تفسير سفر الرؤيا اصحاح 16 لابن كاتب قيصر

الأصحاح السادس عشر
الفصل السادس عشر

رؤ16: 1-3

76- (1) وسمعت صوتا عظيما من السماء يقول للملائكة امضوا اسكبوا جاماتكم التي لغضب الله على الأرض .

قد مضى تفسير الصوت وعظمه ، والسماع والجامات . فأما السكب فإنه رمز على تنفيذ الأمر بإخراجه من القوة إلى الفعل . ، وقوله ، وقوله : «على الأرض» ، يقصد أهل ذلك العصر ، وبقية الفص على ظاهره .

وأما : هل هذه الضربات عامة على الأرض كلها ، أم خاصة بمكان دون مکان ؟

فالجواب : أن منها أربع عامة وهي الأولى والثالثة والرابعة والسابعة ، ومنها ثلاث خاصة وهي الثانية والخامسة والسادسة ، وسيأتي بيانها في أماكنها . وبحسب اعتبار آخر : منها ثلاث ضربات في المياه وهي الثانية والثالثة والسادسة ، ومنها ضربة في الهواء وهي السابعة ، ومنها ضربة في الشمس وهي الرابعة ، ومنها ضربة في كرسي الوحش وهي الخامسة ؛ ،منها ضربة غير معينة وهي الأولى

77- (2) فمضى الملاك الأول وسكب جامه على الأرض فكانت ضربة سوء على الناس المختومين من الوحش والساجدين لصورته.

أخذ في تفصيل الضربات السبع التي تحل بدولة الوحش وتابعيه الأولى : قوله : «فمضى الملاك الأول وسكب جامه على الأرض» إلى آخر الفص . السكب والجام قد مضى تفسيرهما ، ويريد بقوله على الأرض ، أي على أهل الأرض ، فحذف المضاف بدليل قوله : فكانت ضربة سوء على الناس وما يتلوه ، وقد مضى مثل ذلك والختم قد فسر . لكن ما هي هذه الضربة ، فإنه لم يعين نوعها ، بل وصفها بأنها ضربة سوء ؟ ويجب علينا أن نتطلب ذلك بتتبع القرائن اللفظية والمعنوية والحالية .

أما اللفظية : فلم نظفر منها بتعيين ، حيث أن قوله ضربة سوء يشعر بأنها ليست ضربة قاتلة كالوباء والسيف والحريق وما يشبه ذلك ، وإلا لكانت مريحة لهم من الضربات الآتية ، ولكانت الضربات الآتية تبطل.

قوله : « على الناس المختومين من الوحش والساجدين لصورته» ، يشعر بثلاثة أمور ، أولها : عموم هذه الضربة عليهم . وثانيها : أنها ليست بضربة قاتلة بل معذبة . وثالثها : أن هذه الضربات إنما تكون في أواخر الدولة الدجالية بعد وسم الناس وسجودهم لصورة الدجال الطمثة(الغير واضحة).

وأما القرائن المعنوية : فإذا اعتبرنا هذه الضربات السبع ، لوجدناه قد جازي بأكثرها ضربات الأبواق التي في أيام الشهيدين العظيمين ، وذلك أن الثانية – في الضربات الأولى – هي قلب ماء البحر دما وموت ثلث حيواناته فص 40] ، وفي هذه كذلك ، لكن مات من هذه كل حيواناته [فص 78] وأما الثالثة في تلك فوقوع نجم يمرر مياه الأنهار ويقتل كثيرا من الناس [فص وفي هذه تنقلب المياه دما فيكون شربه عقوبة للناس من غير موت [فص 79] ، وهما متقاربان . وأما الرابعة هناك فانكساف النيرين والكواكب وهنا احترار الشمس فتنبعث منها السموم فيجدف الناص [فص 80] ، وبالجملة فالاثنتان في الشمس . وأما الخامسة هناك فصعود دخان العمق كأتون عظيم فتظلم منه الشمس والجو [فص 44] ، وهنا يظلم كرسي الوحش [فص 81] وأما السادسة هناك فهبوط الأربعة الملائكة لقتل ثلث الناس [فص 48) ، وهنا جفاف نهر الفرات لتعدية الملوك من المشارق لقتال الدولة الدجالية [فص 82] فقد اجتمعتا في كونهما قتلا للناس . والسابعة هناك أصوات سمائية تقول إن مملكة العالم صارت لله نص ٥٧] ، وهنا آثار سماوية وانهدام المدائن بالزلزلة التي فيها [فص 86] . فهذا التشابه بين الكائنين في ست ضربات قد بيناه وبقية الأولى التي هي المقصود فإن هناك برد ونار مختلطان بدم أحرق ثلث الأرض والشجر وكل العشب الأخضر [فص 39] ، وأما في هذه في هذا الفص ۷۷] فلم يعين نوعها ، بل أبهمت ، ولم يمكنا أن نفسر هذا المبهم الذي  لما بيناه من لم يعين بأنه أيضا برد ونار ودم حملا على ذلك المكان بالمشابهة ، لأن غاية تلك الضربة في فص 39] أن أحرقت وأهلكت ، وهذا في هذه الضربة ممنوع أن هذه ضربة عامة غير مهلكة . ثم اعتبرنا الفص الثالث والتسعين ، فألفيناه قد ذكرت فيه أربعة أنواع من العقوبات للمدينة المدعوة بابل ، مدينة مملكة الدجال ، وهي : موت وحزن وجوع وحرق . أما الموت والحرق فقد امتنع تفسير ضربة السوء بهما أو أحدهما لما بيناه ؛ وأما الحزن والجوع فممكنان ، وكذلك مرض من الأمراض المؤلمة ، والأرجح في هذه على حسب ظني هو الجوع ، فإنه يتبعه الألم والحزن وكل آفة ، فلنفسر هذه الضربة الأولى التي ذكر أنها ضربة سوء بأنها جوع ، وذلك بأن تقوى شهوة الغذاء فينتج منها مرض كداء الكلب – وتقل الحنطة والحبوب وما يتقوت به – فيعم البلاء المسكونة ويشتد بقوة الشهوة وهذا الداء كثيرا ما يعرض للناس في القحط ، وإن هذه لضربة سوء كما قالت الرؤيا.

78- (3) وسكب الملاك الثاني جامه على البحر فصار دما مثل دم میت فماتت كل نفس في المياه.

هذه هی . الضربة الثانية ، وهي على ظاهرها . والبحر يريد به يريد به البحر الملح كما فسرنا ذلك في تفسير الفص الأربعين . ويجوز هنا أن يكون البحران معا : الأحمر الهندي الجنوبي والأخضر الرومي شمالاً.

وقوله : «مثل دم ميت فماتت كل نفس في المياه» ، أي استحال ماء البحر ، على عظمه وكثرته ، فصار دما كدم الميت . وسواء كان الميت وصفا للدم أو الدم مضافا إليه ، فإن المعنى واحد ، وذلك أن الدم في الميت يستحيل ماء أصفر صديدا له له كيفية منتنة سمية ، وهو بعينه الدم الميت . ولأن تنفس الحيوان البحرى إنما هو بالماء ، كما يتنفس الحيوان الأرضى بالهواء فحتما يموت كل حيوان في المياه منه . ولمانع ما ، لم تبلغ هذه المادة الرديئة أن تفسد مزاج الهواء(أي طبيعة الهواء ومكوناته) ، ولعل ذلك المانع أن الهواء لم يتكثف بكثفها الرديئة للزوجة جرم الماء ، أو أنها لم تلبث مدة تبلغ فيها التأثير على الهواء ، أو هو عصمة بالأمر الإلهي ، وإلا لهلك حيوان البر أيضا ؛ فهي إذن تعم حيوان الماء وخاصة به دون سواه.

رؤ16: 4-7

79- (4) وسكب الملاك الثالث جامه على الأنهار وينابيع المياه فصارت دما (5) وسمعت ملاك الماء يقول أنت صادق أيها الكائن والذي كان لأنك حكمت على هؤلاء (6) لأنهم سفكوا دم القديسين والأنبياء فأعطيت دما لهم ليشربوا لأنهم يستحقون (7) وسمعت صوتا من المذبح قائلا نعم أيها الرب الإله ضابط الكل أنت الحق وأحكامك حق.

قوله : « وسكب الملاك الثالث جامه على الأنهار وينابيع المياه فصارت دما » ، هذه هي الضربة الثالثة ، وهي تخص المياه المشروبة ، كالأنهار والآبار والبطائح( القنوات) وكل ماء يشرب . واعلم أن الماء المختار للشرب هو أن يكون رقيق القوام صافيا لا لون له ولا رائحة ولا طعما ، فأما مصيره دما فبأن يغلظ  قوامه ، ويتكدر صفاؤه ، ويحمر لونه ، وتزفر رائحته ، ويعاف طعمه . ولم يذكر في هذه الضربة أنه استحال صديدا، إذ لو كان كذلك لهلك بقية الحيوان وإذا اشتد العطش ولم يصادف الحيوان ماء ، شربوا هذه المياه الدموية مرغمين للضرورة ، فإن سالكي السبل المعطشة قد يبلغ بهم الحال إلى أن يشربوا ما يريقونه(أي ما يتبولونه) . فأما ماء البحر الزعاق فلا يسيغ اللهوات(البطن) شربه أصلا لشدة ملوحته ومرارته وزفرته وكراهيته وعدم الري به ، فهذه المياه أهون شربا منه ولعل ما يستنبط بالحفر من المياه ينبع أيضا دما ، وإلا لكان الناس يحتفرون كما فعل المصريون في مثل هذه الضربة أيام موسى وفرعون.

قوله : « وسمعت ملاك الماء يقول أنت صادق أيها الكائن والذي كان لأنك حكمت على هؤلاء» ، هذا الملاك الذي ذكر أنه ملاك الماء هو من الملائكة المتولين تصريف العناصر ، وهو غير الملاك الثالث صاحب هذا الجام ، إذ لو كان هو لقال الرسول : سمعته ، أو : سمعت الملاك فلما لم يقل ذلك ، علمنا إنه غيره . وهذا القول على سبيل الإعجاب بأحكام الله العادلة في سقى الدم لمن سفك دم قديسيه وأنبيائه ، وهذا هو الحق الذي لم يكن لهم محيص منه والصادق قد تقدم تفسيره في الفص التاسع والعشرين والكائن والذي كان قد مضى تقريره في الفص الثالث ، وهو يخص الآب بدليلين : أحدهما : لأنه لم يقل فيه والذي يأتي . والثاني : في تمام هذا الخطاب : «نعم أيها الرب الإله ضابط الكل».

 قوله : «لأنهم سفكوا دم القديسين والأنبياء يريد بالقديسين : الذين استشهدوا في الدولة الدجالية ، وبالأنبياء : الشهيدين العظيمين أخنوخ وإيليا اللذين قتلهما الدجال في أول دولته.

قوله : « فأعطيت دما لهم ليشربوا لأنهم يستحقون» ، هذا على ظاهره ، وفي قوله ليشربوا دليل على أنهم من عطشهم يشربون.

قوله : « وسمعت صوتا من المذبح قائلا نعم أيها الرب الإله ضابط الكل أنت الحق وأحكامك حق» ، السماع إدراك عقلى ومصدره عن الملاك ، وبقية الفص قد مضى مثله .

رؤ16: 8-9

80- (8) وسكب الملاك الرابع جامه على الشمس فأفادها أن تحتر على الناس حرارة عظيمة (9) فاحتر الناس وجدفوا على اسم الله الذي له السلطان على هذه الضربات ولم يتوبوا ومجدوه

هذه هي الضربة الرابعة . وهذا الاحترار يحصل بستة أسباب – منها ثلاثة باعتبار الفاعل ، الأول : مسامتة(مقابلة) الشمس للرؤوس ، فإن المسامتة تؤثر على اقتداح الأشعة . والثاني : بأن تطول مدة إقامتها فوق الأرض ، فإن النار مثلا ، وإن كانت ضعيفة ، فإنها إذا طالت مدة عملها ، فعلت فعل النار القوية والثالث : إذا اجتمعت معها الكواكب الدراري كالشعری العبور وكوكب الجبار إلى غيرها من المتحيرة ، أوجب من الحر باجتماع الأشعة ما لا يوجب مثله في تفرقها . ومنها سبب باعتبار القابل (المستقبل) ، وهو أن يكون المكان الذي تطلع عليه الشمس متعسبرا يلقى الأشعة التي تتفرع على جوانبه إلى وسطه كالأغوار والأودية والوهاد. ومنها سببان يعتبران بطريق العرض ، الأول : هبوط الرياح الشرقية ، فإنها بمرورها على أماكن حارة تحتر فتكون سموما كما أهبها الله تعالى عندما فلق البحر الأحمر على يد موسى لعبور بني إسرائيل فجففت لهم الطريق والثاني : أن لا تهب الرياح الباردة التي تكسر من حرارة الأشعة وتبرد النسيم ، فيقوى الحر لعدم الرادع .

فأى هذه الأسباب الستة أثره الملاك ؟ هل سير الشمس إلى حيز المسامتة لرؤوس أهل الأرض كلها على اختلاف المساكن في حين واحد ؟ وهذا ممتنع أو جعل الشمس تقصر في المسير حتى طال النهار أكثر أطول النهارات ؟ وهذا أيضا مستبعد . أو جمع الكواكب المذكورة إليها ؟ وهو أبعد . أو صير المساكن كلها غورا وأغوارا بعد أن لم تكن كذلك ؟ وهذا أشد بعدا . أم أهب الرياح الحارة ؟ أم أركد(أوقف) الرياح الباردة ؟ وكل هذه بعيدة نافرة عن مقصود الفص.

والجواب : ولا واحدا من هذه الأسباب التي ذكرها الطبيعيون تعتبر في هذه الآية ، لأنها في الشمس نفسها كما قال الفص ، والشمس نفسها ليس مُحرة لما يوجد من برد أعالي الأرض والجو ، إذ لو كانت الشمس حارة لأسخنت الأعلى فالأعلى والأقرب إليها فالأقرب : بل هذه الحرارة تصدر عن الشعاع الصادر عن نور الشمس الظاهرة على سطوح الأجسام الكثيفة لا سيما الصقيلة(اللامعة) فإنه يتصل فيها باتصال السطح ، وبحسب شدته توجب الحرارة حتى تبلغ إلى حد الإحراق . ويضاف إلى ذلك بقية الأسباب المذكورة ، فالسببان الأولان هما المسامتة وطول مدة تأثرها بالشعاع المتصل بالأرض لا بالشمس في السماء ، والثالث أيضا كذلك تأثيره بشعاعها مع أشعة الكواكب . وبقية الأسباب معتبرة بحسب القائل ، وبحسب العرض ، لا بحسب الشمس نفسها فالحق حينئذ أن الملاك أفاض على الشمس نفسها بالأمر الإلهي حالة حارة انبثت فيها ومنها ، فأثرت السموم المؤلمة المذكورة ، وهذا معنى قوله : : « وسكب الملاك الرابع جامه على الشمس فأفادها أن تحتر على الناس حرارة عظيمة».

ولقائل أن يقول : قد ذكرت الرؤيا أنفا ، في الفص السادس والسبعين أن صوتا قال للنلائكة أصحاب الضربات : «امضوا اسكبوا جاماتكم التي لغضب الله على الأرض» ، فكيف يقول هنا أن هذا الملاك سكب جامه على الشمس والشمس في السماء ، والذي في الأرض إنما هو شعاعها أو نورها لا هي؟  فمجيبه بأن السكب قد تقدم ، وأنه رمز على تنفيذ الأمر . وتنفيذ الأمر بالحقيقة هو إيجاد السموم على الأرض، لكن علته احترار الشمس والمعنى أنه نفذ الأمر بواسطتها ، وكلاهما تنفيذ للأمر.

قوله : « فاحتر الناس وجدفوا على اسم الله الذي له السلطان على هذه الضربات ولم يتوبوا ومجدوه » ، الله تعالى هو الفاعل الأول ، والملاك المأمور هو الفاعل الثاني ، والشمس هي العلة الثالثة ، والسموم التي المتهم هي العلة الرابعة . فلذلك قصدوا بالتجديف الفاعل الأول لانتهاء الأمر إليه ، بدليل قوله : الذي له السلطان ، والتجديف في اللغة هو كفر النعمة ، ويظهر أنه إنما يريد به السب والكلام والهجو ، والاسم يحتمل أن يراد به هنا المسمى ويراد به المجموع ، وأغرب ما سمع أنهم قد علموا أن نجاتهم بالتوبة ، وأن هلاكهم بإصرارهم على كفرهم ، ولم يتوبوا ولا قنعوا بإصرارهم ، بل تعدوا إلى الافتراء الذي يضر ولا ينفع ولعمري لو كانو مؤمنين صالحين حتى الجئوا بأدنى أمر من الأمور المؤلمة إلى الكفر والشر ، لفعلوا ، محتجين بأن ضرورة ما وقعوا فيه ألجأت إلى ذلك ، ولبسطوا أوضح عذر لهم . فأما الآن هذا الأدب البالغ المبرح ، لا يرتدون ، بل يزدادون كفرا وشرا وافتراء . وأما فائدة قوله : ولم يمجدوه ، فإن الشدائد ، كما تقدم لنا ، يلتجىء فيها الكافر إلى خالقه بالطبع ويمجده لكن هؤلاء ، لقساوتهم ، عاندوا طباع البشرية باختيارهم الردىء وتصميمهم عليه . أفليس استحقاق أن يضربوا بمثل هذه الضربات الشديدة وأشد منها ؟ نعم ، إنهم مستحقون .

رؤ16: 10-16

81- (10) وسكب الملاك الخامس جامه على كرسى الوحش فأظلم ملكه ومضغوا ألسنتهم من الألم (11) وجدفوا على إله السماء من الألم ومن أعمالهم لم يتوبوا .

هذه هي الضربة الخامسة . وكرسي الوحش يريد به رئاسته . قوله : «فأظلم ملكه» ، لفظة أظلم يحتمل أن تكون على ظاهرها ؛ فتكون الضربة ظلاما يغشى المسكونة في غير وقت الليل ، كما غشى الظلام المصريين أيام فرعون. ويحتمل أن يراد بها خمول الدولة الدجالية وإدبارها ، بما يؤثر على أهلها من هذه الضربات الشديدة ، فسمى إدبارها ظلاما . وكثيرا ما أطلق الأنبياء ذلك ، فقد قال حزقيال في حق منفیس ، ملك مصر في تلك الأيام : «وأغشى السماء بطفيتك(بإطفائي إياك) وأظلم كواكبها ، والشمس بالغمام تتغطى والقمر لا يضىء نوره ، وكل المنيرات التي في السماء أظلمها عليك وأجعل الظلمة في أرضك »، فقد بان ذلك ، وهذا الوجه هو المقصود بالقول لا الوجه الأول.

قوله : « ومضغوا ألسنتهم من الألم وجدفوا على إله السماء من الألم ومن أعمالهم لم يتوبوا » ، لم يذكر في هذه الضربة ما يقتضى الألم حتى يقول إنهم مضغوا ألسنتهم بسببه . فأي ألم هو هذا ، وما سببه ؟ أتراه ألم السموم الذي تقدم ذكره ؟ لكن ذاك أيضا ليس بألم يقتضى هذا المضغ ، لأن أعراض ألم سموم الشمس غشى وتهيج وعرق وسقوط قوة وما أشبه ذلك ، ولم يذكر قبلها أيضا ضربة تقتضى ذلك . فليبقى أن يكون حدث مع إدبار الدولة الدجالية عرض مؤلم طوى ذكره في عبارته عن هذه الضربة . وذكر الألم العارض عنه ليستدل عليه منه ، ويشبه أن يكون هذا المرض من نوع التشنج الذي سببه حرارة ويبس ، فإن الأعصاب التي في كل عضو تتقلص بمنزلة الأوتار التي نالتها حرارة النار فانقبضت ، وهو من الأمراض الصعبة ، وسببه السموم المتقدمة عن احترار الشمس ، وأعراض هذا المرض : لدغ وتلهف وعطش وغور العينين – كما يعرض من لسع الهوام المسمومة – بل هذا أشد لقوته وعمومه للأعضاء ، فيمضغ المبتلون به ألسنتهم من صعوبته ويجدفون ويستدل على مناسبة هذا التفسير من ضربة البوق الخامس بالجراد التي تلبست بحمي في أذنابها كالعقارب المحاذية لهذه الضربة لتقارب الألم فيهما والأعراض اللازمة عنه ، وقد مضى تفسير التجديف وأما قوله : « ومن أعمالهم لم يتوبوا » ، فإن الرسول لم يكرر ذكره جزافا بل متعجبا من عظم قساوتهم وتصميمهم رغم هذه الصعوبات.

82- (12) وسكب الملاك السادس جامه على النهر العظيم الفرات فجف الماء لتتهيأ الطريق للملوك الذين من مشارق الشمس .

 هذه هی الضربة السادسة ، وهي خاصة بنهر الفرات . وإنما يجف النهر لهبوب ريح عاصفة ترد جريانه وتعيد مده جزرا ، وبسموم تجفف قاعه ، كما جرى في البحر الأحمر عند عبور بني إسرائيل فيه مع موسى.

 قوله : «لتتهيأ الطريق للملوك الذين من مشارق الشمس» ، الكلام في هؤلاء الملوك الشرقيين وإتيانهم وقصدهم ، يشتمل على أربع مسائل :

المسألة الأولى : هل هم من شيعة الدجال ونوابه الذين تحت حكمه الطائعين له ، لا طاعة الملك ، بل طاعة تألهه ، وعبادته ، والسجود لمثاله وصورته ورفع البخور لها ، والقسم باسمه ، ووسمه على أيديهم وجباههم فقد سلف بأن أهل الأرض دانوا له – وأنه قسم الممالك واستناب فيها الرؤوس والقرون ؟ أم أن هؤلاء الشرقيين أمة أخرى لم تدخل تحت طاعته ؟

المسألة الثانية : وبتقدير أن يكونوا ممن آمن بالدجال وأطاعه – أو ليس ممن آمن به وأطاعه فهل جاءوا لطاعته ونجدته ، أم أتوا لقتاله وهلاك دولته بأمر إلهي ؟

المسألة الثالثة : من أية مظنة هم ؟ فإن جهة المشرق متسعة تشتمل على عدة إقاليم ومساكن.

المسألة الرابعة : من أي جنس هم ؟ فإن المشرق فيه من الأمم أجناس كثيرة.

وقد ذكر إيبوليطس فيما يجاب به عن ذلك : أما عن الأولى فإنه ذهب إلى أنهم من شيعة الدجال ونوابه . وأما عن الثانية فإنه قال : إن الرب لإمهاله ، سهل طريقهم حتى يأتوا إلى الدجال لنجدته وطاعته . وأما عن الثالثة والرابعة فلم يذكر فيها المفسرون شيئا – فإن هذا الفص من مشكلات الرؤيا.

ونحن نتتبع ما يمكن تحصيله من ذلك بقدر الاستطاعة ، فنقول : أما القول بأن هؤلاء الملوك من شيعة الدجال أتوا لنجدته ، فمناف لمقصد القول بعدة وجوه :

الأول : لو كان الأمر كذلك ، لم تكن هذه ضربة على الدولة الدجالية بل آية عملت لها وعناية بها.

والثاني : إنه من الشناعة أن يقال أن الله أرسل ملاكه ليجفف نهر الفرات حتى يأتى ملوك كفار لإعانة الدجال على قتال سيد الكل والمؤمنين به.

والثالث : إنه من الممكن السهل أن يعبر هؤلاء الملوك نهر الفرات بخيلهم ورجلهم ، إما على جسر يمدونه ، أو بمراكب ينزلونها ، أو بأخشاب يجمعونها ويعبرون عليها ، أو يخوضون من أماكن تخاض فيه معروفة على عادة مستمرة لمن تقدمهم ، ولا يحتاجون إلى تجفيفه.

والرابع : أن الدجال يمكنه تسهيل سبلهم بقدرة ملکه وسحره ويستغنون عن هذه الآية العظيمة.

وأما غير ذلك ، فإن لكل مملكة إقبالا وإدبارا ، فإقبالها لعمل تعمله وإدبارها لغاية تنتهى إليها . فإذا أدبرت دولة ، ظهرت عليها دولة أخرى تضادها يكون بها فناؤها وتلاشيها كما ظهرت الدولة العبرانية فأهلكت عدة دول من الأمم الثمانية بأرض كنعان لما كملت خطاياهم وأدبرت دولهم . وكذلك لما أدبرت الدولة العبرانية ظهرت عليها دولة الكلدانيين فأبادتها ، وأباد الماهيون الكلدانيين ، وأباد الفرس الماهيين ، وأباد اليونان الفرس ، وأباد الروم اليونان وهلم جرا . وكل ذلك بالضرورة ثابت في العلم الإلهي ، كائن بالإرادة العالية الإلهية ، مأمور به ملائكة تولى كل دولة ملاك منها كما جاء في نبوة دانيال هذا ما كان قديماً.

وأما في عصر الرسل ، فقد ذكر في سيرة متى الرسول فيما حكاه لبطرس وأندراوس إخيه عند مصادفته لهما وقد عاد من بشرى بلاد البربر ، قال : إنه لما بشر في بلاد المغبوطين باسم سيدنا يسوع المسيح ، قالوا له : نحن نعرف هذا الاسم ، وغدا تشاهد من بشرتنا به عيانا . فلما كان الغد ، ظهر ربنا يسوع المسيح له المجد على غمامة مضيئة في قوات تسبحه ببيعتهم فسجدوا أمامه ، وعلمهم وأوصاهم وباركهم وصعد عنهم . وأن متی الرسول سألهم من هم حتى استحقوا هذا الأمر العظيم ؟ فقالوا : « ألم يبلغك خبر تسعة الأسباط ونصف الذين أدخلهم الرب أرض الميعاد ؟ نحن هم . » ثم وصف من نقاوتهم وعفتهم وزهدهم وخدمتهم الهياكل وصدقهم وسكونهم ما وصف إذا عرفت ذلك ، فلم لا يجوز أن يكون هؤلاء الملوك الذين من مشرق الشمس هم هذه الأمة ، إدخرها وأخفاها ، ثم يظهرها عند إدبار الدولة الدجالية لإهلاكها ؟ كما أن يأجوج ومأجوج في مساكنهما ، لا يوصل إليهما في الدولة الدجالية . ولكنهم معدون ليوم خروجهم على الأرض قبل القيامة العامة حسبما تذكره هذه الرؤيا فيما يأتى . ويكون تجفيف نهر الفرات لتهيئة طريق هؤلاء الملوك ضربة للدولة الدجالية وعناية بهم وآية لهم . وهو ، وإن كان من جملة الضربات التي تحل بدولة الدجال ، فإن له اعتبارا بوجه آخر وهو أنه أول مبادىء الحرب العظيمة . وأما إمكان عبورهم بطريق من الطرق التي ذكرنا فهو ظاهر

لكن الآية جعلت لظهورهم علامة نصرتهم وخذلان الدولة الدجالية وبالجملة ، قد صرح عزرا النبي بذلك وتنبأ عليه وشرحه وأراحنا من تقريره والاستدلال عليه ، وهو قول الوحي في تفسيره له ما رأه ، من ذلك حيث يقول عن سيد الكل والأمة الغريبة التي رأته ونادها للصلح ، فهم بقية التسع القبائل والأسباط التي سباها شلمناصر ملك السريان في أيام نوف ملك إسرائيل ، وبعث بهم إلى أرض أخرى خلف الأمم التي نُفوا إليها ، وما سكنت حتى سكنوها ونصبوا أنفسهم لعبادة الله ، فأجازهم مداخل الفرات ومخائضه بضيق ، لأن العلى صنع بهم العجب وأحسن إليهم وأقام المياه لهم حتى جازوا النهر ، بعد أن صاروا في أرض أون سنة ونصف .. فإذا أتوا في الزمن الأخير ، سيقيم لهم العلى مياه النهر حتى يجوزوا .

فقد تبين من هذا جواب المسائل الأربعة ، وهي : أنهم غير الشيعة ، وأنهم أتوا لإهلاكها وقتلها بالسيف بالأمر الإلهي ، ويغلب على الظن أنهم هم المغبوطون الذين ذكرهم متى الرسول ، أوأن جنسهم عبرانيون.

83- (13) ورأيت في فم التنين وفي فم الوحش وفي فم النبي الكذاب ثلاثة أرواح نجسة مثل ضفادع (14) لأنها أرواح شياطين تصنع آيات في ملوك الأرض لتجمعهم إلى حرب اليوم العظيم الذي لله ضابط الكل

قد عرفت أن الرؤية في الرؤيا إدراك عقلى كإدراك الحس للمبصرات وأن التنين هو الشيطان ، وأن الوحش البحرى هو الدجال ، وأن النبي الكذاب الذي يقيمه أمامه هو الوحش البرى.

وأما الفم فيريد به النفس لما بينهما من المشابهة ، وذلك أن الفم مصدر اللفظ والنفس مصدر لمعنى اللفظ ، فتشابها في المصديرة وفي أن الصادرين عنهما متلازمان ، والأشباه والمتلازمات يدل بعضها على بعض قوله : «ثلاثة أرواح نجسة مثل ضفادع لأنها أرواح شياطين» ، مراده بالروح هنا قوة تقتدر بها على أفعال غير إلهية خارقة للمعتاد . وهذه الأرواح ، وإن كانت ثلاثة بالشخص ، فهي واحدة بالنوع ، وهي للتنين بطباعه .

 وللوحشين بالاكتساب منه ، فإن التنين يفيضها على الوحش البحرى كما قالت الرؤيا متقدما [فص 62] ، والوحش البحري يفيضها على النبي الكذاب وأما كونها نجسة فمعلوم على ظاهره . وتشبيهها بالضفادع لسماجتها ونجاستها وقذارتها . وإضافتها للشياطين على سبيل التشبيه.

قوله : « تصنع آيات في ملوك الأرض لتجمعهم إلى حرب اليوم العظيم الذي لله ضابط الكل» ، معلوم أن الشيطان في قوته وقدرته أن يطوف الأرض كلها في لحظة واحدة ، كما بين ذلك في سفر أيوب عندما قال الله تعالى له : «من أين أتيت ؟ قال : طفت الأرض جميعها وهانذا » فهذه حركته . وأما علمه فمنبسط روحاني لأنه مجرد عن المادة ، مع أنه – بخطئه نقص عن بساطته الأولى في علمه وقدرته ، وكذلك الحال في أعوانه وملائكته.

وأما الملوك الذين ذكروا أنهم أتوا من مشارق الشمس ، وإن كانت مساكنهم أخفيت أولا عن علم الشيطان والدجال والنبي الكذاب ، فلا يخفى عنهم حركتهم بعد خروجهم ومسيرهم ، فلذلك يهتمون بالجمع والحشد على هؤلاء الملوك الشرقيين لقتالهم.

ومملكة الدجال منبسطة على الأرض وأقطارها متباعدة . فلو أخذ يسير رسلا وينتظر عودتهم ومجيء العساكر لطال وفات القصد ، لأن أقصى الأقطار يحتاج في الأقل إلى مسير سنة كاملة وإلى أكثر من ذلك حتى تصل الرسل ، إلى مدة أخرى مثل ذلك ، تصل فيها العساكر إلى مدينة القدس.

فلذلك كانت الآيات التي يصنعها التنين والدجال والنبي الكذاب هي تسيير الأرواح إلى سائر الجهات والأقطار والممالك ، إما بمكاتبة أو بمشافهة ليسرع حضورهم في المدة اليسيرة بباعث شديد وحركة مسرعة . وهذا معنى قوله : « تصنع آيات في ملوك الأرض لتجمعهم إلى حرب اليوم العظيم» وكل يوم فيه واقعة عظيمة إما بخير أو بشر ، فإن الأنبياء وأرباب الوحى يسمونه يوم الرب بدليل قول أشعياء : «هذا يوم الرب الآتي» ، وقول ملاخي : « وهانذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب العزيز المخوف ».

84- (15) ها أنا آتي كلص فطوبى للذي يحترس ويحفظ ثيابه كيلا يمشى عريانا فينظرون سوءته

.

هذا الفص معترض بين كلامين متصلى المعنى الأول بالثاني . فإن آخر الفص الماضي : « تصنع آيات في ملوك الأرض لتجمعهم إلى حرب اليوم العظيم الذي لله ضابط الكل» ، وأول الفص الآتى : « فجمعتهم إلى الموضع المدعو بالعبرانية أرماكادون» ، وهذا كلام متتالى النظام ، وقد اعترض بينهما هذا الفص للعناية بإيقاظ السامعين . لأنه لما ذكر اجتماع الملوك للحرب العظيمة نبه على سرعة مجيئه له المجد ، وأن الوقت الذي ينعم فيه الأبرار قد حان وآن ، ليكون تيقظ السامعين أعظم ، فيدعو إلى توبة الأشرار وتسلية (3) أصحاب الشدائد ومسرة الأبرار . ثم أخبر أن مجيئه كمجىء اللص وفي حين غفلة عن الانتظار ، وكذلك قال في الإنجيل المقدس : «لأنه في ساعة لا تظنون يأتى ابن الإنسان»(٤) ، ثم قال أن مجىء ابن البشر يكون كما جاء الطوفان أي في حين لم يرتقب . وقال أيضا أن مجيئه كمجىء الفخ على الطائر عند انطباقه حال غفلة الطائر . وكذا قال بولس الرسول : «لأنكم تعلمون أن يوم الرب يأتى كسارق ».

قوله : « فطوبى للذي يحترس ويحفظ ثيابه كيلا يمشى عريانا فينظرون سوءته» ، قد مضى تفسير الطوبي ، والاحتراس على ظاهره والثياب رمز على الثبات والصبر كما تقدم ، والعرى هو الخور وقلة الثبات والسوءة رمز على الخزى ، وصار تقدير القول : السعادة لمن يحفظ ثيابه وصبره کی لا یخور فيظهر خزیه

85- (16) فجمعتهم إلى الموضع المدعو بالعبرانية أرماكادون

هذا الفص مكمل للفص الثاني والثمانين ومتمم لمعناه . والضمير في قوله فجمعتهم إشارة إلى حشود الرجال والملوك الآتين من مشارق الشمس لتكون الحرب العظيمة في الموضع المدعو بالعبرانية أرماكادون ، ومعنى هذا اللفظ الموضع الواطي وأما تعيينه ، فقد ذكره إيبوليطس أنه وادى يهوشافاط ، آخذا من قول يوئيل النبي : « وأجمع كل الشعوب وأهبطهم إلى وادي يهوشافاط »، ويظهر أن هذا النص ليس بمقول عن هذه الواقعة ، لأن أوله : «في تلك الأيام وفي ذلك الزمان أسترد سبى يهوذا وأورشليم» ، ثم قال : « وأجمع كل الشعوب وأهبطهم إلى وادى يهوشافاط » ، فبهذا تبين إنه مختص بآل يهوذا عند عودتهم من سبي بابل على يد زربابل ، وانتصاره على الذين حوله المانعين له من بناء بيت المقدس وعمارة أورشليم .

رؤ16: 17-21

86- (17) وسكب الملاك السابع جامه على الجو فصرخ صوت عظيم من الهيكل ومن وجه العرش قائلا قد كان (18) فكانت رعود وبروق وأصوات وكانت زلزلة لم يكن مثلها قط بهذا المقدار (19) فصارت المدينة العظيمة ثلاثة أجزاء ومدن الأمم سقطت وبابل العظيمة ذكرت أمام الله لتعطى كأس خمر حنق الغضب (20) وكل الجزائر هربت والجبال لم توجد في مواضعها (21) وبرد مثل صنجات الميزان سقط من السماء على الناس فجدف الناس على الله من الضربة والبرد الكثير جدا .

إن قوله : « وسكب الملاك السابع جامه على الجو» يعني أن الضربة كلها الآثار العلوية.

قوله : « فصرخ صوت عظيم من الهيكل ومن وجه العرش قائلا» ، أما السكب والجام والهيكل والعرش فقد تقدم الكلام عليها ، وأما الصوت في الرؤيا فمدرك عقلى كما أن السماع فيها إدراك عقلي ، والغرض به التهويل والإنذار بالضربة قبل كونها ليعلم صدورها عن القصد الإلهى والصوت مع ذلك علامة لها . قوله : «قد كان» ، أي قد قضى هذا الأمر وحتم بالإرادة الإلهية قوله : «فكانت رعود وبروق وأصوات» ، هذه الحوادث على ظاهرها تكون في ذلك الوقت ، بدليل قوله : « وكانت زلزلة لم يكن مثلها قط» ، وأنها هدمت ثلث المدينة . وكانت هذه الأصوات الثلاثة ترد وهي الرعود والبروق والأصوات ، ثم يعقبها الزلزلة . فالصوت الأول مؤذن بكون الآثار الأربعة التي ذكرت . والبرق والرعد مقدمـة لهبوط البرد الذي سيأتي ذكره . والزلزلة سبب لغوص الجزائر في البحار واندكاك الجبال وتفرق أجزائها . وإن زلزلة تفعل مثل هذا الفعل لزلزلة هائلة وحادث جلل ، ولهذا قال : «لم يكن مثلها قط» ، ومن العجب أن يبقى معها جدار قائم أو حيوان حي وقد دكت الجبال وغوصت الجزائر ، لكن الإرادة الإلهية شاءت حياة من يحيا لمعاينة هذه الحوادث العجيبة الغريبة والاتعاظ بها وتسبيح الله من أجلها.

واعلم أن العلماء الطبيعيين يعطون لهذه الآثار العلوية أسبابا إذا جرت في الوجود على مجراها الطبيعي ، فأما إذا أتت على طريق المعجز الخارق العادة الوجودية ، تبعث الأسباب الأمر الإلهي للوقت مسخرة دون أن تلزم نظامها الوجودي أو تقف عنده ، بل تبادر خاضعة طائعة لأمره تبارك وتعالى.

فأما الأسباب التي ذكرها الطبيعيون ، فهي : أن البخار الرطب والدخان يلتفان عند صعودهما من أسفل ويرتفعان إلى الطبقة الباردة من الهواء فيجمد البخار سحابا ويحتبس ذلك الدخان في باطنه ، فإن بقى الدخان حارا قصد العلو ومزق السحاب تمزيقا عنيفا فصوت هذا التمزيق هو الرعد وإن برد الدخان وقصر عن الصعود اتجه إلى أسفل ومزق السحاب أيضا فكان عنه الرعد . ولأن الدخان لطيف فيه مائية وأرضية عملت فيها الحرارة والحركة والخلخلة والممازجة عملا ، قرب مزاجه من الدهنية ، فهو لا محالة يشتعل بأدنى سبب لا سيما بالحركة الشديدة والاحتكاك القوى فعند قوة حركته إذا تمزق السحاب فيشتعل فذلك هو البرق . وقالوا : ربما كان البرق سببا للرعد ، فإن الدخان عندما يشتعل وينطفىء في السحاب ، فصوت انطفائه هو الرعد.

فهذه أسباب البرق والرعد . وأما سبب الأصوات والزلزلة ، فقد بينا ذلك في تفسير الفص الثلاثين ، ونحن نعيده هنا ، فنقول : إن الزلزلة إما أن تكون تحت الأرض أو فوقها أو مركبا منهما.

أما التي تحت : فإن الدخان إذا تولد تحت الأرض وكان حارا كثير المادة ووجه الأرض متكاثف منسد المسام والمنافذ ، ثم حاول ذلك الدخان الخروج فلم يتمكن ، فحينئذ يتحرك في ذاته ويحرك الأرض ، وربما بلغ من قوته إلى أن يشق الأرض فيخرج نارا وأصواتا ريحية هائلة . ومتى وقع هذا الشق في بلدة أو عندها جعل أعاليها سافلها ، أو تسيل مياه كثيرة في أغوار الأرض فتهتز الأرض لثقلها.

وأما السبب الذي فوق الأرض ؛ فهو أن تسقط رؤوس الجبال ، إما لفرط رطوبة بأمطار أو يبوسة لحر الشمس ، فإذا سقطت تزلزلتن بها الأرض ؛ ووقوع هذا أقل من الأول.

قوله : « فصارت المدينة العظيمة ثلاثة أجزاء ومدن الأمم سقطت » ، أما المدينة فسنبين إنها بابل المشار بها إلى مدينة القدس . وأما مصيرها ثلاثة أجزاء فلا يخلو أنه يريد بذلك المدينة نفسها أو أهلها أو المجموع . فإن كان مراده المدينة نفسها ، فمعناه أم جزءا منها يخرب ويندثر ، وجزءا يبقى سالما وجزءا ثالثا ينهدم بعض الهدم القابل للإصلاح . وإن كان مراده أهل المدينة فجزء يعتل ويهلك ، وجزء يسلم بعد معاينة ومعاناة تلك الأهوال ، وجزء ثالث يحيا أشخاصه لكنهم معلولين محطمين بين الحياة والموت ، وبين السلامة والمرض . وإن كان مراده المجموع ، فقد بان مما قلناه . وسقوط مدن الأمم دليل على أن هذه الحوادث تعم وترتج بها الأرض جميعها ، وتسقط المدائن كما ذكر.

ويبقى سؤالان ، أحدهما : هل يموت أهل هذه المدائن التي تسقط أو يحيون ؟ ويظهر أنهم يكونون على الأقسام الثلاثة التي تقدم ذكرها والآخر : لماذا خصت الزلزلة المدائن بالهدم دون البلاد والقرى ؟

والجواب : إن هذا دليل ظاهر على أن الزلزلة إنما تعرض بقصد إلهى خارق العادة ، فلذلك خصت المدائن بالسقوط دون سواها مع تعميم الزلزلة على الأرض كلها . وكيفية ذلك أن القدرة العالية أمرت البخار الدخاني أن يشق الأرض في كل مدينة أو عندها فيصير عاليها سافلها للوقت كما بينا ذلك قوله : « وبابل العظيمة ذكرت أمام الله لتعطى كأس خمر حنق الغضب » من إنما أراد ببال هذه مدينة القدس ، ولم يرد بابل مدينة بختنصر ، بعدة دلائل ، الأول : أنه ميزها عن تلك بقوله العظمى فميزها بالعظمة عن بقية المدائن بعد أن ذكر اسمها فأتى بممييز بعد تمييز الثاني : أن بابل تلك خربت وذكر جماعة الأنبياء أنها لا تعود تعمر إلى الأبد ، ولا يوقد فيها سراج ، ولا يسمع فيها صوت استجلاء عروس ، بل تكون موطنا لبنات أوى وفراخ النعام وموطنا للشياطين ، فمن الممتنع أن تعود تعمر الثالث : أن للنبوات بمثل ذلك عادة ، فإن أشعياء يخاطب أهل أورشليم : «اسمعوا يا مسلطی سدوم وانصتوا لشريعة إلهنا يا شعب عمورة » ، ولهذه الرؤيا عادة أن تسمى مدينة القدس كل حين باسم مدينة ما إذا غلب على أهلها في ذلك الوقت أفعال أهل تلك المدينة . فإنها ذكرت في الفص الخامس والخمسين عن الشهيدين أخنوخ وإيليا : « وتكون جثتاهما في شارع المدينة العظيمة المدعوة روحيا سدوم ومصر حيث صلب سيدهما فيه»، ومضى إيضاع ذلك بأن تسميتها سدوم لأجل لواط أهلها وتظاهرهم بالفحشاء في ذلك الوقت ، ومصر لأجل إغراقهم في عبادة الأوثان . وبين فيها أن المراد هو مدينة القدس بقوله : « حيث صلب سيدهما » ، وكذلك هنا لما كان ألمها في ذلك الوقت يغلب عليهم السحر وعادة الأوثان سماها بابل . الرابع : تصريحه بذلك وتنبيهه في الفص السادس والتسعين ، إذ قال عن بابل هذه : «لأن بأدويتك ضل الأمم جميعا ووجد دم الأنبياء والقديسين فيها »، وقد قال الإنجيل المقدس بأن : « نبيا لا يهلك خارجا عن أورشليم». فقد ظهر ذلك ظهورا بينا . فأما من ذكرها أمام الله ؟ فهم الملائكة ونفوس الشهداء والصديقين الذين يستغيثون في كل حين ويسألون الانتقام لدمائهم حسب ما تقدم ذكره وشرحه . وكأس الخمر يربد بها الانتقام الإلهي ، وبين ذلك بإضافته إلى حنق الغضب ، وكثيرا ما أطلق الأنبياء كأس الخمر على الانتقام الإلهي ، فإن المزمور يقول : « وفي يد الرب كأس صرف وهو يديرها من هذا إلى هذا »، ويقول أشعياء النبي في نبوة على رد سبى أورشليم : «انتبهى انتبهي وانهضي يا أورشليم التي شربت من يد الرب كأس غضبه» » وأما إضافته الحنق إلى الغضب ، فلأن الحنق قد يكون لتأديب الأخيار إذا هفوا ، وقد يكون الغضب على الأشرار إذا استفحلوا في الخطايا ، وهو المراد هنا ، على أن معنى الحنق والغضب متقاربان لغة قوله : «وكل الجزائر هربت والجبال لم توجد في مواضعها » ، هذا القول تتمة آثار الجام السابع . وإنما اعترض حديث بابل بينها للإخفاء والإبهام ، إذ عادة النبوات المرموزة أن تدخل كلاما أجنبيا بين كلامين متصلين فيختلط المعنى ويقف الفهم ، فهرب الجزائر غوصها في البحار عند انتفاض الأرض بالزلزلة العظيمة أي لم توجد ولا عرف مكانها ، وهذه تشبه حال الهارب وصفته ، ولذلك وصفها بالهرب . أما كون الجبال لم توجد في مواضعها فلأمرين ، أحدهما : أنها غاصت في الأرض وألحمت عليها الأرض فلم يعرف لها موضع . والثاني : لأنها تهدمت وتفتت بالزلزلة التي ذكرت ونشفتها الرياح فلم يعرف موضعها . فيا لعظم هذا الأمر وما أشده.

 قوله : «وبرد مثل صنجات الميزان سقط من السماء على الناس» هذا أثر خامس بعد الأربعة التي ذكرت ، وهي الرعود والبروق والأصوات والزلزلة وفي البرد أبحاث ، منها : أن الصنجة والوزنة في اللغة القبطية واليونانية يدل عليهما لفظة واحدة مشتركة بينهما ، فهي تدل بقول مطلق على الشيء الذي يوزن به قل أم كثر ، وذلك من القنطار إلى الدرهم فما دونه قوله أن البرد سقط من السماء : البرد لا يكون في السماء ، ولكن في الجو حيث يجمد فيه البخار الرطب لفرط برودة الهواء . فإن كان ذلك في الجو الأعلى ، كان البرد صغيرا لبعد المسافة . وإن كان في الجو الأدنى ، كان البرد أكبر لقربها . وكأن الأمرين حصلا هنا ، ولهذا وصفه بأنه كثير جدا ؟ والجواب : إن عادة اللغات جارية بتسمية كل ما علا : سماء ، فقيل : سماء البيت إشارة إلى سقفه ، وأجريت المخاطبة هنا على هذه العادة المجازية . ومنها : ذكره أن البرد سقط على الناس . فهل لم يسقط على غير الناس من شجر وأرض وحيوان ؟ والجواب : إنه سقط على الكل لعمومه وكثرته ولكنه خص الناس بالذكر ليعطى سببا لتجديفهم مما أصابهم من شدة هذا البرد العظيم . وسقوطه على غير الناس معلوم ومستغنى عن ذكره لظهوره.

قوله : « فجدف الناس على الله من الضربة والبرد الكثير جدا » ، يشير بالضربة إلى جملة الآثار الخمسة التي للجام السابع . ولشدة ما أصابهم من كثرة البرد ، أخيرا أطلقوا ألسنتهم بالتجديف ، فيا لقساوة هذه الأمة وكفرها إذ في الوقت الذي وجبت فيه التوبة والخضوع والخوف من الله واستكفاء جبروته العظيم ، أطلقت ألسنتها النجسة بالسب والافتراء . فظهر من هذا استحقاقها لحلول الغضب والانتقام ومعاناة هذه البلايا ومقاساتها . فنسأل الله العفو وخاتمة صالحة بلطفه ورأفته ، آمين وهذه الآثار الخمسة نظير آثار البوق السابع التي في أيام إنذار أخنوخ وإيليا عندما ذكر انفتاح الهيكل وظهور تابوت العهد.

 تفسير رؤيا 15 تفسير سفر الرؤيا تفسير العهد الجديد  تفسير رؤيا 17
ابن كاتب قيصر
تفاسير سفر الرؤيا تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى