تفسير سفر الرؤيا أصحاح 4 للقمص تادرس يعقوب
الباب الثاني
الرؤى النبوية
مقدمة
رأينا في القسم الأول الرب يسوع يكشف ذاته للكنيسة لتجد فيه كل احتياجاتها. ثم تعرض لأحوال الكنائس السبع موضحًا حال الكنائس في كل عصر، وحال المؤمن من حين إلى حين، ومقدمًا النصائح والوصايا حتى لا يتعثر أحد في الطريق.
وفي هذا القسم يرفع الروح أنظار يوحنا إلى السماء ليرى مشورات الله وتدابيره تجاه أولاده بالرغم من مقاومات الشيطان وجنوده لهم. لهذا يرى ثلاث سلاسل من الرؤى تكشف عن جوانب ثلاثة لفترة بهاء الكنيسة على الأرض إلى يوم مجيء الرب للدينونة:
السلسلة الأولى: السبعة ختوم، وهى تتحدث عن الكنيسة المتألمة موضع عناية الحمل. ويختتم هذه الختوم بالمختومين، وبمنظر الكنيسة في الأبدية، ليعلن عن اهتمام اللّه بالكنيسة على الأرض كما في السماء. السلسلة الثانية: السبعة أبواق، وهى تعلن عن إنذارات الله للعالم للتوبة، وتختتم بظهور المرأة الملتحفة بالشمس وأعدائها الثلاثة، معلنًا بطلان مقاومة إبليس للكنيسة، مطالبًا البشرية أن يكون لها نصيب مع المرأة الملتحفة بالشمس.
السلسلة الثالثة: السبع جامات، حيث يسكب الله جامات غضبه ليتوبوا. ويختتمها بالكشف عن حقيقة المرأة الزانية المتزينة المملوءة خداعًا وغشًا، حتى يهرب الناس منها.
ملاحظة هامة
رأى بعض إخوتنا البروتستانت أن ما جاء في هذا القسم هو إعلان غضب الله على العالم، إذ يكون الرب قد جاء واختطف الكنيسة إلى السماء (المجيء الثاني) حتى يهيئ الأرض بالتأديبات ليأتي مرة ثالثة فيملك على الأرض مع كنيسته ألف سنة. ثم يعود فيأتي للمرة الرابعة ليملك في الدينونة ملكًا أبديًا. وكأن للرب أكثر من مجيئين:
- مجيئه الأول : تجسد مخليًا ذاته حتى الصليب.
- مجيئه الثاني: يرى بعضهم أنه سيأتي قبل أن تتم الحوادث المعلنة في سفر الرؤيا (4-20) ليختطف الكنيسة.
- مجيئه الثالث: يرى بعضهم أنه سيأتي ليملك على الأرض مع كنيسته ألف سنة ملكًا أرضيًا ماديًا.
- مجيئه الرابع: يأتي ليدين الأحياء والأموات، ويجازى كل واحد حسب أعماله.
وقد اختلفت آراءهم فيما بينهم فمنهم من ينتظر الاختطاف قبل حلول الضيقة العظيمة وحالة الارتداد. ومنهم من نادى بأن بعض الكنيسة تختطف والبعض يبقى معاصرًا للضيقة، ومنهم من يرفض الفكرة نهائيًا حتى أن القس إبراهيم سعيد يقول [وما من شك أننا نحن المؤمنون نتمنى أن لا ندخل الضيقة العظيمة ومرات عديدة يكون التمني باعثًا على إيجاد الحقائق التي توافق الأماني.]
وإنني أظن أنه يليق أن نترك موضوع “مجيء المسيح الثاني” للحديث عنه بأكثر تفصيل في حينه أثناء التفسير. ولكن ما نؤكده أن إيمان الكنيسة أن للرب مجيئين فقط هما:
- المجيء الأول: مخليًا ذاته ليفتدينا.
- المجيء الثانى: ممَجدًا لنكون معه حيث هو كائن (يو 14: 2-3)، حيث يجازى كل واحدٍ حسب أعماله (مت 16: 27؛ 25: 31-46) لنملك معه إلى الأبد ملكًا روحيًا.
إذن ما جاء في هذا القسم (رؤ 4 إلى رؤ 20) يهم الكنيسة لأنه يخصها:
أولا: لو أن الكنيسة خلال هذه الحوادث مختطفة إلى السماء تنتظر الملك المادي الألفي، فلماذا كُتبت هذه النبوة؟
ثانيا: لو أن الكنيسة مختطفة، فلماذا لم يسجل لنا السفر اختطاف الكنيسة وكان هذا أليَق ليطمئن النفس عندما تسمع وترى ما سيحل من ضيقات ومرارة في هذا الوقت؟
ثالثا: يقول صاحب “الكنز الجليل في تفسير الإنجيل” للدكتور وليم آدي (ص 629) أن هذا القسم من الرؤيا يكشف عن جهاد الكنيسة واهتمام السماء بها لكي تنجو الكنيسة رغم ما سيحل بها من نوازل وبلايا.
والحق أن هذا السفر يدور حول شخص ربنا كحملٍ مذبوحس من أجل الكنيسة ويتحدث عن نصرته في كنيسته. ونصرة الكنيسة ليس باختطافها بل بجهادها بالرغم من الآلام التي ستجتازها خاصة في أيام الدجال أو المسيح الكذاب كما سنرى.
ملاحظة أخرى
استخدم البعض نبوات سفر الرؤيا استخدامًا خاطئًا، فحولوا غاياته من كلمة حية محيية لإشعال القلب تجاه الأبدية منتظرًا مجيء الرب ليرث ويملك إلى الأبد ما لم تره ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر، وكوسيلة لتعليم القلب حياة الصلاة والتسبيح إلى وسيلة لمحاولة معرفة الأحداث المقبلة والأزمنة بالأرقام، حتى حدد البعض متى يأتي الرب ليخطف الكنيسة ومتى يأتي ضد للمسيح وتاريخ مجيء المسيح للملك الألفي، الأمر المحزن للنفس والمفسد لغاية الكلمة وقوتها.
لقد سأل الفريسيون الرب: متى يأتي ملكوت السماوات؟ (لو 17: 20)
فأجابهم “لا يأتي ملكوت الله بمراقبة، ولا يقولون هوذا ههنا أو هوذا هناك، لأن ها ملكوت الله داخلكم“، أي وجَّه أنظارهم إلى حياتهم الداخلية التي هي عربون الملكوت الأبدي، بدلاً من حساب الزمن لمجيئه.
ثم عاد الرب فأكد لهم ألا ينشغلوا بالأزمنة إنما “ينبغي أولاً أن يتألم كثيرًا” (لو 17: 25). وكأنه يوجه أنظارنا إلى الصليب.
واختتم حديثه بقوله: “حيث تكون الجثة هناك تجتمع النسور“، أي لنكون كالنسور محلقين في السماويات، ومتى جاء الرب نجتمع نحن به وحوله وفيه.
ظهور السفر المختوم
v المشهد السماوي ص 4.
v ظهور السفر ص 5.
الأصحاح الرابع
المشهد السماوي
هذا الأصحاح بمثابة “مشهد سماوي” يلهب قلب الكنيسة. فبالرغم مما تعانيه من أتعاب، أو تشعر به من ضعف وهوان، إلاّ أن نصيبها هو الثالوث القدوس الممجد من السمائيين، لهذا رأى الرسول:
السماء المفتوحة 1.
“بعد هذا نظرت وإذا باب مفتوح في السماء،
والصوت الأول سمعته يتكلم معي قائلاً:
اصعد إلى هنا، فأريك ما لا بد أن يصير بعد هذا!” [1]
كثيرًا ما يكرر “بعد هذا“، وهي لا تعنى تعاقبًا في الزمن، وإنما تعنى أنه قد انتقل إلى رؤية جديدة. وإننا نجد بعض الرؤى المتعاقبة تتحدث عن فترة زمنية واحدة في رؤى متعددة للتأكيد أو التوضيح أو الكشف عن جانب مغاير للجانب الأول.
فإذ ختم وصف حال الكنائس بالباب المغلق في وجه الرب، والرب مصمم على عدم مفارقته يسأل مُلحًا ويقرع متوسلاً أن تفتح له النفس قلبها ليدخل ويتعشى معها. تجد الرب يكشف لنا أن باب السماء “مفتوح” على الدوام في وجوهنا. كل من يصعد إليه، يدخل منه، ليعرف أسرار حب الله للبشر، ويدرك مقدار المجد المُعَد له، فتتوق نفسه أن يخلى ذاته عن كل ما هو أرضى، ليبقى على الدوام في السماويات.
ولكن من الذي يرى السماوات مفتوحة؟
يوحنا المنفي في بطمس، ويعقوب الهارب من وجه عيسو (تك 28: 12-13)، وحزقيال المسبي (حز 1: 1) وإسطفانوس المطروح للرجم (أع 7). في وسط الضيقات والمتاعب يكشف الله للنفس تعزياته لتتلذذ نفسه مبتهجة!
وما هي السماوات المفتوحة؟ يقول الأسقف فيكتورينوس: [إنها العهد الجديد الذي هو الباب المفتوح في السماء… إنه مفتوح بما فيه الكفاية، لأن السيد المسيح صعد بناسوته إلى الآب في السماء.]
لقد صعد الرب إلى السماء كغالب ومنتصر، وكما يقول القديس أمبروسيوس صعد متزينًا بغنائم مدهشة، لأن الداخل فيها ليس إنسانًا واحدًا بل دخل المؤمنون جميعًا في شخص المخلص.
لهذا لا يكف الرب عن التبويق بصوتٍ عالٍ قائلاً: “اصعد”…
العرش الإلهي 2 – 3.
“للوقت صرت في الروح،
وإذا عرش موضوع في السماء،
وعلى العرش جالس” [2.]
ما أن نطق الرب بكلمة “اصعد” حتى صار الرسول “في الروح”. وهكذا كل نفس تستمع للرب وهو يناديها تصعد في الحال مهما تكن رباطاتها وثقل جسدها.
وماذا رأى الرسول؟ رأى عرشًا وعليه يجلس “العظمة الإلهيّة”، ومن بهاء جلاله لم يعرف ماذا يلقب الله فدعاه “الجالس“، وهكذا فعل ما فعله إشعياء (6: 1) ودانيال (7: 3). إذ لم يقدر أحد أن يلقب الله باسم ما لأنه مبهر للغاية.
وقبل أن ندخل في تفاصيل ما رآه الرسول يجدر بنا أن نتوقف قليلاً لنتأمل وندهش من صنيع الرب العجيب. فإن ما رآه نجد له ظلالاً ورموزًا وأشباهًا في العهد القديم في خيمة الاجتماع وهيكل سليمان. ونجد له ما يطابقه في كنيسة العهد الجديد بكونها عربون السماء!
- رأى الرسول عرشًا في السماء، وعلى العرش جالس، وكان لهذا رسم في القديم حيث كان تابوت العهد الذي في قدس الأقداس يشير إلى حلول الله.. أما اليوم فإننا نتمتع بالعربون، لأنه قائم وسطنا مذبح يتربع عليه الرب المصلوب هنا، نأكل جسده ونشرب دمه!
- رأى 7 منائر ذهبيّة تقابل السبع سرج للمنارة في القديم، واليوم نستخدم السرج (القناديل) أمام هيكل الرب، لأنه حال في وسطنا فعلاً!
- في السماء رأى بحرًا زجاجيًا [6] يقابله بحر النحاس (1 مل 7: 23)، واليوم نجد المعمودية التي بدونها لا يقدر إنسان أن ينال التبني ويرث الملكوت أو يعاينه!
- في السماء نرى 24 قسيسًا من فئة كهنوتية سماوية. واليوم يفرز الله له كهنة يقدمون له بخورًا وصلوات باسمه!
- يحمل العرش أربعة مخلوقات حية، يقابلها الكاروبين المظللين للتابوت، واليوم تحمل الأناجيل الأربعة الكنيسة وتصعد بها إلى حيث عرشه، تقدمها له عروسًا مقدسة.
- في السماء سمع الرسول تسبحة الحمل والثلاث تقديسات وتسابيح متعددة، والكنيسة لا تكف عن الترنم بهذه التسابيح جميعها في كل يوم، بل منها تسابيح تترنم بها كل ساعة من ساعات صلواتها كتسبحة الثلاث تقديسات، لأنها لا تكف عن الاشتراك مع السمائيين في التسبيح!
- وماذا نقول عن المجامر الذهبيّة والثياب البيض والهيكل والمذبح الخ. أقول بحق من يحيا في الكنيسة الحقيقية، كنيسة المسيح الرسولية، كما عاش فيها الآباء لن تكون السماء ولا تسابيحها ولا من بها ولا ما فيها غريبًا عنهم، لأنهم ذاقوا هنا واختبروا ورأوا وسمعوا وتمتعوا بعربون ما سيكون وقتئذ.
نعود مرة أخرى إلى الجالس على العرش لنرى:
“وكان الجالس في المنظر شبه اليشب والعقيق
وقوس قزح حول العرش في المنظر شبه زمرد” [3].
إذ بُهر الرائي لم يعرف بماذا يصف أو يعبر، لهذا أكثر من قوله “شبه” أو “كما” أو “مثل”. إنها تشبيهات لتعبر عما يختلج في نفس الرائي ما استطاع.
أ. رأى الرب في المنظر شبه اليشب والعقيق، وهما الحجران الكريمان (آخر وأول حجرين) اللذان يرصعان صدرة رئيس الكهنة (خر 28: 20، 17) وهذه الحجارة كانت تشير إلى الأسباط. وكأن الله يضع على صدره أصغر إنسان وأكبر إنسان، كل البشرية محفوظة في قلبه، لأنها عمل يديه.
ب. حجر اليشب غاية الشفافية يرمز لمجد الله (رؤ 21: 11)، ويشير إلى بهاء قداسته، وبساطة محبته للبشر فلن يحمل ضغينة ضد إنسان ولا يود الانتقام.
وحجر العقيق أحمر اللون كالنار يشير إلى رهبته وعدله.
وقوس القزح يحيط بالعرش من كل جانب. أينما تقابلنا مع الله رأينا العهد الذي ارتبط به مع الإنسان (تك 9)، إذ يود على الدوام أن يتصالح الكل معه. لهذا يقول الرسول: “كأن الرب يعظ بنا: تصالحوا مع الله“.
هذا القوس له ألوان كثيرة تعلن عن إحسان الله ومواهبه المتعددة التي يمنحها لأولاده. وهو كقوس يشير إلى القوس الذي يستخدم في الحرب مدافعًا عنا، لكن بغير سهم لأنه لا يحب سفك الدم، به نغلب الخطية وندوس على الشيطان.
وهذا القوس شبه الزمرد. وهي في صدرية الحبر الأعظم تشير إلى سبط لاوي، أي يشير هذا القوس المحيط بالرب إلى عمله الكهنوتي يشفع فينا بالدم الكريم.
والزمرد يميل إلى الخضرة لا يتأثر بالشمس أو الظل، وخضرته تبعث في النفس هدوءًا وسرورًا حتى أن نيرون كان يضعه قدامه عند تعذيبه للمسيحيين حتى لا تتأثر مشاعره، وهكذا كلما ارتفعت أنظارنا إلى العرش هدأت نفوسنا وامتلأت سلامًا وأدركنا دوام خضرته في عمله معنا.
ما هو حول العرش الإلهي 4 – 11.
“وحول العرش أربعة وعشرون عرشًا،
ورأيت على العروش أربعة وعشرون قسيسًا (شيخًا)،
جالسين متسربلين بثياب بيض،
وعلى رؤوسهم أكاليل من ذهب.
ومن العرش يخرج بروق ورعود وأصوات.
وأمام العرش سبعة مصابيح نار متقدة هي سبعة أرواح الله.
وقدام العرش بحر زجاج شبه البلور” [4-5].
رأى الرسول يوحنا:
أ. الأربعة وعشرين قسيسًا:
كلمة “قسيس” أو “شيخ” في النص اليوناني تحمل معنى العمل الكهنوتي. لهذا منذ القرون الأولى لم تختلف الكنيسة في أمر هؤلاء بل أدركت سمو مركزهم كطغمة سمائية كهنوتية، لهذا رتبت لهم عيدًا تذكاريًا ورتبت لهم ذكصولوجية خاصة بهم، وتضعهم في مقدمة السمائيين بعد الأربعة مخلوقات الحية.
ولكن في وقت متأخر جدًا لما بدأت تظهر فكرة اختطاف الكنيسة قبل وقت الارتداد وظهور ضد المسيح، بدأ البعض يحاول تثبيت هذا الفكر بتأكيد أن الأربعة وعشرين شيخًا هم الكنيسة المختطفة وأن ما يصنعونه في السماء إنما هو عمل الكنيسة وقت اختطافها إلى حين عودتها مع الرب لتملك معه الألف سنة على الأرض.
لكننا نجد أن إخوتنا البروتستانت أنفسهم لا يهضمون هذا الفكر كقول القس إبراهيم سعيد إن البعض يراهم ملائكة من طغمة ممتازة يقودون العبادة في الأقداس السماوية، خاصة وأن يوحنا الرسول يخاطب أحدهم قائلاً: “يا سيد” (رؤ7: 14)، وقد دُعي الملائكة شيوخًا كما في (إش24: 23).
ويمكننا أن نلمس مكانتهم في الكنيسة الأولى مما قاله عنهم القديس كيرلس الأورشليمي: [لقد أمرنا الآباء أن يهتم كل المسيحيين بتذكارهم لما شاهدوه من كرامتهم وعلو مجدهم، هؤلاء غير المتجسدين، لأنهم قريبون من الله ضابط الكل، وهم أمامه في كل حين يشفعون في الخليقة جميعها، صارخين مع الأربعة مخلوقات الحية قائلين: قدوس، قدوس، قدوس.
عظيم هو مجدهم أمام الرب أكثر من الآباء والأنبياء والرسل والشهداء والقديسين، لأن أولئك جميعهم مولودون من زرع بشري، أما هؤلاء الكهنة الروحانيين فسمائيون، ليس لهم أجساد يمكن أن تتدنس بالخطايا كالبشر.
ما أشرف هذه المكانة التي استحقوها! لأن الملائكة وكل بقية الطغمات السمائيّة واقفون أمام الديان العادل، وهؤلاء جلوس على كراسي نورانيّة لابسون حللاً ملوكيّة، وعلى رؤوسهم أكاليل مكرَّمة، وفي أيديهم مجامر ذهبيّة مملوءة صلوات القديسين، وفي أحضانهم جامات ذهبيّة، ويسجدون أمام الحمل الحقيقي، يسألونه غفران ذنوب البشر!
إنهم لا يفترون عن التسبيح والتهليل أمام رب الصباؤوت (الجنود) مع الأربعة المخلوقات الحية.
غير أنه يلزمنا كقول القديس أمبروسيوس ألاّ نتخيل العروش أو الجلوس عليها بصورة مادية، لأن هذه مجرد تعبيرات عن مقدار سموّ الكرامة والسعادة!
أما الثياب البيض فكما يقول ابن العسال تشير إلى بهائهم ومجدهم وبرّهم وقداستهم.
ويرى الأسقف فيكتورينوس أن هؤلاء القسوس هم كائنات سماوية، وفي نفس الوقت يرمزون لأنبياء العهد القديم الذين يحيطون بالرب معلنين بروح النبوة عن تجسده وآلامه وقيامته وصعوده.
والآن نترك الحديث عنهم إلى أن نعود إليهم أكثر من مرة خلال هذا السفر.
- البروق والرعود والأصوات الخارجة من العرش:
إذ تخرج من العرش الإلهي لا نفهمها بصورة مادية، بل يبرق الله علينا بمواعيده السماويّة التي هي غاية كلمته بل وجوهرها. المواعيد العظمى التي يعلنها بالروح القدس في داخل النفس طولاً وعرضًا، فيتبعها دموع التوبة ورعد انسحاق القلب.
ومواعيد الله أو كلمته كالبرق الذي يراه الناس في حياة الكارز قبل أن يرعد به لسانه.
أمّا الرعود فهي تشير إلى عمل الروح في قلب المؤمن، إذ يبكته فيتزلزل جحوده وينكسر كبرياؤه.
أمّا وقد رعد القلب صارخًا نحو الرب إذا “بأصوات” خارجة من العرش، هي أصوات حنان الله ومحبته المعلنة على فم كاهنه: “الرب قد نقل عنك خطيتك!”
وهذا كله يتم في الكنيسة بالروح القدس، لهذا رأى الرسول وأمام العرش سبعة مصابيح نار متقدة هي سبعة أرواح الله” [5]. إنه روح الله الذي ينير الكنيسة ويعمل فيها خلال الأسرار السبعة من أجل مصالحتهم مع الله ونوالهم المجد الأبدي. هذا كله لن يتحقق إلاّ بالمعمودية، لذلك قال:
- “وقدام العرش بحر زجاج شبه البلور”
لقد انتهي الرمز وزالت الظلال، فلم يعد “للمرحضة النحاسية والبحر النحاسي” (خر 30: 18-20؛ 1 مل 7: 39) وجود، وصار لنا “المعموديّة” التي بها ننال التبنّي، وبدونها لا نعبر إلى العرش الإلهي لأنها قدامه كبحر زجاجي شبه البلور، وبغيرها لا يعاين أحد ملكوت الله (يو 3: 5).
يقول الأسقف فيكتورينوس إن هذا البحر يشير إلى المعموديّة، إذ يلزم لكل من يرغب في الالتقاء بالجالس على العرش أن يخوضه، فتخترق نعمة الله داخل نفسه، ويتهيأ للملكوت. أما كونه شبه البلور فلأنه يليق بالمعتمدين أن يكونوا صارمين ثابتين.
إنها كبحر زجاجي لأن من يدخلها تنعكس عليه إشعاعات الجالس على العرش المضيء كالشمس، فيستنير بالرب ويلبس المسيح.
وهي كالبلور التي متى سقطت عليه أشعة شمس البرّ، أعطى ألوان الطيف، واهبًا للمعتمدين ألوانًا متعددة من المواهب والفضائل. تتجمع معًا لتكون لونًا شفافًا هو لون أشعة الشمس. هكذا يجتمع المؤمنون المعتمدون معًا مع اختلاف مواهبهم وفضائلهم، معطين صورة جميلة لمسيح واحد قدوس نقي!
وأكثر الألوان ظهورًا في ألوان الطيف التي تظهر بسبب البلور هي:
أ. اللون الأحمر، إذ بالمعمودية نتطهر بدم المسيح من كل خطايانا.
ب. اللون الأخضر، إذ بها نأتي بثمار خضراء كثيرة وبركات متعددة.
ج. اللون الأزرق، لأننا بها نصير سماويّين كقول القديس مقاريوس الكبير: [يرسل الرب إلى هنا روحه الخفيف النشيط الصالح السماوي وبواسطته يخرج النفس التي غطست في مياه الإثم ويصيرها خفيفة ويرفعها على جناحه تجاه أعالي السماء.]
- المخلوقات الحية الأربعة:
“وحول العرش أربعة مخلوقات حية”.
والحديث عن هذه الطغمة السمائيّة حلو ولذيذ للنفس، لأنه حديث عن المركبة الإلهيّة، الحاملة للعرش الإلهي. وهم طغمتا الشاروبيم والسيرافيم اللتان تطلب الكنيسة شفاعتهما على الدوام وتعيد لهما في 8 هاتور كعيد تذكاري، وتدعوهما “الغير متجسدين حاملي مركبة الله”.
أ. كرامتهم: يقول عنهم القديس يوحنا الذهبي الفم: [أقول لكم يا أولادي الأحباء إنه ليس من يشبههم في كرامتهم لا في السماء ولا على الأرض، لأنهم حاملون عرش الله، ولا يستطيعون النظر إلى وجه الحي الأزلي: مخلوقون من نور ونار، أقوياء، أشداء جدًا يسألون الله أن يغفر خطايا البشر ويتحنن عليهم… إشعياء النبي رأى مجدهم ونطق بكرامتهم (6: 1-3). وحزقيال النبي نظر مجدهم ونطق بكرامتهم (1: 4-28). وداود العظيم في الأنبياء، أب الأنبياء، أب المسيح بالجسد، رأى كرامة هؤلاء الروحانيّين ونطق بمجدهم قائلاً في المزمور “طأطأ السموات ونزل وضباب تحت رجليه، ركب على كروب وطار وهف علىأجنحة الرياح” (مز 18: 9-10).]
ب. بلا عروش ولا أكاليل مثل القسوس، لأن الرب إكليلهم وهم مركبته!
ج. “مملوءة عيونًا من قدام ومن وراء” [6]، وكما يقول ابن العسال إنها تشير إلى إدراكهم الأسرار الحاضرة والمقبلة التي يكشفها الرب.
د. “لكل واحدٍ منها ستة أجنحة”، وكما نسبح الرب قائلين له: [أنت هو القيام حولك الشاروبيم والسيرافيم، ستة أجنحة للواحد وستة أجنحة للآخر. فبجناحين يغطون وجوههم وباثنين يغطون أرجلهم، ويطيرون باثنين. ويصرخون واحد قبالة واحد منهم. يرسلون تسبحة الغلبة والخلاص الذي لنا بصوت ممتلئ مجدًا.]
هكذا يليق بالكاهن أن يتشبه بهم فيغطى وجهه بالحياء والرعدة، ويستر رجليه بالرجاء والثقة، ويطير قلبه بالحب والترنم أمام الرب المذبوح عنا!
وينصحنا القديس يوحنا الذهبي الفم قائلاً: [أنا أبوكم يوحنا المسكين. أسألكم يا أولادي الأحباء القسوس والشمامسة ألاّ تتقدموا إلى المذبح وأنتم غير أطهار، بل احفظوا أجسادكم ونفوسكم أنقياء إذا أردتم التقدم إلى الخدمة الطاهرة، فإنكم مثال السيرافيم السمائيّين، لأنهم لا يجسرون التطلع إلى وجه الله الحي، بل هم قيام ووجوههم إلى أسفل مغطاة بأجنحتهم! أيها الخدام إنكم تنظرون جسد ابن الله ودمه الزكي الموضوعين أمامكم على المذبح الطاهر وتلمسونه وتأكلونه وأنتم عارفون بعظم الكرامة اللائقة بهما، فينبغي عليكم أن تقفوا بوجوه فرحة وقلوب خائفة وأعين مطرقة إلى الأرض ورؤوس منكسة لأنكم مثال الشاروبيم والساروفيم الحاملين كرسي العظمة.]
ويقول أيضًا: [عندما تسمع عن السيرافيم أنهم يطيرون حول العرش في سموه ورفعته، ويُغطّون وجوههم بجناحين، ويسترون أرجلهم باثنين، ويصيحون بصوت مملوء رعدة، لا تظن أن لهم ريشًا وأرجل وأجنحة، فهي قوات غير منظورة… حقًا إن الله حتى بالنسبة لهذه الطغمات غير مدرك، ولا يقدرون على الدنو منه، لهذا يتنازل بالطريقة التي جاءت في الرؤيا، لأن الله لا يحده مكان ولا يجلس على عرش… وإنما جلوسه على العرش واحاطته بالقوات السمائيّة إنما هو من قبيل حبه لهم… وإذا ظهر جالسًا على العرش وقد أحاطت به هذه القوات لم تتمكن من رؤيته ولا احتملت التطلع إلى نوره الباهر، فغطّت أعينها بجناحين ولم يكن لها إلا أن تسبح وتترنم بتسابيح مملوءة رعدة مقدسة، وأناشيد عجيبة تشهد لقداسة الجالس على العرش. فحري بذلك الذي يتجاسر ليفحص عناية له التي لا تقدر القوات السمائيّة على لمسها أو التعبير عنها أن يختبئ مختفيًا تحت الآكام!]
ه. شكلهم: إنهم قوات غير جسدانيّة ولا منظورة، لكنها ظهرت ليوحنا الحبيب كما لحزقيال النبي هكذا: “المخلوق الحي الأول شبه أسد، والمخلوق الحي الثاني شبه عجل، والمخلوق الحي الثالث له وجه مثل وجه إنسان، والمخلوق الحي الرابع شبه نسر طائر” [7].
أولاً: ترى الكنيسة أن الأول يشفع في حيوانات البرية، والثاني في حيوانات الحقل، والثالث في البشر والرابع في الطيور. أما الزواحف فليس لها ما يشبهها، لأن منها الحية التي لعنها الرب، ولا الحيوانات البحرية لأن البحر يشير إلى القلاقل، والسماء كلها هدوء وسلام!
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنهم روحانيّون، خلقهم الله وأقامهم وتوجهم بالبهاء والنور ثم جعلهم يطلبون في جنس البشر وسائر الخليقة من وحوش وبهائم وطيور السماء، لأنهم قريبون منه له المجد أكثر من سائر الروحانيّين السمائيّين.]
ثانيًا: يرى القديس غريغوريوس النزينزى والعلامة أوريجينوس أن هذه الخليقة الحاملة للعرش تحمل معنى قوى النفس الأربعة التي تتقدس بحمل الله فيها وهي:
أ. القوى الغضبية ويشار إليها بشبه الأسد.
ب. الشهوانية ويشار إليها بشبه العجل.
ج. النطقية ويشار إليها بمن له كوجه إنسان.
د. الروحية ويشار إليها بشبه نسر طائر.
ثالثًا: ويرى القديس إيرونيموس أنها تحمل أيضًا إشارة إلى العمل الفدائي للرب.
أ. فمن له كوجه إنسان يشير إلى التجسد.
ب. ومن مثل العجل يشير إلى الذبح على الصليب.
ج. ومن مثل الأسد يشير إلى القيامة.
د. ومن مثل نسر طائر يشير إلى الصعود.
رابعًا: ويرى القديس إيريناؤس أنها تحمل أيضًا رمزًا إلى العمل الفدائي من جهة:
أ. من له كوجه إنسان يشير إلى التجسد.
ب. من مثل العجل يشير إلى طقس الذبيحة والكهنوت، إذ هو يشفع فينا.
ج. من مثل الأسد يشير إلى قوة عمله وسلطانه الملوكي وقيادته.
د. من مثل نسر طائر يشير إلى إرساله الروح القدس ليرفرف على كنيسته.
خامسًا: ويرى القديس إيريناؤس أنها تشير إلى الأناجيل الأربعة. كذلك الأسقف فيكتورينوس إذ يقول: [المخلوق الحي الذي يشبه الأسد يشير إلى مرقس الذي نسمع فيه صوت الأسد يصرخ في البرية (مر 1: 3). والذي في شكل إنسان هو متى الذي يجتهد في إعلان نسب العذراء مريم التي أخذ منها السيد المسيح جسدًا. ولوقا يروى كهنوت زكريا مقدمًا ذبيحة عن الشعب.. يحمل العجل. ويوحنا الإنجيلي كمثل نسر طائر يرفرف بجناحيه مرتفعين إلى الأعالي العظمى متحدثًا عن كلمة الله.]
وتمتاز هذه المخلوقات بالأجنحة. هكذا تحمل الأناجيل الأربعة أجنحة كثيرة إذ تحمل البشرية وتطير بها أمام العرش الإلهي مقدمة إياها كعروس مرتفعة نحو السماويّات.
إن القسوس حول العرش، أما المخلوقات الحية فحاملة العرش، هكذا كُتب الأنبياء حولنا تخبرنا عن الفداء، لكن الأناجيل ترتفع بنا، وتنقلنا إلى جو السماويات إلى العرش الإلهي. ولا غنى لنا عن هؤلاء أو أولئك.
و. تسبيحهم الدائم “ولا تزال نهارًا وليلاً قائلة: قدوس، قدوس، قدوس، الرب الإله القادر على كل شيءٍ الذي كان والكائن والذي يأتي.
وحينما تعطى المخلوقات الحية مجدًا وكرامة وشكرًا للجالس على العرش الحي إلى أبد الآبدين.
يخر الأربعة وعشرون قسيسًا قدام الجالس على العرش، ويسجدون للحى إلى أبد الآبدين، ويطرحون أكاليلهم أمام العرش قائلين:
أنت مستحق أيها الرب أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة، لأنك أنت خلقت كل الأشياء، وهي بإرادتك كائنة وخُلقت” [8-11].
يا له من منظر مبدع متى يا رب ننعم به ونراه!
المخلوقات الحية كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم [يصرخون الليل والنهار بلا فتور يسبحون الحي الدائم قائلين قدوس قدوس قدوس.] ويمجدونه من أجل قدرته ومن أجل صنيعه معهم، ومع كل خليقته، خاصة البشر.
ولا يحتمل الأربعة وعشرون قسيسًا هذا المنظر حتى يقوموا من على كراسيهم، وينزعوا أكاليلهم ويطرحونها عند أقدام الرب، ويخروا قدامه من أجل عظمة استحقاقه وقداسته ومحبته وعنايته!
ويتكرر المنظر لا مرة ولا مرتين، ولا ألف ولا ألفين، ولا عشرات الربوات، بل يبقى هكذا إلى الأبد تهيم كل الخليقة في حب الله ولا تعلم ماذا تقدم له من أجل عظم بهائه ومن أجل كثرة صنيعه وحبه لنا.
والعجيب أن موضوع تسبيح السمائيّين هو “الغلبة والخلاص الذي لنا”. يا للعجب! لقد كشف لنا سفر الرؤيا مقدار حب السمائيّين لنا، لأنهم يسبحونه عنا، أو يسبحونه لأجل عمله معنا!
كما فتح سفر الرؤيا للكنيسة بابًا جديدًا أخفي كل أعمالها في هذا الباب وهو تعليم أولادها “حياة التسبيح”، لأن هذه هي نغمة سفر الرؤيا، لغة السماء كلها.
لقد ذكر سفر الرؤيا حوالي 20 تسبحة، وكأنه يبوق لنا: “تعلموا لغة السماء… تهيأوا للشركة مع السمائيّين في عملهم”.
وإنني لا أكون مبالغًا إن قلت أن ما في الكنيسة هو حمد وشكر وتسبيح:
أ. فلا تسمح بعمل القداس الإلهي الذي هو مكافأة الله لنا ونحن على الأرض، إلاّ بعد تقديم تسابيح طويلة بالليل وفي رفع بخور باكر كمدخل للشركة والثبوت في الرب بالتناول من جسده المحيى وشرب كأس الخلاص.
ب. يقام القداس الإلهي تسبحة شكر إذ هو “سرّ الشكر” نقبل فيه نعمة إلهيّة، بل واهب النعمة، لنثبت فيه وهو فينا. وكل القداس تسابيح متنوعة. لهذا يصرخ الكاهن في نهاية القداس قائلاً: “يا ملاك هذه الذبيحة الصاعد إلى العلو بهذه التسبحة أذكرنا أمام الرب”.
ج. يختتم الشعب القداس بالترنم بمزمور التسبيح: “سبحوا الله يا جميع قديسيه”.
د. بعد التناول يقول الشعب مترنمًا سرًا: “فمنا امتلأ فرحًا، ولساننا تهليلاً من جهة تناولنا من أسرارك المقدسة”.
ه. بعدما يصرف الكاهن الشعب يدخل الكاهن إلى الهيكل، ويّقبل المذبح في قرونه الأربعه قائلاً: “صفقوا للرب يا جميع الأمم، لتباركه كافة الشعوب“. وكأنه يدخل مصفقًا بيديه مسبحًا بقلبه، من أجل صنيع الرب مع كل البشرية.
و. في كل ساعة نصلي فيها إنما نقدم تسبحة تهليل للرب وحمد وشكر له، إذ نرنم قائلين مثلاً “تسبحة الساعة… من النهار المبارك، أقدمها للمسيح ملكي وإلهي وأرجوه أن يغفر لي خطاياي”… وماذا نجد في مزامير الأجبية أو السواعي إلا تهاليل وفرح وتصفيق وحمد وترنم!
ز. حتى في طقوس المناسبات الحزينة كأسبوع الآلام والصلاة على المنتقلين، تقدم الكنيسة ألحانًا غاية في الروعة، وتسابيح تبهج النفس الداخلية، وتملأها عزاء وسلامًا رغم حزن نغمتها!
س. وماذا تقدم الكنيسة المنتصرة في الفردوس إلا صلوات وتسابيح الحمد والشكر لله مع طلبات من أجلنا ومن أجل الأجيال القادمة!
إذن لنسلك بروح كنيستنا ولنرفع كل حين تسابيح الحمد التي علمتنا إياها الكنيسة والتي استقتها من الكتاب المقدس بعهديه أو من سفر التهليل والترنيم “المزامير” أو من تسابيح السماء الواردة في سفر الرؤيا أو من وضع الآباء بإرشاد روح الرب الخ. بهذا لا تكون السماء وتسابيحها غريبة عنا بل نكون قد تدربنا على لغتها ولمسنا روحها وعشنا في جوها.
تفسير رؤيا 3 | تفسير سفر الرؤيا | تفسير العهد الجديد |
تفسير رؤيا 5 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر الرؤيا | تفاسير العهد الجديد |