تفسير رسالة كولوسي 3 للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثالث 
المسيح والحياة الداخليَّة

 

حدّثنا الرسول بولس في الأصحاحين السابقين (1، 2) عن سمو السيّد المسيح، فهو العمق الذي يحملنا بروح الرجاء إلى السماء. وهو العلوّ الذي إذ نتأصّل فيه ونتأسّس فلن يهتز بناؤنا. الآن يحدّثنا عن المسيح السماوي الذي يقيمنا لنختبر السماويّات، وتتجدّد حياتنا فيه كل يوم، ويقود كل مشاعرنا وسلوكنا في البيت كما في الجماعة.

لا يمكن لحياتنا أن تنمو في أعماقها ولا أن ترتفع إلى أعلى ما لم تنمو داخليًا. يجب أن نعرف أن المسيح هو حياتنا، يسكن فينا. السيّد المسيح هو قانون حياتنا والموجّه لسلوكنا الخارجي كما الداخلي.

 

1. الحياة مع السماوي 1-4

“فإن كنتم قد قمتم مع المسيح،

فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله” [1].

بعد أن حذرهم من البدع التي تحط من شأن السيد المسيح وعمله الخلاصي، كشف لهم عن بركات الاتحاد مع المسيح القائم من الأموات والصاعد إلى السماوات.فالمؤمن يطلب ما هو فوق، أي يشتاق ويسأل ويجاهد بالنعمة الإلهيَّة لكي يتمتّع بما هو لمملكة المسيح. هذا يتطلّب منه رفع فكره ليستقرّ هناك.

رفع القلب والفكر هو عطية إلهيّة، لكن يلزمنا أن نسعى لنوالها. سبق فتحدث عن الدفن مع المسيح في المعمودية، لا لنبقي كما في القبر بل نقوم معه، حسب وعده الإلهي: “لأني أنا حي فأنتم ستحيون” (يو 14: 19). إنه حي قائم في السماوات، يسحب قلوبنا وأفكارنا إليه، فنحيا معه متهللين في السماويات.

إذ رأى التلاميذ الرب صاعدًا إلى السماء رجعوا إلى أورشليم بفرحٍ عظيمٍ يسبحون الله ويباركونه (لو 24: 51-53). ونحن إذ نقوم معه ونصعد بقلوبنا إليه نتحرر من سلطان الخطية التي لا موضع لها في السماويات. نترنم مع الرسول قائلين: “لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد اعتقني من ناموس الخطية والموت” (رو 8: 2).

وإذ نحن متأصلوِّن في المسيح وحياتنا هي فيه, فنحن ليس فقط نموت معه, بل نتمتع بالوحدة معه في قيامته وتصعد قلوبنا معه, ففي موت المسيح متنا عن الخطية، وفي قيامته قمنا لنحيا حياة جديدة. وبصعوده نعاين كنوز غنى ومباهج السماويات. حياتنا الجديدة في المسيح تحررنا من الاهتمام بأمور هذا العالم، فنصير “أمواتا عن العالم” ونجد أن حياتنا الحقيقية هي في المسيح الصاعد إلى السماوات ومعه. كلما نعرفه نكتشف تدريجيًا الجمال الكامن في الشركة مع ربنا يسوع، فنتمتع بالشركة في سماته، كالحب والرحمة والرأفة والوداعة والرأفة وطول الأناة [12].

كما دخل يشوع بشعب الله إلى كنعان لينال كل واحدٍ نصيبه في أرض الموعد (يش 11: 23)، هكذا يصعد بنا ربنا يسوع إلى كنعان السماوية كقائدٍ لموكب النصرة، فينال كل مؤمن نصيبه في المجد السماوي.

اُخترعت الغواصةُ لتبحرَ تحت الماء. ومع هذا تزُوِّد الغواصة بمنظارٍ مكبر, به تفتش عن الأشياء التي على سطح المياه, فهي تمخض عباب المياه، لكن سلامتها في الداخل مرتهنة بما يتوفر لديها من معرفة للأمور العلوية. ونحن نعيش في العالم, لكن فلتملاْ السماءُ أَفكارنا. إذ نثبت أنظارنا على المسيح وهو يجتذبنا إلى أَعلى.

المسيحيةُ ليست سلسلةً من أعمال التخلي فقط، بقدر ما هي تمتع بالحياة الجديدة, فكُلَّما عرفنا المسيح أفضل لا تعود أمور كثيرة تجتذب اهتماماتنا. إذ يضيف المسيح الكثير إلى حياتنا فلا تتسع لمزيد من الأمور العتيقة. به فقدنا متعة اللذة بأعمال الإنسان العتيق, وصرنا الآن منشغلين تمامًا بالحياة الجديدة في المسيح.

ربما يتساءل البعض: مادمنا نقوم مع المسيح ونطلب ما هو فوق، فلماذا نسقط في الخطية؟

اتكالنا على ذواتنا دون طلب عون النعمة الإلهية خلال الشركة المستمرة مع الله بغير انقطاع.

التهاون في الصغائر. إذ نحظى بالنعم الإلهية يبيد أغلبها بسبب إهمالنا.

يقول معلمنا يعقوب: “كل واحد يجرب إذا انجذب وانخدع من شهوته” (1: 14). يجب ألا يكون لنا أي ارتباط بالطبيعة العتيقة, إذ يطالبنا القديس بولس أن نميت شهواتنا الشريرة. فإذ ننال حياتنا الجديدة في المسيح يسوع, نخلع الحياة العتيقة بكل أفعالها. يحثُّنا القديس بولس أن نُميت الطبيعة القديمة، فنكُف عن كل رذائلها والتي ضمها بولس في قائمة واحدة, أي الموت والفساد والنجاسة والشهوة الردية والطمع, ثم الغضب الناجم عن الأهواء الردية والنقمة وخطايا الكلام الكثيرة, فلنكف على الدوام عن تلك الخطايا, وهذا الأمر مستطاع في المسيح. هل تتخيلون كم تكون سخافتنا إِن اشترينا ثوبًا جديدًا، لكننا رفضنا أن نخلع القديم الذي لبسناه, فنصُّر على لبس الجديد دون أن نخلع عنا القديم! إن كثيرين من المسيحيين يفعلون ذلك. إنهم يحاولون أن يلبسوا ثوب الحياة الجديدة فوق طبيعتهم القديمة. وهذا لا يحدث مطلقًا. فعلينا أولًا أن نترك الخطية ونحن نلبس الحياة الجديدة.

التوقف عن النمو, فمع كل يوم نتمتع بما هو جديد علينا أن نتعلمه. يليق بنا أن نتشبه بالرسول بولس فنشتهي أن ننمو لنبلغ إلى قامة ملء المسيح.

سلوك المسيحي هو ما يراك الناسُ تمارسه, كما تشير الملابس إلى الكثير من طباعك. إن كنت مهملًا أم مهتمًا, إن كنت جنديًا أم مدنيًا, ملكا أم مِن العامة, هكذا فإن التعبير الخارجي يُظهِر لمن تنتمي ومَن تخدم (أع 23:27).

هذه الحياة الجديدة التي نقبلها من المسيح تتجدد دومًا كلما نمونا في معرفة ربنا ومخلصنا. لكن يليق بنا ونحن ننشغل بالامتيازات العظيمة التي لنا في المسيح, لا نهمل واجبنا من نحو رفقائنا. معرفتنا للمسيح تجعلنا نفكر بالأكثر في الآخرين فنتعلم أكثر عن تلك الحياة الجديدة: كاللطف والرأفات والوداعة وطول الأناة والغفران والحب [12-14]. أجل فإن تلك هي الأمور التي يجب أن نتحلى بها. فإن عشنا هكذا نحظى بالكمال ونحن على الأرض. ويقول القديس بولس إن تلك الفضائل تشبه قطعًا من القماش منسوجةً كُلٍ منها في موضعها كما بحزام من حب (1 كو 13). وهذا الأمر يملاْ حياتنا بسلام الله.

يوصي القديس بولس أن “نطلب ما فوق“، أي “الحياة السماوية المتهللة على مستوى عالٍ. فقلب المسيحي قلب مرتل (16:3). ويريدنا المسيح أن نتعلم كلامه, ويريدنا أن نعبِّر عن فرحنا فيه بالتسابيح والترانيم فنشارك السماويين حياتهم.

الحياة السماوية ليست بالأمر الفوري ولا السهل. إنما تتطلب جهادًا مستمرًا وطلبًا له وسعيًا لأجل إتمامها. يلزمنا أن نطلب مشيئة الله السماوي, من أجَّل الله ذاته.

*     فلنطلب ملكوته وبره (مت 33:6) لننال اتساعًا في الأرض. فلنفكر في السماويات ونتأمل فيها, حيث رُفِّع المسيحُ وارتفع. لكن هيا بنا نهجر العالم الذي هو ليس عالمنا, لنبلغ الموضع الذي دُعينا إليه, فلنرفع عيوننا عاليًا, لنرى البهاء الذي يُعلن. فلنرفع أجنحتنا كملائكة, لنرى الجسد الموضوع هناك[190]

الأب أفراحات

*     قد قمنا مع المسيح، فلنحيا فيه ونصعد معه, حتى لا تجد الحّيةُ عقبنا لتلدغه على الأرض[191].

القديس أمبروسيوس

*     يا للعجب! أنه قد رفع أذهاننا إلى فوق! وكيف ملأها بالإلهام القدير! فلا يكفي القول, “الأمور التي هي فوق” بل و”حيث المسيح كائن” بل وأكثر “حيث جالس عن يمين الله” ومن هذه النقطة كان يعدهم ليروا الأرض[192].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     يزعم البعض أن القيامة هي للجسد فقط, لهذا يقولون إن تلك القيامة الأولى (التي في سفر الرؤيا) هي قيامةٌ جسدانية فقط, لأنهم بحسب زعمهم, يقولون إن الذي يقوم ثانية هو شيء قد سقط, والأجساد الآن تسقط بالموت لهذا لا يمكن أن تكون هناك قيامة للنفوس, بل للأجساد. لكن ماذا هم قائلون للرسول الذي يتحدث عن قيامة النفوس؟ لأن كلامه كان موجهًا إلى الإنسان الداخلي لا الخارجي. بالتأكيد حينما قال “إن كنتم قد قمتم مع المسيح, فاطلبوا ما فوق“، ونفس المعنى نراه في عبارة أخرى “كما قام المسيحُ من الموت بمجد الأب هكذا نسلك نحن أيضًا في جِدة الحياة”[193]

*     هو قد سبقنا, ونحن قد قمنا فعلًا معه, لكننا لا نزال على الرجاء[194].

*     السماوات تعلن مجد الله” من هم السماوات؟ أولئك الذين صاروا كرسيه؛ لأنه كما يجلس الله في السماء, هكذا يجلس في الرسل، وهكذا يجلس في كارزي الإنجيل. حتى أنتم, إن أردتم, تصيرون سماءً.

هل تشتاقون أن تصيروا سماءً؟ طهروا قلوبكم من الأرض! فإذ لا تكون لكم شهوات أرضية, ولا تنطقوا عبثا: “قلوبنا هي فوق”، تصيرون سماءً . “فإن كنتم قد قمتم مع المسيح” كما يقول الرسول للمؤمنين فتشتهون ما هو فوق، ولا تشتهون ما هو بأسفل على الأرض, أفلا تصيرون سماءً؟ أنتم تحملون جسدًا, لكن بسيرتكم تحيون حياة السماء, وإِذ أنتم هكذا, فأنتم تعلنون المسيح (للناس) لأنه مَن من المؤمنين لا يُعلن المسيح؟[195]

*     الكنيسة الآن هي ملكوت المسيح وملكوت السماوات. ومن ثم, فإنه حتى الآن يحكم معه قديسون، وإن كان بشكلٍ مختلفٍ عن حكمهم معه بعد الموت. إذ ينمو الزوان مع القمح في الكنيسة، فإنهم لا يحكمون معه, لأنه لا يحكم معه إلا الذين يقول الرسول عنهم: “فإن كنتم قد قمتم مع المسيح, فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله, ولا تطلبوا ما على الأرض“. وعن هؤلاء يقول أيضًا إن سيرتهم هي في السماويات. وفي النهاية فإنهم يحكمون معه الذين هم هكذا في ملكوته فهم أنفسهم ملكوته, لكن بأي مفهوم يُعَّد هؤلاء ملكوت المسيح, إلا أولئك الذين بالرغم من وجود كل الرذائل في العالم وحتى زواله لا يطلبون ما للعالم بل ما للمسيح[196].

*     ليس عبثا ذكَّرهم بأن يرفعوا قلوبهم… ولم يكن عبثا ما قيل: “إن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق, حيث المسيح جالس عن يمين الله“. اشتهوا الأمور العلوية، ولم يطلبوا ما على الأرض. طالما أن لهم سيرتهم هناك في السماويات، فإنهم يحملون الله، وهم بذلك سماء, إنهم عرش الله وحينئذ يعلنون كلمات الله “السماوات تحدث بمجد الله”[197].

القديس أغسطينوس

*     قد دُعيتم لاهتمامات أخرى أكثر نبلًا (شرفا): “اطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس” (كو 1:3). ارفعوا نفوسكم فوق مستوى الأرضيات, ومن السماء تستمدون قاعدة سلوكياتكم. ثبتِّوا سيرتكم في السماء، فإن موطنكم الحقيقي هي أورشليم السماوية (في 20:3) ومواطنوكم وأتباعكم هم “الأبكار المكتوبة أسماءهم في السماء” (عب 23:12)[198].

القديس باسيليوس الكبير

*     يقول القديس بولس: “فإن كنتم قد قمتُم مع المسيح فاطلبوا ما فوق“. ويضيف: “لأنكم قد مُتم، وحياتكم مستترة مع المسيح في اللَّه. متى أُظهر المسيح حياتنا فحينئذ تُظهرون أنتم أيضًا معه في المجد” [1-4]. تختفي فينا الحياة حسب الجسد إذا أمَتْنا طبيعتنا الدنيئة، ثم نقلنا طموح حياتنا من الأرض إلى السماوات. كما يقول المثل: “الحكماء يدَّخرون معرفة” (أم 14:10). ثم ننتظر الحياة الحقيقية، ويظهر المسيح فينا، ونمتلئ بمجده، ونتحول إلى حالة مقدسة. دعونا الآن نستمع إلى كلمات النشيد وكأننا متنا بالجسد، فلا ننجذب إلى الكلمات ذات المعنى الجسدي. فيتحول الشخص الذي مات عن الأهواء إلى حياة القداسة، من المعنى اللفظي لكلمات النشيد إلى معانٍ نقية وغير ملوثة. ولما كان فكره خاليًا من الأمور الأرضية، لذلك يُشغل فكره بالأشياء العليا حيث المسيح الخالي من الهوى، والجالس عن يمين مجد اللَّه (كو 1:3). دعونا الآن نستمع إلى الكلمات التي تصف جمال العروس النقي. ليتنا نستمع وكأننا لانشارك في طبيعة الجسد وننتقل إلى دائرة الروح[199].

القديس غريغوريوس النيسي

*     عندما يشخص العقل إلى داخله، يراهم (البشر) جميعًا على شكل صورة الله (تك 1: 26- 27) التي خُلقوا عليها. فلا يكن في هذه الرؤيا الخاصة بهذه الحالة بار وخاطي، ولا عبد وحر، ولا ختان وغرلة، ولا ذكر ولا أنثى، بل يرى المسيح الكل في الكل[200].

القديس يوحنا الدلياتي

“اهتموا بما فوق، لا بما على الأرض” [2].

يمثل أدم الطبيعة البشرية وكل ما هو أرضي, أما المسيح, آدم الثاني، فإنه يمثل السماويات (1 كو 45:15-49)، فعلامَ نثبت فكرنا وقلوبنا؟

 يرى القديس جيروم أن الذي يرتفع قلبه وفكره إلى السماء يكون كعصفورٍ طائرٍ في السماء فلا تقدر الحية التي تزحف على الأرض أن تبتلعه. ويرى القديس أغسطينوس أن مثل هذا المؤمن يتحول من ترابٍ إلى سماءٍ، فلا يصير مأكلًا للحية التي تلحس تراب الأرض.

*     الجسد أرضي (ترابي), لكن لترفض أَن تكون أرضًا. ما معنى ذلك؟ “اشتهِ ما فوق, لا ما على الأرض“. إن كنتم لا تشتهون الأرضيات فلستم أرضًا, وإن لم تكونوا أرضًا, فلن تخدعكم الَّحية, التي طعامها المفضل هو الأرض[201]

القديس أغسطينوس

إذ ترتفع قلوبنا إلى السماء تسمو كل انفعالاتنا وحواسنا وعواطفنا وكل طاقاتنا لتسبح في السماويات ولا تُمتص في الأمور الجسدانية.

*     هكذا إذا ما ساد التعقل تلك الانفعالات كلها, تتحول إلى شكل من أشكال الفضيلة, إِذ يُنتج الغضب شجاعة, والخوف حذرًا، والمخافةُ طاعةً, أما الكراهية فتتحول نحو الرذيلة, وتصير قوة الحب هي الرغبة فيما هو جميل بالحقيقة. إِن روحنا الخفاقة فينا ترتفع فوق أفكارنا وأهواءِنا وتحفظها من العبودية لما هو دنيء, أجل إن الرسول العظيم يمتدح مثل هذه الرفعة الذهنية حينما يحثنا على الدوام أَن “نفتكر فيما هو فوق“، ومن ثم نجد أن كل عاطفة حينما ترتفع وتسمو بسمو عقولنا, فإِنها تماثل جمال الصورة (الأيقونة) الإلهية[202]

القديس غريغوريوس النيسي

*     انظروا كيف انطلق بأحاسيسهم إلى السماويات. لأنه كما قُلت, إذ يكرر دائمًا أن لهم ما للمسيح، وفي كل رسائله ينِّبر على هذا الأَمر, ليوضح أنهم شركاء في كل شيء مع المسيح؛ لهذا يستخدم الألفاظ رأس وجسد، ويبذل كل ما في وسعه ليوصل إليهم (هذا المعنى)[203]

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     لكي نتذوق الأمور العلوية, لا بُد أن نؤمن أن المسيح في جلوسه لا يطيع كواحد يتلقى أوامر أو وصايا، بل هو ممجد باعتباره الابن الحبيب الوحيد. أما بخصوص جسد المسيح فيقول الأب: “اجلس عن يميني، فأضع أعداءك تحت موطئ قدميك”[204].

القديس أمبروسيوس

“لأنكم قد متم،

وحياتكم مستترة مع المسيح في الله” [3].

الموت الذي يتحدث عنه هنا ليس الموت البدني، ولا هو الانفصال عن الله. فالموت انفصال, لكن الانفصال هنا عن العالم وشروره بل هو أيضًا بمعنى أن ندير ظهورنا إلى أساليب حياتنا القديمة.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم بأن السيد المسيح كاللؤلؤة التي تظل مختفية طالما هي في قلب القوقعة الصدفية.

*     لا شيء أكثر بركة من ذلك الدفن (مع المسيح), حيث يفرح الجميع, الملائكة والبشر ورب الملائكة, في هذا الدفن لا حاجة لنا إلى ثياب ولا إلى أية أربطة ولا إلى أي شيء من ذلك, فهل ترون رمز ذلك؟ سأريكم حين دُفن الإنسان وذلك الجرن حيث قام. في البحر الأحمر غرق المصريون في القاع, لكن خرج منه الإسرائيليون سالمين, هكذا أيضًا, فإنه يدفن الواحد ويقوم الآخر. لا تتعجبوا من أن الميلاد والموت يحدثان في آن واحد داخل المعمودية[205]

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     ضيق هو طريق التوبة (مت 7: 14)، لكنه يقود إلى الملكوت للصيرورة مع المسيح في الله. وواسع هو طريق الراحة والتلهي، لكنه يوصل إلى ظلمة الشيطان للصيرورة معه في جهنم[206].

القديس يوحنا الدلياتي

*     قيل لبطرس “اذبح وكل” ولا تبتلع بسرعة، لأنه ما من إنسان يدخل جسد الكنيسة إلا الذي ذُبح أولًا، أي إلا إذا مات, ليصبح إلى ما لم يكن عليه. فمن لا يّذبح ولا تأكله الكنيسة قد يُحسب مع العدد المنظور من الشعب, لكنه لا يُحسب مع الشعب المعروف لدى الله, حيث يقول الرسول “الرب يعرف خاصته”[207]

القديس أغسطينوس

وحياتكم مستترة مع المسيح في الله” أية حياة؟ بالتأكيد ليست حياة أجسادنا، بل علاقتنا الروحية بالله، وتنفيذ مشيئته فينا. المسيح هو حياتنا، وعلينا أن نحيا كما يحيا هو (1 يو 6:2).

“متى أٌظهر المسيح حياتنا،

فحينئذ تظهرون أنتم أيضًا معه في المجد” [4].

*     هنا عن الأرض, لم يكن بولس نفسه يحيا في مجدٍ. فقد كان يئن حقيقة في جسد الموت, إذ نسمعه يقول: “لأن حياتنا الآن مستترة مع المسيح في الله, وحينما يظهر المسيح حياتُنا, سنظهر نحن أيضًا معه في مجد” [3-4][208].

القديس أمبروسيوس

*     إن كنا نترجى الأمور العتيدة ونئن لأجل السعادة المستقبلة, وإذ لم يظهر بعد ماذا سنكون, بالرغم من أننا فعلًا “أولاد الله” لأن “حياتنا مستترة مع المسيح في الله“، إنه ينتابنا اليأس الشديد بسبب الذين يطلبون أو يتمتعون بالسعادة في العالم[209]

*     يمتد الأصل عميقًا في الداخل, وحيث الجذر فهناك حياتنا أيضًا, فهناك حبنا مُثبَّت “وحياتنا مستترة مع المسيح في الله“. فمتى يذبل ذاك من كان هكذا متأصلًا؟ بل أين سيأتي ربيعنا؟ أين صيفنا؟ أين تكسونا كرامة الأوراق حولنا, ويُغنينا فيض الثمار؟ متى يحدث ذلك؟ اسمعوا ما يتبع: “حينما سيظهر المسيح الذي هو حياتنا, حينئذ أيضًا تظهرون أنتم معه في مجد” فماذا نفعل نحن إذن الآن؟ “لا تغتاظوا بسبب فاعلي الشر، ولا تحقدوا على عمال الإثم، إذ سرعان ما يذبلون كالعشب ويفنون كزهر العشب”[210]

القديس أغسطينوس

*     يقول الرسول: “حياتنا مستترة مع المسيح في الله“، فلا يجاهِّد أحد لكي يضيء، ولا يتكبِّر أحد ولا يفتَخر أحد. فالمسيح لم يشأ أن يكون معروفًا من أحد هنا ولم يطلب أن يُكرز باسمه في الإنجيل وهو لا يزال على الأرض. بل جاء ليختبأ عن هذا العالم. فلنخفِ نحن أيضًا كذلك حياتنا كما فعل المسيح (مقتدين بما فعله هو). فلنكف عن الافتخار لنكف عن أن نشتهي أن نكون معروفين. فالأفضل أن نعيش هنا في تواضع, وهناك في مجد. إذ يقول “حينما سيظهر المسيح فحينئذٍ سنظهر نحن أيضًا معه في مجد“[211]

القديس أمبروسيوس

*     لم يتحدث كثيرًا في الحقيقة عن أمور هذه الحياة, بل كانت معظم تأملاته في أمور السماء. “لأن سيرتنا في السماويات” (في 20:3). إذ يقول “لأن حياتنا مستترة مع المسيح في الله” [3] وأكاليلنا (حرفيا مكافأتنا) هناك. وجهادنا هو لأجل الأكاليل هناك. لأن تلك الحياة لا تنتهي بعد الموت, بل تضيء أكثر فأكثر. وفي الحقيقة فإن الذين يتبعون هذه القاعدة, لهم كرامة أعظم أكثر من الحاملين التيجان، عالمين أنهم رجال أعظم، يسعون لأجل أمورٍ أعظم[212]

القديس يوحنا الذهبي الفم

*      ألا يقول المرء (وهذا حق) إن الإنسان يموت عن العالم, إن رفض مباهج العالم لأجل الله؛ هكذا يعلن القديس بولس نفسه لنا, قائلًا: “حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به صُلبَ العالم لي” (غل 14:6) وأنا للعالم, إذ نصير شركاء له بواسطة الروح القدس الذي يختن كل نجاسة فينا بدون أيادٍ, فنصير أمواتًا عن العالم, ونحيا حياة السمو التي لله[213]

القديس كيرلس السكندري

*     في أي مجد؟ مجد القيامة. في أي مجد؟ اسمع الرسول يقول عن هذا الجسم: “يُزرع في هوان ويقوم في مجد” (1 كو 15: 43)[214].

القديس أغسطينوس

*     “فإذ ظهر المسيح الذي هو حياتكم تظهرون أنتم أيضًا حينئذٍ معه في المجد” [4].قد يشير ذلك إلى أيِّ من حادثتين: المجيء الثاني, أو تجليه بمجد في حياة المؤمن. ويعني الفعل “ظهر” أي انكشف أو أتي إلى النور (رو 21:3).

استخدام بولس لضمير (المخاطب أنتم you) لا يدلل على أن الأمر يخص المجيء الثاني, بل بالحري سمو وتمجيد الرب في حياة المؤمن. وهو يستخدم هذا الضمير، لأن القديس بولس قد صار فعلًا متشبها بالمسيح لهذا قال: “تمثلوا بي” (1كو1:11)، وهو الآن يطلب نفس الأمر لأهل كولوسي. 

*     يقول قائل, لكن أنتم أيضًا, تعطون وعودًا خاصة بهذا العالم, فبماذا وُعِدنا نحن في هذا العالم؟ غفران الخطايا وغسل التجديد. والمعمودية في المقام الأول دورها الرئيسي في الأمور العتيدة, ويتعجب بولس قائلًا: “لأنكم متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله” حين تظهر حياتكم, “فحينئذ أنتم أيضًا تظهرون معه في مجد” [4] لكن حياتنا في هذا الزمان أيضًا لها مزايا لهذا كان هذا الأمر محل تعجبهم الشديد حتى توفرت لديهم القدرة على إقناع الآخرين الذين مارسوا شرور كثيرة, أن يفعلوا ما لم يفعلوه قبلًا, مغتسلين من خطاياهم كلها، متناسين كل آثامهم, لهذا كان عجيبًا جدًا أنهم اقتنعوا[215]

القديس يوحنا الذهبي الفم

2. خلع أعمال الإنسان 5-9

“فأميتوا أعضاءكم التي على الأرض:

الزنى، النجاسة، الهوى، الشهوة الردية،

الطمع الذي هو عبادة الأوثان” [5].

فأميتوا أعضاءكم“: لا يعني هنا تدمير الأعضاء الجسدية، بل إماتة الإنسان العتيق أو الطبيعة الفاسدة التي ورثناها عن آدم، وتغلغلت فينا، وملكت على أعماقنا، فأفسدت إرادتنا وأفكارنا وعواطفنا وأحاسيسنا. وظهر آثارها على كل حياة الإنسان الداخلية وسلوكه، لهذا دعيت “الإنسان القديم“. إنها الطبيعة الفاسدة التي تثير الزنى والنجاسة والهوى والشهوة الرديئة والطمع، إن لم يكن في السلوك الظاهر ففي الفكر، وإن لم تكن بالفكر، تبقي كامنة في اللاشعور حتى تتحين الفرصة لتسيطر وتوجه كل كيان الإنسان.

ويذكر الرسول تلك الرذائل ويعددها – كما في 1 تس3:4-8، لكنه يضيف هنا “عبادة الأوثان“. وفي الحقيقة, فإن أي شيء يملاْ قلوبنا وعقولنا ويحل محل الله يمكن أن يُسَّمى الشهوة أو الهوى.

لا يليق بنا أن نتهاون مع أي فكر شرير خاطئ، فهو وإن كان قد مات فإن لبعضها قوة قيامة هائلة. ففي مقدورنا أن نميتها، وفي لحظة تنبعث فيها الحياة من جديد!

*     الطمع هو أصل كل الشرور ويُدعى عبادة أوثان (كو 5:3) فلا تفضلوا إذن الأصنام عن المسيح لأجل ربح قليل. ولا تقلدوا يهوذا فتخونوا من صُلِب لأجلنا لأجل حفنة من الفضة (رشوة). لأنه بالمثل تُدعى الأراضي وأيدي الذين اقتنوا مثل ذلك الربح: “حقل دم Aceldawa (أع 19:1)[216]

القديس باسيليوس الكبير

*     كتب الطوباوي بولس إلى أهل كورنثوس أنه دائمًا يحمل في جسده إماتة يسوع, ليس افتخارًا بأنه وحده كذلك, بل يحثهم ويحثنا ونحن أيضًا, وفي هذا فلنتبعه يا إخوتي. وليكن هذا دأب افتخارنا جميعًا في كل وقت. وفي هذا اشترك داود قائلًا في المزامير “لأجلك نًمات كل النهار, حُسبنا كغنمٍ للذبح” وقد صار هذا الآن فينا, خاصة خلال أيام العيد, حينما نصنع ذكرى موت مخلصنا. لأن من صار مثله في موته, واجتهد في ممارسة الفضائل، أمات أعضاءَه التي على الأرض، وصلب الجسد مع الشهوات والأهواء ويحيا حياة الروح القدس (في الروح) متمثلًا به.

القديس أغسطينوس

*     الذين ماتوا عن العالم ونبذوا تجارته, نالوا موتًا كريمًا لأنه “عزيز في عيني الرب موتُ أتفيائه” (مز 116: 15).

*     يقصد بالأعضاء التي على الأرض الضعف البشري، إذ يكمل قائلًا: “الطمع والدنس”  وباقي ما ذكره[217]

القديس أغسطينوس

*     الذين صاروا تابعين حقيقيّين للمسيح مخلصنا جميعًا يصلبون أجسادهم ويميتونها، وذلك بانشغالهم دائمًا في أتعاب وجهادات لأجل التقوى، وبإماتتهم شهوة الجسد الطبيعة[218].

*     فيه كياننا جميعًا, إذ قد أعلن ذاته إنسانًا، لكي يميت الأعضاء التي على الأرض, (كو 5:3, رو 23:7) أي شهوات الجسد، ولكي يطفئ نار ناموس الخطية التي تضطرم في أعضائنا، وحتى يقدس طبيعتنا، فيكون لنا نموذجنا الأمثل ومرشدنا في طريق التقوى، ويكملً استعلان الحق بحسب المعرفة وبحسب طريق الحياة التي تفوق إمكانياتنا الخاصة, هذا كله قد أتمه المسيح حين صار إنسانا[219].

*     قد أماتوا أعضاءهم التي على الأرض، واهتموا فقط بتلك الأمور التي لا تغضب الناموس الإلهي, وهو بالحري يستخدم الكلمة التي تحل محل كلمة مجد أو أن الذين يحكمون مع المسيح سيكونون محط حسد الآخرين مستحقين كل إعجاب[220].

القديس كيرلس السكندري

* ماذا أسوأ من الطمع؟

إنه أسوأ من أية شهوة. إنه مثير للحزن أكثر من الجنون الذي أتحدث عنه, وأخطر من الضعف السخيف أمام الملل إذ يقول: “الطمع الذي هو عبادة الأوثان” أرأيتم إِلام يقود الشر… لا أقول لكم هذا بسبب أحزان الفقراء بل لخلاصكم، لأنه سيهلك أولئك الذين لم يقوتوا المسيح

أخبروني إذن حينما قال: “أميتوا أعضاءكم التي على الأرض”, فهل اتهم الأرض أيضًا؟ أو هل يتكلم عن الأمور الأرضية كأنها خطايا؟

هاهو يسرد كل القائمة معًا, لأن الحسد والغضب والهوى كلها شهوات رديئة ولم يقل “عليكم” بل “على أبناء المعصية” [6][221].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     الذي يرغب في تكريس حياته لعبادة اللَّهلا يمكن أن يُعطّر بمجموعة الأعشاب العطرة المقدسة إلا إذا تحول هو نفسه إلى مرّ، أي إلا إذا أمات أعضاءه على الأرض (كو 3: 5)، بأن يُدفن مع الذي ذاق الموت لأجلنا، وأن يأخذ المر الذي كان على جسد المسيح في القبر لكي يُحنط به أعضاء جسده. ومتى تم إنجاز ذلك فإن كل العطور التي تنتج من ممارسة الفضيلة أثناء الحياة، تُطحن لكي تعطى “المسحوق العطر”، وكل من يستنشقه يصبح معطرًا ويمتلئ بروح العطر[222].

القديس غريغوريوس النيسي

*     يليق بنا أن نقدم له التقدمة التي يفرح ويسر بها في يوم قيامته مادام لم يعد يسر بالذبائح الحيوانية. يعطينا القديس غريغوريوس الإجابة عن السبب الذي لأجلهلم يعد يُسر بالذبائح الحيوانية، وهو قول الرسول بولس: “قدموا أجسادكم ذبيحة حيَّة مقدسة مرضية عند الله، عبادتكم العقلية” (رو 12: 1). لكن كيف نقدم أجسادنا ذبيحة حيَّة لله؟ حين لا نتبع شهواتنا الشريرة وأفكارنا الذاتية، بل نسير في الروح، ولا نكمل شهوة الجسد (غل 5: 16)… وذلك بأن نقمع شهواتأعضائنا الجسدية[223].

القديس دوروثيوس من غزة

*     لهذا وأنتم راقدون على فراشكم, رددوا المرةتلو المرة: “في الليل طلبتَ من تحبه نفسي”. ويقول الرسول: “أميتوا أعضاءكم التي على الأرض“، لأنه هو نفسه فعل ذلك, لهذا استطاع أن يقول في ثقة: “أحيا لا أنا، بل المسيح يحيا في” فالذي يميت أعضاءه ويشعر أنه يسير في عرض المبنى, لا يخشى أن يقول: “صرتُ كزقٍ في العاصف”. مهما كان في داخلي من رطوبة الشهوة فقد جف فيَّ”، وأيضًا: “ركبتاي ارتعشتا من الصوم, نسيتُ أن آكل خبزي، وبسبب صوت تأوهي التصقت عظامي بجلدي”[224].

القديس جيروم

*     هذا نفسه إذن ما جاء المسيحُ ليُحييه, فكما في آدم نموت جميعًا, كما من الطبيعة الحيوانية, هكذا نحن في المسيح نحيا جميعًا, كروحيين, فلا نتخلىعن صنعة يدي الله بل نترك شهوات الجسد ونقبل الروح القدس. كما يقول الرسول في الرسالة إلى كولوسي: “أميتوا أعضاءكم التي على الأرض,” والتي كما يشرحها هو نفسه “الزنى والنجاسة والهوى والشهوة الرديئة والطمع الذي هوعبادة الأصنام“. ترك هذه الأمور هو ما يكرز به الرسول ويقول إن الذين يمارسونها إنما هم جسدانيون كما من لحم ودم فقط، ولا يمكنهم أن يرثوا ملكوت السماوات. إذ يمثل نفوسهم إلى ما هو أسوأ بانحدارها إلى الشهوات الترابية ومن ثم فهم يوصفون بأنهم أيضًا ترابيون، تلك الأمور الرديئة التي عندما يحثنا الرسول أن نتركها – يقول في ذات الرسالة “تخلعون الإنسان العتيق مع كل أعماله” [9]، لكنه حينما قال ذلك لم يُزل بالشكل القديم للإنسان، وإلا صار من غير اللائق أن نتخلص من حياتنا بالانتحار![225]

القديس ايريناوس

*     عبادة الأوثان ليست قاصرة على ذر البخور على المذبح بالإبهام والسبابة أو صب جرعات من خمر من طاسٍ معين. إنماالطمع هو عبادة أوثان أو بالحري بيع الرب بثلاثين من الفضة (حاسبًا الإنسان) أنه عمل بار!

والشهوة تشمل الدنس، وحينما يسقطالناس مع الداعرات، فيدنسون أعضاء المسيح التي يجب أن تكون “ذبيحة حيَّة مقبولة أمام الله”.

والخداع أيضًا عبادة أوثان، وفي سفر الأعمال نقرأ عن الذين تبرعوا بممتلكاتهم، لكن البعض منهم حجزوا جزءًا منها أو من ثمنها، فهلكوا بموت ردي في الحال.

إذن اعلموا جيدا يا إخوتي, أن لا شيء لكم لتحجزوه، إذ يقول الرب: “إن كان أحد منكم لا يترك كل ما له, لا يقدر أن يكون لي تلميذًا” فلماذا تكون مسيحيًا منقسم القلب؟half – hearted[226]

القديس جيروم

*     ينبغي علينا ليس فقط أن نأخذ حذرنا من حيازة المال، بل ننتزع أيضًا من نفوسنا تلهفنا عليه، إذ من واجبنا لا أن نتحاشى نتائج الطمع إنما بالأكثر أن نستأصل جذور كل نزوع إليه، إذ أن عدم امتلاكنا للمال لا يفيدنا مادامت فينا شهوة الحصول عليه[227].

*     من المحتمل أن إنسانًا لا يملك شيئًا يكون مستعبدًا لعلة الطمع، ولا تنفعه نعمة الفقر المدقع، لأنه لم يستطع أن يستأصل من نفسه جذور خطية الشراهة، متقبلًا مزايا الفقر لا لحسن فضائله، وراضيًا بثقل الحاجة إنما في فتور القلب. ذلك لأنه كما تعلن كلمة الإنجيل أن الذين لا يتدنسون بالجسد قد يزنون في القلب، وأن من المحتمل أن الذين لا يثقل كاهلهم عبء المال تلحقهم لعنة نزعةالطمع والاشتياق إليه لأن ما كان يعوزهم هي “فرصة” الامتلاك وليست “إرادته”، لأن الثانية هي التي يُتوجها اللَّه دون جبر، لهذا يلزمنا أن نستخدم كل حصانة، لئلا تتبدد ثمار جهودنا في غير ما يجدي. لأنه من المحزن أن يتحمل المرء أثار الفقر أو العوز، ولكنه يفقد ثماره، بسبب سقوط الإرادة المزعزعة[228].

*     قد نبذ جميع مقتنيات هذا العالم من استأصل تمامًا من قلبه الرغبة في حيازتها وامتلاكها[229].

القديس يوحنا كاسيان

“الأمور التي من أجلها يأتي غضب الله على أبناء المعصية” [6].

ماذا يعني بغضب الله؟ الله الكلي الحب والقداسة لا يحطم أحدًا، لكن إذ يعطي الإنسان لله القفا لا الوجه، يحطم الإنسان نفسه بنفسه، إذ تثمر الخطية موتًا وفسادًا. هذا ما عبر عنه الكتاب المقدس بغضب الله أو تركه لهم. فإذ يختار الإنسان الفساد يسلمه الله لشهوة قلبه. “أسلمهم الله أيضًا في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم” (رو 1: 24).

لعل أوضح مثل معاصر هو الأمراض الجنسية كالإيدز التي تحطم حياة الإنسان جسديًا ونفسيًا وروحيًا، ما لم يقدم الإنسان توبة ورجوع إلى الله مصدر حياته.

تشير الكلمة إلى موقف الله تجاه الذين يتمردون, أولئك الذين يرفضون أعز هباته.

“الذين بينهم أنتم أيضًا سلكتم قبلًا،

حين كنتم تعيشون فيها” [7].

يقدم لهم حياتهم قبل الإيمان مثلًا عمليًا حين كانوا يعيشون في الخطية، حتى دخلت نعمة الله في حياتهم وانتشلتهم من قيودها وحررتهم، لكن بقي لهم أن يجاهدوا بالنعمة لكي يعيشوا كما يليق بأبناء الله المقدسين.

    “لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد أخطأ الجميع (صار الكل خطاةً)، هكذا بطاعة الواحد سيجعل الكثيرون أبرارًا” (رو 5: 19). ونحن جميعًا نموت في آدم، وكل واحدٍ منا وُلِد من آدم فليعبر إلى أورشليم. وليخلع القديم ليُبنى جديدًا. بُقال لليبوسيين سكان أورشليم قبلًا: “اخلعوا الإنسان العتيق, والبسوا الجديد”. وبالنسبة للمبنيين في أورشليم, والمستنيرين بنور النعمة, قيل عنهم “كنتم قبلًا ظلمة, أما الآن فنور في الرب” لقد انهارت المدينة الشريرة التي كانت منذ البدء, وإلى النهاية, وشُيدت محلها المدينة الصالحة والتي أزالت الشرور. وهاتان المدينتان مختلطتان في آن واحد, لكنهما في النهاية تنفصلان. إنهما تتصارعان الواحدة ضد الأخرى, واحدة لأجل الإثم والأخرى لأجل الحق[230]

القديس أغسطينوس

“وأما الآن فاطرحوا عنكم انتم أيضًا الكل:

الغضب، السخط، الخبث، التجديف، الكلام القبيح من أفواهكم” [8].

يطالبهم الرسول أن يطرحوا عنهم ما لا يليق بهم.

الغضب“: هو انفعال الإنسان للأحداث بسبب تطلعه إلى الأحداث المحيطة به عوض الانشغال بالمسيح الساكن فيه، لهذا يفقد سلطانه في المسيح يسوع، مبررًا بأنه إنسان بطبعه انفعالي: “البطيء الغضب خير من الجبار، ومالك روحه خير ممن يأخذ مدينة” (أم 16: 32).

السخط “: حيث يتحول الغضب إلى ثورة انفعالية.

الخبث“: وهو أخطر من الغضب والسخط، إذ يلبس الإنسان صورة الهدوء والسكون بينما يحمل في داخله روح الكراهية والانتقام، وذلك كما دبر أبشالوم لقتل أخيه أمنون (2 صم 13).

التجديف“: التهجم الكاذب على الله وتدبيره وخطته من جهة البشرية، والأمجاد المعدة للقديسين.

الكلام القبيح“: كالهزل والفكاهة غير الهادفة والتهكم على الآخرين. “لا القباحة ولا كلام السفاهة، والهزل التي لا تليق، بل بالحري الشكر” (أف 5: 4).

    يجب قلع سم الغضب القاتل من جذوره في أعماق النفس، لأنه إذا بقي روح الغضب واستقر في قلوبنا أظلمت عقولنا وفقدت قدرتها على الرؤية، لأن الغضب يصيب بالعمى وبظلمة ضارة تجعل الرؤية الروحية مستحيلة. فلا تقدر على الحكم الصائب في أمرٍ من الأمور، بل يتعذر علينا التأمل الصالح الذي ينمي الحكمة فينا، بل لا نقدر أن نثبت في الصلاح، أو نقبل النور الحقيقي الروحي، لأنه مكتوب: “عيني قد تعكرت من الغضب” (مز 6: 7).

 وقد يمدحنا الناس كحكماء، ولكننا لن نكون حكماء إذا لازمنا الغضب، لأنه مكتوب: “الغضب يسكن مستريحًا في صدر الأحمق” (جا 7: 9LXX). وهو ما يعرضنا لفقدان ميراث الحياة الأبدية. وقد يظهر لنا أننا نفهم الطبيعة الإنسانية وندرك أسرارها، ولكن إذا ظل الغضب فينا، تم فينا ما هو مكتوب: “الغضب يدمر الحكماء” (أم 15: 1 LXX). ويحرمنا الغضب من إدراك “برّ الله”، لأننا بسبب الغضب نفقد الإفراز، ومع أن الناس قد يقولوا عنا أننا قديسون وكاملون إلا أنه مكتوب “غضب الإنسان لا يصنع برّ الله.” (يع 1: 20)[231].

    يحاول البعض تبرير الغضب، هذا المرض القاتل للنفس، بأدلة من الأسفار الإلهية التي يفسرونها تفسيرًا غير لائق. يقول هؤلاء أن الغضب ليس ضارًا حتى إذا غضبنا على الإخوة الذين يخطئون، لأن الله نفسه يسخط ويغضب على الذين لا يريدون أن يعرفوه، أو يعرفونه ومع ذلك يرفضونه. ومن الأمثلة التي يقدمونها كلمات الأسفار: “غضب الرب واشتعل سخطه على شعبه”(مز 106: 40). أو عندما يصلي النبي ويقول: “يا رب لا توبخني بغضبك، ولا تؤدبني بسخطك” (مز 6: 1). ولا يفهم هؤلاء أنهم عندما يحاولون بهذا الإصرار على تأكيد وتبرير الغضب إنما يقودون غيرهم إلى التمسك برذيلة ضارة وفي نفس الوقت يمزجون ضلال شهوة جسدانية بنقاء الله غير المحدود والذي هو مصدر كل نقاءٍ[232].

    عندما نقرأ أن الله غضب وسخط فأننا لا يجب أن نفكر في أن هذه انفعالات بشرية.بل يجب أن نفكر فيما يليق بالله الحر من كل هذه الانفعالات، أو بكلمات أخرى يجب أن نراه مثل القاضي الذي يحاكم وينتقم من الأعمال الشريرة ويرد الشر على فاعليه. هنا يُوصف بمفرادات خاصة تولد فينا الخوف من الله الذي سوف يحاكم على كل عمل ضد إرادته. ولكن يجب أن نتذكر أن الطبيعة الإنسانية تعودت على الخوف من الذين يغضبون ولذلك السبب تتراجع عن الشر خوفًا من غضب هؤلاء. وفي حالات القضاة المشهورين بالعدل الصارم، يخاف منهم الأشرار، لأنهم يعرفون أنهم سوف يوقعون بهم عقوبة صارمة وهذا وحده يزرع الخوف والشعور بالندم في قلوب الأشرار. ولكن القضاة العادلون لا يحكمون ولا يصدرون أحكامًا تحت تأثير انفعالات الغضب. بل هذه الانفعالات إذا وجدت فيهم تجعلهم يعجزون عن إصدار الأحكام العادلة. ومع أن القضاة لا يعرفون الغضب، إلا أن الأشرار بسبب ذنوبهم وخوفهم من الحكم، يتوقعون الغضب عندما يحاكمون وبسبب شعورهم بالذنب يخافون حتى من القضاة الودعاء المعتدلين، لأن صدور أي حكم على إنسان شرير يجعل المذنب يشعر بسخط وغضب الحكم ولا يصف قرار القاضي الذي يعاقبه إلا بأنه قرار غضب وسخط[233].

القديس يوحنا كاسيان

“لا تكذبوا بعضكم على بعض،

إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله” [9].

الكذب“: إن كان السيد المسيح هو الحق، فإن إبليس هو الكذاب وأب الكذابين. “لم يثبت في الحق، لأنه ليس فيه حق، متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له، لأنه كذاب وأبو الكذاب” (يو 8: 44).

    ليس للكذب شركة مع الحق، كما ليس للنور شركة مع الظلمة. فإن وجود الواحد يستبعد الآخر[234].

القديس إيريناؤس

    الحق هو نور، فإن لم نُسر حسب الحق فنحن في الظلمة[235].

هيلاري أسقف آرل

خلع الإنسان القديم“: جاء فعل “خلع” في اليونانية في الماضي ولكن مفعوله قائم، فقد تم الخلع في المعمودية، ويبقي يمارسه الإنسان بالتوبة بكونها معمودية ثانية. يبقي الإنسان في حالة خلع مستمر لهذه الطليعة الفاسدة كي لا تنحل ربطها وتقوم من جديد، بل على العكس ينمو الإنسان الجديد في برّ المسيح وقداسته.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن العماد هو بداية الطريق لا نهايته. فيه يُولد الإنسان كطفلٍ صغيرٍ، إن لم ينمو يوميًا يموت. العماد أشبه بغرس زرع جديد يحتاج إلى سقي مستمر، لكن الله هو الذي ينمي. “ونحن جميعا ناظرين مجد الرب يوجه مكشوف، كما في مرآة، نتغير إلى تلك الصورة عينها، من مجد إلى مجد، كما من الرب الروح” (2 كو 3: 18).

    إن أردت فحص هذه النقطة، أي أن عماد يوحنا يخلصهم من التهديد بالنار، اسمعوا قوله: “يا أولًاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي” (مت 7:3) لا تكن بعد أفعى . فإذ لك جلد أفعى قديم، أي حياتك الماضية، اخلعه عنك. لأن كل أفعى تزحف في جحر وتتخلص من جلدها القديم، وبهذا يتجدد شباب جسدها. هكذا ادخل أنت أيضًا من الطريق الكرب الضيق (مت 13:7، 14)، واخلع القديم بالأصوام، واترك ذاك الذي يهلكك. اخلع الإنسان العتيق مع أعماله [9]. وقل مع عروس نشيد الأناشيد: “قد خلعت ثوبي فكيف ألبسه[236]؟!”[237].

القديس كيرلس الأورشليمي

    عندما تشعر الحيّة بشيخوختها، عندما تشعر بثقل السنوات الطويلة تتقلص وتلزم نفسها على الدخول من ثقب، ملقية جلدها العتيق حتى تخرج إلى حياة جديدة. لتقلّدها في هذا أيها المسيحي، الذي تسمع المسيح يقول: “أدخلوا من الباب الضيّق” (مت 7: 13)، ويحدّثنا الرسول بولس قائلًا: “إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله ولبستم الجديد” (كو 3: 9؛ أف 4: 22-24). على هذا فإن الحيّة لديها ما ينبغي أن نقلّدها فيه.

لتمت، لا لأجل الإنسان العتيق، بل لأجل الذي يموت لأجل أمر زمني، يموت من أجل الإنسان العتيق، ولكن عندما تجرّد نفسك من ذلك الإنسان العتيق كله فإنك تقلّد حكمة الحيّة[238].

القديس أغسطينوس

    لقد لوّث الشرّير الإنسان كلّه، نفسًا وجسدًا، وصار في حالة عداوة مع اللَّه، وليس خاضعًا لناموس اللََّه، بل هو بكلّيته خطية، حتى أن الإنسان لا يعود ينظر كما يشاء هو، بل ينظر بعينٍ شرّيرةٍ، ويسمع بأذنٍ شرّيرةٍ، وله أرجل تُسرع إلى فعل الشرّ، ويداه تصنعان الإثم، وقلبه يخترع شرورًا. لذلك فلنتوسّل إلى اللَّه أن ينزع منّا الإنسان العتيق، لأنه وحده القادر على نزع الخطية منّا[239].

القديس مقاريوس الكبير

    “إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله” [9]. حينما بليت الخليقة الأولى واعتراها القدم, احتاج البشر أن تتجدد الخليقة في المسيح (كما يقول الرسول, مؤكدا أننا لا يليق أن نرى في الخليقة الجديدة أي أثر للأخرى العتيقة) قائلًا “إذ خلعتم الإنسان العتيق, بأعماله, وشهواته, البسوا الجديد المخلوق بحسب الله” “وإن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة”. الأشياء العتيقة قد مضت, هوذا الكل قد صار جديدًا، لأن خالق الطبيعة البشرية في البدء وفي النهاية هو هو واحد لا يتبدل. أخذ من الأرض ترابًا وجبل الإنسان، ثم فيما بعد أخذ من العذراء ترابًا ولم يخلق مجرد إنسان بل صنع لنفسه إنسانًا formed man about himself. في البدء خَلق ثم فيما بعد خُلِقَ إذ أولًا خلق الكلمةُ جسدًا (لآدم), وفيما بعد صار الكلمة جسدًا حتى يغير جسدنا إلى روح، إذ شاركنا الجسد والدم. وعن تلك الخليقة الجديدة إذن في المسيح، والتي بدأها هو بنفسه, دُعي بكرًا, إذ هو بكر الجميع: لكل من المولودين إلى الحياة والذين يحيون بقيامة الموتى[240].

    هكذا فإن بولس إذ ينصح القادرين من سامعيه على بلوغ الكمال, موضحًا لهم سبيل تحقيق هذا الكمال ولهذا يخبرهم “أن يخلعوا الإنسان العتيق ويلبسوا الجديد الذي تجدد بحسب صورة خالقه” فهلا رجعنا جميعا إلى النعمة الإلهية التي فيها خلق الله أولًا الإنسان, حينما قال “لنخلق الإنسان على صورتنا كشبهنا” الذي له المجد دائما أبديا آمين[241].

القديس غريغوريوس النيسي

    إذ يحب المسيح الكنيسة مقدسةً عفيفةً وبلا دنس, فليحب الأزواج أيضًا زوجاتهم في عفة. وليعلم كل أحد كيف يحفظ إناءه في قداسة وكرامة, وليس في دنس الشهوة الردية كالأمم الذين لا يعرفون الله “لأن الله لم يدعنا (يختارنا) للنجاسة, بل للتقديس عالمين أنكم قد خلعتم الإنسان العتيق بأفعاله ولبستم الإنسان الجديد الذي يتجدد (باستمرار) لمعرفة صورة ذاك الذي خلقه![242]

القديس جيروم

    إذ يترك (المؤمن) الخطية والإنسان العتيق وراءه, قد صار إنسانًا جديدًا في معرفة الله, وبلغ كمال منتهاه, إذ أنه من خلال معرفة إلهه, يصبح الصورة الكاملة (والأيقونة) معه. وبالصلاح يقتني عدم الموت وبعدم الموت سيحيا إلى الأبد كصورة لخالقه[243].

القديس هيلاري أسقف بواتييه

التمتّع بالإنسان الجديد 10-15

“ولبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة

حسب صورة خالقه” [10].

تجديد الإنسان الجديد للمعرفة علامة الحياة، فإنه ليس من حياة في المسيح دون نمو، وليس نمو دون استنارة بقوة الروح القدس، حتى يتشكل الإنسان الداخلي على صورة خالقه، فيصير أيقونة حيَّة للسيد المسيح العريس السماوي.

    هذه هي كلمة السرّ حيث بالميلاد الجديد الذي من فوق تتبدل طبيعتنا من الفاسد إلى غير الفاسد, إذ قد تجددت من “الإنسان العتيق” إلى صورة ذاك الذي خلقه في البدء على مثال اللاهوت[244].

القديس غريغوريوس النيسي

    إن كان بينكم من هو عبد للخطية، فليستعد بالإيمان استعدادًا تامًا للميلاد الجديد في الحرية والتبني. وبخلعه عبوديته لخطاياه المرذولة وارتدائه عبوديته للرب المطوبة يصير أهلًا لميراث ملكوت السماوات.

“اخلعوا الإنسان العتيق الفاسد حسب شهوات الغرور” (أف 22:4) بالاعتراف “حتى تلبسوا الإنسان الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه” [10].

بالإيمان خذوا “عربون الروح القدس” (2 كو 22:1) “لكي يقبلونكم في المظال الأبدية” (راجع لو 9:16)[245].

القديس كيرلس الأورشليمي

    قبول حياة جديدة شيء, ولبسها والسلوك بها شيء آخر (رو 4:6) إن ذلك الإنسان الجديد مخلوق في البرً والقداسة (أف 24:4) يجب أن نحيا بقياس قامة ابن الله (أف 13:4)، والتي بها نُحاسب.

    من مجيء الرب, والذي به صار الانتقال من ختان الجسد إلى ختان القلب، كانت الدعوة أن يحيا الإنسان بحسب الروح, أي بحسب الإنسان الداخلي الذي يُدعى أيضًا “الإنسان الجديد” بسبب الميلاد الجديد وتجديد السيرة الروحانية[246].

القديس أغسطينوس

    هذا المخلوق العاقل على الأرض, أعني الإنسان, قد خُلق من البدء على صورة خالقه (كو 10:3) وبحسب الكتاب المقدس, وللصورة معانٍ عديدة، فقد تكون الصورة لا بحسب نوع معين بل بحسب أنواع كثيرة, بالإضافة إلى عنصر المثال أو الشبه بالله الذي خلق الإنسان, وهو أكثر العناصر كلها وضوحًا واستعلانًا, وهو (عنصر) عدم الفساد وعدم الموت[247].

القديس كيرلس السكندري

“حيث ليس يوناني ويهودي،

ختان وغرلة،

بربري وسكيثي،

عبد حر،

بل المسيح الكل وفي الكل” [11].

    هذه الطبيعة الجديدة (الإنسان الجديد) التي أعطيت لنا تعلمنا أن نتخطى الحواجز التي تفصل بين البشر، لأن المسيح صار فينا جميعًا، بل بالحري صرنا كلنا واحدًا فيه لأننا جسده.

القديس يوحنا الذهبي الفم

لعل أكثر الحواجز خطورة كان الجنس “اليهودي والأممي” أو “الختان والغرلة”، كما أيضًا الحواجز الطبقية، طبقة السادة الأحرار وطبقة العبيد.

في العهد الجديد تشير كلمة “يوناني” إلى الأمم (رو 16:1). البرابرة هم كل من كان لا يتكلم اليونانية كلغة الثقافة في ذلك الحين، والسكيثيون حسبوا بدائيين وكانوا مشهورين بالخشونة والوحشية، وكانوا موضع سخرية وهزأ من الناطقين باليونانية. الآن وقد جاء السيد المسيح قدم نعمته لكل البشرية دون محاباة

لا عجب إن كانت نعمة المسيح قد أزالت الفوارق، فيكتب القديس بولس رسالة إلى فليمون بخصوص أنسيمس عبده الهارب الذيسرقة “أطلب إليك من أجل ابني أنسيمس، لأنه افترق عنك إلى ساعة لكي يكون لك إلى الأبد، لا كعبدٍ في ما بعد بل أخًا محبوبًا”. واستشهدت بلاندينا جنبًا إلى جنب مع سيدتها، وكانت أكثر بطولة منها. واستشهدت فيلتيا العبدة مع سيدتها بربتوا بروح الأخوة المتبادلة.

المسيح هو الكل وفي الكل لا بالمعنى الحرفي لمصطلح الوجودي [248] panlleistic،بل هو كل شيء بالنسبة لنا ولأجلنا: الخالق والمخلص والأخ والشفيع الوسيط والهدف, فلا حاجة لنا أن نطلب آخر سواه.

    لا يفترض أحد أنه بسبب غناه, أن يُعامل بشكلٍ آخر مختلف, ففي الكنيسة الغني هو الغني في الإيمان، لأن المؤمن يملك عالمًا كاملًا من الغنى, فما العجيب في أن يملك المؤمن العالم كله, وهو يمتلك ميراث المسيح الذي هو أكثر قيمة من العالم بما لا يُقاس؟ “قد اُفتديتم بدمٍ ثمين” (1 بط 19,18:1) هي كلمات قيلت للجميع وليس للأغنياء فقط. لكن إن كنتم أغنياء فأطيعوا ذاك الذي يقول، “كونوا قديسين في كل سيرة حياتكم” (1 بط 15:1) وهو لا يتحدث عن الأغنياء فحسب، بل عن الجميع, لأنه يحكم دون النظر إلى الأشخاص وكما يقول الرسول شاهده الأمين[249].

القديس أمبروسيوس

    فلتكن إذن كل كلماتنا وأفعالنا بحسب المسيح (عن المسيح) الذي أتى بالحياة من الموت وخلق النور من الظلام[250].

القديس أمبروسيوس

نصائح إيجابية

“فالبسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين،

أحشاء رأفات ولطفا وتواضعًا ووداعة وطول أناة” [12].

كمختاري الله الذين في المسيح, هم مقدسَّونومحبوبون, كما هو أيضًا القدوس موضع سرور الآب وحبه, يتطلب هذا منا لبس ثياب الفضيلة. إن الرسول بصدد تقديم قائمة بالفضائل تكون بمثابة ثوب المسيحي في حياته. بل ويذكر نصائح معينة عن الصبر والغفران، ويشير إلى الحب كأعظم فضيلة, تقيم البنية من الفضائل وتكملها (1 كو 13:13, 1 بط 8:4)

من الجانب السلبي يطالبنا بخلع الإنسان القديم، ومن الجانب الايجابي يأمرنا أن نلبس ما يليق بالإنسان الجديد الذي نلناه في المعمودية، لأننا مؤهلون لنوال نعم متزايدة، فإنه ليس بكيلٍ يعطي الرب الروح. نحن مختارون من الله لنكون قديسين محبوبين فيلزمنا أن نلبس الرب يسوع (رو 13: 14)، نحمل شركة سماته من أحشاء رأفات ولطف وتواضع ووداعة ودول أناة.

أحشاء رأفات“، تقوم الرأفة على الأحشاء الداخلية، فالحنو نابع عن الطبيعة الجديدة التي صارت لنا، فيتسع قلبنا بالحب والحنو نحو كل بشرٍ كشركة في سمة محب البشر.

    يظهر سهولة الفضيلة, ليقتنوها على الدوام ويستخدمونها كأعظم زينة… يقول: “أحشاء رأفات” ولم يقل “رحمة” بل يؤكد تأكيدًا أعظم باستخدامه اللفظتين ولم يتكلم كما لإخوة بل كآباء نحو أولادهم[251].

القديس يوحنا الذهبي الفم

اللطف“: إن كانت الرأفة تحمل حنوًا وترفقًا على الغير، فإن اللطف يحمل مشاعر الرغبة في الستر على أخطاء الآخرين وخطاياهم، لكن بروح الحكمة، لأجل خلاصهم.

التواضع“: مسيحنا تواضع حين اتحد بناسوتنا وارتضي أن يخفي مجد لاهوته ليكون كأقل من الملائكة (عب 2: 7، 9)، بل وصار عبدًا كأقل إنسان (في 2: 6-7). أما بالنسبة لنا فالتواضع هو اكتشاف حقيقتنا، مدركين أننا لا نقدر أن نفعل شيئًا بدون النعمة الإلهية.

الوداعة” هي انعكاس لهدوء النفس الداخلي، متى اتكأت على مخلصها في تسليمٍ كاملٍ لحياتها بين يديه مع ثقة في تدبيره الإلهي. ومن جانب آخر هي شركة مع المسيح يسوع في وداعته حتى في لحظات محاكمته (1 بط 2: 21- 23)، وهو الذي دعانا أن نقتدي به : “تعلموا مني، فإني وديع ومتواضع القلب”.

طول الأناة“: أي الشركة مع مسيحنا الطويل الأناة مترقبًا خلاص الخطاة والآثمة.

“محتملين بعضكم بعضًا،

ومسامحين بعضكم بعضًا،

 إن كان لأحد على أحد شكوى،

كما غفر لكم المسيح هكذا أنتم أيضًا” [13].

في طول الأناة نحتمل بعضنا البعض، كما غفر لنا مسيحنا؛ وفي احتمالنا لإخوتنا نحمل ذات غاية المسيح وهو طلب خلاص كل نفسٍ لمجد الآب وبنيانًا نفوسنًا.

إذ نركز أنظارنا على السيد المسيح الذي يشتهي أن يسكن فينا ويحل في وسطنا، لا نجد صعوبة في الاحتمال وطول الأناة، بل نجد فيها مسرة الله ومسرة نفوسنا أن نحتمل المسيئين مهما تكررت الإساءة، مشتهين أن ننال كرامة الشركة مع مسيحنا بأن نضع أنفسنا من أجل الإخوة.

لقد دفع (الرب) ثمنًا باهظًا لغفران خطايانا ولم يلزمه أحد بل فعل ذلك حبًا. سدد الثمن الكامل “للشكوى” المرفوعة ضدنا ومحا الصك واسترددنا إلى يمين الله، ولهذا يسألنا بولس أن نسامح الآخرين بنفس الطريقة: “هكذا اغفروا أنتم“.

    عظيم هو المثل! هكذا يفعل هو دائمًا إذ يحضهم على التمثل بالمسيح[252].

القديس يوحنا الذهبي الفم

    لديكم القاعدة هنا, لو كان المسيح قد غفر لكم خطاياكم “سبعين مرة سبع مرات” فقط… ورفض أن يسامح أكثر, إذن ابلغوا أنتم هذا الحد ولا تتجاوزوه – لكن إن كان المسيح قد وجد آلاف الخطايا بل وآلاف الآلاف, وقد غفرها جميعها. فلا تحجبوا إذن رأفتكم بل اطلبوا أن تغفروا كل هذا الكم الهائل (من الأخطاء)[253].

    ما دمنا نتحدّث عن غفران الخطايا، لئلا تظنّوا أن هذا الأمر عالٍ العهد جدًا أن تتمثّلوا بالمسيح اسمعوا الرسول يقول: “مسامحين بعضكم بعضًا، كما غفر لكم اللَّه في المسيح” (كو 3: 13؛ أف 4: 32). “كونوا متمثّلين باللَّه كأولاد أحبّاء” (أف 5: 1). أنت دُعيت ابنًا، إن أردت أن ترفض الاقتداء به، فلماذا تطلب ميراثه؟[254]

القديس أغسطينوس

“وعلى جميع هذه البسوا المحبة

التي هي رباط الكمال” [14].

    المحبة هي تاج كل الفضائل، والمؤشر الحقيقي لارتداء الإنسان الجديد، هي رباط الكمال. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفمبدون المحبة تصير كل الفضائل السابقة بلا قيمة ولا منفعة.

تحتضن المحبة كل النعم معًا في الإنسان الجديد وتجذب المسيحي من خلالها إلى الكمال. والكلمة المترجمة “رباط” هي نفسها الواردة في أف 3:4؛ وأع 3:8, وتعني “تضم معًا كما بسلسلة”. هكذا عظيمة هي المحبة للغاية، بدونها تصبح الفضائل الأخرى مدعاة للسخرية.

المحبة أم الفضائل كلها وكلمات الرسول عن الإيمان والرجاء والمحبة هي كالحبل المثلث التي لا يسهل قطعه (1كو4:13-7,13). نحن نؤمن ونترجى، ومن خلال إيماننا ورجائنا نرتبط معًا برباط المحبة[255].

القديس جيروم

    إن ما يريد قوله هو إن تلك الأشياء لا نفع منها, لأن جميعها تتهاوى إن لم تتم بالحب، فهو الذي يربطها جميعا معًا في رباط واحد. فمهما كان ما تفعله صالحًا إن لم يكن بالحب سرعان ما يزول أثره ويصبح كلا شيء[256].

القديس يوحنا الذهبي الفم

    ليس في طبيعتنا رذيلة أو هوى في الأصل، لأن اللََّه لم يخلق الأهواء بل أوجد فينا فضائل طبيعية كثيرة، ومنها بدون شكالرحمة، إذ أن الوثنيّين أنفسهم يتحنّنون ويشفقون. ثم المحبّة، لأن البهائم عديمة النطق كثيرًا ما تحزن على فراق رفيقاتها. ثمالإيمان، لأننا نجد أنفسنا جميعًا مفطورين عليه. ثم الرجاء، إذ أننا على رجاء الانتفاع نعترض ونقترض، ونزرع، ونسافر… فإن كانت المحبّة فضيلة طبيعة فينا على ما تبيّن وهي “رباط الشريعة وكمالها” (أف 4: 3؛ كو 3: 14؛ رو 13: 10) فالفضائل بالتالي ليست بعيدة عن طبيعتنا. فليخز إذن الذين يحتجّون بعدم قدرتهم على اكتسابها[257]

القديس يوحنا كليماكوس

“وليملك في قلوبكم سلام الله،

الذي إليه دعيتم في جسد واحد،

وكونوا شاكرين” [15].

 إذ نتحلى بالفضائل السابقة، خاصة المحبة، يحل سلام الله الثابت غير المتغير. هذا السلام الذي يحل بين النفس والله، ينعكس على سلام النفس مع الجسد، فيصير الإنسان في تناغم بلا صراع بين الجسد والنفس، وينطلق إلى الآخرين فلا يستطيع المؤمن إلا أن يعيش في سلام مع إخوته تحت كل الظروف.

هذا السلام الذي يتربع في القلب مع الله ومع الجسد ومع البشر بل وكل الخليقة يحول قلب الإنسان إلى قيثارة يعزف عليها الروح القدس تسبحة شكر لا تنقطع.

    “سلام الله” هو السلام الثابت والدائم، فإن كان لك سلام بحسب الناس، فإنه سرعان ما ينحل, لكن إن كان بحسب الله لا ينتهي أبدًا…

لا تغضبوا, كما يقول, بل احكموا في المنازعات, ولا تخضعوا للأحقاد, ولا للسلام البشري, فالانتقام سمة البشر وعواقبه وخيمة, لكنه يقول ليس ذلك ما أقصده بل ذلك السلام الذي تركه لنا الرب بنفسه.

لأننا بواسطة السلام نحن جسد واحد, ولأننا جسد واحد فنحن في سلام… وحسنًا أضاف: “وكونوا شاكرين“، لأن الشاكرين والمملوءين مودة يعاملون رفقاءهم كما يفعل الله معهم, خاضعين للسيد, مطيعين معبرين عن شكرنا في كل شيء حتى إن أهاننا أحد أو اعتدى علينا بالضرب[258].

    ويقول “كونوا شاكرين” لأن هذا هو ما يطلبه كل إنسانٍ, فالشكر أعظم الأمور الصالحة, فلنشكر إذن في كل شيء مهما يحدث, لأن هذا هو معنى الشكر[259].

    لا شيءَ أَقدس من اللسان الذي في وقت الشر يشكر الله, فهو لا يقل أبدًا عن الاستشهاد, فلكليهما إكليل[260].

القديس يوحنا الذهبي الفم

 التسبيح والشكر 16-17

“لتسكن فيكم كلمة المسيح بغنى

وانتم بكل حكمة معلمون ومنذرون بعضكم بعضًا

بمزامير وتسابيح وأغاني روحية بنعمة،

مترنمين في قلوبكم للرب” [16].

شهوة قلب الرسول أن تسكن كلمة المسيح أو تستقر بغنى في المؤمنين. فيتقبلون الحق الإلهي، لا ليقتنعوا به فكريًا فحسب، بل ويعيشوا به، فيكون دستور حياتهم وقائدًا داخليًا يوجه الفكر والكلمات والسلوك. وكما يقول المرتل: “خبأت كلامك في قلبي حتى لا أخطئ إليك”. تقتني خزانة القلب والفكر بكنز الكلمة. يطالبنا القديس يوحنا الذهبي الفم أن نقتني الكلمة وندخل في أعماقها، وكما يقول أن عدم معرفة الكتاب هي سبب كل الشرور، فيكون الشخص كمن يذهب إلى المعركة بلا سلاح، فهل يرجع سالما؟ سيف الروح هو كلمة الله (أف 6: 17).

إن كانت كلمة الله هي سلاح المؤمن في معركته ضد قوات الظلمة، فإن حياة التسبيح هي الوليمة المشبعة للنفس. تحول حياتنا إلي عيد داخلي مستمر، وتقدس كل أعمالنا وكلماتنا لنقدمها لحساب المسيح [7].

التسبيح يثير في النفس فرح الروح السماوي: “لأن ليس ملكوت الله أكلا وشربا، بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس” (رو 14: 17). يقول القديس أنطونيوس الكبير أن النفس تتربي بالفرح الروحي، وتسعد به، وتصعد به إلى السماء. كتب العلامة ترتليان يصف اجتماعات المسيحيين بعدما يغسلون الأيادي (بعد ولائم الأغابي) `agapy يأتون بالشموع ثم يدعى كل واحد ليقدم أغنية لله أمام الجميع من تأليفه الخاص يكون قد اقتبسها من كلمات الإنجيل، معبرًا فيها عن مشاعره الخاصة نحو الله.

فلتسكن فيكم كلمة الرب بغنى“، هذه هي الوصية الأخيرة في نمو الشخصية المسيحية.

يعرض القديس بولس ثلاث طرق بها يمكن أن نعلِّم الآخرين وننذرهم: المزامير والترانيم والأغاني الروحية. وتشير المزامير إلى الأغاني المقدسة, المقتبسة من العهد القديم,خاصة من سفر المزامير. والترانيم تشير إلى أغاني التسبيح والعبادة الكنسية لله (أع 25:16؛ عب 12:2). أما الأغاني الروحية فتشير إلى الأغاني التي تنشد بشكل طبيعي من المؤمن. يطلب الله صدور تلك الترانيم من القلب.

    صالحة هي النفس التي تكون خارج الأبواب والكلمة (اللوغوس) في أعماقها، هي خارج الجسد حتى يسكن (الكلمة) فيها[261].

القديس أمبروسيوس

    إذ يقول الرسول “فلتسكن فيكم كلمة الرب بغنى” يختار الله الكلمة الأوقات والمراسم المناسبة لسكناه في الأشخاص. ففي حالتنا الراهنة هو ضيف فينا, إذ يضيف الرسول ثانية: “معلميِّن ومنذرين بعضكم بعضًا بكل حكمة بمزامير وترانيم وأغاني روحية مرنمين في قلوبكم لله”[262].

القديس إكليمنضس السكندري

    “فلتسكن كلمة المسيح فيكم بغنى” أي, التعليم والعقائد والنصائح الروحية, حيث يقول إن الحياة الحاضرة لا شيء ولا حتى أمورها الحسنة, فإن عرفنا ذلك, لتخلينا عن إثارة الضيقات لنا (مت 25: 46). يقول “فلتسكن فيكم بغنى” فلا تسكن فقط بل بفيض عظيم… تأملوا حكمة هذا الإنسان المبارك, فلم يقُل “فلتسكن فيكم كلمة المسيح” بل ماذا؟ “لتسكن فيكم” و “بغنى”.

هذا هو سبب كل الشرور أن نجهل الكتاب المقدس، فنخرج للقتال بدون أسلحة، فكيف لنا أن نعود سالمين…؟

إنكم تلقون كل شيء علينا, وعليكم وحدكم أن تتعلموا منا, وزوجاتكم منكم, وأولادكم منكم, لكنكم تتركون كل شيء لنا, لهذا تضاعفت متاعبنا.

تأملوا أيضًا مراعاة بولس لمشاعر الآخرين, فإذ يرى أن القراءة مجهدة, تثير الضجر إلى حد بعيد, فإنه لم يوجه أنظارهم إلى بالأسفار التاريخية بل إلى المزامير, حتى تبهجوا نفوسكم بالترنيم وبرقة تسلّون رفقاءكم, إذ يقول “بترانيم وأغاني روحية” لكن أولادكم الآن يتفوهون بأغاني ورقصات الشيطان, فالطهاة والخدم والموسيقيون, ليس منهم أحد يعرف أي مزمور, لكنه أمر يخجلون منه بل ويسخرون منه ويتهكمون عليه. وهنا مكمن كل الشرور…

علِّمه أن يرِّنم تلك المزامير الملآنة بحب الحكمة, إذ تخص العفة أو بالحري ومثل كل شيء لا تجعله يصاحب الأشرار, ما إن يستهل قراءة الكتاب (سفر المزامير)…

وحينما يتعلم بواسطة المزامير, سيعرف الترانيم أيضًا, كشيء مقدس. لأن القوات العلوية تنشد الترانيم، وليس المزامير. إذ يقول الجامعة “أن الترنيمة ليست حلوة في فم الخاطئ”

فما هي ترنيمة العلويين؟ يعرفها المؤمن. ماذا يقول الشاروبيم في العلاء؟ ماذا يقول الملائكة؟ “المجد لله في الأعالي” لهذا بعد الابصلمودية (المزامير) تأتي الترانيم, كشيء أكثر كمالًا…

حتى وإن كنتم في السوق, يمكن لكم أن تتماسكوا وترنموا لله دون أن يسمعكم أحد. لأن موسى أيضًا قد صلى هكذا, وسمعه الله إذ يقول له الله, “لماذا تصرخ إلىّ”؟ (خر 15:14) مع أنه لم يقُل شيئًا. بل صرخ بأفكاره، فلم يسمعه إلا الله وحده، إذ كان يصرخ بقلب منسحق. فليس محرمًا أن يصلي الإنسان بقلبه حتى وهو سائر على قدميه, إذ يسكن (بفكره) العلاء[263].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“وكل ما عملتم بقول أو فعل

فاعملوا الكل باسم الرب يسوع،

شاكرين الله والآب به” [17].

جوهر الحياة هو الشركة مع السيد المسيح، فيختم كلماته وأعماله بختم اسم يسوع المسيح لتفوح منه رائحة الشكر، موضع سرور الآب.

باسم” معناه “لمجد” (يو 13:14).

يليق بنا أن نكون متهللين وشاكرين الله حتى نسلك السبيل الذي يؤهلنا لاستحقاق المسيح (12:1). فبمعزل عن المسيح ليس لنا دخول إلى الله ولا حتى إلى شكره.

    حيث ندعو باسم يسوع لا يتدنس شيء ولا يتنجس… فإن كنتم تأكلون, إن كنتم تشربون, وإن تزوجتم، وإن سلكتم, فاعملوا كل شيء باسم الرب, أي تدعونه ليعينكم, مصلين إليه قبل كل شيء… اجعلوا هذا في المقدمة، لهذا فنحن نستهل رسائلنا باسم الربفحيث اسم الله, يبشر كل شيء بالخير والسعادة. لأنه إن كانت أسماء العظماء تجعل الكتابة ميسرة (تجعل المكاتبات موثقة وأكيدة) فكم بالحري يفعل اسم المسيح. إنكم بعد ذكر اسم الرب قولوا وافعلوا كل شيء ولا تقدموا على اسمه الملائكة…!

وحيث يوضع الاسم في أي مكان, يبشر بكل الخير, فإن كان يطرد الأرواح الشريرة, وإن كان يشفي الأمراض, فكم بالحري يجعل العمل أكثر يسرًا…

انظروا كيف أنه باسم الرب أرسل إبراهيم خادمه وباسم الرب قتل داود جليات. عجيب هو اسمه وعظيم…

لا شيء يعادل هذا الاسم. عجيب هو في كل مكان, يقول: “اسمك دهن مهراق” (نش 3:1) من ينطقه يمتلأ فورا بأريجه ومكتوب” لا أحد يمكنه أن يقول إن يسوع رب إلا بالروح القدس (1 كو 3:12) حقا إن هذا الاسم يصنع أعمالًا عظيمة. فإن قلتم باسم الآب والابن والروح القدس, بإيمان لأنجزتم كل شيء. فما أعظم الأمور التي فعلتموها…

لقد تجددنا بهذا الاسم (خُلقنا من جديد). إن كان لنا هذا الاسم, نشرق أمام الآخرين. إنه يصنع الشهداء والمعترفين. إنه قد وهبنا عطية عظيمة, حتى نحيا في مجد, ونرضي الله. ونُحسب متأهلين للخيرات التي وعد بها الذين يحبونه, بالنعمة والرأفات[264].

القديس يوحنا الذهبي الفم

 المسيح قانون الأسرة 18-21

“أيتها النساء اخضعن لرجالكن،

كما يليق في الرب” [18].

إذ يرفعنا الرسول بولس إلى السماء ليكون لنا عربون السماويات، يترجم هذه الحياة في الواقع الأسري، لتصير الأسرة أيقونة الأسرة السماوية.

يطالب الرسول الزوجة أن تتشبه بالكنيسة الخاضعة لعريسها المسيح، فإن هذا الخضوع ليس مطلقًا، وإنما “كما يليق في الرب“.

هذا الخضوع هو مشاركة الكنيسة سماتها الفائقة، وفي نفس الوقت هو رد فعل طبيعي لتكريم رجلها لها وحبه وتقديره لها، إذ يليق بالرجال أن يعطوهن “الكرامة كوارثات معهم نعمة الحياة” (1 بط 3: 7). فإن كان الرجل لا يسلك كما يليق تشعر الزوجة بتكليف من ربنا يسوع للخضوع لا عن خنوع وإنما كشاهدة لإنجيل المسيح، وكما ينصحهن الرسول: “وإن كان البعض لا يطيعون الكلمة، يُربحون بسيرة النساء بدون كلمة” (1 بط 3: 1-2).

    أخضعهن لأجل الرب, لأن هذا الأمر يكرمهن…

ولا أعني ذلك الخضوع كما لعبيد أمام سيدهم، وليست خضوع تحتمه طبيعتهن، بل هو لأجل الرب…

لأنه يمكن للإنسان الذي يحب أن يكون قاسيًا بعض الشيء, وما يقصده إذن هو, لا تتشاجرا, لأنه ما من شيء أحَّر من ذلك الشجار وخاصة حينما يقع من جانب الزوج ضد زوجته…

وإذ تجد الزوجة نفسها محبوبة, فإنها أيضًا تحب وتخضع, فيبذل رجلها لأجلها ويرضخ. تأملوا كيف تسير الطبيعة نسقها: أن واحدًا يخضع والآخر يحب. لكن, إذ تخضع لكم زوجاتكم, لا يليق أن تستبدوا, وأنتن إذ يحبكن رجالكن لا تنتفخن متكبرات, وليت حب الرجل لا يصيب المرأة بالخيلاء, ولا خضوع الزوجة يجعل الزوج ينتفخ متغطرسًا… لا تخشين من خضوعكن, لأن خضوعكن لمن يحبكن لا يشكل صعوبة. ولا تخشوا الحب, إذ بالحب ترضخ لكم نساؤكم. وفي كلا الحالين يتوثق رباط (العلاقة الزوجية)[265].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“أيها الرجال أحبوا نساءكم،

ولا تكونوا قساة عليهن” [19].

يطالب الزوج أن يعامل زوجته كسفير المسيح، ليصير البيت كنيسة مقدسة. خلال هذه الحياة المقدسة يتقدس الاثنان، ويكون لكل منهما أثره على الآخر. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن الزوجة المحبوبة تصير محبة، فإن أطاعت رجلها تصيره لينًا.

غالبا ما يخفق خضوع المرأة كميلٍ طبيعي لديها, إذا ما فشل الرجل في استيعاب مضمون هذه الآية. أحبنا المسيح إلى الحد الذي بذل حياته لأجل الكنيسة عروسه. هكذا فليحب الزوج زوجته كنفسه (أف 29,28:5) بل وأكثر من نفسه. ومن يحب زوجته بهذا الشكل لا يقسو عليها ولا يكون خشنًا معها. فكل هذا لا يتفق مع الحب.

“أيها الأولاد أطيعوا والديكم في كل شيء،

لأن هذا مرضي في الرب” [20].

يقوم الأبناء بالطاعة للوالدين ليس إرضاء لهم، وإنما للرب إذ يشاركون السيد المسيح سمة الطاعة. فلا تكون الطاعة بالنسبة لهم مهانة ولا تحطيمًا لشخصياتهم، بل شركة مع المسيح في سماته.

هذا والأبناء الذين يرون في الأم طاعتها للزوج، وفي الأب حب صادق للزوجة، يعيشون كما في السماء، فتصير الطاعة سمة طبيعية للجو السماوي الذين يعيشونه.

يوصي هنا بالاستماع والطاعة في خضوع، وقبول الوصية (أع 7:6؛ 13:12؛ مت 27:8)، ولا يليق بنا أن نطيع في تذمر, بل بالحري يريد الله أن يقدم كل منا طاعته بإرادته وبحب لوالديه.

    أرأيتم كيف يريدنا أن نفعل كل ذلك لا بموجب الطبيعة فقط, بل ما هو أسبق من ذلك, مما يرضي الرب, لننال أيضًا مجازاة[266].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“أيها الآباء لا تغيظوا أولادكم لئلا يفشلوا” [21].

كان الأب في المجتمعات القديمة هو رأس العائلة بلا منازع, وكل من يعصى أوامره يعتبر مذنبًا.

لا تغيظوا أولادكم, أي لا تضايقوهم فوق احتمالهم أو تثيرونهم. لا تدفعوهم إلى إتيان أفعال عنيفة. عاملوهم ككائنات آدمية, احترموا أفكارهم, فلا تتوقعوا منهم أشياء غير معقولة.

حقا يقول الحكيم: “لا تمنع التأديب عن الولد، لأنك إن ضربته بعصا لا يموت” (أم 23: 13). لكن لا يليق بالوالدين المبالغة في التأديب حتى وإن كان الدافع هو تربيتهم في مخافة الرب. يقول المرتل: “كما يتراءف الأب على البنين يتراءف الرب على خائفيه” (مز 103: 13). لنتشبه بالله في أبوته الحانية حتى في تأديبه لأولاده: “الرب رحيم ورؤوف، طويل الروح، وكثير الرحمة؛ لا يحاكم إلى الأبد، ولا يحقد إلى الدهر” (مز 103: 8-9). العقاب هو لأجل التعليم وتحسين خصال الطفل, وليس لقهره أو فقدانه ثقة واحترام أبويه.

كلمة “تغيظ” تعني التحقير أو التشهير أو التهديد أو النقد اللاذع أو الشتيمة أو تحطيم نفسه كفاشلٍ، وهذا يتنافي مع ما تتطلبه “وداعة الحكمة بالتصرف الحسن” (يع 3: 13). قيل عن الآباء المبالغين في الحزم: “وباء الشباب هو انكسار قلوبهم”.

    لم يقل “حبوا أولادكم” لأن في هذا نافلة القول أو تحتم الطبيعة عليهم أن يفعلوا ذلك, لكن ما يحتاج إلى تقويم قوَّمه, فلكي يكون الحب هو الأكثر اتقادًا, فتكون الطاعة أعظم[267].

القديس يوحنا الذهبي الفم

وصايا للعبيد 22 -25

“أيها العبيد أطيعوا في كل شيء سادتكم حسب الجسد،

لا بخدمة العين كمن يرضي الناس،

بل ببساطة القلب،

خائفين الرب” [22].

يوجه الرسول وصايا خاصة بالعبيد الذين تحطمت نفوسهم حيث كانوا يُباعون ويشترون كسلعة، ليس لهم أية حقوق، إذ يستطيع سيده إن أراد أن يقتله.

لم يكن يتوقع العبيد أن يجدوا إنسانًا حرًا روماني الجنسية يهتم بأمرهم، ويوجه إليهم حديثًا خاصًا بهم. لكنهم وجدوا في الرسول بولس الحر حامل الجنسية الرومانية يضم نفسه إليهم كواحد منهم. “فإننا لسنا نكرز بأنفسنا، بل بالمسيح ربًا، ولكن بأنفسنا عبيدًا لكم من أجل يسوع” (2 كو 4: 5).

مرة أخري إذ يضم الرسول نفسه إلى طبقتهم يرفع أنظارهم إلى السيد المسيح ليدركوا أنهم يطيعون سادتهم ليس إرضاء لهم بل لرب كل البشرية، لا ليقدم لهم أجرة، بل كأبناء ينالون ميراثًا أبديًا. أما السادة الظالمون فيدينهم سيد كل البشرية الذي لا يحابي الوجوه.

من يرضون الناس” هم الذين لا يهتمون بالوظيفة ذاتها. فكل مقصدهم أن يروا أن عملهم ظاهر، وفي نفس الوقت ينجزونه بأقل قدر مستطاع.

    ما يتحدث عنه إلى العبيد ليس لأجل سادتهم فحسب, بل لأجلهم هم أيضًا ليكونوا موضع حب وود سادتهم, لكنه لم يعلن ذلك صراحة, لكيلا يجعلهم فاتري الهمة (نحو سادتهم) [268]

القديس يوحنا الذهبي الفم

    ولكي لا يتألم أحد, أضاف “سادتكم حسب الجسد” أما نفوسكم وهي الجزء الأفضل فهي حرة, وهو يقول إن خدمتكم لها سببها, ولهذا أنتم تخضعون.

اسمعوا النبي يقول: “بدد الله عظام الذين يرضون الناس” (مز 6:53 سبعينية) فهل رأيتم كيف يحافظ على مشاعرهم وكيف يوصيهم بالنظام. وكيف يحدث ذلك (بوحدانية القلب) “خائفين الرب“، لأن ما فعلته لم يكن بوحدانية القلب بل عن الرياء أن تتمسك بشيء وأنت تمارس شيئًا آخر. وأن تظهر بمظهر حينما يأتي السيد, ثم لا يلبث أن تنقلب مواقفك إذا ما غاب[269].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“وكل ما فعلتم فاعملوا من القلب،

كما للرب ليس للناس” [23].

قد يكون شخص ما هو رئيس العمل أو قاض اليوم وغدًا, لكن الله هو رأسنا وهو قاضينا إلى الأبد، فهو إلى الأبد على العرش وهذا هو محور اهتمامنا.

    إنه يرغب أن يتحرروا لا من الرياء فقط, بل ومن تكاسلهم, لقد صيرهم أحرارًا بدلًا من عبيد, حين لا يحتاجون إلى إشراف سادتهم, لأن التعبير “من القلب” يعني “بإرادة صالحة” وليس كحتمية بسبب العبودية، بل بحرية وبملء الإرادة والاختيار[270].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“عالمين أنكم من الرب ستأخذون جزاء الميراث

لأنكم تخدمون الرب المسيح” [24].

“وأما الظالم فسينال ما ظلم به وليس محاباة” [25].

ليس عند الله محاباة. فالخطية هي الخطية, حتى إن اقترفها مؤمن (عب29,28:12).

*    لكن ماذا لو كنتَ عبدًا (خادمًا)؟ ليس في هذا ما يخجلك. ونفس القول يوجهه أيضًا للسادة, كما في رسالته إلى أهل أفسس (أف 9:6) لكن يبدو هنا أنه يلمح إلى السادة اليونانيين (الأمميين), لأنه ماذا لو كان هو يونانيًا, وأنت مسيحي؟ فإن ما تُفِحص ليس الأشخاص بل الأفعال, هكذا فإنه في هذه الحالة يجب أن تخدموا بإرادة صالحة ومن القلب[271].

القديس يوحنا الذهبي الفم


من وحي كو 3

لأخلع رداء الذل، وألبس ثوب العرس!

 

*     التحفت يا كلمة الله السماوي بناسوتنا!

وأنت السماوي لم تستكنف من بشريتنا.

قدمتك ذاتك لباسًا إلهيًا بهيًا!

 

*     بروحك القدوس اخلع الإنسان القديم.

ليس لأعماله لذة في داخلي،

ولا لشهواته سلطان على أعماقي.

أنت قوتي وخلاصي!

أنت قاطن في أعماقي.

 

*     لأخلع الثوب الذي نسجته بفساد إرادتي.

لأبقى بطبيعتي الفاسدة تحت قدميك.

لأهرب إليك يا أيها الجبل الفريد،

أهرب لحياتي فلا أهلك مع سدوم وعمورة.

 

*     أنت ثوب عرسي.

أرتديك فأختفي فيك.

عوض ترابي يشرق بهاؤك فيّ!

عوض الأرض بوحلها،

أنعم بالسماويات بمجدها.

 

*     بروحك أرتدي ثوب الفرح،

عوض القلق والإحباط والفشل،

تتهلل نفسي بالتسبيح والشكر!

 

*     أقدم لك تسبحة لن يسمعها أحد سواك!

يلهج قلبي بلغة الشكر التي لن يفهمها غيرك!

أشارك طغمات السمائيين تسابيحهم،

وأنطق في أعماقي بلغة السماء!

 

*     إذ تسكن فيٌ تصير ناموس حياتي.

في كل تصرف تقودني بنفسك!

أراك في أسرتي، كنيستك المقدسة.

أسلك فيك ولأجلك،

فتتحول حياتي إلى سماءٍ جديدةٍ!

فاصل

فاصل

 تفسير كولوسي 2 تفسير رسالة كولوسي تفسير العهد الجديد
 تفسير كولوسي 4
 القمص تادرس يعقوب ملطي
تفاسير رسالة كولوسي تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى