تفسير رسالة رومية اصحاح 15 للقديس يوحنا ذهبي الفم
الإصحاح الخامس عشر
عظة ٢٨:
إذا بعدما أعطى القديس بولس المجد للمسيح، نجده ينتقل مـرة أخـرى مـن الطلب إلى النصيحة، محولاً كلمته تجاه الأقوياء أي الأكثر قوة في الإيمان ، قائلاً: ” فيجب علينا نحن الأقوياء”، أي إننا لسنا بصدد تقديم إحسـان بـل هـو أمر يجب أن نفعله. فماذا يجب علينا؟
” أن نحتمل أضعاف الضعفاء” (رو15: 1).
أرأيت كيـف إنـه بالمـديـح رفـع مـن قـدر هـؤلاء الأقوياء، ليس فقـط بـأن يدعوهم أقوياء، لكن بأن يعتبر نفسه واحدا منهم؟ وليس ذلك فحسب، بل يحثهم علـى كـل مـا هـو مفيـد و مـفـرح. فيقـول أنـت قـوي، وعندما تُظهـر تسامحا، فإنك لـن تـضـار علـى الإطلاق، أما بالنسبة للضعيف، فإن خطـر مواجهـة أسـوأ أنـواع الشـرور، يظـل قائما، ما لم تكن لديـه القـدرة على الإحتمال. ولم يقل، “أن نحتمل الضعفاء”، بل ” أن نحتمل أضعاف الضعفاء”، وذلك لكي يحث القـوي ويقـوده إلى السلوك بالرأفة، كما يقول في موضع آخر “إن إنسبق إنسان فأخذ في زلة، فأصلحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة” هل صـرت قويًا؟ فلترد المكافأة لله الذي جعلك قويا، وستردها حين تصلح مريضا ضعيفا. خاصة وإننا نحن أيضا ضعفاء، ولكننـا صـرنا أقوياء بالنعمة. ولا يجـب أن تظهـر هـذا الاحتمال في هذه الحالة فقط، بل وتسلك به أيضا مع الذين يعانون من أمراض مختلفة، فلو أن هناك شخص سريع الغضب، أو شتام، أو كان يتصف بعيب أو نقص مشابه، فيجب عليك أن تحتمله.
وكيف يمكن أن يحدث هذا ، إسمع الكلام الأتي، لأنه بعدما قال: ” يجب أن نحتمل” أضاف “ولا ترضى أنفسنا “.
” فليرض كل واحد منا قريبه للخير لأجل البنيان” (رو15: 2).
ما يقوله يعني الآتي: هل أنت قـوي؟ فليتعرف الضعيف على قوتك، ليعلم قوتك، ولتصنع ما يرضيه، ولم يقل فقط “فلترضي” بل قال “لخيره”، وليس فقط لخيره، لكي لا يقول الكامل في الإيمان، هـا أنـا أجذبه للخير، بل أضاف: “لأجل البنيان”. وبناء على ذلك فسواء كنت غنيا، أو في موضع سلطة، فيجب عليك ألا تصنع ما تُرضي به نفسك، بل إصنع تلك الأمور التي تُرضي بها الفقير، والمحتاج . وهكذا ستتمتع بالمجد الحقيقي، وستكون سببا في فوائد كثيرة. لأن مجـد الأمـور العالميـة يختفـي ســريعا، بينمـا مجـد الروحيـات لا يـزول، إن فعلـت هـذا لأجـل بنيانـه، ولهذا فهـو يطلـب ذلـك مـن الجميع، أي ليس فقط من هذا وذاك، بل من “كل واحد”.
بعد ذلك، ولأنه أوصى بشـيء عظيم، وأوصـى أهـل روميـة أن يتركـوا الاهتمام بأنفسهم، لكي يصلحوا ضعف الآخر، نجده مرة أخرى يتحدث عن المسيح، قائلاً:
” لأن المسيح أيضا لم يرض نفسه” (رو15: 3).
وهـذا مـا إعتـاد عـليـه القديس بولس، خاصـة عنـدمـا كـان يتكلم عن الرحمة، فيقول: “فإنكم تعرفـون نعمة ربنـا يسوع المسيح إنـه مـن أجلكم أفتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم بفقـره. وعندما كان ينصح بالمحبة ، كـان يحدد توجهه، قائلاً : “كما أحب المسيح. وعندما نصح بالصبر على الخزي والأخطار، نجده يضع المسيح نموذجا لذلك، قائلاً: “الذي من أجل السرور الموضوع أمامه أحتمل الصليب مستهينا بالخزي”. هكذا وهنا أيضا يوضح مدى إحتمال المسيح، وأن داود النبي قد سبق وأنبأ بذلك من قبل. ولهذا أضاف: “كما هو مكتوب تعييرات معيريك وقعت على”. لكن ماذا يعني بعبارة “لم يرض نفسه؟ ” لقـد كـان مـن الممكن للمسيح أن لا يسمح لأحد أن يهينـه، وأن لا يعـانـي مـا عـانـاه، لـو كـان قـد أراد أن يهتم إهتماما منصبا على ما هو لصالح نفسه، لكنه لم يرد ذلك، بل تجاوز ما هو لخيره ، لأنه إهتم بما هو لخيرنا. ولماذا لم يقل (هنا) أخلى ذاته، بل قال ” لم يرض نفسه”؟ لأنه لم يكن يريد أن يظهر هذا الجانب فقط، أي إنه صار إنسائا ، لكنه أراد أن يظهر أنه أهين أيضا، ووقع عليـه شـر عظيم من كثيرين، إذ أعتبر ضعيفا. وقيل له: “إن كنت إبن الله فأنزل عن الصليب” وأيضا “خلص آخرين وأما نفسه فلم يقدر أن يخلصها”.
ولهذا فقد أشار إلى النبوءة التي تؤكد حقيقة ما قاله، بل ويظهر أكثر بكثير مـن ذلـك الـذي وعـد بـه. لأنه لم يبين فقـط أن المسيح قـد أهـين، بل والآب أيضا. “تعييرات معييرك” هكـذا يقـول “وقعت علـى”. مـا يقـولـه يعـني الآتي: أنه لا شيء جديد قد حدث، ولا شيء غريب، لأن أولئك الذين فكروا أن يهينوا الآب في العهد القديم، هم الذين حنقوا جدا على الابن. وهذه الأمور كتبت، لكـي نحـذو حذوه (أي نسـلك كـمـا سـلك هـو). هنـا هـو يـعـدهـم للإحتمال والصبر حين تقع التجارب.
“لأن كل ما سبق فكتب كتب لأجل تعليمنا حتى بالصبر والتعزية بما في الكتب يكون لنا رجاء” (رو4:15).
أي لكي لا نفقـد الرجـاء، لأن الجهاد الروحـي متنـوع مـن الـداخل ومـن الخارج، هذا الجهاد يدعونا إلى الصبر، فننال قوة وتعزية من الكتب، لكي نتمسك بالرجاء، ونعيش بالصبر. أي أن هـذين الأمرين أي الصبر والرجـاء يصنع أحدهما الآخر، فالصبرينشئ رجاء، والرجاء ينشئ صبرا، والاثنان يأتيان من الكتب المقدسة.
3. ثم ينتقل بعد ذلك إلى الطلبات، قائلاً:
” وليعطكم إله الصبر والتعزية أن تهتموا إهتماما واحدا فيما بينكم بحسب المسيح يسوع” (رو15: 5).
أي إنه بعدما قدم نصيحته، أخذ يتحدث عن السلوك بحسب المسيح، وعن الشهادة الـتي مـن الكتب المقدسة، لكـي يبين أن المسيح يعطـي الصـبر، بالإضافة إلى الكتب، ولهذا قال: “وليعطكم إله الصبر والتعزية أن تهتموا إهتماما واحدا فيما بينكم بحسب المسيح يسوع” لأن ما يعتبر دليل محبة، هو أن يهتم الشخص بالآخر مثل إهتمامه بنفسـه تماما. بعـد ذلـك لـكـي يبـين أيضا، أنه لا يطلب محبة فقط، أضاف: “بحسب المسيح يسوع”، الأمر الذي يفعله في كل موضع، لأنه يوجد نوع آخر مـن المحبـة. ومـا هـو فائدة الإهتمام الواحد؟ يقول:
” لكي تمجدوا الله أبا ربنا يسوع المسيح بنفس واحدة وفم واحد” (رو6:15).
لم يقل فقط “بفم واحد”، لكنه أمر أن نصنع هذا “بنفس واحدة”. أرأيت كيـف أنـه وحـد كـل الجسد (أي الكنيسة)، وختم الحـديـث مـرة أخـرى بالتمجيد ، ومن خلاله حث الجميع، وبشكل خاص، على الوئام والتوافق. وبعد ذلك، وإنطلاقا من هذا الحديث، يعود أيضا إلى نفس النصائح قائلاً:
” لذلك إقبلوا بعضكم بعضا كما أن المسيح أيضا قبلنا لمجد الله” (رو15: 7).
النمـوذج إلهي أيضا والفائدة التي تجنيهـا لا يعبر عنها، لأن هـذا الـوئـام والإهتمام الواحد يمجد الله بقوة . وبناء على ذلك فحتى وإن كنت تختلف مع أخيك، إلا إنـك تأسـف لأجله، إذ تـدرك أنـك بهـذا تُمجد إلهك، أي عندما ثوقف الغضب، وإن لم يكن لأجل أخيك، فعلى الأقل لأجل أن تتصالح مع نفسـك بصـفة خاصة، أو مـن الأفضـل أن نقـول، عليك أن تتصالح أولاً مع نفسك لأجله. خاصة وأن المسيح يذكر هذا في كل موضع، متحدثا مع الآب قائلا: “ليكونوا هم أيضا واحدا فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني”.
٤. إذن فلنخضع للجميع، ولنكن واحدا فيما بيننا. لأن النصيحة لا توجه هنا للضعفاء فقط، بل إلى الجميع، وحتى إن أراد أحد أن ينفصل عنـك، لا تنفصل أنت عنه، ولا تقل كلاما فاترا مثل: إن أحبني أحبه، إن لم تحبني عيني اليمنى، سأقلعها. لأن هذا الكلام هو كلام شيطاني ويليق بالعشارين وصغار النفوس وعبده الأوثان. أما أنت يا من دعيت لمدينة عظيمة وحسبت مـن مواطني السماء، فإنك مسئول عن تنفيذ وصايا عظمى، ينبغي إذا ألا تتكلم بهذا الكلام، بل حين يعبر أحد عن رغبته في عدم محبتك، فلتُظهر أنت محبتـك بصـورة أقـوى، لكي تجذبـه للمسيح، خاصة وأنه عضـو في جسـد المسيح، والعضـو عنـدمـا ينفصـل عـن باقي الجسد لسبب خارج عن إرادته، فإننا نفعل كل شيء، لكي نوحده معنا مرة أخرى، وعندئذ تظهـر لـه عناية أكبر، لأن المكافأة تكون أكثر عندما يتمكن المرء من أن يجذب الآخر الرافض للمحبـة. إذا فـإن كـان يأمرنا أن نوجـه دعـوة لمأدبة غداء للذين لا يتمكنون أن يردوا لنا الدعوة، فذلك لكي يزداد عدد الذين يأتون نتيجة هذه المجازاة، فبالأولى كثيرا يجب أن نفعل هذا إنطلاقا من المحبة. لأن ذاك الذي يحب ويجب، يرد لك المكافأة، بينما ذاك الذي يحب ولا يحب، فقد جعل الله، هو المدين لك بدلاً منه”. وبالإضافة إلى كل هذا، فعندما يحبك ويرد لك الدعوة، فإنه لا يكون في حاجة لرعاية كبيرة، أما عندما لا يحبك ولا يستطيع أن يدعوك، فحينئذا يكون محتاجا لمساعدتك.
إذن لا ينبغي أن تجعل رعايتك له سببا للخمول، ولا تقل إنني أهمله لأنه مريض. خاصة وأن مرضـه نـاتج عن تجمد مشاعر المحبة، لكـن إمـلأ ذاك الـذي يـعـانـي مـن تجمد مشاعر المحبـة، بـدفء محبتك، إذا مـاذا سأفعل، هكذا يقول، لو أنه لم يشعر بالدفء؟ أقول عليك أن تصر على بذل قصارى جهدك، وماذا إن لم يحدث تغيير إلى الأفضل؟ هذا أيضا يمنحك جزاء البر، ويظهرك بالأكثر مشابها للمسيح في محبته للآخر. لأنه إن كان لنا محبـة بعضـنـا نحـو بعض، فهذه صـفـة يتسـم بهـا تلاميذ المسيح، لأنه يقـول ” بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حبا بعضا لبعض”، فكري كم تكون عظيما عندما تحـب مـن يبغضك، لأن إلهك أيضا أحـب وعـزى الذين أبغضوه، وبقدر ما كانوا مرضى، بقدر ما قدم لهم رعاية أكثر، وكرز قائلاً: “لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى”، وأعتبر العشارين والخطاة مستحقين لنفس المائدة، وبقـدر مـا إهانة اليهود ، بقـدر مـا أظهـر كرامة وعنايـة بهـم، بـل والأفضـل أن نقـول إنـه قـد أظهـر أكثـر مـن ذلـك بكثير. هـذا هـو الـذي يجب أن تحذو حذوه أنت أيضا . وبالطبع فـإن هـذا الإنجاز ليس بالأمر الهين، بل بدون المحبة، فإنه ولا حتى ذاك الذي يشهد للإيمان، يمكن أن يصير مقبولاً لدى الله بهذا القدر الكبير، كمـا يقـول الرسول بولس.
إذن لا تقل، أنهم يبغضونني ولذلك فأنا لا أجب، بل من أجل هذا تحديدا يجب أن تُحب . ومن ناحية أخرى فمن غير الممكن أيضا حين تُحب أن تبغض سريعا، وحتى إذا كـان الـذي تحبـه وحشا، فإنـه يحـب الـذين يحبونه. لأن الكتاب يقول “أليس العشارون أيضا يفعلون ذلك””. لكن لو أن كل واحد يحـب أولئك الذين يحبونه، فهـل هـنـاك مـن لا يحب، أولئك الذين يحبـون مبغضيهم، وحتى في نفس اللحظة التي يتعرضون فيها للبغضـة؟ هـذا إذا ما ينبغي أن تُظهـره، ولا تتوقـف عـن الـكـلام في هـذا الأمـر هنـا، أي مهمـا أبغضتني، فلن أتوقف عن أن أحبك .
فينبغي أن تبطل كل صراع، وكل المشاعر الجافة التي للنفس. لأن هـذا المرض (أي البغضة) يأتي إما من لهيب الشهوة أو مـن تجمد مشاعر النفس ، أما قوة المحبة فغالبا ما تصحح الأمرين (أي اللهيب الداخلي وتجمد مشاعر النفس)، ألا ترى أن أولئك الذين يعشقون النساء العاهرات يلطمـون ببذاءة ، ويبصق عليهم، ويشتمون، ويعـانـون شـرورا لا حصر لها؟ فهـل الشتائم قـد وضعت نهاية لعشقهم، لا على الإطلاق، بل أشعلته بالأكثر. وإن كان أولئك النساء اللواتي يفعلن هذه الأمور بالإضافة إلى عهارتهن، ينحدرون بالطبع من أصل وضيع، بينما يمكن أن يكون الذين يعانون (هـذه الإهانات في كثير من الأحيان)، هم من أصل راقي ومرموق ويتمتعون بمزايا عديدة، ورغم ذلك فلا شيء من كل هذا يثنيهم، ولا يبعدهم عن عشيقاتهم.
ألا نخجل بعد كل هذا ، فمهما كانت قـوة عشـق إبليس والشياطين، ألا نستطيع إظهـار مـدى عظمة المحبة التي تتفق مع إرادة الله؟ ألا تفهم أن هـذا العمل، هو سلاح قوي جدا ضد الشيطان، ألا ترى أن ذلك الشيطان الخبيث قائم، لكي يجذب إلى نفسه ذاك الذي يبغض ويريد أن يخطف عضـوا مـن أعضاء الجسد، بينما أنت لا تبالي وتسلم جائزة النصرة في المعركة، خاصة وأن الأخ قـائم في المنتصـف كـجـائزة، فـإن إنتصـرت، فأنـت الـذي تفـوز بالإكليل، لكن إن كنـت لا ثبـالي، فأنت تمضـي وأنـت غـيـر مـتـوج . إذا فلنكف عن التكلم بذلك الكلام الشيطاني، مثل: لو أن عيني أبغضتني ، فلن أستطيع أن أعتبرها جزء مني. لأنه لا يوجد كلام أكثر تفاهـة مـن هـذا الكلام، على الرغم من أن الكثيرين يعتبرونه دليلاً على نفس نبيلة. إلا إنه يوجد من هو أكثر دناءة من ذاك (الذي يتحدث بهذه الأمور)، ولا يوجد ما هو أكثر غباء وأكثر حماقة من هذا. ولذلك فعلى أية حال فإني أحزن، لأن الشرور، قـد أعتبـرت فضيلة، وأن الازدراء والاحتقـار يبـدو أمـرا مستحقاً للإحترام والتقدير، وكون أن الشر يحاط بهالة من المجد فهذا ما يعتبرفخا شيطانيا، ولهذا فإنه من الصعب أن يزول هذا الشر، خاصة وإني قد سمعت كثيرين وهم يفتخرون، لأنهم لا يريدون أن يقتربوا من أولئك الذين يبتعدون لا عنهم، إلا أن إلهك يسعى وهو مملوء بالطبع فرحا نحو من يتحول عنه.
إذن كم مرة أحتقر الناس المسيح له المجد، وكم مرة تحولوا عنه؟ أما هو فلم يتوقف عن أن يسرع ويقترب منهم. إذا لا تقل أنني لا أستطيع أن أقترب من الـذين يبغضـونني، بـل بـالحري قـل، إنـني لا أستطيع أن أحتقـر الـذين يحتقرونني. هـذا كـلام يتحدث به تلميذ للمسيح، بينما الآخر فهـو كـلام الشيطان. كلام تلميذ المسيح يجعل الناس مشرقين وممجدين، بينما الآخر (الـذي للشيطان)، يجعلهم سـفهاء وموضـع سـخرية. ولهـذا فـنحن تُعجـب لأنه عندما قال له الله: “أتركني ليحمي غضبي عليهم وأفنيهم”””، لم يستطع أن يحتقر الذين تحولوا عنه مرات عديدة، ولكنه قال: ” والآن إن غفرت خطيئتهم وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت”. لأنه كان محبا بموسى، لله وحذا حذوه.
فلا يجـب أن نفتخـر بـأمور، كـان ينبغي أن نشعر بخجـل منهـا، ولا أن نتكلم بكلام مبتذل وتافه، يتفوه بـه السـوقة، لدرجة أن أحدا منهم يقـول إنني في موضع يجعلني أبصـق في وجـوه بشـر لا حصر لهم، لكن وإن كان هناك من يتحدث بهذه الأمور، فلنسخر منه، وللجم لسانه، لأنه يفتخـر بأمور كان ينبغي أن يخجل منها.
ماذا تقول؟ أخبرني، هل تبصق في وجه إنسان مؤمن، وهو الذي حين كان غير مؤمن، لم يبصـق المسيح في وجهـه؟ مـاذا أقـول؟ أقـول أنه لم يبصـق في وجه، بل أحبه بصورة كبيرة جدا، وبالرغم من إنه كان بذيئا وسيئا ، إلا أنه قد مات من أجله.
وبعـد كـل هـذا ، فأنت الآن تحتقر ذاك الـذي أحبـه المسيح بهذا القـدر الكبير، رغم إنه كان (بذيئا وسيئا)، وتفعل ذلك بعدما أصبح صالحاً وبارا. أخبرني (كيف يحدث هذا)، بينما هو عضو في جسد المسيح، وصار هيكلاً للرب؟ ألا تفهـم مـاذا تقـول؟ ألا تشعر بفداحـة مـا تتجرأ على (التكلم بـه)؟ فالمسيح هو رأسه، وله: المائدة، والرداء، والحياة، والنور، والعريس، وكل ما له، هو لذاك (أي لمن خلصه)، وتتطاول قائلاً، أبصق في وجه؟ وليس هـذا فقط، بل تفعـل هـذا الأمـر مـع آلاف آخرين. مهـلا أيها الإنسان، كـف عـن جنونك، ولتعترف بقيمة أخيك، تعلم أن هذا الكلام هو دليل حماقة وخبل، ولتتكلم بعكس ما تكلمت به، ولتقل حتى وإن بصق علي مرات عديدة، فإنني لن أبتعد عنه. هكذا ستربح أخاك، وستحيا لمجد الله، وسيكون لك نصيب في خيرات الدهر الآتي، التي ليتنا جميعا ننالها بالنعمة ومحبة البشـر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس، المجد والقـوة والكرامة، الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور أمين.
عظة ٢٩:
” وأقول إن يسوع المسيح قد صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يثبت مواعيد الآباء” (رو8:15).
1ـ مرة أخرى يحدثنا عن عناية المسيح، مستمرا في نفس الحديث وموضحاً كم صنع من أجلنا وكيف تخلى عن المجـد اللائق به. وبالإضافة إلى هـذا ، يظهر أن القادمين من الأمم، مديونون لله بالأكثر. لكن إن كانوا مديونين أكثر، فسيكون من العدل أن يحتملوا الضعفاء الذين آمنوا مـن اليهود. إذا فقد أدان هؤلاء اليهود بشدة، لكي لا يجعلهم يفتخرون، إذ ضبط إفتخارهم أيضا، مبينا أن الخيرات تُعطي لهم بسبب الوعود التي أعطيت لآباءهم، بينما تعطي للقادمين من الأمم بسبب رأفته ومحبته للبشر فقط. ولهذا قال أيضا :
” وأما الأمم فمجدوا الله من أجل الرحمة” (رو15: 9).
وحتى يكون الكلام أكثر وضوحا، فإنه يستحق أن تسمع أيضـا مـا أقول، لكي تعرف ماذا يعني أن “المسيح قد صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يثبت مواعيد الآباء”.
إذن مـاذا يعـنـي هـذا الكلام؟ أن الله أعطـى وعـدا لإبـراهيم، إذ قال: “لنسلك أُعطي هذه الأرض” وأيضا “ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض” بيـد أن نسـل إبـراهيم جلـب بـعـد ذلـك عقابا لنفسـه، لأنهـم عنـدمـا خـالفوا الناموس، آثار ذلك عليهم غضب الله، وحرمهم فيما بعد مما أعطي لآباءهم. أخيرا عندما أتى الإبن، عمل مع الآب على تحقيق تلك الوعود. لأنه بعدما تمم كل الناموس، ومارس الختان، خلصهم بواسطة صليبه مـن لعنـة مخالفة الناموس، وهكذا لم يترك الوعـد يبدو كاذبا. حسنا عنـدمـا يقـول “خـادم الختان”، فهذا ما يعنيه، أنه بعدما أتى وتمم الناموس كله وأختتن وصار مـن نسل إبراهيم، أزال اللعنة، وأوقف غضب الله، وجعل أولئك الذين سيقبلون الوعد فيما بعد مستحقين له، بعدما تحرروا للأبد من عداوتهم لله.
إذن لكـي لا يقـول أولئك اليهود ، كيـف أخـتتن المسيح، وحفـظ كـل الناموس؟ فإن الرسول بولس يحول معنى الختان وحفظ الناموس إلى عكس ما كانوا يعتقدونه. ويوضح أن المسيح قد فعل هذا ، لا لكي يبقي الناموس ، بل لكي يبطله، ولكي يخلصك مـن لعنته، ويحررك تماما من سلطانه. ولأنك خالفت الناموس، لهذا تممه المسيح، وقد فعـل هـذا لا لكي تتممه أنت، بل لكي يحقـق فيـك الـوعـود التي أعطيت لآبائك، تلك التي جعلها الناموس تبدو كاذبة، مظهرا أنك صبرت عدوا ، وإنك غير مستحق للميراث إذا لا تتمرد، ولا تتشاجر، لأنك تُحدق في الناموس بلا هدف، خاصة وأنه هو الذي كان سيحرمك من الوعد، لو لم يكن المسيح قد تألم كل هذه الآلام لأجلك. وهو قد عاني كل هذا، لا لأنك مستحق للخلاص، بل لكي يكون الله صادقا.
۲۔ بعد ذلك، ولكي لا يجعل القادم من الأمم ينتفخ بسبب هذا الكلام، يقول: “وأما الأمم فمجدوا الله من أجل الرحمة”. مـا يقـولـه يعـني الآتي: أن اليهود الذين آمنوا بالمسيح لهـم علـى الأقـل وعـود ، حتى وإن كانوا غير مستحقين، أما أنت أيها الأممي فليـس لـك هـذه الـوعـود ، بـل إنـك خلصت بالرحمة فقط. وما كان لليهود أن يتمتعوا بأي شيء من الوعد ، ما لم يكن المسيح قد آتى. ولكن لكي يشركهم، وحتى لا يسمح لهم أن يثوروا ضـد الضعفاء، يذكرهم بالوعود. ولهؤلاء الأمم يقول، أنهم خلصوا فقط من أجل الرحمة. ولهذا فمن العدل أن يمجدوا الله. إلا أن مجد الله يتحقق حين نكون مرتبطين فيما بيننا بشدة، وعندما نكون متحدين، ونمجد الله بروح واحـد ، علينا أن نتحمل الأكثر ضعفا، وألا نحتقر أي عضـو مـنـا عنـدما يقطع. ثم يضيف بعد ذلك شهادات يظهر من خلالها أنه ينبغي على القادم من اليهود أن يتحد مع نظيره القادم من الأمم، قائلاً:
” كما هو مكتوب من أجل ذلك سأحمدك في الأمم وأرتل لأسمك، ويقول أيضا تهللوا أيها الأمم مع شعبه. وأيضا سبحوا الرب يا جميع الأمم وامدحوه يا جميع الشعوب. وأيضا يقول إشعياء سيكون أصل يسىَّ والقائم ليسود على الأمم عليه سيكون رجاء الأمم” (رو10:15-12).
ولكنه يشير إلى كل هذا ، لكي يبين أنه ينبغي علينا أن نكون متحدين فيما بيننا وأن نمجد الله، وفي نفس الوقت لكي يضبط القادم من اليهود ، لكي لا يفتخر في مواجهة الأممي، طالما أن جميع الأنبياء قد دعوهم، وأيضا لكي يقنع القادم من الأمـم بـأن يكون معتدلاً ، بإظهار كيـف إنـه مسئول أمام النعمة الكبيرة التي نالها. بعد ذلك ينهي حديثه أيضا بطلبه، قائلاً:
“وليملأكم إله الرجاء كل سرور وسلام في الإيمان لتزدادوا في الرجاء بقوة الروح القدس” (رو15: 13).
أي ليتكم تتخلصون من الحزن الذي بينكم ولا تتركوا التجارب تتغلب عليكم، وستتمكنوا مـن ذلـك عنـدمـا يكـون لـديكم رجـاء وفيرا، لأن الانتصـار علـى التجـارب هـو سـبـب كـل الخيرات، وهـذا سيتحقق بـالروح القدس، لكن علينا أن لا نتكاسل متواكلين على الروح القدس فقط، بل علينا أن تقدم ما لدينا. ولهذا يقول: ” في الإيمان”، لأنه هكذا يمكنكم أن تمتلئوا بالفرح، إن كنتم تؤمنون، وإن كنتم تترجـون. لكنه لم يقل فقط، إن كنتم تترجون، بل قال “لتزدادوا في الرجاء”، حتى لا تجدوا فقط عزاء في الضيقات، بل وأن تقتنـوا فرحا أيضا بسبب زيادة الإيمان والرجـاء. وبذلك تجذبوا الروح القدس، وعندما يأتي المسيح، ستكون كل الخيرات محفوظة لكم على الدوام.
3. تماما كما أن الطعام يحفظ حياتنا، وبهذه الطريقة يحفظ الجسد ، هكذا إن كانـت لنـا أعمـالا صالحة، فسنقتني الروح القدس، وإن ربحنا الروح القدس سنقتني أعمالاً صالحة، والعكس صحيح : تماما، فإن لم نمتلك أعمالاً صالحة، سيختفي الـروح، وإن خرمنـا مـن الـروح القـدس سـنكون مجردين من الأعمال الصالحة. لأنه عندما تفارقنا نعمة الروح القدس سيأتي الروح النجس، وهذا كان واضحا مما حدث مع شاول. لأنـه مـاذا يحدث إذا كان لا يخنقنا الشيطان بنفس الطريقة التي خنق بها شاول؟ إنه في الحقيقة يشنقنا بطريقة مختلفة بواسطة أعمال شريرة . إذا نحـن نحتاج قيثارة داود ، لكي ترنم للنفس تلك الألحان الإلهية والتي تنبعث من المزامير، ومن الأعمال الصالحة، بينما إن صنعنا أمـرا واحدا فقـط مـن الأمـرين، فحتى وإن كنـا نسمع الترنيم، إلا أننا، بواسطة الأعمال الشريرة نحارب داود الذي يرنم هذه الألحان، تماما كما صنع شاول في ذلك الوقت سيتحول الدواء إلى سم، والهوس الذي أصاب شاول، سيصيرفينا أكثر وحشية. لأنه في البداية عندما نسمع لكلمة الله يخاف الشيطان الخبيث ، وعندما ننصت لها نتمكن مـن ممارسة الأعمال الصالحة، أما حين يرانا قابعين كما نحن، على الرغم مـن إننا نسمع، يتبدد خوفه سريعا.
لتُرنم إذا الترنيمة التي تأتي بواسطة الأعمال، لكي تبعد الخطية المخيفة جدا التي تأتي من الشيطان. بالطبع لا يستطيع الشيطان في كل الأحوال، أن يحرمنا من ملكوت السموات، ولكنه كثيرا ما يحاول أن يبعد النفس عن ملكوت الله، والخطيـة علـى إيـة حـال تُبعـدنـا عـن ملكوت السموات. لأن الخطية هي شيطان إرادي أو طوعي، وهـوس جائر، ولهذا تحديدا، فهي لا تعرف أولئك الذين يرحمون ولا الذين يصفحون. لتُرنم إذا للنفس التي تحمل مثل هذه الرغبة من نصوص الأسفار المقدسة الأخرى، ومـن مـزامير المطـوب داود ، وليرنم الفم، وليتعلم الذهن. وهذا الأمر ليس باليسير، لأنه إذا علمنا ، اللسان أن يرنم، فإن النفس ستستحي عندما يرنم اللسان، وتقرر الصواب ، وهكذا سنربح ليس فقـط هـذا الأمر الحسن، بل وسنعرف أمورا كثيرة تهمنا : عن الأمور الحاضرة، والمستقبلة، والأمور المرئية، والكون غير المرئي. وإن أردت أن تعرف شيئا عن السموات، وما هو الذي سيبقى هكذا ، وما الذي سيتحول مـن (الأمـور المرئية وغير المرئية)، يجيبك الكتاب بوضـوح ويقول: “هي تبيد وأنت تبقى وكلها كثوب تبلـى كـرداء تغيرهـن فتتغير” وإذا أردت أن تسـمـع شـيئا عـن شـكل السـماء، ستسمع أيضـا : “الباسـط السموات كشقة “. وإذا أردت أن تعرف شيئا أكثر عن الجزء الذي هو فوق السماء، سيقول لك أيضا: “المسقف علاليه بالمياه “. ولم يتوقف عنـد هـذا الحد، بل يكلمك عن عرض السماء وإرتفاعها، مبينا أن العرض والطول في الأمور الروحية لهما نفس المقاييس الخاصة بالأمور المادية. لأنـه يقـول: “لأنه مثل إرتفاع السموات فوق الأرض قويت رحمته على خائفيه. كبعد المشرق عن المغرب أبعـد عنـا معاصـينا”. وإن كـان لـديك فضـولا لتعـرف شيئا عـن أساسات الأرض، فهو لن يخفـي عنـك هـذا الأمر، بل ستسمعه يرنم ويقـول: ” على البحار أسسها “. وأن أردت أن تعرف عن الزلازل والأسباب التي تؤدي إليها، فإنه سيخلصك من كل حيرة، قائلاً: “الناظر إلى الأرض فترتعـد” وإن طلبت معرفة ضرورة الليل، فإن هذه ستعرفها، متعلما مـن داود القائل: ” تجعل ظلمة فيصير ليل فيه يدب كل حيوان الوعر”.
وما الفائدة من الجبال، يجيبك: “الجبال العالية للوعول””. لماذا يوجد الشجر غير المثمر؟ يجيب: ” حيث تعيش هناك العصافير”. لماذا توجد منابع في الصحراء؟ لأنه: “فوقهـا طيـور السـماء تسكن”، “وتسـقـي كـل حيـوان البر”°°. لماذا الخمر؟ لا لكي تشرب فقط، لأن الماء يكفي، بل لكـي تفـرح: “وخمر تفرح قلب الإنسان”. وحين تعرف هـذا ستدرك إلى أي حد يجب أن تستخدم الخمر. ومن أين تقتات الطيور والحيوانات المتوحشة؟ ستسمعه يقول: “كلها إياك تترجـى لترزقهـا قوتها في حينه “. وإن سألت عـن الحيوانات المستأنسة؟ يجيبك، أن هـذه قـد صـارت لأجلك. لأنـه يقـول: “المنبـت عشـب للبهائم وخضرة لخدمة الإنسان””. وما هي الحاجة للقمر؟ إسمعه وهـو يقـول: ” صنع القمر للمواقيت”. وكل الأمور المرئية وغير المرئية هي صائرة، وهذا قد علمه بوضوح قائلاً: ” لأنه قال فكان هو أمر فصار”.
ومن جهة أنه يوجد خلاص من الموت، فهذا أيضا علمه، قائلاً: “الله يفدي نفسي من يد الهاوية لأنه يأخذني”. ومـن أي شيء خلق (الإنسان) جسديا؟ وهذا أيضا قاله : ” لأنـه يعـرف جبلتنا”. “يذكر إننـا تـراب نـحـن”°°. إلى أين يذهب أيضا؟ “إلى ترابهـا تـعـود “”°°. ولماذا كـل هـذه الأشياء؟ هـي مـن أجلك “بمجد وبهاء تكلله. تسلطه على أعمال يديك”4°°. وهـل لنـا نحـن البشـر شيئا مشتركا مع الملائكة؟ فهذا ما قاله مرنما : “وتنقصه قليلاً عن الملائكة”. وعـن محبة الله يقـول: ” كمـا يـتراءف الآب عـلـى البـنـين يـترآف الـرب عـلـى خائفيه “°°°. وعن تلك الأمور التي تتبعنا بعد كل هذا ، وعن تلك النهاية الهادئة يقـول: “إرجعـي يـا نفسي إلى راحتك “°°. لماذا السماء كبيرة بهذا المقدار؟ يقول: “السموات تحدث بمجد الله “. لماذا صارا الليل والنهار؟ لا لكي ينيرا ويريحا فقط، بل ولكي يعلما. ” في كل الأرض خـرج منطقهم وإلى أقصى المسكونة كلماتهم”. كيف يوجد البحر حول اليابسة؟ “كسوتها الغمر كثوب”.
لكـن إذ نبـدأ مـن الأمـور السابقة، ستعرفون كـل مـا يتعلق بالمسيح، وبالقيامة، وبحياة الـدهر الآتي، وبالراحة الأبدية، وبالجحيم، والموضوعات الأخلاقية، وكل ما هو متعلق بالعقائد، وستجدوا أن الكتاب مليء بخبرات لا تُحصى . وحتى إن وقعت في تجارب، فستأخذ من الكتاب المقدس عـزاء كثيرا، وإن سقطت في خطايا ، ستجد فيه أدوية لا حصر لها، وإن سقطت في براثن الفقر، أو في ضيقة، فسترى مواني كثيرة، وإن كنت بارا ، ستنعم هناك بالأمان، وإن كنت خاطئا ستربح عـزاء كبيرا، لأنه إن كنـت بـارا وتعـانـي مـن مـآسـي، ستسمعه يقـول: “لأننـا مـن أجلك ثمـات اليـوم كلـه. قـد حسبنا مثل غنم للذبح. هذا كلـه جـاء علينـا ومـا نسيناك ولا خنـا عهدك” وإن كانت إنجازاتك تجعلك تفتخر ستسمعه يقـول: “لا تدخل في المحاكمة مع عبـدك فإنـه لـن يتبرر قـدامك . “. وستتواضع على الفور. وإن كنت خاطئ وتوجد في حالة يأس ستسمعه وهـو يـرنم باستمرار “اليوم إن سمعتم صوته فـلا تقسوا قلوبكم كما في مريبة”. وستقف بسرعة منتصبا. وإن كنت تحمل أكليلا فوق رأسك، وتنظر إلى ذاتك بإعجاب كبير، ستعلم إنه ” لـن يخلـص الملك بكثرة الجيش الجبـار لا ينقـذ بعظـم القـوة” “، وعندئذ حي يمكن أن تكون متواضعا.
إن كنت غنيا وممجدا ، ستسمعه أيضـا وهـو يـرنم ويوجـه الـويـل للذين: “يتكلمون عن ثروتهم وبكثرة غناهم يفتخرون” و “الإنسان مثل العشب أيامه ” و ” عنـد موتـه كلـه لا يأخذ لا ينـزل وراءه مجـده” ، ولن تعتبر أن هناك شيء عظيم من الأمور الأرضية. لأنه حين يكون المجد والسلطان الذي يعتبر الأكثر إشراقا أو بهاء من كل شيء، هو أمر بلا قيمة إلى هذا الحد ، فهل سيكون هناك ما يستحق التقدير والإهتمام من الأمور الأرضية؟ وعندما تكون في ضيق، إسمعه وهو يقول: ” لماذا أنت منحنية يا نفسي ولماذا تئنين في ترجـي الله لأنـي بعـد أحـمـده “. هـل تـرى أن الناس يحيون في رفاهية دون أن يستحقوا؟ “لا تـغـر مـن الأشرار ولا تحسـد عمـال الإثـم فـإنهم مثل الحشيش سريعا يقطعـون ومثـل العشب الأخضـر يـذبلون “. أرأيـت كيـف أن الأبـرار والأشرار يدانون؟ إسمع كيف إنه ليس لنفس السبب (يدانون)، لأنـه يقـول: “كثيرة هي نكبات الشرير “. أما بالنسبة للأبرار، فلم يقل نكبات بل كثيرة هي أحزان الصديق ومن جميعها ينجيه الرب”. وأيضا “الشر يميت الشرير” و “الرب حافظ البسطاء”
لنتكلم بهذه الأمور بصفة دائمة. يجب أن نتعلم من هذه الكلمات الإلهية ، لأن كل كلمة من هذه الكلمات تحوي معان كثيرة لا حصر لها. نحـن قـد عبرنا عليها في عجالة سريعة، لكن أنتم إن أردتم أن تفحصوا بدقة مـا قيـل، سوف ترون غنى وفيرا. بل وأيضا من الممكن أن تتخلص من الشهوات التي تهاجمك، وذلك عن طريق ما ذكرناه، لأنه عندما لا تسمح لك كلمة الله أن تحسد، ولا حتى تندم، ولا تتضايق بشكل غير لائق، وعندما لا تتركك ترى أن شيئا في ذاته هو غنى، ولا الحزن، ولا الفقر يمكن أن يؤثر فيك، ولا أن تعتقد أن الحياة ذاتها تساوي شيئا ، فإنه بهذا يكـون قـد خلصـك مـن كـل الآلام والشهوات. إذا فلنشكر الله من أجل كل هذا ، ولنستخدم الكنز (أي الكلمة الإلهية)، “حتى بالصبر والتعزية بما في الكتب يكون لنا رجاء” ونتمتع بخيرات الـدهر الآتـي الـتي ليتنا جميعا ننالها بالنعمـة ومحبـة البشـر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق بـه مـع الآب والروح القدس المجـد والقـوة والكرامة الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور أمين.
عظة30 :
” وأنا نفسي أيضا متيقن من جهتكم يا إخوتي أنكم أنتم مشحونون صلاحا ومملئون كل علم. قادرون أن ينذر بعضكم بعضا” (رو14:15).
۱ـ لقد سبق أن قال: “بما إني رسول للأمم أمجد خدمتي” ، وقال أيضا:” فلعلـه لا يشفق عليـك أيضـا “، وأيضـا: “لا تكونـوا حكمـاء عنـد أنفسكم”، وأيضا “فلمـاذا تـديـن أخـاك” و ” مـن أنـت الـذي تـديـن عبـد غيرك” ، وأمـور أخـرى كثيرة جدا مثـل هـذه. إذا لأنـه في مواضـع أخـرى كثيرة تكلم بصورة أكثر قسوة، إلا إنه قد جعل حديثه أكثر ليونة بعـد ذلك، وما قاله عندما بدأ الكلام، هذا ما يقوله الآن حين ينهي كلامه. فعندما بدأ قال: “أشكر إلهي بيسوع المسيح من جهة جميعكم أن إيمانكم ينادي به في كل العالم “578، بينما هنا يقول: “وأنا نفسي متيقن من جهتكم يا أخوتي أنكم أنتم مشحونون صلاحا ومملئون كـل علـم. قـادرون أن ينذر بعضكم بعضا”، وهذا ما يعد أهم من مجرد السماع. ولم يقل “سمعت”، بل “متيقن”، ولست في حاجة أن أعلم من آخر، “وأنا نفسي”، أي أنـا الـذي أنتقـد والذي أتهـم. ثـم يضيف”أنتم مشحونون صلاحا “، هـذا لـه علاقة بالنصـح السابق، كما لو إنه قال، إنني لم أنصح بهذه الأمور كمـن يوجه نصيحة لقساة أو لمبغضـي النـاس، بمعنـى أنـه ينبغي عليكم أن تقبلـوا الإخـوة، ولا تتركوهم، ولا تبطلوا عمل الله، لأنني أعرف أنكم مشحونون صلاحا.
يتضح لي كيف أنه هنا يدعو كل الفضيلة صلاحا. ولم يقل “لـديكم”، بل قال: “أنتم مشحونون”. ثم تحدث بعد ذلك بنفس التشديد “مملؤون كل علم”. ماذا إذا إن كانوا محبين، لكنهم لم يعرفوا كيف ينبغي أن يتعاملوا مع أولئك الذين أحبوهم؟ ولهذا أضاف: “كل علـم قـادرون أن ينذر بعضكم بعضا”، أي ليس فقط أن تتعلموا بل وأن تعلموا.
“ولكن بأكثر جسارة كتبت إليكم جزئيا أيها الأخوة” (رو15:15).
لعلك لاحظت إتضـاع القديس بولس، وحكمته، كيـف تحـدث جزئيا وبعمق في الأمور السابقة، ولأنه حقق ما أراد، فإنه يستخدم مرة أخرى علاجا بأنواع شتى. لأنه كان قادرا أن يهدئ من لهجتهم، هذا تحديدا هـو مـا تجـرأ أن يعترف به، هذا أيضا يفعله عندما يكتب للعبرانيين، قائلا. “ولكننا قد تيقنـا مـن جهتكم أيها الأحباء أمورا أفضل ومختصة بالخلاص”9”. وأيضا يكتب إلى أهـل كورنثـوس قـائلاً: “فأمدحكم أيها الأخـوة عـلـى أنـكـم تذكرونني في كل شيء وتحفظون التعاليم كما سلمتها إليكم”. وإلى الغلاطيين يكتب رسالته قائلا :” …أثق بكم في الرب أنكم لا تفتكرون شيئا آخر “. وفي كل موضع في رسائله سيجد المرء أنه يمدح الأخوة، إذا كان البحث في مجال متسع، لكن المديح هنا يتم بدرجة أكبر.
بالحقيقـة هـم مقيمـون في مرتبة عظيمة، وكـان ينبغـي عليـه أن يضبط نفوسهم المليئة بالشهوات، ليس فقط بالشدة، بل أيضا بالإلزام، وهـو يصنع هذا بإسلوب مختلف. ولهذا فإنه يقول هنا : “بأكثر جسارة كتبت إليكم”، ولم يكتف بهذا ، ولكنه أضاف “جزئيا”، أي بهدوء. ولم يتوقف عنـد هـذا الحد، لكن ماذا يقول؟ “كمذكر لكم”. لم يقل ” لكي أعلمكم”، ولم يقل هذا “لمجرد تذكرة”، بل “كمذكر لكم”، بمعنى إني أذكركم قليلاً. أرأيت النهاية التي تتفق مع البداية؟ لأنه تماما مثلمـا قـال هناك: ” إيمانكم بنادی به في كل العالم “، هكذا في نهاية الرسالة قال: ” طاعتكم ذاعت إلى الجميع”. وكمـا أنـه عنـدمـا بـدأ قـال: “لأنـي مشتاق أن أراكم لكي أمنحكم هبة روحية لثباتكم. أي لنتعزى بينكم بالإيمان الذي فينا جميعا إيمانكم وإيماني”، هكذا قال هنا: “كمذكر لكم”. وبعـدمـا نـزل مـن عرش المعلم، يتكلم سواء هناك أو هنا، كما لأخوة وأصـدقاء متساويين في الكرامة، الأمر الذي هـو بالحقيقة سمة المعلم، أي أنه ينـوع حديثه حسب فائدة الذين يسمعونه.
لاحظ إذا كيـف إنـه بعـدمـا قـال: “ولكـن بـأكثر جسارة كتبت لكم” و”جزئيا” و ” كمذكر لكم”، فإنه لم يكتف بهذا، بل جعل حديثه أيضا أكثر إتضاعا، فأضاف: “بسبب النعمة التي وهبت لي من الله”، هذا ما قاله في البداية “إنـي مـديون”. كـمـا لـو أنـه قـال، إنني لم أختطـف وحـدي الكرامة، ولا قفزت لاقتناصها أولاً، لكن الله أمـر بهـذا وتلـك مـن البداية ، ليس لأنه ميزني كمستحق لهذه الكرامة. إذا لا تغضبوا ، لأنني أنا أيضا لا أغتاظ، فإن الله هـو الـذي أمـر. وكمـا إنـه يقـول: “الـذي أعبـده بروحـي في إنجيل إبنه” ، هكذا هنا أيضا بعدما قال:
بسبب النعمة التي وهبت لي من الله”، أضاف: “حتى أكون خادما ليسوع المسيح لأجل الأمم مباشرا لإنجيل الله ككاهن” (رو16:15).
بعد هذه الشهادة الكبيرة المشار إليهـا مـن خـلال كـل مـا قيـل، يتوجه بكلامه إلى مـا هـو أكثـر وقـارا، متكلما ليس فقط عن العبادة، مثلما تكلم في البداية، بـل عـن الخـدمـة والليتورجيـة الكهنوتيـة أيضا. لأن هـذا (كما يعلن ق. بولس) هو أمر كهنوتي، أن أكرز، وأعلن البشارة، هذه هـي الذبيحـة الـتي أقـدمها . بيـد أنـه لا يستطيع أحد أن يدين الكاهن، الذي يحرص على تقديم الذبيحة بلا لوم. قال هذه الأمور، لكي يشدد أفكارهم، ولكي يظهر في نفس الوقت كيـف إنهـا ذبيحة، وأيضـا لـكـي يدافع عن نفسه من جهة الأمور الخاصة به، ولا سيما أن هذا قد أمر به، لأنه هكذا يقول أن السيف الذي أحمله هو الإنجيل، أي كلمة الكرازة.
وليس الدافع هو أن أتمجد أنا، ولا لكي أبدو بهيا، بل: “ليكون قربان الأمـم مقبولا ومقدسـا بـالروح القدس”. أي لكـي يقبـل الله نفـوس الـذين يتعلمون. لأن الله قادني إلى هذا ، مكرما إياي بقدر ما ، لكن ليس بقـدر إعتناءه الكبير بكـم. وكيـف سيتمكن الأمـم مـن أن يصيروا مقبولين؟ سيحدث هذا بنعمة الروح القدس. إننا لا نحتاج للإيمان فقط، بل للسلوك الروحي لكي نمتلك الروح الذي أعطـى لنـا مـرة. لأن مـا هـوا لنا ليس خشبا ونار، ولا مذبحاً وسكينًا، بل أن كل شيء هو روحي. لهذا إفعل كل شيء ، لكي لا تُطفيء تلك النار (نار الروح)، فضلا عن ذلك فهذه هي الوصية التي أخذتها. إذا لماذا تتكلم بهذه الأمور لأولئك الذين ليس لديهم إحتياج لها؟ لہذا تحديدا ، لا أعلم بهذا، بل أذكـر بـه مـرة أخـرى، هكذا يقول، فكما أن الكاهن يوجد بجوار المذبح لكي يشعل النار، هكذا أنا أيضا لكي أحفـز رغبتكم. ولاحـظ أنه لم يقـل، لكـي تصـير تقـدمتكم مقبولـة بـل قـال: “ليكـون قـربـان الأمـم مقبولاً مقدسا بـالروح القدس”. لكـن عنـدمـا يقـول “الأمـم”، فهـو يقصـد المسكونة، أي كـل الأرض، والبحـر، ضابطا لأفكارهم حتى لا يـزدروا بـأن يكـون معلمهـم هـو الـذي أسـرع أو بـادر إلى تبشير كل المسكونة، الأمر الذي قاله في البداية : “إنـي مـديون لليونانيين والبرابرة للحكماء والجهلاء”.
٢-” فلي افتخار في المسيح يسوع من جهة ما لله” (رو15: 17).
إذن لأنه أخضع نفسه بشكل فائق، فإنه يسمو بالحديث مرة أخرى، وهو يصنع هذا لأجل هؤلاء، لكي لا يبدو أنـه بـلا قيمة. كما أنه يرفع نفسه، متذكرا طباعه وأخلاقه، قائلاً: “فلي افتخار”. يقـول أفتخر، لا مـن أجـل نفسي، ولا من أجل محاولتي، بل من أجل نعمة الله.
” لأني لا أجسر أن أتكلم عن شيء مما لم يفعله المسيح بواسطتي لأجل إطاعة الأمم بالقول والفعل. بقوة آيات وعجائب بقوة روح الله” (رو18:15-19).
لا يستطيع المرء أن يقـول، كمـا يقـول الـرسـول بـولس، إن كلامـي هـو إفتخـار، لأنني ـ كـمـا يقـول ـ أستطيع أن أبين رمـوز عملـي الكهنوتي ، وكـذلك دلائـل كـثيرة علـى صـدق رسـامتي، ليس فقـط رداء (أي رداء الكهنوت) وأجراس، كما كان يفعل القدماء، ولا تاج وإكليل، بـل مـا هـو أهم بكثير من هذه العلامات والعجائب. ولا يمكن للمرء بالطبع أن يقـول (كما قال ق. بولس)، أنه أستأمني على شيء، هكذا يقـول بـأنني لم أفعل ما أمرت به، أو من الأفضل القول، لم أفعله أنا، بل المسيح (هو الذي فعله)، ولهذا فإنني أفتخر في المسيح، ولست أفتخر لأمور عرضية (أي أرضية زائلة)، بل من أجل أمـور روحيـة. لأن هذا هو معنى “مـن جهـة مـا لله”. إذا فقد تممت هذا الذي من أجله أرسلت، وأن الإفتخار ليس بالكلام، لأن (هذا الإفتخار) قد أظهرته المعجزات التي حدثت، وإطاعة (الإيمان) في جميع الأمـم. (هـذا إذا ما أراد أن يؤكد عليه) حين قال: ” لأني لا أجسر أن أتكلم عن شيء مما لم يفعله المسيح بواسطتي لأجل إطاعة الأمم بالقول والفعل بقـوة آيات وعجائب بقـوة روح الله”. أرأيت كيـف إنه متعجل أن يبين أن كل الأمور تعتمد على الله، ولا شيء يعتمد عليـه هـو؟ إذا فسواء كنت أتكلم، أو أفعل شيئا، أو أصنع عجائب، فإن كـل هـذا يصنعه الله، كل شيء ينسب للروح القدس. وهو يقول هذه الأمور، لكي يظهر عمل الـروح. أرأيت كيـف أن هذه الأمور هـي مثار للدهشة والإعجاب، وأكثـر قـوة مـن الأمـور القديمة، أي الذبيحة الدموية، والتقـدمات وفـق الناموس، والرمـوز؟ لأنـه عنـدمـا يقـول : “بالقول والفعل بقوة آيات وعجائب ” فإنه يقصد الآتي: أي التعليم، حكمة الحديث عـن مـلكـوت الله، عـرض للأعمـال والسلوك، الأمـوات الـذين يقومـون ، الشياطين الذين يطردون، العميـان الـذين يبصـرون، العـرج الـذين يقفزون ، والمعجزات الأخرى، التي صنعها الروح القدس فينا. ثم بعد ذلك يأتي برهـان هذه الأمور، لأنه قبل كل شيء، قد أقر التلاميذ بـكـل هـذه الأمور. ولهذا أضاف: “حتى إني من أورشليم وما حولها إلى الليريكون قد أكملت التبشير بإنجيل المسيح”. إذا فقد أحصى المدن، والبلاد والأمم والشعوب، ليس فقط أولئك الذين هم تحت سيادة البرابرة، بـل مـن فضلك لا تسلك فقط الطريق الذي يعـبـر مـن خـلال فينيقيا، وسوريا ، وكليكيا، وكبادوكيـة، لكن عليك أن تضع في حسبانك الأجزاء الخلفية أيضا، موطن أهـل سـراكي والفرس، والأرمن، وموطن البرابرة، والآخرين. هذا ما قاله: “وما حولها”، لكي لا تسير فقط إلى الأمام، بل أن تتجـول بذهنك في كـل جنوب آسيا. وكما أنه بواسطة حديث واحـد ذكـر إجراء معجزات كثيرة جدا ، قائلاً: “بقـوة آيات وعجائب”، هكذا أيضـا فـإن مـدئا، وأمما، وشعوبا ، وبلادا لا تُحصى قـد أجملها أيضا بهذا الحديث الواحد ، وهذا ما تعنيه عبارة “وما حولها”. لقد كان بعيدا كل البعد عن كل تباهي، وهذه الأمور قد قالها لهؤلاء، لكي لا يفتخرون بأنفسهم كثيرا. ويقول في بداية الرسالة : “ليكون لي ثمر فيكم أيضا كما في سائر الأمم”، بينما هـو هنـا يذكر المكان كله، حتى يضبط تفكيرهم من كل جهة. ولم يقل فقط بشرت بالإنجيل، بل قال “قد أكملت التبشير بإنجيل المسيح”.
۳۔ “ولكن كنت محترصا أن أبشر هكذا. ليس حيث سمي المسيح” (رو15: 20).
ها هو أمر فائق أيضا، أنه ليس فقط قد بشر كثيرين بالإنجيل وأقنعهم ، لكنه لم يذهب لأولئك الذين بشروا بالمسيح. لأنه لم يفكر قط في أن يذهب إلى أماكن قـد بشر فيها تلاميذ آخرين، وأن يفعل هذا من أجل الحصـول على مجد، لأنه أسرع نحو هـؤلاء الذين لم يسمعوه، لكي يبشرهم. فهـو لم يقل، “حيث لم يؤمنوا”، بل ” ليس حيث سمي (بشر) بالمسيح”، الأمر الذي هو أكثر أهمية. ولماذا كان محترصا هكذا؟ ” لئلا يبني على أساس آخر”.
وهو يقول هذه الأمور بهدف أن يبين، أنه هو نفسه غريب عن المجد الباطل، ولكي يعلمهم أنه لم يكتب إليهم مشتهيا أن يحصل على المجد والكرامة مـن هـؤلاء (الـذيـن بشـرهم)، بل لأنه أكمل الخدمة، وأتم عمل الخدمة ، وأشتهى خلاصهم جدا. ويقـول عـن أساس الرسل، أنه أساس آخر، لا مـن حيـث مـا يتعلق بمكانة الشخص، ولا فيما يتعلق بطبيعة البشارة، بـل مـن حيث طبيعة العلاقة الخاصة بالأجر. لأن الأجر أو المكافأة عن تلك الأمور التي تحققت من قبل آخرين، كانت غريبة بالنسبة له.
ثم بعد ذلك يشير إلى نبوءة قد إكتملت[إش52: 15] قائلاً:
” بل كما هو مكتوب الذين لم يخبروا به سيبصرون والذين لم يسمعوا سيفهمون” (رو15: 21).
أرأيـت كـيـف إنـه يسـرع إلى حيث يكون التعب أكثر، وحيث الجهـد أعظم؟
” لذلك كنت أعاق المرار الكثيرة عن المجئ إليكم” (رو15: 22).
لاحظ كيف أن ما قاله في البداية، يقوله في النهاية؟ خاصة وأنه عندما بدأ الرسالة قال: “أنـنـي مـرارا كثيرة قصـدت أن أتـي إلـيكم ومنعت حتى الآن” “٥٨٩ ، لكنـه هـنـا يـذكر السبب الذي لأجلـه أعيـق، وليس لمرة واحدة ، لكن لمرتين ولمرات عديدة، تماما مثلما يقول هناك: ” مرارا كثيرة قصدت أن آتي إليكم”، هكذا هنا أيضـا يقـول: ” كنت أعاق المرار الكثيرة عن المجئ إليكم”. الأمر الذي يظهر رغبته الحقيقية في المجئ إليهم، إذ شرع في ذلك مرات عديدة.
” وأما الآن فإذ ليس لي مكان بعد في هذه الأقاليم، ولي اشتياق إلى المجئ إليكم منذ سنين كثيرة. فعندما أذهب إلى أسبانيا آتي إليكم. لأني أرجو أن أراكم في مروري وتشيعوني إلى هناك إن تملأت أولا منكم جزئيا” (رو15: 23-24).
أرأيت كيف أظهر أنه كتب إليهم وسوف يأتي إليهم، لا لأنه أراد مجـدا منهم؟
إذن لكي لا يظهر أنه يهينهم، كما لو أنه قال: ونظرا لأنه لا يوجـد لـدي شيء أفعله، ولهذا سآتي إليكم، فإنـه مـرة أخـرى يستخدم كلام المحبـة قائلا: “لي اشتياق إلى المجئ إليكم منذ سنين كثيرة”. فهو يقول لم أرغب إذا أن آتي لأجل هذا ، أي لا لأجل أنني ليس لدي ما أفعله، بل لكي أحقق الرغبة التي كانت داخلي منذ سنين كثيرة . ثم بعد ذلك، ولكي لا يجعلهم ينتفخون بسبب هذا الكلام، لاحظ كيف يضبطهم، بقوله “فعندما أذهـب إلى أسبانيا آتي إليكم”. وقد أشار إلى ذلك، لكي لا يتفاخروا ، فهو يريد أن يظهر المحبة، وفي نفس الوقت يمنعهم من التفاخر. ولذلك فهو يكرر هـذا الأسلوب بصفة دائمة، فيطرح تركيبة تتكون من هذين الأمرين بالتتابع (أي إظهار المحبة والنصيحة بعدم التفاخر). ولهذا تحديدا ، فإنه أيضا لكي لا يجعلهم يقولون أنه وضعنا على هامش عمله في رحلته، أضاف: “وتشيعوني”، أي لكي تكونوا شهودا لي، أنني لم أعبر سريعا عنكم إحتقارا مني، بل لأن الضرورة ثلزمني. ونظرا لأن هذا أيضا يسبب حزنا، فإنه يعالجه بطريقة مهذبة، قائلاً: “إن تملأت أولا منكم جزئيا “. لأنـه بـأن يقـول ” في مـروري”، يظهر أنه لا يشتهي منهم مجدا ، بينما قوله: “إن تملأت”، يظهـر بأنه يشتهي محبتهم، وليس فقط مجرد شهوة، بل يشتهي هذا الأمر بشدة، ولهذا لم يقل “أتملئ”، بل قال: “جزئيا” (أي لوقت قليل). لأنني لا يمكنني أن أشبع منكم مهما كانت الفترة ـ التي سأقضيها معكم ـ ولا يمكن أن تسبب شركتي معكم أي تعب لي.
أرأيت كيـف أنـه يظهـر محبتـه لهـم، فبالرغم مـن تعجلـه، فإنه لا يهـم بالرحيل قبل أن يتملئ منهم؟ أن إستخدام كلمات بهذا الدفء الشديد يدل على حنـوه. لأنه لم يقل “سأراكم” بـل قـال: “إن تملأت منكم”، مستخدما نفس كلمات الوالدين. لقـد قـال في البداية : “ليكـون لـي ثمـر” (رو1: 13)، بينما هنا يقول “إن تملأت”، وهذان أسلوبان يخصان إنسانا ساميا ، فالتعبير الأول يعبر عن مديح عظيم لهؤلاء، طالما انهم سيعطونه ثمر طاعتهم، وهـذا أمر مؤكد ، والآخر كان دليلا حقيقيا على محبته. وعندما كتب إلى أهل كورنثوس، هكذا قال: “لكي تشيعوني إلى حيثما أذهب” مبرهنا على محبته الكاملة نحو تلاميذه، والتي ليس هناك شيئا يعادلها، ولهذا وهو يبـدأ رسائله بالمحبة (أي من إعلان المحبة)، وعندما يختم، فإنه ينتهي أيضا بالمحبة . لأنه كما أن الآب يحب إبنه الوحيد ، هكذا أحب كل المؤمنين، ولهذا قال القديس بولس أيضا : “من يضعف وأنا لا أضعف. من يعثر وأنا لا ألتهب”
٤. فالمحبة هـي بالحقيقة ما ينبغي أن يتصف بها المعلم، قبل كل شيء. لذلك قال المسيح لـه المجـد لبطرس: “أتحبني…أرع غنـمـي”. لأن مـن يحـب المسيح يحب رعيته. بل وموسى قد عينه الله آنذاك قائدا للشعب اليهودي ، عندما أظهـر رضـاءه عن اليهود ، وداود أيضا ارتقى الملك، بعدما أظهر أولاً حنوه عليهم . فقد تألم كثيرا من أجل الشعب، بينما كان لا يزال صغيرا ، حتى إنه فضل أن يضحي بنفسه، عندما قتل ذلك البربري (جليات). ولكن إذا كان قد قال: ” ماذا يفعل للرجل الذي يقتل ذلك الفلسطيني”، فهو لم يقـل ذلـك بهدف طلب مكافأة، بل لأنه أراد أن يثقـوا فـيـه، وأن يعهـدوا لـه بالمعركـة ضـد جليـات الفلسطيني. إذا عنـدمـا وقـف أمـام الملـك شـاول بعـد الانتصار، لم يذكر شيئا من هذه المكافأت، وصموئيل أيضا كان حنونا إلى أقصى حد، ولهذا قال: “وأما أنا فحاشا لي أن أخطئ إلى الـرب فـأكف عن الصلاة لأجلكم”. هكذا كان بولس أيضا، أو من الأفضـل القـول، إنه لم يكن هكذا فقط، بل كان مشتعلاً بالمحبة نحو تلاميذه، أكثر بكثير من الجميع . ومـن أجـل هـذا فقد جعلهم أن يسلكوا هكذا بالمحبة نحـوه، حتـى إنـه يقـول: “أشـهـد لـكـم أنـه لـو أمكـن لقلعتم عيـونكم وأعطيتموني”
لذلك أدان الله معلمي اليهود قبل كل شيء من أجل هذا السبب، قائلاً: ” ويل لرعاة إسرائيل الذين كانوا يرعون أنفسهم. ألا يرعى الرعاة الغنم”. إن هـؤلاء قد فعلوا العكس. لأنـه يقـول: “تأكلون الشحم وتلبسـون الصـوف وتذبحون السمين ولا ترعون الغنم”. ومن جهة أخرى فقد حدد المسيح قانون الراعي الصالح، فقال: “الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف”.. هذا ما صنعه داود مرات عديدة في موضع أخـر، بل أيضـا حـيـن نـزل ذلـك الغضب المخيف من السماء على الشعب، لأنه عندما كان الجميع يذبحون، قال: “ها أنا أخطأت وأنا أذنبت وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا “. ولهذا فعند اختيار العقوبات ـ الـتي عرضها عليـه الـرب ـ لم يفضيـل الجـوع، ولا الهروب أمـام الأعداء، بل فضل الموت من قبل الله، والذي ترجى أن يخلص به الآخرين، أي فضل أن يموت قبل الجميع. ولأن هذا لم يحدث، فقـد نـاح وقال: ” فلتكن يدك علي” وإن لم يكن هذا كافيًا ، فلتكن “على بيت أبي” لأني “أنا الراعي قد أخطأت” كما لو أنه قال، برغم أن هؤلاء قد أخطأوا ، فإني أنا الذي لم أسلك في الطريق الصحيح، أنا المسئول عن الخطية، وما دامت هي خطيئتي ، فإنه من العدل أن أُعاقب أنا . كذلك إذ كان يريد أن يزيد من الإدانة، فقد أورد أسـم الـراعـي. هـكـذا توقـف الغضـب، وهكـذا ألغـي الحكـم . إن الإعتراف يعد أمرا عظيما جدا فإن: “الباريدين نفسه أولا “. فرعاية ولطف الراعي الصالح هـي عظيمة للغاية، لقد تمـزق قلبـه بـالحق (أي قلب داود) عندما سقط هؤلاء موتى، كما لو كان الذين ماتوا هـم أبناءه فعلاً، ولهذا فضل أن يأتي الغضب عليه هـو. ففي بداية المذبحة والتي وقعت على الشعب بيد “ملاك الرب” كان قد ترجى قبلها أن يأتي عليه هذا الغضب الإلهي، لأنه رأى أن هذا الغضب مستمرا. عندما رأى أن ذلك لم يحدث، بل أن الكارثة كانت تلتهم هؤلاء، لم يحتمل بعد ، بل اضطرب جدا، وكانت حالته أسوأ من الحالة التي كان فيها حين قتل إبنه البكر أمنـون. فهـو لم يطلب الموت آنذاك، أما الآن يطلب أن يموت قبل الآخرين.
هكذا ينبغي أن يكون القائد، وأن يحـزن لمصـائب الآخرين أكثـر مـن حزنه لمصائبه. وقد عاني هذا الأمر في حالة إبنه، لكي تعلم إنه لم يحب إبنه أكثر من الآخرين، على الرغم من أن الفتـى كـان فاسقا ، وشرع في قتل أبيه، لكنـه قـال: ” يا ليتني مت عوضـا عنـك” ، ماذا تقـول أيهـا المطـوب والوديع أكثر من جميع الناس؟ فقد حاول إبنك أن يقتلك، وأحاطك بشـرور لا تُحصى، وعندما رحل، وأقيم نُصب الانتصار، هل تترجى حينئذا أن تُذبح؟ نعم، هكذا يقول، لأن الجيش لم ينتصر لـي، بل إنـي أحارب بعد وبشدة ، وأحشائي الآن تتمزق أكثر من أي وقت مضى.
إذن فهؤلاء جميعا إهتموا برعاية الذين تعهدوهم، أما المطوب إبراهيم فقد أظهـر عنايته الكبيرة بأولئك الذين لم يكرموه، إلى حد أنه أحاط نفسه بأخطار مخيفة. فقد صار واضحا أن ما فعله لم يكن فقط من أجل إبن أخيه (أي لوط)، بل ومن أجل أهل سدوم أيضا، حيث أنه لم يتوقف عن مطاردة أولئك الفرس في السابق، حتى حررهم جميعا. لقد كان بإمكانه بكل تأكيد أن يعود ، بعدما أخذ إبن أخيه معه، لكنه لم يرد ، لأنه حرص على إتمام نفس الشيء للجميع (أي تحريرهم جميعا). وهذا قد جعله واضحا في الأحداث التي وقعت بعد ذلك. عندما كان ينوي أن يطوقهم ليس بجيش من البربر، بل بغضب الله المرسل الذي حطـم مـدنهم من الأساسات، ولم يكن وقـت حـمـل السـلاح قـد حـان بعـد ، ولا معارك وإصطفاف، بـل وقـت للتفـرغ (للصلاة والطلبة) لقد أظهر كل هذه الرعاية لأجل خلاصهم، بقدر ما كان سيظهرها إذا تعـرض هـو نفسـه للهلاك. ولهذا تحديدا إقـتـرب مـن الله مـرة ومرتين ومرات عديدة، وتحـدث مـن واقع طبيعته الفانية، قائلاً: “أنـا تـراب ورمـاد “، ولأنه رأى كيـف أنهـم سـلموا أنفسهم بأنفسهم، حكـم بـأنهم مستحقين أن يخلصـوا ، بسبب آخرين. ولهذا فقد قال الله : ” هل أخفـي عـن عبدي إبراهيم ما أنا فاعله” ، لكي نعـرف نـحـن كيـف أن البـار هـو محـب للناس، وأنه لم يتوقـف عـن التوسل لله حتـى يوقـف غضبه، ومن الواضـح بالطبع إنه يترجى لأجـل خـلاص الأبرار، لكنـه قـدم كـل مـا في استطاعته لأجل خلاص أهل سدوم.
إن أنفـس القديسـيـن هـي حـقـا وديعـة جـدا ومحبـة للبشـر، أو لأقربائهم وللغرباء، وتمتد بهذه الوداعة لتشمل حتى الحيوانات غير العاقلة. ولهذا قال أحد الحكماء “الصـديق يراعـي نفـس بهيمتـه “. فـإن كـان يهـتم بـأنفس البهائم، فكـم يكـون بـالحري إهتمامـه بـأنفس البشـر؟ ولأنـنـي تـذكرت الحيوانات، فلنفكـر في رعـاة الخـراف الـذيـن هـم في كبادوكيـة، كيـف وكم يعانون من أجل حماية الحيوانات. لقد غطتهم الثلوج مرات عديدة وظلوا هكذا على مدى ثلاثة أيام متتالية. ويقال أن الرعاة الذين في ليبيا قد عانوا مصاعب ليسـت بـأقـل مـن أولئك الرعاة، مشردين لشهور كاملـة في تلك الصحراء المخيفة والمليئة بالوحوش المفترسة. إن كانت رعاية الحيوانات غير العاقلة هامة بهذا القدر، فأي دفاع سنقدم نحـن الـذين أسثؤمنا على نفـوس عاقلة، ونغط في هذا النوم العميق؟ فهل ينبغي أن نستريح تماما؟ هل ينبغي أن نهدأ بالكامل؟ ألم يكن من الواجب علينا أن نركض في كل مكان، وأن تسلم أنفسنا إلى آلاف الميتات من أجل هذه الخراف؟
أم لستم تعرفون قيمة هذا القطيع؟ ألم يتألم سيدك مرات عديدة لأجل هذه الخراف، وسفك دمه من أجلها في النهاية؟ وأنت تطلب راحة؟ وهـل مـن الممكن أن يكون هناك حالة أسوأ مـن حـالـة هـؤلاء الرعاة؟ ألم تفكري هذا ، إن هناك ذئاب تُحيط بهذه الخراف أكثر إيذاء وشـرا وأكثر وحشية؟ ألم تفكر في ما هية النفس التي ينبغي أن تكون لمن يمارس عمل الراعي؟ وبالطبع فإن قادة الشعب عندما يتشاورون لكي يقرروا شيئا يختص بأمور مؤقتة وزائلة، يسهرون مواصلين النهار بالليل، بينما نحن الذين نجاهـد مـن أجل السماء (أي مـن أجـل ملكوت السموات) ننـام حتى أثناء النهار؟ ومـن سينقذنا من هذا العقاب الآتي من جراء التهاون؟ لأنه إن إحتاج الأمر أن تمزق أجسادنا ، وأن نجتاز ميتات لا حصر لها، ما كان ينبغي أن نركض كما لو كنا ذاهبين إلى احتفال؟ بيد أن هذا السهر وهذه الرعاية، لا تقتصر على الرعاة فقط، بل هي عمل الخراف أيضا، لكي يجعلوا الرعاة أكثر رغبة في الرعاية، ولكي يسعوا بالأكثر نحـو مـزيـد مـن العمل، مقدمين كـل ثقـة وطاعة، وليس شيئا أقل من ذلك. هكذا فإن الرسول بولس أيضا أمر قائلاً: “أطيعوا مرشديكم وأخضعوا لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم كأنهم سوف يعطون حسابا “. لكن عندما يقول “يسهرون”، فهو يقصـد أتعابا لا حصر لها، ورعاية مستمرة، وأخطارا.
إذن فالراعي الصالح، الذي كما يريده المسيح، يجاهد ومعه شهود لا حصر لهم، لأن المسيح بالطبع مات لأجله مرة واحدة، بينما الراعي، يموت مرات عديدة من أجل الرعية، إن كان راعيا حقيقيا كما يجب أن يكون . لأن مثل هذا الراعي يمكن أن يمـوت كـل يـوم. ولهذا فأنتم أيضا تعرفـون الجهـد الـذي يبذل في الرعاية، والذي تبذلونـه مـع الصـلوات، والرغبة في البذل، والمحبة، لكي نصير إفتخاركم، وتصيروا إفتخارنا . ومـن أجـل هـذا فإن هامة الرسل أي بطرس والذي أحبه المسيح أكثر من الآخرين، بعدما سأله أولا، إن كان يحبه، بعد هذا إستأمنه (على مسئولية الرعاية)، لكي تعلم أن الرعاية تُعتبر برهان المحبة للمسيح، خاصة وأن هذه الرعاية تحتاج إلى نفس شابة وقوية. هذه الأمور بالطبع قد قالها لرعاة صالحين، وليس لـي ولا لأخصائي، ولكن إن وجد شخص كهذا، كما كان بولس، وبطرس، وموسى، فهذا ما ينبغي أن نقتدي به، سواء حكام أو محكومين، لأنـه مـن الممكن أن يكون المحكوم بدرجة ما، راعيا للبيت، للأصدقاء، للخدم، للزوجة، لأولاده. وإن كنا ترتب أمورنا هكذا ، سننال كل الخيرات، والتي ليتنا ننالها جميعا، بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليـق به المجد والقوة والكرامة إلى الأبد أمين.
عظة31 :
” ولكن الآن أنا ذاهب إلى أورشليم لأخدم القديسين لأن أهل مكدونية وأخائية استحسنوا أن يصنعوا توزيعا لفقراء القديسين الذين في أورشليم. إستحسنوا ذلك وإنهم لهم مديونون” (رو15: 25-27).
١ـ لأنه قال، “ليس لي مكان بعد في هذه الأقاليم ولـي اشتياق إلى المجئ إليكم منذ سنوات كثيرة”، لكنني سأؤجل قـدومـي إلـيكم، ولكي لا يظنوا أنه يراوغهم، فإنه يورد السبب الذي لأجله يؤجل رحلته الآن أيضا ، ويقـول: “أنـا ذاهـب إلى أورشليم”. والواضـح بـالطبع أنـه يتكلم عـن سـبب التأجيل، لكنه بهذه الأمـور يهدف إلى شيء آخر، أي أن يحثهم على عمل الرحمة، وأن يجعلهم أكثر حيوية ونشاطا. لأنه إن لم يكـن قـد حـاول أن يحقق هذا الأمر، لكان كافيا أن يقـول: ” أنا ذاهب إلى أورشليم”، لكنه الآن يضيف سبب رحلته إذ يقول ” أنا ذاهب لأخدم القديسين”. ويمتد بحديثه إلى هذه الجزئية، ويطرح أفكارا ، قائلا إنهـم مـديونون، وإنه: “إن كـان الأمـم قـد اشـتركوا في روحيـاتهم يجب عليهم أن يخدموهم في الجسـديات أيضا “، لكي يتعلموا أن يقتدوا به.
ومـن أجـل هـذا ينبغي أن نُـدهـش بصـورة كبيرة جدا لحكمـة الـرسـول بولس، لأنه أبتكـر هـذه الطريقة للنصيحة، لأنه هكذا جعلهم يحتملـوه أكثر مما لو أنه قال هذا الكلام كوصية أو كأمر. كذلك فإنهم كانوا سيبدون محتقرين، لو أنه ساق كمثال لهذا السلوك، أهل كورنثوس وأهـل مكدونية، لكي يحثهم على فعل الخير. مـن أجـل هـذا فقد حث أولئك قائلاً: “ثم نعرفكم أيها الأخوة نعمة الله المعطاة في كنائس مكدونية ” أيضـا يـحـرض أهـل مكدونيـة علـى فـعـل هـذه الأمـور قائلاً : ” وغيرتكـم قـد حرضت الكثيرين”، بل وفي رسالته لأهل كورنثوس يفعل نفس الشيء ، قائلاً: “فكما أوصيت كنائس غلاطية هكذا أفعلـوا أنتم أيضا ” أما بالنسبة لأهل رومية، فلم يسلك هكذا، بل سلك بأكثر حرص وحذر. وفي الكرازة كان يصنع هذا (أي يشجع ويحفز)، كما قال: “أم منكم خرجت كلمـة الله. أم إلـيكم وحـدكم انتهـت” ،”. لأنه لا يوجـد شـيء قـوي بهـذا القدر، مثل الغيرة . ولهذا يشير إلى هذا الأمر في مواضع كثيرة، كذلك يقول أيضا في موضع آخر: “كما أعلم في كل مكان في كل كنيسة “. لكن بالنسبة إلى أهـل كولوسـي يقـول: ” في كلمـة حـق الإنجيـل الـذي قـد حضر إليكم كما في كل العالم أيضا وهو مثمر كما فيكم أيضا “. إذا هذا أيضا ما يفعله هنا في حالة ممارسة عمل الرحمة.
ولاحظ كيف أنه يستخدم الكلمات بوقار، لأنه لم يقل إنه ذاهب حاملاً لإحسانات، بل قال: “لأخدم القديسين”. لكن لو أن القديس بولس كان يقدم خدمة، فعليك أن تفكر في كم يكون عظيما أن يقبل معلم المسكونة أن يأخذ معه عطايا لفقراء القديسين. وبينما كان ينوي أن يذهب إلى روما وله اشتياق كبير لأهلها، يفضل الذهاب لأورشليم بدلا من روما. “لأن أهل مكدونية وأخائية استحسنوا أن يصنعوا توزيعا لفقراء القديسين”. وهو لم يذكر عبارة ” توزيعا” (أي بعض المساهمات) هكذا مصادفة، بل لكي لا يظهر وكأنه ينتقد هؤلاء، ولم يقل فقط “للفقراء”، بل قال ” لفقراء القديسين”، لكي يجعل عبارته مزدوجة، من جهة تحمل معنى الفضيلة، ومن جهة أخرى تعني الفقر. ولم يكتف بهذا فقط، بل أضاف: “وإنهم لهم مديونون”. ثم بعد ذلك يبين كيف هم مديونون. “لأنه إن كان الأمم قد اشتركوا في روحياتهم يجب عليهم أن يخدموهم في الجسديات أيضا”، ما يقوله يعني الآتي: إن المسيح قد أتى لهؤلاء، أي للذين آمنوا من اليهود الذين نالوا كل المواعيد، ومنهم أتى المسيح ولهذا قال: ” الخلاص هو من اليهود، ومن اليهود أتى الرسل والأنبياء، وقد إشترك الأمم في كل الخيرات، وفي كل هذه الأمور.
إذن لو أنكم، كما يقول الرسول بولس، قد صرتم شركاء في الأمور العظيمة (الروحيات)، وعلى الرغم من أن الولائم الروحية أعدت لهؤلاء (أي لليهود)، وإن كنتم قد دخلتم وتمتعتم بالخيرات المقدمة، وفقا للمثل الإنجيلي”، فأنكم مديونون أن تخدموهم في الجسديات، وأن تنقلوا إليهم الأمور المادية. ولم يقل أن يصيروا شركاء، بل قال: “أن يخدموهم”، واضعا هؤلاء (أي الأمم) في موضع الخدام، الذين يدفعون الضرائب إلى الملوك. ولم يقل (في خيراتكم المادية)، مثل قوله في روحياتهم (لأن البركات الروحية تتعلق بهؤلاء (أي اليهود)، بينما الخيرات المادية لم تكن خاصة بهم فقط، بل هي عامة للجميع، لأنه حدد أن الأموال هي ملك للجميع، وليس فقط أولئك الذين حصلوا عليها.
” فمتى أكملت ذلك وختمت لهم هذا الثمر” (رو28:15).
أي بعدما وضعته (أي الثمر) كما في خزائن كنوز ملكية، كما في مكان حصين ومؤمن. ولم يقل “إحسانا ، بل قال مرة أخرى “الثمر”، لكي يظهر أن أولئك الذين يعطون، سينالوا ربحاً، “فسأمضي مارا بكم إلى أسبانيا”. يذكر أسبانيا مرة أخرى، لكي يبين اهتمامه المستمر الذي لا يكل بهؤلاء (أي أهل روما).
” وأنا أعلم أني إذا جئت إليكم سأجي في ملء بركة إنجيل المسيح” (رو15: 29).
إما أنه يتحدث عن الأموال، أو يتحدث بشكل عام عن كل الإنجازات، لأنه إعتاد في مرات عديدة أن يدعو الصدقة بالبركة، كما قال: ” كأنها بركة لا كأنها بخل”. ومن جهة أخرى فقد كانت عادة قديمة أن تسمى الصدقة هكذا. ولكن لأنه أضاف هنا كلمة “إنجيل”، لهذا نقول، إنه لم يتكلم عن هذا الأمر (البركة) من حيث المال فقط، بل من جهة كل الأمور الأخرى. وكأنه قال، لكنني أعرف أنه عندما آتي سأرى كيف أنكم تبتهجون في كل شيء، وكيف أنكم تفتخرون من أجل الخيرات، وكيف أنكم مستحقون لمديح غير محدود والذي هو وفقا للإنجيل، وهذا نوع مدهش من النصيحة، أي أنه يمتدح هؤلاء، قبل أن يصير الحدث حقيقة. لأنه عندما يتجنب هذا (أي المديح)، فهذا معناه أنه بدلا من تقديم النصيحة، يأتي لكي يصحح الطريقة (أي طريقة سلوكهم).
۲۔ ” فأطلب إليكم أيها الأخوة بربنا يسوع المسيح وبمحبة الروح” (رو15: 30).
مرة أخرى يذكر هنا المسيح والروح القدس، ولم يتطرق إلى ذكر الآب، قال هذا، حتى أنه عندما تراه وهو يذكر الآب والإبن، أو يذكر الآب فقط، لا ترفض الإبن ولا الروح، ولم يقل : “الروح” بل قال: “بمحبة الروح”. لأنه كما أن المسيح أحب العالم، وكما أحب الآب العالم، هكذا أحبه الروح القدس أيضا. لكن أخبرني، ماذا تطلب؟.
” أن تجاهدوا معي في الصلوات من أجلي إلى الله. لكي أنقذ من الذين هم غير مؤمنين في اليهودية” (رو31:15).
بناء على ذلك فقد كان أمامه جهاد عظيم، ولهذا يطلب صلواتهم، ولم يقل لكي لا أصطدم، بل قال: “لكي أنقذ”، كما أوصانا المسيح أن نصلي “حتى لا نقع في تجربة”. قال هذا فأظهر أن بعض الذئاب الخبيثة تنوي الهجوم عليه، وربما هم وحوش أكثر منهم بشر، لكنه كان يهدف لأمر آخر من وراء ذلك، فقد أراد أن يثبت أنه يوجد ما يبرر خدمته للمسيحيين في أورشليم، طالما أن غير المؤمنين كانوا كثيرين بهذا القدر، حتى أنه طلب أن يصلوا من أجله لكي ينقذ من غير المؤمنين، لأن هؤلاء المؤمنين كانوا محاطين بأعداء كثيرين، وكانوا سيهلكون جوعا، ولهذا فبسبب الإحتياج، أحضر إليهم خيرات مادية من مكان آخر “ولكي تكون خدمتي لأجل أورشليم مقبولة عند القديسين”. أي لكي تكون تقدمتي مقبولة ، لكي يقبلوا التقدمة باستعداد حسن .
أرأيت كيف أنه مرة أخري يسمو بقيمة أولئك الذين تقدم لهم (العطية)، حيث أنه يحتاج لصلوات شعب كثير العدد، لكي يقبلوا العطايا المرسلة؟ لكنه يريد أن يظهر شيئا آخر من وراء هذا، وهو أنه ليس كافيا أن تعطي صدقة لكي يقبلوها. لأنه حين يقدم شخص عن إضطرار، من مال ظلم، قاصدا المجد الباطل، فإن الثمر يبطل.
” حتى أجئ إليكم بفرح بإرادة الله ” (رو15: 32).
مثلما قال في بداية الرسالة: “عسى الآن أن يتيسر لي مرة بمشيئة الله أن أتي إليكم”. هكذا هنا أيضا يعلن نفس الرغبة، ويقول من أجل هذا أنا متعجل وأرجو أن أنقذ من غير المؤمنين، لكي أراكم سريعا، وأن أراكم بفرح، دون أن أحمل من هناك أي حزن. ” وأستريح معكم”. أنظر كيف يظهر تواضعه أيضا، لأنه لم يقل ” أن أعلمكم وأن أبشركم”، بل قال: “وأستريح معكم”. بالرغم من أنه هو الذي جاهد، وصارع، إذا كيف يقول: ” أستريح معكم”؟ يقول هذا لكي يقدم لهم خدمة في هذا الأمر، ويجعلهم مستعدين بالأكثر، بأن يكونوا شركاء في المكافأت، ويظهر كيف أن هؤلاء أيضا يجاهدون ويتعبون. بعد ذلك وهو الأمر الذي أعتاد دوما أن يفعله، يضيف الطلبة بعد النصح، قائلاً:
” إله السلام معكم أجمعين أمين” (رو33:15).
هكذا إعتاد أن يطلب لهم أن يحل السلام بواسطة إله السلام، في نفوس الجميع.
تفسير رومية 14 | تفسير رسالة رومية | تفسير العهد الجديد | تفسير رومية 16 |
القديس يوحنا ذهبي الفم | |||
تفاسير رسالة رومية | تفاسير العهد الجديد |