تفسير رسالة رومية اصحاح 2 للقديس يوحنا ذهبي الفم
تفسير رسالة رومية – الإصحاح الثاني
عظة 6 ج2 – رو2: 1-16
وبعدما قال هذا، يكرر نفس الكلام أيضا وبأكثر شدة، ليضيق الخناق عليهم قائلاً:
لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان كل من يدين. لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك” (رو۱:۲).
ا. وهنا يوجه الرسول بولس كلامه هذا إلى الرؤساء، لأن المدينة (أي روما) آنذاك، كانت قد تولت حكم المسكونة. وبناء على ذلك، فهو يبدأ الكلام بضرورة أن لا يتحصن أحد بالأعذار، أيا كانت مكانته، لأنه فيما يدين المرء شخصا زانيا، ربما يزني هو نفسه، حتى ولو لم يحكم عليه أحد من البشر، وعندما يدين غيره عن خطأ، فإنه يصدر حكما ضد نفسه. ” لأنك أنت الذي تدين تفعل تلك الأمور عينها”.
” ونحن نعلم أن دينونة الله هي حسب الحق على الذين يفعلون مثل هذه ” (رو۲:۲).
وهو يقول هذا، لأن ما يحدث هنا على الأرض لا يحدث عند الله، لكى لا يتذرع أحد قائلاً؛ إنني في السابق قد أفلت من العقاب. ولأن في حياتنا الأرضية يمكن أن يدان الواحد بينما لا يدان الآخر، مع أن الاثنين يكونا قد اقترفا نفس الفعل. لكن هناك في الدهر الآتي لا يحدث هذا . كما أن الديان يعرف البار من الأثيم. لكن كيف يعرف؟ لا يشير أحد إلى ذلك، لأن السؤال عن هذا الأمر يعد شيئا فضوليا ويتخطى حدود القدرات البشرية.
ويشير الرسول بولس إلى أمرين يعكسان حالة الجحود، إذ أن الإنسان برغم معرفته لله، إلا أنه سلك بجحود. ومن أين أتت هذه المعرفة؟ أتت من خلال الكون الذي يعلن عن وجود الله . وإذ لم يكن معلن للجميع، أشار إلى السبب في ذلك، ولأن معرفة الله المدركة بالمصنوعات، هي مسألة معروفة ،لذا فإنه قد تجاوز الحديث عنها هنا. لكن عندما يقول إنه “ديان الجميع” فإنه لا يتوجه فقط إلى الرؤساء، بل أيضا إلى العامة والمواطنين البسطاء.
2. فالواقع يشير إلى أن البشر يدينون الذين يخطئون، حتى ولو لم يكن لديهم عروشا أو سلطائا، ويحدث هذا سواء في مناقشات أو اجتماعات عامة، أو داخل ضمائرهم. ولن يتجرأ أحد أن يقول إن الزاني غير مستحق للعقاب. هكذا يقول الرسول بولس إن بعض الذين يدينون غيرهم، لا يدينون أنفسهم. ولهذا السبب تحديدا فإنه يتوجه إليهم بكل حدة قائلاً:
” أفتظن هذا أيها الإنسان الذي تدين الذين يفعلون مثل هذه وأنت تفعلها، أنك تنجو من دينونة الله ” (رو۳:۲).
إذن، فهو يشير إلى أن خطية البشر هي خطية ثقيلة، ليس فقط من جهة الأمور المختصة بالإيمان، بل من جهة سلوكهم الأخلاقي المشين. وعلى الرغم من أنهم كانوا محبين للحكمة، وأن الخليقة التي أمامهم كان يمكن أن تقودهم إلى معرفة الحق، إلا أنهم هجروا معرفة الله. ليس هذا فقط، بل إنهم فضلوا صورا وتماثيلاً للزواحف، واحتقروا الفضيلة، وانحرفوا نحو الشرور، حيث إن ميولهم قادتهم إلى ما هو شاذ، فسلكوا بخلاف الطبيعة. ثم بعد ذلك يدلل لهم على أن أولئك الذين يفعلون مثل هذه الأعمال الشريرة، يعاقبون ولن ينجوا من دينونة الله العادلة. وقد أشار إلى العقاب الذي يستحقونه عندما تكلم عن هذا الفعل الشائن، إذ قال: ” نائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المحق”. ولكن لأنهم لم يشعروا بهذا الجزاء، أشار إلى عقاب آخر يخافونه جدا. هذا العقاب قد أشار إليه سابقاً عندما قال: “إن دينونة الله هي حسب الحق ‘. وحيال أفعال أخرى مشابهة يشير إلى نفس المصير أيضا، قائلا: ” أفتظن هذا أيها الإنسان الذي تدين الذين يفعلون مثل هذه وأنت تفعلها أنك تنجو من دينونة الله”. فإن لم تتجنب إدانة نفسك، فهل تعتقد أنك تنجو من دينونة الله؟ ومن يستطيع أن يقول هذا؟ وإن كنت لم تشفق حتى على نفسك (إذ قد أدينت)، فكيف يكون الحال بالنسبة لله، وهو الذي بلا خطية، البار بما لا يقاس، ألا يدينك بالحرى؟ وإذ كنت قد أدنت نفسك (بسبب دينونتك لغيرك)، فهل تظن أن الله سيقبلك وسيمتدحك؟ وكيف يمكن أن يكون لهذا تبرير؟
من أجل هذا، فإنك مستحق لعقاب أكثر من ذاك الذي تدينه. لأنه لا يمكن مقارنة من يخطئ خطأ بسيطا، بذلك الذي بعدما يدين غيره عن خطية ما، يرتكب نفس هذه الخطية التي أدانها من قبل . فلو أنك تدين من يخطئ خطية بسيطة، ألا يدينك الله بالأولى، أنت يا من أخطأت بالأكثر؟ ألا يدينك بصورة أشد، لأنك بالفعل قد أدنت نفسك بأفكارك هذه!. ومع أنك تقول إنني أعرف بالتأكيد إني مستحق للعقاب، إلا أنك تتهاون بسبب طول أناة الله . ولأنك لم تُعاقب على الفور، فإنك تتجرأ وتتمادى في فعل الخطية، بينما كان ينبغي عليك أن تخاف وترتعب، فالله لا يؤجل العقاب، لكنه يوقع عقابا أشد لو أنك ظللت في خطاياك. ولهذا يضيف الرسول بولس قائلاً:
” أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة ” (رو٤:٢).
وبعدما مجد الله لطول أناته، مظهرا أن الاستفادة من لطف الله وامهاله هو أمر عظيم جدا لأولئك الذين يهتمون بخلاص أنفسهم، وأن أناة الله هي الدافع في قيادة خطاة كثيرين إلى التوبة، نجده يحذر بالأكثر الذين يتهاونون بمراحم الله. لأنه كما أن أولئك الذين استفادوا من طول أناة الله، وكان ذلك سببا لخلاصهم، هكذا فإن أولئك الذين ازدروا بها، هم معرضين لعقاب أشد. لأن كل هذا يرجع إلى الاعتقاد الخاطئ الذي يقول إن الله لا يعاقب، لأنه صالح وطويل الأناة. لكن عندما تقول هذا ، يعني أنك تزيد من شدة العقاب. لأن الله يظهر صلاحه، لكي تتخلص من خطاياك، لا كي تتمادى في الخطية وتضيف لحسابك المزيد من الخطايا. فإن لم تفعل هذا وتتخلص من خطاياك، فإن العقاب سيكون مخيفا. ومن أجل هذا لا يجب أن نخطئ، مستغلين طول أناة الله، ولا أن نجعل الإحسان سببا للجحود، لأنه وإن كان الله طويل الأناة، إلا أنه في الوقت نفسه ديان وعادل. وكيف يستدل على هذا؟ يستدل عليه من الكلام اللاحق. فلو أن الشر كثير، والأشرار لم يعاقبوا في هذه الحياة، إلا أنهم بكل تأكيد سیدانون في يوم الدينونة العتيدة. ومادام البشر لا يتغاضون عن أخطاء غيرهم، فكيف يتغاضي الله عنها؟ وبناء على ذلك تحدث الرسول بولس عن الدينونة. لأنه وضح أولاً كيف أن الكثيرين يتحملون المسئولية عن خطاياهم، إن لم يتوبوا. وحتى وإن لم يعاقبوا هنا في هذه الحياة، إلا أنهم سيتعرضون للدينونة العتيدة على أية حال وذلك بقوله:
” لكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة ” (رو5:2).
عندما لا يتجاوب المرء. مع صلاح الله، ولا يرجع حتى بالترهيب عن سلوكه المنحرف. فهل توجد قسوة قلب أكثر من هذا؟ وبعدما أوضح الرسول بولس محبة الله للبشر، فإنه يتحدث عن العقاب أيضا، وكيف أنه لا مفر من العقاب لمن لا يقدم توبة. لاحظ كيف يستخدم الكلمات بكل دقة، لأنه يقول: ” تذخر لنفسك غضبا في يوم الغضب “، مبينا أن الدينونة ستحدث على أية حال، وأن السبب فيها، ليس الله الذي يدين، بل الذي يدان، أي الإنسان الخاطئ، إذ يقول: “تذخر لنفسك”، أي أنت الذي تذخر لنفسك الغضب، وليس الله هو الذي يذخره لك. لأن الله فعل ما ينبغي فعله، وخلقك قادرا أن تميز بين الخير والشر، وأظهر لك طول أناة، وأنذرك باليوم المخيف، وكل هذا لكي يقودك إلى التوبة. فلو أنك تماديت في عنادك فإنك “تذخر لنفسك غضبا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة “. ولكي لا تعتقد عند سماعك لكلمة “غضب” إنه يوجد لدى الله بغضة، فإنه يضيف عبارة “دينونة الله العادلة”. وحسنا قال ” استعلان”، لأن وقتها يستعلن هذا ” الغضب “، عندما سينال كل واحد ما يستحقه. فإن كان في هذا الدهر يوجد أناس يتوعدون غيرهم، ويتآمرون عليهم وهم في ذلك يخالفون القوانين، إلا أنه في الدهر الآتي لا تحدث مثل هذه الأمور. لأن الله:
” سيجازي كل واحد حسب أعماله.. ” (رو6:2).
3. ولأن كلام الرسول بولس صار قاسيا عليهم، إذ كان يتكلم عن الدينونة وعن الجحيم الآتي، نجده بعد ذلك مباشرة لا يذكر العقاب عندما يتكلم عن الرجاء المبارك، فيحول كلمته نحو الأمور المفرحة، أي نحو المجازاة بالخيرات، قائلاً:
” أما الذين بصبر في العمل الصالح يطلبون المجد والكرامة والبقاء فبالحياة الأبدية ” (رو7:2).
هنا هو يرفع من شأن أولئك الذين سقطوا في التجارب، ويوضح أنه لا يجب أن نقتني شجاعة في الإيمان فقط، بل وفي الأعمال، لأن الديان يفحص الأعمال أيضا. لكن لاحظ كيف يتكلم الرسول بولس عن أمور الدهر الآتي، فهو لا يتكلم مباشرة عن خيرات الدهر الآتي، لكن ما يقوله هو “مجد وكرامة”، لأن هذه الخيرات تفوق الأمور المرئية، وليس لديه هنا في هذه الحياة صورة مماثلة لخيرات الدهر الآتي، لكي يبينها . لكنه يقدم لنا أمور الدهر الآتى كما ينبغي من خلال الأشياء التي نعتبرها أمورا مشرقة بالنسبة لنا، أي المجد والكرامة في هذه الحياة الحاضرة . لكن خيرات الدهر الآتي، ليست فقط مجد وكرامة، بل أفضل بكثير من هذه الأمور التي نراها، فهي خالدة ولا يعتريها فساد. أرأيت كيف أنه يفتح أمامنا أبواب قيامة الأجساد، قائلاً البقاء” (أي عدم الفناء)، لأن مصطلح “عدم الفناء” يرتبط بالجسد، لأن الجسد هو الذي يفنى وليست النفس. ثم بعد ذلك، ولأن هذا لم يكن كافيا، أضاف قائلا: ” المجد والكرامة”. لأننا جميعنا سنقوم بلا فساد، لكن ليس الجميع في مجد، فالبعض في الجحيم والبعض في مجد.
“وأما الذين هم من أهل التحزب ولا يطاوعون للحق بل يطاوعون للإثم” (رو8:2).
فهم الذين يعيشون في الإثم، والذين يحرمون من الصفح . ويوضح هنا أنهم يسقطون في الإثم بسبب الرغبة في المشاحنة، وأيضا بسبب عدم الاهتمام بخلاص نفوسهم.
وها هو يوجه لهم اللوم مرة أخرى. إذ أنه قد سبق وأشار إلى حالتهم بقوله:
“من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبا يوم الغضب”. وعليه فأي مبرر يمكن أن يعطيه ذاك الذي يتجنب النور ويفضل الظلام؟ ونلاحظ أنه لم يقل أولئك “الذين أجبروا”، لكنه تكلم عن أولئك الذين “يطاوعون الإثم”، لكي ندرك أن السقوط في الخطية ناتج عن رغبة إرادية، فالإنسان لا يُجبر على ارتكاب الخطية.
” سخط وغضب. شدة وضيق على كل نفس إنسان يفعل الشر” (رو۹:۲).
حتى ولو كان ثريا، أو كان من النبلاء، أو حتى ملكا، فالكلام عن الدينونة لا يخجل أحدا ، لأن هذه المناصب ليس لها أي اعتبار في يوم الدينونة. وبعدما أظهر حجم المرض وسببه، بمعنى أنه يأتي من لامبالاة المرضى، تحدث عن المصير الذي ينتظرهم وهو الفناء، لأن الفرصة التي أعطيت لليهودي بواسطة تعاليم الناموس كي يتوب ولم يستغلها، ستؤرقه حتى في الجحيم. ولهذا قال:
” يفعل الشر اليهودي أولا ثم اليوناني “.
إن من توافرت له تعاليم أكثر، ويخالف هذه التعاليم يكون مستحقا لأن يلاقي عقابا أشد، لأن من يعرف أكثر يدان أكثر، فلو أنك غني، سيطلب منك أكثر مما يطلب من الفقير، وإن كنت أكثر فهما، سيطلب منك طاعة أكثر، ولو كنت صاحب سلطان، سيطلب منك أعمالاً أعظم. وفي كل الأحوال ستقدم على قدر قوتك وإمكانياتك.
“ومجد وكرامة وسلام لكل من يفعل الصلاح اليهودي أولا ثم اليوناني” (رو10:2).
أي يهودي يقصد هنا؟ وعن أي يوناني يتحدث؟ بالتأكيد عن أولئك الذين عاشوا قبل تجسد المسيح. لأن كلامه لم يصل بعد إلى أزمنة النعمة، لكنه مازال يتحدث بعد عن الأزمنة السابقة على التجسد، مؤكدا على عدم وجود فرق بين اليهودي واليوناني، ممهدا بذلك لأزمنة النعمة، حتى أنه عندما يتحدث عـن عـدم وجـود أى فـرق بين اليهودي واليوناني في أزمنة النعمة، لا يظهر وكأنه يقصـد شيئا جديدا ومقلقا .. فـإن كـان في الأزمنة السابقة ، عندما لم تكن النعمـة قـد إستُعلنت بشكل كامل، وعندما كانت أمـور اليهود لها مكانة عند الجميع ومعروفة ومشرقة، لم يظهر أي اختلاف، فأي شيء يمكن أن يقال فيما بعد، بعدما إستُعلنت النعمـة بوضـوح وقـوة؟ لهذا تحديدا فقد اعتنى جدا بتوضيح هذه الحقيقة، لأنه بعدما يعرف المستمع أن هذا (أي عدم وجود فرق بين اليهودي واليوناني)، قد ساد في الأزمنة السابقة، فبالأولى جدا سيقبل هذا بعد دخوله إلى الإيمان. واليونانيون الذين يشير إليهم الرسـول بـولس ليسـوا هـم عبـدة الأوثان، لكنهم الأتقيـاء الـذين خضعوا للناموس الطبيعي، والذين حفظـوا كـل مـا مـن شـأنه أن يقـود إلى التقـوى . وأيضا من الأتقياء أولئك الذين كانوا مع ملكي صادق، وكذلك أيوب، وأهل نينوى، وأيضا من هؤلاء كان كرنيليوس . إذن، فمن ذي قبل (أي قبل أزمنة النعمة) بدأت تنحصر بالفعل الفروق بين الختان والغرلة، ومنذ زمـن بعيد تلاشى هذا الفرق، حتى أن القديس بولس يفعـل هـذا بجرأة، أي يتدرج بهم من الوضع القديم حتى يصل بهم إلى أزمنة النعمة، ثم يقـودهم بالضرورة إلى هذا المفهوم، الأمر الذي يمثل دائما ملمحا مميزا في فهمه للحقائق الإلهية. لكن لو أنه أوضح أن هذه الفروق قـد أزيلت في أزمنة النعمة فقط ، لكـان حديثه غير دقيق، وعندما أشار إلى سيادة الشريف العالم باعتبار أن ” الجميع زاغوا وفسدوا ” وأن هذا قد شمل الاثنين معا (اليهودي واليوناني)، فهو هنا يؤكد على أنه لا يوجد فرق بين اليهودي واليوناني.
٤ـ وإذ لم يكـن الكـلام عـن الدينونة العتيدة، هـو فـقـط هـدف الرسـول بولس، فقد أراد أن يوضح كيف أن اليهودي لا يملك شيئا أكثر يمكنه أن يفتخر به أمام هذا اليوناني التقى . لكن لاحظ أنه قد أخاف المستمع، إذ ذكـره بـاليوم المخـوف، وقـال كـم هـو أمـر سـيء أن يسلك المـرء بالمكر، وأوضح أنه لا أحد يخطئ بدون معرفة، ولن يفلت من العقاب، وإن لم يكن قد أدين بعد، لكنه سيدان ـ على كل حال ـ يوم الدينونة الأخيرة. وهكذا أراد أن يبرهن لهم على أن تعاليم الناموس لم تكن مـن الأمـور الحتمية، لأن المهانة والكرامة يوجدان في الأعمال، وليس في الختان والغرلة . وهـو بهـذا يدلل على أن اليوناني سيدان ويكـرم بحسب أعماله، واعتبر أن هـذا أمـرا طبيعيا. إذن فالاشارة للناموس والختان بعد ذلك، يعد أمرا زائدا ، هو هنا يقاوم اليهود على وجه الخصوص (وليس الناموس)، لأن هؤلاء كانوا محبين للنـزاع أكثـر مـن غيرهـم. أولاً بسبب إحساسهم بالتميز، بإعتبـار أنهـم لـن يحصوا مع الأمم. ثانيا لأنهم يسخرون من القول، بأن الإيمان يمحو الخطايا. ولذلك فقد أدان اليونانيين، إذ قال في الفصل السابق: “إذ معرفة الله ظـاهـرة فيهم لأن الله أظهرهـا لهـم. لأن أمـوره غير المنظـورة تـرى منـذ خـلـق الـعـالـم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى أنهم بلا عذر يستطيع فيما بعد أن يصل إلى اليهود ويكلمهم جهارا ويصير كلامه غير قابـل للشـك . وبعـدما وصـل إلى الكـلام عـن الجحيم، أوضـح كـيـف أن اليهودي، لا ينتفع مطلقا بالنـاموس، بـل ويتثقـل بـه أيضا، إن لم يسـلك بإستقامة . وهذا قد بيئه من قبل. فلو أن اليوناني الذي لم يصـر أفضل، هـو بلا عذر، بإعتبار أن معرفة الله ظاهرة فيه، لأن الله أظهرها له، فبالأولي جدا سيكون اليهودي بلا عذر أيضا، لأنه بالإضافة إلى الناموس الطبيعي، فقد أخذ تعاليم الناموس المكتوب. وبعدما أشار إلى أخطاء الآخرين (الأمم)، فقد صار إقناع اليهود أكثر سهولة. وبهذا صار حديثه عن خطايا اليهود أمرا مقبولاً، ولذلك نجده يحثهم على فعل الأمور الأكثر صلاحا بقوله: ” مجد وكرامة وسلام لكل من يفعل الصلاح لليهودي أولا ثم اليوناني”، لأنه هنا في هذه الحياة أيا كان مقدار الأمور الحسنة التي يقتنيها المرء، فإنه يقتنيها بأتعاب كثيرة، حتى لو كان ثريا أو قائدا أو ملكا. و يقـول عـن السـلام إنه في مرات كثيرة يثور الإنسان، إن لم يكن في مواجهة الآخرين، فعلى الأقل ي مواجهة نفسه، ويتعرض لحروب داخليـة. لكـن هنـاك في الـدهر الآتي، لا يحدث شيء مثـل هـذا ، بل إن كـل شـيء يتسم بالهدوء وعدم الاضطراب ويسود عليه السلام الحقيقي. هكذا يتضح أن أولئك الذين هـم بـلا ناموس ، سيتمتعون بنفس الأمور التي يتمتع بها اليهود (أي بالعطايا الإلهية). ثم يضيف قائلا:
” لأن ليس عند الله محاباة ” (رو11:2).
وعندما يقول الرسول بولس إن اليهودي واليوناني يدانان عندما يخطئان، فإن الأمر لا يحتاج إلى تفكير، لكن عندما يقول إن اليوناني يكرم ـ الأمر الذي سوف يشير إليه فيما بعد ـ فيجب عليه أن يقيم الدليل على صحة كلامه. فبالحقيقة يبدو أمرا مدهشا وغريبا، أن يكرم ذاك الذي يفعل الصلاح مع أنه لم يسمع تعاليم الناموس والأنبياء.
لقد أراد هنا أن يدرب أسماعهم على قبول هذه الحقيقة، أن الإنسان ينال التكريم من الله إذا فعل الصلاح، وفي هذا لا فرق بين اليهودي واليوناني، الأمر الذي ذكره فيما سبق عندما أشار إلى أزمنة ما قبل النعمة . وهكذا استطاع أن يقنعهم مع دخولهم في الإيمان، أن يقبلوا بأن الجميع واحد أمام الله، لا فرق بين اليهودي واليوناني. لأنه بعدما قال: ” مجد وكرامة وسلام لكل من يفعل الصلاح اليهودى أولا ثم اليوناني” أضاف: “لأن ليس عند الله محاباة”. وفي إيضاحه لموقف الله تجاه كل من اليهودي واليوناني، نجده بعدما أشار إلى أن الله سيعاقب اليهودى أولا ثم اليوناني، وأنه سيكرم اليهودى أولا ثم اليوناني، ولكي لا يعتقد أحد أن في هذا تمييز لأحدهم عن الآخر أمام الله باعتبار أنه ذكر اليهودي أولاً، وأن هذا التمييز يتم وفقاً لإرادة الله، نجده يضيف قائلاً: ” لأن ليس عند الله محاباة”، وهو بذلك يكون قد نفى عن الله صفة المحاباة، لأن الله لا يحابي الوجوه، لكنه ينظر إلى أعمال كل أحد . هذا التوضيح يؤكد على أن اليهودي لا يختلف عن اليوناني في شيء سوى المظهر الخارجي فقط، أما من جهة الأعمال، فإنهما واحد أمام الله، من يفعل الصلاح ينال المجد والكرامة والسلام، ومن يفعل الشر يتعرض للسخط والغضب والشدة والضيق . وإن كان متوقعا في هذا السياق أن يقول إنه ليس بسبب أن الواحد يهودى والآخر يوناني، لهذا يكرم الأول ويدان الثاني، بل إن الاثنان يدانان بحسب أعمالهما. ومع هذا لم يتكلم هكذا. لأنه بهذه الصياغة كان سيثير غضب اليهودي. لكنه يشير إلى شيء آخر أبعد من ذلك، أي إلى أن طريقة تفكيرهم في أنفسهم وفي الآخرين يجب أن تكون باتضاع أكثر حتى يتقبلوا أمرا ضروريا، وما هو هذا الأمر؟ إنه يظهر من الكلام اللاحق:
” لأن كل من أخطأ بدون الناموس، فبدون الناموس يهلك وكل من أخطأ في الناموس فبالناموس يدان ” (رو12:2).
هنا هو يكرر ما قاله سابقا، لأنه يظهر ليس فقط المساواة بين اليهودي واليوناني، لكن يوضح كيف أن الناموس قـد صـار جمـلا بالنسبة لليهودى. أما بالنسبة لليوناني، فلكونه سيدان بدون الناموس، سيكون عدم تثقله بالناموس أمرا مفرحا له. وهذا ما يقصده هنا، أن الأممي يدان فقط وفـق النواميس الطبيعية. لكن اليهودي يدان على أساس الناموس، وهذا يعني أنه بالإضافة للناموس الطبيعـي الـذي يسـرى عـلـى كـل البشـر، هنـاك الإدانة بالناموس المكتـوب. لأن علـى قـدر قبولـه لتعاليم الناموس، علـى قـدر مـا سيكون مدانا بحسب هذه التعاليم.
5. أرأيت كيف أنه يوضح احتياج اليهود الملح لأن يركضوا نحو النعمة؟ لأنهم قالوا إنهم لا يحتاجون إلى النعمة، وإنهم يخلصون بالناموس فقط. فأوضح أنهم محتاجون للنعمة أكثر من اليونانيين، طالما أنهم سيدانون أكثر . ثم بعد ذلك، لكي يؤكد ما قاله يضيف تعليما آخر قائلاً:
” لأن ليس الذين يسمعون الناموس هم أبرارا عند الله” (رو13:2).
وحسنا أضاف “عند الله” لأنهم ربما يظهرون أمام الناس أنهم مستحقون للتقدير بسبب سماعهم للناموس، ويفتخرون بهذا كثيرا. لكنهم أمام الله تنكشف حقيقتهم تماما. لذا نراه يذكر من هم الذين سيبررون بقوله:
” بل الذين يعملون بالناموس هم يبررون “.
وبعدما تكلم عن أن الأبرار عند الله ليسوا هم الذين يسمعون الناموس، فإنه الآن يتكلم عن أن الأبرار هم الذين يعملون بالناموس.
أرأيت كيف أنه تكلم بفيض وغنى لكي ينتقل بكلمته لاتجاه عكسي؟ يقول القديس بولس، إذن إن كنت تعتقد بأنك سوف تخلص بسبب اتباعك للناموس، فإن اليوناني يعد أفضل منك أمام الله، لأنه كما هو واضح قد عمل بالمكتوب. وكيف يمكن أن يعمل بالناموس ذاك الذي لم يسمع الناموس؟ بل أقول لك، إنه من الممكن أيضا، عندما اليهودي الناموس ألا يعمل به. ولقد ذكر الرسول بولس نفس هذا المعنى فيما بعد بأكثر تشديد بقوله : “فأنت إذا الذي تعلم غيرك ألست تعلم نفسك.
” لأنه الأمم الذين ليس عندهم الناموس متى فعلوا بالطبيعة ما هو في الناموس فهؤلاء إذ ليس لهم الناموس هم ناموس لأنفسهم (رو14:2).
والرسول بولس هنا لا يرفض الناموس، بل على العكس هو يبرر الأمم من خلال الناموس أيضا. أرأيت كيف أنه يقوض مجد اليهودية، ولا يستطيع أحد أن يشتكى عليه، باعتبار أنه يسيء إلى الناموس؟ لكن على العكس، فإنه يظهر كل الأشياء كما هي، فيرفع من شأن الناموس ويظهر فضله. وعندما يقول “بالطبيعة” يقصد الأفكار الفطرية، ويظهر كيف أن البعض أفضل من هؤلاء اليهود . والأمر الأكثر أهمية بالنسبة له، إنهم صاروا أفضل مع أنه لم يكن لديهم الناموس، الذي يفتخر به اليهود على الأمم، ولهذا تحديدا يقول إن الأمم مستحقون للتقدير، لأنهم لم يتسلموا الناموس، ومع ذلك عملوا بكل وصاياه. وعبروا عن أفكارهم بأعمالهم وليس بالكلام فقط. لأنه يقول:
الذين يظهرون عمل الناموس مكتوبا في قلوبهم شاهدا أيضا ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة. في اليوم الذي فيه يدين الله سرائر الناس حسب إنجيلي بيسوع المسيح” (رو15:2-16) .
أرأيت كيف أنه يشير أيضا إلى يوم الدينونة، ويجعله قريبا، وينذرهم، موضحا كيـف أنـه ينبغي تكريم أولئك الذين اهتمـوا بـأن يعملوا بوصـايا الناموس بدون الناموس؟ لكن ما ينبغي أن تعجب به بشكل خاص هو رؤية الرسـول بـولس، وهـذا مـا يستحق أن نتكلم عنـه الآن . لأنـه بعـدما أظهـر بالدليل، كيف أن اليوناني هو أسمى من اليهودي، لم يشر إلى هذا كنتيجة مجملة مسلم بها، حتى لا يثير سخط اليهودي. ولكي يكـون قـولى أكثر وضوحا، سأشير إلى كلامه هو نفسه حيث قال: “لأنه ليس الذين يسمعون الناموس هم أبرارا عند الله، بل الذين يعملون بالناموس هـم يبررون “. وقد كان متوقعا أن يقـول: “لأن الأمـم الـذين ليس عندهم الناموس متـى فـعـلـوا بالطبيعة ما في الناموس” هؤلاء هم أفضل بكثير من أولئك الذين لديهم الناموس. غير أنه لم يقل هذا، لكنه توقف عند مدح اليونانيين، ولم يواصل كلمته، فقد عقد أولاً تلك المقارنة (بين من يسمع الناموس وبين من يعمـل بالناموس) حتى يقبل اليهودي هذا الكلام. لذلك اكتفـى بـأن يقـول: “لأن الأمـم الـذيـن لـيـس عنـدهم الناموس متـى فـعـلـوا بالطبيعـة مـا هـو في الناموس فهؤلاء إذ لـيـس لـهـم النـاموس هـم نـاموس لأنفسهم، الذين يظهرون عمـل الناموس مكتوبا في قلوبهم شاهدا أيضا ضميرهم “.
لأنه يكفي في مقابل العمل بالناموس، العمل بحسب الضمير والفكر. لقـد أظهـر الـرسـول بـولس بهذا الكلام أيضا، كيـف أن الله خلق الإنسان قادرا على اختيار الفضيلة وتجنب الشر.
فلا تتحير لأنه أظهر هذا الأمر عدة مرات، لأن هذا الأمر الهام كان يعد بالنسبة له، أمرا ملحا، تجاه أولئك الذين تساءلوا لماذا أتى المسيح الآن؟ وأين كانت عناية الله في الأزمنة السابقة؟ وهـو يـرد علـى هـؤلاء مبينًا لهم إنه في الأزمنة السابقة وقبل إعطاء الناموس، كان الجنس البشري يتمتع بعناية الله بصورة كاملة، فما أعلنه الله من قبل، كان واضحا لهؤلاء، بل إنهم أيضا قد عرفوا مـا هـو الخير ومـا هـو الشر، وكانت معرفتهم هذه سببا في أنهم أدانوا الآخرين. ولهذا تحديدا اتهمهم وقال: ” فيمـا تـدين غيرك تحكم على نفسك”، لكن في حالة اليهود بالإضافة إلى كل ما طرح، فإنهم قد تسلموا الناموس، أي أنه بالاضافة للعطية الإلهية الممنوحة لكل البشـر وهـي العقل والضمير، فإنهم أيضا قد نالوا تعاليم الناموس. لكن لأي سبب أشار إلى أن ” أفكارهم فيما بينهـا مشـتكية أو محتجـة”؟ السبب في ذلـك أنـه لـو كـان عندهم الناموس المكتوب ويظهرون عمله، فهل يكون هناك مجال للفكر أن يشتكي؟ وعندما يقول “مشتكين” فإنه لا يقصد أن الأفكار فقـط هـي التي تشتكي عليهم (أي تتهمهم)، بـل إن كـل الطبيعـة تشـتكى عليهم أيضا”. وهذا اتهام كاف لدينونتهم.
ثم بعد ذلك، لكي يزيـد مـن خـوفهم مـن يـوم الدينونة، فإنه لم يشر إلى خطايا البشر المعلنة فقط، لكنه أشار إلى “سرائر الناس أيضا”. وهنا نرى أن دينونة الله هي أكثر دقة من دينونة البشر، باعتبار أن الناس يحكمـون علـى الأمور الظاهرة فقط، وهو يشير إلى “سرائر الناس “، كي لا تتعرض لنفس الدينونة التي بها تدين غيرك حتى وإن كنت تدينه بأفكارك، ومن أجل هذا قال “أفتظن هذا أيها الإنسان الذي تُدين الذين يفعلون مثل هذه وأنت تفعلها أنك تنجو من دينونة الله “؟. ثم أكمل أن في يوم الدينونة هذه “سيدين الله سرائر الناس حسب إنجيلي بيسوع المسيح ” وهنا نلاحظ أنه على الرغم مـن أنه تكلم فيما سبق عن الله الآب فقط، فإنه هنا يتكلم عن المسيح”
6. أرأيت كيف أنه بهذه الحكمة، قد قاد الجميع ودعاهم إلى بشارة المسيح المفرحة ، وأظهر أن نتائج أعمال الإنسان، لا تنحصر في هذه الحياة فقط، بل تمتد إلى حياة الدهر الآتى أيضا، وهذا يتضح مما سبق وقاله: ” تذخر لنفسك غضب في يوم الغضب ، أما في هذه الآية فيقول أيضا: ” اليوم الذي فيه يدين الله سرائر الناس ” إذن فينبغي على كل واحد أن يفحص ضميره من جهة خطاياه، ويطالب نفسه ـ بكل تدقيق – بمسؤلياتها لكي لا يدان يوم الدينونة العتيدة. لأن تلك المحاكمة رهيبة، وذلك العرش مخوف، ومسئوليات النفس عن أعمالها مرعبة، والنار تجري كالنهر ” والأخ لن يفدي الإنسان فداء، ولا يعطى الله كفارة عنه. فتذكر إذن هذه الأمور التي قيلت في الإنجيل عن الملائكة الذين يروحون ويجيئون، والنار التي لا تُطفأ، والحجال الذي أغلق، وقوات الشر التي تُجر إلى أتون النار . فتخيل إذن، لو أن شخصا منا أظهر اليوم أمام الكنيسة أمرا خفيا، كيف أنه يتمنى أن يختفي وتبتلعه الأرض، على أن يكون هناك شهود كثيرون على خطاياه؟ كم بالحرى سيكون الألم في ذاك الوقت، عندما تعرض كل هذه الأمور أمام المسكونة كلها في مثل هذا المحفل المنير، لأن كل شيء سيكون حينئذ مكشوفا ومعلنا أمام الجميع.
لكن لماذا اضطررت أن أنذركم؟ فعلت ذلك بدافع المحبة لكم، وكان ينبغي علي أن أفعل هذا وأشدد على ضرورة مخافة الله وإظهار دينونته العادلة. أخبرني كيف سنكون وقتها (أي يوم الدينونة)، عندما تُصر أسناننا وننقاد إلى الظلمة الخارجية؟ أو من الأفضل أن نتساءل: ماذا سنفعل عندما نقاوم إرادة الله، الأمر الذي هو أكثر رعبا من كل شيء؟ لأن الشخص الذي لديه حس وإدراك يمكنه من الآن أن يشعر بما سيعانيه في الجحيم، إلى أن يقف أمام الله في يوم الدينونة العتيدة. أما من ليس له هذا الحس وذلك الإدراك فسيكون مصيره الجحيم . لأنه بالحقيقة كان ينبغي علينا أن نتألم لا عندما تُدان، ولكن عندما تخطئ . اسمع الرسول بولس وهو يحزن ويئن، لأجل خطايا لن يدان عنها: ” لست أهلا لأن أدعى رسولا لأني اضطهدت كنيسة الله “١٣٦. اسمع داود أيضا ـ لأنه اعتقد أنه سلك ضد إرادة الله، طلب أن يدان قائلاً: ” فلتكن يدك على وعلى بيت أبي”137. لأن مقاومة إرادة الله هو أمر أكثر فزعا من الدينونة، وهذا يعكس حالة البؤس التي نحياها، فإن لم يكن هناك خوف من الجحيم، فلن نسرع إلى فعل الصلاح وهذا أمر غير مقبول أمام الله . ولهذا تحديدا سنكون مستحقين لهذا الجحيم، لأننا نخاف من الجحيم أكثر من مخافة المسيح، ولننظر إلى المطوب بولس الذي سلك في مخافة الله على الدوام . أما من جهتنا فنحن نسلك بشكل مختلف، فالخوف من الجحيم هو الذي يدفعنا لفعل الصلاح، لهذا يحكم علينا بالجحيم، وسنعرف لو أننا حقا نحب المسيح كما ينبغي لنا أن نحبه، وسندرك أيضا أن الأكثر فزعا من الجحيم هو معاندة ذاك الذي نحبه . لكن لأننا لا نحبه، فنحن لا ندرك مقدار الاثم الذي نفعله. وهذا ما يجعلني على كل حال أحزن وأئن.
لكن هل هناك شيئا لم يفعله الله لأجل خلاصنا، لكي لا نحبه؟ وما الذي لم يدبره بصلاحه لخيرنا؟ وما الذي لم يفكر فيه لأجلنا؟ لقد ازدرينا به، على الرغم من أنه أعطانا هبات كثيرة، وأنعم علينا بخيرات وفيرة لا توصف . لقد انصرفنا عنه بالرغم من أنه دعانا وجذبنا نحوه من كل صوب، ومع هذا، لم يعاقبنا، بل ركض نحونا وعضدنا، في الوقت الذي فيه تركناه ورفضناه، وقبلنا مشورة الشيطان. ورغم هذا الموقف الرافض، إلا أنه أرسل كثيرين من الأنبياء، والملائكة، والآباء لدعوتنا مرة أخرى، ولم نقبل الدعوة وليس هذا فقط، بل إننا قد أسأنا إلى هؤلاء الذين أرسلهم، ومع كل ذلك لم يتركنا، فقد أسئ إليه وقبل الإساءة، وقد احتمل هذا من أجل أن يأتي بالجميع إليه ممن في السماء وممن على الأرض، لقد فعل ذلك باختياره لأجل خاصته. واقترب هو نفسه من أولئك الذين انصرفوا عنه، مبشرا هؤلاء الذين كانوا يصمون آذانهم عن كل شيء. لأنه يقول: ” يا شعبى ماذا صنعت بك وبماذا أضجرتك. اشهد على”، غير أننا بعد كل ذلك، قتلنا الأنبياء، ورجمناهم، وسببنا لهم متاعب لا تُحصى. ماذا فعل الله تجاه كل هذا؟ لم يرسل بعد أنبياء ولا ملائكة ولا آباء، لكن أرسل ابنه الوحيد. وعندما أتى ابن الله ذاق الآلم وجاز الموت، ومع كل هذا لم تنقص محبة الآب، ولازال يدعو الجميع حتى بعد موت ابنه، ويترجى أن نفعل كل ما نستطيع حتى نرجع إليه. ولهذا فإن الرسول بولس يصرخ قائلاً: ” إذ نسعى كسفراء عن المسيح، كأن الله يعظ بنا نطلب عن المسيح تصالحوا مع ۱۳۸۳ –
الله[مي6: 3].
7- ومع أننا لم نتصالح مع الله، إلا أنه لم يتركنا، ولم يتغير موقفه تجاهنا. بل إنه لكي يجذبنا نحوه، قد توعدنا بالعقاب ووعدنا بملكوت السموات. ومع كل هذا فإننا قد سلكنا بلا شعور. فهل يوجد أقسى من هذه الوحشية؟ فلو أن إنسانا قد فعل بنا خيراً، ألا نصير أسرى محبته هذه؟ أما حين يصنع الله معنا كل هذه الأمور، فإننا ننصرف عنه. أليس هذا جحودا وعدم مبالاة!. نحن دوما نرتكب الخطايا والشرور، ولو حدث مرة وفعلنا شيئا صالحا، فإننا نفعله واضعين أمام أعيننا الأمور المادية، مثلما يفعل الخدم الجاحدون، حاسبين ذلك المقابل المادي بكل دقة. لكن تكون المكافأة أعظم، لو أنك تعمل دون أن تنتظر مقابلاً لما تفعله. لأن هذا السلوك وهذه الحسابات الخاصة بانتظار المقابل، هو سلوك يخص بالأكثر كل من يعمل من أجل المكافأة، وليس سلوك خادم يشعر بالإمتنان لسيده . إذن ينبغي أن نفعل كل شيء لا من أجل المكافأة المادية، بل من أجل الإتحاد بالمسيح حتى تنعم بالخيرات في بملكوت السموات . فمحبة الله في حد ذاتها هي أعظم مكافأة، فهى الملكوت الحقيقي، ورفض هذه الحقيقة هو الجحيم ذاته. لذلك ينبغي علينا أن نحبه كما أحبنا هو أولاً، لأنه هو الملكوت، وهو الفرح، وهو المتعة، وهو المجد والكرامة، وهو النور والسعادة غير المحدودة، ذاك الذي لا يعبر عنه، غير الموصوف وغير المدرك. أنا لا أعرف كيف انجذبت لهذا الحديث، لكني أهـدف إلى حث أولئك الذين ينشغلون بمجد وسلطان هذا العالم الحاضر، على احتقـار هـذه الأمـور لأجل ملكوت الله.
إن أغلبية الرجال العظماء، الجسورين، قد وصلوا إلى هذا القدر من المحبة . لقد اشتعل الرسول بطرس بالمحبة نحو المسيح، مفضلاً إياه عن نفسه وحياته وعن كل شيء آخر، وعندما أنكره، لم يبك خوفا من الجحيم، بل لأنه أنكر ذاك الذي أحبه جدا، وهذا الأمر كان يعد بالنسبة له أقسى من الجحيم . فقد كان باستمرار مداوما على أن يسأل الرب يسوع ؛ قائلاً: “أين تذهب”، وأيضا “إلى من نذهب”، و”إنى مستعد أن أمضى معك حتى إلى السجن”. لأن المسيح كان كل شيء بالنسبة للتلاميذ، ولم يكن الدافع لمحبتهم للمسيح هو انتظار أية مكافأة . ودعني أسأل لماذا تندهش من سلوك بطرس؟ اسمع ما يقوله النبي: ” ما لي في السماء ومعك لا أريد شيئا على الأرض”. إن ما يقصده هو الآتي: أنه لا يتمني شيئا لا من الأمور السمائية، ولا من الأمور الأرضية، لا شيء يتمناه سوى الله. هذه هي المحبة، هذا هو العشق الإلهى . فلو أننا نحب هكذا، فإن هذه المحبة لن تقارن على الاطلاق بأية أمور أرضية أو حتى أمور مستقبلية، وسنربح ملكوت السموات منذ الآن، متمتعين بمحبته. وقد يتساءل المرء كيف سيحدث هذا؟ نجيب: لو أننا أدركنا كم مرة أسأنا إليه، بينما هو لا يزال يدعونا ويقدم لنا خيرات لا تحصى. كم مرة تجاهلناه، بينما هو لا يتجاهلنا أبدا، بل ويركض نحونا ويجذبنا إليه ويقودنا بالقرب منه. لو أننا فكرنا في كل هذا، وأمور أخرى مشابهة، سنستطيع أن نلتهب بالشوق إليه، مثلما يحدث لو أحب إنسان بسيط ملكا، ألا يقدر هذا الملك هذا الحب؟ بالتأكيد سيقدره كثيرا جدا . لكن عندما يحدث العكس، ويكون من يحبنا ذو جمال وغنى ومجد لا يعبر عنه، بينما نحن المحبوبين غير جديرين بمحبته، فكيف لا نكون ـ نحن غير المستحقين – أهلا للجحيم، عندما نصير محبوبين بهذا القدر الكبير من المحبة، من ذاك العظيم العجيب، ولا نبالي بمحبته؟ فالحقيقة أنه بالرغم من مبالاتنا، فإن الله لا يتوقف على أن يقدم لنا كل محبة.
نحن في احتياج كبير لمحبته، وبالرغم من ذلك لا ندرك أهمية وغنى هذه المحبة، لكننا تفضل الأشياء المادية، وصداقات الناس، وراحة الجسد ، والسلطة والمجد، بينما هو لا يريد أي شيء آخر منا، سوی خلاص نفوسنا فقط، إذ أنه لم يشفق على ابنه وحيد الجنس لأجل خلاصنا. ومع هذا كله فإننا نفضل أمورا أخرى كثيرة على محبته. هل بعد كل ذلك لا يوجد جحيم؟ ماذا نستطيع أن نقول، عندما نفضل أفكار الشيطان على نواميس المسيح، وعندما لا نبالي لخلاصنا، ونفضل أن نسلك في الشر على أن نتحد بذاك الذي جاز الآلام لأجلنا؟ وأى عذر يمكن أن يقدم عن كل هذا؟ وأى تبرير؟ بالقطع لا يوجد. ومادمنا نفكر في كل هذا، فلنتوجه بالحديث نحو المتغافلين، لعلنا نستفيق، فلنعطي المجد للمسيح من خلال أعمالنا. لأنه لكي نتمتع بمجده لا يكفي أن نمجده بمجرد الكلام. لأننا جميعا نتمنى أن نتمتع ببهاء مجده ، بالنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي يليق به مع الآب والروح القدس المجد والقوة والكرامة الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.
العظة السابعة رو2: 17-29
” هوذا أنت تسمى يهوديا وتتكل على الناموس، وتفتخر بالله وتعرف مشيئته وتميز الأمور المتخالفة متعلماً من الناموس” (رو2: 17-18).
1. بعدما قال إن اليوناني لا ينقصه شيء لأجل خلاصه، لو أنه سلك بحسب الناموس، أي متى سلك بما هو في الناموس بحسب الطبيعة، وبعدما قدم تلك المقارنة المدهشة (بين من يسمع الناموس ومن يسلك بحسب الناموس)، فإنه يشير فيما بعد إلى تلك الأمور التي جعلت اليهود يفكرون بأنهم متميزون (كجنس) عن اليونانين. أول شيء هو الاسم نفسه، أي أنهم دعيوا “يهودا” إذ أن هذا الاسم كان له أهمية كبيرة جدا، تماما مثل المسيحية الآن. لأنه بالحقيقة كان التمييز يعتمد في ذاك الوقت على التسمية، لهذا نجده يبدأ بذكر الاسم أولاً، ولاحظ كيف أنه يبطل فكرة الانتماء لجنس اليهود، كأمر يميزهم عن غيرهم . لأنه لم يقل “أنت يهودي”، لكن ” تسمى يهوديا.. وتفتخر بالله” أي أن الله أحبك، وتميزت عن أناس آخرين، وأعطيت هذا الاسم . لاحظ كيف أنه يسخر منهم في هدوء، لأجل حماقتهم، ولأجل محبتهم الكبيرة للمجد، لأنهم استخدموا هذه العطية ، لا لأجل خلاصهم، ولكن لكي يثيروا فتنة ضد الآخرين ويحتقرونهم.
” وتعرف مشيئته وتميز الأمور المتخالفة متعلما من الناموس “. إن هذه المعرفة التي تميز الأمور المتخالفة تبدو على أنها ميزة، لكنها رذيلة (لأنها معرفة بدون عمل)، ولهذا فهو يذكرها بالتحديد. لأنه لم يقل تصنع مشيئته، لكن ” تعرف وتميز”، وليس تعمل وتتمم.
” وتثق أنك قائد للعميان ونور للذين في الظلمة ” (رو19:2).
وأيضا هنا لم يقل إنك بالفعل قائد للعميان، بل ” تثق أنك قائد للعميـان ” وهكذا تفتخر . ولأن جنون العظمة لدى اليهود ، كان كبيرا، فلهذا نجد أن الرسول بولس هنا يعكس ما ورد في الأناجيل من عبارات تدل على افتخارهم بأنفسهم عندما قالوا للمولود أعمى: ” في الخطايا ولدت أنت بجملتك وأنت تعلمنا “. فقد كانوا دائمي الافتخار بأنفسهم أمام الجميع، هذا بالضبط ما أراد الرسول بولس أن يفحصـه ويصححه، فنجده يرفـع مـن شـأن أولئك اليونانيين، مقابل وضع هؤلاء اليهود. وكأنه بهذا أراد أن يفضح افتخارهم الكاذب، ويجعـل دينونتهم أثقل. ولهذا استمر في كشـف زيـف افتخـارهم بقوله:
” ومهذب للأغبياء ومعلم للأطفال ولك صورة العلم والحق في الناموس” (رو20:2).
مرة أخرى لم يقل: لك صورة العلم والحق “في الضمير” و”في الأعمال” و”في الانجازات”، لكن ” في الناموس”. وبعدما قال هذه الأمور، فإن ما ذكره عندما أشار إلى الأمم بقوله “لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك” يكرره هنا تقريبا :
” فأنت اذا الذي تعلم غيرك ألست تعلم نفسك؟ ” (رو21:2).
غير أنه عندما كان يشير إلى الأمم، كان حديثه أكثر حدة، أما هنا فحديثه يتسم بالرقة، إذ لم يهـددهـم بـأنهم يستحقون عقابا أكثر نتيجة فعلـهـم هـذا ، بـل يخاطبهم قائلاً: ” فأنت اذا الـذي تعلـم غـيرك ألسـت تعلم نفسك؟” فعلى الرغم من ثقتهم فيـك “كمعلم” لأمور كثيرة، فإنك لم تنتفع شيئا من كل هذه الأمور كما ينبغي، وهـذا هـو معنـى سـؤاله بقوله: “فأنت إذن الـذي تـعلـم غـيرك ألسـت تعـلـم نفسـك”؟ لكـن أرجـو أن تُلاحظ، رؤيـة الرسول بولس في موضع آخر، حيث يشير إلى تميز اليهود والذي لم يكن راجعا لأعمالهم التي مارسوها بأنفسهم، ولكن راجع إلى فعل النعمة الإلهية فيهم، ويبين كيف أنه (أي الناموس) لم يكن فقـط بـلا نفع لهم مادامو قـد أهملوه، لكنهم أيضا قد جلبوا على أنفسهم عقابا آخر، فليس هـو إنجـاز خـاص بـهـم أن يدعوا يهـودا ، ولا لأنهـم أخـذوا الناموس، ولا للأمـور الـتي ذكرها فيما سبق، بل لأجل النعمة الإلهية. فبينمـا يقـول في البداية إن مجرد سماع الناموس لا يفيد إطلاقا إن لم يقترن بالعمل ” لأن ليس الذين يسمعون الناموس هم أبرار عنـد الله . نجـده الآن يوضح أنه ليس السماع فقـط هـو المهم، لكن الذي يعد أكثر أهمية من السماع هـو التعليم. ولا حتى التعليم يستطيع أن يساعد المعلم عندما لا يعمل به. وليس هذا فقط أن التعليم نفسه لن يعينه، بل بالحرى سيدينه.
وحسنا يستخدم القديس بولس الكلمات بكل دقة، لأنه لم يقل ” أخذت الناموس”، لكن “تتكل على الناموس”. لأن اليهودي لم يتعب في أن يذهب هنا وهناك وأن يطلب معرفة الأمور التي ينبغي أن يفعلها، لكن كان لديه الناموس الذي أظهر له بسهولة الطريق الذي يقود إلى الفضيلة . فبالرغم مـن أن الأمـم الـذين سلكوا بالناموس الطبيعي، قد وجدوا في حالة أفضـل مـن هؤلاء اليهود ، لأنهم فعلوا كل شيء بدون الناموس المكتوب، إلا أن الطريق نحو الفضيلة، كان أسهل بالنسبة لليهود ، باعتبار أن لديهم الناموس. لكـن لو أن اليهودي قال: إننى لا أسمع فقط، لكن أعلم أيضا، لكان هذا سيزيد مـن هـول إدانته. إذن لأنه افتخر كثيرا بأن لديـه الناموس، فمـن أجـل هـذا يوضح لهم، كيف أنهم مستحقون للسخرية عندما يقـول: ” وتثـق أنـك قـائـد للعميـان .. ومهذب للأغبيـاء ومعلـم لـلأطـفـال”. “. هو يقصـد تكبرهم ـ لأنهـم كانوا يستغلون الجهل بالناموس لدى الذين اهتدوا إلى الإيمان حديثا ـ معطيا إياهم هذه الصفات، ومع أن هذا الكلام يبدو وكأنـه مـدح لهم، إلا أنه في حقيقة الأمر هو سبب ، قوي لدينوتهم.
2. “ولك صورة العلم والحق في الناموس” إن من يفعـل هـذا يكـون تماما مثل شخص يرسم لوحـة واضعا أمامـه صـورة ملوكية، غير أن ما يرسمه لا يتوافق إطلاقا مع هذه الصورة، بينما أولئك الذين لم يكن لديهم الأصل، رسموها بكل دقة.
وبعدما ذكر المزايا التي أخذوها مـن الله، ذكـر عيـوبهم، والتي بسببها أدانهم الأنبياء، واضعا هذه الإدانات أمامهم بقوله:
” فأنت اذا الذي تعلم غيرك ألست تعلم نفسك؟ الذي تكرز أن لا يسرق أتسرق. الذي تقول إن لا يزنى أتزني الذي تستكره الأوثان أتسرق الهياكل” (رو21:2-22)
لأنه أن تمس الأموال التي توجد داخل المعابد الوثنية، فهذا كان من الأعمال المجرمة، ويحظر حظرا تاما، بل إن هذا العمل كان أمرا مكروها جدا. لكن طغيان محبة المال أقنعكم أن تدوسوا هذا الناموس، بعد ذلك فإن الأمر الأصعب جدا يضيفه في النهاية قائلا:
” الذي تفتخر بالناموس أبتعدي الناموس تهين الله ” (رو23:2).
هنا يذكر اتهامين ضدهم أو من الأفضل أن نقول ثلاثة اتهامات، أولاً: أنهم أهانوا غيرهم، ثانيا : أنهم أهانوا تلك الأمور التي كرموا بها ، ثالثا : أنهم أهانوا ذاك الذي كرمهم، الأمر الذي كان يعد أسوأ أشكال الجحود. فيما بعد ـ لكي لا يبدو أنه يدينهم بحسب رؤيته – أشار إلى النبي كإدانة لهم، أولا بكلام قليل وسريع ومختصر، لكن بعد ذلك تكلم بإسهاب أكثر. فقد ذكر إشعياء أولاً ثم بعد ذلك داود، وبالتالي صارت أمورهم مكشوفة بالأكثر. إذن فهو يشير إلى هذه الأمور، لا باعتباره أنه هو الذي يدينهم، لكن اسمع ماذا يقول إشعياء:
” لأن اسم الله يجدف عليه بسببكم بين الأمم كما هو مكتوب” (رو24:2).[إش52: 5]
وها هو اتهام مزدوج، لأنه يشير إلى أن هؤلاء لا يجدفون فقط على اسم الله، لكن يدفعون آخرين أيضا على التجديف على اسم الله، بسبب سلوكهم المزدوج، فبينما يعلمون الآخرين، لا يسلكون هم أنفسهم وفق هذه التعاليم. وكأنه يخاطبهم قائلاً: إذن فما هو نفع التعليم، عندما لا تعلمون أنفسكم؟ وكان هذا ما سبق أن خاطبهم به من قبل عندما قال: ” فأنت إذا الذي تعلم غيرك ألست تعلم نفسك “، غير أن لكلامه هنا هدف آخر. لأنه يقول إن الأمر لم يقتصر فقط على عدم تعليم أنفسكم، لكن أيضا لم تعلموا الآخرين، تلك الأمور التي ينبغي أن يفعلوها . إن الأمر الأكثر فزعا ليس فقط هو أنكم لا تعلمون وصايا الناموس، بل إنكم تعلمون بعكس وصايا الناموس. فيجدفون على اسم الله بسببكم.
ثم بعد ذلك يتحدث عن الختان ويقول إنه أمر عظيم وأنا أعترف به، حين يكون لدى المرء الختان الداخلى (أي ختان القلب بالروح). انتبه إلى حكمة الرسول بولس، كيف أنه في اللحظة المناسبة تكلم عن الختان، وكيف أنه لم يبدأ مباشرة بالحديث عن موضوع الختان، إذ أن مكانته كانت عظيمة جدا عند اليهود . وبعدما أوضح أن هؤلاء اليهود ، مسئولون عن التجديف على اسم الله، وأن المستمع لكلامه بدأ يدين سلوكهم، وأيضا بعدما جردهم من مكانتهم المتميزة، حينئذ تكلم عن الختان، متمنيا أن لا يستهجن أحد الختان إذ يقول ” فإن الختان ينفع إن عملت بالناموس” على الرغم من أنه كان ممكنا، أن يستخدم أسلوبا آخر يمكنه من تجاهل موضوع الختان، لو أنه قال ما هو الختان؟ أو هل هو مجرد فعل يتممه المختتن؟ هل هو برهان على إرادته الصالحة، حيث أن الختان يصير في سن مبكر جدا؟ بالإضافة إلى ذلك فإن أولئك الذين كانوا في الصحراء، جميعهم ظلوا بلا ختان لسنوات عديدة، ليس هذا فقط، بل من خلال شواهد كثيرة يستطيع المرء أن يتحقق بأن الختان ليس أمرا ضروريا، ومع هذا لم يرفض الرسول بولس الختان بدون إبداء أسباب، لكنه رفضه مشيرا إلى حالة إبراهيم الذي أخذ علامة الختان ختما لبر الإيمان . حيث أن الوعد لإبراهيم ولنسله أن يكون وارثا للعالم، كان ببر الإيمان، وعندما يبرهن القديس بولس على أن الختان هو بلا نفع، بعد أن كان محل تقدير بالنسبة لهم، فهذا أمرا مهما. ومع أنه كان يستطيع أن يقول إن الأنبياء دعوا اليهود بغير المختتنين (لأنهم لم يسلكوا بما يتفق وختانهم)، إلا أن هذا لا يعد بأي طريقة أمرا يعيب الختان، لكنه أمرا يعيب أولئك الذين يتحدثون عنه وهم يجهلون المعنى الحقيقي للختان . فهدف القديس بولس، هو أن يظهر كيف أن الختان ليس له أي قوة في زمن النعمة. وهذا بالضبط ما بينه فيما بعد.
فبعدما أوضح عدم نفع الختان من خلال شواهد أخرى، لم يشر فيها إلى إبراهيم، إلا أنه قد ذكره أخيرا عندما تكلم عن الإيمان قائلاً: ” فكيف حسب أهو في الختان أم في الغرلة”. وهنا نجد أن الرسول بولس لم يرد أن يقول شيئا عن الختان الذي كان يمثل عثرة بالنسبة للأممي غير المختتن، وذلك كي لا يكون حديثه مزعجا بالنسبة لهم . أما عندما يتعلق الأمر بالإيمان، نجده يتكلم عن الختان بأكثر حدة، وذلك عكس ما حدث عندما تكلم عن الختان والغرلة، إذ واصل حديثه بأسلوب هادئ قائلاً:
” فإن الختان ينفع إن عملت بالناموس، ولكن إن كنت متعديا للناموس فقد صار ختانك غرلة ” (رو25:2).
إذن فهو يقصد هنا غرلتين وختانين كما يقصد ناموسين. وكما يوجد الناموس الطبيعي والناموس المكتوب، يوجد أيضا ناموس آخر بينهما، هو ناموس الأعمال، لاحظ كيف أنه يظهر هذه النواميس الثلاثة، ويعرضها أمامهم بقوله: ” لأن الأمم الذين ليس عندهم الناموس” أخبرني عن أي ناموس يتكلم؟ إنه يتكلم عن ناموس الأعمال، ثم يكمل ” إذ ليس لهم ناموس” وهنا أيضا أي ناموس يقصد؟ يقصد الناموس المكتوب، ويضيف ” هم ناموس لأنفسهم” كيف؟ من خلال الناموس الطبيعي. ومع ذلك فهم ـ أي الأمم – ” يظهرون عمل الناموس ” وأى ناموس هذا الذي يظهرونه؟ نقول ناموس الأعمال. لأن الناموس المكتوب لم يعط للأمم، بينما الناموس الطبيعي “يوجد داخلهم” كبشر، والناموس الثالث يظهر في الأعمال.
فالناموس الأول هو من خلال النص المكتوب، والثانى أي الطبيعي، تُمليه طبيعة البشر، والثالث أي ناموس الأعمال يظهر في الأعمال.
إذن فهناك احتياج لهذا الناموس الثالث والذي لأجل تحقيقه، يوجد الإثنان الآخران أي الناموس الطبيعي والناموس المكتوب . فإذا لم يتحقق هذا الناموس أي ناموس الأعمال فلا يوجد أي نفع من هذين الناموسين أي الناموس الطبيعي والناموس المكتوب، بل سيوجد ضرر كبير جدا . وقد أوضح القديس بولس هذا الضرر في حديثه عن الناموس الطبيعي بالنسبة للأمم قائلاً: “لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك”. وأيضا في حديثه عن الناموس المكتوب بقوله: ” الذي تكرز ألا يسرق أتسرق”. وهكذا أيضا توجد غرلتان، الواحدة طبيعية والأخرى نتيجة للتعدى على وصايا الناموس من أولئك الذين اختتنوا بالجسد حسب الناموس. أيضا لا يوجد ختان واحد الذي يتم في الجسد، لكن هناك ختان آخر يأتي من الإرادة. ماذا أريد أن أقول؟ لو أن شخصا مارس الختان في اليوم الثامن، فهذا هو الختان الجسدي، ولو أن شخصا آخر نفذ كل وصايا الناموس، فهذا هو ختان النفس، وهذا ما يطلبه الرسول بولس بشكل خاص أو من الأفضل أن نقول إن هذا ما يطلبه الناموس.
3. لاحظ إذن كيف يبدو وكأنه قد قبل الختان عندما تحدث عنه، غير أنه عمليا قد أبطله . فهو لم يقل إن الختـان هـو أمـر زائـد وأنـه بـلا نفع وبـلا فائدة، لكن ماذا قال؟ ” فإن الختـان ينفـع إن عملت بالناموس”. ولم يكن لديـه مـانـع مـن قبوله مشيرا إلى أنه ليس هـو أمر سيئ، لكن متى؟ يجيب عندما يقترن بحفظ الناموس. يقـول ” ولكن إن كنت متعديا للناموس فقـد صار ختانك غرلة” ولاحظ أنه لم يقل إن الختان لا يفيـد بعـد ، لكي لا يبدو وكـأنـه يحتقـره ، لكن بعـدما أوضـح حقيقة العلاقة بين الختـان وسـلـوك اليهودي، وقتهـا تصـدى لـه، الأمر الذي لا يعـد بعـد احتقارا للختان، لكنه ازدراء من ذاك الذي فقد المعنى الحقيقي للختان، بسبب لامبالاته . تماما مثل أولئك الذين لهم رتب عالية في المجتمع، ثم بعد ذلك يقبض عليهم من أجل جرائم خطيرة، فبعدما ينزع عنهم القضاة كرامة رتبهم، حينئذ يعاقبونهم . هكذا فعل الرسول بولس لأنه عندما قال: “لو كنت متعديا للناموس”، فإنه أضاف “فقد صار ختانك غرلة “، وعندما برهن على أن هذا اليهودي هو غير مختتن من الداخل أدانه وبلا تردد بقوله:
” إذن إن كان الأغرل يحفظ أحكام الناموس أفما تحسب غرلته ختاناً”؟ (رو26:2).
لاحظ ماذا يقول الرسول بولس؛ فإنه لم يقل إن الغرلة تتفوق على الختان، لأن هذا القول كان سيعد أمرا مؤسفا لمستمعيه في ذلك الوقت، بل قال إن الغرلة صارت مثل الختان، ويتحدث عن معنى الختان ومعنى الغرلة، ويشير أغرل، بسبب إلى أن الختان هو عمل حسن، والغرلة أمر سيئ . فبعدما ذكر أن غير المختتن يعد في الواقع مختتن بسبب أعماله الحسنة، وبعدما اعتبر المختتن هو ، أنه عاش في التعدى، أعطى الأفضلية لغير المختتن إذ قال: أفما تتحول غرلته ختائا؟ ولم يقل سنعتبر لكن ستتحول، وفي هذا كان واضحاً كل الوضوح إذ سبق وقال ” ختانك صار غرلة “، ولم يقل حسب غرلة. أرأيت أنه يشير إلى غرلتين؛ الطبيعية والاختيارية؟
” وتكون الغرلة التي من الطبيعة وهي تكمل الناموس تدينك ” (رو27:2).
إنه هنا يذكر الغرلة الطبيعية، ولا يتوقف عند هذا، لكنه يضيف “أنت الذي في الكتاب والختان تتعدى الناموس”. لاحظ حكمته فهو لم يقل إن الغرلة الطبيعية ستدين الختان، لكن حين ينجح المرء في تنفيذ الوصية، فإنه يذكر الغرلة، وحينما يدين الختان، فإنه لا يشير إلى الختان نفسه، بل إلى اليهودي الذي أعطي له الختان. ولم يقل أنت الذي عندك الناموس والختان، لكنه أيضا وبهدوء يقول “أنت الذي في الكتاب والختان تتعدى الناموس “. أي أن هذه الغرلة ويقصد الختان (الروحي)، قد صارت مساعدا للناموس. لأن هذه الغرلة التي كانت محتقرة في السابق، تحصل الآن على غلبة ظاهرة. وحينما لا يدان اليهودى مـن اليهودي، لكـن مـن الأمـمـى غير المختتن تتقرر الغلبة، تماما مثلما يقول الكتاب: ” رجال نينوى سيقومون في الدين مـع هـذا الجيل ويدينونه “. وهكذا نرى من خلال كل ما قاله إنه لا يقصد أن يهين الناموس ـ إذ هو يقدره كثيرا ـ لكن يقصد اليهودي الذي يحتقر الناموس. وبعدما أظهـر هـذه الأمـور بوضـوح ـ نجـده بـكـل شجاعة ـ يحـدد مـن هـو اليهودي، ويوضح كيف أنه لا يرفض اليهودي ولا الختان، لكنه يرفض ذاك الذي ليس هو يهودى بالحق، أي الذي ليس له الختان الروحي . ومع أنه يبدو وكأنه يدافع عن الختان، لكنه في الحقيقة يرفع عنه ما كان له من تقدير وفخر عند اليهود، مستندا في ذلك على أن اليهود المختتنين يخالفون وصايا الناموس، ويوضح أنه لا يوجد أي فرق بين اليهودي وغير المختتن، وليس هذا فقط، لكن كيف أن الأممي غير المختتن هو أسمى لو أنه لاحظ نفسه، وأن اليهودى الحقيقي هو ذاك الذي يلاحظ نفسه:
” لأن اليهودى في الظاهر ليس هو يهوديا ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختاتا ” (رو28:2).
هنا هو يدين هؤلاء اليهود ، لأنهم يفعلون كل شيء علانية، من أجل محبة المجد الباطل.
” بل اليهودي في الخفاء هو اليهودي وختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان الذي مدحه ليس من الناس بل من الله ” (رو29:2).
4. هذه الأقوال تؤكد على أنه يرفض كل الأمور الظاهرية. مثل الختان الذي يمارس ظاهريا في الجسد، وحفظ السبوت، وتقديم الذبائح، والتطهيرات . كل هذه الأمور أشار إليها بكلمة واحدة قائلا: “لأن اليهودى في الظاهر ليس هو يهوديا”. لكن لأن الحديث عن الختان كان طويلاً، فبالطبع كان الحديث عن حفظ السبت قليلا. ثم يتكلم بعد ذلك عن ختان القلب بالروح ويمهد الطريق لحياة الشركة وحياة الإيمان، حيث أن هذا الإيمان صار بعمل الروح القدس في القلب، والله نفسه يمتدح هذا الإيمان ولماذا لم يبين كيف أن الأممى الذي يحفظ الناموس ليس بأقل من اليهودي الذي يحفظه، بل أظهر كيف أن الأممى الذي يحفظه هو أسمى من اليهودي الذي يخالفه؟ لقد فعل ذلك لكي يجعل الغلبة لغير المختتنين، أمرا مؤكدا. إذن عندما يصير هذا الأممي مقبولاً، فبالضرورة يصير ختان الجسد مرفوضا. وهكذا يتضح في كل موضع أن الأمر يحتاج إلى السير في طريق الحياة المستقيمة. لأنه عندما يخلص الأممى – بدون هذه الأمور الخاصة بالناموس، بينما يدان اليهودي بها، فاليهودية تصير إذا بلا نفع . لكنه أيضا لا يقصد بالأممى، ذلك الذي يعبد الأوثان، لكن ذاك المتقى الله، السالك بالفضيلة، والمتحرر من أحكام الناموس.
تفسير رومية 1 | تفسير رسالة رومية | تفسير العهد الجديد | تفسير رومية 3 |
القديس يوحنا ذهبي الفم | |||
تفاسير رسالة رومية | تفاسير العهد الجديد |