تفسير رسالة كولوسي 4 للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الرابع 

المسيح والحياة الخارجيّة

 

السيّد المسيح هو قانون حياتنا، والموجّه لسلوكنا الخارجي كما الداخلي. يقدم الأصحاح الأخير من هذه الرسالة مرحلة أخرى من حياتنا في المسيح، الحياة الخارجية، وقد وجدنا أَن علينا أن ننمو داخليًا، وفينا تثمر فضائل الحياة الجديدة في المسيح، لكن ثمة شيء أكثر. نريد لحياتنا الجديدة أن يراها الآخرون ويشعروا بها (4: 5) بهذا نقدم السيد المسيحَ للعالم. فإن الاسم “مسيحي” معناه: “مسحاء صغار متحدون بالسيد المسيح”. لم تنتهِ حياة المسيح بإتمام كتابة الأناجيل، فالمسيح يحيا فينا نحن. وحياته اليوم هي بالأحرف الحية التي يعرفها ويقرأها جميع الناس.

 

وصية للسادة 1

أيها السادة قدموا للعبيد العدل والمساواة،

عالمين أن لكم أنتم أيضًا سيدًا في السماوات” [1].

إذ تحدث مع العبيد لخدمة سادتهم، في طاعة لهم من أجل الرب، يوصي الآن السادة أن يسلكوا لا بروح السلطة، بل في خضوع لسيد الكل، متذكرين أنهم سيقدمون حسابا له. “لآن فوق العالي عاليًا يلاحظ والأعلى فوقهما” (جا 5: 8). يليق بهم في معاملتهم مع العبيد أن يتعرفوا على القانون السماوي: “بالكيل الذي به تكيلون، يكال لكم” (مت 7: 2)، “لأن الحكم بلا رحمة لمن لم يعمل الرحمة” (يع 2: 13).

*     ما هو “العدل” وما هي “المساواة”؟ أن نجعلهم في وفرة، غير معوزين شيئًا من الآخرين، بل أن نعوضهم عن تعبهم وعملهم. ولأنني قلت إن لهم مجازاة عند الله، فلا تحرموهم أنتم منها. ويقول في موضع آخر “تاركين التهديد” (أف 6: 9) راغبين أن تصيروهم أكثر لطفًا، فهكذا يكون دأب الكاملين، أي “بالكيل الذي به تكيلون، يُكال لكم” (مت 7: 2)[272]

القديس يوحنا الذهبي الفم

 الصلاة من أجل الخدمة 2-4

“واظبوا على الصلاة ساهرين فيها بالشكر” [2].

يقدم لنا الرسول أربع سمات هامة للصلاة:

المثابرة أو الاستمرارية، أو الصلاة بلا انقطاع، فهي أشبه بالمحرقة الدائمة المقدمة صباحًا ومساءً، يشتمها الرب رائحة سرور وقود للرب (خر 29: 38-39)، هي أشبه بنار المذبح التي لم تكن تُطفأ. “ينبغي أن يًصلى كل حين ولا يمل” (لو 18: 1). مداومة الإكثار من الصلاة تمكنا من بلوغ قصد الله والاتصال به، وتساعدنا في تنامى معرفتنا به، ومعرفته هي الحياة الأبدية، ولا تغير الصلاة الأشياءَ بل تغيرنا نحن”.

السهر أو اليقظة الروحية، فتقدم الصلاة بفهمٍ ويقظة. “أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة” (مت 26: 40).

الصلاة من أجل الخدام لكي يفتح الرب لهم بابًا للكلام، ويكشفوا سرّ المسيح، أو سرّ حب الله الفائق لكل العالم.

الشكر، حيث يقدم المؤمن ذبيحة شكر وتسبيح لله. وكما كتب الرسول: “لا تهتموا بشيءٍ، بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر، لتعلم طلباتكم لدي الله؛ وسلام الله الذي يفوق كل عقل، يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع” (في 4: 6-7).

*     لأن الشيطان يعرف مقدار عظمة الصلاة، لهذا يضغط وبشدة. وبولس أيضًا يعرف كم يصلي كثيرون بعدم اكتراث، بهذا يقول: “واظبوا على الصلاة منتبهين مع الشكر”، لأن هذه هي عادة القديسين: أن يصَّلوا وأن يشكروا لنفع الجميع[273]

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     ليس للشكر مكان (موضع) في النفس والبركات الروحية فحسب، بل أيضًا للجسد ولصالح الجسد[274].

القديس إكليمنضس السكندري

*     نقرأ أيضًا في الإنجيل كيف كان الرب يقضى الليالي كلها في الصلاة وكيف أن الرسل حينما سُجنوا كانوا يمضون الليل كله في ترنيم المزامير، حتى تزلزلت الأرض وآمن حارس السجن وامتلآ الحراس والمساجين بفزع كبير. ويقول بولس “واظبوا علي الصلاة منتبهين“. ويتحدث عن نفسه في موضعٍ آخر أنه كان “يواظب منتبهًا دائمًا”. قد ينام السهران إذا أراد، وقد يكف عن نومه. يعبر مهلك مصر والمصريين لكن فليقل (الساهر) مع داود: “هوذا لا ينعس ولاينام حافظ إسرائيل” هكذا يأتي إلينا القدوس والحافظ، وإن هو نام بسبب خطايانا، فلنقل له “استيقظ، لماذا تنام يا رب؟” وإذا سفينتنا تلاطمها الأمواج فلنوقظه، ونقول: “يا سيد، أنقذنا إننا نهلك”[275].

القديس جيروم

“مصلين في ذلك لأجلنا نحن أيضًا،

ليفتح الرب لنا بابًا للكلام،

لنتكلم بسرّ المسيح،

الذي من أجله أنا موثق أيضًا” [3].

ألم يكن الرسول بولس ممتلئًا بالروح خبيرًا بأسرار الملكوت؟ ألم يكن مقتدرا في تقديم كلمة الله؟ فلماذا يطلب من أهل كولوسي الصلاة من أجله لكي يعطيه الرب كلمة عند افتتاح فمه؟ كان يؤمن بحاجة كل خادمٍ إلى صلوات الشعب عنه، ولكي يشترك الكل معًا في الكرازة، سواء بالصلاة أو بالكلمة. فالشعب شريك الرسل في هذه النعمة (في 1: 7).

سرّ المسيح” هو سرّ حكمة الله المكتومة منذ الدهور (1 كو 2: 7-8). كما يقصد به سرّ المسيح المعلن في الرسول نفسه ليبشر به بين الأمم (غل 1: 16). هو سرّ “الكلمة” التي سعى بولس لإعلانها، رسالة الإنجيل عمومًا وشخص المسيح بوجه خاص. يشير بولس هنا إلي الحق المعلن بشكل خاص عن ربنا يسوع، شخصه وعمله كمسيح الله.

الذي من أجله أنا موثق أيضًا” من أجل هذا السرّ، قاسي الرسول بولس الكثير من اليهود، فصار مقيدًا بسلاسلٍ (أف 6: 20)، لكنه في تواضع يطلب منهم الصلاة من أجله. “فبكل سرورٍ أفتخر بالحري في ضعفاتي لكي تحل علي قوة المسيح. لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح، لأن حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي” (2 كو 12: 9-10).

لم يسألهم بولس أن يصلوا ليخفف (الله) أحماله أو يطلق سراحه (كو 4: 18) ولم يطلب حتى أن تُنقذ حياته (في 4: 11)، لكن في تلك الساعة الحالكة كان تفكيره منحصرًا فقط في أن “يفتح الله بابًا للكلمة” من أجلنا.

*     يا للعجب! لم يقل البطل العظيم “لكي أتحرر من وثقي” بل لأنه كان في القيود كان يحث الآخرين، ويخصهم لأجل قصدٍ عظيمٍ أن تكون له جسارة على الكلام[276].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“كي أظهره كما يجب أن أتكلم” [4].

إذ شبع القديس بفيض غنى نعمة المسيح التي لا تستقصى (أف 3: 8)، وأدرك قوة الصليب بكونه قوة الله الخلاصي (1 كو 2: 3؛1: 18)، وتمتع بالمصالحة مع الله، ورأى أبواب السماء مفتوحة أمامه، وملكوت الله قائم في أعماقه، شعر بالالتزام أن يتكلم ولا يصمت.

*     إن قيوده تسنده ولا تعوقه…! أجل، إن قيودي تعطيني جسارة أعظم، لكني أصلي من أجل إعانة الله لي أيضًا، لأنني سمعتُ صوت المسيح يقول: “إذا سلموكم لا تهتموا كيف أو بماذا تتكلمون” (مت 10: 19).

يكون السجين في هلع، حينما لا يكون تحت طائلة من القيود، لكن الذي يحتقر الموت كيف يخشى السلاسل؟ إنهم يفعلون نفس الشيء وكأنهم قيدوا بالوثق بولس وأغلقوا فمه[277].

القديس يوحنا الذهبي الفم

 الاهتمام بالذين في الخارج 5-6

“اسلكوا بحكمة من جهة الذين هم من خارج،

مفتدين الوقت” [5].

يرى القديس بولس كل بشر من خلال مسيحه، فكما نزل كلمة الله إليه لكي يدخل به إلى الحياة الجديدة السماوية، هكذا بروح الرب يقول القديس بولس مقتديًا بسيده: “صرت للكل كل شيءٍ، لأخلص على كل حال قومًا” (1 كو 9: 22).

يطالبنا الرسول بولس نحن أيضًا أن نسلك مع الغير بحكمةٍ وبتدقيقٍ لكي نقتنيهم لحساب ملكوت الله. فبالسلوك اللائق يمكننا أن نشهد لمسيحنا، ونسحب القلوب إلى الصليب ليتمتع كثيرون بقوة الله للخلاص، وينفتح أمامهم باب الرجاء.

كل لحظة من لحظات عمرنا لها تقديرها، يمكن أن تكون سرّ بركة أو مرارة وهلاك، لهذا يقول: “مفتدين الوقت” [5].

“ليكن كلامكم كل حين بنعمة، مصلحًا بملح،

لتعلموا كيف يجب أن تجاوبوا كل واحد” [6].

لنحرص أن تكون كلماتنا مصلحة بملحٍ سماويٍ، ممسوحة بمسحة الوداعة ومخافة الرب. لهذا يصرخ المرتل: “ضع يا رب حافظًا لفمي وبابًا حصينًا لشفتي” (مز 141: 3). لتكن كلماتنا انعكاسًا لتقديس قلوبنا بروح الله القدوس. وكما يقول الحكيم: “للإنسان تدابير القلب، ومن الرب جواب اللسان” (أم 16: 1).

*     ما من إنسان أسعد من المسيحي، إذ له أعطي الوعد بملكوت السماوات وما من إنسان يجاهد بجسارة تفوق جسارته، لأنه يجابه كل يوم الخط الذي يحدد حياته، وما من إنسان أقوى منه، لأنه يغلب الشيطان[278].

*     المِلح جيد، وكل تقدمة يجب أن تملحَّ بملح. لهذا أوصى الرسول قائلًا: “فليكن كل كلامكم بنعمة، مملحًا كما بملح”. لكن إن فسد الملح فإنه يُطرح ولا يصلح بعد لشيء إلا لأن يُداس من الناس ويُلقى في الهاوية (الفرن) لهذا يلزم أن يسعى المؤمنون للسماء لتخصيب تربة نفوسهم[279].

القديس جيروم

 تشجيع العاملين معه 7-14

“جميع أحوالي سيعرفكم بها تيخيكس،

الأخ الحبيب، والخادم الأمين، والعبد معنا في الرب” [7].

كان القديس بولس في السجن يتحرك بكل كيانه الداخلي في كمال حرية مجد أولاد الله للعمل الكنسي الكرازي والرعوي.

يكشف الرسول بولس في كل رسائله التي سجلها في السجن، أنه لم يكن السجن بالنسبة له عائقًا بل فرصة للرعاية والكرازة وتشجيع تلاميذه للعمل لحساب الملكوت في بلاد كثيرة,

*     يا للعجب! ويا لعظم حكمة القديس بولس! تأملوا كيف لم يودع رسائله كل شيء، بل الضروري والمِّلح، ففي المقام الأول لا يريد تشتيت أذهانهم بالإسهاب، وثانيًا يريد أن يجعل رسوله (تيخيكس) محاطًا بالتوقير بإصباغ عبارات الإقدام عليه، وثالثًا، تظهر مدى حبه ووده له، وإلا ما ائتمنه علي تلك الاتصالات[280].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     يدعو بولس العبدَ أخًا، ولهذا إذ يصف نفسه بأنه عبد المؤمنين (2 كو 4: 5) يليق بنا أن نهبط نحن جميعًا بكبريائنا ولنطأ بأقدامنا ما لنا من افتخار[281].

*     يظهر هنا حبه العظيم، عالمًا أنه قد أرسله لهذا القصد عينه، وكان ذلك سبب رحلته، هكذا أيضا حينما كتب إلي أهل تسالونيكي، قال: “لذلك إذ لم نحتمل أيضًا استحسنا أن نُترك في أثينا وحدنا، فأرسلنا تيموثاوس أخانا” (1 تس 3: 1، 2) وقد أرسل نفس الشخص إلي أهل أفسس ولنفس القصد، “ليتعرف علي أحوالكم، وليعزى قلوبكم” (أف 6: 21، 22) تأملوا، ماذا يقول؟ لم يقل: “لتعرفوا أحوالي” بل “لأعرف أنا أحوالكم” ولم نره في أي موضع ينشغل بأحواله هو ويذكرها، ويوضح أنهم أيضًا كانوا في متاعب، بتعبير “ويعزي قلوبكم”[282].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“الذي أرسلته إليكم لهذا عينه ليعرف أحوالكم ويعزي قلوبكم” [8].

يبعث إليهم الرسول أخاه الحبيب تيخكس، شريكه في العمل ليهتم برعايتهم ويعزي قلوبهم. إن كان في سجنه كتب رسائل لأهل أفسس وكولوسي كما كتب رسالته الثانية إلى تلميذه تيموثاوس، ورسالته إلى فليمون لتبقي هذه الرسائل سرّ تعزية للكنيسة في العالم كله عبر كل الأجيال، فقد بعث أيضًا رسائل شفوية استودعها مع تيخكس وأنسيمس.

 

“مع أنسيمس الأخ الأمين الحبيب،

الذي هو منكم،

هما سيعرفانكم بكل ما ههنا” [9].

توصية القديس بولس بأنسيمس في الرسالة إلى فليمون تيسِّر عودة هذا العبد الهارب، وتذكر القارئ أنه الآن أخ في المسيح.

*     يضيف أيضًا مديحًا لمدينتهم لكي يكفُّوا عن الخجل، ليس هذا فحسب، بل ليكفوا عن التشامخ عليه[283].

القديس يوحنا الذهبي الفم

أنسيمس: عبد فليمون اختلس من أموال سيده وهرب إلى روما حيث التقى بالرسول بولس الذي بشره بالإنجيل، وولده ثانية وهو في قيود الإنجيل (فل 10) وتأهل أن يكون أسقفًا. أرسله إلى سيده ومعه رسالة إليه (راجع الرسالة إلى فليمون). يدعو العبد أخًا أمينًا، إذ يشهد لشعب كولوسي عن غنى نعمة الله التي حولته من عبدٍ هاربٍ ولص إلى ابن لله مقدس يحمل طبيعة جديدة.

 

“يسلم عليكم أرسترخس المأسور معي،

ومرقس ابن أخت برنابا،

الذي أخذتم لأجله وصايا أن آتى إليكم فاقبلوه” [10].

سجن الرسول لم يجعله في عزلة عن الكنيسة، فبالروح كان في وحدة مع كل الأعضاء بكونهم جسد المسيح الواحد. وفي السجن التف حوله خدام أمناء.

أرسترخس: من تسالونيكي تعرض لوحوش أفسس كما لأخطار البحر الهائج. خاطر بمواجهة وحوش في أفسس حين اضطربت المدينة بسبب القديس بولس، واندفعت الجموع بنفسٍ واحدةٍ إلى المسرح خاطفين غايس وأرسترخس المكدونيين رفيقي بولس في رحلته من أورشليم إلى رومية، ثم تطوع أن يخدمه في السجن. يرى البعض أنه ليس هذا هو نفس أرسترخس المذكور في سفر أعمال الرسل (20: 4؛ 27: 2) فذاك الشخص كان مقدونيًا من تسالونيكي، أما هذا الشخص هنا فهو يهودي، وسواء صاحب بولس إلي روما أو أسر إليها سجينًا في زمن لاحق، فنحن لا نعلم. علي أية حال، فمن زنزانة في روما، يرسل أرق تحياته الطيبة إلي الإخوة في كولوسي.

انحصر أرسترخس بمحبة المسيح، ولم تكن نفسه ثمينة عنده حتى أكمل سعيه بفرحٍ، والخدمة التي تقبلها من ربنا يسوع، متمثلًا بصديقه القديس بولس.

 

مرقس ابن أخت برنابا“: وهو القديس مرقس الرسول كاروز الديار المصرية. انحدر عن أسرة يهودية عريقة في أورشليم وقد عرف الإنجيل مبكرًا (أع 12: 5، 12)، وكشابٍ صغيرٍ التحق بالخدمة برفقة بولس وبرنابا في أولى رحلاتهما، لكنه سرعان ما عاد من برجة بمفيلية (أع 12: 25؛ 13: 5، 13)، وقد تسبب هذا في خلاف بين الرسولين بولس وبرنابا، فأخذ الأول سيلا والثاني مرقس (أع 15: 38). وإن كان قد تصالح أخيرًا مع القديس بولس. قال عنه لتلميذه تيموثاوس: “نافع لي للخدمة” (2 تي 4: 11). طلب من أهل كولوسي أن يقبلوه، ربما لأنهم عرفوا منذ حوالي عشرة سنوات رفض الرسول بولس أن يأخذه معه في رحلته الكرازية الثانية.

*     لا شيء يفوق هذا المديح، عن ذاك الذي أتى خادمًا معه من أورشليم، فقد قال هذا الرجل أشياء أعظم من التي قالها الأنبياء، لأنهم كانوا يدعون أنفسهم “غرباء وأجانب” لكن هذا الإنسان يسمى نفسه “سجينًا” وكسجين حرب كان يُجَّر هنا هناك وحسب هوى كل فرد يعاني شرًا، بل وتساء معاملته أكثر من السجناء[284].

القديس يوحنا الذهبي الفم

 

“ويسوع المدعو يسطس الذين هم من الختان،

هؤلاء هم وحدهم العاملون معي لملكوت الله،

الذين صاروا لي تسلية” [11].

يسوع المدعو يسطس“: وهو ليس يسطس نفسه المذكور في أع 1: 23. جندي مجهول، اسمه مثل كثيرين محفوظ في سجلات السماء وإن كنا لا نعلم عنه شيئًا.

يحدثنا القديس بولس عن التعزية (التسلية) التي تلقاها من معاونيه. فالرسول بولس الذي في وسط أحلك اللحظات يقول: “سلمنا فصرنا نحمل” (أع 27: 15)، والذي كثيرًا ما يؤكد أن يسوع المسيح هو قوته وسرّ تعزيته ومسرته، لن ينكر دور الأحباء العاملين معه. عندما استقبله المسيحيون في فورت أبيوس بجوار مدخل روما،  شكر الله وتشجع (أع 28: 15). مرة أخرى توقع أن يرى تلميذه تيطس، وإذ لم يجده لم يحتمل بالبقاء في المدينة فاضطر أن يتركها (2 كو 2: 13) . تكشف رسائله، خاصة ص 16 من رسالته إلى أهل رومية، عن دور أحبائه ومعاونيه في حياته وفي خدمته.

*     يذكر ثلاثة أسماء يهودية (أرسترخس ومرقس ويسطس)، وثلاثة أسماء أممية (أبيفراس ولوقا وديماس)، أما تيموثاوس فكان خليطًا.

*     يقول: “العاملين معي، لملكوت الله“، فإنهم شركاؤه في التعب والكد، فهم شركاء (أيضًا) في الملكوت[285].

القديس يوحنا الذهبي الفم

 

“يسلم عليكم أبفراس الذي هو منكم،

عبد للمسيح،

مجاهد كل حين لأجلكم بالصلوات،

لكي تثبتوا كاملين وممتلئين في كل مشيئة الله” [12].

أبفراس: رجل صلاة يجاهد معه بالصلوات من أجل نمو ملكوت الله. بالنسبة له الصلاة ليست عملًا روتينيًا، وليست واجبًا يلتزم به، لكنها معركة ضد قوات الظلمة، حيث يطلب غنى نعمة الله لتعمل في حياة الكثيرين. الله يطلب رجل صلاة: “وطلبت من بينهم رجلًا يبني جدارًا ويقف في الثغرة أمامي عن الأرض لكيلا أفنيها، فلم أجد، فسكبت سخطي عليهم”. مع جهاده في الصلاة كان خادما أمينا للمسيح بشر كنائس نهر اللوكس (كولوسي ولاودكية وهيرابوليس كو 1: 7). الآن وهو في زيارة للرسول بولس في رومية لم يشغله هذا عن جهاده بالصلاة من أجل مخدوميه.

*     وُصفت صلوات كلمة الله المتجسد نفسه أنها قدمت بصراخٍ شديدٍ ودموعٍ وطلباتٍ وتضرعاتٍ (لو 22: 41، 44 ؛ عب 5: 7).

لم يكف رجال الله عن الصلاة من أجل الشعب (عز 9: 5-7؛ خر 32: 11-14؛ إر14: 7-9).

في بداية هذه الرسالة أيضًا، يوصى بهذا الرجل الذي أحبه، لأن المدح علامة حب، لهذا قال في البداية: “الذي أيضًا أطلعنا علي ما أنتم عليه من المحبة بالروح” (كو 1: 8) والصلاة لأجل إنسان هي أيضًا علامة حب، بل وتعيد الحب من جديد… وهو يقول: “لا ينفك يجاهد عنكم في صلواته”، ولم يقل فقط: “يصلي” بل “يجاهد في الصلاة” في خوفٍ ورعدةٍ[286].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فإني أشهد فيه أن له غيرة كثيرة لأجلكم،

ولأجل الذين في لاودكية،

والذين في هيرابوليس” [13].

المدن الثلاث، كولوسي واللاذقية وهيرابوليس، كانت قريبة جدًا من بعضها البعض ويمكن أن يزورها المرء في يومٍ واحدٍ. وقد أرسلت تلك الرسالة إلى أهل كولوسي ولاودكية (4: 15) ولم ترسل إلي أهل هيرابوليس، مما يدل علي أن ما كان في المدينتين لم ينتشر في الأخيرة آنذاك.

 

“يسلم عليكم لوقا الطبيب الحبيب وديماس” [14].

لوقا الطبيب الحبيب: رافق القديس بولس في رحلتيه الثانية والثالثة، وها هو بجانبه في الرحلة الأخيرة قبل محاكمته أمام قيصر. ” لوقا وحده معي” (2 تي4: 11). وقد خدم الرب باستقامة، وكان ممتلئًا بالروح القدس وتنيح في الرابعة والثمانين من عمره.

 الختام 15-18

“سلموا على الإخوة الذين في لاودكية،

وعلى نمفاس، وعلى الكنيسة التي في بيته” [15].

يختم الرسول رسالته بتحياته وبركاته.

من كان نمفاس؟ وأين عاش؟ من المحتمل أن الكنيسة التي في بيته، هي نفسها كانت في هيرابوليس، طالما أن تلك المدينة لم يورد ذكرها هنا.

وكان من المألوف في أزمنة العهد الجديد أن يفتح أخ غنى بيته الواسع لأجل استقبال المؤمنين (وقت الاجتماعات).

وكانت رسالة القديس يوحنا إلي أهل اللاذقية، والتي كتبت بعد 30 سنة فيما بعد، تكشف عن تلك الكنيسة في المراحل الأخيرة للارتداد (رؤ 3: 14-19).

*     تأملوا كيف يوحدهم معًا، لا بالتحية فقط بل بتبادل الرسائل أيضًا. ثم يبعث إليهم بتحية مرة أخرى، إذ يخاطبهم فردًا فردًا. وهو لا يفعل ذلك بدون سبب، بل ليقود الآخرين أيضا ليتمثلوا بغيرته المتقدة، لأنه ليس شيئًا تافهًا أن يُهمل ذكرك بين الآخرين. تأملوا أيضًا كيف يكشف عن عظمة دور هذا الإنسان إذ كان بيته كنيسة[287].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“ومتى قُرئت عندكم هذه الرسالة،

فاجعلوها تقرا أيضًا في كنيسة اللاودكيين،

والتي من لاودكية تقرأونها أنتم أيضًا” [16].

كان القديس بولس يهتم اهتمامًا خاصًا بتلك الكنائس، حتى وإن لم يكن يعرف غالبية شعبها (2: 1).

كانت “رسالة بولس إلي اللاذقية” محل العديد من الجدل، إذ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم [يقول البعض إن تلك لم تكن رسالة بولس إليهم، بل رسالتهم إليه، لأنه لم يقل الرسالة إلى أهل لاودكية بل التي “من لاودكية “[288].]

يرى البعض أن الرسالة إلى لاودكية هي الرسالة إلى أهل أفسس بكونها عاصمة آسيا، وهي رسالة دورية لكل الكنائس في المقاطعة بما فيها لاودكية.

“وقولوا لارخبس،

انظر إلى الخدمة التي قبلتها في الرب، لكي تتممها” [17].

لم يكن أرخبُّس في كولوسي، بل بالحري كان خادمًا في الكنيسة التي في بيت فليمون (فل 2)، لكنه كان قريبًا منهم بالدرجة التي تجعل نقل الرسالة إلىه أمرًا سهلًا للغاية. ذكر أيضًا في فل 2 “أرخبس المتجند معنا”، وها هو يذكره هنا بالخدمة التي تسلمها وقبلها في الرب. اعتاد الرسول أن يذكر تلاميذه والخدام العاملين معهم بدعوتهم لكي لا تفتر محبتهم ولا تضعف أمام مقاومة عدو الخير المستمرة لهم. هذا ما فعله مع تلميذه الصريح في الإيمان تيموثاوس: “وأما أنت فأصح في كل شيء. احتمل المشقات، أعمل عمل المبشر، تمم خدمتك” (2 تي 4: 5). وفعله أيضًا مع قسوس أفسس (أع 20: 18- 32).

*     لماذا لم يكتب إليه؟ ربما لأنه لم يكن يحتاج إليها، بل ما يحتاج إليه مجرد تذِكرة ليصبح أكثر اهتمامًا ونشاطًا[289].

القديس يوحنا الذهبي الفم

بقوله “في الرب” يذكِّر القديس بولسُ أرخيبُّس أن خدمته هي هبة روحية وليست وظيفة رسمية  (قابل رو 12: 6-8، 1 كو 12: 5، أف 4: 12).

“السلام بيدي أنا بولس،

اذكروا وثقي،

النعمة معكم. آمين” [18].

يكتب الرسالة والقيود في يديه، يسجلها لا بقلمه كفكرٍ فلسفيٍ، ولكن بقيوده كخادمٍ متألمٍ محبٍ لخلاص الكل. فما يطلبه من القراء قد تممه واختبره وسط الضيقات المستمرة, وكأنه يكتب: “لست أكتب إليكم من فراغ، ولكن من منبر الصليب العملي، حيث أختبر نعمة المسيح المصلوب الغنية. ليتكم تتمتعون بنعمته كما اختبرها حتى في قيودي”. يذكِّر القديس بولس من يقرأ له بأن من يتألم لأجل المسيح له الحق في أن يتكلم نيابة عن المسيح، بهذه الملحوظة يختتم الرسول رسالته.

بعد إملاءه الرسالة، كان بولس يذكر مصداقيتها كعادته (قابل 1 كو 16: 21، غل 6: 11، 2 تس 3: 17، فل 19)، وذلك بكتابته بيده سلامًا إليهم.

*     هذا دليل علي إخلاصهم ومودتهم، أنهم كانوا يتطلعون إلي كتابة خط يده بكل الود…

اذكروا قيودي. النعمة معكم” لقد حررهم من الخوف، فبالرغم أن معلمهم في قيود، فإن “النعمة” تسند خوفهم. وهذا أيضًا بسبب النعمة، أعني أن يوثق بسبب الخدمة. اسمعوا لوقا يقول: “وأمّا هم فذهبوا فرحين من أمام المجمع، لأنهم حُسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه (أع 5: 41)…

هل ارتفعت بسبب أعمالكم الحسنة؟ تذكروا قيود بولس وأنكم لم تعانوا مثلما عانى، وحينئذ لن تتشامخوا ثانية…

تذكروا سلاسل بولس، وسوف ترون كم يبدو الأمر غير معقول أنه وهو في الضيقات، تكونون أنتم في سرورٍ. أيضًا هل تورطت قلوبكم في الانغماس في اللذات؟ تذكروا سجن بولس، فأنتم تلاميذه وجنود مقاتلون معه، كيف يُعقل أن تكونوا أنتم رفقاؤه في جهادٍ مكبلين بالقيود، بينما آخرون في رفاهية؟[290]

القديس يوحنا الذهبي الفم

اعتاد القديس بولس أن يذكِّر شعبه بمواظبته علي الصلاة الدائمة والبكاء بدموع لأجلهم، ومن يتمثل ببكائه لأجل خلاص الآخرين، يمتدح القديس يوحنا الذهبي الفم قيود القديس بولس ودموعه، فيقول في عظته الأخيرة على هذه الرسالة:

*     تذكروا دموعه، لمدة ثلاث سنوات، ليل نهار لم يكف عن البكاء (أع 20: 31) وبهذا تفحصون الأمر، إن تلك الدموع تشرق لا أعنى أن تبكوا لأجل الآخرين (وأنى لأود أن تفعلوا ذلك، لكن ذلك أعلى منكم) بل البكاء لأجل خطاياكم أنتم وإني أنصحكم أن تفعلوا ذلك.

*     أي نبع تشبهونه بتلك الدموع التي في الفردوس، التي تسقى الأرض كلها، لكنكم لن تذكروا شيئًا من هذا القبيل، لأن نبع الدموع هذا يغسل النفوس، وليس الأرض، فإن أرانا أحد بولس وقد اغتسل في دموعه، وهو يئن، لن يكون ذلك بأفضل من رؤية جوقات لا تُحصَى تنال الأكاليل في فرحٍ زائدٍ؟

*     هذا الأمر يجعل أعين النفس أكثر جمالًا. إنه يكبح البطن، ويملأ بكل محبة الحكمة، بكل لطف، بل إنه قادر حتى أن يلطف نفس الحجر الصلد. بهذه الدموع ترتوي الكنيسة، بها تزرع الأغصان أجل منهما كانت الانفعالات الحية والجوهرية فإن تلك الدموع تطفئها؛ إن تلك الدموع تطفئ الأدران الدنسة التي للشرير.

*     إذا ما تذكرنا نحن دموعه، نضحك ونحتقر الأمور الحاضرة، تلك الدموع التي طوبها المسيح قائلًا: “طوبى للذين يبكون وينوحون، لأنهم سيضحكون” (مت 5: 4، لو 6: 21). هذه الدموع التي بكى بها إشعياء النبي وإرميا أيضًا: إذ قال إشعياء “أتركوني وحدي، سأبكي بمرارة” (إش 22: 4 السبعينية) وأما إرميا النبي فقال: “من يعطيني أذنِّي مياها وعيني ينابيع دموع كثيرة؟ (إر 9: 1) وكأن النبع الطبيعي (للبكاء) لم يكن بكافٍ.

*     ما من شيءٍ أحلى من تلك الدموع. أنها أحلى من الضحك، أن الذين يتعرضون عليه لا يعرفون مدى التعزية التي لها، لا تظنوا أننا نزعم أن هذا الأمر مستنكر، بل هو أمر يجب الصلاة لأجله كثيرًا، لا لكي يخطئ الآخرون، بل، لكي حينما يخطئون، نحزن بانكسار قلب لأجلهم.

*     هاتان العينان (للقديس بولس) رأتا الفردوس، رأتا السماء الثلاثة، لكنني لا أحسبهما مطوبتين بسبب تلك الرؤية، إذ بسبب تلك الدموع قد رأتا المسيح. حقا طوبى لذلك المشهد، لأنه هو نفسه تمجد به، قائلًا: “ألم أرى أنا يسوع المسيح ربنا” (1كو 9: 1) لكي أطوب أن نبكي.

*     هكذا (بكى) المسيح أيضًا، لكي بسعادة يجب أن يِّوفر دموعه.

*     فلنتذكر نحن هذه الدموع، ولنأتِ نحن ببناتنا وكذا أولادنا ونبكي نحن حين نراهم في شر.

*     هكذا الدموع ليست مؤلمة، أجل، الدموع التي تنهمر بسبب مثل هذا الحزن هي أحلى من الدموع المنسابة بسبب اللذة العالمية. اسمعوا النبي يقول: “سمع الرب صوت بكائي، سمع الرب صوت تضرعي” (مز 6: 8).

*     حينما نعامل إنسانًا خاطئًا، يجب أن نبكي حزانى ومتنهدين، وإذا ما نصحنا أحدًا ولم يستجب، بل يمضي إلى الهلاك، يجب أن نبكي. فهذه هي دموع الحكمة السماوية، وحينما يكون إنسان في فقرٍ، أو في مرض جسماني، أو ميتًا، لا نبكي، لأن تلك أمور لا تستحق الدموع.

*     لا شيء يمسح الخطايا هكذا كالدموع.

*     ما من شيء أحلى من الدموع، لأنها هي أشرف عضو تعرفه وأجمل الأعضاء وهي بنت النفس. لهذا ننحني لها، كأننا رأينا النفس ذاتها تنوح[291].

القديس يوحنا الذهبي الفم

كُتبت إلى أهل كولوسي من رومية بيد تيخيكس وأُنسيمس.

حقا إنه يعني توقيعه، بعد اكتشاف أن آخرين قد كتبوا رسائل باسمه (2 تس 2: 2) وقد أعتاد بولس أن يوقع بنفسه في نهاية رسائله (2 تس 3: 17).

من وحي كو 4

حلولك فيٌ يشهد لإنجيلك!

 

*     حلولك يعطي عذوبة للجميع!

يراك الزوج في زوجته، والزوجة في رجلها!

يراك الوالدين في أبنائهما، وهم في والديهم!

تتحول حياة العبيد إلى العذوبة،

إذ يروك وأنت سيد الكل صرت لأجلهم عبدًا.

اشتهى تلاميذك أن يستعبدوا من أجلهم!

يراك السادة، أنك سيد السادات.

يسلكون مع عبيدهم بالحب،

فيشتهون أن يجدوك فيهم!

بالحق والحب نزعت الحواجز بين البشرية،

وعوض الطبقات المتفاوتة صار الكل سمائيين!

*     هب لي روح الصلاة،

فلست أطلب ما هو لنفسي، بل خلاص كل البشر!

تئن نفسي في داخلي،

حتى تتوقف أنات كل النفوس.

وتتهلل أعماقي حين تتهلل أعماق الكل بخلاصك.

 

*     بنعمتك هب لي أن أعمل في كرمك.

هب لي أن اعمل مع خدامك بروح الحب والتواضع!

هب لي أن أراك في الكل!

فاصل

فاصل

 تفسير كولوسي 3 تفسير رسالة كولوسي تفسير العهد الجديد
 مراجع تفسير كولوسي 
 القمص تادرس يعقوب ملطي
تفاسير رسالة كولوسي تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى