تفسير رسالة كورنثوس الأولى أصحاح ١٤ للقديس يوحنا ذهبي الفم
تفسير كورنثوس الأولى – الأصحاح الرابع عشر
«اتبعوا المحبة ولكن جدوا للمواهب الروحية وبالأولى أن تتنبأوا» (ع1).
من حيث إن بولس الرسول أوضح لهم بكل تدقيق فضيلة المحبة فقدم النصيحة بأن يقبلوها باجتهاد ولذلك قال « اتبعوا المحبة» لأن الذي يتبع الشيء هو الذي يراه وحده وينظر نحوه ، ولا يبرح إلى أن يدرکه ، فإذا اتصلنا بالمحبة فلا نتركها فيما بعد لكي لا تفر منا هاربة، لأنها تفر منا کوننا لا نستعملها كما ينبغی بل نفضل كل شيء عنها ، فلذلك يجب أن نمسكها باشتياق واحتراس
«لأن من يتكلم بلسان لا يكلم الناس بل الله لأن ليس أحد يسمع ولكنه بالروح يتكلم بأسرار . وأما من يتنبأ فيكلم الناس ببنیان ووعظ وتسلية» ( ع ۲، ۳).
وضع بولس الرسول المقايسة هنا بين المواهب ، فحط بموهبة الألسنة فأثبتها أنها غير نافعة بالكلية، ولا هي شيء نافع بذاته أبداً، لأنهم كانوا يترفعون إذ يعتقدونها موهبة عظيمة.
ويلاحظ أن من يتكلم بالألسنة يبنون ذواتهم فقط، أما من يتنبأ ويعظ فهو ينفع الذين يسمعونه.
«من يتكلم بلسان یبنی نفسه وأما من يتنبأ فيبنى الكنيسة » (ع4).
أثبت بولس الرسول أن موهبة التكلم بالألسنة فيها ربح لكنه قليل بمقدار ما يكفي ممتلكها فقط.
«إني أريد أن جميعكم تتكلمون بألسنة ولكن بالأولى أن تتنبأوا لأن من يتنبأ أعظم ممن يتكلم بألسنة إلا إذا ترجم حتى تنال الكنيسة بنياناً» (ع5)
من من هنا يتضح أن بولس الرسول لا يذم موهبة التكلم بالألسنة وإنما يستميلهم نحو ما هو أفضل موضحاً عنايته بهم! لأنه لم يقل أريد اثنين أو ثلاثة يتكلمون بالألسنة بل قال « أريد أن جميعكم تتكلمون بألسنة» بل « وأن تتنبأوا » وهذا أحرى . ذاك لأن من يتنبأ هو أعظم.
« فالآن أيها الإخوة إن جئت إليكم متكلماً بألسنة فماذا انفعكم إن لم أكلمكم إما بإعلان أو بعلم أو بنبوة أو بتعليم » (ع6) .
أي أن بولس الرسول إذا كانت لديه موهبة التكلم بالألسنة فلا يمكنه أن يكون مفهوماً عندهم أو أن يكون واضحاً بل للتظاهر فقط بأن له موهبة التكلم بالألسنة التي إذا سمعوها ينطلقون غير مستفيدين شيئاً لأنهم كيف ينتفعون من لغة لا يفهمونها.
«الأشياء العادمة النفوس التي تعطي صوتاً مزمار أو قيثارة مع ذلك إن لم تعط فرقاً للنغمات فكيف يعرف ما زُمر أو ما عُزف به» (ع۷).
أي أن الصوت النافع هو الصوت الواضح والذي يفهمه الذين يسمعونه ، وهذا الأمر يمكن أن يراه الإنسان في آلات الموسيقى الخالية من النفس ، فإن كان مزمار أو قيثارة وتضرب بغير الترتيب والنظام اللائق بل بأصوات مشوشة لا ترضى السامعين.
والفرقة الموسيقية إن عزفت بلا صناعة جيدة فلا تكون نقلت شيئاً، فإن كنا نطلب من الآلات الخالية من النفس إيضاح هذا مقداره وترتيبة وتمييزة فأولى كثيراً أن نفعل ذلك في البشر الناطقين ، وأن نبتغي في المواهب الروحانية الإيضاح والبيان.
«فإنه إن أعطى البوق أيضاً صوتاً غير واضح فمن يتهيأ للقتال » (ع۸).
إن الأمر ليس في المعرفة فقط بل وفي البوق أيضاً حيث يوجد له ترتيب ، فتارة يلحن لحناً حربياً وتارة لجمع الجنود للمعسكر وتارة خلاف ذلك من الأمور الضرورية للحرب وغيرها.
«هكذا أنتم أيضاً إن لم تعطوا باللسان كلاماً يُفهم فكيف يُعرف ما تُكلم به فإنكم تكونون تتكلمون في الهواء» (ع۹).
أي غير ناطقين بشیء کونكم لا تتكلمون نحو أحد إذ يوضح بولس الرسول في كل مكان عدم نفع ذلك.
«ربما تكون أنواع لغات هذا عددها في العالم وليس شيء منها بلا معنى» ( ع ۱۰).
المقصود من عبارة « أنواع لغات هذا عددها في العالم» أي لغات : التتار والروم والفرس والزنوج والهنود والمصريين وأمم أخرى كثيرة .
«فإن كنت لا أعرف قوة اللغة أكون عند المتكلم أعجمياً والمتكلم أعجمياً عندى» (ع۱۱).
انظر كيف أن بولس الرسول عرض في كل مكان أن يزيل اللائمة عن موهبة التكلم بالألسنة ويثبت الخطأ على الذين أخذوها، لأنه لم يقل أكون أعجمياً بل إنه قال « أكون عند المتكلم أعجمياً » ولم يقل أيضا المتكلم أعجمياً بل قال : «والمتكلم أعجمياً عندى».
«هكذا أنتم أيضاً إذ إنكم غيورون للمواهب الروحية اطلبوا لأجل بنيان الكنيسة أن تزدادوا» (ع۱۲).
عرفت قصد بولس الرسول في كل مكان كيف أنه يتأمل في أمر واحد دائماً وفي سائر الأحوال أي ما ينفع الكل والذي يمنح الربح للكنيسة ، فوضع ذلك كقانون ما فلم يقل لتقتنوا المواهب بل قال «لأجل بنيان الكنيسة أن تزدادوا » .
«لذلك من يتكلم بلسان فليصل لكى يُترجم . لأنه إن كنت أصلي بلسان فروحي تصلي وأما ذهني فهو بلا ثمر . فما هو إذاً أصلي بالروح وأصلي بالذهن أيضا أرتل بالروح وأرتل بالذهن أيضاً» (ع۱۳- ۱۵).
إن طلبت باجتهاد ستأخذ ، فاطلب إذا لا لأن تأخذ موهبة الألسنة فقط بل والترجمة لتكون للكل نافعاً ولا تحبس الموهبة في ذاتك فقط.
والمقصود من قول بولس الرسول : «إن كنت أصلي بلسان فروحي تصلي وأما ذهني فهو بلا ثمر ، أي أن من كان هذه الحالة حالته ليس أنه لا ينفع الآخرين فقط بل ولا ذاته لكون عقله لا ثمر له لأن كثيرين كان لهم قديماً التكلم باللسان فكانوا يبتهلون واللسان ينطق مبتهلاً إما باللغة الفارسية أو باللغة الرومانية وأما العقل فلم يكن يعرف ما يُقال.
«وإلا فإن بارکت بالروح فالذي يشغل مكان العامی كيف يقول آمين عند شكرك لأنه لا يعرف ماذا تقول . فإنك أنت تشکر حسناً ولكن الآخر لا يبنی » (ع 16، 17)
أي إن بارکت بلسان البربر غیر عارف ما تقوله ولا أنت قادر أن تترجمه والعامی لا يمكنه أن يقول آمين التي هي في آخر الصلوات ، فأنت هنا تصلي بالروح وتبني ذاتك ، أما ذاك فلا يسمع شيئاً ولا يعرف ما تقوله.
«أشكر إلهي إني أتكلم بألسنة أكثر من جميعكم» (ع۱۸).
أراد بولس الرسول هنا أن يوضح لليهود ألا يعلوا رواياتهم فإن موهبة التكلم بالألسنة ليست لهم بمفردهم لأنه امتلكها هو أيضاً أكثر منهم.
«ولكن في كنيسة أريد أن أتكلم خمس كلمات بذهني لكي أُعلم آخرین أيضاً أكثر من عشرة آلاف كلمة بلسان» (ع۱۹).
أي أن بولس الرسول يتكلم بعقله لكي يعلم الآخرين ، عاقلاً ما يقوله وفاهماً ما يقدر أن يترجمه للآخرين ويقوله بفهم ويعلم السامعين، وهذا الأمر هو الذي يبتغيه بولس الرسول دائماً أي النفع العام.
«أيها الإخوة لا تكونوا أولاداً في أذهانكم بل كونوا أولاداً في الشر وأما في الأذهان فكونوا كاملين» (ع۲۰)
استعمل بولس الرسول الكلام هنا بقساوة والزجر الكثير ، وذكر نموذجاً مطابقاً للمعنى لأن الأولاد تشخص صاغية للأمور الصغيرة. والمقصود من عبارة « لا تكونوا أولاداً » أي لا تكونوا غير فاهمين ، حيث يجب أن تكونوا عارفين.
«مكتوب في الناموس إني بذوى ألسنة أخرى وبشفاه أخرى سأكلم هذا الشعب ولا هكذا يسمعون لي يقول الرب» (ع۲۱).
مع أن هذا القول لم يكتب قط في الناموس إلا أن بولس الرسول اعتاد دائماً أن يسمي الأنبياء باسم الناموس ، وقد أبرز هذه الشهادة من إشعياء النبي ( إش ۲۸ : ۱۱ ).
«إذا الألسنة آية لا للمؤمنين بل لغير المؤمنين أما النبوة فليست لغير المؤمنين بل للمؤمنين . فإن اجتمعت الكنيسة كلها في مكان واحد وكان الجميع يتكلمون بألسنة فدخل عاميون أو غير مؤمنين أفلا يقولون إنكم تهذون. ولكن إن كان الجميع يتنبأون فدخل أحد غير مؤمن أو عامي فإنه يوبخ من الجميع يحكم عليه من الجميع . وهكذا تصير خفايا قلبه ظاهرة وهكذا يخر على وجهه ويسجد لله منادياً إن الله بالحقيقة فيكم» (ع۲۲-۲۵).
معنی قول بولس الرسول «الألسنة آية لا للمؤمنين بل لغير المؤمنين ، أي تكون لهؤلاء آية تدفعهم للانذهال والمقصود من قوله « أما النبوة فليست لغير المؤمنين بل للمؤمنين» لأن المؤمن لا يحتاج أن يرى آية وإنما يفتقر إلى التعليم والوعظ .
ولم يقل إن النبوة ليست بصالحة لغير المؤمنين وإنما قال «أما النبوة فليست لغير المؤمنين» كما هي في الألسنة أعني غير مفيدة ، ولا الألسنة صالحة للمؤمنين بشيء لأن فعلها هو شيء واحد فقط أي أن تُذهل.
فالنبوة لها القوة في المؤمنين وغير المؤمنين ، وأما الألسنة إذا ما سمعها الذين لم يؤمنوا والذين لا تمییز لهم فليس أنهم لا ينتفعون فقط بل ويستهزئون بالمتكلمين أيضاً.
«فما هو إذا أيها الإخوة متي اجتمعتم فكل واحد منكم له مزمور له تعليم له لسان له إعلان له ترجمة فليكن كل شيء للبنيان » (ع26).
رأيت قاعدة الديانة المسيحية وقانونها ، لأنه كما أن البناء عمله أن يبنی ، هكذا والمسيحي عمله أن ينفع القريب بكل وجه ، ولهذا كانت المواهب لتبني كل واحد ، وإن لم يحدث هذا فتكون الموهبة دينونة لمن حواها.
«إن كان أحد يتكلم بلسان فاثنين اثنين أو على الأكثر ثلاثة ثلاثة وبترتيب وليترجم واحد. ولكن إن لم يكن مترجم فليصمت في الكنيسة وليكلم نفسه والله » (ع 28،27)
ماذا أقول قل لي فقد قلت أقوالاً هذا مقدارها عن التكلم بالألسنة بأنها غير مفيدة وفضلة زائدة
«أما الأنبياء فليتكلم اثنان أو ثلاثة وليحكم الآخرون » (ع۲۹) .
لاحظ أن بولس الرسول لم يثبت أية نبوة أنها كافية إذ أمر أن يحكم عليها آخرون، وقال هذا القول لإقناع السامعين لكي لا يسقطوا بين العرافين ، فأمر أن يحكموا في ذلك ويميزه لئلا يندس أمر الشيطان.
«ولكن إن أعلن لآخر جالس فليسكت الاول . لأنكم تقدرون جميعكم أن تتنبأوا واحداً واحداً ليتعلم الجميع ويتعزى الجميع» ( ع ۳۱،۳۰ ).
أي ماذا يجب إذا ما تحرك أحد بالنبوة ، أن يتكلم ذاك ، أفيتكلم الاثنان؟ إلا أن هذا غير لائق وفيه تشويش ، أفيتكلم الأول ؟ وهذا غير لائق، ولهذا قال بولس الرسول «يمكنكم أن تتنبأوا واحداً وواحداً ليتعلم الجميع ويتعزى الجميع » .
«وأرواح الأنبياء خاضعة للأنبياء » ( ع۳۲).
أي إن كان الروح يخضع للأنبياء فبالحرى كثيراً أنت الذي امتلكته لا تكون باراً إذا قاومت.
«لأن الله ليس إله تشویش بل إله سلام كما في جميع كنائس القديسين » (ع۳۳).
إن كان أحد يجتمع بصديقه بعد زمان كثير إلا أن هذا قد يحق أن يصير بالحرى خارج الكنيسة لأن الكنيسة ليست هي حانوت الحلاق ولا العطارة ولا حانوت من التي في السوق بل هي موضع الملائكة ، ملكوت الله ، السماء نفسها ، فكما إنه إذا فتح أحد السماء وأدخلك هناك فإن عرفت أباك أو أخاك لما كنت تتجاسر أن تنطق بشیء آخر سوى الروحانيات.
وقد أوضح بولس الرسول هنا أنه لم يأمرهم بشيء غريب لأنه قال « كما في جميع كنائس القديسين».
«لتصمت نساؤكم في الكنائس لأنه ليس مأذوناً لهن أن يتكلمن بل يخضعن كما يقول الناموس أيضاً» (ع34).
يلاحظ هنا أن بولس الرسول لم ينصح ولم يشر مشورة وإنما بصرامة يقرأ في أمرهن ناموساً قديماً ولم يأمرهن أن يتكلمن بل « يخضعن كما يقول الناموس » فأين ما يقوله الناموس ؟ يقول هذا الناموس « وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك» ( تك 3: 16)
ولم يقل بولس الرسول إن المرأة لم يُسمح لها بأن تتكلم بل أن تصمت ، وقد قال ما هو أكثر من ذلك ، أن تخضع ، فإن كان هذا الخضوع يجب نحو الرجل فبالحرى كثيراً يجب أن يصير للمعلمين والآباء وعامة البيعة المجتمعة.
«ولكن إن كن يردن أن يتعلمن شيئاً فليسألن رجالهن في البيت لأنه قبيح بالنساء أن تتكلم في كنيسة » (ع۳۵).
فإن كانت النساء لا يتكلمن ولا يسألن فلماذا يحضرن ولأي سبب ؟ لکی يسمعن ما يجب، وأما ما يرتبن فيه فيسألن عنه رجالهن في المنزل فيعلمنه.
ولماذا أمرهن بولس الرسول بمثل هذا الخضوع ؟ لكون المرأة ضعيفة ، وسريعة الميل ، ولذلك أقام الرجال عليهن معلمين.
«أم منكم خرجت كلمة الله أم إليكم وحدكم انتهت» (ع36) .
أي لستم أنتم أول الذين آمنوا ولا آمنتم بمفردكم بل المسكونة بأسرها.
«إن كان أحد يحسب نفسه نبياً أو روحياً فليعلم ما أكتبه إليكم أنه وصایا الرب. ولكن إن يجهل أحد فليجهل. إذا أيها الإخوة جدوا للتنبوء ولا تمنعوا التكلم بألسنة» ( ع۳۷ -۳۹).
أي إنه لا يجب الغم على المواهب الصغيرة وألا تصير الكبرياء على المواهب العظيمة ، ثم أوضح بولس الرسول أن الموهبة الواحدة ضرورية جداً والأخرى ليست كذلك.
« وليكن كل شيء بلياقة وبحسب ترتيب» (ع 40) .
لأنه ليس شیء يبینی کحسن الترتيب مثل المحبة والسلام ، كما أن مخالفة الترتيب تهدم ليس في الروحانيات فقط بل وفي سائر الأمور الأخرى.
أقرأ أيضاً
تفسير 2 كورنثوس 13 | تفسير رسالة كورنثوس الأولى | تفسير العهد الجديد |
تفسير 2 كورنثوس 15 |
القديس يوحنا ذهبي الفم | |||
تفاسير رسالة كورنثوس الأولى | تفاسير العهد الجديد |