تفسير سفر أيوب أصحاح 6 للقديس يوحنا ذهبي الفم

الإصحاح السادس
رد أيوب
من يستطيع أن يدرك آلام أيوب

۱ – ” أجاب أيوب وقال: آه لو كان أحد يستطيع أن يضع السخط الذي علي في الميزان ويضع فى نفس الوقت أوجاعى مقابله، لأتضح أنها أكثر ثقلاً من رمل البحر (٦: ١-٣).

إنها عادة عند من يعانون ألماً حاداً أن يرغبوا في أن يعرف الحاضرون بكثير من التحديد عظم الأوجاع التي يعانون منها.

وهذا بالضبط ما قاله أيوب كما لو كان تحت صيغة صلاة: «لو كان أحد» عوضاً عن «أنا أستطيع…». وهو في هذا النص دعا يأسه سخطاً، وهذه الطريقة في الكلام توجد في نصوص كثيرة فى الكتاب كما عندما قال الذي أزعج الملوك ..» (إش۱۱:۲۳)، أي الذي أحزنهم وضايقهم.

وهذا ما يريد أن يقوله أيوب: أنتم تظهرون الحكمة في بلايا آخرين غيركم، ولأنكم بعيدين عن بلاياي فأنتم تعظونني بكل هدوء.

إن هذه الملاحظة ترد على الكلمات التي قالوها سابقاً «أنت قد أرشدت كثيرين» (٣:٤) «أنت قد ثبت الركب المرتعشة» (٤: ٤) ، لكن الآن لما أدركك الوجع (البلية) اضطربت .(٥:٤)

لماذا قال له «أنت قد اضطربت»؟

(قال أيوب): إننى أردت أن تصير بليتى واضحة، وأن تدركوا أنه لم يجوز أحد مثل هذه البلايا. إنما تأملوا أنتم سوء حظى والذى كان من المفترض أن يهبنى الغفران هو الذي بالذات أوقعنى تحت الدينونة.

وقال أيوب (أيضاً) : إن عظم بليتى ليس فقط لا تترافع لصالحي، وليس فقط لا تجعلني أبدو جديراً بالشفقة، بل على العكس تدينني. إن من كان ينبغي أن يجعلني محل شفقة هو الذي جعلني مكروهاً ومداناً ولن أستطيع أن أنال الشفقة مهما قلت.

أما البلية التي نسبها أليفاز إلى الأثيم، والتي عارضه فيها بقوله: «ذكر نفسك إن كان المستقيمون قد أُبيدوا تماماً» (٤: ٧) هي عينها التي قالها البربر بخصوص بولس الطوباوي هذا الإنسان قاتل لم يدعه العدل يحيا ولو نجا من البحر» (أع ٤:٢٨).

 إن البشر وعلى الأخص عامة الناس الذين يحكمون على الأحداث بطريقة ساذجة وبالمصادفة، لا يرتكنوا إلى أعمال الإنسان لكي يجلبوا حكمهم عليه، إنما يرتكنوا إلى العقوبة والمجازاة التي يعانيها. فلأن أليفاز قال فمن هو المائت الذي يتطهر قدام الرب»؟ (٤ ١٧)، لذلك جزم أيوب بقوله: إننى لا أستطيع أن أجيب أو أقول أنني أعاني هذه البلايا المرعبة والعديدة دون أن أكون قد اقترفت أية خطية، لأن عقوباتي تتكلم ضدى. لكنني مع ذلك ألوم القدير، أى أعاتبه (حرفياً أناقضه).

سهام الرب اخترقتني

٢- لكن يبدولي أن كلماتى عديمة القيمة، لأن سهام الرب فى جسدى وعنفها يشرب كل دمى وتنخسنى وفى كل مرة أبدأ في التكلم ” ( ٦: ٣، ٤).

فماذا يعنى هذا؟ إن كانت تنخسنى هكذا، فهذا ليس لمجرد أنها اخترقت جسدى، بل أيضاً لأنها حرمتنى من حكم عادل . ومع أنه يبدو أن أيوب أراد أن يقول العكس فلماذا أعلن كل مرة تنخسنى لذلك أنا أتكلم»؟

إن أيوب فى الغالب يترافع عن الكلمات التى جعلته سابقاً يلعن يوم مولده، إذ قال: إنني نطقت هذه الكلمات ليس عن ضلال أو عن طياشة، بل تحت تأثير وخز الوجع. فمن . تعيساً بما فيه الكفاية ومنحوساً، ليريد أن ينتحب دون وزنه للأمور (أى ينتحب سيصير

بخفة وطياشة)؟ ولأن أليفاز قال لا ترفض تأديب القدير (٥: ۱۷)، فإن أيوب قد اقتدى بالمثل بأصدقائه الذين صوّروا – بالفن الدرامى – الحيوانات بالتكلم عن زمجرة الأسد.

لا أحد يشتكي بدون سبب

٣- فماذا؛ هل ينهق الحمار الوحشى على لا شيء، إن لم يكن يسعى للطعام؟ أو أيضاً هل يجأر الثور عند المزود عندما يكون له علف ؟ (٦: ٥).

وحسناً أضاف قوله « عند المزود» لأنه يجأر فى مكان آخر. وفضلاً عن ذلك «هل يؤكل الخبز بدون ملح ؟ وبالمثل هل يوجد طعم للكلمات الفارغة؟» (٦: ٦)

إنه قال: كما أن الحمار لا يفضّل (حرفياً يختار ) أن ينهق دون سبب، ولا الثور يجأر عند مزود العلف، كذلك أيضاً لا يفضّل أحد أن يأكل الخبز دون ملح ولا أن يصيخ الأذن للكلمات الباطلة.

إن أيوب بالحق جلب الأمثلة المستحيلة ثم قال كذلك ولا أنا أفضّل أن انتحب هكذا إن لم تكن هناك ضرورة تدفعنى لذلك حرفياً تنخسني)، لأنه إن كان من غير المستحب أكل الخبز بدون ملح ، فلا أقله بالنسبة لى أن انتحب وأتضايق وأنطق بكلمات باطلة. من يفضّل أن ينتحب بغباوة أى) بدون سبب يدعو لذلك ) ؟ أية لذة توجد في الكلمات الباطلة؟ إن التذوق يعنى تلذذ . لقد بدأ أيوب بمثال بعيد ليصل إلى مثال أقرب: بدأ بمثال الحمار ليصل إلى مثال الخبز.

(يقول أليفاز) لكن لو كانت كلماتك (يا أيوب تحوى كلمة صدق لما صارت عليك هذه البلايا» (١٢:٤).

لهذا السبب قال أيوب: لكن يبدو لى أن كلماتي عديمة القيمة (٦:٣).

٤- إن نفسى لا يمكنها أن تجد راحة – لماذا يا أيوب – لأنى أرى طعامى له رائحة مقززة كتلك التي للأسد (٧:٦)

إن أيوب لم يكن يكفيه تقرح أو صديد، بل أضاف أيضاً عذاباً آخر فقال: إن المرض قد أفسد كل حسه (تذوقه للطعام) إلى درجة أن طعامه صار عذاباً له، لأن الرائحة المقززة للقروح المتقيحة قد نزعت تمييز حواسه (مذاقه) . أى شيء يمكن أن يكون أكثر إيلاماً من هذا العذاب ؟ فلا النوم كان يريحه ولا الطعام كان يغذيه

قال أيوب: «إن رائحة طعامه تذكره برائحة الأسد»

إن هذا الحيوان المفترس يفيح برائحة سيئة للغاية. وكما أن الأسد له تفوق طبيعي على سائر الحيوانات ، لكن الله من جهة هذا الأمر لم يعطه ميزة في هذا الشأن.

أيوب يدعو إلى الله

ه – ليت الرب يقبل طلبتى ويحققها ويمنحنى رجائى وليسحقني وبلاشيني تماماً ولیکن قبرى مدينتي التي على أسوارها قفزت (٦: ٨-١٠).

قال أيوب: إن الأجل الوحيد والراحة الحقيقية من هذه البلايا هي في الموت.

ماذا يقصد أيوب بقوله «قفزت» ؟ إنه يريد القول: كنت ابتهج آمناً.

٦ – ” إننى بكل تأكيد لن ألجأ إلى المداراة، لأننى لم اعترض على الكلمات المقدسة لاإلهي ་་ (تابع ٦: ١٠).

قال أيوب: بالتأكيد لن ألجأ إلى المداراة بالاعتراض، فأنا لا أشعر بأنني اقترفت شيئاً يشبه ما تقولوه، لكني لا أقول هذا ، بل فقط أقول إننى تحملت عقوبات تفوق طبيعتنا، وأن جسامة بلاياي تتخطى ما يمكن للجسد البشرى أن يحتمله.

أما أنت يا أليفاز أخبرني كيف أن أيوب، حتى ونحن نراه في هذا الكرب العظيم، فهو على أية حال لم يقبل بأن يسرد أعماله الحسنة، بل أنه إلى الآن يخفيها، وهو الذي كان يسلّم أحياناً أخطاءه إلى التشهير العلني بصراحة عظيمة أمام جمع كبير من المشاهدين، قد سكت بالمقابل عن أعماله الحسنة على الرغم من مشاهدته في هذا الكرب الشديد، وهو لم يقل بالتحديد: إنني قد عانيت مثل هذه البلايا مع أننى بار، بل إنه قال إنه لم يستطع احتمالها تماماً ما قال داود ارحمنی یا رب لأننى ضعيف (مز ٦: ٢). إن طريقة الكلام هى التى تميز الذين ليس لهم الحرية فى التعبير إذ يلجئون إلى ضعف الطبيعة (البشرية)، لأن قول إنني ضعيف ولست حجراً (انظر ٦: ۱۲)، هو ليس كلام من يقرّ بأنه يُعاقب بطريقة لا يستحقها، بل من على العكس يقرّ أنها حق إنما هو عاجز عن احتمالها، وبالتالي هو يطلب الحصول على العفو.

أيوب لم يكن إلا إنسان ضعيف زائل

٧- قال أيوب ما هى قوتى حتى أقاوم وما هو عمرى حتى تصبر نفسى (٦: ١١).

ماذا يقصد أيوب بقوله «ما هو عمري»؟

إنه يقصد «أنا إنسان قليل العمر (انظر حكمة سليمان ٥:٩)

هل أنا لدي عمر طويل حتى أقايض به ؟ ألعلى أمل أن أحيا طويلاً؟ «ما هي قوتى حتى أقاوم؟»

إذاً فليست قوته هى التى تتيح له المقاومة إنما تقواه ومخافته من الله، لأنه لو أراد أن يقاوم، فلن يقاوم إنما سيدمر نفسه، بحيث أنه حتى لو لم يعلمك أي نص آخر، فمن ثم تعلم بالتمام من إنسان تقى، فمع كونه إنساناً، فإنه احتمل ضغوطاً أكثر قوة من الحجارة بفضل مخافته الله، وبخروجه من وضعه الحرج الذى فيه ومن التفكير في نهايته أى عمره)، وبلجوئه إلى الصلاة وليس إلى ثقته الخاصة.

٨- قال أيوب “هل لحمى من نحاس ؟ أولم أثق فيه (فى الله)؟ لكن المعونة بعيدة عنى الرحمة لفظتني وانتباه الرب لم يلق عينيه على (٦: ١٢-١٤).

وحيث أن أليفاز يحضه قائلاً أدعو الرب القدير (٥: ۸)، فيجيبه أيوب قائلاً «ألم أثق أنا فيه؟»

تأمل في أنه ليس فى بدء بليته تكلم أيوب هكذا، بل بعد فترة طويلة من الزمن، وفي اللحظة التى أوشكت فيها المحاربات على الانتهاء.

٩- قال أيوب ” أقربائى لم يزودونى باحتياجاتي، لقد اجتازوا بالقرب منى ولم يرونى مثل سيل طافح أو مثل موجة عابرة. كل الذين يحترمونني انقلبوا علي (٦: ١٥، ١٦).

إن إغفال الله له هو بالضبط الذي جعل حتى أقرباءه يحتقرونه وسط مثل هذه البلايا. فكل مرة يبتعد الله ويحرم الإنسان من معونته، يصير الكل مُعادين ومعارضين له.

قال أيوب: لم يعرفني أحد فى بليتى، لكن هذا لم يكن بالأمر المهم.

“كل الذين كانوا يحترمونني انقلبوا علىَّ”

وهذا هو الشيء الأسوأ المضى إلى الدوس بالأقدام على من هو مطروح على الأرض!

ويبدو لي أن أيوب يشير بهذا إلى أصدقائه.

١٠- قال أيوب “مثل ثلج أو جليد متجمد، عندما يذوب بفعل الحرارة فلا تعد تعرف حالته الأولى، هكذا أنا أيضاً قد تخلى عنى ا الكل، ليس فقط أنا دمرت، بل صرت منبوذا (18-16:6)

أى أنه لم يعد يتبقى أى ذكر أو أثر لسعادتى السابقة. وهذا الأمر أسوأ ما في البلية. لو كان أحد يمكنه أن يزن سوياً كل بلاياي (٦: ۲) وهو يجتهد في تفصيلها فيقول «أنا أرى طعامى له رائحة مقززة (٦:٧) . كنت أتمنى أن أموت ولم أمت: فهذا لأنى إنسان ولست حجراً حتى أعانى هكذا إنسان زائل أنا ولم أتمتع بالعضد السماوى. البعض من بين خلاني مروا بجانبي دون أن يرونى والبعض الآخر داسونى بأقدامهم، ولم يعد يتبقى أى أثر لسعادتي السابقة.

أيوب ينقلب ضد أصدقائه الذين ليس لهم شفقة

۱۱ – انظروا طرق تيمان وإلى مسالك الأثمة، يا من تجيدون النظر. اخزوا يا من ترون إن الذين وضعوا اتكالهم على المدن (الحصينة) والأموال، قد صاروا مدانين” (١٩:٦ – ٢٠).

قال أيوب: انظروا وتأملوا أى ذكروا أنفسكم بحالكم ، فالمستقبل غامض ونحن كلنا في نفس الموقف، وهذه الخواطر طبقوها على أنفسكم واخفضوا من كبرياءكم.

١٢ – أما أنتم أيضاً فقد دستمونى بالأقدام بدون شفقة (٦: ٢١)

إنه يريد القول بدون شفقة وبدون فحص (قضائي)، وبدون تهم (أكيدة).

وأيضاً عند رؤية جُرحى (بليتى) فزعتم (تابع (٦: ٢١)

وقال أيوب: لأنه لا شيء جعلكم أكثر شفقة، لا الصداقة ولا الإخلاص السابق ولا أى شيء آخر، فحتى رؤيتكم لجروحى كان ينبغي أن تملأكم بشفقة عظيمة.

۱۳- فماذا! هل طالبتكم بشيء؟ هل احتجت لقوتكم لتخليصى من يد الأشرار أو انتزاعي من يد القدير ؟ (٦: ٢٢، ٢٣).

وهذا ما يريد أيوب قوله : لم أطلب منكم شيئاً لا سابقاً ولا الآن، وأنتم من تلقاء ذواتكم قد أتيتم إلي وبالتحديد لكى تعزوني، فلماذا تتصرفون كأعداء؟

١٤- علموني وأنا سأصمت. عرفونى إن كنت قد اقترفت خطأ ما (٢٤:٦).

ومع هذا فحتى فى هذه الظروف لن أرفض التعلم بشرط أن تقولوا لي شيئاً مفيداً، وأنا سأصمت إن نطقتم بكلمات لائقة.

إنهم لم يستطيعوا بالتأكيد أن يضعوا – مقدماً – اتهامات دامغة، ولكنهم أصدروا مجرد اتهامات تخمينية، وكما أن حياته كان واضح امتلاءها بالفضيلة، فإنهم (فقط) بعد البلايا التي حلت به خمنوا أنها لم تكن حياة فاضلة.

١٥- لكن كما يبدولي فإن كلمات الإنسان الصادق بدون قيمة (٢٥:٦).

قال أيوب: لكن لم يمكنني أن أقود الجهاد حسناً، لأن بليتى تقف عائقاً، أو لأنه إن قيل الحق وتم التعبير عنه بصراحة فإن سامعيه لن يحتملوه، إذ أن كلمات البار تعتبر بلا قيمة في عرف كل العالم، وهذا الخاطر كان من فم أيوب بصفة عامة ولم تكن بليته هي التي حركته عليه.

أيوب لم يطالبهم بشيء ولم يسكت

١٦- قال أيوب “لأنى لم أطلب منكم لا كلمة (تعزية) ولا قوة، واتهامكم لن يوقف كلماتي” (٦: ٢٥، ٢٦).

نعم حتى لو كان ينبغي أن تحاكموني بمقتضى الظروف الفعلية، فلن أوجه لكم أى التماس، وبالأحرى لن أقدم هذا الالتماس الآن.

«لأني لم أطلب منكم لا كلمة ولا قوة واتهامكم لن يوقف كلماتي. ولا حتى سأحتمل لغوكم، إذ أنكم تهاجمون اليتيم ( من التعضيد الإلهى وتهينوا واحداً من أصدقائكم» (٦: ٢٥ – ٢٦)

إن أيوب قال لا البلية ولا الصداقة جعلتكم تنثنون عن ملامتي. ومع ذلك إن أردتم فلنرجع إلى الكلمة «أنا لا أطلب… فحتى لو وضعتم أنفسكم في الفريق المعارض، سأرد عليكم لأن ضميرى لا يوبخني بشيء.

۱۷ – قال أيوب “لكن الآن تفرسوا في حسناً، فإني لا أكذب، وحاولوا ألا يكون ظلم في حكمكم، إنما وقروا العدل” (٦: ٢٨ – ٢٩).

أبدئوا الآن «لأنه لا يوجد ظلم فى لسانى ولم يعد حنكى يهتم بالإدراك (٦: ٣٠).

لاحظوا كيف أن الرجل مهتم دائماً بسمعته ويخاف من أن يُعتبر شريراً أو منافقاً.

تفسير أيوب 5 سفر أيوب 6 تفسير سفر أيوب تفسير العهد القديم تفسير أيوب 7
القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير سفر أيوب 6 تفاسير سفر أيوب تفاسير العهد القديم
 

 

زر الذهاب إلى الأعلى