تفسير رسالة رومية ١٦ للقمص تادرس يعقوب ملطي
الباب الرابع
أصحاح ختامي
ص16
الأصحاح السادس عشر
أصحاح ختامي
يُعتبر الأصحاح السابق خاتمة الفصل العملي من الرسالة وهو فصل متكامل ومتناغم مع الفصل السابق له، الفصل الإيماني، حيث يصعب فصل إيمان الكنيسة عن حياتها السلوكية. أما هذا الأصحاح الأخير والذي يمثل ختام الرسالة يقدّم لنا في غالبيته عددًا كبيرًا من الأسماء التي لا نعرف عن بعضها شيئًا؛ لكنه في الواقع يمثل صورة حيّة ومبهجة وفعّالة عن الحياة المسيحية في العصر الرسولي، فيها يكشف الروح القدس عن التهاب الكنيسة بروح الحب الذي يقدّس المشاعر والعواطف المتبادلة في الرب لبنيان الكنيسة روحيًا، فكثيرون يدعوهم “أحباء” أو “أنسباء” أو “العاملين معنا في الرب”، بينما يدعو هذه “أختنا” وتلك العجوز “المحبوبة” وثالثة “التاعبة في الرب”. لكل شخص لقب خاص محفور بالروح في قلب الرسول بولس.
1. توصيته بخصوص فيبي 1-2.
“أوصى إليكم بأختنا فيبي التي هي خادمة (شمّاسة) الكنيسة التي في كنْخَريا،
كي تقبلوها في الرب كما يحق للقديسين،
وتقدّموا لها في أي شيء احتاجته منكم،
لأنها صارت مساعدة لكثيرين ولي أنا أيضًا” [1-2].
يكتب الرسول إلى كنيسة لم يسبق له خدمتها بحضوره هناك، لكنه في دالة الحب يقدّم لهم فيبي شماسة بالكنيسة التي في كنخريا موصيًا عنها. بهذا يشعرهم الرسول أنه ليس بغريبٍ عنهم، لكنه صاحب دالة لديهم، كما يهبهم حُبًا يطلب حبّهم وخدمتهم.
يرى البعض إنها من متنصري الأمم لأن اسم “فيبي” مشتق من “فيبس” اسم أحد الآلهة الوثنيّة. ويرى البعض أن هذا الاسم “فيبي” مشتق من الكلمة اليونانية “فوس” التي تعني “يشرق” أو “يضيء”.
يبدو أنها كانت غنيّة وذات مركز اجتماعي مرموق، أقيمت كشمّاسة للكنيسة في كنخريا ميناء كورنثوس، يبعد حوالي تسعة أميال شرقي كورنثوس، وكان لها خدمتها الفعّالة في الكنيسة، حتى قال الرسول عنها: “لأنها صارت مساعدة لكثيرين ولي أنا أيضًا”.
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [انظروا كيف يكرمها بطرق كثيرة، فقد أشار إليها قبل الكل ودعاها أخته. وهذا ليس بالأمر الهيّن أن تدعى أختًا لبولس؛ كما ذكر رتبتها بكونها “شماسة” (خادمة)… ليهتمّوا بها على أساسين: يقبلوها من أجل الرب، ولأنها هي نفسها قدّيسة.]
2. تحيات شخصية 3-15.
إن كانت هذه الرسالة تقدّم لنا أسماء 26 شخصًا أغلبهم لا نعرف عنهم شيئًا، لكنّنا نشعر بأهمية هذا الجزء من الرسالة، إذ يقدّم لنا صورة حيّة لقلب رسولنا بولس الذي يظهر عاطفته الحانية واعتزازه وتقديره للمشاعر المقدّسة في الرب. يمكننا أيضًا أن نرى في هذه التحيّات الحارّة صورة للصداقات العميقة والحب الطاهر السخي بين أعضاء الكنيسة الأولى.
لقد قدّم لنا الرسول كل صديق له يحمل لقبًا خاصًا يعتز به الرسول، هذا اللقب لا يقوم على الشهرة أو الغنى أو العلم، وإنما على شركة الحياة التقوية والجهاد في الخدمة.
يلاحظ في الـ 26 اسمًا، أن اسمًا واحدًا عبرانيًا هو “مريم” وأربعة أسماء لاتينيّة هي أمبلياس وأوربانوس وجوليا ونيريوس، وبقيّة الأسماء يونانية.
“سلّموا على بريسكلاّ وأكيلا العاملين معي في المسيح يسوع،
اللذين وضعا عنقيهما من أجل حياتي،
اللذين لست وحدي أنا أشكرهما،
بل أيضًا جميع كنائس الأمم،
وعلى الكنيسة التي في بيتهما” [3-5].
جاء ذكر أكيلا وزوجته بريسكلا في (أع 18: 2، 18، 26؛ 1 كو 16: 19؛ 2 تي 4: 19)؛ وهما يهوديّان يعملان كصانعي خيام، تركا روما كأمر كلوديوس قيصر عام 49 الذي طرد جميع اليهود من روما، ليعودا ثانية. كانا تاجرين غنيين وتقيين، كانت الزوجة أكثر غيرة على ما يظن، لذا ذكرها الرسول قبل زوجها (أيضًا في 1 كو 16: 19؛ رو 18: 2). التقى بهما الرسول لأول مرة في كورنثوس (أع 18: 2) وبقي معهما حوالي 18 شهرًا وذهبا معه إلى أفسس (أع 18: 18)، ثم رجعا إلى روما. أينما وُجدا كان يفتحان بيتهما ككنيسة لخدمة المؤمنين الغرباء ويجتمع فيها المؤمنون للعبادة. يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن بيتهما كان يُدعى كنيسة، إمّا لأنهما كسبا كل أهل بيتهما للإيمان أو لفتح بيتهما لخدمة المؤمنين الغرباء.
لقد عرض هذين المؤمنين حياتهما للخطر بسبب معلمنا بولس الرسول ربّما أثناء الشغب الذي حدث في كورنثوس (أع 18: 6-10) أو في أفسس (أع 19: 31-32)… لذلك يبقى لا الرسول وحده بل وجميع كنائس الأمم يقدّمون الشكر لهما.
“سلّموا على أبينتوس حبيبى الذي هو باكورة أخائية للمسيح” [5].
كلمة “أبينتوس” من أصل يوناني تعني “مستحق للمديح”، وهو أول من قبِل الإيمان في آسيا الصغرى على يدي الرسول. يدعوه الرسول حبيبه وباكورة عمله هناك، وكأنه يسأله أن يرد الحب بالحب، فلا يكف عن يكف عن العمل في روما لحساب الإيمان الذي قبِله قبْل كثيرين.
“سلّموا على مريم التي تعبت لأجلنا كثيرًا” [6]؛ لا نعرف عنها شيئًا، إلا أنها كانت نافعة للرسول في خدمته قبل ذهابها إلى روما. وكأنّه يطالبها أيضًا ألا تكف عن التعب من أجل الخدمة.
يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة قائلاً: [ما هذا؟ لقد كُرمت امرأة وحسبت متنصرة! أفلا نخجل نحن كرجال؟… إننا نحسبه كرامة لنا أن توجد نساء بيننا كهذه، ولكنّنا نخجل إن كنّا كرجال صرنا خلفهن.] يكمل حديثه قائلاُ بأنه وإن كانت النساء ممنوعات من خدمة التعليم العامة (1 تي 2: 12؛1 كو 14: 35) لكنها لا تحرم من النطق بكلمة التعليم إذ تستطيع الزوجة أن تربح رجلها (1 كو 7: 16)، وتهذّب أولادها (1 تي 2: 15)، بل ونجد برّيسكلا تعلم أبولس. كما يُعلّق على قول الرسول: “التي تعبت لأجلنا كثيرًا“، بقوله: [قدّمت خدمات أخرى كثيرة محتملة مخاطر، من جهة المال والأسفار. فإن نساء تلك الأيام كنّ روحيات أكثر من الأسود (في القوّة)، ساهمن مع الرسل في التعب لأجل الإنجيل.]
“سلّموا على أندرونكوس ويونياس نسيبي المأسورين معي اللذين هما مشهوران بين الرسل وقد كانا في المسيح قبلي” [7]. الاسم الأول من أصل يوناني يعني “الغالبين”، والثاني من أصل لاتيني، وهما يهوديان يمتّان بصلة قرابة للرسول، احتملا السجن معه في وقت غير معروف، يعتزّ بهما لأنهما قد عرفا السيد المسيح قبله، ولهما دورهما الهام في الخدمة حتى صارا مشهورين بين الرسل.
يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أنهما لم يسقطا تحت الأسر بالمعنى الحرفي (كأسرى حرب) وإنما احتملا ما هو أقسى من ذلك، إذ عاشا في الغربة محرومين من أقربائهما واحتملا المجاعة والميتات المستمرة وسقطا تحت المتاعب بلا حصر.
على أي الأحوال لم يتجاهل الرسول القرابة الجسديّة التي تتقدّس خلال الإيمان، كما لا يخجل من الكشف عن إيمانهما بالسيد المسيح قبله…
“سلّموا على أمبلياس حبيبي في الرب” [8].
كلمة “أمبلياس” من أصل لاتيني تعني “مُكبّر” أو “مُضخم”.
يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن دعوته “حبيبي” تكشف عن حب الرسول الشديد له بسبب حياته الفاضلة.
“سلّموا على أوربانوس العامل معنا في المسيح
وعلى أستاخيس حبيبي، سلّموا على أبَلِّس المزكّى في المسيح،
سلّموا على الذين هم من أهل أرستوبولوس،
سلّموا على هيروديون نسيبي،
سلّموا على الذين هم من أهل نركسيس الكائنين في الرب” [9-11].
“أوربانوس” كلمة لاتينية تعني: “قاطن مدينة” ، “أستاخيس” كلمة يونانية تعنى: “سنبلة قمح”، “أبَلِّس” ربّما مشتقّة من “أبولو”، “أرستوبولس” كلمة يونانية تعني: “ناصح حكيم”، “هيروديون” ربّما من “هيرودس “أي” من نسل بطولي Hero، “نركسيس” كلمة لاتينية من أصل يوناني معناها غير أكيد…
يلاحظ إن الرسول يمدح الجميع، فيدعو الأول عامل معه في خدمة السيد المسيح، والثاني حبيبه، والثالث مُزكى في المسيح ربّما لاجتيازه ضيقات كثيرة بصبره أو لجهاده في الخدمة الخ. أمّا بالنسبة لأهل أرستوبولس وأهل نركسيس فربّما كان هذا الاثنان وثنيين وصار لهما عبيد أو أبناء مؤمنون معهما.
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [إذ يقدّم مدحًا خاصًا بكل أحد، لا يسمح بوجود حسد فيما بينهم بمدحه لأحد واستخفافه بآخر، ولكي لا يوجد بينهم تهاون أو ارتباك، مقدمًا لكل واحد كرامة متساوية، وإن كان ليس الكل يستحق كرامة متساوية هكذا .]
يهدي الرسول السلام أيضًا لتِريفينا وتِريفوسا، وهما كما يقال إنهما كانتا جاريتين قد تعبتا في الرب واستحقتا مديح الرسول بولس. الاسمان لاتينيّان مشتقّان عن الكلمة اليونانية التي تعني “رقيقة” أو “لطيفة”. كما يسلّم على برسيس، اسمها يوناني معناه “فارسي”، لم يخجل من أن يدعوها “المحبوبة” من أجل كبر سنّها.
يذكر أيضًا روفس الذي يقال أنه ابن سمعان القيرواني الذي حمل مع السيد المسيح صليبه (مر 15: 21)، وقد شهد لأم روفس إنها في محبّتها للرسول وخدمتها له صارت “أُمّا” له.
وهكذا أخذ يعدد السلام لإخوة في الرب…
3. القبلة الروحيّة العامة 16.
بعد أن قدّم التحيات لأسماء معينة، من رجال ونساء، خدام للرب وشعب، سادة وعبيد وجواري، أعلن حُبّه للجميع، الذين لا يعرفهم بالاسم، ليس حُبّه وحده وإنما حب الكنائس كلها لهم: “سلّموا بعضكم على بعض بقبلةٍ مقدّسة، كنائس المسيح تسلم عليكم” [16]. هكذا كانت الكنيسة في العالم تشعر إنها أسرة واحدة، وكان الرجال يقبّلون الرجال، والنساء يقبِّلن النساء بقبلة مقدّسة (1 كو 16: 20؛ 1 تس 5: 26؛ 1 بط 5: 14). وكانت القبلة الروحيّة تمثل جزءًا لا يتجزأ من العبادة، علامة الحب الذي بلا رياء، وإلى يومنا هذا نسمع الشماس في القداس الإلهي، يعلن: “قبلوا بعضكم بعضًا بقبلة مقدّسة”.
يقول الراهب الإنجيليكاني دكس أن القبلة الرسوليّة لا تزال بصورتها الأولى عند الأقباط والأثيوبيّين فقط.
v لا تظن أن هذه القبلة كتلك التي اعتاد الأصدقاء على ممارستها في الاجتماعيات (agio) هي ليست من هذا الصنف، إنما هذه توّحد النفس وتزيل كل حقد. هي علامة اتحاد النفوس معًا.
القدّيس كيرلس الأورشليمي
v هي علامة السلام، فما تظهره الشفاه من الخارج يوجد في القلوب في الداخل.
القدّيس أغسطينوس
4. تحذير من المعلِّمين الكذبة 17-20.
يحذّرهم الرسول بولس من صانعي الانشقاقات والعثرات، هؤلاء الذين هم جسدانيّون يخدمون بطونهم لا المسيح.
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [(الانشقاق) هو سلاح الشيطان يقلب كل شيء رأسًا على عقب. مادام الجسد متحدًا معًا لا يقدر أن يجد الشيطان له مدخلاً، أمّا العثرة فتأتي خلال الانقسام. من أين يأتي الانشقاق؟ من الآراء المخالفة لتعاليم الرسل. ومن أين تأتي هذه الآراء؟ من عبوديّة الناس للبطن والأهواء الأخرى… هذا ما قاله عندما كتب إلى أهل فيلبي: “الذين إلههم بطنهم“ (فى 3: 19).]
يسألهم الحذر من المعلِّمين الكذبة الذين: “بالكلام الطيّب والأقوال الحسنة يخدعون قلوب السلماء” [18]، إذ هم مخادعون ينطقون بالكلمات المعسولة على خلاف ما في باطنهم. لذا يليق بنا أن نكون حكماء للخير وبسطاء للشر [19].
إن كان العدو يستخدم أساليب الخداع والمكر ليصطاد النفوس البسيطة في شباكه، فإن مسيحنا قادر أن يسحقه: “وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم، نعمة ربنا يسوع المسيح معكم، آمين” [20]، إنه يصلي لأجلكم لكي يهبهم الله النعمة الإلهية لخلاصهم من كل تجربة:
v ما دام يتحدّث عن صانعي الانشقاقات والعثرات بين الناس لذلك أشار إلى “إله السلام” أيضًا لكي يملأهم رجاءً من جهة الخلاص من هذه الشّرور…
إنها صلاة ونبوّة في نفس الوقت (إن الله يسحق الشيطان تحت أقدامنا سريعًا)!… إنها أقوي سلاح؛ حصن منيع وبرج ثابت!
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
v ها أنتم ترون الشيطان الصيّاد الذي يشتاق أن يقتنص نفوسنا للهلاك. إنه ينصب شباكًا كثيرة وخداعات من كل نوع… مادمنا في حالة نعمة تكون نفوسنا في سلام، لكن ما أن نلهو بالخطيّة حتى تصير نفوسنا في اضطراب كقارب تلطمه الأمواج.
القدّيس جيروم
هكذا يقدّم الرسول صلاة عن شعبه لا ليحطّم أصحاب الانشقاقات، وإنما ليحطّم الشيطان نفسه الذي يعمل فيهم ليصير تحت أقدامهم لا حول له ولا قوة. إنه ينهار سريعًا لأن الزمان مقصّر وأيّام خداعه قليلة.
5. تحيات أصدقاء الرسول 21-24.
يظن البعض أن الرسول بولس قرأ رسالته في كورنثوس قبل إرسالها، وأن التحيات هنا جاءت كطلب الكنيسة هناك.
جاءت التحيات من القدّيس تيموثاوس الابن المحبوب للرسول بولس، ابنه في الإيمان، وشريكه في العمل، ورفيقه في كثير من الرحلات. وأيضًا من غايس مضيف الرسول بل “ومضيف الكنيسة كلها”، ربّما لأنه حوّل بيته إلى مركز للعبادة، وكان يضيف فيه المؤمنين الغرباء عن كورنثوس.
6. ذكصولجية “ختام” 25-27.
جاءت الذكصولوجية هنا تحمل صدى ما جاء في الرسالة ككل، إذ عبّر فيها عن الحاجة إلى الله الذي لا يهب فقط الإيمان، وإنما يهبنا ثبوتنا فيه أيضًا. وإن السرّ الذي أعلنه لنا في ملء الزمان هو السرّ الأزلي الخفي، الذي تنبّأ عنه الأنبياء: سرّ قبول جميع الأمم لإطاعة الإيمان، إذ يقول: “والقادر أن يثبّتكم حسب إنجيلي والكرازة بيسوع المسيح حسب إعلان السرّ الذي كان مكتومًا في الأزمنة الأزلية، ولكن ظهر الآن وأُعلم به جميع الأمم بالكتب النبويّة، حسب أمر الإله الأزلي لإطاعة الإيمان، لله الحكيم وحده بيسوع المسيح له المجد إلى الأبد، آمين” [25-27].
فقد أبرز الآتي:
أ. الله هو الذي يثبّتنا في الإنجيل.
ب. خطّة الله من نحونا (سرّه) أزليّة.
ج. هذه الخطّة سبق أن تنبّأ عنها الأنبياء في العهد القديم.
د. خطّة الله هي طاعة جميع الأمم للإيمان.
أخيرًا أوضح الرسول أن الذي كتبها هو تريتوس [22] وأُرسلت مع الشمّاسة فيبي إلى أهل روما.
تفسير رومية 15 | تفسير رسالة رومية | تفسير العهد الجديد | مراجع |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير رسالة رومية | تفاسير العهد الجديد |