تفسير رسالة رومية اصحاح 13 للقديس يوحنا ذهبي الفم
الاصحاح الثالث عشر
عظة 24 : رو13: 1-10
” لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة” (رو۱:۱۳).
1. لقد تحدث القديس بولس كثيرا عن هذا الأمر في رسائل أخرى، إذ يطلب من المواطنين أن يخضعوا للرؤساء، تماما مثلما يخضع الخدام للسادة. وهو يوصي بذلك لكي يبرهن على أن المسيح لم يضع تعاليمه للتحريض على القيام بالانقلاب على الدولة، بل من أجل إصلاح أفضل لها، ولكي يعلمنا بالا نشين حروبا مدمرة وبلا داعي، لأن الدسائس التي تحاك ضدنا بسبب إظهار الحق، هي كافية، ولا ينبغي أن تُضاف إليها تجارب لا داعي لها ولا تفيد شيئاً. لكن انتبه كيف أنه في اللحظة المناسبة حول كلمته إلى هذه الأمور. إذا بعدما طلب السلوك بتلك الحكمة العظيمة أو تلك الفلسفة العظيمة (أي مواجهة الإساءة بالإحسان)، وجعل الجميع يتآلفون مع الأصدقاء والأعداء، فقد جعلهم نافعين لمن هم فرحين، ولمن هم حزاني، وللمحتاجين، وبشكل عام تجاه الجميع، وأسس المدينة التي تليق بالملائكة. لقد عالج غضبهم ووبخ إفتخارهم، وفي كل شيء جعل نفوسهم رقيقة، حينما قدم النصيحة من جهة هذه الأمور. لأنه إن كان خضوعنا لأولئك الذين يظلموننا يجلب علينا خيرات عكس ما قصدوه لنا، فبالأحرى يليق بنا أن نخضع لأولئك الذين يحسنون إلينا.
إلا أنه أوصي بذلك في نهاية حديثه، ولم يشر إلى هذه الأفكار التي قالها في البداية، بل أشار إلى الأفكار التي تحث على فعل هذا كدين عليهم. ولكي يبين أن هذه الوصية موجهة للجميع، للكهنة وللرهبان أيضا، وليس للعلمانيين فقط، فقد جعل هذا الأمر واضحا منذ البداية، قائلاً: “لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة “، سواء كان رسولاً ، أم كان مبشرا ، أم نبيا ، أو كان أي شخصا آخر، لأن هذا الخضوع لا يؤثر في التقوى. ولم يقل “لتطيع” بل قال “لتخضع”. وأول تقييم لهذا التشريع، وهذا الفكر الذي يليق بالمؤمنين، هو أنهم قد أمروا به من الله. “لأنه ليس سلطان إلا من الله “. ماذا تقول؟ هل كل حاكم هو معين من الله؟ يجيب بأنني لا أقصد هذا، ولا كلامي الآن هو موجه للحكام بشكل منفصل، لكنه يختص بالسلطان. لأن وجود السلاطين يعني أن هناك بالطبع من يحكم، وهناك من يحكم، ويجب عليهم ألا يسلكوا في كل شيء بلا هدف وبلا ضابط، وأنه يجب على الشعوب ألا تتأرجح هنا وهناك مثل الأمواج، فهذا السلطان هو عمل حكمة الله.
إذن لم يقل، ليس حاكم إلا من الله، لكنه يتكلم بشكل عام عن السلطان، ويقول ” لأنه ليس سلطان إلا من الله. والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله “. هكذا قال الحكيم “الزوجة المتعقلة فمن عند الرب هذا ما يقصده، أي أن الله صنع الزواج، وليس أن الله يوحد أي أحد يقيم علاقة جسدية مع امرأة. خاصة ونحن نرى أن كثيرين قد ارتبطوا فيما بينهم بالشر، وبزواج غير شرعي، ولا يمكن أن نعتبر ذلك من الله. لكن ذاك الذي قال: “الذي خلق من البدء خلقهما ذكرا وأنثى”، وقال: “من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بإمرأته ويكونان الاثنان جسدا واحدا “، نفس الأمر قاله ذلك الحكيم حين فسره. إذا نظراً لأن المساواة في الكرامة ، تدفع في مرات كثيرة للتصادم، فقد أوجد الله سلاطين وأنواع كثيرة من الخضوع. على سبيل المثال، الخضوع بين الرجل والمرأة، الابن والأب، الشيخ والشاب، العبد والحر، الحاكم والمواطن، المعلم والتلميذ. ولماذا تتحير لأنه تحدث عن الخضوع بين البشر، مع أنه فعل هكذا أيضاً بالنسبة للجسد؟ إذ أن الله لم يخلق كل أعضاء الجسد متساوية في الكرامة، بل خلق عضواً أصغر، والعضو الآخر أسمى، وجعل بعض الأعضاء تسود، وبعضها تخضع. بل وفي الحيوانات يستطيع المرء أن يرى نفس الشيء، كما في النحل، وفي طيور الكركر، وفي قطيع الخراف المتوحشة. ولا البحر أيضا حرم من هذا النظام الحسن، بل هناك أيضا كثير من الأجناس البحرية، توضع تحت سلطان بعض الأسماك، وهي تُساق أو تُدار هكذا عندما توشك القيام برحلاتها البعيدة، خاصة وأن الفوضى في أي موضع هي أمر سيء، وتسبب الإضطرابات.
٢ ـ إذا بعدما تكلم عن السلاطين، ومن أين تأتي، أضاف:
“حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله” (رو۲:۱۳).
أرأيت إلى أين يقود هذا الأمر، ومن من قد أخافهم، وكيف أنه برهن على أن هذا قد صار كدين عليهم؟ إذا لكي لا يقول المؤمنون أنه يهيننا ، ويجعلنا محتقرين، مخضعا الذين سوف يتمتعون بملكوت السموات للحكام، يبرهن لهم أنه لا يخضعهم للحكام، بل هو يخضعهم لله أيضا ، وهذا يتم حين يخضعون للحكام. لأن كل من يخضع للسلاطين، يطيع الله. لكنه لم يقل أن من يطيع الله، هو من يخضع للسلاطين، لكنه يخيفهم من الوجهة العكسية، ويدلل على هذا بدقة كبيرة، قائلاً أن من لا يخضع للحاكم يقاوم الله الذي رئب وجود الحكام. وقد حرص على إظهار هذه الحقيقة في كل موضع، أننا لا نمنح هؤلاء الطاعة، بل نحن مدينين بها. وهكذا سيمكنه أن يجذب الحكام غير المؤمنين للتقوى، والمؤمنين للطاعة. لقد كثر الكلام في هذا الشأن في كل مكان، وإنتشرت النميمة على الرسل حول موقفهم من التجديد، وتردد أن هدف كل ما قالوه وفعلوه ربما يكون تغيير القوانين العامة. وحين اتضح أن إلهنا يؤكد على هذا الأمر لكل أخصائه، فإنك عندئذ سنسد أفواه الذين وشوا بالرسل كمتمردين، وستتكلم بجرأة كبيرة عن المبادئ الحقيقية. إذا لا تخجل من مثل هذا الخضوع خاصة وأن الله هو الذي أمر به، وهو يعاقب بشدة عندما تحتقر ما يوصي به. لأنه لن يعاقبك بعقوبة بسيطة عندما لا تخضع لهذه الأمور، بل بعقوبة كبيرة جدا ، ولن تفلت من العقاب، عندما تقاوم، بل ستنال من البشر عقوبة مخيفة للغاية، ولن يحميك أحد، وكذلك سيغضب منك الله بدرجة كبيرة جدا. كل هذا هو ما يعنيه تحديداً عندما يقول: ” والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة”.
ولكي يبين بعد ذلك فوائد الخضوع، نجده بعدما أخافهم، يحاول أن يقنع بالمنطق، فيقول:
” فإن الحكام ليسوا خوفا للأعمال الصالحة بل للشريرة” (رو3:13).
إذن لأنه وجه لهم ضربة قوية وأخافهم، عاد وأظهر شيئاً من المرونة ، وكطبيب حكيم أعطاهم دواء مناسباً، وأخذ يعزيهم قائلاً: ماذا تخشى؟ لماذا ترتعب عندما تعمل أعمالاً حسنة؟ هل يقلل هذا من شأنك؟ هل اهتمامك بالفضيلة يقلل من شأنك؟ وهل هذا أمر مخيف؟ ولهذا أضاف: ” أفتريد أن لا تخاف السلطان؟ افعل الصلاح فيكون لك مدح منه “. أرأيت كيف أنه صالح ذلك الإنسان على الحاكم، بعدما أظهر أنه يمتدحه؟ أرأيت كيف أنه فرغ الغضب؟
“لأنه خادم الله للصلاح” (رو4:13).
إنه بعيد كل البعد عن إخافتك، لأنه يمتدحك أيضا، ويبتعد تماماً عن أن يعيقك، بل هو يعينك أيضا. فحين يكون لديك هذا المادح وهذا المعين، فلماذا لا تخضع؟ طالما أنه يجعل الفضيلة بطريقة أخرى أكثر سهولة بالنسبة لك، أي بمعاقبة الأشرار وتكريم الصالحين، ولهذا دعاه الرسول بولس، خادم الله. لاحظ أيضا إنني أنصح بالتعقل، وذاك يقول نفس الأمر بالقوانين، إنني أحذر أنه لا ينبغي أن نكون طماعين ولا سارقين، وذاك الحاكم يجلس لكي يحكم في هذه الأمور. بهذا المسلك يكون عاملاً معنا ومعينا لنا، ومرسلاً من الله من أجل ذلك. إذا فهو من الوجهتين محل تقدير، لأنه مرسل من الله، ولأنه مرسل من أجل تحقيق هذا الأمر. ” ولكن إن فعلت الشر فخف “. وبناء على ذلك فإن الحاكم لا يبث الخوف، بل أن مصدر الخوف هو ارتكابنا الشرور. “لأنه لا يحمل السيف عبئا “. أرأيت كيف أقامه بعدما سلحه جيدا، مثل الجندي الذي يثير الخوف لدى الذين يخطئون؟ “إذ هو خادم الله منتقم بالغضب من الذي يفعل الشر” إذا وحتى لا تتمرد حين تسمع أيضا عن إدانة، وعقوبة، وسيف، يقول مرة أخرى، إنه يتمم ناموس الله. وقد تتساءل: ما هي الأهمية، إن كان ذاك (الحاكم) لا يعرف ناموس الله؟ لكن هكذا عينه الله.
إذن إن كان يعاقب ويكرم بصفته خادم، وينتقم من أجل أن تسود الفضيلة، مبعدا الشر، الأمر الذي يريده الله، فلأي سبب تقاومه طالما أنه يحمل كل هذه الخيرات، ويمهد الطريق من أجلك؟ لأنه يوجد بالحقيقة كثيرون بعدما سلكوا ـ في البداية – بالفضيلة خوفاً من الحكام، قد سعوا إليها فيما بعد، بمخافة الله. أما بالنسبة للضعفاء روحيا فإن الأمور المستقبلية لا تخيفهم، بقدر ما تخيفهم الأمور الحاضرة . إذا فذاك الذي بواسطة الخوف والتكريم يعد أنفس الكثيرين لتقبل التعليم، يكون تعيينه خادما لله، أمرا مبررا.
۳ – “لذلك يلزم أن يخضع له ليس بسبب الغضب فقط. بل أيضا بسبب الضمير” (رو5:13).
ما معنى ليس بسبب الغضب فقط؟ يقول ليس فقط لأنك تقاوم ترتيب الله إن لم تخضع، وليس لأنك تُسبب لنفسك أضرار كبيرة من قبل الله ومن قبل الحكام أيضا، بل لأنه صار محسنا لك في الخيرات الوفيرة، طالما أنه محسن لك في خيرات عظيمة وراعي للسلام الإجتماعي. طالما أنه بواسطة هؤلاء السلاطين تتحقق خيرات لا حصر لها في المدن. وإن أبطلت سلطة هؤلاء فإن كل شيء سينتهي، ولن يكون هناك وجود لمدينة ولا لقرية، ولا لبيت ولا لسوق ولا يمكن لأي شيء أن يثبت على حالة، بل ستتدهور كل الأمور، إذ أن من هم أكثر قوة سيبتلعون الضعفاء. وبناء على ذلك، فحتى إن لم يصيبك غضب بسبب تمردك، فإنه هكذا أيضا كان ينبغي أن تخضع، حتى لا تبدو وكأنك بلا ضمير وغير ممتن إلى من أحسن إليك.
” فإنكم لأجل هذا توفون الجزية أيضا. إذ هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه ” (رو6:13).
بعدما تجنب الكلام بشكل منفصل عن الإنجازات التي يحققها الحكام في المدن مثل الإدارة الحسنة، ونشر السلام، وتقديم الخدمات الأخرى بواسطة الجنود، وأولئك الذين يهتمون بالأمور العامة، وأوضح أن الخدمة الواحدة من هذه الأمور، تبين حجم الخدمات التي تقدم للكل. إذا فإنك ثثبت رضاك وامتنانك للحاكم عندما تدفع الجزية.
لاحظ حكمة وتعقل المطوب بولس. لأن ما كان يبدو مزعجا ومحزنا أي المطالب (التي طلبها)، هذا يجعله برهائا للإهتمام وللعناية بهؤلاء. إذا لماذا يطلب أن تعطي الجزية للملك؟ ألا يجب علينا أن ندفع أجر الوكالة (أي وكالته عنا في إدارة الدولة)، لأنه يعتني بنا، ولأنه يحمينا؟ ما كنا لندفع لو لم نعرف من البداية أننا سنستفيد كثيراً من هذا السلطان . ولهذا فقد أقرّ الجميع من البداية أننا يجب أن نساهم في توفير معيشة الحكام، لأنهم لا يبالون بأنفسهم من أجل الاهتمام بالصالح العام، حتى أنهم ينشغلون بذلك حتى في فترات راحتهم لكي يتمموا كل ما يخصنا. وبعدما تكلم عن تلك الأمور التي تأتي من الخارج، يعود مرة أخرى بحديثه إلى الأمور السابقة ـ لأنه هكذا أستطاع أن يحرك أفكار ومشاعر المؤمن ـ ويظهر مرة أخرى أن هذا التوجه هو أمرا حسناً أمام الله، وفي هذا يختم النصيحة، قائلاً: “إذ هم خدام الله” ولكي يبين ما يبذلونه من جهد وتعب، أضاف: “مواظبون على ذلك بعينه”. إذا هذه هي حياتهم، هذا هو اهتمامهم: أي كيف تتمتع أنت بالسلام، ولهذا في رسالة أخرى، لا يأمر فقط بأن نخضع، بل وأن تصلي من أجل هؤلاء الرؤساء، ومبينا في تلك الرسالة أن الفائدة ستكون عامة، ولذلك أضاف: “لكي نقضي حياة مطمئنة هادئة في كل تقوى ووقار”.
لأنه بالنسبة لنا ليس هو بالأمر القليل ما يقدموه لنا من منافع في الحياة الحاضرة، إذ هم يأخذون السلاح ويحاربون، يبعدون الأعداء، يمنعون أولئك الذين يثورون على المدن، يقدمون حلولاً للمشاكل في كل شيء، إذا لا تحدثني عما إذا كان هناك من يسيء استخدام السلطة، بل عليك أن تلاحظ لياقة هذا الترتيب، وسترى عظمة حكمة الذي قتن هذه الأمور منذ البداية.
” فأعطوا الجميع حقوقهم الجزية لمن له الجزية الجباية لمن له الجباية. والخوف لمن له الخوف والإكرام لمن له الإكرام” (رو7:13).
ولا زال يقيم نفس الأمور، طالبا من هؤلاء ليس فقط أن يدفعوا أموالاً، بل وأن يقدموا كرامة واحتراماً. منذ قليل، قال ” أفتريد ألا تخاف السلطان افعل الصلاح”، وهنا يقول ” الخوف لمن له الخوف”. يقول هذا وهو يقصد الكرامة الفائقة، وليس الخوف الذي يأتي من الضمير الشرير، الذي أشار إليه سابقا. ولم يقل(…) أي امنحوا ، بل (…) أي أعطوا مما أعطى لكم”، وأضاف “حقوقهم”. وبالطبع فإنك لا تصنع خدمة، حين تفعل هذا الأمر. لأنه حق، وإن لم تفعله، سندان كشخص غير ممتن للإحسان .
إذن لا تتصور أنك تحتقر، وتُضار، فيما يختص بقيم إيمانك، وذلك إذا وقفت احتراما، حين يعبر الحاكم من أمامك، أو إذا خلعت قبعتك عن رأسك، لأنه إن كان قد حدد هذا الأمر في ذلك الحين الذي كان فيه الرؤساء من الأمم، فبالأولى كثيرا الآن ينبغي أن يسري هذا على الحكام المؤمنين. ولكن إذا كنت تزعم أنه استأمنك على الأمور الأعظم، فلتعلم أن الزمن الآن، ليس هو زمنك، لأنك غريب ووجودك مؤقت، سيأتي الوقت الذي ستظهر فيه أكثر بهاء من كل شيء. الآن ” لأنكم قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله متى اظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تظهرون أنتم أيضاً معه في المجد”. إذا يجب ألا تطلب المكافأة في هذه الحياة الحاضرة، بل إن احتاج الأمر، قدم الهيبة والوقار للحاكم عندما تمثل أمامه، ولا تتصور أن ذلك يتعارض مع أصلك النبيل. لأنه هكذا يريد الله، حتى أن الحاكم الذي أُعطي السلطان من الله، تكون له هيبته، لأنه حين يقف ذاك الذي لم يقترف أي شر بخوف أمام القاضي، فبالأولى يخاف من يقترف الشر، لكنك هكذا ستصير أكثر بهاء، والحاكم أيضا سيكرمك إلى أقصى درجة، وسيمجدك إلهك لهذا السبب، حتى إن كان الحاكم غير مؤمن.
” لا تكونوا مديونين لأحد بشيء إلا بأن يحب بعضكم بعضا” (رو۸:۱۳).
يلجأ مرة أخرى إلى أصل الصالحات (أي المحبة)، إلى تلك التي تعلم ما سبق الإشارة إليه، والتي تنشئ كل الفضيلة، ويقول كيف أنها نافعة، لكن ليست مثل الضريبة والجزية، لأن نفعها هو دائم، هو لا يريد مطلقاً لهذه المحبة أن ثرد، أو من الأفضل أن نقول دوما هو يريد أن ثرد، لا أن تعوض، فهي مديونة على الدوام. لأن هذا هو الدين، أننا نظل تعطي، ونبقى مديونين على الدوام. إذا بعدما قال كيف أنه ينبغي علينا أن نحب، يظهر فائدة ذلك، قائلا: “لأن من أحب غيره فقد أكمل الناموس”. إذا لا تعتبر أن هذا العمل هو إحسان تُقدمه، بل دين عليك . لأنك مدين لأخيك بالمحبة بسبب القرابة الروحية، وليس فقط لهذا السبب، بل ولأننا نحن أعضاء بعضا لبعض. وإن تلاشت منا هذه أي المحبة، فإن كل شيء سيفنى. إذا فلتحب أخاك، لأنه إن كنت بمحبته ستربح الكثير، فحتى تتمم كل الناموس، فإنك مدين له بالمحبة، بعدما تنعم بالإحسان منه.
” لأن لا تزن لا تقتل لا تسرق لا تشهد بالزور لا تشته وإن كانت وصية أخرى هي مجموعة في هذه الكلمة أن تحب قريبك كنفسك” (رو۹:۱۳).
لم يقل، تُتمم، بل قال ” هي مجموعة”، أي موجزة في كا قليلة، وبها يكتمل كل عمل الوصايا. لأن بداية ونهاية الفضيلة، هي المحبة، لأن هـذه المحبة لها جذور، وهي الأساس، والقمة. إذا فإن كانت المحبـة هـي البداية والنهاية، فهل يوجد ما هو مساو لها؟ لكنه لا يطلب فقط محبة، بل محبة فائقة. لأنه لم يقل فقط “تحب قريبك ” بل قـال تحبـه ” كنفسك”. ولهذا قال المسيح عنها، أن بها يتعلق الناموس والأنبياء. وبعدما أشار المسيح إلى نوعين من المحبة، لاحظ إلى أين قد سما بها. لأنه بعدما قال إن الوصية الأولى هـي أن “تحـب الـرب إلهك” أضـاف الثانية، قائلاً: “والثانية مثلها. ثحـب قـريبـك كنفسك.
هل هناك ما يتساوى مع محبة الله للبشر؟ هل هناك مـا يتساوى مـع هـذا الصلاح؟ فبرغم الفارق الشاسع بيننا وبينه، جعل محبتنا بعضنا لبعض مساوية لمحبتنا له، ويقول إن محبة الرب إلهك هـي مثل محبة القريب. لهذا تحديداً حدد معايير متساوية تقريبا في الحالتين، فمـن حيـث محبتنا لله، قال “مـن كل قلبـك. مـن كـل نفسك”، أما بالنسبة لمحبة القريب قال: ” كنفسك”. والقديس بولس أشار إلى أنه عندما لا توجد لدينا محبة للقريب، فإننا لن ننتفع من محبتنا لله. تماما فكما يحدث معنا ، عندما نحب شخصاً، نقول: إن أحببـت ذاك، فإنك تحبنـا نحـن، هكذا المسيح أيضا، لكي يعلـن عـن هـذا ، قـال ” والثانيـة مثلها “. هكـذا قـال أيضـا لبطـرس “أتحبني .. ارع غنمي”. إذا :
” المحبة لا تصنع شرا للقريب. فالمحبة هي تكميل الناموس” (رو۱۰:۱۳).
أرأيت كيف أنه يحمل الفضيلتين، أولا الابتعاد عن الشرور، لأنـه يقـول “لا تصنع الشر”، ثانيا ممارسة الصلاح، لأنـه يقـول “فالمحبـة هـي تكميل الناموس”، ، دون أن يهمل الاستفاضة في شرح التعليم الخاص بالفضائل التي ينبغي أن نحيا بها، بل جعل ممارستها أسهل . لأنه لم يهتم فقط بكيـف سنتعلم الأمور التي تعود بالفائدة علينا، الأمر الذي هو عمل الناموس، بل إنه يساعدنا أيضاً على ممارستها، طالما أنه يجعلنا نتمكن من ممارسة، ليس فقط جزء واحد من الوصايا ، بل من كل الفضيلة.
٤ ـ إذن فليحـب الـواحـد الآخر، لكي نحـب الله أيضـا الـذي أحبنـا بهـذه الطريقة. أما بالنسبة للبشر فإن أحببت إنسانا محبوبا من غيرك، فإن الذي يحبـه سيقاومك، أمـا هـنـا فـإنـه يعتبرك مستحقا أن تصيـر شـريكا لـه في المحبة، وحين ترفض أن تصير شريكا، فإنه يبغضك . لأن العشق الإنساني مملوء بالبغضة والحسد، بينما المحبة الإلهية متحررة مـن كـل هـوى، ولهذا فإنها تطلـب شـريكا للمحبـة. إذا فلتحـب بالاشتراك معـي، هكـذا يقـول، وحينها سأحبك بالأكثر. أرأيت عاشقاً يتكلم بهذه القـوة؟ فكـأنـه يقـول: إن كنت تحب الذين أحبهم أنا فحينئذ أنـا ذاتـي أكـون محبوبا منك بشكل فائق، خاصة وأنه يشتهي خلاصنا جدا، وقد أظهر ذلك منذ البداية. إسمع مـاذا يقـول حـين خلق الإنسان: “نعمل الإنسان علـى صـورتنا كشبهنا ” وأيضا : “ليس جيدا أن يكون آدم وحـده. فأصنـع لـه معينا نظيره ” . وحين وبخه، عندما خالف الوصية، لاحظ كيف وبخه بكل حنـو. لأنه لم يقـل لـه أيها الدنس والنجس، برغم من أنك قد نلت إحسانات كثيرة، فإنك آمنت بالشيطان بعد كل هذه الإحسانات، وهـجـرت مـن أحسن إليك، وكرست ذاتك للشيطان الخبيث، بل ماذا قال: ” من أعلمك أنك عريان. هل أكلت مـن الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها . إن ذلك يشبه أباً أوصى ابنه بـألاً يمسـك بالسيف، فرفض الإبـن سمـاع النصيحة فأمسك بالسيف وأصيب بجـراح. وعنـدمـا أصيب أخذ يصرخ متحدثاً عن سبب إصابته. فأجابه الأب قائلاً: أنك جرحت يا إبني بسبب عدم طاعتك لي ولأنك لم تسمعني.
أرأيت أن الكـلام هـو مـن صـديق أكثـر منـه رب؟ لصـديق قـد أحتقـر، لكنـه بـالرغم من ذلك لم يبتعد. إذا فلنتشـبـه بـه حتـى عـنـدمـا ثـوبخ أيضا ، ولنتبع هذه الرأفة. كذلك المرأة أيضا (أي حواء) وبخت بنفس الرقة. أو مـن الأفضل أن نقول، إن ما حدث لا يعد توبيخاً، بل كان نصيحة، وتصحيحاً (للمسيرة)، وتأمينًا للمستقبل. ولهذا تحديدا لم يقل شيئا للحية، لأنها كانت هي المخططة للشرور، ولم تستطع أن تنقل السبب إلى شخص آخر، ولذلك فقد عاقبها بشدة، ولم يتوقف عند هذا الحد، بل جعل الأرض لها نصيب في اللعنة . وقد طرد الله آدم من الفردوس، وحكم عليه بالعمل الشاق، ولذلك يجب قبل كل شيء أن نسجد له ولمجـده، لأن الخمول يقـود إلى اللامبالاة، وبسبب اللامبالاة يتضائل الفرح ويسود الحزن، لأجل هـذا علينا أن نرجع إلى محبة الله.
ماذا حدث أيضا في حالة قايين؟ ألم يستخدم معه نفس أسلوب الرأفة؟ كذلك بـرغم مـن أنـه تطـاول عليه، إلا أنه تحدث معه برجـاء وقـال: ” لماذا سقط وجهك”. وإن كان ما حدث خال بالطبع من طلب الصفح، وهو ما قد أظهره الأخ الأصغر”. لكن ولا هكذا وبخه الله، بل قال: “إن أحسنت أفلا رفع. وإن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة وإليك اشتياقها وأنت تسـود عليها ، ويشير بذلك إلى أخيه، فإن كنت تخاف، هكذا يقـول، ربما هذه التقدمة، سأنزع عنك إمتياز البكورية، فلتتشجع، أريد فقط أن تصير أفضـل، وأن تُحـب الـذي لم يظلمـك أبـدا، عندئذ سـوف أضـع هـذا الإمتياز مرة أخرى في يديك . إذ أنني أعتني بكما معا، على أن ما يفرحني هو ألا تتشاجرا فيما بينكما . و هكذا يفعل الله مثلما تفعل الأم الحنون ، كل شيء يصنعه ويبدعه، حتى لا ينفصل الواحد عن الآخر.
لكن لكي تعلم جيدا ما أقوله، سأذكر لك مثالاً : تذكر من فضلك رفقة التي أصابها القلق، عندما حارب ابنها الأكبر، أخيه الأصغر. لأنه برغم من أنها كانت تحب يعقوب، إلا أنها لم تُبغض عيسـو. ولهذا قالت: ” لماذا أعدم أثنيكما في يوم واحـد. ولهذا تحديدا قال الله آنذاك لقـايين: “عنـد الباب خطية رابضة وإليك اشتياقها ، لكي يجنبه القتل، لأنه كان يطلب سلام الاثنين. وحتى عندما قتلـه دون حـزن أو أسـى، لم تتوقف عناية الله بقايين، بل برأفة، يسأل قاتل أخيه قائلاً: “أين هابيل أخوك “. لكـي بهـذه الطريقـة علـى الأقـل يحثه، حتـى يقـدم تـوبـة. لكـن ذاك جـادل في الأمـور السابقة، جاعلاً السفاهات أكبر وأفظع، لكن هذا أيضا، لم يجعل الله يبتعد عنه، بل حدثه بكلام يليق بمـن يحـب بقـوة، على الرغم من أنه أهـين واحتقر، فيقول ” صوت دم أخيك صارخ إلي “. وأيضا لعن الأرض مع قاتل أخيه، تاركا غضبه للأرض، قائلاً: “ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبـل دم أخيـك مـن يـدك ‘ ، وقـد فـعـل مثلمـا يفعـل أولئك الذين يدعون شخصاً للرجوع.
هـذا مـا صنعه داود ، عندما سقط شاول. خاصة وأن ذاك (أي داود) لـعـن الجبال التي حدث عليها جريمة القتل (أي ذبح شاول)، قائلاً: “يا جبال جلبوع لا يكن طل ولا مطر عليكن .. لأنه هناك طرح مجـن الجبابرة. قال الله له، “صوت دم أخيك صارخ إلي من الأرض . فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك “. وقـال هـذا لكي يضبط غضبه الذي كان محتـداً، ولكي يقنعه على الأقل بأنه يحبـه حتى وإن لم يكن حيا. هكذا يقول لقد محوت حياته، فلماذا لم تمحو البغضة؟ لكن ماذا يفعل؟ إنه يحب هذا وذاك، لأنه خلق الاثنين. ماذا إذا؟ هـل سيترك قاتل أخيـه بـلا عقاب، لكنه في هذه الحالة سيصير أسوأ؟ فهل سيعاقبه؟ إلا أنه أكثر حنوا من أي أب. لاحظ إذا كيف أنه يعاقب ويظهر رحمة لنفس الشخص، أو مـن الأفضل أن نقول، لا يعاقب بـل يقـوم. لأنه لم يميته، بل قيده بالرعب، حتى يطرد العار منه، ليعود على الأقل إلى حنوه وعطفه، لكي يقيم عهداً مع ذاك الذي مات، وهذا أقل ما يجب فعله، لأنه لم يرد لقايين أن يرحل من هناك وهو لازال عدوا لهابيل الذي قتله.
إن الذين يحبـون يكونـوا مـثـل هـؤلاء، فعندما يصنعون إحسـانات، لا – يكونون محبوبين، ويصيرون قساة، ويهددون، بالطبع دون أن يريدوا ذلك، بـل إنهـم منقادون لهذا الأمـر مـن منطلق المحبة، ويمكن أن يجـذبوا أولئك الذين يحتقرونهم بهذه الطريقة، وإن كانت مثـل هـذه المحبة، لها غرض معين، لكن هذا أيضا يعزيهم بسبب المحبة الفائقة، وبناء عليه فإن العقاب أيضا يصير بالمحبة، لأن أولئك الذين يتضايقون حين يبغضوا ، لا يفضلون أن يعاقبوا. ولاحظ أيضا ما يقوله القديس بولس ـ بخصوص هذا الأمر ـ لأهـل كورنثوس: “لأنه إن كنـت أحـزنكم أنـا فـمـن هـو الـذي يفرحني إلا الـذي أحزنته. وبناء على ذلك، فعندما يزيد من حجم العقوبة جدا، عندئذ يظهر المحبة الفائقة. هكذا فإن زوجة فوطيفار المصرية عاقبت يوسف بقسوة بسبب المحبة الفائقة. لكنها بالطبع عاقبته بدافع من نفس شريرة، خاصةً وأن عشقها له كان يتسم بالفجور، ولكن الله يعاقب مـن أجـل أمـر حسـن، لأن محبته أيضا كانت بالقدر الذي يستحقه الذي أحبه. ولهذا لم يتجنب أيضا أن يستخدم كلاماً ثقيلاً، وأن يستخدم كلمـات بشـرية، وأن يدعو نفسه، غيور “لأني أنا الرب إلهك إلـه غيـور “، يقـول هـذا لكي تعلـم مـدى قدر المحبة.
ليتنـا تجـب الله كمـا يـريـد هـو، لأنه يعتبر هذا الأمر، هـامـاً جـدا. وإن تحولنا عنه، يظل يدعو، وإن تكاسلنا في العودة، يعاقب بمحبة، وليس لأنه يريد العقاب. لاحـظ مـاذا يقـول في سفر حزقيال، عن المدينة التي أحبها ، وأهانتـه “هاأنـذا أهـيـج عليـك عشـاقك وأسلمك إلى أيديهم وسيرجمونك وسيحطمونك. وسأنزع غيرتـي عنـك. وسأستريح ولـن أهـتم بعـد بـك . هل هنـاك قسـوة أكثـر مـن ذلـك، يظهرهـا وكـأنـه المحـب الـذي يحتقـر مـن محبوبته، والذي يحترق بالنار لأجلها؟ إن الله يصنع كل شيء، لكي يصير محبوباً لنا، ولهذا لم يشفق على ابنه. ولكننـا نحـن قساة ومتوحشـون. ويجب علينـا أن نصير ودعـاء، ولنُحـب الله كمـا ينبغي أن نحبـه، لكي نتمتـع بالفضيلة ونحـن فـرحين، لأنه إن كـان أحـد وهـو يجـب أو يعشـق امـرأة، لا يشعر بأي أمر من الأمور اليومية المحزنة، فكم يكون مقدار السعادة التي سيتمتع بها ذاك الذي يشتهي هذا العشق الإلهي النقي إلى أقصى حد.
إن هذا العشق الإلهي لأمر عظيم جداً، هو ملكوت السموات، هـو تمتع بالخيرات، إنه المسـرة، والابتهاج، والفرح، والسعادة. ومهما تكلمـت فـلـن أستطيع أن أعرض شيئاً يستحق أن يعادله، لكنني بـالخبرة أعـرف مـدى عظمة هذا العشق الإلهي.
ولهذا قال النبي “ذوقـوا وانظروا ما أطيـب الـرب”. لنخضع إذا ولنتمتع بمحبته. لأنه بسبب هذه المحبة، سنرى ملكوت السموات، وسنحيا حياة ملائكية، وعلى الرغم من أننا نحيا على الأرض، إلا أننا لن ننقص شيئاً عن أولئك الذين يسكنون السماء، وبعد انتقالنـا مـن هنا، ستمثل أمـام عـرش المسيح أكثر بهاء من الجميع وسنتمتع بمجده الذي لا يعبر عنه، والذي ليتنا جميعا نناله بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليـق بـه مـع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة إلى أبد الدهور أمين.
عظة 25 : رو11:13-
“هذا وإنكم عارفون الوقت أنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم”(رو۱۱:۱۳).
1 ـ بعدما أوصى بكل ما ينبغي فعله، يحثهم مرة أخرى أن يتمموا الأمـور الصالحة على وجه السرعة. لأن وقت الدينونة قريب جدا ، تماما كما كتب إلى أهل كورنثوس، قائلا: “الوقـت منـذ الآن مقصر “463. وكتب أيضا إلى العبرانيين “لأنـه بعـد قليـل جـدا سيأتي الآتـي ولا يبطئ “. لكنه في هاتين الرسالتين قـال هـذا لـكـي يشـدد الـذين تعبـوا ، ولكـي يعـزيهم في المتاعب، والتجارب المتوالية، بينما هنا في هذه الرسالة، قال هذا لكي يوقظ أولئك الذين ناموا (أي المتغافلين). كذلك فإن هـذا الكلام نافع للاثنين أيضا. لكن ما معنى قوله: “أنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم “؟ يعني أن القيامة قريبة، أن الدينونة الرهيبة قريبة، أن اليـوم الـذي يحـرق مثل أتـون النـار هـو قريب، ويجـب بـالأكثر أن نتخلص من اللامبالاة. لأن ” خلاصنا الآن أقـرب مما كان حين آمنا “.
أرأيت كيف أنه يقدم الآن موضوع القيامة لهؤلاء؟ لأن الزمن يمـر ووقـت الحياة الحاضرة يستنزف، ويأتي زمن الحياة الأبدية الذي هـو قريب جدا. إذا لو أنك مستعد وتتمم كل ما أوصى به، يصير اليوم يوم خلاص لك، أما إذا حدث العكس، فإن اليوم لن يكون بعد يوم خلاص.
لكنه لم يعـظ في البدايـة عـن الأمـور المحزنة، بـل عـن النافعة، لكـي يخلصهم بـذلك مـن إشـتهاء الأشياء الحاضـرة. بعـد ذلك، لأنـه كـان مـن الطبيعي أن يظهروا إستعدادا أكثر في البداية، طالما كانت رغبتهم شديدة ، إلا أن هذه الرغبة تبدأ في التلاشي تماماً مع مرور الزمن، وهنا يبدأ يوصيهم بأنهم لا يجب أن يفعلوا العكس، فلا يتراخوا كلما عبر الزمن، بل بالأحرى يكثروا من محاولاتهم. لأنه كلما أقترب موعد الملك، وكلما زاد الإستعداد وإقترب موعد المكافأة، بقدر ما ينبغي أن نستعد بالأكثر للجهاد، لأن هـذا ما يفعله العدائون، حين يصلون بالقرب من نهاية السباق وإستلام الجائزة ، فهم يزيدون بـالأكثر مـن بـذل الجهد ، ولهذا قال “خلاصنا الآن أقـرب مـمـا كان حين آمنا”.
۲ـ ” قد تناهى الليل وتقارب النهار” (رو۱۲:۱۳).
إذن إن كان الليل ينتهي، فالنهار يقترب، فلنصنع بالأولى أعمال النـور، وليست أعمال الظلمة. خاصة وأن هذا هو ما يحدث في الأمور الحياتية ، حين نرى أن الليل يركض نحو بزوغ الفجر، ونسمع تغريد العصافير، فإن كل واحد يوقظ قريبه، وإن كان بالطبع مازالت هناك ظلمة. ونظراً لأن الليـل يرحل بالفعل، فنحن نتصرف في عجالة ونتمم الشيء تلو الأخر، فالنهار قـد طلع، لذا ينبغي أن نصنع كل ما يليق بالنهار، أي نرتدي ملابسنا، ونفيق من الأحلام، ونودع النـوم، لكـي يجـدنا النهـار مستعدين، حتى لا نبـدأ حين مباشرة أن نستيقظ بـدون إستعداد ، بـل نـبـدأ ونفوسنا مستعدة حين تشـرق الشمس. إذا مـا نصنعه في حياتنا اليومية، فلنصنعه هنـا أيضا. فلنتجـاوز الخيال، ولنتخلص من أوهام الحياة الحاضرة، ولنترك النوم العميق، ولنلبس الفضيلة مقابل الملابس العادية. ولكـي يعـلـن الرسـول عـن كـل هـذا ، قـال ” فلنخلـع أعمـال الظلمة. ولنلبس أسلحة النـور “. خاصة وأن يومنـا يـدعونا للإصطفاف والخوض في المعركة.
لكـن لا نخـاف حين نسمع إصطفاف ومعركة، لأن التسلح بالأسلحة المادية، يعتبر أمراً ثقيلاً وغير مرغوب فيه، بينما هنـا هـو أمر مرغوب فيـه ويستحق أن نطلبه، لأن الأسلحة هنا هيأ أسلحة النور. ولهذا فإنها تبدو لك أكثـر بهـاء مـن أشعة الشمس، فهـي تشـع نـورا كثيراً، وتؤمنك، وتجعلك تشرق بشكل فائق، لأنها أسلحة النور. مـاذا إذا؟ هـل هناك حاجة لنحارب؟ نعم بالطبع ولكن لا لتجهد أنفسنا، ونتعب، لأن هذه ليست حرباً، بل فرحاً واحتفالا. هذه . هي طبيعة هذه الأسلحة (أسلحة النور)، وهـذه هـي قـوة القائد. وتماما مثل العريس الذي يتزين ويخرج من غرفة العرس، هكذا أيضا ذاك الذي هو مدعم بأسلحة النور، طالما أن كل من الجندي والعريس، يتزين بها في مسيرته. لكن بعدما قال إن النهار اقترب، لم ينتظر بل يقدمه على الفور، لأنه يقول:
“لنسلك بلياقة كما في النهار” (رو13:13).
الآن بلغ النهار، وأخذ يجذب هؤلاء عن طريق تلك الأمور التي ينصح بها الكثيرين، أي الوقار. لأنه تحدث لهؤلاء بحديث طويل عن المجد، ولم يقل “أن تسلكوا”، بل قال “لنسلك”، لكي يجعل النصح بلا ضجر، ويخفـف مـن التوبيخ.
“لا بالبطر والسكر”، لا أن يمنـع المـرء عـن أن يشـرب، بل يوصيه بألا يشرب بشكل مبالغ فيه. تماما مثل الكلام اللاحق أيضا، إذ يشير إليـه بنفس المعيار قائلاً: “لا بالمضاجع والعهر “. وبالطبع هـو هنـا لا يبطل الإتحاد الجسدي في إطار الزواج، لكنـه يـرفض الزنا. “لا بالخصـام والحسـد “. أي يحرم الأمور القاتلة من أهواء، وشهوة، وغضب، ولهذا تحديدا لا يبطـل هـذه الأمـور فقط، بل ويبطل مصادرها أيضا . لأنه لا يوجد شيء يشعل الشهوة بهذا القدر الكبير، ويجعل الغضب أمراً لا مفر منه، سوى السكر والفجور. ولذلك بعدما قال أولا “لا بالبطر والسكر”، أضاف لا بالمضاجع والعهر. لا بالخصام والحسد”. ولم يتوقف عند هذا الحد، بل بعدما نزع عنا الملابس المدنسة، اسمع كيف يزيننا فيما بعد قائلا:
” بل البسوا الرب يسوع المسيح ” (رو14:13).
لم يشـر بعـد إلى الأعمال، بل حثهم (عليهـا) إلى أقصى درجة، لأنه حين كلمهم عن الشر، أشار للأعمال، بينما حين تكلم عن الفضيلة، لم يشر بعد للأعمال، بل للأسلحة، مظهرا أن الفضيلة تقـود مـن يقتنيها إلى الأمان وإلى كـل بـهـاء. وهنـا أيضا لم يتوقف، بل استمر في الحديث عـن مـا هو أعظم، والذي هو أمر مرعب جدا ، يقدم لنا الرب نفسه كملبس، الملك ذاته يقدمه كملبس. لأن ذاك الذي هو لابس الرب، يملك كل الفضيلة.
لكن عندما يقـول “البسـوا” يأمر أن نلبسـه نـحـن بالكامل، تماما كما يقـول في موضع آخـر “إن كـان المسيح فيكم “، وأيضا “ليحل المسيح ” بالإيمان في قلـوبكم “. كـذلك يريـد أن نكـون نـحـن أنفسـنـا مسـكنا للمسيح، ونلبسـه كملبس، ويكـون هـو لنـا كـل شـيء مـن الـداخل ومـن الخارج. لأنـه هـو كمالنا، إذ هو “ملء الذي يملأ الكل في الكل”. وهـو الطريق، والزوج، والعريس، لأنه يقول ” خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح ‘، وهو الأصل أو الجذر، والماء وطعام الحياة “أحيا لا أنا المسيح يحيا في ، وهو الرسول، ورئيس الكهنة، والمعلم، والأب، والأخ، والوارث، والشريك في قبرنا وصليبنا “فدفنا معه .. للموت .. صرنا متحدين معه بشبه موته “٤٧٠، المتوسل “نسعى كسفراء عن المسيح “، والشفيع عنا أمام الآب ” بالحرى يشفع فينا ، وهو المسكن والساكن “يثبت في وأنا فيه ، وهو المحب “أنتم أحبائي”، وهـو الأساس وحجر الزاوية ، ونحن أعضائه، ونحن الحقل، والبناء، والأغصان، والعاملون معه أيضا. وما هو الذي لا يريده منا، ولا يرغب أن يكون فينا، لكي يجمعنا معاً ويوحدنا بكل الطرق، الأمر الذي هو سمة ذاك الذي يحب بشكل فائق. إذا لتخضع، وبعدما تستيقظ من النوم، إلبس المسيح، وبعدما تلبسه، قدم له جسدك بالطاعة. لأن هذا هـو مـا أشـار لـه قائلاً: ” ولا تصنعوا تدبيرا للجسد لأجل الشهوات”.
فكما أنه لم يمنع شرب الخمر، بل منع السكر، ولم يمنع الزواج، بل منع الفجور، هكذا لم يحرم الاعتناء بالجسد ، بل أنـه قـد حـدر مـن الإشباع المبالغ فيه لشهوات الجسد، فمـن حيـث أنه يأمر بالإهتمام بالجسد، اسمع مـاذا يقـول لتيموثاوس “استعمل خمـرا قلـيـلا مـن أجـل معـدتك وأسقامك الكثيرة . هكذا هنا أيضا، فهو يوصي بالاهتمام بالجسد، ولكـن مـن أجل سلامة الصحة، وليس من أجل الفجور. إن توفير الظروف التي تساعد على إشعال النار بشكل مخيف، لا يمكن إعتبارها رعاية أو اهتمام. ولكي تعلموا جيدا، ماذا يعني، على أية حال، إعتناء المرء بالجسد لإشباع شهواته ، ولتـدركوا كيـف يمكن تجنب الاهتمام الخاطئ، عليكم أن تتذكروا السكارى، والـذين هـم عبيـد لبطـونهم، والـذين يفتخرون بملابسهم، والفاسقين، وأولئك الذين يحيون حياة اللذة، الحياة المملوءة بالمتع، وستعرفوا معنى ما قيل.
لأن أولئك الذين يفعلـون كـل شـيء، هـم يفعلـون ذلك، لا مـن أجـل أن يصيروا أكثر صحة، بل لكي يشعروا بالمتعة، لكي يشعلوا الشهوة في نفوسهم. لكن أنت يا من تلبس المسيح، لتطلب شيئا واحدا فقط، أي كيف يكون لك جسدا معافيا، وتعتني به إلى هذا الحد فقط، وليس أكثر من ذلك، بل أن تخصـص كـل رغبتـك لاقتنـاء الصـلاح الروحـي أو الخيرات الروحية. هكذا سيمكنك أن تستيقظ من هذا النوم، دون أن تشعر بثقل من هذه الشهوات المتنوعة. كذلك فإن الحياة الحاضرة، هـي نـوم، وكـل مـا يحدث في هذه الحياة، لا يختلف أبـدا عـمـا يـحـدث في الأحلام. وتماما مثل هؤلاء الذين ينامون، ويهذون، ومرات كثيرة لا يرون شيئا صحيحا، هكذا نحن أيضا، وربما نكون أسوأ بكثير. ممن يرتكب أفعالاً فاضحة أثناء الحلم، فهو لا يعاقب عليها عندما يستيقظ، بل يتخلص منها. أما بالنسبة لما يحدث بالفعل فإن عقابه لا ينتهي، وهكذا العار الناتج عن هذه الأفعال، وكل من صار غني في الحلم أيضا ، ينال توبيخا عندما يشرق النهار، لأنه حلـم بـالغنى، وقبل أن يطلع النهار، وقبل أن ننتقل إلى هناك، تتبدد كـل الأحلام.
٣ـ ليتنـا تلقـي عـن كاهلنـا هـذا النـوم الشـرير، لأنه إن كـان النهـار قـد أمسك بنا في حالة النوم، فسيتبعه الموت الأبدي. بل إننـا قبـل ذلـك اليـوم (أي يوم الدينونة) سنكون صيدا سهلاً لكل الأعداء من الأشرار، الذين يأتون إلينا ونحن في حالة خمول ونوم، وإن أرادوا أن يهلكونا ، فلن يوجد ما يمنعهم من ذلك. لكن إن كان الساهرون (أي اليقظـون) هـم كثيرون، فإن الخطر لـن يـكـون كبيرا بهذا القدر، لأنه إن أشـعـل واحـد أو أثنين سـراجا وظـل ساهرا ، بينما كان الآخرون نيام، تماما مثلما يحدث في منتصف الليل، يكـون الخطـر أقـل. ولذلك ينبغي علينا أن نتحلى بالكثير مـن اليقظـة والكثير من الحذر، حتى لا تصاب بشـرور لا تعالج أبدا. ألا لنـا الآن كيف أن النهار مشرق؟ ألا نعتقد أننا استيقظنا وأننا هادئون؟ لكننا جميعاً – ربما تسخرون من الكلام، لكنني سأقوله ـ تشبه أولئك الذين يغطون في نوم عميـق . إن الأكثرية تغط في نوم عميق، بينما الشيطان يثقب الأسوار ويفترس كل النائمين، ويسلب كـل مـا يوجد في الداخل، صانعا كـل هـذا بكل اطمئنان، كمـن يعمل في ظلام دامس. أو مـن الأفضل أن نقول، إن الشيطان يعرف أنه يستحيل على أحد من النائمين أن يراه، ليتنا نفكري عدد الذين إنزعجوا من جراء الرغبات الشريرة، والذين سيطر عليهم إدمان الفجور الفظيع، وكم عدد الذين يطفئون نور الروح تماما. ولهذا فإن النائمون يرون أمورا غير حقيقية ويسمعون وساوس وهمية، ولا يصغون لكـل مـا يقـال لهم هنا.
لكن إن كنت أنا أكذب عندما أتحدث عن هذه الأمور، وأنت متيقظا ، أخبرني، ماذا حدث اليوم هنا، إن لم تكن قد سمعت هذه الأمور كأنها في حلم؟ وأنـا أعـرف بـالطبع أن البعض يتساءلون لماذا لم أتحـدث عـن هـذه الموضوعات في مواجهة الجميع”. لكن يا من أنت مذنب فيما يختص بالأمور السالفة ، ويـا مـن دخلـت هنـا بـلا فائدة، تكلم: أي نبي، وأي رسـول حـدثنا اليوم، وعن أي الأشياء تحدث. ولكنك أنت لا تستطيع أن تقول، لأنك سمعت وساوس كثيرة هنا، كما في حلم، دون أن تستمع للأمور الحقيقية. لكـن دعنا نتكلم عن هذه الأمور للنساء، خاصة وأن النوم عنـدهـن كثير، وليته هـو نـوم، لأن مـن يـنـام لا يتكلم بالشر، ولا بالصلاح، بينما اليقظ مثلكم يتكلم كثيراً عـن شـره، محصيا المكاسب، وحاسبا الأرباح والقروض، حاملاً في ذاكرته تجارته القذرة، زارعا الأشـواك في نفسه بكثافة، غير تارك البذرة قليلاً حتى تثمر. عليك أن تستيقظ تماما، وإنزع هـذا الشـوك مـن الجذور، وإلقـي عنـك السكر، لأن مـن هـنـا يـأتي النـوم . لكنني لا أقصـد بالسكر، سكر الخمر فقط، بل الإنشغال بالهموم المعيشية أيضا، والتي بسببها، يأتي إدمان الخمر المسكر.
وأنا لا أنصـح الأغنياء فقـط بهذه الأمور، بـل والفقراء أيضا، وبخاصة أولئك الذين يصنعون موائد للأصدقاء، لأن هـذه خاليـة مـن أي إستمتاع ولا تجلب راحة، بل جزاءاً وعقوبة. لأن الإستمتاع ليس أن نتكلم كلاماً وقحاً، بل أن نتكلم بوقار، أن نشبع، لا أن تتخم، أما إن اعتقدت أن في هذه الموائد لذة، فإظهر لي في المساء هـذه اللذة . إنك لا تستطيع أن تُظهرها، وأنا لم أتكلم بعد عن الأضرار الناتجـة مـن جـراء هذه الموائـد. بل أكلمك أولاً عن اللذة التي تذبل على الفور. لأنه في لحظة واحدة تنفض المائدة ويختفي الفرح. لكـن عنـدما أشير إلى القيء، وأوجـاع الـرأس، والأمراض التي لا تعـد ، وعبودية النفس، ماذا ستقول في كل هذه الأمور؟ فهل لأننـا فقـراء، يجب أن نسلك بـلا وقار؟ إنني أتكلـم عـن هـذه الأمور، لا لكي أمنعكم أن تعدوا موائد مشتركة، ولا لكي أمنعكم عن أن تُقيموا طعام مشترك، بل لكي أمنعكم أن تسلكوا بلا وقار، ولأنني أريد للمتعة أن تكون متعة حقيقية ، وألا تكـون عقابا، وسكرا، وعربدة. وليعلم الأمم، أن المسيحيين يعرفـون على أية حال كيف يتمتعوا بوقار . يقـول المرنم “افرحوا في الـرب بـخـوف.
وكيـف يكـون ممكنًـا أن نفــرح؟ نفــرح ونحـن نقـول التسابيح، ونرفع الصلوات، ولتحل المزامير محل تلك الأناشيد السفيهة.
وهكذا فإن المسيح سيكون حاضرا بجوارنا على المائدة، يبارك كل الطعام والشراب، عندما نصلي، وعندما تُرنم روحيًا، وعندما ندعو فقـراء إلى الشركة في الطعام المقدم، وعندما تدبر كل شيء بطاعة ووقـار علـى المائدة. هكـذا أيضا يتناول أعضاء الكنيسـة الطعام والشراب، ويسبح الجميع الرب، ويحل هذا التسبيح مكان الصياح والأغاني غير اللائقة. ولا تقل لي، إنه قد ساد ناموس آخر، بل عليك أن تصحح التصرفات الشريرة ، هكذا يقول: “فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئا فافعلوا كل شيء لمجد الله “. خاصة وأن الرغبات الشريرة تتولد من هذه الموائد، ومنها يأتي الفجور، ومن هنا أنتم تحتقرون نساءكم، بينما تُكرمون العاهرات ، من هنا يأتي التفكك الأسري، وتأتي شرور لا حصر لها، وتعم الفوضى في كل شيء، فبعدما تركتم النبع النقي، ركضتم إلى مجرى الوحل. وحيـث إن جسد الزانية هو وحل، فإنني لا أسأل أحداً في هذا الأمر، بل أسألك أنت يا من تتمرغ في الوحل، إن لم تخجل من نفسك، إن لم تتصـور إلى أي مدى تكون نجاستك بعد إرتكاب الخطية.
4 ـ ولهذا أتوسل إليكم أن تتجنبوا الزنا، ومصدره الذي هو السكر. لماذا تزرع حيث لا يمكن أن تحصد، أو ربما حتى وإن حصدت بعد، فإن الثمـر يحمل لك كثيراً من العار؟ لأنه، حتى وإن ولد طفل مـن هـذه العلاقة الآثمة ، فإن هذا يخجلك، ويكون هذا الطفل قد ظلم بسببك، طالما أنه يعتبر أبناً غير شرعي، ومـن أصـل سـيء. حتى وإن كنت تترك لـه أموالاً طائلة، فهـو يصير محتقرا في البيت، ومحتقرا في المدينة، ومحتقرا أمام القضاء: هـذا هـو المولود من زانية، هذا هو المولود من خداع، بل وأنت أيضا تكون، محتقراً حين تعيش، وحين تموت، لأنه حتى وإن مـت بعـد ، تظل ذكريات أعمالك المشينة باقية. لماذا إذا تلصق العار بالجميع؟ لماذا تبذر، في مكان يخنق الثمـر النـاس حسـب أركـان العالم وليس حسب المسيح”، وأيضا “فـلا يحكـم عليكم أحـد في أكـل أو شـرب أو مـن جـهـة عيـد أو هـلال أو سـبت” و “لا يخسركم أحد الجعالة “. بل ويكتب إلى أهل غلاطية بدقة كبيرة ويطلب من هؤلاء الإيمان والكمال في موضوعات مثل هـذه . لكنه هنا لا يستخدم هذا الإسلوب بسبب انهم كانوا حديثي الإيمان . إذا لا يجب أن نقـول هـذه العبارة ” فليتيقن كـل واحـد في عقله”، عند مناقشة أي موضوع، لأنه حين يكون الكلام عن العقائد أسمع ماذا يقـول: “إن كان أحد يبشركم بغير ما قبلتم فليكن أناثيمـا “. وأيضا “أخاف إنـه كمـا خـدعت الحيـة حـواء بمكرها هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح”، ويكتب إلى أهل فيليبي قائلا: “أنظروا الكلاب أنظروا فعلة الشر أنظروا القطع” أما بالنسبة إلى أهل رومية. فنظرا لأن الوقت لم يكن مناسبا لتصحيح هـذه الأمور. فهو يكتب قائلاً: ” فليتيقن كل واحد في عقله”. خاصة وأن الكلام كان عن الصوم أيضا، وهـو قـد تكلم عن هذه الأمور لكي يمحو تفاخر أولئك ولكي يبدد الخوف عند هؤلاء.
” الذي يهتم باليوم فللرب يهتم والذي لا يهتم باليوم فللرب لا يهتم. والذي يأكل فللرب يأكل لأنه يشكر الله، والذي لا يأكل فللرب لا يأكل ويشكر الله” (رو١٤-٦).
هنا أيضا هو مستمر في الإهتمام بهذه الأمور. بالطبع ما يقوله يعني الآتي: أن الأمر لا يتعلق بالمبادئ الأساسية. فإذا كـان هـذا الأمر يفعلـه هـذا وذاك لأجل الله، فإن ما يطلب هو أن الاثنين ( أي الذي يهتم والذي لا يهتم والذي يأكل والذي لا يأكل) يجب أن يختما بالشكر على ما يقومان به، خاصة أن كليهما يشكران الله . إذا فإن كان الإثنان يشكران الله، فسيكون إذن ليظهر المسيح من داخلنا مـن كـل الوجـوه. وكيـف سيظهر؟ إن فعلت ما يفعله. وماذا فعل هو؟ “أما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه هـذا ما يجب أن تتشبه به أنت أيضا. كان يجب أن يحيا متمتعا بالطعام، فأكل خبز الشعير، كان يحتاج للسفر فلم يجد خيولاً، ودواباً، فمشى مسافات طويلة جدا ، حتى أنه تعب أيضا، كان يحتاج أن ينام، لكنه رقد وجعل من مقدمة السفينة وسادة لرأسه. احتاج أن يجلسهم للطعام، فأمر أن يجلسوا فوق العشب. بل وملابسه أيضا كانت زهيدة، وفي حالات عديدة بقى وحده ، دون أن يحضـر أحـد معـه، وطالمـا أنـك تـعـرف كـل مـا حـدث في الصليب ، والإهانات، وكـل شـيء بشكل عام، فلتفعـل كـل هـذا ، ولا تهتم بإشباع شهوات الجسد، وبذلك تكون قد لبست المسيح. لأن إشباع الشهوات لا يحمل في طياته أي سعادة، طالما أن هذه الشهوات تلد أيضا أشياء أخرى مؤلمة، ولن تكتـف أبـدا بالشبع . إن الذي يعيش في الشهوات دومـاً يشـبـه مـن يظـل عطشاناً، وحتى ولو كانت بالقرب منه آبار مياه لا حصر لها، فإنـه لـن يربح شيئاً من ذلك، طالما أنه لا يستطيع أن يطفئ شهوته.
أما إذا تدرب الجسد على الحرمان، فلن يصـاب مطلقا بلهيب الشهوات ، بل سيفارقك السكر، وأعمال الفجـور. إذا عليك أن تأكل بقـدر مـا توقف الجوع، وتلبس، بقدر ما تتغطى فقط، ويجب ألا تزين الجسـد بـالملابس، لكي لا تهلكـه بأفعالك المشينة، خاصة وأنـك بهـذا تجعله أكثر وهنا ، وتضر بالصحة، بعدما تضعفه بكثير من الحماقة. لكي يكـون لـك هـذا الجسـد مثـل عـربـة حسـنة للنفس، لكي يجلـس القائـد بـأمـان أمـام عجلـة القيادة، ولكي يستخدم الجندي الأسلحة بسهولة، فعليك ممارسة كل ذلك كما ينبغي . لأن ما يجعلنا لا نقبل الهزيمة، ليس هو أن نمتلك الكثير، بل هو أن نحتاج للقليل، لأن ذاك (أي الذي يمتلك الكثير)، حتى وإن لم يعتدى عليـه بعـد ، يخاف، بينما ذاك (الذي لا يحتاج إلا للقليل)، حتى وإن أعتـدى عليه، سيكون في حالة أفضل من أولئك الذين لم يعتدى عليهم بعد، ولهذا سيكون دائما في بهجة أكثر. إذا يجب ألا نطلب الكثير، وكذلك نطلب ألا يصيبنا أحـد بالضرر، بل وحتى إذا كان يريـد بعـد أن يؤذينا، فإنـه لـن يستطع. وهذا لن يحدث بأي حال على الإطلاق، حين نحتمل الحرمان، ولا نشتهي المزيد. لأنه هكذا إنطلاقا من هذا السلوك، سنستطيع أن نحيا حياة مملوءة بالسعادة، وسننال خيرات الدهر الآتي، بالنعمة ومحبة البشـر اللواتي لربنـا يسـوع المسيح الذي يليـق بـه مـع الآب والـروح القدس المجـد والقـوة والكرامة إلى دهر الدهور آمين.
تفسير رومية 12 | تفسير رسالة رومية | تفسير العهد الجديد | تفسير رومية 14 |
القديس يوحنا ذهبي الفم | |||
تفاسير رسالة رومية | تفاسير العهد الجديد |