تفسير رسالة فيلبي أصحاح 1 للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الأول
فرح وسط الآلام
علامات الحياة المفرحة في المسيح

مقدمة

من داخل السجن كتب القديس بولس إلى الكنيسة المحبوبة لديه، والتي يبدو أن كان لها مكانة خاصة لديه. أما موضوع الرسالة فهو “المسيح فرحنا“. إنه مصدر الفرح، في كل الظروف، يتجلى بالأكثر وسط الآلام حيث نشاركه آلامه.

يقدم لنا القديس بولس في هذا الأصحاح علامات معينة لهذه الحياة الجديدة المتهللة في المسيح يسوع:

أ. نظرة مقدسة للآخرين: لذا يدعو القديس بولس المؤمنين “جميع القديسين في المسيح يسوع” [1]، شعبًا وكهنة.

ب. عواطف مقدسة [7-8]: عندما تاب القديس أغسطينوس لم تتحطم عواطفه، بل بالحري تغير مسارها. عوض الشهوات الجسدية التي كانت تحطم طاقاته، تمتع بشهوات إلهية، والتهبت كل عواطفه بحب الله والناس.

ج. النمو في الحب [9] كما في المعرفة [10] والأعمال الصالحة [10] والبرّ [10]. فالفرح هو وراء النمو الدائم والتقدم المستمر في المسيح يسوع. إنه تجديد يومي، يبغي التشبه بالرب الذي هو الحب والحكمة والبرّ.

د. توجيه كل الطاقات إلى خلاص الإنسان بفرحٍ [12-26]: لم يكن القديس بولس يفكر في سجنه أو آلامه، بل بالحري وجد في سجنه فرصة رائعة للشهادة للمسيح في مجال جديد، بين الحراس ورجال الدولة. كان أيضًا متهللًا بسجنه، لأنه بعث بحركة جدية وجريئة للكرازة يقوم بها تلاميذه وأصدقاؤه، بل وحتى أعداؤه الذين كانوا يحسدونه ويقاومونه.

ه. الفرح بعطية الألم [27-30]: كان الألم من أجل المسيح هو منهج الرسول الذي يعلن عنه مرارًا في رسائله. يحمل الألم شهادة للآخرين عن تجلي السيد المسيح المصلوب فينا، كما فعلت قيود القديس بولس [7، 13]. يمكن للألم أيضًا أن يبعث فينا النمو في الإيمان. الألم هو عطية المسيح، كالإيمان تمامًا. كان الفرح بالألم شهادة بأن نفس القديس بولس حرة؛ فقد وجد جوًا من الفرح حتى داخل السجن. يخبرنا القديس بولس عن نصرته المتهللة على الألم بسبب ثقته في المسيح. لذلك يشير إلى اسم المخلص 40 مرة في هذه الرسالة القصيرة.

لكي يتمتع المؤمن بالفرح الدائم يليق به أن يعيد تقييم حياته، لئلا يكون قد انطبق عليه القول: “أنا عارف أعمالك أن لك اسمًا أنك حيّ وأنت ميت” (رؤ 3: 1).

فاصل

1. تحيّة رسولية 1-2

“بولس وتيموثاوس عبدًا يسوع المسيح،

إلى جميع القدّيسين في المسيح يسوع،

الذين في فيلبّي مع أساقفة وشمامسة” [1].

يسجل القديس بولس اسم تلميذه تيموثاوس معه في الافتتاحية كمن هو شريك معه في الرسالة. فقد كان مزمعًا أن يرسله إليهم ليخبره عن أحوالهم، فيتعزى ويفرح (في 19:2). هذا وقد كان تيموثاوس معروفًا لديهم (أع 3:16، 10-12)، شارك الرسول في رحلتيه إلى فيلبي، وكانت له مكانة خاصة لدى الكنيسة هناك. على هذا الأساس سجل اسمه في الرسالة، وإن كان لم يساهم في كتابتها.

بولس وتيموثاوس عبدا…” يمثل بولس الرسول حياة التواضع, إذ وهو المعلم وكاتب الرسالة يقرن اسم تلميذه باسمه دون تفرقة أو تمييز، مساويًا تلميذه بنفسه. ويمثل تيموثاوس التلمذة المستمرة والجهاد الدائب والمثابرة إلى النفس الأخير.

لم يسجل القديس بولس لقبه أنه “رسول” في هذه الرسالة ولا في رسالته إلى أهل تسالونيكي ورسالته إلى فليمون، لأن رسوليته لم تكن موضوع شك لدى المُرسل إليهم. ولأن أهل فيلبي لم يحتاجوا أن يتذكروا سلطانه الرسولي.

يدعو الرسول نفسه وتلميذه عبدي يسوع المسيح، فإنهما لا يطلبان مركزًا خاصًا في الكنيسة، ولا تشغلهما السلطة، إنما كانا يفتخران بعمل الرب الذي قبلهما عبدين له يتممان مشيئته.

لماذا يلقب الرسول بولس نفسه في هذه الرسالة ب “عبد” فقط؟

1- لأنه يفتتح الرسالة بما يناسب المؤمنين الذين وجهها إليهم.

2- لأنه كان مزمعًا أن يتحدث عن ابن الله الذي أخلى نفسه آخذًا صورة عبد.

3- يشعر بولس بملكية الله له، لقد اشتراه بدمه الثمين فصار عبدًا له.

4- كانت كنيسة فيلبي ثمرة طاعة بولس لسيده.

*     يدعو نفسه عبدًا لا رسولًا. بالحقيقة يا لعظم هذه الرتبة أيضًا، وذروة كل الصالحات، أن يكون الشخص عبدًا للمسيح، وليس مجرد مدعوًا هكذا. بالحقيقة عبد المسيح هو إنسان حرٌ من جهة الخطية، وبكونه عبدًا حقيقيًا لا يكون عبدًا لآخر، إذ لا يود أن يكون عبدًا نصف نصف (أي يشارك عبوديته للمسيح عبوديته لآخر)[1].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     كم من سادة يخضع لهم ذاك الذي يهجر السيد الواحد؟! ليتنا لا نترك السيد الواحد الحقيقي. من يريد أن يترك ذاك الذي قُيد بسلاسل حقيقية، لكنها سلاسل الحب التي تهب حرية ولا تقيد؟ هذه السلاسل التي يفتخر بها من يُقيدون بها، قائلين: “بولس عبد يسوع المسيح وتيموثاوس“. حين نُقيد بواسطته، نصير في مجدٍ أعظم عن أن نكون أحرارًا من آخرين[2]

القديس أمبروسيوس

إلى جميع القديسين في المسيح يسوع” [1] يكثر الرسول من ذكر كلمة “جميع” و”جميعكم” (25,8,7,4:1؛ 2: 26) لأنه يريد أن يوجه نظرنا إلى الابتعاد عن الانقسامات والتحزبات.

*     أراد اليهود أيضًا أن يدعوا أنفسهم قديسين حسب الوحي الأول (العهد القديم) حيث دُعوا شعبًا مقدسًا, شعبًا خاصًا لله (خر 6:19؛ تث 6:7 إلخ). لهذا أضاف: “إلي القديسين في المسيح يسوع“، فإن هؤلاء وحدهم هم قديسون، وأما الآخرون فدنسون[3].

القديس يوحنا الذهبي الفم

لا عجب إن أشار إلى الشعب نفسه ودعاهم “جميع القديسين في المسيح يسوع” قبل إشارته إلى الأساقفة والشمامسة.

وقد جاءت كلمة “أساقفة” تقابل Presbyters وهي تضم الأساقفة والكهنة معًا. ويرى القديس يوحنا ذهبي الفم أن لقب أساقفة يضم الأساقفة والكهنة، لأن فيلبي ليست بالمدينة الكبرى التي يمكن أن يُسام عليها أكثر من أسقف. هذا ويرى أن الأساقفة يحسبون الكهنة والشمامسة شركاء معهم في الخدمة[4].

يقول القديس يوحنا ذهبي الفم أن الرسول اعتاد في رسائله أن يكتب إلي الكنيسة، ولا يشير إلي رجال الكهنوت، فيما عدا هذه الرسالة، وذلك لأنهم بعثوا إليه أبفرودتس من قبلهم، كما قدموا له عطايا[5].

“نعمة لكم، وسلام من الله أبينا،

والرب يسوع المسيح” [2].

النعمة هي الهبة أو البركة أو العطية المجانية التي يهبها الله للإنسان، والسلام الإلهي الذي يفوق كل عقل وكل تصور. غالبًا ما يقدم في البركة الرسولية نعمة الله وسلامه الإلهي الفائق العقل، ليس من عنده، وإنما من الله الآب بالابن الرب يسوع المسيح.

فاصل

2. شكر ودعاء وحب 3-7

“أشكر إلهي عند كل ذكري إيّاكم” [3].

طبيعة الرسول بولس الرسول الداخلية المتهللة تفيض دومًا بتقديم ذبيحة شكر لله من أجل عمل الله، ليس فقط معه، بل ومع أولاده المخدومين. فهو كأب يحسب كل عطية وكل نجاح خاص بالشعب، كأن له شخصيًا، فيشكر الله دومًا باسم الشعب.

*     وضع (بولس) نفسه في مركز الأب، الشاكر كل حين من أجل أولاده، من أجل ما يمارسونه[6].

العلامة أوريجينوس

“دائمًا في كل أدعيتي،

مقدمًا الطلبة لأجل جميعكم بفرح” [4].

لم يغب ذكر أهل فيلبي عن فكر الرسول، ولاعن قلبه، حتى وسط قيوده ومشاغله باهتمامات الكنائس الأخرى. ذكرهم الدائم في الرب، وذكرهم جميعًا، يبعث فيه الرغبة المستمرة للدعاء والصلاة عنهم بروح الفرح والتهليل.

ربط الرسول بين الشكر والطلبة فهو يشكر الله من أجلهم, من أجل إيمانهم ومحبتهم ونشاطهم في الكرازة “في كل أدعيتي“. كان بولس يهتم جدًا بالصلاة ويعرف قيمتها، لذلك كان يرفع قلبه بالصلوات من أجل مخدوميه ومتاعبهم ومشاكلهم “بفرح“: يصلي بفرح بالرغم من إنه سجين سياسي، يواجه احتمال الحكم بإعدامه. فالمسيحية هي ديانة القلب الفرح المسرور، والوجه المشرق البشوش. الإنسان المسيحي إنسان فرح بإيمانه، مسرور بمسيحه، سعيد بملكوته.

لم يشر الرسول هنا إلى ما عاناه في فيلبي مع رفيقه سيلا، حيث مزق الولاة ثيابهما وأمروا بضربهما بالعصي ضربات كثيرة، وألقيا في السجن الداخلي (أع 16:22-24). لكن ما يذكره دومًا عمل الله معه لقبول الإيمان منذ دخوله في اليوم الأول، وعلى ما وهبه الله من فرح في وسط الآلام.

*     ليس لأنكم متقدمون في الفضيلة أكف عن الصلاة من أجلكم[7].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“لسبب مشاركتكم في الإنجيل من أول يوم إلى الآن” [5].

لم يقل الرسول أن سرّ فرحه قبولهم الإيمان وإنصاتهم لكلمة الوعظ، إنما “الشركة“، حيث ترجموا الإيمان إلى شركة حب روحي جماعي. فمنذ اليوم الأول لحضوره إليهم آمنوا والتصقوا معًا في شركة جماعية في الرب، استمرت حتى يوم كتابته الرسالة. فهي ليست شركة انفعال عاطفي مؤقت، لكنها شركة حب فائق تدفع للعمل والمثابرة معًا ليختبروا دومًا الحياة الإنجيلية الكنسية المفرحة.

“مشاركتكم في الإنجيل”: هي ممارسة الحب المشترك الإنجيلي، بين الجميع، شعبًا وكهنة. شركة في العبادة (الليتورجيات والإفخارستيا)، وشركة في الأمور المادية حيث شهوة العطاء الدائم (2 كو 13:9، غل 6:6، عب 16:13)، وشركة الشهادة لإنجيل المسيح. هذا كله يتحقق بشركة الروح القدس (2 كو 14:13).

عندما نعيش في المحبة المسيحية يعتبر هذا كرازة عملية بالإنجيل, وعندما نصلي بعضنا عن البعض يعتبر هذا كرازة بالإنجيل، وعندما نطلب المعونة الإلهية من أجل الكارزين يعتبر هذا كرازة بالإنجيل، وهذا ما فعله أهل فيلبي. والمبدأ هنا واضح وهو إن كل من يتعب في الإنجيل لا بُد أن يشترك في النعمة.

*     إن كانت “الشركة” تُعطي لنا “مع الآب والابن” والروح القدس، يليق بنا أن نلاحظ لئلا نُبطل هذه الشركة المقدسة الإلهية بارتكاب الخطية. لأننا إن كنا نفعل أعمال الظلمة (رو 12:13) فمن الواضح أننا نجحد شركة النور[8]

العلامة أوريجينوس

*     عندما يكرز شخص ما وأنتم تخدمونه، تشاركونه أكاليله. فإنه حتى في المصارعة لا يأخذ الإكليل من يغلب فقط، وإنما يشاركه فيه مدربه والحاضرون وكل الذين أعدوا حلقة المصارعة. فالذين يقودونه ويدربونه بحق يشاركونه نصرته… إن كنا نخدم القديسين بطيب قلب نشاركهم مكافأتهم. هذا ما يخبرنا به المسيح أيضًا: “اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية” (لو 16: 9)[9].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“واثقًا بهذا عينه،

أن الذي ابتدأ فيكم عملًا صالحًا،

يكمَّل إلى يوم يسوع المسيح” [6].

سرّ فرح الرسول في خدمته وسلامه الداخلي إدراكه أن الذي يبدأ العمل في الخدمة هو الله، العامل في خدامه، هو يبدأ وهو يكمل الطريق حتى النهاية، يوم مجيء الرب الأخير. وكما قيل عن عمل الله في صموئيل النبي: “وكان الرب معه، ولم يدع شيئًا من جميع كلامه يسقط إلى الأرض” (1 صم 19:3).

يقين الرسول بولس أن الله من جانبه لن يتوقف عن العمل في خدامه لحساب ملكوته، فهو الذي يهب بروحه روح الحكمة والقداسة حتى يحضر المختارين في يوم الرب كاملين. نعمة الله لن تتوقف مطلقًا مادام الزمن حاضرًا حتى تكمل النفوس وتدخل بهم مع الجسد إلى شركة المجد الأبدي.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله لا يحركنا كقطعٍ خشبية (كالشطرنج) أو الحجارة، بل يعمل فينا حين نكون جادين في طلب عونه ومجتهدين. لهذا إذ يؤكد الرسول أنه الله الذي بدأ حتمًا سيكمل عمله معهم حتى النهاية، ففي هذا مديح لهم كعلامة على أنهم جادون، وفي نفس الوقت ما يمارسونه هو هبة من الله وليس من ذاتهم.

*     ليس بالمدح الهين أن الله يلتزم بالعمل في شخصٍ ما، فإنه لا يحابي الوجوه. متى تطلع إلي صدق غايتنا يساعدنا في الأمور الصالحة. هذه شهادة أننا وكالته نجتذبه ليعمل فينا. بهذا لا يسلبهم الرسول مديحهم[10].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     العمل الذي بين أيدينا سيبلغ نهايته بقوة الله، القادر ما يقوله يحوله من كلمة إلى عمل[11]

القديس غريغوريوس النيسي

يعلق القديس أغسطينوس على صلاة السيد المسيح الوداعية موضحًا أن الله الذي قدس تلاميذه يبقى يعمل فيهم ليتمتعوا بتقديسٍ مستمرٍ. وكأن تقديسنا لا يتحقق دفعة واحدة ليتوقف.

*     يقول: “قدسهم في حقك” (يو 17: 17). هل هم محفوظون من الشرير، إذ سبق فصلى طالبًا لهم ذلك (يو 17: 15)؟ لكن يتساءل البعض: كيف لم يعودوا بعد يُحسبون من العالم (يو 17: 17) إن كانوا لم يتقدسوا بعد في الحق؟ أو إن كانوا هم بالفعل قد تقدسوا في الحق، فلماذا يطلب لهم أن يكونوا هكذا. أليس هذا لأن حتى هؤلاء المقدسين لا يزالوا يستمرون في التقدم في ذات التقديس وينموا في القداسة، وهم لا يتمتعون بهذا بدون معونة نعمة الله، بل بتقديس تقدمهم حتى وإن كان قد قدس بدايتهم؟ لهذا يقول الرسول ما يشبه ذلك: “أن الذي ابتدأ فيكم عملًا صالحًا يكمل إلى يوم المسيح“[12].

القديس أغسطينوس

“كما يحق لي أن افتكر هذا من جهة جميعكم،

لأني حافظكم في قلبي، في وُثقي،

وفي المحاماة عن الإنجيل وتثبيته،

أنتم الذين جميعكم شركائي في النعمة” [7].

لم يكن ممكنًا للوُثق أو القيود أن تحجب الحب، بل على العكس أعطته فرصة أعظم للتفكير فيهم، وحرصه على حفظهم في قلبه، والصلاة الدائمة عنهم، والشكر لأجل عمل الله معهم. فالسجن والقيود والآلام لم تسحب قلب الرسول عن مخدوميه، بل قدمت له فرصة أعظم لخبرة الحب الرعوي حتى دون اللقاء معهم جسديًا.

*     يا للعجب وهو في السجن، حتى في اللحظات التي يتقدم فيها للدفاع عن نفسه أمام المحكمة لن يسحبهم من ذاكرته[13].

القديس يوحنا الذهبي الفم

يقف القديس يوحنا الذهبي الفم في دهشة أمام موقف شعب فيلبي، فإنهم جميعًا مشغولون بالشهادة للإنجيل وتثبيته، شركاء الرسول بولس في هذه النعمة.

المقصود بالمحاماة توضيح قضايا الإنجيل وشرحها للمقاومين مثل المتهودين, وتثبيته في قلوب التائبين الراجعين.

*     “في وثقي وفي المحاماة عن الإنجيل وتثبيته“. حقًا أن تثبيت الإنجيل كانت وُثُقة[14].

القديس يوحنا الذهبي الفم

يا لها من مشاعر حب فائقة للطبيعة:

أولًا: إنه حافظهم جميعًا في فكره، كمن يحفظ لآلئ عظيمة، لا يقدر أن يتجاهل واحدة منها أو ينساها.

ثانيًا: وإن كان مقيدًا كسجين، فهو يحفظهم في قلبه، كمن يغلق عليهم في داخله، ويربطهم بقيود الحب. لذا يقول: “في وثُقي”.

ثالثا: إنهم جميعًا- كشعب وكهنة- شركاء معه في المحاماة عن الإنجيل وتثبيته.

رابعا: كان جميعهم شركاء معه في النعمة. يراهم بعيني الروح في قلبه، يستدفئون بنار حبه في الرب.

فاصل

3. شوق وصلاة 8-11

“فإن الله شاهد لي كيف اشتاق إلى جميعكم،

في أحشاء يسوع المسيح” [8].

يدعو الرسول بولس الله نفسه ليكون شاهدًا لما في أحشائه من حب نحو أهل فيلبي، هذا الحب ليس لأنهم يعملون معه كشركائه في نعمة تثبيت الإنجيل، وإنما يحبهم في أحشاء المسيح لأجل أنفسهم حسب المسيح.

“فإن الله شاهد لي”: لسنا نظن أن بولس الرسول ظن أنهم يشكون في محبته لهم حتى يستشهد بالله نفسه، القادر وحده أن يرى ما في قلبه. لكنه يُشهد هنا الله الذي يُسر بأن يجد الشعب كله مع الكهنة لهم موضع خاص في قلب خادمه. مسرة الله أن تتمتع الكنيسة كلها بالحب العملي والشركة في النعمة الإلهية.

إذ يفتح كلمة الله المتجسد قلبه للعالم كله، فيبذل حياته ذبيحة حب عن البشرية، يجد مسرته أن يرى خدامه يتشبهون به، فتتسع قلوبهم لإخوتهم، مقدمين حياتهم مبذولة عنهم، فيرددون أنسكب أيضًا على ذبيحة إيمانكم وخدمته” (17:2).

“في أحشاء يسوع المسيح”: الخادم الحقيقي يحمل الشعب في أحشائه، يفرح بخلاصهم، ويتوجع لضعفاتهم. لذا كان إرميا النبي يصرخ: “أحشائي، أحشائي، توجعني جدران قلبي، يئن فيَّ قلبي، لا أستطيع السكوت”. (إر 19:4). توجعت جدران قلب إرميا، إذ يدرك شوق الله أن يحمل شعبه في أحشائه: “حنت أحشائي إليه، رحمة أرحمه، يقول الرب” (إر 20:31). ويقول الرسول بولس:“في أحشاء يسوع المسيح”. فالحب الملتهب في أحشاء الرسول، هو حب السيد المسيح الساكن فيه والملتهب نحو البشرية. فالحب الرعوي ليس إلا حب المسيح نفسه العامل في قلب الراعي أو الخادم.

يُشهد القديس بولس الله نفسه على مدى تأجج عواطفه نحوهم، فقد التهب بالشوق إليهم جميعًا، بغير استثناء. أحب الكل، غير متطلعٍ إلى أية عوامل خاصة بكل واحد منهم، إنما يتطلع إلى عاملٍ واحدٍ، وهو أن عواطفه المتأججة تنطلق خلال السيد المسيح الساكن فيه، فهو يحملهم في أحشائه، وبالتالي في أحشاء المسيح الذي فيه. وذلك كما أحب أبونا إبراهيم ابنه اسحق، لكن أحبه في الرب.

كيف اشتاق إلى جميعكم في أحشاء يسوع المسيح“… ما أجمل وما أحلى هذه العواطف الرقيقة التي يقدمها بولس إلى أولاده؟! لقد تطابقت مشاعر بولس مع مشاعر سيده المسيح, ومن فيض هذه المشاعر الغزيرة اشتاق بولس أن يرى كل واحد من أولاده، ولخص كل هذه المشاعر في كلمة واحدة “أحشائه”، أي كل ما يحويه قلب يسوع المسيح تجاه أبنائه.

*     لم يقل “في الحب”، بل قال بتعبير أكثر دفئًا: “في أحشاء (حنو لطف) المسيح“، وكأنه يقول لهم: “إذ صرت لكم أبًا خلال العلاقة التي بيننا في المسيح، فإن هذا يهبنا أحشاء دافئة متقدة. يهب السيد مثل هذه الأحشاء لخدامه الحقيقيين. “في هذه الأحشاء“، كأنه يقول أحبكم ليس في أحشاء طبيعية، بل خلال أحشاء أكثر دفئًا، أعني أحشاء المسيح[15]

*     إنني عاجز عن أعبر لكم عن شوقي إليكم في كلمات. إنه يستحيل عليٌ أن أخبركم بها[16].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     قدمْ ابنك (اسحق) ليس في أعماق الأرض، ولا في وادي الدموع (مز 84: 6)، وإنما على الجبال المرتفعة العالية (تك 22: 2)، لتظهر أن إيمانك بالله أقوى من عواطف الجسد. يقول النص أن إبراهيم أحب اسحق ابنه، لكنه وضع حب الله قبل حب الجسد، وقد وُجد ليس في أحشاء الجسد بل في أحشاء المسيح، أي في أحشاء كلمة الله والحق والحكمة[17].

العلامة أوريجينوس

“وهذا أُصلّيه أن تزداد محبتكم أيضًا،

أكثر فأكثر في المعرفة،

وفي كل فهم” [9].

جوهر موضوع صلاة الرسول أن يتمتع مخدوميه بالحب لله، ولبعضهم البعض، كما لكل البشرية، وأن ينمو في هذا الحب المثلث الجوانب بلا توقف. فيكونوا أشبه بنهرٍ لا تتوقف أمطار النعمة عن أن تنسكب عليه بفيض، لكي يفيض النهر دومًا بالمياه المتجددة على مجاريه وشواطئه وعلى السهول. إذ تمتعوا بفيض النعمة اشتاق أن تلتهب قلوبهم أكثر فأكثر لينالوا بلا توقف. فالنعمة الإلهية تولد عطشًا أعظم نحوها؛ كلما ذاقها المؤمن أراد المزيد. “من أكلني عاد إليّ جائعًا، ومن شربني عاد ظامئا” (سيراخ 24: 29).

لا يعرف الرسول السكون، بل يود النمو الدائم بلا توقف، فإن كان شعب فيلبي مملوء حبًا، فإنه يشتهي لهم أن يزدادوا في الحب كما في المعرفة والتمييز. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أنه لا يود أن يقفوا عند قياسٍ معين.

تزداد محبتكم… في المعرفة وفي كل فهم“: المحبة مرتبطة بالمعرفة, فعندما يحب الإنسان موضوعًا يبحث فيه وعنه حتى يلم بكل جوانبه، وعندما يحب شخصًا معينًا يجب أن يعرف كل شيءٍ عنه, وهكذا عندما يحب الإنسان الله تزداد معرفته عنه.

“في المعرفة وفي كل فهم”: لا يطلب لهم الحب العاطفي المجرد، أو ما يدعوه البعض بالحب الأعمى، بل الحب المستنير بالمعرفة والفهم، حب المسيح حكمة الله. فتكون لهم معرفة أسرار الله وفهم لكلمته، حتى يذوقوا بحق عذوبة الحياة والشركة معه.

*     قياس الحب لا يقف عن حد معين، إذ يقول: “أن تزداد محبتكم أيضًا أكثر فأكثر“. لتراعوا سمو التعبير، إذ يقول: “تزداد محبتكم أكثر فأكثر في المعرفة وفي كل فهم“. فإنهم لا يقفوا عند الصداقة وحدها، ولا عند المحبة وحدها، بل أن يأتوا إلى المعرفة. فلا يُقدم ذات الحب للكل، فإنه مثل هذا لا ينبع عن الحب، بل عن عدم الفهم. إنه يعني أن يكون الحب بتعقلٍ وتمييزٍ. إذ يوجد خطر لمن يحب بدون تعقل يحب أيا كان الأمر…. يوجد خطر من أن يُفسد البعض بحبه للهراطقة…. إذ يجب أن تكونوا مخلصين، فلا تقبلوا تعليمًا خاطئًا تحت ستار الحب… كيف يقول: “إن كان ممكنًا فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس” (رو 18:12)؟ إنه لم يقل: “حبوا حتى يصيبكم أذى من الصداقة، إذ قيل: “فإن كانت عينك اليمنى تعثرك، فأقلعها وألقها عنك” (مت 29:5)[18].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“حتى تميّزوا الأمور المتخالفة،

لكي تكونوا مخلصين وبلا عثرة إلى يوم المسيح” [10].

الترجمة الحرفية تعني “الأمور المتباينة” أو المختلفة فيما بينها، مما قد يسبب نوعًا من الارتباك، لذا يطلب لهم “روح التمييز”.ويترجمها البعض “الأمور السامية” excellent. يرى البعض أن الرسول يقصد أن أمور السيد المسيح سامية وفائقة تحتاج إلى التمييز لكي يختبرها المؤمنون بإخلاص، فينعموا بإنجيل الخلاص، ليحيوا في الكمال. بهذا يُحضروا يوم الرب حاملين برّ المسيح. ففي اليوم الأخير إذ يأتي شمس البرّ، يُفحصون ببهائه، ويوجدوا طاهرين بلا عثرة.

“لكي تكونوا مخلصين وبلا عثرة”: مخلصين، أي لنا القلب الواحد، فلا نعرج بين الفرقتين.

كلمة “مخلصين” في اليونانية مشتقة من كلمتين: eille وتعني بهاء (سمو) الشمس، krino وتعني “أحكم”. وكأن معناها أن أحكم على الشيء أو أفحصه على ضوء الشمس الساطعة، فلا مجال للخطأ، بل يظهر كل شيء بوضوح، أنه طاهر ونقي لا يخفي أي نقص. وكأنه يقول لهم أنهم إذ ينموا في النعمة، يصيروا بلا لوم حتى في نظر الرب شمس البرّ.

وجاءت الكلمة ذاتها باللاتينية تعني “بدون شمع”،حيث يتنقى عسل النحل من الشمع، ولا يكون فيه أي أثر له.
“بلا عثرة”،
 فالحياة المسيحية كما يراها القديس بولس أشبه بسباق جري للبلوغ إلى النهاية والتمتع بالمكافأة. ففي المسيح يسوع لن توجد عثرات تعطل المؤمن عن جريه.

المحبة الحقيقية تمنح الإنسان الذهن المستنير بالروح القدس ليميز الأمور المتخالفة, والمحبة تضيء القلب، فيستطيع أن يميز صوت الراعي عن صوت الغريب, ويميز مشيئة الله عن مشيئته الخاصة, ويميز الأمور المتخالفة، فيختار الصالح ويترك الطالح.

*     “لكي تكونوا مخلصين أمام الله، وبلا عثرةأمام الناس، إلى يوم المسيح، فإن صداقات كثيرة للبشر يمكن أن تضرهم، حتى وإن كانت لا تضركم أنتم، فقد يتعثر بها الغير. “إلي يوم المسيح“، أي حتى توجدوا أتقياء، غير معثرين لأحد[19].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“مملوءين من ثمر البرّ،

الذي بيسوع المسيح لمجد الله وحمده” [11].

البرّ هو السيد المسيح. فالإنسان المسيحي لا بُد أن يثمر، ويُثمر في هدوء وسلام، أما ثمر البرّ فهو الأعمال الصالحة. إذ نُغرس في المسيح يسوع، ونُطعم فيه لا نعود نكون بعد أغصان برية، بل أغصان الكرمة الإلهية الحاملة ثمر الروح. هذه الثمار الفائقة والمشبعة موضع اعتزازنا، لكن ليست علة كبرياء وتشامخ، إذ هي هبة إلهية لمجد الله والتسبيح له. كما يُقصد بكلمة “البرّ” هنا كل أعمال الروح القدس الذي يهبنا برّ المسيح، والشركة في الطبيعة الإلهية.

يقول “ثمرة البرّ”، وليس “ثمار البرّ”. جاءت الكلمة اليونانية في المخطوطات القديمة بصيغة الفرد لا الجمع. وجاءت نفس الكلمة في المفرد في غل 22:5 ؛ أف 9:5 ؛ يع 18:3 ؛ عب 11:12 ؛ رو 22:6، لأن ثمر الروح مع تنوعه من حب وفرح وسلام وصلاح إلخ. في تناغم معًا، كأنه ثمرة واحدة.

*     يقول: “مملوءين من ثمر البرٌ“، إذ بالحق يوجد برٌ ليس حسب المسيح، على مستوى الحياة الأخلاقية. “الذي بيسوع المسيح لمجد الله وحمده“. انظروا فإنني لست أتكلم عن مجدي، بل عن برّ الله… يقول: “لا تجعلوا محبتكم تضركم بطريقة غير مباشرة، بأن تعوقكم عن إدراك الأمور النافعة. احذروا لئلا تسقطوا خلال محبتكم لأي أحد. فبالحق أود أن تزداد محبتكم لكن دون أن يصيبكم ضرر منها[20].

القديس يوحنا الذهبي الفم

فاصل

4. قيود ونصرة 12-14

“ثم أريد أن تعلموا أيها الإخوة أن أموري

قد آلت أكثر إلى تقدّم الإنجيل” [12].

كان القديس بولس مقيدًا ومسجونًا في روما. ربما ظن البعض أن هذا الأمر يقف حجر عثرة أمام حديثي الإيمان، إذ كانوا يخجلون مما حدث معه، ولعلهم خشوا أن يكون هذا هو مصيرهم. ولعل البعض حسب أن سجن الرسول بولس يُعثر الذين هم خارج الإيمان.

هنا يحدث بولس أهل فيلبي الذي يحبونه ويحبهم عن أموره وأخباره خوفًا من وصول أخبار خاطئة عنه. ويوضح لهم إن متاعبه وسجنه وآلامه كانت بخطة إلهية مقصودة لانتشار الكرازة بالإنجيل عن طريق السجانين، ونجاة الرجال الذين كانوا معه في السفينة (276 رجلًا)، وكرازته في روما عاصمة العالم في هذا الوقت. حيث تحول السجن في روما إلى كنيسة صغيرة جمعت اليهود مع الأمم في شخص المسيح الواحد.

“حتى أن وُثقي صارت ظاهرة في المسيح،

في كل دار الولاية،

وفي باقي الأماكن أجمع” [13].

صارت قيود الرسول ظاهرة في المسيح، فقد عرف الكل أنه لم يُسجن من أجل جريمةٍ ارتكبها، وإنما من أجل “اسم يسوع”.

كما دُعي في دار الولاية Praetorianالملحقة بقصر نيرون، لكي يدافع عن نفسه، فكانت فرصة رائعة للشهادة للسيد المسيح أمام رجال الدولة. وإذ كثيرون كانوا يأتون من دول كثيرة إلى دار الولاية، صار الرسول شاهدًا للسيد المسيح “في باقي الأماكن أجمع”،كما في قصر الإمبراطور نفسه.

*     يبدو أنهم كانوا في حزن عندما سمعوا عنه أنه في القيود، وتخيلوا أنه بهذا توقفت الكرازة. ماذا إذن؟ لقد بدد هذه الظنون فورًا. وأظهر أيضًا عاطفته نحوهم إذ أعلن لهم عما يخصه إذ كانوا في قلق من جهته…. لقد أجاب: “هذا الأمر (الكرازة) ليس فقط لم يتعطل، إذ لم يرتعب (العاملون)، بل بالحري تشجعوا… فإذ تكلم بجرأة وهو في القيود بث فيهم الثقة أكثر مما كانوا عليه وهو ليس في القيود[21].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“وأكثر الإخوة وهم واثقون في الرب بوُثقي،

يجترئون أكثر على التكلّم بالكلمة بلا خوف” [14].

قدمت قيود الرسول بولس للإخوة شجاعة للكرازة، فإن كان الرسول قد نال كرامة الألم من أجل الكلمة، لم يخشَ المخلصون في الحق من الشهادة، مقتدين بالرسول مثالهم العملي.

*     هذا يُظهر أنهم كانوا في شجاعة صادقة حتى من قبل، وتكلموا بجرأة، لكن هذه الشجاعة تزايدت بالأكثر. وكأنه يقول: “إن كان الآخرون قد صاروا أكثر جرأة بقيودي، كم بالأولى أكون أنا؟ إن كنت أنا سببًا في جرأتهم، فكم بالأكثر أصير أنا أكثر جرأة؟[22]

القديس يوحنا الذهبي الفم

فاصل

5. فرح بالكرازة 15-19

“أمّا قوم فعن حسد وخصام يكرزون بالمسيح،

وأمّا قوم فعن مسرّة” [15].

وجد الحاسدون للرسول بولس فرصتهم للكرازة ليس عن حبٍ وإخلاصٍ، وإنما لكي تتشدد الدولة وتضيق الخناق على الرسول، فلا يخرج من السجن. أو لعلهم وجدوا فرصتهم في سجن الرسول أن يكرزوا ليحتلوا مكانه في الخدمة، فيُنسب نجاح الخدمة إليهم.

ولعل بعضهم في روما كانوا من المنادين بالتهود الذين سعوا بكل قواهم إلى تهديد المسيحية، فرأوا في سجنه فرصة للتحرك، فلا يجدوا مقاومة لأفكارهم. حسبوا في سجن الرسول الذي في نظرهم مقاوم للناموس الموسوي والعوائد اليهودية فرصة أن يعملوا بكل قوة. مثل هؤلاء قادهم بولس الرسول في إنطاكية وفي أفسس وشبههم في هذه الرسالة بالكلاب وفعلة الشر. لقد كان بولس يقلع زرعهم الفاسد الذي زرعوه في أذهان الناس.

مقابل هذا أيضًا تحرك المخلصون للعمل بكل قوة عن حب للسيد المسيح ورسوله بولس الأسير. الأولون كانوا يعملون بدافع التحزب ضد الرسول، والآخرون يعملون من أجل خلاص البشرية، وفي كلا الحالتين التهبت الكرازة في روما بسبب سجنه.

*     صدر عن قيودي خطين للعمل، فريق ازداد شجاعة للعمل، والآخر ترجى أن يعمل ليحطمني فصاروا يكرزون بالمسيح[23].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فهؤلاء عن تحزّب ينادون بالمسيح،

لا عن إخلاص،

ظانّين أنهم يضيفون إلى وُثقي ضيقًا” [16].

إنهم غير مخلصين في كرازتهم بالمسيح، إذ يكرزون عن تحزب. وكلمة “تحزب” تشير إلى المنفعة الشخصية والطموح الأناني والتنافس.

*     ظنوا إنني سأسقط تحت مخاطر أعظم، فيضيفون إلى ضيقي ضيقًا.

يا للقسوة! يا لها من إثارة شيطانية!

لقد رأوه في القيود، مُلقى في السجن، ومع هذا كانوا يحسدونه.

لقد أرادوا أن يزيدوا من الكوارث التي تحل عليه، ويجعلوه موضع غضب أشد.

حسنًا يقول: “ظانين”، لأن ما حدث علي خلاف هذا. لقد ظنوا بالحقيقة أن يحزنونني بهذا العمل، لكنني فرحت إذ امتد الإنجيل[24].

*     يُمكن أن يُمارس عمل صالح بدافع غير صالح. مثل هذا ليس فقط لا تكون له مكافأة، بل تكون له عقوبة. فإنهم إذ كرزوا بالمسيح بغية أن يسقط الكارز بالمسيح في مخاطر عظيمة، ليس فقط لا ينالوا مكافأة، إنما يسقطون تحت النقمة والعقاب[25].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“وأولئك عن محبّة،

عالمين إني موضوع لحماية الإنجيل” [17].

“إني موضوع”: تعني إني معين من قبل العناية الإلهية لنشر نور الإنجيل بين الشعوب.

*     ماذا يقصد بالحماية؟ لقد عُينت لأكرز، ويلزمني أن أقدم حسابًا وأجيب عن العمل المُوكل إليٌ. لقد ساعدوني، لكي تكون حمايتي للإنجيل سهلة، فإنه إذ وُجد كثيرون تعلموا وآمنوا، فتصير حمايتي له سهلة[26].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فماذا، غير أنه على كل وجه،

سواء كان بعلّة أم بحق يُنادى بالمسيح،

وبهذا أنا أفرح،

بل سأفرح أيضًا” [18].

لم يكن ممكنًا للحسد أو مقاومة الحاسدين أن تسيء إلى قلب رسول الأمم، لكنه يفرح من أجل الكرازة، حتى وإن عمل المتهودون بكل قوة، فإن الله حتمًا يستخدم كل هذه الجهود، مهما كانت النية، لبنيان ملكوته وخلاص الكثيرين. إنه يفرح، وسيبقى في فرحه من أجل مجد الله المنتشر، حتى وإن مارس البعض كرازتهم بنية الحسد والمقاومة له.

جاء في رسائل القديس كبريانوس أن البعض استغل هذه العبارة لكي يتركوا الهراطقة يكرزون دون أن تقف أمامهم الكنيسة. يقول القديس كبريانوس: [لم يكن القديس بولس يتحدث في رسالته عن هراطقة، ولا عن معموديتهم … إنما كان يتحدث عن إخوة، إما سالكين بلا ترتيب أو ضد نظام الكنيسة، أو عن حفظ حق الإنجيل بخوف الرب. لقد قال أن البعض تكلم بكلمة الله بمثابرة وشجاعة، والبعض عن حسد وتحزب. البعض حملوا نحوه حبًا سخيًا، والبعض حملوا روحًا حقودًا للخصام. وقد احتمل هذا بكل صبرٍ مادام اسم المسيح الذي يكرز به بولس يبلغ إلى معرفة الكثيرين سواء بحقٍ أو بعلةٍ[27].]

*     انظروا حكمة الرجل! أنه لم يتهمهم بعنفٍ، لكنه أشار إلى النتيجة.

يقول: ما هو الفرق بالنسبة لي سواء تمت الكرازة بهذه الطريقة أو تلك…؟ لقد أرادوا إثارة غضب الإمبراطور، ليكن وليكرزوا أيضًا… “بهذا أنا افرح، بل سأفرح أيضًا“، وحتى إن فعلوا أكثر فأكثر. فإنهم يتعاونون معي بغير إرادتهم. سينالون العقوبة علي شقاوتهم أما أنا فأنال مكافأة فيما لا أفعله…

ألا ترون أن من يثير حربًا ضد الحق ليس له قوة، بل بالحري يجرح نفسه كمن يرفس المناخس؟[28]

*     إنني ليس فقط لا أحزن ولا أنهار تحت هذه الأمور، إنما بالحري أفرح بل وسأفرح ليس إلى حين بل افرح دومًا بسبب هذه الأمور. “لأني أعلم أن هذا يؤول لي إلى خلاصٍ“، هذا الذي سيتحقق حينما تؤول عداوتهم وحسدهم لي إلى تقدم الإنجيل.

يضيف: “بطلبتكم ومؤازرة روح يسوع المسيح“. انظروا تواضع فكر هذا الطوباوي، فإنه كان قبلًا يجاهد في صراع، أما الآن فها هو يقترب من إكليله، لقد قدم ربوات الأعمال البطولية، إذ هو بولس، فماذا يمكن لهذا الأمر أن يضيف إليه؟ ومع هذا يكتب إلى أهل فيلبي: “لعلي أخلص بطلبتكم” أنا الذي اقتنيت خلاصًا خلال أعمال لا حصر لها.

إنه يطلب أيضًا مؤازرة روح يسوع المسيح. وكأنه يقول: إن حُسبت أهلًا لصلواتكم فأنال نعمة أعظم. فإن كلمة “مؤازرة” تعني أنه إن كان الروح يسندني أنال ما هو أكثر[29].

*     قولوا لي: إذا كان طبيب له ابن مهدد بالعمى، وهو عاجز عن شفائه، ووجد طبيبًا قادرًا على شفائه، فهل يرفض علاج هذا الطبيب لابنه؟ بالتأكيد لا، بل يسرع بالقول: سواء يتم ذلك بواسطتك أو بواسطتي، فإن ما يهمني هو شفاء ابني”. لماذا؟ لأنه لا يطلب مصلحته الذاتية، وإنما شفاء ابنه.

هكذا بالمثل إذا تأملنا دعوة مجد المسيح، فلنعمل ما يلزمنا عمله سواء عن طريقنا أو عن طريق آخرين. وكما يقول الرسول: “سواء كان بعلةٍ أم بحق ننادي بالمسيح” (في 1: 18).

اسمعوا ما قاله موسى ليشوع عندما أثاره حين تنبأ ألداد وميداد: “هل تغار أنت لي؟ يا ليت كل شعب الرب كانوا أنبياء؟” (عد 11: 29)[30].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

*     الكرازة حق، أما هم فليسوا حقًا. ما يكرزون به هو حق، أما الذين يكرزون هم أنفسهم ليسوا حقًا. لماذا هم ليسوا بحقٍ؟ لأنهم يطلبون في الكنيسة أمرًا آخر، ولا يطلبون الله. فإن كانوا يطلبون الله يلزمهم أن يكونوا طاهرين. لأن النفس تجد في الله زوجها الشرعي.. أما من يطلب من الله ما هو بجانب الله فهو لا يطلب الله بعفةٍ.

تأمّلوا يا إخوة، فإن الزوجة التي تحب زوجها، لأنه غني ليست عفيفة. فإنها لا تحبّ زوجها بل تحب الذهب الذي لزوجها[31].

*     يوجد في الكنيسة أناس يتحدّث عنهم الرسول، يكرزون بالإنجيل لعلّة، يطلبون من الناس ما هو لنفعهم الخاص، سواء كان مالًا أو كرامة أو مديحًا بشريًا. إنهم يكرزون بالإنجيل بشهوة نوال مكافآت بأية وسيلة ممكنة، ولا يطلبون بالأكثر خلاص من يكرزون لهم، بل ما هو لنفعهم الشخصي[32].

*     الراعي يكرز بالمسيح بالحق، وأما الأجير فبعّلة يكرز بالمسيح، طالبًا شيء آخر. ومع هذا فإن هذا وذاك يكرزان بالمسيح[33].

*     حقًا لقد كرزوا بالمسيح عن حسدٍ، لكنهم كرزوا بالمسيح. انظروا لا إلى الوسيلة، بل إلى موضوع الكرازة. لقد كُرز لكم بالمسيح عن حسدٍ. تأملوا في المسيح وتجنبوا الحسد.

لا تتمثلوا بشرً الكارز، وإنما تمثلوا بالصالح الذي كُرز لكم به[34].

*     المسيح هو الحق. ليُعلن الحق عن علة بواسطة أجراء. ليُكرز بالحق بواسطة الأبناء. الأبناء ينتظرون بصبرٍ من أجل الميراث الأبدي للأب. الأجراء يتوقون إلى ذلك من أجل نوال أجرة وقتية ينالونها من الذي يستأجرهم[35].

*     الذين يحبونني يكرزون، والذين يبغضونني يكرزون. في الرائحة الذكية يعيشون الأولون، وفي تلك الرائحة يموت الآخرون. ومع هذا فبكرازة الفريقين ليتمجد اسم المسيح ولتملأ رائحته العالم[36]

القديس أغسطينوس

“لأني أعلم أن هذا يؤول لي إلى خلاصٍ،

بطلبتكم ومؤازرة روح يسوع المسيح” [19].

الله المحب- في صلاحه- يحول حتى أعمال الحاسدين لخلاص الرسول وخلاص الكثيرين، وذلك بصلوات وطلبات محبوبيه -شعب فيلبي- ومساندة الروح القدس، روح يسوع المسيح، له. إن كل ألم واضطهاد يؤول إلى رصيد لصالح القديس بولس، لذا يقبله بفرح وهو يطلب منهم صلواتهم.

يرى البعض أن الرسول يتحدث هنا حتى عن خلاصه من السجن، فبانتشار الإنجيل سواء بنية الحسد أو الحب للرسول بولس، أدرك الرومانيون أن إنجيل السيد المسيح لم يمس سلامة الإمبراطور والدولة، بل يحث المؤمنين على تقديم الكرامة لمن لهم الكرامة والطاعة للسلطات في الرب. بهذا تحقق كثير من رجال القصر أن بولس الرسول ليس مقاومًا للإمبراطور كما ظن البعض.

لقد اقتبس الرسول عن أيوب 16:13 (الترجمة السبعينية) العبارة. “هذا يؤول لي إلى خلاصي”، وهي خاصة بشعب الله في كل العصور الذي يحول الآلام لخلاص شعبه وأولاده.

العجيب أنه يضع طلبات الشعب من أجل الرسول أولًا، ومساندة روح يسوع المسيح بعدها. لأن الروح القدس يتحرك بالأكثر لخلاص المؤمنين ومساندتهم حين يسود الحب المشترك، حتى بين الشعب والرعاة.

*     أسألكم أن نقدم تشكرات الله علي كل الأمور، فإنه يخفف من أتعابي ويزيد من مكافأتي[37].

القديس يوحنا الذهبي الفم

فاصل

6. الحياة بالمسيح 20-26

“حسب انتظاري ورجائي إني لا أخزى في شيء،

بل بكل مجاهرة،

كما في كل حين كذلك الآن يتعظّم المسيح في جسدي،

سواء كان بحياةٍ أم بموتٍ” [20].

شجاعة المؤمنين وقبولهم الألم بفرح وبهجة قلب يمجد السيد المسيح المصلوب. هؤلاء يمجدونه حتى في أجسادهم إن عاشوا أو حتى ماتوا، أي إن أُعطيت لهم فرصة للعمل والكرازة، أو استشهدوا من أجل اسمه. حياة الرسول حتى في السجن كما استشهاده لن يفقده رجاءه ولا ينزع عنه جرأته في الشهادة للمخلص.

*     إنه يحثنا ألا نترك الأمر كله للصلوات المقدمة عنا دون أن نساهم نحن في شيء من جانبنا

انظروا كيف يبرز دوره هو، ألا وهو الرجاء مصدر كل صلاح. وكما يقول النبي: “لتكن رحمتك يا رب علينا، إذ نترجاك” (مز 22:33). وكتب في موضع آخر: “اعتبروا الأجيال القديمة وانظروا هل ترجى أحد الرب فخزي؟ (ابن سيراخ 10:2). مرة أخري يقول الطوباوي نفسه: “الرجاء لا يخزى” (رو 5:5). هذا هو رجاء بولس، الرجاء الذي لن يخزى قط…!

ألا تنظروا عظمة الرجاء في الله؟ يقول: مهما حدث لن أخزى، فإنهم لن يسودوا عليٌ، بل بكل جرأة كما في كل حين كذلك يتعظم المسيح في جسدي”.

حقًا لقد توقعوا أن يُسقطوا بولس في هذا الفخ، وأن يطفئوا كرازة الإنجيل كما لو كان لمكرهم أية قوة[38].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“الآن يتعظم المسيح في جسدي سواء كان بحياةٍ أم بموتٍ”… المقصود هو إظهار عظمة المسيح من خلال جسد بولس.

*     “سواء كان بحياة أم بموت” لم أقل أن حياتي وحدها ستعظمه، بل موتي أيضًا. يقصد بقوله: “بحياة” الوقت الحاضر، فإنهم لن يقدروا أن يحطمونني، وإن أهلكوني فالمسيح أيضًا سيتعظم بموتي. كيف هذا؟ بحياة، لأنه يخلصني؛ وبموتي لأنه لن يقدر الموت أن يدفعني علي جحده، فقد وهبي الاستعداد للموت، وجعلني أقوى من الموت.

فمن جانب حررني من المخاطر، ومن جانب أخر وهبني ألا أخشى طغيان الموت. بهذا يتعظم بحياةٍ أو بموتٍ… إنني بنبلٍ أحتمل الحياة والموت، هذا هو دور النفس المسيحية![39]

القديس يوحنا الذهبي الفم

“لأن لي الحياة هي المسيح،

والموت هو ربح” [21].

الحياة هنا بالنسبة للرسول فرصة للكرازة بفرحٍ وسط الآلام. والموت فرصة للانطلاق للقاء مع السيد المسيح وجهًا لوجه. ففي حياته أو موته كل ما يشتهيه الرسول هو اقتناء السيد المسيح بكونه حياته.

الموت بالنسبة للجسدانيين خسارة وتحطيم، أما بالنسبة للإنسان الروحي فهو مكسب. ففيه انطلاق من العالم بكل شروره إلى الحياة الأخرى بأمجادها الفائقة.

إذ صرنا أمواتًا بالخطية لم نعد في حاجة إلى وصايا لكي ننفذها بل بالحري نحتاج أولًا إلى من يقيمنا من الأموات. فالسيد المسيح هو الحياة والقيامة، من يقتنيه يتمتع بالحياة؛ جاء لكي يقدم نفسه لنا، لذا نسمعه كثيرًا ما يردد: “أنا هو…”

يسألنا أن نقتنيه، فهو خبز الحياة المشبع للنفس، وهو العريس السماوي نتحد به فلا نعاني من الشعور بالعزلة، بل تصير حياتنا عرسًا دائمًا، وهو المخلص واهب المجد الأبدي. إنه المدرب والكنز والنور والشبع، هو كل شيء بالنسبة لنا.

رجل الأعمال يقول: “لي الحياة هي الغنى”، والدارس يقول: “ليّ الحياة هي النصرة”. والإنسان الشهواني يقول: “لي الحياة هي الملذات”، والمتعجرف يقول: “لي الحياة هي الشهرة”، وأما المؤمن: “لي الحياة هي المسيح”، فبالنسبة لي الحياة ليست غنى ولا معرفة ولا شهرة ولا كرامة زمنية، بل المسيح. هو الأول والطريق والنهاية بالنسبة لي.

“لأن لي الحياة هي المسيح والموت ربح”: النظرة المسيحية للحياة أنها بركة، وتستحق أن تُعاش مادامت مع المسيح، كما أن الموت ربح عظيم مادام في الرب. وأيضًا قول الرسول: “لأن لي” تحمل لنا فكر الرسول واعتقاده بأن حياته هي في مسيحه.

*     ما يقصد هو: بالموت لا أموت، فإن حياتي هي في داخلي، لهذا إن أرادوا بحق أن يقتلوني، فلتكن لهم قوة أن يرعبوني بنزع الإيمان من نفسي. لكن مادام المسيح معي، فالموت نفسه لن يهزمني، إذ أبقى حيًا.

حياتي ليست هي الحياة الحاضرة بل المسيح نفسه. هكذا يليق بالمسيحي أن يكون! يقول: “لا أحيا الحياة العامة” (غل 20:2) بل المسيح يحيا فيٌ[40].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     إننا نري أن هذا الموت هو ربح، والحياة عقوبة…

ما هو المسيح إلا موت الجسد ونسمة الحياة؟

فلنمت معه لنحيا معه.

ليكن هذا فينا كتدريبٍ يوميٍ وميلٍ نحو الموت، بهذا ننفصل عن الملذات الجسدية التي نتحدث عنها، وتتعلم نفوسنا أن تنسحب منها، كما لو كانت قد صارت في العلى، حيث لا تقدر الشهوات الأرضية أن تقترب منها وتلتصق بها. تحمل شبه الموت فلا تسقط تحت عقوبة الموت[41]

القديس أمبروسيوس

*     تقول النفس، المرآة الحيّة، التي تملك الإرادة الحرة: “عندما أنظر إلى وجه حبيبي، ينعكس جمال وجهه عليّ”. ويقلد بولس هذه الكلمات بوضوح بقوله: “وفيما بعد لا أحيا أنا، بل المسيح يحيا في. أما الحياة التي أحياها الآن في الجسد، فإنما أحياها بالإيمان في ابن الله، الذي أحبني وبذل نفسه عني” (غل 20:2).

وعندما يقول: “فالحياة عندي هي المسيح” (في 21:1)، يصرخ بولس أنه نقى نفسه من أي هوى بشري مثل السرور، والحزن، والغضب، والخوف، والجبن، والأهواء القوية، والكبرياء، والحمق، والرغبة الشريرة، والحسد، والانتقام، وحب التملك، والمكسب أو أية عادة قد تؤدي إلى تخريب النفس. هو وحده الذي يملأ نفسي، وهو ليس أيّ مما سبق ذكره.

لقد نزعت عني كل طبيعتي الخارجية الظاهرة، ولم يبقَ بداخلي أي شيء غير المسيح.

حقيقة “الحياة عندي هي المسيح”، أو كما تقول العروس: “أنا لحبيبي وحبيبي لي”. هذا هو الطهر والنقاء وعدم التلوث والنور والحق الذي يغذي نفسي.

إنها لا تتغذى بالعشب الجاف أو بالشجيرات ولكن بروعة قديسيه. يوحي السوّسن ببهاء وإشعاع ألوانه الجميلة. من أجل هذا فالذي يتغذى بين السوّسن يقود قطيعه إلى مروج السوّسن حتى تكون: “نعمة ربنا علينا” (مز 17:90)[42].

القديس غريغوريوس النيسي

*     إذ نذكر الحقيقة التي يقدمها الرسول بولس في رسالته، قائلًا: “لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح“، نحسبه ربحًا عظيمًا ألا تمسك بنا بعد فخاخ هذا العالم، ولا نخضع بعد لرذائل الجسد، بل نتخلص من الشعور بآلام المتاعب، ونتحرر من مخالب إبليس القاتلة، ونقبل دعوة المسيح بفرحٍ الخلاص الأبدي[43].

القديس كبريانوس

“ولكن إن كانت الحياة في الجسد هي لي ثمر عملي،

فماذا اختار؟ لست أدري” [22].

في جهاده على الأرض ثمرته هو اقتناء المسيح. هكذا يحسب الرسول تعبه منحة إلهية صالحة، قُدمت له لنمو ملكوت الله في العالم، لمجد الله وبنيان كنيسة المسيح.

في (ع 22 و23) يحتار الرسول أيهما أفضل له: الحياة حيث تمتلئ حياته بالعمل الصالح والثمر المتكاثر لصالح المسيح، وهل يفضل الحياة لبشارة البعيدين ورد الضالين ومشاركة المتألمين، أم الموت الذي يريحه من أتعابه وينقله إلى الأمجاد؟

الحياة بالنسبة له هي التمتع بالسيد المسيح وخدمته, والموت هو الوصول إليه وإلى أمجاده. لذا يقول “لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذلك أفضل جدًا” [23] لأنه سيلتقي مع المسيح إلى الأبد بلا عائق. ولكن من أجل خير أولاده وتقدمهم وفرحهم فضل بولس أتعاب الأرض وشقائها عن نعيم الأبدية وأمجادها [24].

كان الرسول عاجزًا عن الاختيار، لو وُضع الأمر بين يديه، هل يحيا وسط الاضطهادات والضيقات يشهد للسيد المسيح، أم ينطلق وينعم باللقاء مع السيد وجهًا لوجهٍ. بهذا كان الرسول في صراعٍ نحو الاختيار، ليس بين أمرين شريرين، ولا أحدهما صالح والآخر شرير، وإنما بين أمرين غاية في الصلاح، أي بين التمتع ببركة الجهاد لحساب ملكوت الله، والشوق الداخلي لرؤية الله في السماء. في كلا الحالتين يحيا في المسيح ومعه. اختيار بين جهاد مؤقت وآخر فيه راحة دائمة، وكلاهما لمجد الله.

*     هنا يظهر أن الحياة الحاضرة أيضًا لازمة، إن استخدمناها كما ينبغي، إن حملنا ثمرًا، فإن لم تحمل ثمرًا لا تعود حياة. لأننا نستخف بالأشجار التي لا تحمل ثمرًا، كما لو كانت جافة، ونلقيها في النيران. إذن نحن لا نكره الحياة، إذ نحيا حسنًا أيضًا!حتى إن أسأنا استخدامها، فإننا لا نلقي اللوم علي الحياة… بل علي حرية اختيار من يستخدمها بطريقة سيئة. وهبك الله أن تحيا، لكي ما تحيا له. ولكن بسلوكك الفاسد في الخطية تجعل نفسك معرضًا لكل لومٍ[44].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فإني محصور من الاثنين:

لي اشتهاء أن انطلق، وأكون مع المسيح،

ذاك أفضل جدًا” [23].

جاء تعبيره هنا مقتبسًا من حالة إنسان يقف على الشاطئ في الميناء، وقد التهب حنينه أن يبحر ليلتقي بأسرته وأحبائه وأصدقائه في أرض وطنه، ويشعر أن كل دقيقة تعبر به في الميناء وكأنها عام كامل!

تمتع القديس بولس برؤى كثيرة، وظهر له الرب في طريقه إلى دمشق، كما ترآى له في الهيكل حيث أكد له دعوته لخدمة الأمم (أع 22 :17-21). لكن ما كان يملأ حياته عذوبة فهو رؤيته لسيده بعيني القلب خلال حياته اليومية. كان بهاء مجد سيده يعكس على أعماقه مجدا، فيرتفع من مجدٍ إلى مجدٍ (2 كو 3: 18).

واضح أنه كان يميل بشوقٍ ملتهبٍ نحو اختيار الموت استشهادًا لأجل المسيح، فالأفضل له هو الرحيل ليبقى مع المسيح في الفردوس، لا ليودع العالم بكل شروره وتجاربه وضيقاته، وإنما لينعم بالحياة مع المسيح في أروع صوره.

في أحاديث واقعية كثيرًا ما عالج القديس أغسطينوس[45] المقابلة بين شوق المؤمن للانطلاق ليكون مع المسيح وبين الخوف الطبيعي من الموت. فيرى أن الإنسان يأتي إلى لحظات الموت بغير إرادته، وهو يخشى الموت طبيعيًا، إذ هي لحظات رهيبة ومرعبة. لكن بإرادته المقدسة في المسيح يسوع يغلب هذه المخاوف مشتهيًا الانطلاق. يقدم لنا القديس أغسطينوس الرسول بطرس الذي خشي الموت وهو في شيخوخته، وكما سبق فأخبره السيد المسيح: “متى شختُ، فإنك تمد يديك وآخر يمنطقك ويحملك حيث لا تشاء” (يو 19:21). بحسب الطبيعة كإنسانٍ لم يشأ حتى وهو شيخ أن يموت. بل ويقدم القديس أغسطينوس رب المجد نفسه كابن البشر يطلب من الآب: “إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، لكن ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت” (مت 39:26). لقد جاء خصيصًا ليموت عن العالم، ويقول الرسول بولس: “من أجل السرور الموضع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي” (عب 2:12).

*     إنه يهبهم راحة إذ يروه سيدًا في اختياره، وهذا لا يتحقق بخطية الإنسان (الذي يخطط لموت الرسول) بل بتدبير الله. يقول لماذا تحزنون لموتي؟ إنه أفضل كثيرًا للإنسان أن ينطلق. “أن أنطلق وأكون مع المسيح ذلك أفضل جدًا“[46].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     ألعلنا نستطيع أن نجد إنسانًا آخر مثل بولس الرسول يمكنه أن يقول: “لي اشتهاء أن أنطلق، وأكون مع المسيح (في 1: 23)؟

من جهتي لن أستطيع أن أقول مثل بولس، لأنني أعرف إنني إذا انطلقت فإن كل ما هو خشب وعشب وقش (1 كو 3: 12) فيَّ يجب أن يُحرق. هذا الخشب الموجود فيَّ هو النميمة، والإفراط في الشرب والسرقات وغيرها من الأخشاب التي تراكمت على الأساس الموجود في بيتي. كل ذلك يغيب عن كثير من المؤمنين، كل واحد منا يظن أنه طالما لم يزنِ ولم يرتكب الفحشاء يخلص؛ ولا ندرك أنه “لا بُد أننا جميعًا نظهر أمام كرسي المسيح، لينال كل واحدٍ ما كان بالجسد، بحسب ما صنع،، خيرا كان أم شرا” (2 كو 5: 10). ولا نضع أمامنا الذي قال: “إياكم فقط عرفت من جميع قبائل الأرض. لذلك أعاقبكم على جميع ذنوبكم” (عا 3: 2)، ليس على بعض ذنوبكم، والبعض الآخر لا أعاقبكم عليها[47].

العلامة أوريجينوس

*     يُدرك هذا الجمال غير المنظور لأعين الجسد بالذهن والنفس فقط. فإذ يلقي بنوره على أحد القديسين يتركه وهو في أنين الشوق إليه بطريقة لا تحتمل، فيقول وهو مضطرب من الحياة على الأرض: “ويل لي فإن غربتي قد طالت” (مز 120: 5). “متى أجيء وأتراءى قدام وجه الله؟” (مز 42: 3)…

إذ يشعر (القديسون) بثقل هذه الحياة الحاضرة كما لو كانت سجنًا، فإنهم بالجهد يستطيعون أن يضبطوا أنفسهم وهم تحت الدوافع التي تثيرها لمسة الحب الإلهي في داخل نفوسهم.

بالحقيقة يسبب شغفهم النهم للتمتع برؤية الجمال الإلهي يصلون أن يستقر فيهم التأمل في فرح الرب كل الحياة الأبدية. فالبشر بالطبيعة يرغبون فيما هو جميل. لكن ما هو بالحقيقة جميل ومُشتهى فهو صالح[48].

القديس باسيليوس الكبير

*     أما يستحق التنهد الوجود في بلدٍ غريبٍ مع الحرمان من الوطن؟ أما يستحق الفرح أن يوجد الإنسان في ميناء آمن وينضم إلى المدينة العليا حيث هرب الألم والضيق والتنهد؟ تقول، ولكن كيف يكون لي هذا وأنا خاطي؟ ألا ترى أنه ليس الموت هو علة الحزن، بل الضمير الشرير؟ كُفْ عن أن تكون خاطئًا، فيصير الموت أمرًا محبوبًا ليدك[49].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“ولكن أن أبقى في الجسد ألزم من أجلكم” [24].

 مع كل هذا الحنين فإنه يحسب رحيله مكسبًا له، وبقاءه مجاهدًا مكسبًا لهم. وقد تدرب الرسول على البذل لحساب إخوته، بهذا كان القرار فيه اختيار البقاء من أجل إلزام الحب الأخوي في الرب.

*     قال هذه الكلمات لكي يُعدهم لقبول موته عندما يحل الوقت، هكذا كان يعلمهم بحكمة حقيقية…

ليس الموت صالحًا، إنما ما هو صالح هو أن نكون مع المسيح بعد الموت. ما يتبع الموت إما أن يكون صالحًا أو شريرًا.

ليتنا لا نحزن لأجل الموتى ولا نفرح بالأحياء، إنما نحزن علي الخطاة، ليس فقط عند موتهم بل حتى وهم أحياء.

ولنفرح بالأبرار ليس فقط وهم أحياء، وإنما حتى عند موتهم…

فالخطاة أينما وجدوا هم بعيدون عن الملك، فتُسكب الدموع عليهم. وأما الأبرار فهم مع الملك سواء كانوا هنا أو هناك، يبلغون هناك درجة سامية وقربًا للملك، لا خلال رمزٍ أو بالإيمان وإنما يرونه “وجهًا لوجهٍ” (1كو12:13)[50].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     لنكن غرباء عن جسدنا لئلا نصير غرباء عن المسيح. فإننا وإن كنا نعيش في الجسد، لكننا لا نتبع أمور الجسد. ليتنا لا نجحد متطلبات الطبيعة، لكننا نطلب قبل الكل عطايا النعمة، “لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جدًا، ولكن أن أبقى في الجسد اُلزم من أجلكم” (في 23:1-24)[51]

القديس أمبروسيوس

“فإذ أنا واثق بهذا، أعلم إنّي أمكث وأبقى مع جميعكم،

لأجل تقدّمكم وفرحكم في الإيمان” [25].

يتمتع الرسول بولس باليقين الذي له فيه عمل الله ورعايته الفائقة فحتمًا الله يعمل ما هو لبنيان الكنيسة، وما هو لنفع الرسول بولس. هذا يبعث فيه روح الفرح في المسيح يسوع. هذا الفرح ينعكس على الشعب، فيتمتع بالتقدم والفرح. ففرح الراعي مصدر لفرح الرعية في الرب.

كان للرسول ثقة بروح النبوة أنه سيخرج من السجن ويبقى مع الشعب، لأجل تقدمهم في البرّ وفرحهم في الإيمان، أي سعادتهم الروحية.

*     يمكن لبولس أن ينطلق إلى المسيح لكنه لم يرد ذلك، بل أن يبقى في الجهاد من أجل الناس. فأي عذر لنا…؟ إن كان من الضروري أن أبقى هنا بكل وسيلة، فإنني لست أبقى فقط، إنما “أبقى مع جميعكم“. فإن هذا هو معني “أبقي معكم” أن أراكم. لماذا؟ “لأجل تقدمكم وفرحكم في الإيمان“. هنا يحثهم أن يهتموا بأنفسهم… لكي يتقوا مثل صغار الفراخ التي تحتاج إلى أمها حتى ينبت لها الريش. هذا برهان علي عظمة الحب![52]

القديس يوحنا الذهبي الفم

“لكي يزداد افتخاركم في المسيح يسوع فيّ،

بواسطة حضوري أيضًا عندكم” [26].

يترجم البعض “افتخاركم” بـ“فرحكم”، إذ خدمة الراعي المبهجة تسكب فرحُا في المسيح خلال خادمه، فيتهللون بحضور الخادم الذي يتجلى فيه ربنا يسوع.

يعلق القديس يوحنا ذهبي الفم[53] علي كلمة “فيٌ“، فإن تقدمهم وفرحهم في الرب هو في الرسول بولس، بمعنى أن بقاءه معهم ليس عن تغصبٍ، وإنما هو أنفع للرسول بولس نفسه (فإنني أتمجد أكثر عندما تتقدمون أكثر).

فاصل

7. تحدي وقوة 27-30

“فقط عيشوا كما يحق لإنجيل المسيح،

حتى إذا جئت ورأيتكم أو كنت غائبًا أسمع أموركم،

أنكم تثبتون في روحٍ واحدٍ،

مجاهدين معًا بنفسٍ واحدةٍ لإيمان الإنجيل” [27].

“فقط” [27] تربط بين هذا العدد وما قبله, فإن كان بولس قد فضّل البقاء في الجسد من أجل خير أولاده، فإنه يريد أن يرى كل واحدٍ منهم إنجيلًا معاشًا.

*     ألا ترون كيف أن كل ما يقوله يحوله إلي أمرٍ واحدٍ، وهو التقدم في الفضيلة…؟ ماذا تعني هذه الكلمة “فقط” سوى هذا وليس شيء آخر هو ما ينبغي أن نبحث عنه؟ إن صار لنا هذا لن يحل بنا خطر ما[54].

القديس يوحنا الذهبي الفم

هنا يوصي الرسول أولاده أن يسلكوا ويعيشوا بحسب وصايا الإنجيل ودعوته فيصيروا قديسين, وهذه أعظم كرازة صامتة بالقدوة الحسنة.

كيف يعيشوا بحقٍ في الإنجيل؟

1- الثبات في الروح الواحد:

يحثهم على أن يحيوا كمواطنين سماويين، كما يليق بحق إنجيل المسيح السماوي. لا يشغل الرسول حضوره بالجسد أو غيابه، ففي كل الأوضاع يفرح بثباتهم بروحٍ واحدٍ في الإيمان، وجهادهم القانوني حسب إنجيل المسيح، بروح الوحدة معًا. يركز الرسول على الثبات في المعركة الروحية التي نواجهها. والروح القدس هو المسئول عن وحدانية الكنيسة لذلك كل عملٍ انفراديٍ أنانيٍ هو ضد روح الجماعة وضد روح الله ذاته.

*     هذا هو ما فوق كل شيء، أن يوٌحد المؤمنين، ويسند الحب كي لا ينحل، “ليكونوا واحدًا” (يو 11:17). لأن المملكة التي تنقسم علي ذاتها لا تثبت (مر 24:3). لهذا ينصح تلاميذه في كل حين أن يكونوا بفكرٍ واحدٍ. ويقول المسيح: “بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي، إن كان لكم حب بعضًا لبعض” (يو 35:13)[55]

القديس يوحنا الذهبي الفم

 

2- الجهاد بنفسٍ واحدة لإيمان الإنجيل:

ليس ما يفرح قلب الرسول مثل جهادهم بنفسٍ واحدةٍ وفكرٍ واحٍد إنجيليٍ! إذ لهم شركة الروح القدس (أف 4: 3-4). الجهاد ضد الخطية, والجهاد للحفاظ على الإيمان الواحد, والجهاد لكي يكون لنا فكر المسيح الواحد والجهاد في الكرازة. “إيمان الإنجيل”، أي الإيمان بصدق مواعيد الإنجيل – لأنه كيف يدافع الإنسان عن قضية لا يقتنع بها.

*     انظروا كيف يدعو النفس الكثيرة نفسًا واحدة. هذا حدث منذ القدم، إذ مكتوب أنهم كانوا بقلبٍ واحدٍ ونفسٍ واحدةٍ، مجاهدين معًا لأجل الإيمان بالإنجيل (أع 32:4) يقول لكي يسند الواحد الآخر في إيمان الإنجيل[56].

القديس يوحنا الذهبي الفم

هنا يتحدث عن وحدة الروح ووحدة النفس (الفكر)، فالروح القدس يسند العاملين معًا والذين يحملون فكرًا واحدًا، يسندهم في جهادهم ليعلن بشارة الإنجيل المفرحة وسط آلامهم.

 

3- الشجاعة في مواجهة المقاومين

“غير مخوفين بشيء من المقاومين،

الأمر الذي هو لهم بيّنة للهلاك،

وأمّا لكم فللخلاص، وذلك من الله” [28].

إذ يجاهدون بقيادة الروح القدس وبروح الوحدة لن يقدر المقاومون أن يقفوا أمامهم، ولا الخوف أن يتسلل إليهم. لا يخافون من مقاومات ومحاربات عدو الخير مهما كانت قواته، ومهما كان أعوانه، ومهما تعددت أساليب حروبه.

*     حسنًا يقول: “مخوفين“، هذا ما يسقطه علينا أعداؤنا. كل ما يقدموه هو أن يخيفونا فقط.

يقول: لكن ليس ما يخيفنا، مهما حدث، مهما تكن المخاطر، ومهما خططوا. فإن هذا هو نصيب السالكين باستقامة. لا يقدر العدو أن يفعل شيئًا سوى أن يخيف فقط…

فإنهم إذ يرون أنهم بكل خططتم التي لا تُحصى عاجزون عن أن يخيفونكم، يحسبون هذا دليلًا علي هلاكهم.

عندما لا يغلب المضطهدون من يضطهدونهم، ولا ينتصر واضعو الخطط علي من هم موضع خططهم، وأصحاب السلاطين علي من هم تحت سلطانهم، أليس في هذا دليل ذاتي أن هلاكهم علي الأبواب، وأن قوتهم كلا شيء، وما قاموا به من جانبهم باطل وضعيف؟ يقول الرسول أن هذا يحدث من عند الله[57].

القديس يوحنا الذهبي الفم

واضح من حديثه هنا أن الكنيسة في فيلبي كانت تعاني من ضيق أو اضطهاد، لكن بالحب والوحدة يؤول ذلك لخلاصهم من قبل الله، وتهلك قوات الظلمة وتتبدد المشورات المقاومة ضدهم.

4- هبة الألم

 “لأنه قد وُهب لكم لأجل المسيح،

لا أن تؤمنوا به فقط،

بل أيضًا أن تتألّموا لأجله” [29].

لأنه“: تربط ما بعدها بما قبلها, أي أن الثبات في روح واحد والجهاد بنفسٍ واحدةٍ، والشجاعة في مواجهة المقاومين لا بُد أن يترتب عليها الاضطهاد والألم. “وُهب لكم“، أي أنعم الله بها عليكم، فهنا الألم لا يظهر كعقابٍ من الله، إنما هو علامة محبة.

الإيمان كما السماح بالألم كلاهما هبة من قبل الله، إنهما أخان رفيقان، يرافقان المؤمن كما الكنيسة ككلٍ في الطريق إلى السماء.

يميز القديس يوحنا الذهبي الفم[58] بين عطية الفضائل وعطية الألم، فيحسب أن الفضائل هي هبة مجانية من الله، لكننا نلتزم بالقيام بدورٍ من جانبنا والجهاد لنوالها. أما هبة الألم من أجل المسيح فهي بكاملها عطية مجانية من الله، لا لكي تحطم حرية إرادتنا، وإنما لكي تجعلنا متواضعين وفي وضع أفضل.

*     التألم من أجل المسيح هو نعمة، هو عطية النعمة، نعمة مجانية. إذن لا تخجلوا من عطية النعمة، فإنها أكثر عجبًا من قوة إقامة الموتى وصنع العجائب. فإنني بهذه أنا مدين، أما هنا (بالألم) فالمسيح مدين لي. لهذا يليق بنا ليس فقط ألا نخجل بل نفرح بنوالنا هذه العطية[59].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“إذ لكم الجهاد عينه الذي رأيتموه فيَ،ّ

والآن تسمعون فيَّ” [30].

إذ يتألمون من أجل السيد المسيح يرون في الرسول بولس مثلًا رائعًا، سواء إن كانوا قد رأوا ذلك بأعينهم أو سمعوه عنه.

*     لديكم مثال (إذ ترونه فيٌ). هنا أيضًا يرفعهم إلي فوق، مظهرًا لهم أن جهادهم في كل موضع هو ذات جهاده، كلاهما جهاد قوي، وهم بهذا يتحدون معه في احتمال المشقات. لم يقل لهم: “سمعتموه عني”، بل “رأيتموه فيٌ“، إذ جاهد كثيرًا في فيلبي[60].

القديس يوحنا الذهبي الفم

فاصل

من وحي فيلبي 1

قيود الحرية المفرحة!

*     انطلقت نفسي إلى سجن روما.

رأيت رسولك السجين طيرًا حرًا،

ينطلق من مجدٍ إلى مجدٍ ليبلغ إلى سماواتك!

*     حبك سبي نفسه وقلبه وفكره.

صارت قيوده من أجلك أعذب وأسمى من كل حرية!

اعتز بعبوديته لك كمصدر لكل الحرية.

 اشتريته بدمك الثمين، فلا يستطيع سيد ما أن يقتنيه عبدًا له.

*     لم تقدر قيوده أن تغلق قلبه، فأحب البشرية كلها فيك.

وتهلل بخلاص كل نفسٍ!

لم يستطيع السجن أن يحطم تهليل قلبه،

فتحولت زنزانته إلى هيكل مقدس لك، فيه يقدم ذبائح شكر لا تنقطع!

تشتمها في السماء رائحة رضا!

*     قيوده رفعت قلبه إلى يوم مجيئك.

فرأي في الشعب كله قديسين،

يلتحفون ببرك ويتمتعون ببهائك فيهم!

*     قيوده قدمت له فكرك العجيب.

فرأى في كل عملٍ محبة شركة معه في خدمة إنجيلك!

رأى بعينيك شعبك ينمو في الحب،

وتلامس مع نعمتك التي لا تتوقف عن العمل!

رآك بدأت تعمل وتستمر وتكمل عملك حتى النهاية.

*     رأى في سجنه أروع فرصة للكرازة

في وثقه حلٌ رباطات نفوس كثيرة، من رجال الدولة وقصر الإمبراطور والجند.

*     كلما أُغلق الباب عليه، لم يشعر بكتمان حريته.

بل يدخل إلى أعماقه ليجد فيها حبًا لشعبك لا ينقطع.

يحمل في داخله دفء أحشاء حنوك، فيلتهب قلبه شوقًا لجميع مخدوميه.

ينسكب أمامك من أجل نمو أولادك، طالبًا لهم الحب والوحدة والتمييز والحكمة.

طالبًا لهم ثمر روحك القدس، ثمر البرٌ الذي لا ينقطع.

*     في سجنه لا يستطيع أن يتسلل الإحباط إلى قلبه، ولا اليأس إلى نفسه،

يرى مجدك يتلألأ بحياته كسجين،

ويتعظم بالأكثر في موته وانطلاقة إليك!

يكتشف بالحق أنك أنت هو حياته وفرح قلبه.

أمامك يصير العالم كله نفاية.

والموت يصير له ربحًا.

يشتهي الانطلاق ليكون معك،

لكن ليبقي، لا من أجل نفسه، بل من أجل محبوبيه.

فاصل

فاصل

مقدمة تفسير رسالة فيلبي تفسير العهد الجديد
 تفسير فيلبي 2
 القمص تادرس يعقوب ملطي
تفاسير رسالة فيلبي تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى