تفسير رسالة فيلبي أصحاح 4 للقمص تادرس يعقوب

القمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح الرابع
فرح في كل حين

بعد هذا الحديث الشيق عن فرح الأسير بولس، معلنًا أنه ليس من سجن، ولا من تخطيط الأشرار ضده، ولا من غضب الإمبراطور يقدر أن ينزع فرحه الداخلي منه، لذا ختم رسالته عن الفرح الدائم. قدم لنا مقومات هذا الفرح، كما أوضح أنه فرح كنسي شعبي مشترك.

1. مصدر الفرح 1-4

“إذًا يا إخوتي الأحبّاء والمشتاق إليهم،

 يا سروري وإكليلي،

اثبتوا هكذا في الرب أيها الأحبّاء” [1].

إذًا“: تربط ما بعدها بما قبلها. وبما أنكم يا إخوتي الأحباء تنتظرون مجيء الرب فلا بُد أن تثبتوا في الرب حتى النفس الأخير.

في وسط السباق يثبت المؤمن في المسيح المصلوب لكي لا ينحرف يمينًا أو يسارًا، ولا يمكن لكائنٍ أو لحدثٍ أو لظرفٍ ما أن يسحب عينيه عن الجعالة العليا، بل يحيا في السماويات، ويمارس مواطنته فيها. هذه العلاقة الشخصية مع محب البشر تفتح قلبه ليتمثل بمخلصه، فيحمل إخوته في قلبه بالحب ليجد فيهم سروره وإكليله، لكن ليس خارج مخلصه.

إذ يتحدث الرسول عن سباق وجهاد معركة يدعو المؤمنين إخوته الأحباء المشتاق إليهم ليسندهم بالحب والحنو. ففي وسط الآلام يحتاج الإنسان إلى مساندة المخلصين له في الرب.

يدعوهم سروره وإكليله، ليس فقط لأنه بخلاصهم يتمتع بإكليل سماوي من أجل محبته وجهاده لأجلهم، وإنما كأبٍ حقيقيٍ يرى في سرورهم الأبدي سروره، وفي تمتعهم بالإكليل السماوي تمتعه هو به.

ما يبهج قلبه أن يكون هو آخر الكل، حتى في السماء، فيفرح بسموهم وسرورهم وإكليلهم. لهذا يوصيهم: “اثبتوا هكذا في الرب أيها الأحباء”، لأن ثبوتهم هذا كأنه ثبوته هو في الرب!

*     الحب، هو ذروة كل فضيلة بالنسبة للمسيحي، لا يتحقق كما يليق إن لم يثبت المؤمنون متحدين معًا كشخصٍ واحدٍ، يفكرون معًا في توافقٍ. هذا ما عناه الرسل هنا بقوله: “اثبتوا هكذا في الرب أيها الأحباء“. لنفهم أنه يود منهم أن يتحدوا في الفهم، إذ بالحقيقة يدعوهم “إخوتي الأحباء جدًا“. الحب المشترك هو ثمرة التفكير المتناسق والوقوف معًا في المسيح. حينما يكون للكل إيمان متساوي في المسيح، فنقف جميعًا معًا فيه[225].

الأب ماريرس فيكتورينوس

*     انظروا كيف يضيف مديحًا لهم بعد التحذير. “يا سروري وإكليلي“. لم يقل فقط “سرور“، بل ومعه “مجد“. ليس فقط “مجد“، وإنما أيضًا “إكليلي“. أي مجد يمكن أن يعادل ذلك، إذ هو إكليل بولس[226].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     افتخر الحكيم جدًا بولس بالذين دُعوا بواسطته، قائلًا: “يا سروري وإكليلي” [1]، أما التلاميذ فلم يقولوا شيئًا من هذا، ولكنهم فرحوا فقط بسبب أنهم استطاعوا أن يسحقوا الشيطان (لو 10: 17)[227].

القديس كيرلس الكبير

“أطلب إلى أفوديّة،

وأطلب إلى سنتيخي،

أن تفتكروا فكرًا واحدًا في الرب” [2].

بعد أن قدم الرسالة باسم الكنيسة كلها، شعبًا وكهنة، أوصى أشخاصًا معينين، غالبًا لهم دورهم القيادي. بدأ بسيدتين هما أفودية وسنتيخي، كانتا على خلاف إما فيما بينهما أو بينهما وبين الكهنة أو الخدام. ويرى البعض أنهما كانتا شماستين في كنيسة فيلبي. يسألهما أن تتحدا معًا في الفكر في الرب، وأن تعيشا في سلام الرب وفي محبته. يدعوهما للوفاق حتى تتمتعا مع أهل فيلبي بفرح المسيح.

معنى كلمة أفودية “رحلة مؤقتة” ومعنى سنتيخني “سعيدة الحظ”، وهما عملتا مع بولس في خدمة الإنجيل كغيرهما غير إنه وقع الاختلاف بينهما وعطلتا عملهما.

*     يطلب من هاتين السيدتين أن تلتزما بالفهم المشترك في الرب. يلزمهما خلال إيمانهما في المسيح أن يكون لهما التفكير والفهم لما يقوله الإنجيل عن المسيح. لكنه يقول “أطلب“، لأن هذا لنفعهما؛ “إنني لست أصدر أمرًا بل أطلب”[228].

الأب ماريرس فيكتورينوس

“نعم أسألك أنت أيضًا يا شريكي المخلص،

ساعد هاتين اللتين جاهدتا معي في الإنجيل

مع إكليمنضس أيضًا،

وباقي العاملين معي الذين أسماؤهم في سفر الحياة” [3].

هنا يوجه حديثه غالبًا إلى تلميذه تيموثاوس أو سيلا (أع 15: 40؛ 19:16) اللذين خدما معه في فيلبي، أو أسقف فيلبي والمسئول عن رعاية الكنيسة فيها.

كما اشترك معه في الخدمة فليشترك في حمل النير، فيسند هاتين الشماستين. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[229] أن هاتين السيدتين كان لهما دورهما القيادي في الكنيسة، وفي خدمة الإنجيل مع إكليمنضس وباقي العاملين مع الرسول بولس.

يلاحظ أن أول الذين قبلوا الإيمان في فيلبي سيدة، وهي ليدية بائعة الأرجوان (أع 14:16)؛ وربما كانت هاتان الشماستان من بين الحاضرات عند النهر حيث يقول الإنجيلي لوقا: “كنا نكلم النساء اللواتي اجتمعن” (أع 13:16)، ومن بين هؤلاء النساء من آمن، وربما اختيرت هاتان السيدتان للعمل كشماستين تخدمان كلمة الرب وسط النسوة.

كما طالبه الاهتمام باكليمندس الذي صار فيما بعد أسقفًا على روما، وله رسالة موجهة إلى أهل كورنثوس، سبق لي ترجمتها ونشرها.

أيضًا يسأله بصفة خاصة أن يهتم بالخدام العاملين مع الرسول بولس الذين لم يذكر أسماءهم هنا، لكن أسماءهم مسجلة في سفر الحياة بالروح القدس.

كان من الضروري أن يسجل يسوع المسيح (عند ميلاده) اسمه في إحصاء كل العالم. سُجل مع كل أحد، وقدَّس كل أحد. لقد ارتبط مع العالم في الإحصاء، وقدم للعالم أن يرتبط به. بعد الإحصاء استطاع أن يسجل أسماء أولئك الذين من كل العالم “في سفر الحياة” معه. من يؤمن سينقش اسمه مؤخرًا في السماء مع القديسين[230].

العلامة أوريجينوس

افرحوا في الرب كل حين،

وأقول أيضًا افرحوا” [4].

إذ يشير إلى علاقة الأسقف بالخدام والخادمات يسأل جميع العاملين أن يمارسوا الفرح الدائم في الرب. مؤكدا ضرورة الفرح، إذ هو طريق الخدمة الروحية الناجحة. المسيح هو فرحنا الحقيقي، فيه نجد حياتنا وقيامتنا وشبعنا ومجدنا، وبالتالي فرحنا الدائم. وإذ لا يستطيع أحد ولا حدث ما أن يعزلنا عنه، لا يمكن أن يُنزع فرحنا من داخلنا.

من يلصق فرحه بالزمنيات يفقد فرحه مع تغير الظروف والأحداث، ومن يربط فرحه بثبوته في المسيح يتمتع بالفرح الدائم فيه.

“افرحوا في الرب كل حين، وأقول أيضا افرحوا”يعود الرسول في نهاية الرسالة ويؤكد أن هدف الرسالة هو الفرح, أفراح الملكوت مستمرة في كل حين… في السعة وفي الضيق، في الراحة وفي الشقاء، في الظروف السعيدة وفي الظروف التعسة، في الغنى العظيم وفي الفقر المدقع، في الصحة التامة وفي المرض القاتل. أفراح الملكوت تمنح القوة لمواجهة المشاكل والآلام.

يطوب (السيد المسيح) الذين ينوحون ليس علي فقدانهم أقربائهم، وإنما الذين تنخسهم قلوبهم، الذين يحزنون علي أخطائهم ويهتمون بخطاياهم أو بخطايا الآخرين. أما الفرح هنا فليس مضادًا لهذا النوح إنما يتولد منه. لأن من يحزن علي خطاياه ويعترف بها يفرح. علاوة علي هذا يمكننا الحزن علي خطايانا مع الفرح في المسيح.

لقد عانوا من الآلام: “لأنه قد وُهب لكم… لا أن تؤمنوا به فقط، بل أيضًا أن تتألموا لأجله” (29:1)، لهذا يقول لهم: “افرحوا في الرب“. هذا يعني إن أظهرتم مثل هذه الحياة تفرحون. أو عندما لا تُعاق شركتهم مع الله تفرحون…

إن كانت الجلدات والقيود التي تبدو أكثر الأمور خطورة تجلب فرحًا، فأي شيء يمكنه أن يسبب لنا حزنا؟

وأقول أيضًا افرحوا“، حسنًا يكرر القول. لأن طبيعة هذه الأمور تجلب حزنًا، لذا بتكراره يؤكد الالتزام بالفرح بكل وسيلة[231].

*     الفرح الحقيقي هو فرح الحياة الأخرى، حيث لا تتعذب النفس، وتتمزق الشهوة بسعادة المسيحي سعادة حقيقية وليست بلذة محمومة، إنها تعطي الحرية للنفس وهي حربة جذابة وغنية باللذات الحقيقية[232].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

*     عندما تتحدون قلبيًا تفرحون في الرب، وعندما تفرحون في الرب تتحدون قلبيًا معًا في الرب[233].

الأب ماريرس فيكتورينوس

فاصل

2. سرّ الفرح 5-9

“ليكن حلمكم معروفًا عند جميع الناس،

الرب قريب” [5].

كلمة “الحلم” هنا تحمل معنى اللطف وطول الأناة والرقة في التعامل وعدم الجدال الجاف والإذعان للغير، فهي تعبير عام شامل كما يقول آدم كلارك.

الإنسان الحليم يأخذ في اعتباره الآخرين فلا يتصلف في آرائه، بل يسمع وينصت ويقدر الرأي الآخر مادام في الرب.

بقوله: “الرب قريب” يكشف أن ما يمارسه الخادم أو المؤمن من حلم ينال مكافأته سريعًا من الرب نفسه الوديع والمتواضع القلب. إنه قادم سريعًا ليكافئ من شاركوه سماته، وحملوا صليبه بفرحٍ.

الرب قريب“… هذه الحقيقة هي حصانة لكل نفس ضد الخطية، لأنه مادام الرب قريب فكيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إليه؟

*     سبق فقال: “آلهتهم بطونهم، ومجدهم في خزيهم” (في 19:3). فيُحتمل أنهم أرادوا أن يدخلوا في عداوة مع الأشرار، لهذا يحثهم ألا تكون لهم شركة معهم، بل يلزمهم أن يحتملوهم بكل حلمٍ، يحتملوا ليس فقط إخوتهم بل وأعداءهم والمقاومين لهم.

الرب قريب، فليس من مجالٍ للقلق… هل ترون (الأشرار) يعيشون في ترفٍ وأنتم في ضيق؟ الدينونة قريبة، وقريبًا سيعطون حسابًا عن أعمالهم… ستنتهي الأمور قريبًا.

هل يخططون ضدكم ويهددونكم؟ “لا تقلقوا في أي شيء”. فإنك أن تعاملت برفقٍ مع الذين يدبرون شرورًا، فإن هذا ليس لنفعهم (ماداموا لم يتوبوا). المكافأة علي الأبواب[234].

القديس يوحنا الذهبي الفم

إذ يطالبهم الرسول أن يكون حلمهم معروفًا عند جميع الناس، لا يبغي مدحهم من الناس، وإنما أن يكونوا قدوة للغير. ليس شيء يجتذب النفوس للإيمان مثل طول أناة المؤمنين وحلمهم.

*     إنهم يطوَّبون ليس فقط عندما يمارسون الأعمال الصالحة، وإنما أيضًا يُلهمُون الآخرين لفعل الأعمال الصالحة[235].

الأب أمبروسياستر

“لا تهتمّوا بشيء،

بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر،

لتُعلم طلباتكم لدى الله” [6].

قد يظن الإنسان أن وصية الحلم أو الوداعة وطول الأناة صعبة، خاصة حيث يوجد مقاومون، لكن انتظار مجيء الرب القادم سريعًا ينزع عن النفس أي قلق أو ارتباك. أما سلاح المؤمن في ذلك فهو الصلاة مع الدعاء والشكر، فيستجيب الرب لطلبة الإنسان المصلي الشاكر!

الرب وحده هو المعين الحقيقي، فلنلجأ إليه بالصلاة والطلبة بغيرة (دعاء)، مع الشكر على عطاياه فيهب أكثر ويسند ويعين. هنا يربط الرسول عدم القلق بالصلاة والطلبة والشكر.

لا تهتموا بشيء“… ليس معنى هذا أن نسلم أنفسنا للإهمال والكسل، ولكن القصد طرح هموم الحياة عنا، وإن لا نتحزب أو نرتبك أمام هموم الحياة والتجارب المختلفة، لأن سلام الله قادر أن يحفظ قلوبنا “بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر“. الصلاة هي الطريق الوحيد إلى الراحة الحقيقية, وفي كل مرة نصلي بإيمان نشعر إن الله قريب منا يسمعنا ويستجيب دعاءنا. الصلاة تشمل التسبيح والسجود والشكر والطلب، أما الدعاء فهو الطلب، وكليهما يجب أن يقترنا بالشكر لأن تقديم الشكر يسر الله ويريح قلوبنا.

“لتُعلم طلباتكم لدى اللهالله يعلم كل شيء، ولكن المقصود هنا استجابة الطلبات سواء بالإيجاب أو الرفض أو الانتظار.

انظروا تعزية أخرى، هوذا دواء يعالج الحزن والكآبة، وكل ما هو مؤلم, ما هو هذا؟ الصلاة والشكر في كل شيء. إنه يرى ألا تكون صلواتنا طلبات مجردة، وإنما أن تكون تشكرات أيضًا علي ما لدينا. إذ كيف يمكن أن يطلب الإنسان أمورًا مقبلة وهو غير شاكرٍ علي الماضي…؟ يلزمنا أن نشكر عن كل شيء، حتى عن تلك التي تبدو خطيرة، فإن هذا هو دور الإنسان الشاكر. في الحالات الأخرى (المفرحة) تتطلب طبيعة الأمور الشكر، أما هنا فالشكر ينبع عن نفس شاكرة وعن إنسان في غيرة منجذب نحو الله[236].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     لا تقلقوا من جهة أنفسكم. لا تدعوا الأفكار غير الضرورية والارتباك بخصوص العالم والأمور الزمنية أن تحل بكم. فإن الله يمدكم بكل ما تحتاجون إليه في هذه الحياة، وستكونوا في حال أفضل في الحياة الأبدية[237].

الأب ماريرس فيكتورينوس

“وسلام الله الذي يفوق كل عقل،

يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع” [7].

سلام الله هو عطية مجانية مقدمة للنفس التي تلقي رجاءها عليه فلا تضطرب، بل في وقت الضيق تصلي وتطلب وتشكر أيضًا. فتنفتح أبواب السماء ويفيض عليها السلام الإلهي الفائق للعقل، والقادر وحده أن يحفظ القلب والفكر في المسيح يسوع.هذا السلام الإلهي الداخلي يهب الإنسان نوعًا من التناغم بين النفس والجسد، وبين العقل والقلب، وبين الإرادة والسلوك، فيحيا المؤمن بلا صراعات داخلية، لأن روح الله يهبه وحدة داخلية فائقة. فلا تقدر خطية ما أن تتسلل إلى أعماقه لتفسد سلامه، ولا يقدر عدو الخير أن يقترب إليه، لأنه لا يحتمل النور الإلهي السماوي.

“وسلام الله الذي يفوق كل عقل” عندما يُقبل الخاطي إلى المخلص يحصل على “السلام مع الله“, ثم يعيش حياة الإيمان، فيختبر “سلام الله الذي يفوق كل عقل”. فالسلام المنسوب لله نفسه نحن منتسبون إليه أيضًا، وهو ملجأنا. فإننا نضع طلباتنا لديه عارفين إنه يسمع لنا, وإنه يتكفل بكل ما يخصنا, وهذا يعزي قلوبنا ويريحها ولو لم نحصل على جواب حسب فكرنا البشري. فنحن كثيرا ما نصرخ إليه من أجل ضيق خاص أو سببٍ مكدرٍ, ونحصل على السلام الكامل مع أن الشيء الذي طلبنا إزالته باق بعد، إذ يرفعنا فوقه ولا يقدر أن يكدرنا. هكذا بقيت شوكة بولس كما هي ولكنها لم تقدر أن تكدر راحة بولس.

سلام الله الذي يهبه للبشر يفوق كل فهمٍ. لأنه من يستطيع أن يتوقع، ومن يستطيع أن يترجى أن مثل هذه الصالحات تحدث؟ إنها تفوق كل فهم الإنسان وليس فقط كلماته. لم يرفض أن يبذل ابنه من أجل أعدائه والذين يبغضونه والذين أصروا أن يتركوه وذلك لكي يصنع سلامًا معنا. هذا السلام، الذي هو المصالحة، حب الله، يحفظ قلوبكم وأفكاركم[238].

القديس يوحنا الذهبي الفم

اتسم الرسول بمحبته الشديدة لشعبه، لا يكف عن التعبير عن محبته لهم بكل وسيلة، تارة بالتشجيع وأخرى بالنصح، ودومٍا بالصلاة عنهم. هنا يطلب لهم السلام الإلهي الذي يفوق كل عقلٍ.

هذا هو دور المعلم، ليس فقط أن ينصح بل أيضًا يصلي لكي بالطلبات يسندهم حتى لا يُهزموا بالتجارب ولا يُخدعوا. كأنه يقول: ليت ذاك الذي وهبكم مثل هذا النوع من الفكر الذي لا يُدرك، هو نفسه يحفظكم ويجعلكم في أمان، حتى لا يصيبكم شر. إما أنه يقصد هذا أو يقصد ذاك السلام الذي قال عنه المسيح: “سلامًا أترك لكم، سلامي أعطيكم” (يو 27:14)، هذا السلام يحفظكم، إذ يفوق فهم الإنسان[239].

ماذا يعني: “في المسيح يسوع”؟ إنه يحفظنا فيه حتى تبقوا ثابتين، ولا تسقطوا من إيمانه[240].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     عندما يحل سلام الله علينا ندرك الله. ولا يكون للخلاف ولا للتنافر ولا للنزاعات موضع، ولا يوجد شيء موضع تساؤل. هذا أمر صعب في الحياة العالمية. لكنه يتحقق عندما يكون لنا سلام الله حيث يصير لنا الفهم. لأن السلام هو حالة تمتع فعلي بالراحة والأمان[241].

الأب ماريرس فيكتورينوس

“أخيرًا أيها الإخوة كل ما هو حق،

كل ما هو جليل،

كل ما هو عادل،

كل ما هو طاهر،

كل ما هو مُسر،

كل ما صيته حسن،

إن كانت فضيلة وإن كان مدح،

ففي هذه افتكروا” [8].

إذ يملك الرب في الداخل ويقيم سلامه الفائق تتحول طاقات الإنسان كلها للتأمل والتفكير فيما هو للرب وحده.

“أخيرا أيها الإخوة”: أخيرا تشير هنا إلى قرب انتهاء الرسالة.

*     ماذا يعني “أخيرًا“؟ إنها تُستخدم بمعني: “لقد قلت كل شيء”. إنها كلمة ينطق بها من كان مسرعًا، وليس له أن يفعل شيئًا في الأمور الحاضرة[242].

القديس يوحنا الذهبي الفم

وضع الرسول عدة بوابات يعبر عليها أي فكر لتحدد إن كنا نقبله أو نرفضه وهذه البوابات الست هي:

1- الحق.         2- الجلال والوقار.         3- العدل.

4- الطهارة.      5- السرور والفرح.        6- السمعة الحسنة.

*     يُعلمنا عن مكان العريس ومسكنه. إنه لا يحل في النفس البعيدة عن الفضيلة, فإذا أصبح أي شخص إناءً للعطور، يخرج منه مختارات من المرّ يصير كوبًا للحكمة التي تستقبل خمر الفرح النقية.

تعلمنا كلمات النشيد الآتية عن التغذية التي يُقدمها الراعي الصالح لرعيته فلا يدع غنمه تدخل الصحراء أو الأماكن الممتلئة بالأشواك لترعى، بل يقدم التوابل العطرة بالجنة كغذاء . وبدلًا من مرعى العشب يجمع لها الراعي السوّسن لتغذيتها.

يعلمنا كلمة الله الأمثلة، لأننا نرى أن طبيعة القوة المهيمنة على كل شيء ترتب مكانًا لهؤلاء الذين يستقبلونه بنقاءٍ وطهارةٍ. وهم يملكون حديقة مليئة بنباتات كثيرة مختلفة مزروعة بالفضائل. ويُنميهم العريس بقوة بواسطة السوّسن المزدهر، ويمتلئون بثمار التوابل العطرة.

يرمز السوّسن للفكر النقي المضيء ورائحته الجميلة لا تتفق مع رائحة الخطية الرديئة. تقول العروس أن السيد يعرف خرافه الروحية، ويغذيها في حدائقه ويجمع السوّسن ليغذي به غنمه.

يختار لنا بولس العظيم السوّسن لغذائنا من بيت الغذاء المقدس: “كل ما هو حق، وكل ما هو جليل، وكل ما هو عادل، وكل ما هو طاهر، وكل ما هو مسر وكل ما هو حسن الصيت، وكل ما كان فيه فضيلة وخصلة حميدة” (في 8:4). هذا هو في رأيي السوّسن الذي يغذى به الراعي الصالح والمعلم العظيم قطيعه[243].

القديس غريغوريوس النيسي

*     “كل ما هو حق” – ما هذه الأمور التي هي حق؟ إنها تلك التي بيَّنها الإنجيل: يسوع المسيح ابن الله، وكل ما يدور حول الأخبار السارة. عندما تكون أفكارك حق يتبع ذلك أنها تكون جليلة. ما هو حق لا يكون فاسدًا، وهذا يعني أنها مكرمة. ما هو ليس بفاسدٍ هو حق. لذلك ما هو حق وجليل هو أيضًا عادل أو يحقق العدالة. وما هو عادل فهو طاهر، إذ يتقبل التقديس من الله. كل ما هو عادل وجليل وحق وطاهر فهو مسر (محبوب) ولطيف. لأنه من لا يحب هذه الفضائل المقدسة…؟ تتعلق بعض البنود من هذه القائمة بالفضيلة الحقيقية ذاتها، بينما البنود الأخيرة تخص ثمر الفضيلة. ما يخص الفضيلة هو الحب والحق والكرامة (جليل) والعدل والطهارة. وما يخص ثمر الفضيلة أنه مسر ولطيف[244]

الأب ماريرس فيكتورينوس

“كل ما هو حق”: فحيث لا موضع للخطية، ولا للباطل يتجلى الحق الإلهي في النفس والفكر. فيصير فكر الإنسان عرشًا للسيد المسيح القائل: “أنا هو الحق“، ولن يقبل أن يكون ملهي لإبليس وأفكاره الباطلة. يقصد ب “كل ما هو حق” جميع الجوانب المرتبطة بالحق، الحق في كل شيء في الفكر والكلام والتصرف بحسب وصية الإنجيل أي في الأمور التي تفيد روحيًا ولا تحزن قلب الله أو الإنسان نفسه أو الآخرين.

*     القديسون دائمًا متهللون جدًا أن يروا ثمار الحق عمليًا[245].

هيلاري أسقف آرل

*     إن حصنا أنفسنا بذلك، إن منطقنا أحقاءنا بالحق، لا يقدر أحد أن يغلبنا. من يطلب تعليم الحق لن يسقط على الأرض[246].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     المسيح ليس فقط هو الله، بل بالحقيقة الله الحق، إله حق من إله حق، إذ هو نفسه الحق[247].

القديس أمبروسيوس

“كل ما هو جليل”:إذ يدرك المؤمن مركزه كابن لله لا يستطيع أن يفكر إلا فيكل ما هو لائق بكرامته في الرب، أي فيما يتسم بالجلال والوقار، الأشياء ذات المهابة والقداسة وليس في الأشياء التافهة. إذ نلنا حرية مجد أولاد الله (رو 8: 21)، فلا نفكر ولا نعمل إلا بما يليق بمركزنا الجديد في الرب، مجدنا الداخلي. وكما يقول الرب نفسه: وأكون مجدًا في وسطها” (زك 5:2).

*     الذين يستنيرون يتقبلون ملامح المسيح… فإنه حتما يُطبع على كل واحد منهم شكل الكلمة وصورته وملامحه حتى يُحسب المسيح مولودًا في كل واحدٍ منهم بفعل الروح القدس… ويصير الذين يتعمدون مسحاء آخرين[248].

 الأب ميثوديوس

“كل ما هو عادل”:يؤدي العدل الحق الواجب نحو الله والناس بأمانة وإخلاص. فلن يقدر فكر ما ضد الآخرين أن يعبر بأولاد الله المقدسين فيه. لأنه حيث يملك الحب لا يقدر الظلم أو البغضة أن تتسلل.

*     لقد أُعطي لنا الغضب لا لنرتكب أعمالًا عنيفة ضد إخوتنا، بل لكي نصلح من شأن الساقطين في الخطية بالعمل بدون كسل. لقد زرع فينا الغضب كنوع من المنخاس لكي نصر على أسناننا ضد الشيطان مملوءين عنفًا ضده وليس ضد بعضنا البعض. أسلحتنا هي لمحاربة العدو وليس لمحاربة بعضنا البعض.

هل أنت غضوب؟ كن هكذا ضد خطاياك. أدب نفسك، واجلد ضميرك، وكن قاضيا قاسيا، واحكم بلا رحمة على خطاياك.

هذا هو طريق الانتفاع من الغضب. هذا هو السبب الذي لأجله غرس الله فينا الغضب[249].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“كل ما هو طاهر”: الطهارة هي نقاوة القلب والذهن من الفكر الدنس. ففكر المؤمن المقدس في الرب القدوس يتمتع بفيض من الطهارة والنقاوة والعفة.

*     الحقيقة هي أن الكل غير طاهرين، هؤلاء الذين لم يتطهروا بواسطة الإيمان بالمسيح، وذلك كقول العبارة: “إذ طهر بالإيمان قلوبهم” (أع 15: 9)[250].

*     إننا محتاجون إلى العفة، ونحن نعلم أنها عطية إلهية، وهي امتناع القلب عن الميل نحو كلام الشر مع عدم تقديم أعذار عن خطايانا.

إننا محتاجون إلى العفة حتى نقمع الخطية فلا نرتكبها، وإن أخطأنا فلا نبرر ذلك بكبرياء شرير.

وبالإجمال، نحن نحتاج إلى العفة لكي نحيد عن الشر، ونحتاج إلى فضيلة أخرى هي البرّ لكي نفعل خيرًا. هذا ما ينصح به المزمور المقدس قائلًا: “حد عن الشر واصنع الخير”. وبأي هدف نصنع هذا؟ “اطلب السلامة واسعَ وراءها” (مز 34: 14). سيكون لنا السلامة الكاملة، عندما تلتصق طبيعتنا دون أن تنفصل عن خالقها، فلا يكون لنا في أنفسنا ما يضاد أنفسنا.

وهذا أيضًا -كما أظن- أراد مخلصنا نفسه منا أن نفهمه بقوله “لتكن أحقاؤكم ممنطقة وسرجكم موقدة” لأنه ماذا تعني الأحقاء الممنطقة؟ إنها ضبط الشهوات، وهذا هو عمل العفة. وأما السرج الموقدة فتعني الإضاءة والتلألؤ بالأعمال الصالحة، أي عمل البرّ.

وهنا لا يصمت الرب عن توضيح هدف صنع هذه الأمور إذ أضاف قائلًا: “أنتم مثل أناس ينتظرون سيدهم متى يرجع من العرس” (لو 12: 35، 36) فعند مجيئه يأتي ليكافئ الذين حفظوا أنفسهم من الشهوات، وصنعوا الأعمال التي تأمر بها المحبة. وهكذا يملكون في سلامه الكامل الأبدي أي بغير صراع مع الشر، بل يبتهجون بالخير بفرحٍ سامٍ[251]

القديس أغسطينوس

“كل ما هو مسر”:  نفكر في كل ما يسر الغير ويجلب المحبة ويسعد القلوب بالعطف والاحتمال وعدم ذم الآخرين أو إدانتهم. يغمر المؤمن السرور والفرح الذي لا يُنطق به، فرح الروح، بكونه الجو الطبيعي الذي يسود مملكة الله في القلب. يشعر المؤمن في أعماقه أنه أسعد كائن على وجه الأرض.

“كل ما صيته حسن”: يبتعد الصيت الحسن عن الكلمات القبيحة وينطق أولاد الله بما يمجد أبيهم السماوي. فالمؤمن الحقيقي يشهد له حتى الأعداء، إذ يشعر الكل بغنى نعمة الله عليه فيلتمسون بركة الرب الحالة فيه. أفكاره دائمًا لصالح البشرية وبنيانها الدائم، يشرق على من حوله بنور السيد المسيح الذي فيه.

“إن كانت فضيلة، وإن كان مدح ففي هذه افتكروا”، فكره أشبه بالنحلة التي تمتص الرحيق من كل زهرة لتقدم عسلًا شهيًا. هكذا يرى المؤمن في كل إنسان حتى الذين يُدعون مجرمين جانبًا فاضلًا يتعلمه. بهذا إذ لا يكف عن أن يتعلم من كل أحد ما هو صالح ونافع، يصير فكره وسلوكه وكلماته موضع مديح الناس، وإن كان هذا لن يشغل قلبه، إذ يطلب مديح الرب لا الناس.

*     ما هو حق بالحقيقة هو فضيلة. الرذيلة هي بطلان، مسرتها باطلة، مجدها باطل، كل ما فيها باطل. ما هو طاهر هو ضد التفكير في الأمور الأرضية. ما هو جليل ضد أولئك الذين آلهتهم بطونهم (في 19:3)[252].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     إننا نصير مثل الطعام الذي نأكله. دعونا نأخذ مثال الإناء الأجوف من الكريستال، فكل ما يوضع فيه يُرى بوضوح. ويشبه ذلك عندما نضع بهاء السوّسن في نفوسنا، فإنها تشع وتُظهر من الخارج الأشكال الموجودة بالداخل. ولتوضيح هذه النقطة. تتغذى الروح بالفضائل التي تُسمى رمزيًا بالسوّسن، ويُصبح الشخص المكوّن بهذه ذا حياة طيبة، مُشرقًا، مُظهرًا في حياته كل نوع من الفضيلة. لنفرض أن السوّسن النقي هو ضبط النفس والاعتدال والبرّ والشجاعة والقدرة وكل ما يقوله الرسول أنه حق وجليل ومستحق للحب وعادل ومقدس وعطوف وفاضل ومستحق للتمجيد (في 8:4) تتكون هذه الفضائل جميعها في النفس نتيجة للحياة النقية وتزيّن النفس التي تمتلكها[253].

القديس غريغوريوس النيسي

“وما تعلّمتموه وتسلّمتموه وسمعتموه ورأيتموه فيّ،

فهذا افعلوا،

وإله السلام يكون معكم” [9].

مع توصيتهم كتابة يوصيهم الرسول بلغة التسليم أو التقليد والإقتداء به. فلا يكفي ما تعلموه من الرسول كتابة أو شفاها، وإنما أيضا ما تسلموه وما رأوه فيه في حياته العملية، هذا يلتزمون به، لأنه يقدم إنجيل المسيح، فيكون معهم إله السلام. الإله الذي هو مصدر السلام الداخلي، والمحب للسلام، والحافظ له في كل الظروف هو معهم وفيهم.

هذا هو تعليمه في كل نصائحه أن يقدم نفسه نموذجًا. وكما يقول في موضع آخر: “كما نحن عندكم قدوة” (في 17:3). مرة أخرى يقول هنا: “وما تعلمتموه وتسلمتموه“، أي تعلمتموه بكلمة الفم. “وسمعتموه ورأيتموه فيّ“، سواء بكلماتي أو أفعالي أو سلوكي. انظروا كيف يقدم لنا هذه الوصايا في كل الجوانب؟ لما كان يصعب وضع تعبير دقيق لكل الأمور الخاصة بدخولنا وخروجنا وحديثنا وتحركاتنا وتعاملاتنا – وإذ يحتاج المسيحي أن يفكر في كل هذه الأمور – لذلك قال باختصار كمن يلخص الأمور: “سمعتموه ورأيتموه فيّ“. إني أقودكم إلى الأمام بالأفعال وبالكلمات. افعلوا هذه الأمور، ليس فقط بالكلام وإنما أيضًا بالعمل.

وإله السلام يكون معكم“، أي ستكونون في هدوء وأمان عظيم، ولا تعانوا من أمرٍ مؤلمٍ، ولا ما هو ضد إرادتكم، فإننا إذ نكون في سلامٍ معه، يكون هذا خلال الفضيلة، حيث يكون بأكثر سلام معنا. فإن ذاك الذي يحبنا، ويُظهر حنوه علينا حتى بغير إرادتنا، سوف يُظهر بالأكثر حبه لنا حين يرانا نسرع نحوه. ليس شيء فيه عداوة لطبيعتنا مثل الرذيلة. في أمور كثيرة يتضح كيف أن الرذيلة تحمل عداوة ضدنا، بينما تحمل الفضيلة صداقة من نحونا[254].

القديس يوحنا الذهبي الفم

ربما يتساءل أحد إن كان التقليد الشفهي قد توقف بظهور أسفار العهد الجديد. نجيب بأن الرسل أنفسهم قد ذكَّروا المؤمنين بالتقليد الشفهي حين كتبوا رسائلهم للجماعات المسيحية الأولى، إذ من خلاله يستطيعون أن ينالوا فهمًا للحق المسيحي:

“إذ كان لي كثير لأكتب إليكم لم أرد أن يكون بورقٍ وحبرٍ، لأني أرجو أن آتى إليكم فمًا لفم ليكون فرحنا كاملًا” (2 يو 12).

“وكان لي كثير لأكتبه لكنني لست أريد أن أكتب إليك بحبرٍ وقلمٍ. ولكنني أرجو أن أراك عن قريب فنتكلم فمًا لفم” (3 يو 14،13).

“أما الأمور الباقية فعندما أجيء أرتبها “الكلمة اليونانية تعني أطقسها” (1 كو 34:11).

“لأجل هذا تركتك في كريت لكي تكمل ترتيب الأمور الناقصة وتقيم في كل مدينة قسوسًا” (تي 5:1).

في مواضع كثيرة يوصي الرسول بولس تلاميذه أن يحفظوا التقليد، ويودعوه أناسًا آخرين، وأن يتمسكوا بالتقاليد التي تعلموها بالكلام أو برسالته وأن يتجنبوا كل أخ يسلك بلا ترتيب وليس حسب التقليد الذي أخذه منه” (2 تس 6:3). كما حذرنا من كل تقليد بشري مقاوم للإيمان “حسب أركان العالم وليس حسب المسيح” (كو 8:2).

*     إذا حاولنا أن نحذف العوائد غير المكتوبة لأنها ليست بذات أهمية فلننتبه إلى أننا نسيء إلى البشارة في أهم أركانها، ونجعل الكرازة الإنجيلية اسمًا لغير مسمى.

القديس باسيليوس الكبير

فاصل

3. فرح مشترك عملي 10-20

“ثم أني فرحت بالرب جدًا،

لأنكم الآن قد أزهر أيضًا مرّة اعتناؤكم بي،

الذي كنتم تعتنونه،

ولكن لم تكن لكم فرصة” [10].

يكن الرسول بولس بالامتنان والشكر لأهل فيلبي من أجل عنايتهم به، متهللًا بالرب الذي  وهبهم هذا الحب والحنو، وقد ترجمت العطية إلى عمل كلما سنحت لهم الفرصة للتعبير عنها.

وهنا نأتي إلى الجزء الأخير من الرسالة والذي قد يكون أحد الأسباب الهامة لكتابة الرسالة, ويتناول هذا الجزء شكر الرسول وتقديره لأهل فيلبي على محبتهم وازدهار الفضيلة في حياتهم ومعونتهم له وقبوله لهذه المعونة والطلب من الله ليعوضهم أجرًا صالحًا سمائيًا حسب غناه في المجد.

فرحت بالرب جدًا”: يفرح بولس الرسول بالرب رغم قيوده في حبسه وإن كان سبب الفرح هو محبتهم ومعونتهم, فالله هو الذي حرك قلوبهم بذلك… هو يفرح أيضًا لأن الرب أنجح ما زرعه، الشجرة التي غرسها ونمت وأينعت وازدهرت وأتت بالثمر.

قلت مرارًا أن الصدقة تُقدم ليس من أجل مستلميها بل من أجل الذين يعطونها، لأن الأخيرين ينتفعون بها بطريقة أعظم. هذا ما يظهره بولس هنا أيضًا. فأهل فيلبي أرسلوا إليه شيئًا بعد فترة طويلة، وفعلوا نفس الشيء مع أبفرودتس. انظروا الآن كيف أنه إذ هو مزمع أن يرسل أبفرودتس حاملًا هذه الرسالة يمدحهم، مظهرًا أن هذا العمل هو من أجل حاجة المُعطين لا المستلمين لها. فعل هذا لكي ما لا ينتفخ الذين قدموا له إحسانًا بالزهو، وأن يصيروا في أكثر غيرة في ممارسة العمل الصالح. إذ هم بالحري ينالون نفعًا لنفوسهم، بينما الذين يتقبلون العطايا لا يندفعون بجسارة لينالوا العطية حتى لا يُقابلوا بالنقد. يقول الرب: “مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ” (أع 35:20).

لماذا يقول: “ثم إني فرحت بالرب جدًا“؟ يقول ليس بفرحٍ عالميٍ، ولا بفرح هذه الحياة، وإنما في الرب. ليس لأني تسلمت قوتًا (معونة)، وإنما من أجل تقدمكم، فإن هذا هو قوتي. لهذا يقول “جدًا (فرحًا عظيمًا)”، حيث أن الفرح ليس جسدانيًا ولا من أجل قوتٍ، بل من أجل تقدمهم[255].

القديس يوحنا الذهبي الفم

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[256] أن حديثه هنا يحمل مديحًا رقيقًا كما يحمل عتابًا، لأنهم اعتنوا به، وقدموا له عطية، ولكن بعد فترة طويلة. غير أنه يقدم لهم العذر إذ يقول: “ولكن لم تكن لكم فرصة“.

يقول أيضًا القديس يوحنا الذهبي الفم أن الرسول بولس كان حريصًا أن يتجنب كل عثرة من جهة المادة حتى لا يعطل أحد فخره (1 كو 15:9)، فكان يعمل بيديه لأجل احتياجاته واحتياجات من معه.

“ليس إني أقول من جهة احتياج،

فإني قد تعلّمت أن أكون مكتفيًا بما أنا فيه” [11].

لم يكتب لهم شاكرًا إياهم لأنه كان محتاجًا، ولا لأنه يطلب المزيد، فقد تدرب أن يشعر بالشبع والاكتفاء بالقدر الذي لديه، وتحت أية ظروف، حتى وإن كان في القيود داخل السجن، أو تحل به ضيقات واضطهادات. لن يرجو أن ينال شيئًا من أحد. كالمثل القائل: الذهن المكتفي عيد دائم[257]“.

“ليس إني أقول من جهة احتياج” لئلا يظن أحد إنه قبل العطية ويطلب المزيد, ففي عُرف بولس إن الخدمة ليست طريقًا للتكسب, ولا للفائدة الشخصية, ولكن هنا بسبب محبته الشديدة لأهل فيلبي, وأيضًا بسبب الاحتياج قَبِلَ معونة أهل فيلبي “تعلمت أن أكون مكتفيا بما أنا فيه”. استخدم بولس لفظ الاكتفاء للتعبير عن القناعة. يقصد الاكتفاء، وليس الشراهة.

يقول إني أعاتبكم ليس لأني أطلب ما هو لي، بل انتقدكم كما لو كنت في عوزٍ، إذ أطلب هذا ليس من أجلي… هنا يتحدث إلى أولئك الذين عرفوا الحقائق، وبالكشف عنها يجعلهم في موضع أكثر حزنًا. إذ يقول: “تعلمت أن أكون مكتفيًا بما أنا عليه“[258].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     يقول صاحب المشورة الصالحة: “تعلمت أن أكون مكتفيًا بما أنا فيه“. إذ عرف أن أصل كل الشرور هو محبة المال (1 تي 10:6). ولهذا كان مكتفيًا بما لديه، ولا يطلب ما هو لدى الغير. يقول: يكفيني ما لديّ، سواء كان قليلًا أو كثيرًا فهو بالنسبة لي كثير… هذا معناه: “لن أكون محتاجًا ولا أكون مستفضلًا”. لست محتاجًا، لأنني لا أطلب المزيد ولا أستفضل لأن ما لدي هو ليس لي بل لكثيرين. قال هذا عن المال. لكنه يستطيع أن يقول هذه الكلمات عن كل شيءٍ. فإن كل ما كان لديه في تلك اللحظة كان مكتفيًا به. فلم يكن يطلب كرامة أعظم، ولا خدمات أكثر، ولا يشتهي مجدًا باطلًا، ولا يسأل كلمة شكر، إذ لا يوجد ما يستوجب ذلك. لكنه كان صبورًا في أتعابه، مطمئنًا لاستحقاقاته، يترقب نهاية الصراع، الأمر الذي يتطلب منه الاحتمال. يقول: “أعرف أن أتضع“[259]

القديس أمبروسيوس

*     غالبًا ما يُظن أن المعاناة من الفقر بلوى، لكن الفيض أيضًا يمكن أن يصير بلوى. الإنسان الحكيم يضبط نفسه فلا يضعف بواسطة الفيض[260].

 العلامة أوريجينوس

*     كل أنواع البشر بالحق يمكن أن يعانوا من الفقر، أما أن يعرف الشخص كيف يحتمل الفقر فهذا علامة العظمة… أما الذي يعرف كيف يستفضل (أي يشعر بالفيض في شكرٍ) فهذا لا يخص إلا الذين لا يفسدهم الفيض[261].

القديس أغسطينوس

“أعرف أن أتضع،

وأعرف أيضًا أن أستفضل في كل شيء،

وفي جميع الأشياء قد تدرّبت أن أشبع وأن أجوع،

وأن أستفضل وأن أنقص” [12].

هذا هو عمل نعمة الله الفائقة أن تهب المؤمن أن يمارس حياة التواضع كشركة مع ربنا يسوع في تواضعه، وأن يشعر بفيض عطايا الله عليه، فلا يشعر بالاكتفاء فقط، وإنما بالشوق الحقيقي للعطاء بلا توقف. وكما يقول الرسول: “كأننا لا نملك شيئًا ونحن نملك كل شيء”. “كأننا فقراء ونحن نغني كثيرين”. يحمل طبيعة العطاء فيفيض حبًا وحنوًا وسلامًا وعطاء ماديًا ونفسيًا وروحيًا. وفي هذا كله يعرف أن يتواضع، لأنه يدرك أن ما يقدمه ليس من عنده، بل هو عطية الله له لأجل إخوته.

لا يفتخر معلمنا بولس الرسول هنا بما اتسم قبوله برضا العطاء والفيض والشبع وأيضًا النقص والجوع والعطش، إنما ينسب كل شيء للسيد المسيح.

“أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقوّيني” [13].

ما كان يمكن للرسول أن يتمتع بهذا الشعور الداخلي بالشبع ولا أن يفيض على الغير بذاته، إنما هي قوة المسيح العاملة فيه. لذا يسبحه قائلًا أن المسيح قوته (غل 2: 20).

النجاح ليس من عندي بل هو نجاح ذاك الذي يعطيني القوة[262].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“غير أنكم فعلتم حسنًا إذ اشتركتم في ضيقتي” [14].

مع تمتعي بعطية الاكتفاء وعدم الاحتياج إلى أحد، لكنكم تستحقون المديح لأنكم شاركتموني آلامي واحتياجاتي. شهوة قلبي أن أرى الكل مملوء حبًا، لكن ليس عن طمع من جانبي ولا لكي أنال شيئًا من أحد. لقد شاركوه آلامه بالحب وعبروا عن هذا بالعطاء وسط ضيقاته.

“غير أنكم فعلتم حسنًا إذ اشتركتم في ضيقتي”… من العادة عندما نكتب رسالة شكر إلى أحد نذكر هذا الشكر في رأس الرسالة, لكن بولس الرسول ترك شكره حيث ختم به رسالته… لماذا؟ لأنه يريد أن يعطيهم الدروس الروحية أولًا ويأتي بهم إلى الفرح ثم يقدم شكره لهم.

” فعلتم حسنا” فالرسول يقدر تعب محبتهم وتصرفهم بشهامة وكرم ونبل…

ضيقتي” يعبر عن الفاقة والعسر والحاجة التي كان يعاني منها الرسول في سجنه.

إذ يرى الذين يقدمون العطايا من يتسلمها لا يتعاطف معهم بل يحتقر عطاياهم، يسقطون بالأكثر في حالة بلادة… لذلك عالج بولس هذا الأمر. فما قاله قبلًا حط من أفكارهم المتشامخة، وما جاء بعد ذلك أنعش استعدادهم للعمل، إذ يقول: “غير أنكم فعلتم حسنًا إذ اشتركتم في ضيقتي“. انظروا كيف استبعد نفسه، ثم عاد فاتحد بهم. هذا هو دور الصداقة الروحية الحقيقية. يقول: “لا تظنوا لأني في غير احتياج لست محتاجًا إلى عملكم هذا. إني محتاج إليه من أجلكم. لم يقل: “أعطيتموني” بل “اشتركتم“، ليظهر أنهم هم أيضًا انتفعوا، إذ صاروا شركاء في أتعابه. لم يقل “خففتم” ضيقتي بل “اشتركتم في ضيقتي” وهو أمر أسمى[263].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“وأنتم أيضًا تعلمون أيها الفيلبيّون،

أنه في بداءة الإنجيل لما خرجت من مكدونيّة

لم تشاركني كنيسة واحدة في حساب العطاء والأخذ إلا أنتم وحدكم. [15]

في بدء كرازته في مكدونية لم تشترك كنيسة ما في احتياجات الرسول أثناء كرازته سوى الكنيسة التي في فيلبي. لم يساهموا في احتياجاته عندما كان في فيلبي فقط، وإنما أرسلوا إليه حين ذهب إلى كورنثوس (2 كو 8:11-9).

يا لعظمة مديحه لهم! فإن أهل كورنثوس وروما يُثارون عندما يسمعون هذا منه، فقد فعل أهل فيلبي هذا دون أية كنيسة أخرى، وكانوا هم المبتدئين. إذ يقول: “في بداءة الإنجيل” أعلنوا دون غيرهم عن مساندتهم للرسول القديس، بكونهم المبادرين بالعمل دون وجود أي مثال يقتدون به، حاملين هذا الثمر.

ولا يستطيع أحد أن يقول أنهم فعلوا هذا لأنه سكن معهم أو لأجل نفعهم، إذ يقول: “لما خرجت من مكدونية، لم تشاركني كنيسة واحدة في حساب العطاء والأخذ إلا أنتم وحدكم”. ماذا يعني “العطاء”، و”المشاركة”؟ إذ لم يقل: “لم تعطني كنيسة واحدة”، بل “تشاركني في حساب العطاء والأخذ”؟ إنه موضوع شركة!

يقول: “إن كنا نحن قد زرعنا لكم الروحيات، أفعظيم إن حصدنا منكم الجسديات؟ (1 كو 11:9) مرة أخري يقول: “تكون فضالتكم لأعوازهم” (2 كو 14:8). كيف شارك هؤلاء؟ بالعطاء في الجسديات وقبول الروحيات. فكما أن الذين يبيعون ويشترون يشاركون بعضهم البعض بالعطاء المشترك مما لهم، هكذا الأمر هنا.

إنه ليس أمر ما أكثر نفعًا من هذه التجارة والمقايضة. تبدأ علي الأرض وتتم في السماء. الذين يشترون هم على الأرض، لكنهم يشترون وينتفعون بما يخص السماويات، بينما يقدمون ثمنًا أرضيًا[264].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فإنّكم في تسالونيكي أيضًا،

أرسلتم إليّ مرّة ومرّتين لحاجتي” [16].

إذ كان ينشئ الكنيسة في تسالونيكي كان يسدد احتياجاته هو ومن معه جزئيا بعمل يديه (1 تس 9:2؛ 2 تس 7:3-9)، والباقي بالمعونة التي ساهمت بها الكنيسة في فيلبي.

هنا أيضًا مديح عظيم، إذ وهو قاطن في العاصمة قامت مدينة صغيرة (فيلبي) بتقديم له القوت[265].

القديس يوحنا الذهبي الفم

جاء النص اليوناني “حاجات” وليس حاجاتي. ويرى القديس يوحنا ذهبي الفم أنه قد تعمد ذكر هذه الكلمة، لأنه كثيرًا ما ابرز أنه لا يحثهم علي العطاء عن احتياج، بل لنفعهم. فقد خشي لئلا يصابوا بحالة فتور في المشاعر وإحباط في الرغبة في العطاء، لذا أكد أنهم أرسلوا لأجل إشباع الاحتياجات.

“ليس أني أطلب العطيّة،

بل أطلب الثمر المتكاثر لحسابكم” [17].

لم يشتهِ الرسول أية عطية من أحد، لكن ما يشتهيه ثمر الروح فقط، المُعلن عمليًا بالعطاء وسد احتياجات الخدمة.

كل ما يقدمه الإنسان عن صدقة وتواضع يضاف إلى حسابه في الملكوت، وإن كان حسب الظاهر إن بولس الرسول هو الذي تسلم عطاياهم، لكن في الحقيقة إن الله الذي تسلم هذه العطايا.

يوجد فرق بين من كان في عوز ولا يطلب شيئًا، وبين من يكون في عوز ولا يحسب نفسه أنه في عوز. يقول الرسول: “ليس إني أطلب العطية، بل أطلب الثمر المتكاثر لحسابكم“. لست أطلب ما هو لي. هل ترون أن الثمر صادر منهم؟ يقول: هذا أقوله لأجلكم، وليس من أجلي، وإنما لخلاصكم. فإنني لست أربح شيئًا عندما أأخذ، إنما النعمة يتمتع بها الذين يعطون، والمكافأة قائمة في مخزن المُعطين، أما العطايا فيستهلكها الذين يستلمونها هنا[266].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“ولكني قد استوفيت كل شيء واستفضلت،

قد امتلأت،

إذ قبلت من أبفرودتس الأشياء التي من عندكم نسيم رائحة طيّبة،

 ذبيحة مقبولة مرضيّة عند الله” [18].

يعبر الرسول بولس عن سخاء أهل فيلبي إذ قدموا ليس فقط احتياجاته بل وما فضل عنه، فامتلأ لا بالعطاء بل بنسمة الحب القادمة من قلوبهم، واشتم عملهم ذبيحة مقدمة لله وليس لبولس، ذبيحة مقبولة موضع سروره.

إذ قال: “ليس إني أطلب” فلئلا يصابوا بحالة فتور في العطاء، أضاف: “ولكني قد استوفيت واستفضلت“، أي خلال تلك العطية التي بها تناسب من كان في عوزٍ. بهذا يجعلهم أكثر غيرة. فإن الذين يقدمون إحسانات كلما كانوا أكثر حكمة يطلبون فيمن يتقبل العطاء أن يكون شاكرًا. فإنكم ليس فقط قدمتم ما كان ناقصًا بل اجتزتم هذا بتفوق[267].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“نسيم رائحة طيبة ذبيحة مقبولة مرضية عند اللهوصف بولس الرسول عطايا أهل فيلبي بالآتي:

1- رائحة طيبة 2- ذبيحة مقبولة 3- مرضية عند الله.

وهذه الأوصاف تطابق أوصاف العهد القديم التي كانت تشير إلى ذبيحة الصليب.

نسيم رائحة طيبة“… هي رائحة المحبة التي قدمها أبناء المسيح لخادم المسيح.

“إذ قبلت من أبفرودتس الأشياء التي من عندكم نسيم رائحة طيبة، مقبولة مرضية عن الله”. انظروا من الذي رفع عطيتهم، يقول: لست أنا، بل الله خلالي، فمع إني لست في عوز، اذكروا أن الله الذي ليس له احتياج قبل من أياديكم مثل هذه. حتى أن الأسفار المقدسة لا تحجم عن أن تقول: “تنسم الرب رائحة زكية” (تك 21:8) حيث تشير إلى من هو مسرور. حقًا أنتم تعرفون كيف أن نفوسنا تتأثر بالروائح الزكية، كيف تُسر وكيف تبتهج. فلم تحجم الأسفار المقدسة عن أن تستخدم كلمة بشرية وتطبقها على الله. وهكذا لكي تظهر للبشر أن عطاياهم مقبولة. لأنه ليست الشحوم ولا الدخان (البخور) يجعل الذبيحة مقبولة بل غاية فكر من يقدمها[268].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     يظهر أنه بالحق الرحمة نحو الفقراء تسكب زيتًا على ذبيحة الله، أما الخدمة المُقدمة للقديسين فتضيف عذوبة البخور[269]

العلامة أوريجينوس

*     عندما ساعد الإخوة الطوباوي الرسول بولس في احتياجات ضيقته قال أن هذه الأعمال الصالحة هي ذبائح الله… فإنه عندما يتدفق أحد بمسكين يقرض الله، وعندما يعطي الأصاغر يعطي الله ذبائح روحية رائحة رضا[270].

الشهيد كبريانوس

“فيملأ إلهي كل احتياجكم بحسب غناه في المجد،

في المسيح يسوع” [19].

إذ كيلوا للرسول بكيل الحب الفائض يكيل لهم الله حسب غناه ليتمتعوا بأمجاد سماوية بفيض في المسيح يسوع. لم يتركوا بولس في عوز، فلن يتركهم الله في احتياج إلى شيء. لا يستطيع بولس أن يوفي لهم الدين، لكنه قدم الصك لمرسله يسوع المسيح الذي وحده قادر أن يفي عن رسله وتلاميذه.

“حسب غناه”.. يعطي الفقير حسب فقره القليل, ويعطي الغني حسب غناه الكثير, والملك يعطي حسب عظمته أكثر, فما بالك بملك الملوك إذا وهب؟!

 “المجد“… صفة ملازمة لله منذ الأزل وإلى الأبد. فالله ممجد من ذاته لا يستمد مجده من أحد.

أبينا“: نحن نتعامل مع أبٍ، عينه علينا يشعر بكل احتياجاتنا ويهتم بنا.

انظروا كيف يطلب لهم أن تحل عليهم البركات كما يفعل الفقراء (حين يتقبلون عطية ما). فإن كان بولس يبارك أولئك الذين أعطوا كم بالأولي بنا ألا نخجل من ذلك. عندما ننال (عطية من أحد)، ليتنا لا نتقبل العطية كما لو كنا نحن أنفسنا محتاجين، فلا نفرح من أجل أنفسنا، بل من أجل المعطين. نحن أنفسنا ننال مكافأة إن فرحنا من أجلكم. وليتنا لا نتضايق عندما يحجم الناس عن العطاء بل بالحري نحزن من اجلهم. فإننا نجعلهم في أكثر غيرة إن علمناهم أننا لا نعمل هذا من أجل أنفسنا، إنما ليملأ إلهي “احتياجكم” بكل نعمة أو بكل فرح “حسب غناه” أي حسب هبته المجانية، فهي بالنسبة له سهلة وممكنة وسريعة[271].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“ولله أبينا المجد إلى دهر الداهرين آمين” [20].

هذا الحب المتبادل بين الرسول وأهل فيلبي يمجد الله أب الجميع الذي يفرح بعمل نعمته فيهم.

المجد الذي يتكلم عنه لا يخص الابن وحده بل أيضًا الأب، فإذ يتمجد أيضًا الآب[272].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     هنا كما في فيلبي 19:4 لا يفصل بين الله والآب، بل يصلي لإلهنا وأبينا. يدعوه الله من أجل المهابة، ويدعوه الآب من أجل الكرامة ولأن كل بداية هي منه[273].

 الأب امبروسياستر

*     هنا يسبح الآب وحده، بينما في موضع آخر يسبح الابن وحده (رو 5:9)… فلا يفصل الابن عن الآب ولا الآب عن الابن. إنه يقدم التسبحة للطبيعة الإلهية ككل[274].

الأب ثيؤدورت أسقف قورش

يقول القديس يوحنا ذهبي الفم[275] أن الرسول بولس ليس معه من هو نظير نفسه (في 20:2) ومع هذا يدعوهم إخوته.

فاصل

4. تحية ختامية 21-23

“سلّموا على كل قدّيس في المسيح يسوع،

يسلم عليكم الإخوة الذين معي” [21].

يود من الكنيسة أن تبلغ كل عضو عن تحيات الرسول والعاملين معه له شخصيًا، حاسبًا رسالته هذه مُقدمة للكنيسة ككل كما لكل عضوٍ فيها كرسالة خاصة به.

*     ليس من يدعو نفسه قديسًا هو قديس، بل ذاك الذي يؤمن بالرب يسوع ويعيش حسب تعليمه[276]

الأب ثيؤدوروت أسقف قورش

“يسلّم عليكم جميع القدّيسين،

ولا سيما الذين من بيت قيصر” [22].

يرى في شعب فيلبي قديسين كما أيضًا في شعب روما، حتى المسيحيين في قصر نيرون كانوا في عينيه قديسين يقدمون تحياتهم ومحبتهم لقديسي الكنيسة في فيلبي.

من بيت قيصر” ليس المقصود نيرون وأسرته ولكن المقصود بعض رجال الحرب وموظفو القصر الذين آمنوا.

إنه يرفعهم من نفسياتهم ويقويهم بأن يظهر لهم أن كرازته قد بلغت حتى إلى بيت الملك (الإمبراطور). فإنه إن كان أولئك الذين كانوا في قصر الملك استخفوا بكل شيء من أجل ملك السماء، كم بالأكثر يليق بهم أن يفعلوا ذلك. هذا دليل أيضًا علي حب بولس وأنه أخبر عنهم بأمور كثيرة عظيمة حتى أن الذين في القصر قد اشتاقوا إليهم، والذين لم يروهم قط يسلمون عليهم[277].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“نعمة ربنا يسوع المسيح مع جميعكم. آمين” [23].

لا يجد الرسول في أغلب رسائله ما يختم به حديثه سوى تقديم ربنا يسوع المسيح لمحبوبيه المرسل إليهم الرسالة. هذا أعظم ما يشتهيه لكل إنسان! تبدأ الرسالة بالنعمة وتنتهي بها… النعمة هل عمل الله مع النفس البشرية التي لا تستحق هذه النعمة.

كُتبت إلى أهل فيلبّي من رومية على يد أبفرودتس.

إذ كان معصم الرسول في القيد الحديدي لذلك أملى رسالته إلى ابفرودتس الذي أخذ بركة كتابتها كما أخذ بركة صاحبها.

فاصل

من وحي فيلبي 4

أنت فرحي الدائم!

*     كيف لا تتهلل نفسي،

وأنت في داخلي تفيض بفرح الروح؟

كيف أضطرب وتقلق نفسي،

وأنت قائد حياتي وضابط الكل؟

كيف أخاف من المستقبل،

وأنت تفتح بالصلاة كل الأبواب المغلقة؟

كيف لا أمارس الحياة السماوية،

وأنت غيرٌت طبيعتي الجاحدة،

ووهبتني الشركة في حياتك الشاكرة؟

*     أنت فرحي الأبدي .

أختبره في أعماقي حيث أنت تقيم!

وأختبره مع إخوتي،

حيث كنيستك، جسدك متهلل!

لأفرح هنا علي الأرض،

حيث عبر قلبي إلى سماواتك!

فاصل

فاصل

 تفسير فيلبي 3 تفسير رسالة فيلبي تفسير العهد الجديد
فهرس
 القمص تادرس يعقوب ملطي
تفاسير رسالة فيلبي تفاسير العهد الجديد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى