإن كنت قد غبنت أحدا في شيء فسأرد له أربعة أضعاف.. فكان هذا القول إعترافاً من الرجل بأخطائه وخطاياه ، وإعـلانا لندمه وتوبته، وتعهداً بأنه إن كانت أمواله هي الحائل بينه وبين قبول هذا الندم وهذه التوبة، فسيتنازل عن نصفها للفقراء، ويأنه إن كان في مزاولته لعمله كرئيس للعشارين قد غبن أحداً فاستولى منه على أكثر مما هو مستحق عليه من الضرائب، فسيرد له أربعة أضعاف ما غبله فيه، معرضا بذلك إياه التعويض الكافي الذي يزيل به عنه الغبن وينصفه ويرضيه، فكان ذلك مثلاً من أمثلة قدرة الله التي سبق أن أشار إليها فادينا على أن يغير نفوس الأثرياء في لحظة ليعيدها إلى حظيرته ويفتح لها أبواب ملكوته. ومن ثم قال فادينا له المجد اليوم قد صار الخلاص لهذا البيت، إذ أنه هو أيضاً ابن إبراهيم، لأن ابن الإنسان إنما جاء ليسعى في طلب الذي قد ضاع ويخلصه». أي أن زكا بندمه وتوبته قد أصبح مستحقاً للخلاص الذي هو نعمة إذا دخلت بيتا عمت كل من فيه، لأنه إن كان خاطئاً فإنه بتويته وإعترافه قد صار مقبولاً أمام الله، وصار منذ تلك اللحظة أهلاً ـ وهو من نسل إبراهيم – للبركة التي وعد الله بها نسل، إبراهيم، إن أطاعوه وظلوا على ولائهم له، ولم يضلوا عن الطريق التي رسمها لهم، ولم يبيعوا أنفسهم للشيطان فيضيعوا، ولأن فادينا ما جاء إلى العالم إلا ليبحث عن مثل هذا الخاطئ الذي ضل وضاع ويخلصه.
إن ما قاله زكا يبرهن على توية، وما قاله الرب يسوع يبرهن على أن توبة زكا كانت توبة صادقة، ومن ثم فهي توبه مقبولة. وذلك أن عناصر التوبة الحقيقية أربعة : أولها ندامة في القلب على الماضي، مصحوبة بإنسحاق حقيقي قوامه إحتقار النفس للنفس التي تردت في الخطيئة، وكراهية الشر. وثانيها عزم صادق على تجديد السيرة، وثالثها رجاء في الله لا يخيب. رجاء في رحمته الواسعة وغفرانه للخطاة التائبين، ورابعها اعتراف علني صريح بالخطيئة أو الخطايا. اعتراف بالقلب واللسان . اعتراف للرب على يد الكاهن مصحوب باستعداد كامل لتحمل تبعة الفعل ومسئوليته، وتصحيح الأخطاء والخطايا تصحيحاً عملياً، وتحمل نتائجها.
وقد توافرت هذه العناصر الأربعة في توبة زكا، إذ قد ندم على خطايله ، وعزم على تجديد سيرته، ممتلئاً بالرجاء والفرح في قبول المسيح له. ثم إنه أعترف بخطاياه متعهدأ بتحمل نتائجها والعمل على تصحيحها بتقديم نصف أمواله للمساكين، ويتعويض من غبنهم أربعة أضعاف . وهكذا تكون كل توبة حقيقية مقبولة أمام الله. ولقد كان السيد المسيح له المجد في توبة زكا هو الرب وهو الكاهن، ممارساً إختصاصه ككاهن أولا في سماع اعتراف زكا . ثم في منحه الحل عن خطاياه بقوله له «اليوم قد صار الخلاص لهذا البيت .
على أن الخلاص في قول يسوع «اليوم قد صار الخلاص… ليس معناه إن زكا قد حصل على الخلاص كاملاً قبل موت المسيح وعمل الفداء الذي كان لابد منه ليتم الخلاص التام، وإنما معناه أن زكا بتوبته الصادقة المقبولة قد استحق الخلاص وصار ضامناً له بوعد المسيح إياه . حتى إذا مات المسيح الفادي تم بموته الخلاص الكامل.. ولأنه ليس بأحـد غـيـره الخلاص (أع 4: 12).
ثم إن قول الرب اليوم قد صار الخلاص لهذا البيت،، بياناً لأهمية رب البيت بالنسبة لأهله وعياله، وإبرازاً لدوره القيادي في توبة أهل بيته، وبينة على مسئوليته بصفته رأس الأسرة وراعيها.
لو19: 11-27 مثل الوزنات :
وقد كان مخلصنا حين حدث هذا الذي حدث فيما يتعلق بزكا رئيس العشارين في مدينة أريحا، قريباً من أورشليم التي كان في طريقه إليها. وكان تلاميذه يعتقدون أنه سيدخل أورشليم في هذه المرة دخول الفاتح الظافر ليجلس على العرش ويحكم مملكة اليهود ليجعلهم سادة كل الشعوب، ويجعل أورشليم عاصمة الأرض كلها. وقد كانت تراود التلاميذ حينذاك الآمـال العريضة ـ على مقتضى إعتقادهم الخاطئ هذا ـ فيما سيكون لكل منهم من منصب رفيع ومركز ممتاز في تلك المملكة الدنيوية العظيمة الشأن المترامية الأطراف. ومن ثم أراد مخلصنا أن يصحح هذا الفهم الخاطئ لرسالة معلمهم ولرسالتهم هم أنفسهم، وأن يوضح لهم المفهوم الحقيقي الصحيح لتلك الرسالة كي ينير لهم الطريق الذي عليهم أن يسلكوه، بعد أن يتركهم ويرتفع إلى السماء. ومن ثم فإنه بعد أن سمعوا منه قوله إن «ابن الإنسان إنما جاء ليسعى في طلب الذي قد ضاع ويخلصه»، ضرب لهم هذا المثل قائلاً إن رجلا من الأشراف ذهب إلى بلد بعيـد لينال الملك لنفسه ويعود، فدعا عشرة خدم له وأعطاهم عشر وزنات من الفضة. وقال لهم تأجروا بها حتى أجيء. ولكن أهل بلده إذ كانوا يكرهونه أرسلوا في إثره سفراء عنهم يقولون: لا نريد أن يملك هذا علينا. فلما عاد بعد أن نال الملك أمر باستدعاء أولئك العبيد الذين أعطاهم الفضة ليعرف ماذا فعل كل واحد في تجارته. فجاء الأول قائلاً: يا سيدي إن وزنتك قد ربحت عشر وزنات.. .. فقال له: أحسنت أيها العبد الصالح، وإذ كنت أميناً في القليل، فليكن لك السلطان على عشر مدن، ثم جاء الثاني قائلاً: يا سيدي إن وزنك قد ربحت خمس وزنات. فقال لهذا كذلك: فلتكن أنت أيضاً على خمس مدن. ثم جاء آخر قائلا: هوذا وزنتك موضوعة عندي وقد صررتها في منديل، فإنني خفت منك لأنك رجل قاس تأخذ مالم تودع، وتحصد ما لم تزرع. فقال له: من ذات فمك سأدينك أيها العبد الشرير، ما دمت تعرف أنني رجل قـاس أخـذ مـا لـم أودع، وأحصد ما لم أزرع. فلماذا لم تودع فضتي مائدة الصيارفة، حتى إذا جئت أستردها مع ربحها؟. ثم قال للواقفين بين يديه: خذوا منه الوزنة وأعطوها للذي عنده العشر الوزنات. فقالوا: يا سيد إن عنده عشر وزنات. فقال: إنى أقول لكم إن كل من له سيعطى. وأما من ليس له، فحتى الذي عنده سيؤخذ منه، فأمـا أعـدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم، فـجـيئوا بهم إلى هنا واذبحوهم أمامي”.
وواضح أن الرجل الذي من الأشراف الذي يتحدث عنه مخلصنا في هذا المثل إنما يرمز به إلى نفسه. وإذ قال إن هذا الرجل ذهب إلى بلد بعيد لينال الملك لنفسه ويعود، إنما يشير بذلك إلى إعتزامه هو أن ينطلق إلى السماء البعيدة كل البعد عن الأرض من حيث طبيعتها، ليجلس على عرش ملكوته السماوي، على خلاف ما كان تلاميذه يعتقدون أنه ذاهب إلى مدينة أورشليم القريبة ليجلس على عرش مملكة أرضية. كما يشير إلى عودته في مجيئه الثاني عندما يحين الموعد المحدد لذلك في التدبير الإلهي . وإذ قال مخلصنا إن ذلك الرجل من الأشراف قبل ذهابه إلى البلد البعيد دعا عشرة من خدمه وأعطاهم عشر وزنات من الفضة وقال لهم تاجروا بها حتى أجيء، إنما كان يرمز إلى تلاميذه وإلى سائر المؤمنين به الذين أعطاهم مواهب وطلب إليهم أن يستثمروها في خدمة كلمته وكنيسته حتى يحين موعد مجيئه الثاني. وأما أهل بلد ذلك الرجل الذين إذ كانوا يكرهونه أرسلوا في إثره سفراء منهم يقولون ولا نريد أن يملك هذا علينا، ، فيرمز بهم مخلصنا على الخصوص إلى اليهود الذين كانوا يكرهونه . وقد رفضوا أن يعترفوا بأنه هو المسيح ابن الله ملكهم الإلهي الذين كانوا ينتظرونه، ومن ثم رفضوا أن يملك عليهم، وظلوا مصرين على رفضهم إياه حتى بعد أن صنع معجزته الكبرى، إذ بعد أن مات على الصليب أقام نفسه في اليوم الثالث من بين الأموات وصعد إلى السماء، كما يرمز بهم . مخلصنا على العموم إلى كل الذين كرهوه من غير اليهود ورفضوه ملكا عليهم من سائر الأمم وفي كل الأجيال، علي الرغم من كل ما عرفوه عنه من فم رسله ودم شهدائه، ومن كل الأدلة الساطعة والبراهين القاطعة التي لا تقبل الشك ولا تحتمل الريبة على أنه هو المسيح ابن الله مخلص البشر وفاديهم، وديانهم في اليوم الأخير، الذي يرمز إليه مخلصنا في المثل الذي ضربه باليوم الذي عاد فيه الرجل الشريف بعد أن نال الملك. كما يرمز مخلصنا بما فطه ذلك الرجل إذ أمر باستدعاء عبيده ليحاسبهم، إلى ما سيفعله هو حين يستدعي أمامه البشر جميعاً في ذلك اليوم الرهيب ليحاسبهم على أعمالهم. فكما جاء العبد الأول قائلاً ، يا سيدي إن وزنتك قد ربحث عشر وزنات، فكافأه سيده على أمانته بأن أعطاه السلطان على عشر مدن، هكذا سيجيء واحد من تلاميذ مخلصنا أو المؤمنين به على العموم ويقرر أمام مخلصنا أنه استخدم المواهب التي منحه إياها بكل ما في طاقته من جهد حتى مضاعفها عشرة أمثال، فيمتدحه مخلصنا على أمانته في استثمار القليل الذي إنتمنه عليه قائلاً له أحسنت أيها العبد الصالح، . ثم يكافئه على أمانته بأن يمنحه عشرة أمثال ما بذل من جهد، لا سلطاناً أرضياً كما فعل الملك الأرضي في المثل، وإنما مجداً سماوياً لا يعتبر أعظم سلطان أرضي شيئاً على الإطلاق بالنسبة إليه، وكما جـاء العبد الثاني قائلاً يا سيدي إن وزنتك قد ربحت خمس وزنات،، فكافأه سیده كذلك على أمـانتـه بأن أعطاه السلطان على خمس مدن، هكذا سيجيء تلميذ آخر من تلاميذ مخلصنا أو المؤمنين به على العموم ويقرر أنه استخدم المواهب التي منحه إياها بقدر طاقته حتى ضاعفها خمسة أمثال، فيمتدحه مخلصنا كذلك على أمانته في إستثمار القليل الذي إنتمنه عليه وإن لم يكن بالقدر الذي فعله الأول، ثم يكافئه على أمانته بأن يمنحه من المجد السماوي خمسة أمثال ما بذل من جهد، لأنه على قدر الجهد تكون المكافأة . وأما ذلك العبد الذي جاء إلى سيده وأعاد إليه وزنته مقرراً أنه يرها في منديل وأهملها، بحجة أنه خاف منه لأنه قاس يستخدم عبيده في أن يتاجروا بفضته، ثم يأخذها ، مضافاً إليها ما ربحوه بالإتجار بها، فيأخذ بذلك ما لم يودع. ويحصد ما لم يزرع، فيرمز به ، مخلصنا إلى ذلك الذي يمنحه مخلصنا المواهب كي يستخدمها في خدمة كلمة الإنجيل ورسالة الخلاص التي تتضمنها، فلا يعمل بها، بل لا يأبه لها، بل يهملها كل الإهمال، ويلقي بها في زاويا النسيان، كمن يسر شيئاً ثميناً في منديل ويلقي به بعيداً في ركن من الأركان، فلا ينتفع هو بتلك المواهب الثمينة ولا يدع أحداً غيره ينتفع بها. حتى إذا جاءت ساعة الحساب وسأله مخلصنا عما فعل بمواهبه التي منحه إياها كان عذره أقبح من ذنبه، إذ يجيب عن سؤال مخلصنا، لا في إعتذار أو تبرير معقول أو مقبول، وإنما في صفاقة وتبجح بأنه خاف منه لأنه قاس يأخـذ مـا لـم يودع، ويحـصـد مـا لم يزرع، مع أن المواهب التي يمنحها مخلصنا للبشر هي دليل رحمته لا قسوته، ولأنه يقصد بها خيراً لا لنفسه وإنما للبشر، لأنه هو مصدر الخير، بل إنه هو الخير ذاته وهو الخير كله. فلن طلب الخير إنه لا يطلبه إلا لمن هو في حاجة إليه، ولكن أودع الإنسان شيئاً منه، ثم استرده ولو أضعافاً، إنه يسترد ما يملك أصلا، وللن حصد ما زرعه في قلب الإنسان ولو أضعافاً مضاعفة، إنه يحمـد مـا زرع وما يملك أصلاً كذلك. فمهما استثمر الإنسان من المواهب التي منحه إياها مخلصنا الإلهي وتعب في استثمارها، فالثمر ليس ثمر تعبه هو، وإنما ثمر نعمة الله التي وهبه إياها. وفي ذلك يقول بولس الرسول أنا تعبت أكثر من جميعهم، ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي، (۱کو 15: 10) . بل إن العبد الصالح في المثل الذي ضريه مخلصنا لم يقل لسيده إنه هو نفسه الذي ربح من وزنته العشر الوزنات، وإنما قال إن وزنة سيده هي نفسها التي ربحت العشر الوزنات، وهكذا قال العبد الصالح الآخر الذي ربحت وزنته الخمس الوزنات. وأما العبد المستهتر غير الأمين وغير العامل وغـيـر العـابئ، فلم يكفـه مـا أداه من إهمال، وإنما زاد على ذلك بذاءته في مـخـاطبـة سـيـده، ومغالطته مغالطة سافرة وسفيهة في إلتماس العذر لنفسه، مما يدل على تأصل الشر في نفسه، ومن ثم قال له سيده ومن ذات فمك سأدينك أيها العبد الشرير. مادمت تعرف أنني رجل قاس أخذ ما لم أودع وأحـصـد مـا لم أزرع، فلماذا لم تودع فـضـتى مائدة الصيارفة، حتى إذا جلت أستردها مع ربحها؟، وهذا هو مؤدى ما سيقوله مخلصنا في يوم الدينونة لذلك الذي أهمل ما منحه من مواهب ولم يستثمرها، إذ سيسأله في إستياء واستنكار قائلا له إذا كان هو بسبب شره ومكره لم يكترث بالانتفاع بتلك المواهب لخير نفسه، فلماذا لم يدرك للآخرين أن ينتفعوا بها ويستثمروها مستخدمين ثمارها وأرباحها لخيرهم وتخير الكنيسة ؟. لذلك فكما قال الملك الأرضى للواقفين بين يديه في المثل الذي ضربه مخلصنا أن يأخذوا الوزنة من العبد الشرير الذي لم يتاجر بوزنته، ويعطلوها للذي عنده العشر الوزنات، هكذا سيفعل الملك السماوي الديان، إذ سيقول للملائكة الذين سيكونون واقفين بين يديه في يوم الدينونة أن يأخذوا المواهب التي كـان قـد منحها لذلك الإنسان الخامل الكسلان غير الأمين وغير المجتهد فأهملها ولم يستخدمها ولم يستثمرها، وأن يعطوها للذي اسـتـخـدم المواهب الممنوحة له بأقصي ما في ، طاقته، واستثمرها أفضل استثمار وأكمله، لينال نعمة فوق ما كلفاه به من نعمة. فإن تسامل بعض المتسائلين قائلين إن عنده أكبر قدر من المواهب، وقد نال أكبر قدر من النعمة، قاصدين أنه لم تعد به حاجة إلى زيادة ، أجابهم مخلصنا قائلاً إنى أقول لكم إن كل من له سيعطى، وأما من ليس له، فحتى الذي عنده سيؤخذ منه،، أي أن كل من منحه قدراً من المواهب فاستخدمها واستثمرها في أمانة واجتهاد، سيزيد له من هذه المواهب، لأن الأمين والمجتهد في القليل، أمين ومجتهد أيضاً في الكثير، وأما من لم يستخدم المواهب التي منحه إياها ولم يستثمرها وإنما أهملها في غير أمانة ولا إجتهاد. فإن العدل يقضى بإنتزاعها منه، لأنه برهن على أنه غير جدير بها ولا يستحقهاء وإعطائها لمن برهن على أنه جدير بها ويستحقها.
وكما قال الملك الأرضي في المثل الذي ضربه مخلصنا فأما أعدائى أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم، فجيكوا بهم إلى هنا واذبحوهم أمامي،، هكذا سيفعل مخلصنا في يوم الدينونة، إذ سیقضی بهلاك اليهود الذين رفضوا أن يعترفوا بأنه هو المسيح ابن الله ملكهم للسماري الذي تنبأ كل أنبيائهم بأنه سيجيء إلى العالم متخذا جسد إنسان لخلاصهم وخلاص للبشر جميعاً، ورفضوا أن يملك بتعاليم عهده الجديد على قلوبهم وأرواحهم، بل إن لليهود قد نالوا عريوناً لهذا للهلاك الذي قضى به مخلصنا عليهم بعد سنوات قليلة من رفضتهم له وإنكارهم إياه وتلمرهم على قتله، إذ جاء الرومان وحاصروا بلادهم وذبحوا الغالبية العظمى منهم، وأسروا البقية الباقية من فلولهم فعاشوا مستعبدين مشردين محتقرين مزدرین منبوذين نبذ الدنسين، معزولين عزل النجسين في كل مكان وفي كل زمان، وسيظلون هكذا إلى أن يقـفـوا في نهاية الزمـان أمام الإله الديان فيقضى عليهم كما يقضى على جميع الأشرار بالهلاك، الأبدى.
لو19: 28-40 دخول السيد المسيح أورشليم :
وبعد أن ضـرب مخلصنا هذا المثل لتلاميذه ولكل الذين كانوا يرافقونه في رحلته إلى أورشليم، صعد متقدماً جميع أولئك إلى تلك المدينة، وهو يعلم أنه في هذه المرة إنما يسعى بقدميه إلى الموت، إذ كان يعلم أن اليهود في هذه المرة سينجحون في التآمر عليه وقتله، ولكنه لم يتضعضع أو يتراجع، بل تقدم في تصميم وعزيمة، وبمحض إختياره وبكامل إرادته. لأنه ما جاء إلى العالم إلا لهذه الغاية وهي أن يقدم نفسه ذبيحة ليكفر بدمه عن خطايا البشر ويرفع عنهم حكم الهلاك الذي قضت به العدالة الإلهية عليهم بسبب شرورهم وآثامهم. فإن كان اليهود هم الذين قتلوه بدافع من حسدهم وحقدهم عليه ـ وقد استحقوا لذلك جزاء جريمتهم، وهو الهلاك الذي هو جزاء القائلين ظلما وبغيا وطغياناً ـ فإنه هو من ناحيته، إنما بذل دمه طواعية واختياراً، لا جبراً ولا قسراً ولا قهراً، وإنما بدافع من محبته للبشر ورغبته في خلاصهم، ومسرته مع أبيه السماوي الذي هو واحد معه أن يتمم ، هذا التدبير الإلهي. وقد قرر هو نفسه ذلك صراحة، إذ قال كما ورد في إنجيل القديس يوحنا وأنا هو الراعي الصالح . والراعى الصالح يبذل نفسه عن الخراف. لهذا يحبني الآب، لأنى أضع نفسي لأخذها أيضاً. ليس أحد يأخذها منى، بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان أن أضعها ولى سلطان أن أخذها أيضاً، (يو 10: 11 – 17)، کما قال ليس لأحـد حب أعظم من هذا، أن يضع نـفـسـه لأجل أحـبـائه، (يو 15: 13). وعلى هذا الأساس ولتحقيق هذه الغاية، تقدم مخلصنا صاعداً إلى أورشليم.
ولقد أراد مخلصنا وفادينا أن يكون دخوله أورشليم الأرضية لآخر مرة رمزاً لدخوله أورشليم السمائية في مجده الملكي الإلهي، بيد أنه حتى في دخوله المجيد هذا لم يشأ وهو في جسد تواضعه أن يتنازل عن ذلك التواضع الذي لازمه طوال حياته على الأرض، فلم يدخلها كعادة ملوك الأرض معتلياً عربة ملكية، أو ممتطياً جواداً مطهماً يحيط به الأمراء والوزراء والكبراء وحاملو البيارق والأعلام في فخامة الفاتحين المنتصرين وضخامة مظاهر القادة الظافرين، وإنما اختار أكثر وسائل الركوب تواضعاً وأكثر مواكب المرافقين وجموع المستقبلين بساطة وفقراً وبؤساً. إذ أنه حين أقترب من بيت فاجي وبيت عنيا اللتين كانتا ضاحيتين من ضواحي أورشليم عند الجبل المسمى جبل الزيتون، أرسل إثنين من تلاميذه قائلا لهما اذهبا إلى القرية التي تجاهكما، فحين تدخلاتها ستجدان جحشاً مربوطاً لم يركبه أحد من قبل، فحلاه وجينا به. وإن سألكما أحـد لماذا تحلانه، فقولا له هكذا: إن الرب محتاج إليه.. فمضى الرسولان فوجدا كما قال لهما. وفيما هما يحلان الجحش قال لهما أصحابه الماذا تحلان الجحش؟، فقالا إن الرب محتاج إليها، ثم جاءا إلى مخلصنا. وهكذا فإن فادينا له المجد حتى في تواضعه برهن على علمه الإلهى بوجود ذلك الحيوان حيث كان مربوطاً، كـمـا برهن على سلطانه الإلهي على نفوس البشر، إذ أوحى إلى أصحاب هذا الحيوان بحاجته إليه فأذعنوا له في الحال. ولم يعارضوا تلميذيه في أن يحلاه ويأتياه به. وإذ لم يكن لدى التلميذين الفقيرين سرجاً من المخمل أو الحرير المطعم بالذهب أو الفضة يليق بجلوس ملك عليه ليضعاه على الجحش الذي سيركبه في دخوله عاصمة مملكته أو بالأحرى ملكونه، ولم يكونا يملكان غير ثيابهما البسيطة البالية التي يرتديانها، ألقياها على الجحش وأركبا مخلصنا، كما أنه فيما هو ماض لم يكن لدى التلاميذ أبسطة فخمة فاخرة يبسطونها في طريقه، كما ينبغي أن يفعل أهل الأرض في استقبال ملوكهم، ولم يكونوا أيضاً يملكون غير ثيابهم البسيطة البالية التي يرتدونها، فبسطوها في طريقه وهو راكب الجحش .وهكذا تحققت نبوءة زكريا النبي عن دخول المسيح المنتظر إلى أورشليم التي كانوا يسمونها كذلك صهيون، إذ قال «ابتهجي جدا يا إبنة صهيون، اهتفى يا بنت أورشليم . هوذا ملكك يأتي إليك، هو عادل ومنصور. وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان، (زك 9: 9) . ونلاحظ هنا أن الجحش لم يكن بمفرده حين أتى به التلميذان، وإنما كانت معه أمه الأتان كما ورد في إنجيل القديس متى (مت 21: 2-7). غير أن الأناجيل الثلاثة الأخرى لم تذكر إلا الجحش، وذلك لأن السيد المسيح له المجد قد ركب الجحش ودخل به أورشليم. ووفقا لما جاء في إنجيل القديس متى لأبد أن الرب يسوع قد ركب الأتان أولا، ثم تركها وركب الجحش بعد ذلك ودخل به أورشليم. ولما كان الجحش يرمز إلى الوثديين لنجاسته، يكون دخول مخلصنا به أورشليم رمزا لدخوله بالوثنيين إلى حظيرة الخلاص.
ولما اقترب فادينا من منحدر جبل الزيتون وأوشك أن يدخل أبواب أورشليم الأرضية، فعل جمهور التلاميذ بوحي من روح القدس ما تفعله الملائكة وهي تستقبل فادينا الإلهي عند دخوله أورشليم السمائية، إذ أخذوا يتهللون ويسبحون الله بصوت عظيم من أجل كل أعمال القدرة التي شاهدوا فـاديـنا يصنعها أمام أعينهم مرددين ذات العبارة التي تريدها الملائكة في إستقبال ملك السماء والأرض، قائلين مبارك الآتى باسم الرب، السلام في السماء والمجد في الأعالي، وقد ذكرت نبوءات المـزامـيـر هذا الهتاف الذي تهتف به الملائكة عند دخول، فادينا أبواب مـجـده والذي هتف به التلاميذ، إذ بعـد أن قالت على لسـان فـادينا افـتـحـوا لـي أبـواب البـر أدخل فـيـهـا، رددت هـتـاف الملائكة عندئذ وهم يسبـحـون قـائـلـيـن “مـبـارك الآتي باسم الرب” (مز 117: 19 و 26). كما ردد التلاميذ ذات العبارة التي كانت ترددها الملائكة الذين ظهروا للرعاة في ليلة ميلاد فادينا، إذ كانوا يسبحون قائلين “المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام” (لو 2: 14) . فحيثما حل رب المجد، فهناك السلام. إذ حين تواضع وحل على الأرض، قالت الملائكة على الأرض السلام”. وحين أزمع أن يرتفع ليدخل في مجده السماوي قال التلاميذ بروح القدس والسلام في السماء.
وقد كان بعض الفريسيين من بين الجمع الذي تجمهر عند دخول فادينا أورشليم، إذ كانوا يتبعونه أينما ذهب ليتجسسوا عليه ويتآمروا ضده، فتملكهم الغيظ مما يهتف به تلاميذه، وتقدموا إليه قائلين ، يا معلم انتهر تلاميذلك،، فأجاب وقال لهم ،أقول لكم إنه إن سكت هؤلاء صرخت الحجارة،، أي أنه وهو رب المجد كله لا يفتأ الكون كله يترنم بتسبيحه، سواء في ذلك الحي منه والجماد. فلان لم يسبحه الأحياء مختارين أو مضطرين، سبحته الحجارة التي لا إختيار لها ولا إضطرار، بحكم كونها خليقته، وطائعة له، وخاشعة بطبيعتها لربوبيته، فهي كما يقول الرب على لسان حبقوق النبي تتكلم ولا تكذب، (حب 2: 3).
لو19: 41-44 بكاؤه على أورشليم وإنباؤه بخرابها :
ولما اقترب فادينا من مدينة أورشليم نظر إليها وبكى عليها، إشفاقاً عليها من المصير الرهيب الذي كان ينتظرها، مع ا أنها كانت في العهد القديم هي أقدس مكان، أو ينبغي أن تكون أقدس مكان، لأن الله إختارها دون غيرها من مدن الأرض ليقوم فيها هيكله الأوحد الذي لم يكن يجوز وفقاً للشريعة تقديم القرابين له إلا فيه وحده، ولاسيما الذبائح التي لم تكن إلا رمزاً لتقديم فادينا نفسه ذبيحة للتكفير عن خطايا البشر، فكان جديرا بتلك المدينة المختارة من الله لتكريمه وتقديسه أن تكون هي المتقدمة على كل المدن في تقواه والتمسك بتعاليمه ووصاياه . ولكنها على العكس عادته ونبذت عبادته وعبدت الأوثان والأصنام من دونه، وأصبحت أفسد المدن وأفسقها، وأكثرها شروراً وفجوراً، وإثماً وظلماً، وسفكاً للدماء وبغياً على المساكين والضعفاء والأرامل والأيتام والأبرياء، حتى لقد خاطبها الله بلسان حزقيال النبي قائلا لها أيتها المدينة السافكة الدم.. الصانعة أصناماً لنفسها لتتنجس بها. قد أثمت بدمك الذي سفكت ونجـست نفسك بأصنامك.. يا نجسة الاسم يا كثيرة الشغب . هوذا رؤساء إسرائيل كل واحد حسب استطاعته كانوا فيك لأجل سفك الدم. فيك أهانوا أبا وأماً. في وسطك عاملوا الغريب بالظلم. فيك اضطهدوا اليتيم والأرملة . ازدريت أقداسي ونجست سبوني. كان فيك أناس وشاة لسفك الدم .. في وسطك عملوا رذيلة. فيك كشف الإنسان عورة أبيه. فيك أذلوا المتنجسة بطمنها. إنسان فعل الرجس بامرأة قريبه، إنسان نجس كنته برذيلة. إنسان أذل فيك أخته بنت أبيه. فيك أخذوا الرشوة لسفك الدم. أخذت الربا والمرابحة، وسلبت أقرباءك بالظلم ونسيتني يقول السيد الرب.. أكثروا الأرامل في وسطها، كهنتها خالفوا شريعتي ونجسوا أقداسي. لم يميزوا بين المقدس والمحلل ولم يعملوا الفرق بين النجس والطاهر.. رؤساؤها في وسطها كتتاب خاطفة خطفاً لسفك الدم. لإهلاك النفوس. لاكتساب كسب. وأنبياؤها قد طينوا لهم بالطفال، رائين باطلاً وعارفين لهم كذباً قائلين هكذا قال السيد الرب والرب لم يتكلم. شعب الأرض ظلموا ظلماً وغصبوا غصباً. واضطهدوا الفقير والمسكين وظلموا الغريب بغير حق، فسكبت سخطي عليهم. أفنيهم بنار غضبي. جلبت طريقهم على رؤوسهم يقول السيد الرب، (حز 22: 3 – 31). ولقد كان في مجيء السيد المسيح فرصة أخيرة أمام أورشليم لتندم على ذنوبها وآثامها، وتتوب عن شرورها وكل مظاهر فجورها، ولكنها بدلاً من أن تنتهز هذه الفرصة أضاعتها، وبدلاً من أن تؤمن بابن الله الذي تواضع واتخذ جسد إنسان لينقذها أنكرته وتنكرت له وعادته واعتدت عليه، ومع كل ذلك فإن قلبه الرحيم الرقيق، المحب الشفيق، تألم عليها لدرجة البكاء وهو رب الأرض والسماء، ضارباً للبشر بذلك أروع وأرفع مثال لما ينبغي أن تكون عليه قلوبهم من رحمة ورقة ومحبة وشفقة، وخاطب تلك المدينة العزيزة عليه والدموع تندفق من عينيه، في توجع لها وتفجع عليها، وهو يرى بعلمه الإلهي نهايتها الموجعة المفجعة، قائلاً لها ولو أنك أنت أيضاً كنت تدرين على الأقل في ، اليوم الذي هو لك ما هو لأجل سلامك ؟ ولكنه الآن محجوب عن عينيك . فإنه ستأتى عليك أيام يحيط بك فيها أعداؤك بالمتاريس، ويطوقونك ويحاصرونك من كل جهة، ويدكونك، وبنوك فيك، فلا يدركون فيك حجراً على حجر، ، لأنك لم تعرفى زمان إفتقادك، ، أي أن أورشليم لو أنها على الأقل في هذا اليوم الذي جاء فيه مخلصنا الذي تنبأ بمجيئه كل أنبيائها ليمنحها السلام، كانت تدري حقيقة شخصيته ورسالته التحقق لها في هذا اليوم خلاصها وسلامها. ولكنها عميت عيناها عن أن ترى شمس البر المشرقة في حلكة ظلامها، لأنها جهلت أو تجاهلت أن هذا الموعد الذي حدده التدبير الإلهي على فم أنبيائها لمجيء الرب ليتفقدها ويمسك يدها ليقودها نحو شاطئ الخلاص والسلام، ومن ثم استحقت تنفيذ قضاء الله بهلاكها على يد أعدائها الذين جعلهم الله واسطة لتنفيذ ذلك القضاء عليها، وبالفعل لم تمض خمسة وثلاثون عاماً على نطق مخلصنا بهذه العبارة التي تنبأ فيها بهلاك أورشليم على مقتضى العدل الإلهي، حتى حاصرها الرومان بجيوشهم ثم اقتحموها ودكوها دكاً، ودمروها تدميراً، وأضرموا النار فيها وفي هيكلها بعد أن هدموه فلم يتركوا فيه حجرا على حجر، حتى أصبح كومة من الرماد، ثم أعملوا السيف في رقاب اليهود، حتى أصبحت دماء قتلاهم كالبحيرات في شوارع المدينة، وتكومت الجثث أكداساً في ساحتها، وقد ذكر يوسيفوس المؤرخ اليهودي الذي عاش في ذلك العصر أن الرومان كانوا يأتون باليهود ويصلبونهم بالمئات في هزء وسخرية حتى ضاقت الساحات بالصلبان، وضاقت الصلبان بالجنث. وقد ذبحوا أكثر من مليون ومائة ألف رجل. ومن ثم لم يسع يوسيفوس إلا أن يقر قائلاً إندي لا يمكن أن أفكر في سبب لهذا إلا أن الله قد حتم خراب هذه المدينة النجسة، إذ سمح بهلاك أولئك المدافعين عنها، لأنه حتى أولئك الذين كانوا يرتدون الملابس المقـدسـة ويرأسون الصلوات العامة وكانوا موضع التبجيل من الناس جميعاً قد طرحوا عراة في الوحل وصاروا مأكلاً للكلاب وطعاماً للحيوانات المفترسة، . وقال آخرون من مورخي اليهود الذين شاهدوا خراب أورشليم إن هذه المدينة قد استوفيت عقابها، لأنها أنجبت جيلا من الرجال كانوا سبب تعاستها.
لو19 : 45 و 46 دخوله الهيكل وإخراج الباعة منه:
ولئن كان ملك من ملوك الأرض حين يدخل عاصمة مملكته ينـجـه مـبـاشـرة إلى القصر الملكي الذي هو بيته، إن فادينا حين دخل أورشليم اتجه مباشرة إلى الهيكل الذي هو بيت الله، وهو في ذات الوقت بيته هو، لأنه هو والله الآب واحد، إذ قال إن «الذي رأني فقد رأي الآب، (يو 14: 9). وبذلك تحققت نبوءة ملاخي النبي إذ قال يأتي بغنة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه، (ملاخی 3: 1).
وكان هيكل أورشليم هو مـركـز العبادة اليهودية، ورمـز تـاريخ اليـهـود وموضع فخارهم وزهوهم. وقد شيده الملك سليمان قبل ميلاد السيد المسيح بألف سنة، وأنفق بإسراف عظيم علي بنائه وزخرفته، حتى لقد إحتاج في ذلك إلى عشرة آلاف عامل، وألف عربة، وألف كاهن في ثيابهم المزركشة، ليضعوا أحجاره في أمكنتها بعد أن قام النحاتون بتسويتها وصقلها . وقد أتى له سليمان بالذهب من ترشيش، وبالخشب من لبنان، وبالأحجار الكريمة من اليمن. ثم بعد سبع سنوات من العمل المتواصل تكامل بناء الهيكل فكان آية من آيات الدنيا في د ذلك الزمان. ولكن يد الخراب لم تلبث أن أمـتـدت إلى الهيكل مرات عديدة، إذ كان هدفاً دائماً للغزاة الفاتحين والطامعين ينهبون ما به من كنوز ثم يشيعون فيه الدمار، حتى قام هيرودس الكبير بتجديد بنائه، فأنفق في هذا السبيل أموالا طائلة، إذ كان يريد أن يضفي على نفسه مجد سليمان، وكان يطمع في الوقت نفسه في أن يرضى اليهود الذين كانوا يبغضونه ويرفضونه كملك عليهم. وقد استغرق بناء الهيكل في هذه المرة ستة وأربعين سنة، أصبح بعدها صرحاً ضخماً فخماً، وتحفة بديعة رائعة في فن المعمار، بجدرانه الشاهقة، وأساساته الرخامية الفاخرة، وفسيفسائه الثمينة، وأخشابه العطرة، وسقوفه الذهبية اللامعة، وسجنه المزركشة المحلاة بالورود الأرجوانية، وحوائطه الموشاة بالذهب والفضة والأحجار الكريمة، والإيوانات الفارهة بأعمدتها الباسقة. وقد استمرت هدايا الملوك للهيكل حتى آخر زمانه، فكان يزخر بالكنوز التي لا تقدر بثمن، والتي تخطف الأبصار بروعتها ورونقها وبهائها. ولكن اليهود اعتدوا على قدسية هذا الهيكل، وأهانوا رونقه وفخامته، إذ لم يلبثوا أن أحالوه إلى سوق للبيع والشراء، فتزاحم في ساحته بائعو الثيران والكباش والحمام، حتى امتلات بهم ساحته، وأصبح لقذارته أقرب إلى مربط البهائم. كماكانت تكتنف الهيكل مكاتب الصيارفة، التي لا يفتأ يتعالى فيها رنين النقود مختلطاً بصوت الناس وهم يستبدلون ما بيدهم من دراهم. فقد كان الكهنة في الأعياد يجمعون الفريضة المقدسة القديمة وهي نصف الشاقل بالعملة اليهودية عن كل إسرائيلي، سواء أكان غنياً أم فقيراً، فدية عن نفسه. وكانت هذه الضريبة تخصص لخدمة الهيكل، فلم يكن يجوز في حكم الشريعة أن يؤتى بهذه الفدية من عملة أجنبية، ولا سيما إذا كانت من النحاس الأحمر أو الأصفر، المنقوشة بصور وثنية أو كتابات كفرية. ولذلك كان اليهود يضطرون لأن يبدلوا نقودهم بالعملة المطلوبة، أي الشاقل الفضي، ومن ثم احتل الصيارف مداخل الهيكل وشاركوا تجار الماشية في تحويل ذلك المكان المقدس إلى سوق للبيع والشراء، تختلط فيه البهائم بالناس، وتطغى فيه أصوات خوار البقر وثغاء الأغنام على صلوات الكهنة وتراتيل اللاويين. وكان الكهنة يشتركون في هذه التجارة، ويأخذون ضرائب لأنفسهم من التجار ويشاركونهم في أرباحهم التي كانوا يلجأون في اكتسابها إلى كل ما هو معروف عن تجـار اليـهـود وصيارفـتـهم من أساليب الغش والخديعة والمكر والاحتيال والاستغلال التي تنطوي في حقيقتها على السرقة واللصوصية في أشنع وأبشع الصور والأشكال. ومن ثم فإن مخلصنا حين دخل الهيكل تألم ألماً شديداً، وشرع في غضب مقدس يطرد الذين كانوا يبيعون ويشترون بداخله، قائلا لهم مكتوب أن بيتي هو بيت الصلاة ولكلكم جعلتموه وكر لصوص.. وقد كان فادينا في قوله هذا يشير إلى قول الله بلسان إشعياء للنبي أن “بيتي بيت الصلاة يدعى لكل الشعوب” (إش 56: 7)، وإلى قوله بلسان إرميا النبي “هل صار هذا البيت الذي دعي باسمي عليه وكر لصوص في أعينكم؟» (إر 7: 11).
لو19: 47 و48 كان المسيح مداوما على التعليم :
وكان فادينا بعد ذلك يعلم كل يوم في الهيكل، منادياً بمبادئ العهد الجديد، موضحاً لليهود حقائق تعاليم العهد القديم، ومصححا لهم ما أخطأوا في فهمه منها، وقد أغاظ هذا رؤساء الكهنة والكتبة وكبراء الشعب من أعضاء مجلس السنهدريم، ولا سيما بعد أن رأوه يطرد البائعين والمشترين من الهيكل، متصرفا فيه بسلطان مالك البيت في بيته، فكانوا يبتغون أن يقتلوه ، وقد روعهم وأفزعهم ما شهدوه من تأثيره في اليهود بشخصيته القوية وتعاليمه السماوية، ومعجزاته الإلهية، وقد خشوا أن يسلبهم ما لهم على الشعب من مكانة وسيطرة وسلطان، وخافوا أن ينادي به الشعب ، عليه فيكون في ذلك القضاء الأخير عليهم وعلى مناصبهم ومكاسبهم. ولكنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئاً، لأن الشعب كله كان متعلقاً بفادينا، وبالاستماع إليه، والاستمتاع بالنعمة الخارجة من بين شفتيه.