تفسير رسالة كورنثوس الثانية ١٠ للقديس يوحنا ذهبي الفم

تفسير كورنثوس الثانية – الإصحاح العاشر

 

«ثُمَّ أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ بِوَدَاعَةِ الْمَسِيحِ وَحِلْمِهِ، أَنَا نَفْسِي بُولُسُ الَّذِي فِي الْحَضْرَةِ ذَلِيلٌ بَيْنَكُمْ، وَأَمَّا فِي الْغَيْبَةِ فَمُتَجَاسِرٌ عَلَيْكُمْ. وَلكِنْ أَطْلُبُ أَنْ لاَ أَتَجَاسَرَ وَأَنَا حَاضِرٌ بِالثِّقَةِ الَّتِي بِهَا أَرَى أَنِّي سَأَجْتَرِئُ عَلَى قَوْمٍ يَحْسِبُونَنَا كَأَنَّنَا نَسْلُكُ حَسَبَ الْجَسَدِ.» (ع2،1)

قول بولس الرسول « ولكن أطلب أن لا أتجاسر وأنا حاضر بالثقة التي بها أرى أنى سأجترئ على قوم » هذا القول أصعب من ذاك التوعد الذي قاله في رسالته الأولى إلى كورنثوس حيث قال « ماذا تريدون ، أبعصا آتى إليكم أم بالمحبة وروح الطاعة » (1کو 4 :21) وهنا تضرع إليهم باجـتـهـاد هذا مـقـداره ألا يلتـزم بإظهار قوته الـمعذبة فينتهرهم ويقاصصهم ويطالبهم بأدق المطالب لأن هذا الأمر هو بالحرى صفة المعلم في ألا يكافئ بسرعة بل يعمل متأنياً دائماً ومتباطئاً في القصاص.

وقوله « سأجترئ على قوم يحسبوننا كأننا نسلك حسب الجسد » إذ سمى الذين توعدهم قوماً ، الذين يحسبونه أنه يسلك فيما يخص الجسد لأنهم اتهموه بأنه مرابي وخبيث ومتكبر .

«لأَنَّنَا وَإِنْ كنَّا نَسْلُكُ فِي الْجَسَدِ، لَسْنَا حَسَبَ الْجَسَدِ نُحَارِبُ.» (ع3)

اعترف بولس الرسول هنا إننا نوجد في الجسد إلا إننا لا نعيش حسب الجسد. وقوله « لسنا حسب الجسد نحارب » أي تسلمنا قتالاً وحرباً ، لكننا لا نحارب بأسلحة بشرية.

«إِذْ أَسْلِحَةُ مُحَارَبَتِنَا لَيْسَتْ جَسَدِيَّةً، بَلْ قَادِرَةٌ بِاللهِ عَلَى هَدْمِ حُصُونٍ. هَادِمِينَ ظُنُونًا وَكُلَّ عُلْوٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ اللهِ، وَمُسْتَأْسِرِينَ كُلَّ فِكْرٍ إِلَى طَاعَةِ الْمَسِيحِ،» (ع4 ،5)

قول بولس الرسول « أسلحة محاربتنا ليست جسدية » فما ، هی الأسلحة الجسدية؟ هي : الغنى ، الشرف ، المقدرة ، الفصاحة ، الاقتدار ، الحصون ، التملق ، الرياء والأشياء الأخرى التي تشبهها.

ولم يقل لسنا جسديين وإنما قال « أسلحة محاربتنا ليست جسدية».

وقوله « بل قادرة بالله » إذ نسب القوة كلها لله ، ولم يقل إنها روحانية مع إن هذا القول هو ضد الجسداني وإنما قال « قادرة » ولهذا أشار موضحاً أن أسلحة أولئك ضعيفة ولا قوة لها.

وتأمل عدم تشامخ بولس الرسول ، لأنه لم يقل نحن أقوياء وإنما قال إن أسلحتنا «قادرة بالله» لأن هذا الأمر يوضح بالحرى القوة. 

وقول بولس الرسول « على هدم حصون ، هادمين ظنوناً وكل علو يرتفع ضد معرفة الله » فلئلا إذا سمعت كلمـة « حـصـون » تعتبرها حسية ، إذ سمى بالحصون تشامخ اليونانيين وقوة مغالطتهم وقياساتهم ، ولذلك قال « هادمين ظنوناً وكل علو يرتفع » فهذا التمثيل أوضح الافتخار وبرهن على معنوية هذه الحرب ، لأن هذه الحصون تحاصر الأنفس لا الأجساد وتحيط بها ولذلك هي أقوى منها.

وقوله « ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح » وحيث إن اسم الأسر ثقيل لذلك حل القضية بسرعة إذ قال « إلى طاعة المسيح » منتقلين من العبودية إلى الحرية ومن الموت إلى الحياة ومن الهلاك إلى الخلاص ، فلم نأت لنضع الناس في الأسر مطلقاً بل لننقل المخالفين إلى الحق.

«وَمُسْتَعِدِّينَ لأَنْ نَنْتَقِمَ عَلَى كُلِّ عِصْيَانٍ، مَتَى كَمِلَتْ طَاعَتُكُمْ.» (ع6)

أى أننى لو فعلت ذلك الآن لألقيتكم أنتم في العقاب ، والواجب إنما هو أن أقـاصـص أولئك وأشـفـق عليكم ، أمـا الآن فلست أوثر ذلك بل قـصـدى تقويمكم وإصلاحكم أولاً وعند ذلك نتقدم إلى أولئك.

أي أحشاء وديعة أكثر من هذا الذي إذ كان يرى ذويه مختلطين بالأجانب وكـان قـصـده أن يأتيـهـم بالضربة ، فضبط الغضب إلى أن ينفصلوا عنهم ، لهـذا السبب يتوعدهم إذ أن قصده أن يُكافئ أولئك وحدهم لكي يتقوم هؤلاء بالخوف فينفصلوا عنهم فلا يمسهم شيء من الغضب.

وكان بولس الرسول يفعل أموره كلها كالطبيب الفاضل والأب المعتنى والمدبر فهـو يعتنى بالكل مزيلاً كل عائق دافعاً المفسدين ومقصيهم وهو يسعى في كل موضع لا كالمحارب يفعل أموره هكذا بل كان كالمتقدم إلى غلبة رافعاً رايات النصر داحضاً وهازماً حصـون الـمحال وحيل الشيطان ، ولم يسترح ولا القليل جائلاً مـتنقـلاً من عند هؤلاء إلى أولئك ، ومن عند أولئك إلى هؤلاء كـقـائـد جيـوش حاذق ، فيقيم كل يوم رايات الغلبة لا بل كل ساعة ، لأنه بالثـوب فقط كان يدخل المعسكر فيقتلع مدن الأضداد برجالها والأقواس والعصى والسهام كلها كان يقـتـلعـهـا لسـان بولس الرسول لأنه كان ينطق فقط فكانت تتساقط ألفاظه على المحاربين أشـد قـوة من كل نار فكانت كلماته تطرد الشياطين وتارة كـان يقـوم الأعرج وتارة كان يقيم الميت ( أع ۲۰ : ۹ – ۱۲ ) .

«أَتَنْظُرُونَ إِلَى مَا هُوَ حَسَبَ الْحَضْرَةِ؟ إِنْ وَثِقَ أَحَدٌ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ لِلْمَسِيحِ، فَلْيَحْسِبْ هذَا أَيْضًا مِنْ نَفْسِهِ: أَنَّهُ كَمَا هُوَ لِلْمَسِيحِ، كَذلِكَ نَحْنُ أَيْضًا لِلْمَسِيحِ!» (ع7)

حسب قول بولس الرسول « أتنظرون إلى ما هو الحضرة » أي أتنظرون حسب الوجه ، وهذه الزلة ليست بصـغـيـرة بل عظيـمـة جـداً ، فهل تخـتـبـرون الناس من حسب الظواهر من الجسدانيات ، من البشريات ؟!

وقوله « كما هو للمسيح نحن أيضاً للمسيح » أي كما هو للمسيح وأنا أيضاً للمسيح ؛ الشركة حسب هذا لأنه لا يجب أن يكون هو للمسيح وأنا لآخر .

«فَإِنِّي وَإِنِ افْتَخَرْتُ شَيْئًا أَكْثَرَ بِسُلْطَانِنَا الَّذِي أَعْطَانَا إِيَّاهُ الرَّبُّ لِبُنْيَانِكُمْ لاَ لِهَدْمِكُمْ، لاَ أُخْجَلُ.» (ع8)

لم يقل بولس الرسول أفتخر وإنما قال « إن افتخرت » أي إن شئت الافتخار إذ يتواضع هنا ويوضح السمو معاً فإن افتخر فهو من أجل السلطان الذي أعطاه له الرب ثم ينسب الكل للرب.

وقوله « لبنيـانـكـم لا لـهـدمكم » رأيت كيف يداوى الحسد الناتج من المدائح مستميلاً السامع إذ ذكر الحاجة التي لأجلها أخذ السلطان.

ومعنى قوله « لا أخجل » أى أننى لا أظهر كاذباً أو متكبراً.

«لِئَلاَّ أَظْهَرَ كَأَنِّي أُخِيفُكُمْ بِالرَّسَائِلِ. لأَنَّهُ يَقُولُ:«الرَّسَائِلُ ثَقِيلَةٌ وَقَوِيَّةٌ، وَأَمَّا حُضُورُ الْجَسَدِ فَضَعِيفٌ، وَالْكَلاَمُ حَقِيرٌ». مِثْلُ هذَا فَلْيَحْسِبْ هَذَا: أَنَّنَا كَمَا نَحْنُ فِي الْكَلاَمِ بِالرَّسَائِلِ وَنَحْنُ غَائِبُونَ، هكَذَا نَكُونُ أَيْضًا بِالْفِعْلِ وَنَحْنُ حَاضِرُونَ.» (ع9-11)

وحيث إنهم كانوا يقولون إن بولس الرسول كتب في رسائله أقوالاً عظيمة في شأن نفسه وأما في حضوره فلا عبرة به ، لذلك قال بولس الرسول هذه الأقوال وقالها أيضاً وهو محتشم لأنه لم يقل كما نكتب في الرسائل أقوالاً عظيمة وقد نفعل أفعالاً عظيمة في حضورنا ، بل قال ذلك بالحرى بتواضع لأنه عندما تكلم عن أولئك وضع ذلك بحدة إذ قال : فأسألكم إذا حضرت أثق بالأمل الذي أفكر فيه ولذلك قال كما نحن ـ في حضورنا كذلك في غيابنا أيضاً ـ متواضعون لا  نتكبر البتة.

«لأَنَّنَا لاَ نَجْتَرِئُ أَنْ نَعُدَّ أَنْفُسَنَا بَيْنَ قَوْمٍ مِنَ الَّذِينَ يَمْدَحُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَلاَ أَنْ نُقَابِلَ أَنْفُسَنَا بِهِمْ. بَلْ هُمْ إِذْ يَقِيسُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَيُقَابِلُونَ أَنْفُسَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، لاَ يَفْهَمُونَ.» (ع12)

هنا أوضح بولس الرسول بأنهم متكبرون وناطقون بالعظمة في أنفسهم مستهزئاً بهم كونهم يمدحون أنفسهم ، وأما نحن فليس فينا شيء من مثل هذا ، بل وإن فعلنا شيئاً عظيماً فننسب الأشياء كلها لله مقايسين أنفسنا بعضنا لبعض.

«وَلكِنْ نَحْنُ لاَ نَفْتَخِرُ إِلَى مَا لاَ يُقَاسُ، بَلْ حَسَبَ قِيَاسِ الْقَانُونِ الَّذِي قَسَمَهُ لَنَا اللهُ، قِيَاسًا لِلْبُلُوغِ إِلَيْكُمْ أَيْضًا.» (ع13)

قول بولس الرسول « القانون الذي قسمه لنا الله » أى قسم لنا هكذا كالمقسم الكرم للفعلة حتى إلى حيث استحققنا أن نصل إلى هذا الحد نفتخر.

«لأَنَّنَا لاَ نُمَدِّدُ أَنْفُسَنَا كَأَنَّنَا لَسْنَا نَبْلُغُ إِلَيْكُمْ. إِذْ قَدْ وَصَلْنَا إِلَيْكُمْ أَيْضًا فِي إِنْجِيلِ الْمَسِيحِ. » (ع14)

أى لم نجئ إليكم عبثاً ، لكن خبرناكم وكرزنا واقنعنا وقومنا.

«غَيْرَ مُفْتَخِرِينَ إِلَى مَا لاَ يُقَاسُ فِي أَتْعَابِ آخَرِينَ، بَلْ رَاجِينَ ­إِذَا نَمَا إِيمَانُكُمْ­ أَنْ نَتَعَظَّمَ بَيْنَكُمْ حَسَبَ قَانُونِنَا بِزِيَادَةٍ، لِنُبَشِّرَ إِلَى مَا وَرَاءَكُمْ. لاَ لِنَفْتَخِرَ بِالأُمُورِ الْمُعَدَّةِ فِي قَانُونِ غَيْرِنَا. » (ع15-16)

قول بولس الرسول « غير مفتخرين إلى ما لا يقاس في أتعاب آخرين » أوضح هنا مذمة أولئك بزيادة لأنهم كانوا يفتخرون فيما يفوق قدرتهم وفى الأتعاب الغريبة يتباهون بأتعابهم ، وأما نحن فقد أوضحنا ذلك بالأفعال فلا نماثلهم إذا وإنما نقول هذا حيث تشهد لنا أعمالنا.

وقوله « بل راجين إذا نما إيمانكم أن نتعظم » لم يحتم بذلك مطلقاً كما هی عادته ، لكنه يقول « إذا نما إيمانكم » إذ أن قانوننا يمتد إلى ما هو أبعد لنبشر في الأصقاع التي تتجاوزكم لنتقدم إلى ما هو أبعد ، لنكرز ونعمل ليس لنعلو بالأقوال مفتخرين بالتي فعلها الغير.

«وَأَمَّا:«مَنِ افْتَخَرَ فَلْيَفْتَخِرْ بِالرَّبِّ». لأَنَّهُ لَيْسَ مَنْ مَدَحَ نَفْسَهُ هُوَ الْمُزَكَّى، بَلْ مَنْ يَمْدَحُهُ الرَّبُّ. » (ع17، 18)

أثبت بولس الرسول أن العمل كله لله ، فإذ له مثل أعمال هؤلاء ، ويرجو ما هو أعظم من ذلك لا يتباهى كأولئك الذين ليس لهم شيء ، ولم يحسب شيء له بل الكل لله ، لأن هذا يكون لنا من الله.

فاصل

فاصل

تفسير 2 كورنثوس 9 تفسير رسالة كورنثوس الثانية تفسير العهد الجديد
تفسير 2 كورنثوس 11
 القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير رسالة كورنثوس الثانية تفاسير العهد الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى