تفسير رسالة كورنثوس الأولى ١١ للقمص تادرس يعقوب ملطي

الباب الرابع

معالجة مشاكل تعبدية

التكلم بالألسنة (11-14)

تنظيمات كنسية روحية

بدأ الرسول بولس في هذا القسم بمعالجة بعض التنظيمات الكنسية الروحية مؤكدًا مساواة المرأة بالرجل (1:11-16)، والتزام المؤمن بفحص نفسه قبل التناول من جسد الرب ودمه (11: 17-34).

موهبة التكلم بالألسنة

من بين مواهب الروح القدس للكنيسة قدم موهبة التكلم بالألسنة حتى يتأكد اليهود في العالم كله أن اللَّه ليس إله اليهود وحدهم بل إله كل الأمم، الأمر الذي كان يصعب عليهم جدًا قبوله. وكان غايتها أيضًا الكرازة وسط الأمم التي لم يتعلم الرسل الحديث بلغاتهم. لكن أهل كورنثوس أساءوا فهمها، لهذا تحدث الرسول أولاً عن المواهب الكنسية (12)، ثم أكد أن المحبة أعظم من كل المواهب (13)، وأخيرًا أكد أن اللَّه إله سلام وليس إله تشويش لذا يجب عدم إساءة استخدام المواهب خاصة التكلم بالألسنة (14).

الأصحاح الحادي عشر
تدابير كنسية

عالج الرسول بولس في هذا الأصحاح بعض التنظيمات الكنسية الروحية مثل العلاقة بين المرأة والرجل في الكنيسة، وتنظيم ولائم الأغابي والتزام المؤمن بفحص نفسه قبل التناول من جسد الرب ودمه.

1. الرجل والمرأة في الكنيسة 1- 16.

كونوا متمثلين بي،

كما أنا أيضًا بالمسيح [1].

هذه العبارة هي خاتمة الأصحاح السابق والنتيجة النهائية له، وبداية هذا الأصحاح. خاتمة الأصحاح السابق حيث يقدم الرسول نفسه لهم مثالاً في بذل النفس لصالح الغير، والاهتمام بأن لا يعثر أحدًا من اليهود أو الأمم أو المسيحيين. وهو بداية هذا الأصحاح حيث يحثهم خلال تمثلهم به أن يتمسكوا بالأكثر بما سلمه إليهم ويتفهموا بحكمة التدابير الخاصة بالعبادة الكنسية.

v هذا هو قانون المسيحية الكاملة! هذه هي العلاقة الدقيقة التي توضح الطريق، وهي نقطة أعلى من الكل: طلب الأمور التي للنفع العام التي أعلنها بولس أيضًا بقوله: “كما أنا أيضا بالمسيح [1]. لأنه ليس شيء يجعل الإنسان متمثلاً بالمسيح مثل الاهتمام بأقربائه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v بالنسبة للذين يرونهم أنهم رعاة صالحون، لا يسمعون فقط الأمور الصالحة التي يعلمونها، بل ويتمثلون بأعمالهم الصالحة التي يمارسونها.

من بين هؤلاء كان الرسول القائل: “كونوا متمثلين بي كما أنا أيضًا بالمسيح” [1].كان نورًا أشعله النور الأبدي، الرب يسوع المسيح نفسه، ووضعه على منارة لأنه تمجد في صليبه، وذلك كقوله: “حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح” (غلا 6: 14).

القديس أغسطينوس

v لتحقيق كمال الحياة يلزم الإقتداء بالمسيح، ليس فقط كمثال للوداعة والتواضع وطول الأناة الذي في حياته، وإنما أيضًا في موته الواقعي. هكذا بولس المتمثل بالمسيح يقول: “أجد راحة في موته، إن كنت بأية وسيلة أبلغ إلى قيامة الأموات” (راجع في 3 : 10ـ11). كيف إذن نصير في شبه موته؟ أن ندفن معه بالمعمودية (رو6 : 4ـ5).

v إن كان بحق غاية المسيحية هي الاقتداء بالمسيح حسب قياس تأنسه, وذلك قدر ما يتناسب مع عمل كل فردٍ, يلتزم هؤلاء الذين إذ يثقون في قيادة الآخرين أن يسندوا الذين هم أضعف منهم بمعاونتهم أن يقتدوا بالمسيح.

القديس باسيليوس الكبير

v من الطبيعي يلزمنا أن نقتدي بالذين أقامهم اللَّه علينا معلمين. فكما يقتدون هم باللَّه, لماذا لا نقتدي بهم؟ فكما أرسل اللَّه الآب المسيح كمعلمٍ ومصدر الحياة هكذا أرسل المسيح الرسل كمعلمين لنا حتى نقتدي بهم إذ نحن عاجزون عن الاقتداء به مباشرة.

أمبروسياستر

أفأمدحكم أيها الاخوة على أنكم تذكرونني في كل شيء،

وتحفظون التعاليم كما سلمتها إليكم” [2].

إذ عالج الرسول بعض الأمور الخاصة بالتنظيمات الكنسية بدأ لا بالهجوم عليهم بسبب ما اتسمت به الكنيسة هناك من تشويش، وإنما قدم الجانب الإيجابي. إنه يمدحهم لأنه قد استقر الأمر عندهم أنه رسول صاحب سلطان، وأنهم يطلبون إرشاده في كل شيء في التنظيم الكنسي. هذا ما يقصده الرسول بقوله: “تذكرونني في كل شيء” [2]. إنهم يسألونه كصاحب سلطان رسولي ليرشدهم في التنظيم الكنسي.

واضح من هذه العبارة أن الرسول سلم إليهم أمورًا كثيرة شفاهًا أو عمليًا، وأنهم قد التزموا بها. وها هو يمدحهم لأجل اهتمامهم بحفظ ما تسلموه منه، حاثًا إياهم أن يتمثلوا به في المسيح يسوع. لا يترك الرسول فرصة تسنح له إلا ويمدح من يخدمهم، مؤمنًا بضرورة التشجيع.

في الأصحاح السابع (7: 1) كتبوا إليه بخصوص القائد الذي أراد الزواج بامرأة أبيه كما سبق فرأينا. أما في هذا الأصحاح فواضح أنهم بعثوا إليه يطلبون مشورته في دور المرأة في الاجتماعات الكنسية العامة، خاصة في العبادة. فإن تمتعت بنوع من الإعلان أو الوحي، هل تقوم بدور قيادي في العبادة، وتنزع عنها الحجاب وتعلم الجمهور؟ 

أما الكلمة المترجمة بالعربية “تعاليم” فباليونانية paradoosseis وهي تعني “التقاليد“، فقد سلمهم الرسول أمورًا كثيرة، تمس العبادة الكنسية، شفاهًا أو بالتسليم العملي، وليس بالضرورة بالتعاليم المكتوبة، مثل ممارسة الافخارستيا وغيرها من التدابير الخاصة بالعبادة.

v فإني أتمسك بالتعاليم الرسولية لكي أوجد في التقاليد غير المكتوبة. قيل: “فأمدحكم على أنكم تذكرونني في كل شيء، وتحفظون التعاليم كما سلمتها إليكم”.

القديس باسيليوس الكبير

v هكذا كانت شخصية بولس، فإنه حتى في الأمور الصغيرة يثير المديح السامي باستمرارٍ، لا للتملق، حاشا! لأنه كيف يمكن أن يفعل هذا من لا يطلب مالاً، ولا يرغب في مجدٍ، أو أي شيء مثل هذا؟

القديس يوحنا الذهبي الفم

ولكن أريد أن تعلموا أن رأس كل رجل هو المسيح،

وأما رأس المرأة فهو الرجل،

ورأس المسيح هو اللَّه” [3].

لم يقدم الرسول الإجابة مباشرة لكنه يدعوهم لدراسة الموقف والتعرف على بعض الحقائق التي منها يمكن أخذ القرار. وكأنه يود أن يؤكد أن النظام الكنسي لا يقوم علي قوانين جامدة نلتزم بطاعتها دون حوارٍ، بل أن نتعرف على المفاهيم الروحية واللاهوتية وراء كل قانون أو نظام. أنه يؤكد: “أريد أن تعلموا“، مقدمًا ثلاثة أنواع مختلفة من الرؤوس: 

أولا: المسيح هو رأس الرجل

لقد تنازل الكلمة وصار إنسانًا واحتل آخر صفوف البشرية. قَبِلَ أن يكون عبدًا مباعًا بثلاثين من فضة، يخونه تلميذه، لكي بالتواضع والحب الباذل يصير رأسًا ومدبرًا وقائدًا للإنسان. كان يمكنه أن يصدر أوامره من السماء ونلتزم بطاعته، لكن مسيحنا يقدم مفهومًا جديدًا للرئاسة، وهي رئاسة الالتزام والبذل للذات من أجل مرءوسيه المحبوبين لديه جدًا.

بقوله “رأس كل رجل” ربما يقصد كل مؤمن، أو أنه قدم حياته عن كل البشرية ليحتضن كل إنسان في العالم!

v من يحتفظ بالمسيح فيه، يحفظ رأسه لأجل حمايته.

القديس أغسطينوس 

v مادام المسيح هو رأس كل رجلٍ كقول الرسول، وبالمنطق أنه يعني الرجل المؤمن (لأنه لا يمكن أن يكون المسيح رأسًا لغير المؤمن). لهذا من يعتزل الإيمان واهب الخلاص يصير بلا رأس مثل جليات، إذ يفقد رأسه الحقيقي بسيفه الذي ضرب به ضد الحق. عملنا لا أن نقطع الرأس بل أن نظهر لهم أنها مقطوعة.

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

v إنني أسأل: أي نوع من الإكليل خضع له يسوع المسيح من أجل خلاص الجنسين؟ أي إكليل له هذا الذي هو رأس الرجل ومجد المرأة وعريس الكنيسة؟ إنه إكليل من الأشواك والحسك.

العلامة ترتليان

v تألم الرأس في موضع الجمجمة. يا له من اسم عظيم نبوي! نفس الاسم يذكركم بأن تفكروا في المصلوب أنه ليس مجرد إنسان. إنه الرأس الذي له القوة. 

القديس كيرلس الأورشليمي

ثانيًا: الرجل رأس المرأة

كثيرًا ما يعتمد بعض الرجال علي هذا الجزء من العبارة لالزام المرأة بالخضوع له. لكن الرسول سبق فقدم رئاسة المسيح للرجل كمثالٍ، فإن أراد الرجل أن يمارس رئاسته يلتزم أن يقتدي بمسيحه. ينزل بالحب الي قلب زوجته ويكرمها ويبذل ذاته من أجلها، فتشتهي هي أن تجد في رجلها الحماية لها، إذ تراه أهلاً لذلك، وأنه قادر علي ممارسة دوره. فرئاسة الرجل للزوجة هي حق تطالب به الزوجة، إذ تود أن ترى في رجلها القائد الباذل، المتواضع، وليس حقًا يطالب به الزوج لغرض السلطة والتحكم بلا حكمة وبدون حب!

v هذا تحذير ألا يعتمد أحد على آخر. التي خُلقت معينة تحتاج إلى حماية الأقوى. بنفس المعنى “الرجل رأس المرأة” وبينما اعتقد أنه محتاج إلى معونة زوجته سقط بسببها. لهذا يليق ألا يضع أحد حياته في يد آخر، ما لم يختبر أولاً فضيلته. ولا يدّعي أحد أنه يقوم بدور الحماية لمن يظن أنه أقل منه في قوته, بل بالأحرى يلزمه أن يشاركه نعمته الخاصة مع الآخر. خاصة بالنسبة للشخص الذي في وضع القوة الأعظم ويمارس دور المدافع.

القديس أمبروسيوس

ثالثًا: اللَّه الآب رأس المسيح

قبل اللَّه الكلمة أن يصير وسيطًا لدي الآب عن البشرية؛ بإرادته صار إنسانًا وخضع لإرادة أبيه وهو واحد معه في الجوهر، ليتمم كل تدبير الخلاص في طاعة كاملة. وكما يقول الرسول: “مع كونه ابنًا تعلم الطاعة مما تألم به” (عب 5: 8). ففي دوره في الخلاص قام بدور الخاضع لطاعة أبيه حتى ينزع عنا طبيعة العصيان ونشاركه سمة الطاعة.

v اللَّه (الآب) هو رأس المسيح إذ ولده, والمسيح هو رأس الرجل لأنه خلقه, والرجل رأس المرأة لأنها أُخذت من جنبه (تك21:2-22). هكذا تعبير واحد له معانٍ كثيرةٍ حسب اختلاف الأشخاص والعلاقات بينهم.

أمبروسياستر

v تُستخدم كلمة “رأس” هنا بمعانٍ مختلفةٍ, وإلا تكون النتيجة خاطئة. المسافة بين المسيح والرجل أعظم بكثير منها بين رجل وامرأة، وبين المسيح واللَّه الآب من جانب آخر. فإن المسيح واللَّه متساويان في الجوهر لكن الخلاف في العلاقة, ونفس الأمر بين الرجل والمرأة. وأما بين اللَّه والمسيح الابن من جانب والرجل (والمرأة) من الجانب الآخر فالفارق عظيم للغاية في الجوهر والعلاقة. 

v كيف يقول: “ورأس المسيح هو اللَّه“؟ أقول أيضًا كما أننا نحن جسد واحد، هكذا المسيح والآب واحد. وبهذا يكون الأب هو رأسنا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

كل رجل يصلي أو يتنبأ وله على رأسه شيء يشين رأسه” [4].

يقصد بكلمة “يتنبأ” هنا “يعلم” علانية أو فى الاجتماعات العامة، ليعلن مشيئة اللَّه وإرادته، أي الحديث مع الناس لأجل البنيان وتقديم إرشادات وراحة روحية (1 كو 14:3). فبقوله: “يصلي أو يتنبأ” يعني أنه يقوم بعمل قيادي في العبادة الكنسية.

لا يليق بالرجل أن يعظ وقد وضع علي رأسه حجابًا أو قبعة، لأن كشف الرأس علامة الخضوع. فهو يعظ في حضرة المسيح الآب، خاضعًا لروحه القدوس. إذ يمثل القائد الروحي شخص السيد المسيح الذي أطاع الأب ويكرمه لذا يكشف رأسه عندما يبدأ في الخدمة التعبدية العامة. إلي يومنا هذا نجد بعض الأوربيين حين يحيون شخصًا يرفعون القبعة علامة التكريم.

يشين رأسه“، أي يهين مسيحه؛ في كل العالم يكشف الرجل رأسه في حضرة من هو أعظم منه في الرتبة (كما في الجيش) أو المركز (أمام الامبراطور أو الرئيس أو أحد الأشراف).

ربما يتساءل البعض: لماذا يرتدي الكاهن (أو الشماس أو الأسقف) إكليلاً علي رأسه أثناء خدمة القداس الإلهي؟ جاء في الطقس القبطي أن الكاهن عند رفع البخور يكشف رأسه. أما في أثناء القداس الإلهي يذكر المسيح ملك الملوك فإنه يضع تاجًا علي رأسه إذ يحتفل كما بعرس الملك السماوي وكنيسته الملكة السماوية. يشعر خدام المذبح أنهم في حضرته قد توّجوا ملوكًا روحيين، فهم يعتزون بما ينالونه من كرامة روحية خلال ذبيحة الصليب.

أما ارتداء الكاهن العمامة على رأسه في أثناء خدماته الأخرى ورعايته للشعب، فإن العمامة السوداء قد فرضها الحاكم بأمر اللَّه على المسيحيين والزرقاء علي اليهود كنوعٍ من السخرية بهم. لذا يرتديها الكاهن علامة قبوله عار المسيح بسرور!

v اعتادت النساء الكورنثوسيات أن يصلين ويتنبأن برؤوس عارية، بينما الرجال الذين قضوا وقتًا طويلاً في الفلسفة يضعون على رؤوسهم أغطية أثناء الصلاة وقد أطالوا شعورهم, وكانت هذه هي عادة اليونانيين.

كان الرسول قد نصحهم في هذه الأمور قبلاً, يبدو أن البعض أصغوا إليه والآخرون لم يطيعوه. هنا يمتدح المطيعين قبل أن يتحدث عن تصحيح موقف الآخرين.

القديس يوحنا الذهبي الفم

وأما كل امرأة تصلي أو تتنبأ ورأسها غير مغطى فتشين رأسها،

لأنها والمحلوقة شيء واحد بعينه” [5].

v ماذا يعني التعبير “كل امرأة“, إلا كل امرأة من كل الأعمار ومن كل الرتب وفي كل الظروف؟

العلامة ترتليان

كثيرا ما أُشير الى نبيات في الكتاب المقدس مثل مريم (خر 15: 20) ودبـورة (قض 4: 4) وخلدة (2 مل 22: 14) ونوعدية (نح 6 14) وحنة (لو 2: 36). وهكذا وُجدت في الكنيسة الأولى في عصر الرسل نساء نبيات يكشف اللَّه لهن إرادته ومصليات من أجل الآخرين.

v كما قلت وجد رجال يتنبأون ونساء لهن هذه الموهبة في ذلك الحين مثل بنات فيلبس (أع 21: 9)، وآخرون قبلهن وبعدهن، عن هؤلاء قال النبي قديمًا: “يتنبأ بنوكم ويرى بناتكم رؤى” (يوئيل 2: 28؛ أع 2: 17) .

القديس يوحنا الذهبي الفم

كان لكنيسة كورنثوس وضعها الخاص، يبدو أن بعض النساء ادعين الوحي وتشبهن بالكاهنات الوثنيات اللواتي كن ينزعن الحجاب ولا يضعن غطاء على رؤوسهن وتظهر شعورهن بطريقة غير منظمة (منكوشة) علامة حلول الوحي عليهن. وقد عرفت هؤلاء الكاهنات بالفساد الأخلاقي والإباحية. 

وكانت بعض النساء ذلك الحين لا يضعن غطاء للرأس بقصد لفت نظر الرجال. أراد الرسول أن يكون طابع النساء المسيحيات الوقار والاحتشام والتواضع، خاصة أثناء العبادة الجماعية. فمنعهن من كشف رؤوسهن أثناء النبوة أو الصلاة.

نزع الغطاء أيضًا بالنسبة للمرأة كان علامة عدم الخضوع وعدم تكريم الآخرين، خاصة الزوج أو الأب أو الرجال بوجه عام في الاجتماعات العامة. 

يحسب الرسول هذا الاتجاه برفع غطاء الرأس إهانة للمرأة مثله مثل المحلوقة. فقد كان الشعر الطويل علامة جمال المرأة, أما المحلوقة فهي تسئ إلى جمالها بغية أن تبدو كمن في مركز الرجل، وهي بهذا تكشف عن عدم اعتزازها بجنسها كامرأة. كرامة كل جنس في اعتزاز الشخص بجنسه، فلا يتشامخ على الجنس الآخر، كما لا يحسده كمن هو أفضل منه.

يلاحظ هنا أن للمرأة دور قيادي بين النساء والعذارى، تقود الصلاة وتعظ (تتنبأ) ولكن برأس مغطاة. كانت العادة بين اليهود كما بين اليونانيين والرومانيين ألا تظهر سيدة علي مجتمع برأس مكشوفة وكانت عادة النساء اللواتي يفتحن بيوتا للشر أن يظهرن برؤوسهن مكشوفة.

كانت الزانيات والعاهرات يعاقبن بحلق رؤوسهن كأمر مشين لهن. حلق شعر الرأس يعني أنهن قد الحقن بالإساءة إلى رجالهن (إن كن متزوجات) الذين هم رؤوسهن، أو أنهن لا يستحققن أن يكون لهن أزواج كرؤوس مكرمة.

يخبرنا Tacitus مع التعداد الضخم يندر جدًا وجود زانيات بين الألمان، وإن وجدت سيدة زانية تعاقب بحلق رأسها وكشف رأسها أمام أقاربها، ويقوم زوجها بطردها من البيت. 

وبحسب الشريعة الموسوية إن أٌتهمت زوجة بالزنا تقف أمام الكاهن ويكشف رأسها (عد 5: 18).

أيضا كانت المرأة العبدة (الأمة) كثيرا ما يُحلق شعر رأسها. يروي Achilles Tacitus Clitophon عن Leucippe التي انحطت إلى العبودية أنها بيعت كعبدة وحلق شعرها ونزع الحلي من رأسها.

ومن عادة اليونانيين أن تحلق النساء شعورهن عند الحزن الشديد.

عند الهندوس تقص المرأة شعرها عند موت رجلها علامة ترملها، أما المتزوجة فلن تفعل ذلك إذ تحسب شعرها هو جمالها.

كما إذا ارتدت سيدة ثيابًا خليعة يحسب ذلك إهانة لزوجها حيث يشك في سلوكها، هكذا كان الحال فيمن تظهر برأسها مكشوفة.

كانت بعض النساء الكورنثوسيات مملوءات تشامخًا، فكن يتقدمن الصفوف في الكنيسة وتقوم بعضهن بالوعظ العام وترأسن الاجتماعات وهن مكشوفات الرأس، متمثلات بالكاهنات الوثنيات.

v بالنسبة لها أيضا فإنه لكرامة عظمى أن تحفظ رتبتها، وأنه لعيب لها أن تسلك في تمرد.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v على أي الأحوال يأتي البعض إلى منتهى عدم اللياقة، إذ يكشفون الرأس ويسحبون خادماتهم من شعورهن. لماذا تحمر وجوهكم جميعًا؟ إني لا أوجه الحديث للجميع إنما للذين لهم هذا السلوك البهيمي. يقول بولس: “لتغطي المرأة (رأسها)، فهل تسحب منها غطاء رأسها؟ ألا ترى كيف أنك تهين نفسك؟ فإنها إن ظهرت أمامك برأس عارية تدعو ذلك إهانة لك.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“إذ المرأة إن كانت لا تتغطى، فلُيقص شعرها،

وإن كان قبيحًا بالمرأة أن تقص أو تحلق فلتتغط” [6].

ليس أمام المرأة إلا أن تغطي شعرها أو تحلقه، فإن كشف الرأس في ذلك الحين يحمل ذات القبح لحلق الشعر. لهذا نجد عند موت Clytemnestra قامت أختها بقص اطرف شعر رأسها ولم تقص شعرها كله، لأن هذا أمر معيب.

يقدم الرسول للمرأة الخيار بين أن تغطي رأسها أو تحلق شعرها. فإن كان بحسب الطبيعة والعادة يُحسب حلق الشعر عارًا فيكون كشف الرأس على نفس المستوى.

أليس من المعيب أن تحلق الراهبة شعرها؟ كراهبة ترفض جمال الطبيعة بالنسبة لها، ولا تهتم بنظرة الناس إليها. إنها تحلق شعرها حتى لا تنشغل به، ولكي تتفرغ تمامًا للعبادة أو الخدمة قدر ما تستطيع.

v تنال المرأة كرامة الرجل بترك رأسها مكشوفًا بل بالأحرى تفقد كرامتها. عارها ينبع عن رغبتها أن تتشبه بالرجل بتصرفاتها.

القديس يوحنا الذهبي الفم

فإن الرجل لا ينبغي أن يغطي رأسه لكونه صورة اللَّه ومجده،

وأما المرأة فهي مجد الرجل” [7].

لا يرتدي الرجل غطاءً على رأسه أثناء العبادة الجماعية، علامة اعتزازه بالسلطة التي وهبه اللَّه إياها، فقد خلقه اللَّه علي مثاله ليكون صاحب سلطان علي الخليقة الأرضية، لا أن يكون في عبودية أو مذلة.

المرأة كعظمٍ من عظام رجلها ومن لحمه فإنها مجده وبهاؤه. فقد خُلقت المرأة أيضًا علي صورة اللَّه ومثاله (تك 1: 26- 27)، لكنها إذ جاءت في الترتيب بعد الرجل في زمن الخليقة لزمها أن تمارس الخضوع علامة عدم الرغبة في الاستقلال عن رجلها، إذ أن الاثنين جسد واحد. خضوع المرأة ليس مذلة، لأنها مجد رجلها، بدونها كمن يفقد مجده.

هكذا يعتز الرجل بالرئاسة لا للتشامخ بل للالتزام بالمسئولية والحب العملي الباذل من أجل الأسرة. وتلتزم الزوجة بالخضوع لا بروح المذلة، وإنما بروح الوحدة والعمل معًا ليكون رجلها مفتخرًا بها كمجده وبهائه.

يبرز الرسول دور الرجل كوكيل اللَّه، فيظهر في العبادة الجماعية برأسٍ مكشوفة علامة شهادة لمجد اللَّه.

كما يهتم الرجل بالشهادة للَّه كصاحب سلطان، هكذا المرأة مجد الرجل، ففي بيتها تحمل السلطان وسط أسرتها وبين أولادها، فيفرح رجلها بعملها فيهم. المرأة مجد رجلها أو عاره، فإن اهتمت بتربية أولادها في مخافة الرب ومحبته مجدت رجلها أمام اللَّه والناس، وان أهملت في تربيتهم خذلته أمام السماء وعلي الأرض.

v لا يستطيع حاكم أن يظهر أمام الملك دون أن يحمل علامات وظيفته. مثل هذا الشخص لن يجسر أن يقترب من العرش الملوكي بدون المنطقة العسكرية والثوب العسكري, هكذا بنفس الطريقة الإنسان الذي يقترب من عرش اللَّه يلزمه أن يرتدي علامات وظيفته, وهي هنا في هذه الحالة تتمثل في الرأس المكشوفة… لا تقفوا للصلاة أمام اللَّه لئلا تهينوا أنفسكم وتسيئوا إلى ذاك الذي كرمكم. 

القديس يوحنا الذهبي الفم

لأن الرجل ليس من المرأة

بل المرأة من الرجل” [8].

خُلقت المرأة من جنب الرجل (تك 2: 18، 22-23). لكنها ليست من صنع يديه، بل قام اللَّه بخلقتها، وكأن الرجل هو الحجاب الذي بين المرأة واللَّه فتلتزم المرأة بهذا الغطاء، أما الرجل فخلقه اللَّه مباشرة ولا يجوز له أن يرتدي حجابًا أو غطاءً للرأس.

ولأن الرجل لم يُخلق من أجل المرأة،

بل المرأة من أجل الرجل” [9].

لم يخلق الرجل من أجل المرأة، بل خُلقت المرأة لتكون معينة له (تك2: 18، 21-22)، فهي عروسه كما الكنيسة بالنسبة للمسيح. لم تُخلق لتكون له خادمة أو عبدة بل “معينة”. لا لتكون خادمة لملذاته وشهواته بل لتكون سندًا له في الحياة. لا لتكون من طبيعة أدنى منه، بل من ذات طبيعته، صديقة له، تشاركه أفراحه وأحزانه.

خلقت المرأة لتكون له معينًا تسنده في الحق. هذا لا يقلل من كرامتها، فإنه محتاج إليها، يسير كلاهما معًا في طريق واحد!

هذا ينبغي للمرأة أن يكون لها سلطان على رأسها

من أجل الملائكة” [10].

حوار الرسول بخصوص خضوع المرأة ليس ليقلل من كرامتها بل ليحثها على السلوك بروح الخضوع والحياء وقبول ما تستلزمه الطبيعة والعادات من وضع غطاء للرأس، مما يعطيها كرامة ومجدًا.

يربط الرسول بين الكلمتين “الغطاء (الحجاب) والخضوع “إذ في العبرية متقاربان: radad radid

سلطان علي رأسها“: يرى كثير من الدارسين أن كلمة “سلطان” هنا تعني “الحجاب”.

ويرى البعض أن السلطان هو غطاء رئيسي مزين أحيانا باللآلئ وذلك كالذي كانت ملكات فارس يرتديهن علامة البهاء مع الخضوع للملك.

كانت النساء المتزوجات ترتدين إياه ويدعىkerchief bandalette أو tiara. بينما كانت الفتيات غير المتزوجات يرتدين قبعات صغيرة بدلا من الـtiara . دُعي هكذا لأنه كان يرتديه النساء المتزوجات وكان لهن سلطان علي الفتيات غير المتزوجات. غير أن الحديث هنا ليس للتمييز بين المتزوجات وغير المتزوجات بل عن النساء اللواتي يتنبأن ويصلين في اجتماعات كنسية عامة.

يرى البعض أن السلطان هو اسم لزينة نسائية كن يرتدين إياها علي رؤوسهن.

في كثير من الدول في ذلك الحين كانت النساء يرتدين غطاء علي الرأس ينزل حتى العينين.

إذ تضع المرأة غطاءً لرأسها إنما تحمل سلطانًا أو قوة أو مجدًا كمؤمنة خاضعة لرجلها في الرب.

من هم الملائكة الذين من أجلهم يرتدين النساء الغطاء علي رؤوسهن؟ ربما يقصد جماعة المتعبدين، إذ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنكم تقفون مع الملائكة، تسبحون وترنمون معهم فهل تضحكون؟]

يرى آخرون أن الملائكة هنا يُقصد بهم الملائكة الأشرار، أو الشياطين التي تحث الكل علي التمرد. إذ يتسلل بعض الأشرار إلي الاجتماعات الكنسية ليتطلعن إلى النساء اللواتي يتعبدن برؤوس مكشوفة.

ويرى آخرون إنها إشارة إلي خدام الكنيسة والعاملين فيها. ويرى آخرون أنه يقصد بالملائكة بالمعنى الحرفي، فإنهم إذ هم حاضرون في الكنيسة يشتركون معنا في العبادة فيجدون مسرتهم فينا كأبناء للَّه (جا 5: 6، 1 تي 5: 21). يتهللون ويفرحون بروح الورع والخضوع والحياء الذي يظهر علي النساء المتعبدات، فيقدمن هذا الروح كصلوات عملية أمام العرش الإلهي.

يرى البعض أن النذير يهتم بشعر رأسه فلا يلمسه موسى (عد 6: 5-7) علامة خضوعه للَّه وتكريس حياته له، هكذا المرأة إذ تغطي رأسها تعلن عن تكريس حياتها لبيتها وخضوعها لرجل لحساب أسرتها.

v الحجاب يشير إلى القوة والملائكة هم الأساقفة.

أمبروسياستر

v يقول: إن كنت تستخفين برجلك فلتحترمي الملائكة. فالغطاء هو علامة الخضوع والسلطة. فإنه يحثها أن تتطلع إلى أسفل وتكون في حياء وحفظ الفضيلة اللائقة. فإن فضيلة الخاضع وكرامته هما في طاعته.

القديس يوحنا الذهبي الفم

غير أن الرجل ليس من دون المرأة،

ولا المرأة من دون الرجل في الرب” [11].

إن كان من أجل سلامة تدبير أمور الأسرة تخضع الزوجة للزوج في الرب، وتحمل هي السلطان في البيت لتعلن كرامة رجلها يؤكد الرسول مساواتهما في الرب، واحتياج كل منهما للآخر.

كل من الرجل والمرأة في حاجة إلى بعضهما البعض، ليس لأحدهما أن يستخف بالآخر أو يتطلع إليه كأقلٍ منه. في المسيح يسوع كل منهما يحترم الآخر ويتعاون معه، إذ يتّحدان فيه ليحققا ذات الهدف الواحد.

يختفي الاثنان “في الرب” حيث يصيران عضوين في ذات الجسد، يعملان معًا خلال الرأس يسوع المسيح لأجل بنيان الكل.

لأنه كما أن المرأة هي من الرجل

هكذا الرجل أيضًا هو بالمرأة،

ولكن جميع الأشياء هي من اللَّه” [12].

كما خُلقت المرأة من الرجل، يُولد الرجل من المرأة، فإن كليهما خليقة اللَّه (رو11: 18). كل يعتمد على الآخر، والاثنان يعتمدان علي خالقهما.

بهذه النظرة يراجع كل من الرجل والمرأة نظرتهما إلى الرئاسة والخضوع، فالرئاسة هي التزام وعمل وحب، والخضوع هو تعاون وحفظ لروح الوحدة.

خُلقت المرأة الأولى من جنب آدم، وخُلق الرجال أبناء آدم في رحم المرأة، ولكن الكل هم خليقة اللَّه. فالفضل في وجود كل البشرية يرجع إلى الخالق.

v إذ يتحدث عن مجد الرجل، يقيم بولس الآن توازنًا هكذا، فلا يفتخر الرجل فوق الحد اللائق, ولا يُضغط على المرأة. ففي الرب المرأة ليست مستقلة عن الرجل, ولا الرجل مستقل عن المرأة. إن كنت تسأل من الذي جاء بعد الآخر, فإن كل منهما هو علة الآخر، أو بالأحرى ليس كل من الآخر بل اللَّه هو علة الكل.

v أي سمو للرجل إنما يرجع بالكامل إلى اللَّه. لذلك وجب علينا طاعته وعدم الشكوى.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v يضيف بولس أن كل الأشياء هي من اللَّه، حتى لا تصاب المرأة بإحباط من أجل اعتمادها على الرجل، ولا يتكبر الرجل من أجل وضعه كمسئولٍ.

أمبروسياستر

v بخصوص الجنسين: الذكر والأنثى, ماذا يقول ابن الهلاك (ماني)؟ إن الجنسين ليسا من اللَّه بل من الشيطان. وماذا يقول الإناء المختار (بولس) عن هذا؟ “كما أن المرأة من الرجل, هكذا الرجل بالمرأة، ولكن الكل من اللَّه”. ماذا يقول الشيطان خلال أفواه أتباع ماني عن الجسد؟ أنه مادة شريرة, خليقة ليست من اللَّه بل من العدو.

القديس أغسطينوس

احكموا في أنفسكم: 

هل يليق بالمرأة أن تصلي إلى اللَّه وهي غير مغطاة؟” [13]

يسألهم أن يرجعوا إلى الطبيعة نفسها ليتأملوا ويحكموا بما هو لائق بها بروح الرقة والحكمة. بالطبيعة كانت المرأة اليونانية، فيما عدا الكاهنات، تظهر في المجتمع ورأسها مغطاة.

يحَّكم الرسول بولس عقولهن متسائلاً: أليس من الكرامة لهن واللياقة ألا يقتدين بالكاهنات الوثنيات اللواتي كن يكشف رؤوسهن عند الصلاة الجماعية أو تقديم خطب أو عظات للجماهير.

لا يؤخذ هذا النص علي أن النساء كن يقمن بقيادة المتعبدين في الصلاة أو الوعظ، إنما متي وجدت نساء لهن مواهب خاصة مثل حنة النبية وبريسكلا (أع 2: 18) يلزمهن تغطية رؤوسهن في الكنيسة، أما الوضع العام فهو التزام السيدات بالصمت (1 كو 14: 34-35، 1 تي 2: 11- 12). 

v هذا هو تقليد الكنيسة, وإذ تجاهله الكورنثوسيون التجأ بولس إلى الطبيعة.

أمبروسياستر

v اعتاد بولس أن يشير إلى الواقع اليومي لكي يجعل سامعيه في خزى. بعد كل هذا إن كان البرابرة يعرفون هذه الأمور فأي خطأ في هذا؟ ألم يروا ما هو حق؟

القديس يوحنا الذهبي الفم

أم ليست الطبيعة نفسها تعلمكم

أن الرجل إن كان يرخي شعره فهو عيب له” [14].

وهبت الطبيعة المرأة، أكثر من الرجل، الشعر الطويل لمجدها وجمالها، لذا فبالطبيعة يقص الرجل شعره ولا يغطيه، أما المرأة فتغطيه كمن تحفظ جمالها. 

عرف رجال أخائية التي تتبعها كورنثوس بأن رجالها يمتازون بشعر رؤوسهم الطويل، وقد دعاهم هوميروس Homer”اليونانيون ذوو الشعر الطويل” أو الآخائيون Achaeans.

بالنسبة لليهود كان النذيرون وحدهم يتركون شعر رؤوسهم دون حلقه بموسي، وذلك علامة تكريسه بالكامل للَّه (عد 6: 5؛ قض 13: 5؛16: 17ح 2 صم 14: 26؛ أع 18: 18) والتواضع، وعدم الانشغال بالمظهر الخارجي مع تكريس كل الوقت لخدمة اللَّه.

v يوجد عمل لائق بالرجل, وآخر بالمرأة… إنه ليس بالأمر الهيّن أن يتشبه الرجل بالمرأة.

القديس أمبروسيوس

v هذا ينسجم مع ما جاء في لاويين 27:19 حيث يُمنع الرجل من إطالة شعره.

أمبروسياستر

“وأما المرأة إن كانت ترخي شعرها فهو مجد لها،

لأن الشعر قد أعطي لها عوض برقع” [15].

إذ وُهبت المرأة بالطبيعة شعرًا طويلاً يلزم للإرادة البشرية أن تتناغم مع الطبيعة فتغطي هذا الشعر كمن تحفظ جمالها.

كانت النساء في الشرق ينشغلن بإطالة شعورهن علامة مجدهن، وعلى العكس كان الرجال يقوموا بقص شعورهم حتى لا يُتهموا بالأنوثة والعار.

علي سبيل المثال إذ تقدم بطليموس أرجيتيس Ptolemy Eurgetes ملك مصر لمحاربة سليقوسSeleucus Callinicus نذرت زوجته الملكة أن تقدم أثمن ذبيحة وهي أن تقص شعرها وتقدمه قربانًا إن رجع الملك سالمًا. ويقول هارمر Harmer: “تعرف السيدات الشرقيات بطول جدائل شعورهن وكثرتها. وعلي العكس شعر الرجال قصير جدًا.”

تتحدث السيدة M.W. Montagueعن شعر النساء: “شعورهن يتدلى خلفهن بطولهن في جدائل مرصعة باللآلئ بكمية ضخمة. لم أرَ في حياتى رؤوس جميلة هكذا بالشعر، فإننى أحصيت عدد جدائل سيدة فوجدتها مائة وعشرة من الجدائل، كلها طبيعية, ولكن يلزم الاعتراف هنا بأن كل نوع من الجمال نجده شائعًا هنا أكثر من عندنا (في الغرب)”.

يتفق Chardinمع عادة الشرق فيقول: “يحلق الرجال رؤوسهم، بينما تهتم النساء بشعورهن بشغف عظيم، لأجل إطالته، وجدله مع الحرير حتى يبلغ إلي العقبين. الشبان الذين يطيلون شعورهم في الشرق يُنظر اليهم كمن هم مخنثين وذات سمعة رديئة”.

ولكن إن كان أحد يظهر أنه يحب الخصام،

فليس لنا نحن عادة مثل هذه،

ولا لكنائس اللَّه” [16].

هذه الأمور لا تدفعنا إلى الخصام، فإنه ليس لدى الرسول بولس ولا اخوته الرسل من الوقت لإضاعته في المجادلات الغبية. فالخادم الحقيقي، بل والمسيحي الحريص على خلاص نفسه وبنيان الآخرين لا يشغل نفسه بالمجادلات، فإنها مضيعة للوقت، ومفسدة لسلام الإنسان الداخلي وانشغاله بالأمور البنّاءة.

بقوله:” ليس لنا عادة مثل هذه ولا لكنائس اللَّه” يشير إلي عدم وجود أثر في كنائس اللَّه لظهور النساء في الاجتماعات الكنسية بدون غطاء الرأس.

v إن كان أهل كورنثوس قد خاصموا، فالآن العالم كله قد قبل هذا القانون وخضع له. يالعظمة قوة المصلوب!

v معارضة هذا التعليم هو ثورة غير عاقلة. يمكن لأهل كورنثوس أن يعترضوا, لكنهم إن فعلوا هذا فإنهم يضادّون ما هو متبع في الكنيسة الجامعة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

فاصل

2. ولائم الأغابي في الكنيسة 17-22.

“ولكنني إذ أوصي بهذا

لست أمدح كونكم تجتمعون ليس للأفضل بل للأردأ” [17].

يعلن الرسول بولس أنهم يجتمعون للعبادة، لكن ليس لأجل بنيانهم وتقدمهم وإنما للانحدار إلى أسوأ. إنه يود أن يمدحهم لكنه لا يقدر، إذ لا تتسم اجتماعاتهم بالعبادة الحقة التي تحمل التناغم والوحدة والحب والتقوى. إنما علي العكس اجتماعاتهم تثمر شرورا: من جهة توجد انقسامات وخصام، ومن جهة أخرى إفساد لمائدة الرب.

يدرك الرسول بولس أن كثيرين في معالجتهم لبعض الأمور مثل غطاء الرأس بالنسبة للرجل أو المرأة يحبون الحوار والنزاع لكن ما يشغل قلب المؤمن هو التصاقه بالرب واهتمامه بالشركة معه، فلا يميل إلي المجادلات الغبية التي تسبب خصومات وانشقاقات. وقت المؤمن أثمن من أن يشغله بهذه الأمور، إنما في محبة يسلك بما يعطي سلامًا للنفوس، وبنيانًا لكنيسة اللَّه.

لأني أولاً حين تجتمعون في الكنيسة 

اسمع أن بينكم انشقاقات 

وأصدق بعض التصديق” [18].

إن أول ما أود الإشارة إليه لخطورته هو ما يسمعه عنهم من وجود انشقاقات يلومهم عليها. سمع ذلك من عائلة خلوي (1 كو1: 11)، وكان يود ألا يصدق ذلك لكن لديه من الدلائل على أن يسمعه يحدث حقيقة، وربما ما ورد إليه كان مبالغًا فيه… لكن لا يستطيعوا أن ينكروا وجود الانشقاقات. 

v أدرك بولس أن أهل كورنثوس بدلاً من نموّهم في الالتصاق باللَّه، إذ بهم يسقطون في عادات العالم, لهذا فهم في حاجة أن يوبّخهم حتى يعودوا إلى حالتهم السابقة.

v يخفف بولس من نقده بقوله أن يعتقد جزئيًا أنه قد أُخبر (عن انشقاقاتهم) إذ يود أن يشجعهم أن يعودوا إلى الأعمال الحقة.

v بقوله “أصدق بعض التصديق [18] يثيرهم ويدعوهم إلى تصحيح الموقف.

v عندما يقول: “أسمع أن بينكم إنشقاقات” لا تتعجبوا. فكما قلت أنه يريد أن يثيرهم بهذا التعبير. عندما كان بينهم انشقاقات في التعليم لم يتحدث معهم في هذا الأمر برقة. اسمعه كمثال عندما تحدث في مثل هذا الأمر كيف كان بحدة يعلن عن الأمر ويوبخهم. كقوله: “ولكن إن بشركم ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن أناثيما” (غلا 1: 8), وبالتوبيخ كما يقول: “من يتبرر فيكم بالناموس، سقطتم من النعمة” (غلا 5: 4)، مرة أخرى يدعوا المفسدين كلابًا، قائلا: “احذروا الكلاب” (في 3: 2) وفي موضع آخر: “موسومة ضمائركم بحديد ساخن” (ا تي4: 2). وأيضًا: “ملائكة ابليس” (2 كو 11: 14ـ15)؛ أما هنا فلا يذكر شيئًا من هذا بل ينطق بلطفٍ وبنغمةٍ هادئةٍ.

القديس يوحنا الذهبي الفم

لأنه لابد أن يكون بينكم بدع أيضًا، 

ليكون المزكون ظاهرين بينكم” [19].

يرى البعض أن كلمة “بدع” أو “هرطقات” هنا لا تعنى انحرافات عقيدية وإنما انشقاقات وانقسامات. لا بد من قيام المنشقين (مت 18: 7، 2 بط 2:1؛ 2: 2) لأن عدو الخير لا يهدأ، وفي نفس الوقت فإن هذه الانشقاقات تفرز وتزكي المحبين للوحدة والوفاق والسلام. وكأنه يقول لهم مع وجود أناس محبين للانشقاق يتزكي بالأكثر من هم بينكم محبون للوحدة ويعملون من أجل سلام الكنيسة وبنيانها.

تعبير “لابد” لا يعني أن الانشقاقات ضرورية في الكنائس المسيحية، لكن كحقيقة واقعة فإن الحرب قائمة مادمنا في هذا العالم وعدو الخير لا يهدأ، بل ينحني له من يتبعونه ليعمل خلالهم لتحطيم وحدة الكنيسة.

تحدث هذه الانقسامات لعدة عوامل منها: حب بعض المعلمين للسلطة والتمتع بالشعبية؛ وانشغال الشعب بالمعلمين أكثر من السيد المسيح مخلصهم (1 كو 1: 12)، والمبالغة في التفسير لآية أو مجموعة من الآيات في الكتاب المقدس دون التمسك بروح الكتاب، وغيرة الشعب غير المستنيرة مع الكبرياء والغطرسة. 

ليكون المزكون ظاهرين بينكم“، المزكون أو الذين يُحسبون أصدقاء حقيقيين للَّه، ثابتون في وصاياه، ومتممون لإرادته الإلهية.

مهما نال أصحاب الانشقاقات والبدع من شعبية لن يتزكوا، فلا يُحسبوا أصدقاء الحق، إذ لا يخضعون للتدبير المملوء حكمة والنابع عن الحب الحقيقي.

v بهذا فإن المؤمنين يتزكون وغير الأمناء يُعاقبون.

الشهيد كبريانوس

v إذ يتحدث عن الانقسامات ليس في ذهن بولس تعاليم هرطوقية وإن كان هذا ينطبق أيضًا عليهم. المسيح نفسه قال أن العثرات لابد أن تأتي (مت 7:18) وهو بهذا لا يحطم حرية الإنسان, ولا يصدر أمرًا ملزمًا أو ضرورة يلتزم بها الجنس البشري, إنما يسبق فيخبر عن النتيجة الحتمية للشر في ذهن الإنسان. لم تأتِ الانشقاقات لأن المسيح سبق فأخبر عنها, وإنما هو سبق فأخبر عنها لأنها بالضرورة حدثت.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v لا يتحدث بولس هنا عن أخطاء تعليمية بل عن فشل أخلاقي.

سفيريان أسقف جبالة

فحين تجتمعون معًا

ليس هو لأكل عشاء الرب” [20].

كأنه يقول لهم: “حقًا إنكم تجتمعون معًا في الكنيسة لكي تشتركوا في العشاء الرباني، لكن هذا لن يتحقق. من الظاهر تشتركون، لكن بسبب الطمع [21] والأنانية وروح الانفصال حيث لا يشترك الكل معًا، فأنتم حقيقة لا تأكلون عشاء الرب، لأنه عشاء الحب والوحدة لا الأنانية والانشقاق والعزلة.

v دعني أضيف أنه من الخطأ أن نفترض أنه كانت هناك عادة منتشرة في أماكن كثيرة خاصة بتقديم الذبيحة بعد الشركة في الطعام، معتمدين على الكلمات “هكذا بعد العشاء الخ.، لأن الرب يدعو ذلك “عشاء” لما تناولوه، وذلك بشركتهم في جسده، حتى أنهم بعد هذا اشتركوا في الكأس، كقول الرسول في موضع آخر: “فحين تجتمعون معًا ليس هو لأكل عشاء الرب” [20] معطيًا تناول الافخارستيا الاسم “عشاء الرب”.

القديس أغسطينوس

لأن كل واحد يسبق فيأخذ عشاء نفسه في الآكل،

فالواحد يجوع والآخر يسكر” [21].

يقول: “يسبق”، لأن الأغنياء كانوا يسبقون الفقراء، فأساءوا إلى “عشاء الرب”.

ربما يشير هنا لا إلي شركة التناول بل إلى وجبات المحبة التي تلحق بالتناول، فإن كان الكل يشترك في التناول لكنهم يفسدون عبادتهم بتصرفاتهم في ولائم المحبة، حيث كان الأغنياء يأكلون بِنهمٍ ويسكرون بينما يتركون الفقراء جائعين.

كان كل واحد يهتم بنفسه، فيأكل مما أحضره معه، عوض أن يأكل الجميع معًا بروح الشركة والحب.

كان أغلب الشعب من الوثنيين الذين قبلوا الإيمان حديثًا لهذا كانوا يجهلون طبيعة الإيمان المسيحي في كل جوانبه. ولعلهم ظنوا في ولائم المحبة أنها كولائم الهياكل التي جاءوا منها فسلكوا بدون محبة وتواضع وحكمة مسيحية.

هنا يلزمنا أن ندرك أن الذين يقبلون الإيمان لا يصيروا كاملين، بل هم في حاجة إلى إرشاد مستمر ليختبروا الحياة الجديدة في المسيح يسوع، ويسلكوا طريق الكمال.

v بقوله عشاء الرب” يعبر بهذا عن العيد الجماعي. وكأنه يقول: “إن كان هذا هو عشاء سيدكم، كما هو بالتأكيد هكذا يلزم ألا تسحبوا هذا كأنه عشاء خاص، وإنما إذ هو ينتسب إلى ربكم وسيدكم فليُقدم أمام الكل كعملٍ عام”ٍ.

v إنه لم يقل: “واحد يجوع والآخر يشبع” بل “يسكر”. الآن كل تعبير من هذا في ذاته يستحق التوبيخ، فإن السكر خطأ حتى ولو كان بدون احتقار الفقير، واحتقار الفقير حتى بدون السكر هو اتهام. فإذا اجتمع الاثنان معًا (السكر مع احتقار الفقير) في وقت واحد، تأمل مدى خطورة المعصية!

v يهين الكورنثوسيون أنفسهم بتحويل مائدة الرب إلى وجبة عادية وهكذا يحرمونها من قوتها العظمى. يليق أن يكون العشاء الرباني عامًا للجميع, لأنه خاص بالسيد الذي لا ينتمي ما له لخادمٍ أو آخر بل يلزم أن يشترك الكل فيها.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v إن كان شخص ما غنيًا ويأكل بغير ضابط أو كان غير قادرٍ على الشبع, فإنه يهين نفسه بطريقة خاصة ويخطئ من جانبين: أولاً أنه يزيد الثقل على الذين ليس لديهم ما يقدمونه، وثانيًا يضع مبالغته مكشوفة أمام الذين لديهم.

القديس إكليمنضس السكندري

أفليس لكم بيوت لتأكلوا فيها وتشربوا؟ 

أم تستهينون بكنيسة اللَّه وتخجلون الذين ليس لهم؟

ماذا أقول لكم: أأمدحكم على هذا؟

لست أمدحكم” [22].

يود الرسول بولس ألا تُقام هذه الولائم في الكنائس عن أن تُقام بهذه الصورة الخاطئة. فمن الأفضل أن يرجعوا إلى بيوتهم ويأكلوا من أن يمارسوا هذه الأنانية ويسلكوا بهذا الكبرياء داخل الكنيسة. هنا يوبخهم الرسول بلهجة قاسية لأنهم يهينون كنيسة اللَّه، ويخجلون الفقراء الذين ليس لهم طعام يأكلونه وسط الفقراء. معاملاتهم مع الفقراء مخزية ومخجلة للغاية، خاصة في كنيسة اللَّه، حيث كان يجب أن يسود الحب والمساواة بين الجميع.

v انظروا كيف يتحول من الاتهام بالاستخفاف بالفقير إلى الكنيسة، حتى تكون لكلماته أثرًا أعمق وأقوى؟ ها أنتم ترون أنه يقدم اتهامًا رابعًا عندما لا يُساء إلى الفقير فقط بل والى الكنيسة أيضا.

v إذ أشار إلى شرور عظيمة: إهانة للعشاء، إهانة للكنيسة، استخفاف عملي بالفقراء، عاد يهدئ من نعمة التوبيخ فيقول فجأة: “أأمدحكم؟ على هذا لست أمدحكم“.

v يقول: “سيدكم يحسب الكل أهلاً لذات المائدة بالرغم من كونها مهوبة جدًا ومكرمة للغاية من الكل، لكنكم أنتم تحسبونهم غير مستحقين حتى لمائدتكم الصغيرة المتواضعة كما نراها، وبالرغم من أنهم لا يطلبون نفعًا منكم في الأمور الروحية تسلبونهم في الزمنيات، فإنه هذه الأمور ليست هي ملككم”.

v يوبخنا قائلا: “سيدكم سلم نفسه من أجلكم، وأنتم لا تشاركون حتى بطعامٍ قليلٍ مع أخيكم لأجل أنفسكم”.

القديس يوحنا الذهبي الفم

فاصل

3. التناول من الأفخارستيا 23- 34.

“لأنني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضًا، 

أن الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها

أخذ خبزا” [23].

إذ أراد أن يحذرهم من أن يكونوا “مجرمين” في جسد الرب ودمه لم يستخدم أسلوبًا عنيفا ولا لغة قاسية في التوبيخ بل بكل هدوء ذكرهم بقصة تأسيس السرّ علي يدي السيد المسيح نفسه.

لكي يكون لحديثه أثره عليهم عاد بذاكرتهم إلي تأسيس سرّ الافخارستيا ليروا ويراجعوا كيف أسسه السيد المسيح باذلاً ذاته عن كل البشرية حتى يشاركوه هذا البذل فلا يُحسبون مجرمين في جسد الرب ودمه.

لأننى تسلمت من الرب“: لم يكن شاول الطرسوسي مع التلاميذ حين أسس السيد المسيح سرّ الافخارستيا؛ لكنه يقول “تسلمت من الرب”. ربما كان ذلك خلال أحد إعلانات الرب المتكررة له (2 كو 12:7). تسلم السرّ لا من التلاميذ بل من الرب مباشرة. واعتبر البعض أن الرسول بولس تسلم هذا السرّ خلال الكنيسة، فحسب ذلك كأنه من الرب مباشرة, وقام بتأسيسه في كورنثوس لكونه أول كارزٍ فيها ومؤسسها.

في ذات الليلة التي خانه فيها تلميذه وسلمه للذبح (مت 26: 23- 25، 48- 50) قدم السيد أعظم عطاياه لخاصته وهو جسد الرب ودمه المبذولين عن حياة العالم كله. كانت لحظات تسليم السرّ رهيبة للغاية، وهي لحظات تسليم الرب للموت بيد أحد تلاميذه الأخصاء الذي سلمه الصندوق وبعثه للكرازة باسمه.

v كيف يقول: “لأنني تسلمت من الرب” مع أنه لم يكن حاضرا في ذلك الوقت، إنما كان واحدًا من المضطهدين. قال هذا لكي تعرف أن المائدة الأولى لا تزيد عن تلك التي جاءت بعد ذلك. فإنها حتى اليوم الذي يفعلها (السيد المسيح نفسه) ويسلمها كما فعل في ذلك الحين.

القديس يوحنا الذهبي الفم

وشكر فكسر وقال: 

خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم،

اصنعوا هذا لذكري” [24].

أخذ السيد المسيح خبزًا وشكر وقسّم. هكذا تسلم الرسول وهكذا سلّم الكنيسة في كورنثوس، فإنه يلزم إقامة السرّ كما قدّمه السيد نفسه تمامًا. لأن خادم السّر الخفي هو المخلص نفسه القادر وحده أن يقول: “هذا هو جسدي، هذا هو دمي”.

جسدي المكسور“، هذا البذل تحقق على الصليب، لكنه عمل دائم، نتمتع في السرّ بعمل الصليب الذي لن يقدم مع الزمن بل هو حاضر في كنيسته للتمتع بالخلاص.

v حيث أن المسيح من جانبه قدم للجميع بالتساوي قائلاً: “خذوا كلوا”. قدم جسده بالتساوي، ولكن أنتم ألا تعطون حتى الخبز بغير تمييز بينهم بينما الجسد متساوي للكل.

v ماذا تقولون؟ هل تتذكرون المسيح وتحتقرون الفقير ولا ترتعبون؟

v لنصغِ إلى هذه الكلمات نحن جميعًا، فإذ كثيرون هنا يقتربون مع الفقراء إلى هذه المائدة المقدسة، ولكن عندما نخرج نبدو كأننا لم ننظرهم، بل نكون سكرى ونحتقر الفقراء، الأمور التي أُتهم بها أهل كورنثوس.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v أتريد أن تعرف كيف تتقدس بالكلمات السماوية؟ أقبل الكلمات. ما هي؟ يقول الكاهن: “تمم لنا هذا القربان المكتوب والمعقول والمقبول الذي هو مثال جسد ربنا يسوع المسيح ودمه”.. قبل التقديس هو خبز, وبعد إضافة كلمات المسيح يكون جسد المسيح

v قبل كلمات المسيح الكأس مملوءة خمرًا وماءً. وعندما تضاف كلمات المسيح يكون الدم الفعال الذي خلص الشعب.

القديس أمبروسيوس

v تعلم الطوباوي بولس في ذاته فيه الكفاية ليعطي ضمانًا كاملاً للأسرار الإلهية، بأن تصير جسدًا واحدًا ودمًا واحدًا مع المسيح

v تحدث السيد نفسه بوضوح عن الخبز: “هذا هو جسدي” فهل يتجاسر أحد ويشك؟ إن كان هو نفسه ضماننا يقول: “هذا هو دمي” من يتذبذب ويقول أنه ليس بدمه؟… بثقة كاملة نحن نشترك في جسد المسيح ودمه. 

القديس كيرلس الأورشليمي

v يذكرنا بولس بأن السيد قد سلم كل شيء بما فيه نفسه من أجلنا, بينما نحن نمتنع عن المساهمة في قليلٍ من الطعام مع زملائنا المؤمنين. لكن إن جئت إلى ذبيحة الشكر فلا تفعل شيئًا لا يليق بها. لا تهين اخوتك ولا تتجاهلهم في جوعهم, لا تسكر, ولا تسيء إلى الكنيسة. عندما تأتي أشكر من أجل ما قد تمتعت به, ولا تقطع نفسك عن أقربائك.

القديس يوحنا الذهبي الفم

كذلك الكأس أيضًا بعدما تعشوا قائلاً:

هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي،

اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري” [25].

بعد ما تعشوا، أي تناولوا طعام الفصح القديم، الذي كان رمزًا للفصح الجديد تمتعوا بما هو حق. قدم لهم دمه للعهد الجديد حيث ختم العهد مع البشرية لا بدم بحيوانات بل بدمه.

v لماذا يشير بولس إلى الكأس أنها للعهد الجديد؟ لأنه كانت توجد أيضًا كأس العهد القديم التي توحي بسفك دماء حيوانات كذبائح. فإنه بعد تقديم الذبائح كان الكهنة يضعون الدماء في كأسٍ وأوانٍ ويسكبونه (لا 5:4-7, 16-18, 25, 34,30). وأما الآن فعوض دم الحيوانات قدّم المسيح دمه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v الأشياء القديمة عبرت وصارت جديدة في المسيح، فحل مذبح موضع مذبح, سيف لسيف, ونار لنار, وخبز لخبز, وذبيحة لذبيحة, ودم لدم.

القديس أغسطينوس

فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز،

وشربتم هذه الكأس،

تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء” [26].

بقوله: “تخبرون بموت الرب إلي أن يجئ” يكشف عن الفكر الإنقضائي في حياة الكنيسة. فعمل الكنيسة الرئيسى هو شركة السيد المسيح في موته وترقبها المستمر لمجيئه الأخير لتشاركه مجده وتراه وجهًا لوجهٍ.

نتمتع به هنا بتناولنا جسده ودمه، أما عند مجيئه فيحملنا إلي حضن أبيه، ونوجد شركاء مع المسيح في مجده، فنحقق مسرته ومسرة أبيه والروح القدس.

v كلما قبلناه نعلن موت الرب. بالموت نعلن غفران الخطايا. إن كان سفك الدم من أجل غفران الخطايا, فيليق بي دائمًا أن أقبله لكي يغفر دومًا خطاياي.

v أنا الخاطي على الدوام أحتاج دومًا إلى علاج.

القديس أمبروسيوس

v يظهر بولس أن عشاء الرب ليس وجبة طعام بالمعنى العام، بل هو علاج روحى يُطهر من يتناوله إن اشترك فيه بوقار. إنه ذكرى خلاصنا, فإننا إذ نذكر فادينا يلزمنا أن نتبعه ملتصقين به. 

أمبروسياستر

v إذ نعلن الموت حسب الجسد لابن اللَّه الوحيد, أي يسوع المسيح, ونعترف بقيامته من الأموات وصعوده إلى السموات نحتفل بالذبيحة غير الدموية في الكنائس. هكذا نقترب من البركات الروحية ونصير قديسين, شركاء في الجسد المقدس والدم الثمين للمسيح مخلصنا جميعًا.

القديس كيرلس الكبير

“إذا أي من آكل هذا الخبز،

أو شرب كأس الرب بدون استحقاق،

يكون مجرمُا في جسد الرب ودمه” [27].

بقوله: “بدون استحقاق” يشير الرسول إلى عدم تأهلهم للتناول من هذا السرَ. فإنهم إذ كانوا نهمين أنانيين لا يبالون بالفقراء يجرمون في حق جسد الرب ودمه. كمن يرتكب جريمة ضد جسد الرب ودمه.

كيف نتأهل للتناول؟ إن كان السيد المسيح بحبه مات عن كل البشرية، فإن التأهل لتناول جسده ودمه المبذولين يكون بانفتاح أبواب القلب بروح اللَّه لمحبة كل البشرية والاشتياق إلى خلاصهم.

v لماذا هكذا؟ إنه بسبب أن الذي يهين العشاء يشبه كاهنًا يسكب الدم، فيجعل من الموت ذبحًا لا ذبيحة. يكون مثل أولئك الذين ضربوا يسوع بالحربة على الصليب (يو 43:19). لا يفعلون ذلك ليشربوا دمه بل ليسفكوه. الشخص الذي يتقدم للعشاء بغير استحقاق يفعل هذا الأمر عينه ولا ينتفع شيئًا منه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v ماذا يعني تناوله غير استحقاق؟ أن يتناول باستخفاف واستهانة.

القديس أغسطينوس

ولكن ليمتحن الإنسان نفسه،

وهكذا يأكل من الخبز

ويشرب من الكأس” [28].

لما كانت هذه الجريمة خطيرة للغاية وعظمى لذا وجب أن يمتحن الإنسان نفسه، ويختبر أعماقه هل اتسعت بالحب نحو الآخرين.

اختبار الإنسان نفسه لا يتحقق بأن يبقى الإنسان بعيدًا، فيحرم نفسه من هذه العطية العظمى. وإنما بالتوبة والرغبة الصادقة للحياة الجديدة المقدسة في الرب واتساع القلب حتى للمقاومين يتمتع بالشركة في جسد الرب ودمه.

يمتحن الإنسان نفسه لأنه لا يعرف أعماق الإنسان إلا الإنسان، فهو عارف بأفكاره ونياته ومشاعره كما بكلماته وسلوكه الخفي والظاهر.

الاقتراب إلي المائدة خطير، فهو اقتراب إلي الرب نفسه وقبول الاتحاد معه والتمتع بجسده ودمه.

v ولكن ليمتحن الإنسان نفسه” [28]، ويقول في الرسالة الثانية: “جربوا أنفسكم… امتحنوا أنفسكم” (2 كو 13: 5)، ليس كما نفعل الآن حيث نقترب لمجرد حلول الموسم أكثر من غيرة العقل. فإننا لا نهتم كيف نستعد للاقتراب بنزع الشرور التي في داخلنا ونقدم ندامة كاملة, وإنما كيف نأتي في الأعياد حيث الكل يفعل هكذا. لكن لم يأمرنا بولس أن نفعل ذلك، هذا الذي يعرف موسمًا واحدًا للاقتراب من السرّ والشركة وهو نقاوة ضمير الإنسان.

v ألاحظ أن كثيرين قليلاً ما يشتركون في جسد المسيح، ويحدث أنهم يتناولون كعادة وشكل دون تفكير وفهم. عندما يقول إنسان بأن موسم الصوم الكبير المقدس قد حلّ، فيتناول الإنسان مهما كان حاله، أو عندما يحل يوم عماد الرب (الأيبافانيا). إنه ليس عند الغطاس ولا الصوم الكبير يجعل الزمن مناسبًا للاقتراب من الأسرار، وإنما الاخلاص وطهارة النفس. بهما نقترب في كل الأزمنة، وبدونهما لن يتحقق القول: “كلما فعلتم هذا تخبرون بموت الرب” [26]، أي تتذكرون الخلاص الذي تم من أجلكم، وللمنافع التي مُنحنا إياها اذكروا أولئك الذين اشتركوا في ذبائح العهد القديم كيف كانوا يمارسون نوعًا من التقشف العظيم؟ أي الأمور كانوا يمتنعون عن السلوك بها؟… كانوا دائمًا يطهرون أنفسهم. فهل وأنتم تقتربون إلى ذبيحةٍ ترتعب أمامها الملائكة تقيسون الأمر بمقاييس المواسم؟ كيف تقفون أمام كرسي حكم المسيح، وأنتم تأخذون جسده بأيدٍ دنسةٍ وشفاهٍ نجسةٍ؟ إنكم لا تتجاسروا وتَّقبلوا الملك بفمٍ غير طاهر، فهل تقَّبلون ملك السماء بنفسٍ دنسةٍ؟ هذا إهانة له.

v لا يوجد زمن محدد لإتمام هذه الذبيحة، فلماذا إذن تُدعى عيد الفصح؟ لأن المسيح تألم عنا، لهذا لا تجعلوا من الزمن ما يسبب اختلافًا للاقتراب منه. ففي كل الأزمنة تحمل (الذبيحة) ذات القوة، وذات الكرامة، وذات النعمة، لأنه هو الجسد الواحد بعينه، ولا يُكرم الاحتفال به (القداس الإلهي) في وقت أكثر قداسة منه في وقت آخر.

v العيد هو إظهار الأعمال الصالحة ووقار النفس والتدقيق في السلوك. فإن كان لك هذه تكون حافظا للعيد في كل الأزمنة وتقترب كل الأزمنة.

v لا يجوز لنا أن نقترب من المائدة بشهوات دنسة, فيكون الأمر أكثر ضررًا من الإصابة بالأمراض. فبالشهوات الدنسة أعني شهوات الجسد وشهوة المال والغضب والمكر وهكذا. يليق بكل من يقترب أن يفرغ نفسه من كل هذه الأشياء أولاً وعندئذ يلمس هذه الذبيحة الطاهرة. 

القديس يوحنا الذهبي الفم

v خلال هذه الأيام يقوتكم المعلمون؛ يقوتكم المسيح يوميًا، ومائدته مُعدة أمامكم على الدوام. لماذا أيها السامعون ترون المائدة ولا تقتربون إلى الوليمة؟

القديس أغسطينوس 

v يعلمنا بولس أن يليق بالشخص أن يتقدم للتناول بذهن وقور ومخافة, حتى يدرك الذهن أن يوقّر ذاك الذي يقدم جسده مبذولاً.

أمبروسياستر

لأن الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق،

يأكل ويشرب دينونة لنفسه،

غير مميزٍ جسد الرب” [29].

التهاون في فحص الإنسان نفسه جريمة ضد جسد الرب وتهاون، إذ يكون “غير مميز جسد الرب“. إنه لا يميز بين الخبز الذي يأكله في أي موضع وبين جسد الرب المبذول الأفخارستي.

v أوجه إليكم الكلمات يا أيها الضيوف الكرام في هذا العيد: “من يأكل ويشرب بغيراستحقاق، ياكل ويشرب دينونة لنفسه” [29]. أوجه حديثي إلى كل الذين هم هكذا، لكي لا يتطلعوا إلى الصالح الذي من الخارج ويحملون الشر في الداخل.

v لقد أعطى تلاميذه العشاء الذي قدسه بيديه، ونحن لم نجلس في ذاك العيد؛ ومع هذا فإننا نتناول نفس العشاء بالإيمان. لا تظنوا أنه أمر غريب أنه في العشاء الذي فيه قدم السيد بيديه وُجد إنسان بدون إيمان، الإيمان الذي ظهر فيما بعد كان أعظم من ذاك الذي كوفئ في ذلك الحين. لم يكن بولس هناك هذا الذي آمن، ويهوذا كان موجودا وخان. كم من كثيرين الآن يتناولون من ذات العشاء ؛ لم يكونوا موجودين في تلك المائدة، ولا رأوا بعيونهم ولا ذاقوا بأفواههم الخبز الذي أخذه الرب في يديه، ومع هذا فهو ذات الخبز الذي يُعد الآن. وكم من كثيرين أيضا في نفس العشاء ياكلون ويشربون دينونة لأنفسهم.

القديس أغسطينوس 

v قد يقول أحد: “يلزم عدم تناول الافخارستيا كل يوم”. تسأل: “على أي أساس؟” يجيب: “لكي يقترب إليه الإنسان باستحقاق لأنه سرّ عظيم، لذا يجب اختبار الأيام التي يعيش فيها الإنسان في طهارة خاصة وضبط للنفس، لأن من يأكل ويشرب بغير استحقاق يأكل ويشرب دينونة لنفسه [29]. ويجيب آخر: “بالتأكيد إذا ما حدث جرح بالخطية وعنف خلال تشويش النفس فإنه يجب ترك الأدوية إلى حين، هكذا يجب على كل إنسانٍ أن يبتعد إلى حين بأمر الأسقف، ويمتنع عن الاقتراب من المذبح ويقدم ندامة. بعد ذلك يتمتع بالمزايا التي من حقه بنفس السلطان. لأنه يكون التناول بدون استحقاق إن تناول إنسان في الوقت الذي كان يجب أن يقدم فيه توبة، هذا الأمر لا يُترك لحكم الإنسان فينسحب من شركة الكنيسة أو يرجع إليها كما يحلو له. على أي الأحوال إن كانت خطاياه ليست عظيمة هكذا ليُحكم عليه بالعزل يلزمه ألا ينسحب من تناول جسد الرب اليومي وذلك لشفاء النفس”.

القديس أغسطينوس

v كيف يمكن للمائدة التي هي علة بركات كثيرة كهذه, والتي تفيض بالحياة أن تصير علة دينونة؟ هذا ليس من طبيعتها الذاتية, وإنما يقول بولس بسبب اتجاه المتقدم إليها. فكما أن حضور المسيح حوَّل هذه البركات العظيمة والتي لا يُنطق بها إلى دينونة للذين لم يقبلوه, هكذا التناول المقدس يصير عقوبة أعظم للذين يتناولونه بغير استحقاق.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v من يتقدم إلى مائدة الرب باستهتار ليس بأفضل من غير المؤمن.

أمبروسياستر

من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى،

وكثيرون يرقدون” [30].

خلال التهاون في سرّ الأفخارستيا يسقط كثيرون تحت التأديب، سواء بالضعف الجسدي أو الأمراض بل برقاد الموت. لم يقل بالموت بل بالرقاد، لأن اللَّه يترقب توبتهم ويود خلاصهم حتى وهم علي سرير الموت، فيرقدوا ويقوموا معه. 

v إن كان أحد عوض أنه يلتزم أن ينصت للوصية: “ليمتحن الإنسان نفسـه وهـكذا يأكل من الخبز الخ.” [28] لا يطيع هذه الكلمات وإنما يشترك اعتباطًا في خبز الرب وكأسه، فإنه سيضعف ويمرض، بل وربما إن كنت أستخدم التعبير، إنه إذ يستهين بقوة الخبز يرقد.

العلامة أوريجينوس

 

v حقا يقول الرسول في رسالته إلى أهل كورنثوس الذين عانوا من أمراض متنوعة: “من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى وكثيرون يرقدون” [30]. اسمعه في هذه الكلمات يربط بين الأمور وبعضها البعض يربط بين خطايا متنوعة ووجود البعض ضعفاء وآخرون مرضى أكثر منهم ضعفاء ويقارن بين هؤلاء والراقدين. 

فإن البعض بسبب فقدانهم قوة النفس يصير فيهم الميل إلى التسلل إلى أية خطية كانت. فبالرغم من أنهم ليسوا ممسكين في أي شكل من الخطية بالكامل كمرضى إلا أنهم مجرد ضعفاء.

وآخرون عوض محبتهم للَّه بكل نفوسهم وكل قلوبهم وكل فكرهم يحبون المال أو المجد الباطل أو زوجة أو أطفالاً، هؤلاء يعانون مما هو أردأ من الضعف، إنهم مرضى. 

أما الراقدون فهم أولئك الذين بينما كان يجب عليهم أن يصحوا ويسهروا بكل النفس لا يفعلوا ذلك بل بسبب تهاونهم الخطير تغفل رؤوسهم كنيامٍ، ويصيروا في دوار في تفكيرهم، “كمن في أحلامهم ينجسون الجسد ويتهاونون بالسيادة ويفترون على ذوي الأمجاد” (يه 8). ذلك لأنهم راقدون ويعيشون في جوٍ من الأوهام الباطلة كمن يحلمون عوض الواقع. فلا يقبلون الأمور التي هي بالحق واقعية بل ينخدعون بما يظهر لهم خلال تخيلاتهم الباطلة. وقد قيل عنهم في إشعياء: “وكما يحلم العطشان أنه يشرب ثم يستيقظ وإذ هو ظمآن ونفسه مشتهية في رجاءٍ باطلٍ، هكذا يكون عني كل الأمم المتجندين في أورشليم” (إش 29: 8).

إن كان يبدو أننا كمن قد تاه عن الموضوع الرئيسي بالحديث عن الاختلاف بين الضعفاء والمرضى والراقدين، وذلك بسبب ما قاله الرسول في رسالته إلى أهل كورنثوس الذي نشرحه، فإننا فعلنا هذا رغبة منا أن نقدم فهمًا للقول: “شفي مرضاهم”.

العلامة أوريجينوس

v هنا لا يقدم بولس مثله من إسرائيل القديم كما فعل قبلاً بل من الكورنثوسيين أنفسهم, حتى يكون للدرس فاعليته العميقة فيهم. فالناس كانوا يتطلعون إلى تفسير للموت المبكر وسطهم, وهنا بولس يقدم التفسير.

القديس يوحنا الذهبي الفم

لأننا لو كنا حكمنا على أنفسنا،

لما حكم علينا” [31].

يقدم الرسول بولس نصيحة وتحذير، فإن أردنا الهروب من الدينونة في هذا العالم والعالم العتيد لكي نتبرر أمام اللَّه يلزمنا أن نحكم على أنفسنا. 

فحصنا لأنفسنا في جدية وشكوانا من أنفسنا أمام الرب يعفينا من الدينونة في يوم الرب العظيم، كما من تأديبنا سواء خلال الأمراض أو بالتأديبات الكنسية.

v لم يقل: “لو كنا عاقبنا أنفسنا، لو كنا انتقمنا من أنفسنا” بل يقول لو كنا فقط نريد أن نعرف عصياننا ونحكم على أنفسنا بالحق وندين الأشياء التي فعلناها في الطريق الخاطئ، لكنا قد تخلصنا من العقوبة في هذا العالم والعالم العتيد. لأن من يدين نفسه يربح اللَّه من جانبين: الأول بتعرفه على خطاياه, والثاني يصير حذرًا في المستقبل.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v سأحكم على نفسي، حتى لا يحكم عليّ ذاك الذي فيما بعد سيدين الأحياء والأموات (2مك 7: 18-19). 

القديس أغسطينوس

v عوض أن نعبر بتراخ بما ندعوه خطايا بسيطة فلنصنع حسابًا لأنفسنا عن كلماتنا ونظراتنا ونحكم على أنفسنا حتى نتحرر من العقوبة فيما بعد. هذا هو السبب الذي لأجله قال بولس: “إن حكمنا على أنفسنا من جهة خطايانا كل يوم هنا, ننزع حتمًا قسوة الحكم في ذلك الموضع”.

v إن كنا نهمل سُندان ويؤدبنا الرب. لهذا فلنبادر بالحكم على أنفسنا بإرادة صالحة, مقيمين محكمة الضمير التي لا يعرفها أحد. لنمتحن أفكارنا ونصمم بقانون لائق لأنفسنا حتى بالخوف من العقوبة القادمة يُسحب ذِهننا ويُضبط دوافعه ويُحفظ العينين بلا نوم حتى يحفظ من أعمال الشيطان المستمرة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v أحكم بنفسك ما سأخبرك عنه:

افترض أنك ذاهب إلى رحلة طويلة, وإذ شعرت بجفاف وعطش بسبب الحر, وملت إلى أحد اخوتك, وقلت له: “انعشني فإني متعب من الظمأ” فيجيبك: “إنه وقت الصلاة, سأصلي وبعد ذلك آتي لأعينك”. وبينما كان يصلى وقبل مجيئه إليك مُت من العطش. ماذا يبدو لك الأفضل أنه كان يجب أن يذهب ويصلي, أم كان يليق به أن يريحك من تعب العطش؟

الأب أفراهات

“ولكن إذ قد حكم علينا نؤدب من الرب،

لكي لا نُدان مع العالم” [32].

إن حُكم علينا هنا خلال الضعف والمرض أو حتى الرقاد، أو خلال التأديبات الكنسية بسبب عدم جديتنا في فحص أنفسنا نؤُدب حتى لا نُعاقب في يوم الرب مع العالم الذي أصر علي العناد ولم يقبل تأديب الرب.

ليتنا ننتفع بإنذارات الرب لنا كأن يسمح لنا بالضيقات، فنراجع أنفسنا، ونفحص بروح الرب أعماقنا، وبهذا لا نُدان مع العالم الشرير. لنقبل التأديب الزمنى، أيا كانت وسيلته، فلا نسقط تحت العقوبة الأبدية.

v لم يقل “نُعاقب” ولا “يُنتقم منا” بل قال “نُؤدب“. لأن ما يحدث يخص تبكيتنا لا إدانتنا، يختص بشفائنا لا الانتقام منا، بتصحيح حالنا لا معاقبتنا.

v يدعو بولس عقوبتنا تأديبًا، لأنها هي تحذير أكثر منها إدانة, إنها للشفاء أكثر من للانتقام, للتصليح أكثر منها للعقوبة.

v إنه يجعل الحاضر يبدو أقل ثقلاً إن قورن بالشرور العظيمة التي سنهرب منها, أعني دينونة العالم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v عندما يديننا الرب, إنما لأجل تهذيبنا, حتى لا نُدان بعد مع العالم. قديمًا قال النبي: “قدّم لى الرب درسًا عنيفًا وإلى الموت لم يسلمني” (مز 18:118) .

القديس إكليمنضس السكندري

v خطايا كثيرة تبدو كأنها منسية تمر دون أن تحدث عقوبة عنها. أنها محفوظة للمستقبل. فإنه ليس باطلاً يدعى اليوم الذي فيه يأتي ديان الأحياء والأموات يوم الدينونة. ومن الجانب الآخر بعض الخطايا يُعاقب عليها هنا, كما لو أنها غُفرت ولا تسبب لنا ضررًا في المستقبل.

القديس أغسطينوس

“إذا يا اخوتي حين تجتمعون للآكل

انتظروا بعضكم بعضًا” [33].

بعد تقديم نصيحته بفحص النفس بدقةٍ وقبول التأديب الإلهي والكنسي يسألنا أن ينتظر بعضنا البعض، أي يهتم كل واحد بما للآخرين لا بما لنفسه في كل شيء، فلا يكون للأغنياء أسبقية على الفقراء.

v يطلب بولس منهم أن ينتظر الواحد الآخر لكي يقدموا التقدمات معًا, ويخدم الواحد الآخر.

أمبروسياستر

 

إن كان أحد يجوع فليأكل في البيت 

كي لا تجتمعوا للدينونة.

وأما الأمور الباقية فعندما أجيء أرتبها” [34].

لا تُقدم مائدة الرب لأجل الشبع الجسدي، فمن أراد أن يملأ معدته فلينتظر في بيته عوض أن ينال دينونة بتصرفه الخاطئ الأناني.

أخيرًا إذ عالج بعض الأوضاع الرئيسية التي سببت تشويشًا في العبادة الكنسية في كورنثوس أخبرهم بأنه عندما يأتي إليهم يرتب بقية الأمور.

v هنا نفهم أنه لم يكن ممكنًا للرسول أن يقدم وصفًا كاملاً للنظام المستخدم في الكنيسة الجامعة في العالم. لذا فقد أراد وضع النظام بحضوره الشخصي، إذ نجد إنه نظام واحد وسط كل العادات المتنوعة.

القديس أغسطينوس

v يضيف بولس بأنه سيعالج كل الأمور الأخرى عندما يأتي. وكأن الكورنثوسيين إذ يعترضون بأنه لا يمكن علاج كل شيء بالرسالة, لذلك يخبرهم بولس بأن يسلكوا هكذا في هذه الأمور، أما الأمور الباقية فسيعالجها في الوقت المناسب.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v نفهم من هذا أنه كثير عليه أن يعالج كل الأمور التي يجب على الكنيسة الجامعة مراعاتها في رسالة, وأن لابد من وضع نظام بحضوره شخصيًا ولا يمكن تغييره.

القديس أغسطينوس

فاصل

من وحي 1 كو 11

لا تفصلني عنك،

فأنت هو رأسي!

 

v قدمت لي ذاتك رأسًا لي،

احتفظ بك، فأحيا إلى الأبد.

من يحرمني منك،

ينزع عني حياتي يا رأسي كل رجل!

v وهبت للرجل أن يكون رأسًا للمرأة،

يتشبه بك يا رأس الكنيسة عروسك.

لا يطلب سلطة ولا يسلك بتشامخٍ،

لكنه كرأسٍ ينحني ليبذل حياته عن أسرته.

يبسط يديه معك كما على الصليب،

فيحتضن بالحب العملي عائلته.

ووهبت المرأة أن تكون جسدًا كالكنيسة،

تتقبل الحب الباذل بالخضوع علامة القوة.

ليس خضوع الخنوع والجهالة، بل علامة حب متبادل!

تقيم من بيتها سماءً مفرحة !

v لتقد كنيستك بروحك القدوس الناري،

روح الحب العملي.

يفتح الغني لأخيه الفقير مخازن قلبه،

ومع عطائه المادي يقدم بشاشة صادقة!

هبْ للكل روح الوحدة والحب.

فتتحول كنيستك إلى وليمة اغابي،

تشتهي الملائكة أن تشترك فيها.

يجد السمائيون مسرتهم في شعبك،

إذ يرون أيقونتك واضحة وجلية فيهم.

v جعلت من جسدك ودمك وليمة حب.

هب لي ثوب برك فأدخل وليمتك.

لأخفتني فيك، فأتأهل للاتحاد بك.

لأتمتع بالتناول من أسرار حبك،

هذه التي تشتهي الملائكة أن تتطلع إليها.

نعم! لئلا تصير وليمتك دينونة لي!

فاصل

أقرأ أيضاً

فاصل

 تفسير كورنثوس الثانية 10 تفسير رسالة كورنثوس الأولى تفسير العهد الجديد
 تفسير كورنثوس الثانية 12
 القمص تادرس يعقوب ملطي
تفاسير رسالة كورنثوس الأولى تفاسير العهد الجديد

 

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى