تفسير رسالة رومية اصحاح 1 د/ موريس تاوضروس
الاصحاح الأول
مقدمة عامة (رو1: 1-17)
بولس الرسول يحدد رسالته
1- بولس عبد المسيح، المدعو رسولا ، المفرز لانجيل الله.
2- الذي سبق فوعد به بأنبيائه في الكتب المقدسة
بولس : دعي بولس الرسول من أبويه بأسمه العبراني شاول، ومعناه “مطلوب”، ومن المحتمل أن يكون الرسول بولس، قد أخذ الاسم «بولس» عندما صار مواطنا رومانيا. كما أنه من المحتمل أيضا أن يكون قد سمي بهذا الاسم للتقارب بین اسمه شاول، وبين الإسم بولس في اللغة اليونانية حيث لا يختلف الأسمان إلا في الحرف الأول منهما تكتب الأول منهما، شاول، في اللغة اليونانية Saulos وهي نفس الحروف التي يكتب بها اسم بولس، باسـتـثـنـاء الـحـرف الأول (Paulos) وفي الاصحاحات الأولي من سفر الأعمال، يدعي الرسـول باسمه شـاول، وابتداء من الاصحاح الثالث عشر الي أخـر سـفـر الأعمال، يدعي اسمه بولس. أما في الـرسـائـل فيـدعـي علي الـدوام باسمه بولس.
كلمة “عبـد” استخدمت في العهد القديم بالنسبة لأنبياء الله “ان السيد الرب لايصنع أمرا الا وهو يعلن سـره لـعـبـيـده الأنبياء”(عا3: 17) .”أرسلت لكـم عـبـيـدي الأنبياء” (إر7: 25)، “وما سمعنا من عبيدك الأنبياء الذين باسمك كلمـوا ملوكنا ورؤساءنا “( را9: 7). وعلي هـذا النحو، دعي مـوسـي ويشـوع ابن نـون وداود، عـبـيـد اللـه ( انظر يـش1: 2 ، 24: 29 ، قض2: 8 ، مز4,2:86).
يفتخر الرسول بولس بأن يلقب نفسه عبد ليسوع المسيح . والعبودية للمسيح تقود إلي الحرية الحقيقية، لأن «عبد المسيح يكون حرا من أن يستعبد لشهوات جسده، ولايستطيع العالم أن يغريه بمفاتنه او يجذبه اليه. الذين يتخذون من المسيح سيدا لهم، لايخضعون لسلطان إبليس. فالعبودية للمسيح تحمل في نفس الوقت معني الحرية والسيادة والتحرر من العالم وشهواته. إن ا عبد المسيح يعيش في الأرض كإنسان سماوي متحررا من قيود المادة. يعيش في الجسد ولكنه يسلك في إنطلاق الروح وحريتها.
يسوع المسيح : كلمة يسوع، هي الكلمة العربية للاسم العبري يشوع، الذي يعني “يهوه يخلص”. وتشير الكلمة الي ناسوت المسيح. بينما تشير كلمة المسيح الي مسحته بالروح القدس. كان اسم يشوع من الاسماء الشائعة الاستعمال بين اليهود (خر17: 9 ، کو4: 11). وقد أعطي هذا الاسم لابن الله عند التجسد، كاسمه الخاص، بحسب أمر الملاك ليـوسـف ، وذلك قبل الولادة (مت1: 21). ولقد استعمل الاسم يسوع المسيح، كثيرا (انظر مت1: 1 ،18 ،16: 21 ، مر1: 1 ، یو1: 17)، وفي سفر الأعمال، غالبا يذكر «الرب يسوع، (أع8: 16، 19: 5). وفي رسائل يعقوب وبطرس ويوحنا ويهوذا هؤلاء الذين صحبوا المسيح في الجسد، يستعمل الاسم يسوع المسيح، فقد كان هذا هو نظام خبرتهم، فقد عرفـوا يسوع، أولا، ثم اختبروا عند قيامته أنه هو المسيح، أما الرسول بولس فقد عرفه أولاً في مجده السماوي (اع9: 1-6) ، ولذلك عبر عن خبرته في عبارة «المسيح يسوع، التي تذكر كثيرا في رسائله فهـو يستعمل الاسم بما يوافق مـضـمـون الخبرة، وهكذا فإن الاسم المسيح يسوع، يشير إلي المسيح في وجوده الأزلي الذي أخلي نفسه أخذا صورةعبـد (کو2: 6) ، اما الاسم يسوع المسيح، فيشير إلي يسوع الذي رفض واحتقر ومجد فيما بعد (في2: 11). إن الاسم المسيح يسوع، يشير إلي نعمته، بينما يشير الاسم يسوع المسيح، إلي مجده.
المدعو رسولا : تشير كلمة المدعو (Klytos) الي الدعوة إلى امتيازات خاصة لو الي عمل خاص وفي الرسالة الي رومية يشير الرسول إلى الدعوة إلى امتيازات الإنجيل “لان هبات الله ودعـوته هي بلا ندامة، (رو11: 29). وفي الرسالة الي أفسس يقـول أيضا “لتعلموا ما هو رجاء دعوته…” (اف1: 18). وتتميز الدعوة إلى الخلاص بصفتها العمومية (1تي2: 4 ،6 ،2کو5 : 15 ، 1يو2: 2).
وإذ يشـيـر الرسول إلي دعـوته فيقول «المدعو، فإنه يريد بذلك أن يؤكد أنه ، دعي للخدمة فاستجاب الدعوة، ويسمي الرسول بولس المؤمنين بالمدعوين قديسين». ان الرسول بولس يؤكد العامل الإلهي في دعـوته، وهـو بهذا يعادل نفسه بالرسل الإثني عشر، الذين دعاهم السيد المسيح للخدمة المقدسة. وتظهر قيمة هذه العبارة خصـوصـا فـي الرسائل التي حاول أهـلـهـا أن يتنكروا لأحقية بولس الرسول في الخدمة.
المفرز aphwrismenos : من الفعل يفرز aphwrizw بمعني «يعين، أو يخصص ، وكذلك بمعني “يفصل بحزم عن الباقين” (مت13: 49)، وتستخدم أيضـا بمعني ينتخب، أو يختار (اع13: 2 ، رو1: 1 ، غلا1: 15).
يشير الرسول، إلي أن الله، قد سبق (بسابق علمـه) فأفرزه وعينه وانتخبه واختاره لأن يخدم إنجيله. الله إذن هو الذي اخـتـار الرسول بولس، وهو الذي حدد أيـضـا مـوضـوع اخـتـيـاره. الخادم الحقيقي هو الذي يتلقي أولا الدعوة للخدمة من قبل الله. المؤهل الأول للخدمة الناجحة هو إخـتـيـار الله للخـادم. لابد أن تجيء الدعـوة إلي الـخـدمـة مـن قـبـل الله. وبدون ذلك، لن تنجح طريق الخادم ولن تفلح رسالته.
الإنجيل : كلمة إنجيل euaggelion ، تتكون من مقطعين (euaggelos) وتعني الأخبار الطيبة (أنظر مت4: 23 ، 9: 35). كما تعني تعاليم الإنجيل (مت26: 13 ، مر8: 35) وفي المعني المجازي تعني الوعظ والكرازة (1 كو4: 15 ، 9 : ١٤)، ولم ترد في الـعـهـد الـجـديد بمعني الكتاب. ويشير الرسول إلي الهدف من اختياره وهـو التبشير بالإنجيـل أي التبشير بملكوت الله وانقراض ملك الشيطان، والتبشير بغفران الله لخطايانا وبالقيامة من الأموات وبالحياة الأبدية، وعلي الأخص التبشير بالأخبار الطيبة، كما في الترجمة السبعينية (2صم18: 20، 25 ،27، 2مل7: 9).
الله (إنجيل الله) : ينسب الرسول بولس الإنجيل الي الله، لأن الله قد سبق منذ القديم واعد خطة الخلاص للبشر، وقد تحقق هذا الخلاص في الزمن بمجيء السيد المسيح اه المجـد الـي الأرض، وفي مواضع أخري يسمي الرسول الإنجيل، بإنجيل يسوع المسيح، لأن جوهر الإنجيل أو جوهر البشارة المفرحة هو في مجيء الرب يسوع وفدائه للبشرية.
الذي سبق فوعـد بـه بأنبيائه في الكتب المقدسة : ومعني هذا أن إنجـيـل الله أو الكرازة بالخلاص التي تعين الرسول بولس خادما لها، قد سبق فوعد الله بها منذ القديم بواسطة الأنبياء وكما تكلم بفم أنبيائه القديسين الذين هم منذ الدهر، (۱). ولقد سبق الله منذ القديم واعد خطة الخلاص للبشر، وقد تحقق هذا الخلاص بمجيء الرب يسوع عندما أكمل عمل الغداء ودفع دين الخطية. ويلاحظ أن عـبارة في الكتب المقـدسـة، تذكر في النص الـيـونـانـي بدون تعريف أي تترجم حـرفـيـا «في كتب مقدسة، وبذلك يكون التشديد علي صـفة القداسة التي تتصف بها هذه الكتب. أن القداسة هي ضمان وعلامة الأصل الإلهي لهذه الكتب.
المسيح محور الكرازة رو1: 3-6
3- عن ابنه الذي صـار من نسل داود من جهة الجسد 4 وتعين ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات يسوع ربنا الذي به لأجـل اسمه قبلنا نعمة ورسالة لاطاعة الإيمان في جميع الأمم 6 الذين بينهم أنتم أيضا مدعو ويسوع المسيح.
وقد كان من الطبيعي بعد ذلك أن يتحدث الرسـول عـن المسيح الذي هـو مـحـور الكرازة وجوهر البشارة المفرحة فقال عنه : ( عن ابنه الذي صار من نسل داود من جهة الجسدا . كان لابد للرسـول أن يشير إلي صلة المسيح بداود من جهة الجسد، فقد كان اليهود ينتظرون المسيح وابن داود. ومن الملاحظ أن كلمة « ابنه ، تذكر في النص اليوناني مسبوقة بأداة التعريف «ال اشارة الي بنوة المسيح الوحيدة الأصيلة أو هي البنوة بالطبيعة وليس بالتبني، وكلمة «الجسد، كما في (رو3: 20) تشير إلي الطبيعة الإنسانية كلها، وعبارة من جهة الجسدة توضح أن المسيح الذي هو ابن الله بالطبيعة، قد أصبح ابن الإنسان من جهة الجسد، أي أن للمسيح بنوتين : بنوة لله وبنوة للإنسان، فهو ابن الله وابن الإنسان أيضاً، ثم يتحدث الرسول أيضا من المسيح فيقول :
وتعين ابن الله بقـوة من جهـة روح القداسة بالقيامة من الأموات، يسـوع المسيح ربنا: ومن الملاحظ أن كلمة تعين oristhentos لاتعني أن المسيح قد اكتسب وضعا لم يكن له، أو أنه قد صار فيما بعـد ابن الله، وأنه لم يكن كذلك أولا، ولكن الكلمة تعني هنا، أنه قد اعترف ببنوته لله، وأنه هو ابن الله بالحقيقة، وأنه هكذا ظهر وهكذا كرز به وهكذا شهد له، وهكذا نبين للجميع، وكلمة «بقوة» تشير إلى المعجزات الكثيرة التي صنعها الرب يسوع والتي دلت علي قوته، أن هذه القوة فائقة الطبيعة، من قبل والروح القدس» تشهد علي أن المسيح هو ابن الله . علي أن قـيـامـة المسـيح من الأمـوات، هي من أهـم الـبـراهـين والأدلة علي بنوة المسيح لله، ويلقب الرسول المسيح بكلمة «ربنا» وفي الـعـهـد الـقـديم، في الـتـرجـمـة السبعينية، كانت تستعمل كلمة رب لتدل على الذات الإلهية. ويواصل الرسول بولس حديثه عن المسيح فيقول :
الذي به لأجل اسمه قبلنا نعمة ورسالة : وكلمة «نعمة» تشير إلي هبـة الخلاص التي نألها البشر جميعاً. وكلمة «رسالة، تشير إلي الهبة الخاصة التي نالها الرسول بولس كرسول أو كخادم للمسيح، فكان الرسول يشير إلي عطيتين قد أخذهما بواسطة المسيح : فهو أولا قد أخذ عطية الخلاص التي يشترك معه فيها البشر جميعا، لأن الخلاص أعطي للعالم أجمع. علي أنه فوق ذلك يشير إلي عطيـتـه الخاصة، أعطي أن يكـون رسـولا وكارزا بـاسـم المسيح. ثم يقول الرسـول بولس
لإطاعة الإيمان في جميع الأمم الذين بينهم أنتم أيضا مدعوو يسوع المسيح :
وعـبـارة الاطاعـة الإيمان، تعني أننا يجب أن نتـقـبـل قـضـايا الإيمان وحـقـائقـه بـكل طاعة وخضوع ، فـإن الـحـقـائق الإيمانية ليست هي هذه المعارف التي تستند فقط إلي الإقناع العقلي والبرهان المادي، بل هي حقائق موحي بها تستلزم الطاعة. إن عمل الإيمان هو أن نطيع وأن نقبل وأن نسلم بالحقائق المعلنة ونسير علي هـديـها في سلوكنا وتصرفاتنا، وبين هؤلاء الأمم المدعوين للإيمان، يشير الرسول بولس إلي أن أهل رومية، مدعوين لكي يكونوا من خاصة يسوع المسيح.
الذين كتبت إليهم الرسالة : رو1: 7
إلي جميع الموجودين في رومية، أحباء الله مدعوين قديسين، نعمة لكم وسلام من الله أبينا، والرب يسوع المسيح، (رو1: 7).
يوضح الرسول أن الـدعـوة المسيحية لاتقتصر علي شعب دون شعب، بل هي رسالة عامة لاتحدد بشعب معين بل تمتد إلي جميع الأمم، ومن بين هؤلاء الأمم يشير الرسول الي أهل رومية. ويصف الرسـول أهل رومية بأنهم «أحباء الله مـدعـوين قديسين». وعبارة «أحباء الله، تشير إلي محبة الله التي تمتد إلي جميع البشر ولأنه هكذا أحب الله العالـم حـتي بذل ابنه الوحيد، وفي حب الله لنا قـد دعانا لنكون قديسين، أي لنصيـر مـقـدسين في الروح القدس. مـحـبـة الله يجب أن تكون دافعا لنا لكي نسلك بالقداسة، ونصير قديسين، كما أنه هو قدوس. والحياة المقدسة تتمثل في الحياة مع الله والانفصال عن شرور العالم ومفاسده.
ويختم الرسول حديثه عن رسالته طالبا لأهل رومية أن تكون لهم انعمة وسلام من اللهر أبينا والرب يسوع المسيح» .
ومن الملاحظ في هذه العبارة أن الرسـول يسوي في الجوهر بين االآب والابن حـيث أن النعمة والسلام يصدران عنهما كليهما. أما كلمة نعمة، فهي تعني رحمة الله ومايتبع هذه الرحمة من خير وصلاح، وعلى الأخص تتمثل النعمة الإلهية فيمـا منحه الله لنا من غفران لخطايانا، ومن بنوة، أي أنها تتمثل علي الأخص فيما منحه الله من خلاص للبشر، لأن هذا الخلاص الذي تطلب أن يبذل الله ابنه الوحيد، هو قمة رحمة الله ومحبته للبشر.
الإيمان النامي :رو1: 8
أولاً أشكر الهي بيسوع المسيح من جهة جميعكم أن إيمانكم ينادي به في كل العالم (رو1: 8).
بعد افتتاحية الرسالة التي استغرقت الأعداد السبعة الأولى، يشير الرسول الي إيمان أهل رومية، وقد انتشر وذاع وأصـبح حديث العالم كله في ذلك الوقت. يقول الرسول «أولا اشكر الهي بيسوع المسيح من جهة جميعكم أن إيمانكم ينادي به في كل العالم» . ومن الملاحظ أن الرسول يبدأ حديثه بالشكر الذي يقدم لله، ذلك أن الفضل الأول في إيمان أهل رومية وفي ازدهار هذا الإيمان ونموه ونيوعـه يرجع إلي الله ويرد الـيـه. اللـه هـو علـة كل خـيـر وهـو عـلـة امـتـداد الإيمان واتسـاع رقعته. في كل شيء يجب أن نتقدم بالشكر لله، ويجب علينا كخدام في كرم الرب أن نحس بعمل الله وفضله علينا في الخدمة. فلنحذر لئلا ننسب فـضـل الـخـدمـة الينا وإلي جهودنا وأنا غرست رابلوس سقي لكن الله كان ينمي. اذن ليس الغارس شيئا، ولا الساقي بل الله الذي ينمي .. فإننا نحن عاملان مع الله وأنتم فلاحة الله، بناء الله (۱ کو ٣ : 6 – ٩) هنا لايقدم الرسـول الشكر لله من أجل أمر يخصه هو بل من أجل الآخرين. إلي هذا الحد تبلغ المشاركة الوجدانية بين الرسول بولس وأهل الإيمان ، فـهـو يحس بـخـيـرهـم كـانه خـيره الخاص، ومـوضـوع الشكر هو «إيمان، أهل رومية، لقد أمنوا بالمسيح إيمانا قويا فائقا حتي أن هذا الإيمان أصبح موضوع حديث الجميع في كل مكان. هذه صورة مجيدة لكنيسة رومية في القرن الأول الميلادي، وكم نتمني ان تكون صورة لكنيستنا في الوقت الحاضر، وعبارة «بيسوع المسيح، تشير إلى أن جميع العطايا التي نأخذها من الله، توهب لنا بواسطة المسيح، وبدون المسيح لا يمكن أن نحصل علي شيء من هبات الله .
العبادة بالروح : رو1: 9
“فإن الله الذي أعبده بروحي في إنجيل ابنه شاهد لي كيف بلا انقطاع أذكركم» (رو1: 9)
إن العبادة الحقيقية،، العبادة التي يجب أن تصدر من باطن الإنسان ومن روحه، ولاتكون مجرد عبادة خارجية ظاهرية. إن الرسول يتحدث هنا عن العبادة التي تصدر من أعماق الإنسان ومن باطن عقله (أي عبادة مؤسسة علي الاقتناع العقلي) ، ومن إرادته (أي عبادة صادرة عن حرية وإخـتـيار) ومـن وجدانه (أي عـبـادة صادرة من كل القلب وبكل رغبـة وشـوق) ، وإلي هذه الـعـبـادة الروحية أشار الرسول في مواضع أخري من رسائله. في الرسالة إلي فيلبي يقول الرسول انعبد الله بالروح؛ ، وفي الرسالة الثانية إلي تيموثيؤس يشير الرسول إلي الخدمة بضمير طاهره وفي الرسالة الي العبرانيين يقـول «نخدم الله خدمـة مـرضـية بـخـشـوع وتقـوي . وفي الرسالة الأولي الي تسالونيكي يقـول أيضا فإننا لم نكن قط في كلام تعلـق كما تعلمون ولا في علة طمع، الله شاهد.
ومن مميزات العبادة الروحية، أنها عبادة حارة، لاتفتر ولا يعتريها هزال، بل تتم بلا توقف وبلا انقطاع، هي خدمة متواصلة، لاتعرف المهادنة ومن أجل ذلك هـم أمام عرش الله ويخدمونه نهارا وليلا في هيكله: كذلك فيها تذكر دائم للآخرين :أذكركم، واحساس مستمر بالمسئولية نحو الغير الا أزال شاكرا لأجلكم ذاكرا إياكم في صلواتي.
الاشتياق للكرازة :رو1: 10-15
10 متضرعا دائما في صلواتي عسي الآن أن يتيسر لي مرة بمشيئة الله أن أتي إليكم 11 لأني مشتاق أن أراكم لكي أمنحكم هبة روحية لثباتكم 12أي لنتعزي بينكم بالإيمان الذي فينا جميعا إيمانكم وإيماني 13 ثم لست أريد أن تجهلوا أيها الأخوة أنني مـرارا كثيرة قصدت أن أتي إليكم ومنعت حتي الآن ليكون لي ثمـر فـيـكـم كـمـا في سائر الأمم 14أني مـديـون لليونانيين والبرابرة للحكماء والجهلاء 15فهكذا مـاهـو لي مستعد لتبشيركم أنتم الذين في رومية أيضا، (رو10:1-15).
يظهر الرسـول في هذه الرسالة شـوقه البالغ لزيارة كنيسة رومـيـة والكرازة فيها، وهو يطلب من الله من أجل أن يحقق له هذه الرغبة ( متضرعا دائما في صلاتي عسي الآن أن يتيسر لي مرة بمشيئة الله أن أتي إليكم، لكن تحقيق رغبته علي كل حال مرهون بمشيئة الله. جميع رغباتنا يجب أن نقدم فيهـا مـشـيـئـة الله. كانت للرسـول رغبة في أن يتجه الي رومية منذ وقت طويل، لكن الله لم يشأ أن يحقق هذه الرغبة حتي كتابة هذه الرسالة إليهم. الله سمح أن تنشأ موانع تعطل هذه الرغبة حتي يجيء الوقت المناسب اثم لست أريد أن تجهلوا أيها الأخوة أني مرارا كثيرة قصدت أن أتي إليكم، ومنعت حتي الآن ليكون لي ثمر فيكم أيضا كما في سائر الأمم» .
ماهي الدوافع للكرازة عند الرسول ؟
أولاً : لم يكن الرسول مدفوعا لذلك بعامل خارجي بل برغبة ملحة واشتياق “لأني مشتاق أن اراكم» ، وعن استعداد شخصي “فهكذا مـا هـو لي مستعد لتبشيركم”.
ثانيا : كان الرسول يحس إحساسا عميقا بمسئوليته نحو الكرازة للآخرين، احساس المدين الذي عليه أن يوفي دينه وأني مديون؟.
ثالثا : كان الرسول يرغب في تثبيت أهل رومية علي الإيمان “لكي أمنحكم هبة روحية لثباتكم” .
رابعا: ليتعزي الرسول عندما يوجد بينهم ويري إيمانهم ولكي يتعزي أيضـا أهـل رومية عندما يرون إيمان بولس الرسـول «أي لنتـعـزي بينكم بالإيمان الذي فـيـنـا جـمـيـعـا إيمانكم وإيماني .
خامسا : لأن الكرازة يجب أن تتـجـه للـناس أجمعين، لافرق في ذلك بين شعب وشعب، كذلك لافرق بين طبقة وطبقة، ولاتقف حواجز جغرافية أو تاريخية أو ثقافية في سبيل الكرازة “لليونانيين والبرابرة، للحكماء والجهلاء….”
سادسا : كان الرسول يرغب في أن يكون له ثمر في رومية كما حصل علي ثمـر الكرازة في أمم أخري ليكون لي ثمر فيكم كما في سائر الأمم، .
موضوع الكرازة :رو1: 16-17
16 لأني لست أستحي بإنجيل المسيح لأنه قـوة الله للخلاص لكل من يؤمن لليهودي اولا ثم لليوناني. 17 لأن فيه معلن بر الله بإيمان لإيمان كما هو مكتوب، أمـا البار فبالإيمان يحيي ؛ (رو1: 16 – 17).
“لأني لست اسـتـحـي بإنجيل المسيح لأنه قـوة الله لـلـخـلاص لكل من يؤمن لليهودي أولا ثم لليوناني”، يشير الرسول بولس في العددين السادس عشر والسابع عشر، لي موضوع الكرازة أو مـوضـوع الـرسـالة، وهو «إنجيل المسيح». ويحس الرسول بالانـتـخـار لأنه لختير من قبل الله لكي يباشر هذه الخدمة الشريفة الممتازة. ويتحدث عن فاعلية الإنجيل وقوته في تحقيق الخلاص، ذلك لأن الإنجيل الذي يدور حول شخص المسيح المصـلـوب هـو قـوة الله للخلاص لكل من يؤمن،. ويقـدم الإنجيل هذا الخلاص أولا لليهود من حيث أنهم كانوا أسبق من غيرهم في إرتباطهم بالله، وقد أخذوا المواعيد من الله بالخلاص، ثم يقدمه أيضـا لليونانيين لأنهم مدعوون أيضا لهذا الخلاص الذي لايقتصر علي شعب اليهود ولكنه يمتد إلى جميع الناس ويـوهـب لكل من يؤمن، مهما كان الشعب الذي ينتمي اليه، لأن المسيح والكل وفي الكل.
“لأن فـيـه مـعلن بر الله بإيمان لإيمان كـمـا هـو مـكتـوب أمـا الـبـار فـبـالإيمان يحيا“. بواسطة الإنجيل يظهر الـبـر الذي يهبه الله للمؤمن، أما مصدر هذا البر أو هذا الخلاص فليس هـو أعـمـال الـنـامـوس بل الإيمان. الخلاص لايتحقق بواسطة أعـمـال الـناموس بل بالإيمان بالمسيح المصلوب. كذلك فإن هذا الخلاص لايوهب فقط لمن كان لهم الناموس بل لكل من يؤمن. وهذا التعليم الذي يجعل البر أو الخلاص نتيجة للإيمان وليس ثمرة لأعمال الناموس، قد سبق وأشير إليه في العهد القديم، فقد قال حبقوق «أما البار فبالإيمان يحياة . واما كلمة «بار، فتشير إلي مـن يـحـفـظ الناموس. ومعني ذلك أن الذين يحفظون الناموس يحـيـون لا بأعمال الـنـامـوس بل بالإيمان، وكلمة «يحياة تشير إلى الحياة الروحية وهي حياة النعمة التي حررتنا من سلطان أو عبودية الخطية، وحياة المجد الذي ينتظرنا فيما بعد كورثة للملكوت مع المسيح، وعلي ذلك فعبارة «بإيمان لإيمان» تعني أن البر يتحقق من ناحية بواسطة الإيمان ومن ناحية أخري يوهب لكل من يؤمن.
أولاً : القسم التعليمي «التبرير بالإيمان، (رو1: 18- 11: 36).
عقاب الامميين على شرورهم: رو1: 18-28
طبيعة التبرير والحاجة إليه (رو1: 18– 5: 21) – حاجة الجميع الي التبرير (رو1: 18- 3: 36)
18لأن غضب الله معلن من السماء علي جميع فـجـور الناس واثمهم الذين يحـجـزون الحق بالإثم 19 إذ معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهـرهـا لهم 20لأن أموره غير المنظورة تري منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتي أنهم بلا عذر 21لأنهم لما عرفوا الله لم يمـجـدوه أو يشكروه كاله بل حمـقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي 22وبينما يزعمون أنهم حكمـاء صـاروا جـهـلاء 23وأبدلوا مـجـد الله الذي لا يفني بشـبـه صـورة الإنسان الذي يفني والطيور والدواب والزحافات 24لذلك أسلمهم الله أيضا في شهوات قلـوبهم الي النجاسة لإهانة أجسـادهـم وهـم بين ذواتهم 25الذين استبدلوا حق الله بالكذب واتقوا وعبـدوا المخلوق دون الخالق الذي هـو مـبـارك إلي الأبد أمين 26 لذلك أسلمهم الله إلي أهـواء الـهـوان لأن إناثهـم اسـتـبـدلن الاستعمال الطبيعي بالذي علي خلاف الطبيعة 27وكذلك الذكور ايضـا فـي شـهـوات قلوبهم إلي النجاسة لإهانة أجسـادهـم بين ذواتهم 25فاعلين الفحشاء ذكوراً بذكـور ونائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المحق 28وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لايليق» (رو1: 18- 28).
“لأن غضب الله معلن من الـسـمـاء علي جـمـيـع فـجـور الناس واثمهم الذين يحجزون الحق بالاثم“، في الجزء الأخير من الأصحاح الأول ابتداء من العدد الثامن عشر حتي نهاية الإصحاح، يتحدث الرسول بولس عن تصرفات الوثنيين التي تثير غضب الله وسخطه. إن غضب الله يظهر من السماء ضد كل من لايسلك بصلاح ووقار نحو وصايا الله، وضد من يخالف الناموس الأخلاقي ويتنكر للحق ويخمل عنه بواسطة العبادة الوثنية والحياة الفاجرة، فهؤلاء الوثنيون حجزوا الحق أي جعلوه غير واضح وغير ظاهر بواسطة التـعـبـد لغـيـر الحق وبواسطة السلوك المشين الايطاوعـون للحق بل يطاوعون للإثم» «وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعـمـالـهـم كـانت شريرة لأن كل من يعمل السيات يبغض النور ولايأتي إلى النور لئلا توبخ أعماله.
إذ معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم : هؤلاء الوثنيون يتنكرون لله علي الرغم من أن المعرفة الحقيقية عن الله – بقدر مايستطيع العقل البشري أن يكتسب – ظاهرة لعقولهم وأفكارهم، لأن الله قد اعد عـقـولـهـم لـتـقبلهـا وأظهـرهـا لهم بكل وضوح، إن بذرة الإيمان غرسها الله في كل إنسان، وكل فكر مستقيم وعـقل سليم يهتدي بطبعه اليها، فإن الله ولم يترك نفسه بلاشاهد. بالطبيعة يتجه الإنسان إلى الإيمان بالله، وإن كان يمكن أن لاتكون للإنسان فكرة سليمة عن الاله الذي يؤمن به ، ويشـيـر سـفـر الأعمال إلى المفاهيم الخاطئة عن الألوهية فالجمـوع لما رأوا مـافـعل بولس رفعوا صوتهم بلغة ليكاؤنية قائلين أن الآلهة تشبـهـوا بالناس ونزلوا إلينا فكانوا يدعون برنابا زنس وبولس هرمس إذ كـان هـو المـتـقـدم في الكلام، فـأتـي كـاهـن زفس الذي كان قدام المدينة بثيران وأكاليل عند الأبواب مع الجموع وكان يريد أن يذبح ، فلما سمع الرسولان برنابا وبولس مزقا ثيابهما واندفعا إلى الجمع صارخين وقائلين أيها الرجال لماذا تفعلون هذا، نحن أيضا بشـر تحت الألام مثلكم نبشركم أن ترجـعـوا من هذه الأباطيل إلى الاله الحي الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل مـافيهـا الذي في ا الأجيال الماضية ترك جميع الأمم يسلكون في طرقهم، مع أنه لم يترك نفسه بلا شاهد وهو يفعل خيرا يعطينا من السماء أمطاراً وازمنة مثمرة ويملأ قلوبنا طعاماً وسروراً» وهذه الحقيقة عن غريزة التدين والإيمان بالله علي الرغم مما يمكن أن يلحق بها من تشويه ، قد أعلنها الرسول بولس في أثينا «فوقف بولس في وسط أريوس باغوس وقال : أيها الرجال الأثينيون أراكم من كل وجه وكانكم متدينون كثيراً، لأنني بينما كنت أجنـاز وأنظر إلي مـعبـوداتكم وجدت أيضـا مذبحاً مكتوبا عليه لإله مجهول. فالذي تتقونه وأنتم تجهلونه هذا أنا أنادي لـكـم به. الاله الذي خلق الـعـالـم وكل مـافـيـه، هذا إذ هو رب السماء والأرض لايسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي ولا يخدم بأيادي الناس كأنه محتاج إلي شيء إذ هو يعطي الـجـمـيـع حـيـاة ونفـسـا وكل شيء، وصنع من دم واحد كل أمة من الناس يسكنون علي كل وجه الأرض وحتم بالأوقات المعينة وبحدود مسكنهم، لكي يطلبوا الله لعلهم يتلمسونه فيجدوه أنه مع عن كل واحد منا ليس بعيداً لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد، كما قال بعض شعرائكم أيضا لأننا أيضا ذريته، فإذ نحن ذرية الله لا ينبغي أن نظن أن اللاهوت شـبـيه بذهب أو فـضـة أو حـجـر نقش صناعة واختراع إنسان فالله الآن يأمر جميع الناس في كل مكان أن يتوبوا متغاضيا عن أزمنة الجهل.
“لأن أمـوره المنظورة تري منذ خـلـق الـعـالـم مــدركـة بالمصنـوعـات قـدرتـه السرمدية ولاهوته حتي أنهـم بـلا عذر“.
إن الله قـد أظهـر المعرفة به وجـعـلـهـا واضـحـة لأن الذين لايرون بعيونهم الجسدية كمال الله المطلق، فإنهم يستطيعون أن يدركوا بواسطة المخلوقات ، بعيون أذهانهم ، عن طريق التأمل في هذه المخلوقات ، مـقدار قـوة الله وقدرته التي هي . منذ الأزل وستظل إلي الأبد، ويدركون أيضـا مـجـد الله وكماله الإلهي، ولذلك هم بلا عذر ولايستطيعون أن يقدموا أي مبرر لعدم إيمانهم. ومعني ذلك أن «قدرة الله السرمدية ولاهوته، وهي التي يشير إليها الرسول بولس بـ «أمـوره غير المنظورة ، تدرك كعلة تفسر المخلوقات والمصنوعات. فالرسـول بولس يقـدم هـنا والدليل الطبيعي، علي وجود الله لأن المعلـولات المتمثلة في المخلوقات تحتاج الي علة متمثلة في الخالق، لتفسير وجودها. يقول القديس أوغسطينوس :
“ها إن السماء والأرض، وقـد وجـدتا، تـهـتـفـان قـائلتين : اخلقنا، خلقنا ، لأنهمـا تـتـغيـران وتتبدلان، كل كائن غير مخلوق ليس فيه اليوم شيء لم يكن فيه بالأمس، وألا لتغير وتبدل. وها إنهما تهتـفـان بانـهـمـا لـم تـوجـدا بذاتيـهـمـا : «خلقنا فوجدنا، وما كنا قبل وجودنا، كأننا صنعنا انفسناً”
ويقول أيوب البار ” فاسـأل البهائم فتعلمك وطيور السماء فتخبرك أو كلم الأرض فتعلمك ويحدثك سمك البحر. من لايعلم من كل هؤلاء أن يد الرب صنعت هذا . الذي بيده نفس كل حي وروح كل البشر”.
ويقول داود النبي : «السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه، يوم الي يوم يذيع كلاما وليل الي ليل يبدي علما”.
ويقـول أشعياء النبي : «أرفعوا إلى العلاء عيـونـكـم وأنظروا من خلق هذه. من الذي يخرج بعـدد جندها، يدعو كلهـا بأسماء لكثرة القوة وكونه شديد القدرة لايفقد أحـد، وأما عرفت أم لم تسمع، اله الدهر الرب خالق أطراف الأرض لا يكل ولايعيا” . وفي عظته علي الجبل قال السيد المسيح : “أنظروا إلي طيور السماء أنها لاتزرع ولاتحصـد ولاتجمع إلى مخازن وابوكم السماوي يفوتها، الستم أنتـم بالحري أفضل منها. ومن منكم إذا أهـتـم يقدر أن يزيد علي قامته ذراعا واحدا. ولماذا تـهـتـمـون باللبـاس. تأملوا زنابق الحقل كيف تنمـو لاتتعب ولاتغـزل ولكن أقـول لكم انه ولاسليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها، فإن كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم ويطرح غدا في التنور يلبسه الله هكذا، أفليس بالحرى جدا يلبسكم أنتم ياقليلي الإيمان.
ويقول الرسول بولس في رسالته إلى العبرانيين “بالإيمان نفهم أن العالمين أتقنت بكلمة الله حتي لم يتكون ما يري ممـا هـو ظـاهـر”.
“لأنهم لما عـرفـوا الله لم يمـجـدوه أو يشكروه كـالـه بـل حـمـقـوا فـي أفكارهم وأظلم قلبـهـم الـغـبـي”.
كـان الـوثـنيـون بلا عـذر، لأنهم علي الرغم من أنهم بواسطة مـا في المصنوعات وبواسطة ما في الخليقة من عجائب، وعلي الرغم من أنهـم عـرفـوا الله الذي خلق كل هذه الأشـيـاء بكل حكمة وبـكـل قـدرة، إلا أنهم لم يمـجـدوه مـن أجـل كـمـالاته غـيـر المحدودة، ولم يشكروه من أجـل مـراحـمـه العديدة التي وهبها لهم، ولكن بأفكارهم الكاذبة المخدوعـة تشـبـثـوا بالباطل، وهكذا أظلم قلبـهـم فـشـوهـوا الحقيقة. ومعني هذا أن تصرفات الوثنيين المشينة نحو الله لم تكن نتيجة الجهل وعدم المعرفة، بل بدافع من العناد وغلاظة القلب وروح العصيان والتمرد. فالقلب المظلـم يشـوه الحقيقة ويضللها أمام العقل. ولذلك فإن مانحتاجه نحن في قضايا الإيمان، ليس مـجـرد الاقتناع العقلي بل وأيضـا نقـاوة القلب وصـفـاء السـريرة. ألـم تـكـن أعـمـال المسيح ومعجزاته الخارقة، كافية كدليل عقلي علي لاهوته ؟ ومع ذلك فإن الكتبة والفريسيين، في عناد قلوبهم وفي غلاظة رقابهم وفي ظلام الخطية، تنكروا للسيد المسيح وأنكروا عليه الوهيته، ويقول السيد المسيح عنهم «لو لم أكن قد عملت بينهم أعمـالا لم يعملها أحد غيري لم تكن لهم خطية، وأما الآن فقد رأوا وأبغـضـوني أنا وأبي، لكن لكي تتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم أنهم أبـغـضـوني بلاسبب ، ولذلك “ليس لهم عذر في خطيتهم”.
وفي رسالته إلي أفسس يؤكد الرسـول بولس هذا المعني عينه، فبين كيف تفعل غلاظة القلب علي إظلام الفكر فيقول “إذ هم مظلمو الفكر ومتجنبون عن حياة الله لسـبب الجهل الذي فيهم بسبب غلاظة قلوبهم”.
“وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء”،
علي أن الأمر الغريب بالنسبة لهؤلاء الوثنيين، ما يزعمونه من أنهم يتصرفون في حكمة، وهم في حقيقة الأمر يتصرفون في غباء وجهل. يقول الرسول بولس في رسالته الأولي إلي كورنثوس الايخدعن أحد نفسه، إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر فليصر جاهلا لكي يصير حكيما، لأن حكمة هذا العالم في جهالة عند الله لأنه مكتـوب الأخـذ الحكماء بمكرهـم: ويقـول سـلـيـمـان الحكيم “الحكيم يخشي ويحيد عن الشر والجاهل يتصلف ويثق”، “طريق الجاهل مستقيم في عينه، أما سامع المشـورة فـهـو حكيم”، “الرجل الذكي يسـتـر المعـرفـة، وقلب الجـاهـل ينـادي بالحق”. “فم الجاهل مهلكه له وشفتاه شـرك لنفسه”، «إلي متي أيهـا الجهال تحبون الجهل والمستهزئون يسرون بالاسـتـهـزاء والحـمـقـي يبـغـضـون الـعـلـم” ، “لأن ارتداد الـحـمـقي يقتلهم وراحـة الـجـهـال تبيـدهـم” ويقـول داؤد النبي “قـال الـجـاهـل في قلبـه ليس إله، فـسـدوا ورجـسـوا بأفـعـالـهـم” (مز14: 1)
“وأبـدلـوا مـجـد الله الذي لايفني بـشـبـه صـورة الإنسان الذي يفني و الطيـور والدواب والزحافات”.
اسـتبـدل هؤلاء الوثنيـون مـجـد الله الذي لا يتعرض للفساد أو الفناء، استبدلوه بمصنوعات مادية لها صـورة الإنسان الـفـاني والطيور والدواب والزحافات. وهذا الخطأ وقع فيه أيضـا بنو اسرائيل في الـبـريـة، فـكمـا يقـول داود الذبي في مـزمـوره «صنعـوا عـجـلا في حوريب وسجدوا لتمثال مسـبـوك وأبدلوا مـجـدهـم بمثال ثور أكـل عشـب نسـوا الله مخلصهم الصانع عظائم في مـصـر، ويقول أيضا أرميا النبي بدلت أمة الهة وهي ليست إلهة، أما شعبي فقد بدل مجده بما لا ينفع . ابهـتي ايتها السماوات من هذا واقـشـعـري وتحيري جـدا يقول الرب، لأن شعبي عمل شـرين ، تركوني أنا ينبـوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم أبارا أبارا مـشـقـقة لاتضبط ماء” لذلك هكذا كانت وصية الرب للشعب الاسرائيلي في العهد القديم افاحتفظوا جدا لأنفسكم، فإنكم لم تروا صـورة مـايـوم كلمكم الرب في حوريب من وسط النار، لئلا تفسدوا وتعملوا ، ستم تمثالا منحوتا صورة مثال ما شـبه ذكر أو أنثي، شبه بهيمة ما مما علي الأرض، شبه طير ما ذي جناح مما يطير في السماء، شبه دبيب ما على الأرض، شبه سمك ما مما في المياه من تحت الأرض، لئلا ترفع عينيك إلي السماء وتنظر الشمس والقمر والنجوم، كل جند السماء التي قسمها الرب الهك لجميع الشعوب التي تحت كل السماء فتغتر وتسجد لها وتعبدها”.
“لذلك أسلمهم الله أيضاً في شهـوات قلوبهم إلي النجـاسـة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم”.
من أجل أنهم سلكوا هذا المسلك المشين بكرامة الله، نزع الله عنهم نعمته، وتركهم ليسلكوا حسب شهواتهم الرديئة في كل نجاسة، أي في عدم نقاوة وعدم طهارة، حتى أنهم تسببوا في إهانة أجسادهم، ذلك لأن الخطيئة تتسبب عنها أضرار بدنية بالإضافة إلي الأضرار الروحية. إن كثيرا من الأمراض البدنية تتسبب عن الخطايا الروحية، ولذلك فإن السيد المسبح أوصي المرضي الذين شـفـاهـم حتي لا يعودوا للخطيئة مرة أخرى.
إن عبارة “أسلمهم الله أيضـا فـي شـهـوات قلوبهم” لاتعني أن الله دفعهم إلى هذا السلوك الشرير، بل تعني أن الله ينزع نعمته عن الذين يستمرثون الـشـر ويصرون عليه. إن الله بلاشك يهييء فـرص التوبة أمام الخطاة ، أما إذا لم يستجب الإنسان لصوت الله وإنذاراته ويغلق قلبه عن التوبة، فإن نعمة الله تفارقه وتتخلي عنه ولذلك يزداد ضلالا وإنحرافا، وهذا مايفسره قـول سفر الأعمال والذي في الأجيال الماضية ترك جميع الأمم يسلكون في طرقهم، مع أنه لم يترك نفسه بلا شـاهـد. ويقول أيـضـا سـفـر الأعمال عن بني اسرائيل الذين صـنعـوا عـجـلا وأصـعـدوا ذبيحة للصنم وفرحوا بأعمال أيديهم، يقول :فرجع الله وأسلمهم ليعبدوا جند السماء.
“الذين استبدلوا حق الله بالكذب واتـقـوا وعـبـدوا المخلوق دون الخالق الذي هو مبارك إلي الأبد آمين” .
لقد استبدل هؤلاء الوثنيون الإله الحقيقي بالالهة الوثنية الكاذبة غير الحقيقية، ثم وهبوا حياتهم الباطنية وكرسوا قلوبهم ووجـهـوا عبادتهم الخارجية إلى الخليقة والمخلوقات. وهكذا بدل أن يكرمـوا ويعبدوا الخـالق عبدوا المخلوقات، لقد ظهر تقدير الله للإنسان في أنه خلقه علي شبهه وعلي صورته، بينما ظهرت حـمـاقـة الإنسان وظلم قلبه في أنه صنع الله حسب صورته الإنسانية الفانية.
“لذلك أسلمهم الله إلي أهواء الهـوان لأن إناثهم استبدلن الاستعمال الطبيعي بالذي علي خلاف الطبيعة وكذلك الذكور أيضـا تاركين استعمال الأنثي الطبيعي اشتعلوا بشهواتهم بعضهم لبعض فاعلين الفحشاء ذكـورا بذكـور ونائلين في أنفسهم جـزاء ضلالهم المحق».
من أجل أن الوثنيين قد عـبـدوا المخلوق دون الخالق، فـقـد سمح الله أن يستسلموا إلي أهوائهم غير الشريفة، حتي أن نساءهم قد غيرن العلاقات الطبيعية الشرعية بعلاقات غير طبيعية وغير شرعية، وعلي هذا النحو أيضـاً، ترك الذكـور علاقاتهم الطبيعية بالنساء واضطرمت فيهم شهواتهم الرديئة، ففعلوا الفحشاء بعضهم ببعض، وبذلك قد نالوا جزاءهم الذي استحقوه نتيجة انخداعهم وضلالهم وعبادتهم الوثنية، وهكذا أضـروا أنفسهم بأنفسهم.
“وكـمـا لـم يـسـتـحسنوا أن يـبـقـوا الله في مـعـرفـتهم، أسـلـمـهـم الله إلي ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق”.
وحيث إنهم لم يـحـكـمـوا حكمـا سليـمـا ولـم يـرغـبـوا في أن تكون لهم المعـرفـة الـحـقـيـقـية عن الله، تركهم الله وأسـلـمـهـم إلي عـقـل عـاجز عـن أن يميز تميـــزا صحيحا بين الحق والباطل، وكان نتيجة لذلك أنهم فعلوا مالايجب وماهو غير لائق اخلاقياً.
إن النعمـة هي عطية الله للإنسان، فإذا أساء الإنسان التصرف وأفـسـد سلوكه، إستحق أن يرفع الله عنه نعـمـتـه ويسـلـمـه الي أهـوائـه وفـضـائـحـه. ولاتقع المسـئـولـيـة هـنا علي الله بل علي الإنسان، كالمريض الذي رفض الانصياع لنصائح طبيبه واختار أن يعالج مرضه بنفسه على الرغم من جهله بذلك وعـدم خبرته، فإذا ساءت حال المريض واشتد به المرض فلا يلام الطبيب علي ذلك بل يتحمل المريض سوء تصرفه. وطالما أنه رفض الانتصاح بأوامر الطبيب والاسترشاد برأيه، فإن الأمر المتوقع والتصرف الطبيعي عند ذاك ، أن يتركه الطبيب ليعالج أمره بنفسه. إن موقف الله مع الخاطيء شبيه بموقف الطبيب مع المريض. وكما يتخلي الطبيب عن تقديم العون لمريض يخالف أوامره ولا يأخذ بنصيحته، هكذا يتخلي الله عن الخاطيء الذي يعصي أوامره ويرفض وصيته، ولن تقع المسئولية في كلا الحالتين علي الله أو علي الطبيب.
امثلة من السلوك الشرير: رو1: 29-32
29 مملوئين من كل إثم وزنا وشر وطمع وخبث، مشحونين حسدا وقتلا وخصاما ومكرا وسوءا 30 نمامين مفترين مبغضين لله ثالبين متعظمين مدعين مبتدعين شرورا غير طائعين للوالدين 31 بـلا فـهـم ولا عهد ولاحنو ولا رضي ولا رحـمـة 32الذين إذ عـرفـوا حـكـم الله أن الذين يعملون مثل هذه يستوجبون الموت لايفعلونها فقط، بل أيضا يسرون بالذين يعملون. (رو1: .29-32).
بعد أن تحدث الرسول عن خطايا الأمميين بصورة عامة أشار فيها إلي جهالتهم وشرورهـم وأوضح موقف الله منهم بسبب استسلامهم لشهواتهم و أخذ يشير إلي أمثلة متنوعة من قبائحهم وأفعالهم التي لاتليق. وبالإضافة إلي ماسبق ذكره في الشرح السابق، يذكر الرسول العديد من الأفعال المشينة التالية :
مملوئين من كل إثم : وكلمة إثم تعني باليونانية عدم البـر وهي تشير إلي الشر علي وجه العموم، كما تشير كلمة «البر، إلي الفضيلة بوجه عام. فالأثيم هو الشرير كما أن البار هو الفاضل.
وزني وشـر : وكلمة الشر (ponyria) تعني هنا الإنسان المحطم خـلقـيـا الذي يسـر بالاضـرار بالآخرين دون أن يعود عليه كسب شخصي، وكلمة الزني تشير إلي البغاء والعهر والدعارة.
وطمع وخبث : الخبث (Kakia) هو الميل النفسي الآثم نحو الآخرين أي هو رداءة النفس ورداءة الاستعداد الخلقي، أما الطمع (pleonexia) فهو السعي للحصول علي أكثر مما يجب أو مما يستحق.
مشحونين حسدا وقتلا : الحسد يقود الي القتل كما فعل قايين بأخيه هابيل.
وخصاما : يحمل بذور الحسـد نحو الآخرين وإن كان لايصل إلي حد القتل، ويسعي الشرير إلي تكدير الآخرين وإزعاجهم بالشجار والنزاع وإثارة مايسلب منهم الطمانينة والهدوء النفسي.
ومكرا : المكر هو الدس والتأمر وتدبير المكائد والخداع والوقيعة والغش والتغرير والاحتيال.
وسوءا : الكلمة تشير هنا الي سوء الخلق ورداءة الطبع وسوء التصرف أو سوء السلوك.
نمامين مفترين : النمـام هـو من يتكلم بالسوء والـوشـوشـة فـي الخفاء، وأما المفتري فهو من يشى بالآخرين ويثير الفتنة , ضدهم علانية.
مبغضين لله : أي يكرهون الله ويمقتونه وكذلك يفعلون بوصاياه وأوامره.
ثالبين متعظمين : يثلب، أي يسب ويشتم ويهين الآخرين. أما التعاظم فيقصد به التفاخر علي الغير بما ليس لديهم، أو التكبـر والـتـعـجـرف والتغطرس بما يمتلكه الفرد ويكون الآخرون محرومين منه.
مدعين : أي متباهين في أقوالهم ينسبون لأنفسهم ماليس لهم.
مبتدعين شرورا : أي يبتكرون ويستحدثون أنواعا جديدة من الإثم.
غير طائعين للوالدين : أي لايثقون في والديهم ولايأخذون بنصائحهم.
بلافهم : أي ينقصهم إدراك الأمور وتعقلها، ولذلك فهم يصدون عن كل نصيحة.
ولاعهد : أي لايلتزمون بعهودهم نحو الآخرين.
ولا حنو : أي يتجردون من العطف الطبيعي الذي يوجد في الحيوانات.
ولا رضي ولارحمة : أي يسلكون بالعنف وعدم التسامح ويتشددون في معاملتهم مع الآخرين في جفاء وقسوة.
ثم يذكر الرسول عن هؤلاء الأثمين أنهم إذ عرفوا حكم الله أن الذين يعملون مثل هذه يستوجبون الموت لايفعلونها فقط بل أيضا يسرون بالذين يعملون، أي أن الأمميين علي الرغم من معرفتهم قضاء الله وعلي الرغم من أنهم يعرفون مايستوجبه فعل الشر مـن عـقـوبـة الموت، فإنهم لايفعلون هذه الأمـور الرديئة فقط بل أيضا يسرون بمن يشـاركـهـم في سوء تصرفهم. ومعني هذا أنهم لايقترفون الذنوب والخطايا نتيجة لضعفهم البشري وعـجـزهـم عن عمل الخير، ولكنهم يفعلون ذلك بكل رغبـة وشـوق ورضي. وفي هذا إشارة الي الخطأ المتعمد الذي يصدر عن نية وقصد لا عن غفلة وجهل.
مقدمة | تفسير رسالة رومية | تفسير العهد الجديد | تفسير رومية 2 |
د/ موريس تاوضروس |
|||
تفاسير رسالة رومية | تفاسير العهد الجديد |