تفسير انجيل يوحنا الأصحاح ٤ للاب متى المسكين

الأصحاح الرابع

هذا الأصحاح يشمل موضوعين أساسين:

الأول : خدمة المسيح في السامرة 4: 1-42 وهو الجزء الخامس والأخير من “إنجيل التجديد”.

والثاني : شفاء ابن خادم الملك 4: 43-54 وهو أول جزء من “إنجيل قوة الكلمة”

 

مكان البشارة:
رابعاً في السامرة

(تابع “إنجيل التجديد”)
5- خدمة المسيح في السامرة

تقديم:

الحديث الذي ينقله لنا القديس يوحنا في هذا الأصحاح يعتبر من الأحاديث الهامة والنادرة، لأنه حديث مثخمي جدأ ومطق ل مع فرد » امرأة ، وقليلآ ما تحت ث المسيح عن خصوصيات إنان وانتهى به إل الإيمان بمثل هذه السرعة والرتابة والتدرج المبهر في الاستعلان عن ذاته . وعلى القارىء أن يربط بين مثل هذه الأحاديث النادرة وبين الغاية النهائية التي وضعها هذا الإنجيلي الملهم بالنسبة للقارىء مباشرة : «لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا أمنتم حياة باسمه.» (يو31:20)
كانت العلاقات بين اليهود وأهل السامرة على مستوى من التعالي من جهة اليهود، والبغضة والعداوة من جهة السامريين، ربما كانت هي الواقع الذي جعل المسيح يركب هذا الصعب ويذلله لحساب محبة الأب نحو العالم، ونحو الملكوت المعد للبعيدين, لأننا نسمع في سفر الأعمال عن تشتت بعض التلاميذ وذهابهم إلى السامرة بعد حادثة قتل إسطفانوس على يدي شاول (بولس الرسول فيما بعد) وحدوث «اضطهاد عظيم على الكنيسة التي في أورشليم فتشتت الجميع في كور اليهودية والسامرة ما عدا الرسل.» (أع1:8)
‏وهكذا صارت السامرة مكروهة الأمة اليهودية, ملجأ أمينأ لأول المسيحيين بفضل زيارة المسيح لهذا البلد وزرع بذرة الملكوت هناك. كذلك نسمع عن بعثة رسمية بقيادة فيلبس، أحد الشمامسة، قام بها في السامرة: «فانحدر فيلبس إلى مدينة من السامرة وكان يكرز لهم بالمسيح. وكانت الجموع يصغون بنفس واحدة إلى ما يقوله فيلبس عند استماعهم ونظرهم الأيات التي صنعها. لأن كثيرين من الذين بهم أرواح نجسة كانت تخرج صارخة بصوت عظيم، وكثيرون من المفلوجين والعرج شفوا. فكان فرح عظيم في تلك المدينة» (أع5:8-8). بل ودخلت السامرة رسمياً في إيبارشية أورشليم تحت تدبير الرسل وعنايتهم الخاصة: «ولما سمع الرسل الذين في أورشليم أن السامرة قد قبلت كلمة الله أرسلوا إليهم بطرس ويوحنا اللذين لما نزلا صليا لأجلهم لكي يقبلوا الروح القدس. لأنه لم يكن قد حل بعد على أحد منهم غير أنهم كانوا معتمدين باسم ‏الرب يسوع. حينئذ وضعا الآيادي عليهم فقبلوا الروح القدس.» (أع14:8-17)
‏وهكذا كانت السامرة ذات موضع أثير عند القديس يوحنا. وكم شكر الله الذي أهل هذا الرسول القديس أن يكتب لنا سر قصة السامرة من البدء. فهو الوحيد الذي ألقى ضوء الإنجيل على هذا الشعب كاشفاً سر بدء نمو بذرة «حبة الخردل» التي ألقاها المسيح في قلب امرأة نصف أممية، فنبت حالاً الملكوت وتمهدت لأرجل بشارة الرسل، ليغرس الروح القدس في قلوب شعب اختاره الرب بعد أن نبذه اليهود والتاريخ.
‏وموضع قصة السامرة في تسلسل إنجيل القديس يوحنا محكم شديد الإحكام، يتبع مخططاً روحياً غاية في الإلهام. فالقارىء يذكر كيف افتقد الرب أول ما افتقد الشعب اليهودي الذي يعيد في حفلة عرس، وهناك أظهر العريس الحقيقي نفسه لشعب إسرائيل الذي كان قد فرغ منه خمر الحب والفرح والملكوت. فعالجه المسيح بأن حول تطهير الماء الذي لا ينفع ولا يشفع بخمر الحياة الجديدة الجيدة. ثم يذكر كيف افتقد الرب هيكله, وقام في وجه النظام الكهنوتي الذي ترك الحق والرحمة وانشغل بذبيحة البقر والغنم والحمام وتحويل الصلاة إلى مصدر رزق ولو بغير حلال؛ فأطلق سراح البقر والغنم ورفع الحمام من هناك ناقضاً التطهير بالذبائح، ومشيرأ إلى ذبيحته الوحيدة، التى أضمرها لإقامة هيكل جديد عوض القديم.
‏وبعدها يذكر القارىء أنه تقابل مع الناموس ممثلاً في شخص معلم إسرائيل نيقوديموس، الذي يمثل السنهدريم وكل طبقة المعلمين, وكيف قلب له نظام التعليم من أساسه, جاعلاً ملكوت الله رهن ولادة الإنسان من فوق من الماء والروح, حتى ولو كان قد شاخ في العلم والتعليم. وبعدها اصطنع مقابلة سريعة, دون تقابل, لخدمة المعمدان, قبل أن يختمها المعمدان بالسجن, ليوضح لتلاميذه المتعصبين للنسك والتطهير كأنه الباب الجديد للخلاص, مع أن زمن التطهيرات كان قد انتهى عندما انفتح الباب الوحيد للخلاص, ولا أحد قط يستطيع أن يغلقه أو يقلده.
‏وهكذا بعد أن تمت مقابلة الشعب في عرس، ومقابلة الكهنوت في هيكله, ومقابلة الناموس في معلمه, ومقابلة المعمودية «بالماء فقط» في عجزها النسكي؛ كان عليه أن يعطي لفتة لشعب غريب كان قد تجاوز في كل الأزمنة السالفة, مع إسرائيل شعب النور والمعرفة, فما عتم إلا أن ازداد عتامة، وتخبط بين أسفار موسى وأصول العبادة وبين هيكل أورشليم وهيكل جرزيم.
‏ما هي السامرة ومن هم السامريون؟: أما السامرة نفسها فكانت جزءاً لا يتجزأ من أرض فلسطين التي كانت مقسمة خاصة بعد العودة من السبي, وإلى الأن, إلى اليهودية والسامرة وإسرائيل (الجليل). وكانت مساحتها بحسب إذرزها العالم اليهودي المتنصر تبلغ 47 ‏ميل من الشمال إلى الجنوب وأربعين ميلا من الشرق للغرب، تحدها أرض اليهودية في الجنوب ونهر الاردن من الشرق, ومن الغرب سهل شارون (الذي كان يتبع اليهودية أيضاً), ومن الشمال الجليل عند سهل يزرعيل. أي أنها ورثت أرض منسى وأفرايم سبطي إسرائيل ليوسف.
‏وأرض السامرة أجمل وأخصب من أرض اليهودية. ولكن في أيام المسيح تقلصت وصارت لا تحتوي إلا على بعض مدن قليلة بجوار عاصمتها السامرة. والسامرة كعاصمة لاسرائيل مملكة الشمال بناها الملك عمري حوالي سنة 925 ق. م. وكان اسمها شمرون نسبة لصاحبها شامر(وانقلبت الشين سين حسب النطق العربي فصارت سامرة) الذي كان يملك الجبل كله وهو باسمه جبل شمرون: «في السنة الواحدة والثلاثين لآسا ملك يهوذا، ملك عمري على إسرائيل اثنتي عشرة سنة واشترى جبل السامرة (شمرون) من شامر صاحب جبل السامرة.» (امل23:16-25).
‏والسامرة دخلت في حرب طاحنة وخربت ثم عُمرت مرات ومرات، وكان يتبادل غزوها واحتلالها كل من مصر وسوريا مبتدئاً من زمن الملك شيشق سنة 918 ق.م، وهذه أول غزوة قامت بها مصر، وهي التي فيها أخلى فلسطين والهيكل من كل الذهب والتحف التي خلفها سليمان الملك. وفي إحدى غزوات أشور سبي شعبها على يد الملك شلمناصر الثالث ( أو سرجون) وذلك سنة 721 ق. م أيام عزيا الملك، الذي خان العهد مع آشور والتجأ إلى مصر للمعونة . وكانت النتيجة أن خربت البلاد عن آخرها, وسبي كل شعب مملكة إسرائيل في الشمال (سماريا)، وانمحى تاريخ إسرائيل منذ ذلك الوقت كمملكة في العالم.
‏ومدينة السامرة في أيام المسيح كانت بقرب المدينة شكيم التي عاش فيها الآباء إبراهيم واسحق ويعقوب. والتي تخربت سنة 128 ق. م على يد يوحنا هركانوس، والتي بني عوضا عنها على بعد ميل ونصف مدينة أخرى، وصار اسها نابلس (وأصلها نيابوليس, أي المدينة الجديدة). وشكيم عاصمة السامرة سابقاً كانت إحدى مدن الملجأ الست في كل أرض الأسباط.
‏أما السامريون، وأصلاً كانوا يدعون «كتييم», فهم بقايا العشرة الأسباط الذين رحلوا إلى بلاد السبي على يد الملك الغازي شلمناصر(أو بحسب أبحاث كتابات الأثار: سرجون) سنة 721 ق. م والذين تزاوجوا من الوثنيين الذين أُرسلوا من أشور ليحلوا محل أهل البلاد، كذلك مع أهل الأرض القدامى، ولكن الدم اليهودي كان هو الغالب.
‏وأصل العداوة المرة التي نشأت بين اليهود واليهودية وأهل السامرة وأرضها، كان هو عملية الإصلاح التي قام بها نحميا وعزرا الكاهن في تصفية الدم اليهودي، وطرد كل من تزاوج من السامرة, وعدم السماح لأهل السامرة بالرغم من الإلحاح الشديد أن يسمح لهم بالمساعدة في بناء الهيكل أو أن ينضموا إلى اليهودية وعبادة أورشليم أو أن يلتحقوا بالسنهدريم، مما نتج عنه شعور بالبغضة لم ينطفىء أوزاره حتى اليوم. وذهبت العداوة إلى درجة القنص وقتل كل يهودي يعبر السامرة. ولكن هذه العداوة كانت تزداد وتخف من جيل إلى أخر.
ولكن عبادة السامريين كانت مبتورة بسبب قلة التعليم, مع أنهم كانوا يعيدون للفصح بذبح الخروف ويقيمون الشعائر والعبادة بدقة تفوق اليهود، وكذلك بحسب أسفار موسى الخمسة فقط التي احتفظوا منها بنسخة غاية في القدم يرجع تاريخها إلى حوالي سنة 400 ق. م أيام نحميا وعزرا الكاهن، والتي تعتبر أحد مصادر البحث الهامة في المقارنات بين إلآيات. وكانوا يؤمنون بالقيامة, غير أن اليهود أنكروا عليهم هذا الإيمان وكانوا يعتبرونهم هراطقة. ولكن في أيام الحاخام شمعون بن غمالائيل معلم إسرائيل العظيم قرر أنهم يُحسبون إسرائيليين، وأن أرضهم ليست نجسة ولا طعامهم، بعكس رابي « يهوذا» المحسوب أنه قديس عند شيعته فكان يتشدد وينعتهم بالوثنيين. وطبعأ الأساس في ذلك هو روح العداوة التي لا تعرف للحق حدودا.
‏كانت عبادة السامريين تقام في هيكلهم على جبل جرزيم الذي أقيم سنة 409 ق. م وقد حدث في هذه الأيام أن رئيس كهنة اليهود الكبير المدعو ياددوا امتنع من أن يسمح لأخيه المدعو منسى أن يتزوج بنت سنبلط السامري وأرغمه على الفرار من اليهودية. فذهب هذا الأخير وأقام نفسه رئيس كهنة لهيكل جرزيم عند السامريين. وهكذا صار جبل جرزيم مركز عبادة رسمياً، وصارت كل مراسيم العبادة تحمل صورة طبق الأصل من العبادة اليهودية. ولكن لما انضم السامريون إلى السوريين الذين غزوا المكابيين وذلك سنة 130 ق. م قام يوحنا هركانوس بهدم هيكلهم ولم يُبنى بعد ذلك. كذلك مدينة السامرة التي بعد أن خربت بكاملها بُنيت من جديد على يد هيرودس وصارت من أجمل المدن، وأسماها سبسطية عل شرف أغسطس قيصر، كما أعيد بناء شكيم وسُميت على شرف العائلة المالكة في روما «فلادفيا نيابوليس» وهي نابلس الحالية.


 وقد ظهر عطف المسيح على السامرة والسامريين في عدة مواضع غير الذي نحن بصدده الآن:
1- في الموضع الذي طُهر فيه العشرة البرص: «فواحد منهم لما رأى أنه شٌفي رجع يمجد الله بصوت عظيم وخر على وجهه عند رجليه شاكرا له، وكان سامريا. فأجاب يسوع وقال: أليس العشرة قد طهروا فأين التسعة؟ ألم يوجد من يرجع ليعطي مجداً لله غير هذا الغريب الجنس؟» (لو15:17-18), هنا يدعوه المسيح غريب الجنس بحسب تسمية اليهود للسامريين, ولكنه ضمناً امتدحه وامتدح جنسه أكثرمن اليهود. وفي هذا المثل مقارنة مكتومة بين أخلاق اليهود وروحهم المبتعدة عن الله حتى وفي عدم ردهم على صنع الخير لهم، وبين السامريين المعترفين بفضل الله وبصوت عظيم.
2- الموضع الآخر وهو أعظم وأجل تكريم قدمه المسيح للسامرة والسامريين، إذ أعطى مثلآ صار فيه السامري الصالح لقباً جليلاً ذا شأن عظيم في الحياة المسيحية. هذا المثل قاله المسيح رداً لى سؤال متبجح ليهودي يسأل: «من هو قريبي؟»، في الوصية التي تقول: «تحب قريبك مثل نفسك» (لا18:19). فأعطى المسيح مثلاً لاذعاً قدم فيه أن كاهناً لم يتحرك لينقذ إنساناً يهوديا نازلاً من أورشليم متجهأ نحو أريحا مُعرى ومجروحا ومضروبا ملقى بين حي وميت على الطريق. ولا أيضاً تحرك لهذا المنظر يهودي لاوي أي من خدام الهيكل. «ولكن سامريا مسافراً جاء إليه ولما رأه تحنن، فتقدم وضمد جراحاته، وصب عليها زيتاً وخمراً وأركبه على دابته، وأتى به إلى فندق واعتنى به، وفي الغد لما مضى أخرج دينارين وأعطاها لصاحب الفندق وقال له اعتي به، ومهما أنفقت أكثر فعند رجوعي أوفيك. فأي هؤلاء الثلاثة تُرى صار قريباً للذي وقع بين اللصوص؟» (لو33:10-33).
3- أما الموضع الأخير فقد وضع فيه المسيح في عنق الكنيسة لتكمل ما صنعه هو: «لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم وتكونون لى شهودا في أورشيم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض.» (أع8:1)
والأن إلى ما يتضمنه حديث المسيح في السامرة واستجابة أهلها:
1- يقدم لنا القديس يوحنا عرضاً لإيمان أهل السامرة النصف أمميين، فإذا هو الإيمان الحاضر المستجيب المُعلن عن نفسه ببراءة ويقين وصحة: «أنت مخلّص العالم»، ومن كل قلوبهم، إزاء:
‏أولأ: أهل أورشليم مركز العبادة والمتعبدين بإيمانهم السطحي الهزيل المتهافت على الآية والمعجزة.
‏وثانياً: إيمان معلم إسرائيل التائه الحائر ممثل صفوة العلماء والمتعلمين، مع رد فعل الفريسيين على تعاليم المسيح المملوء شكاً وخبثاً ومصادرة.
‏وهكذا يقدم لنا القديس يوحنا هذه الإستراحة الإيمانية بين هؤلاء من غير اليهود عن طريق الكرازة لليهود المملوء تعسفاً وضيقاً وجحوداً.
2- يعلو بنا القديس يوحنا في هذه الوقفات القليلة مع السامريين إلى أقصى استعلان بلغة المسيح عن نفسه. فمع السامرية استدرج إيمانها حتى بلغت به المسيا, فوافقها معلناً «أنا هو».
‏أما درجات الاستعلان البارزة فما أوضحها في هذه الكلمات المتلاحقة:
+ «أنت يهودي وأنا امرأة سامرية».
+ «يا سيد».
+ «لا دلو لك والبئر عميقة, ألعلك أعظم من أبينا يعقوب؟».
+ «أعطني هذا الماء لكي لا أعطش».
+ «يا سيد أرى أنك نبي».
+ «أنا أعلم أن مسيا يأتي = (أنا هو)».
‏ومع السامريين الذين عاشرهم عدة أيام أكلاً وشارباً من خبزهم وماءهم ملاطفأ متحنناً، حتى بغ بهم الإيمان أن رأوه بيقين الرؤيا والشهادة: «أنت مخلص العالم».
3- قرب نهاية قصة السامرة يفتتح المسيح سجل الإرساليات المزمع أن يكون، وذلك لأول مرة في إنجيله هكذا، وفي بكور أعماله متكلماً عن المرسلين، وزرع الدموع، وحصاد الفرح، وكأنه يدرب أولاده كما يدرب النسر فراخه على التحليق والصيد. وقد كان بالفعل أن تمت أول إرسالية نقرأ عنها في أصحاح 8 أعمال الرسل على يد فيلبس أحد الشماسة السبعة، تلاها إرسالية تزعمها القديس بطرس, ولكن كان القديس يوحنا روحها الذي شغف بأهلها أيما شغف، بعد أن امتص من المعلم روح المسامحة واللطف والحب والتحنن على الرافضين والمرفوضين سواء، وهكذا خلع القديس يوحنا ثوبه اليهودي الأول المطرز بالعلياء والكبرياء ولبس مسوح المسيح:
«وأرسل أمام وجهه رسلاً فذهبوا قرية للسامريين حتى يعدوا له، فلم يقبلوه لأن وجهه كان متجهاً نحو أوشليم, فلما رأى ذلك تلميذاه يعقوب ويوحنا قالا: يا رب أتريد أن نقول أن تنزل نار من السماء فتفنيهم كما فعل إيليا أيضاً. فالتفت وانتهرها وقال: لستما تعلمان من أي روح أنتما, لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس بل ليخلص.» (لو52:9-56)
‏وهكذا يشاء الله أن يكون القديس يوحنا أول من يضع يده على رؤوسهم ويستنزل لهم الروح القدس فيحل عليهم ويصيرون من التابعين.
4- في هذه الرحلة المشوقة في أرض السامرة أعلن المسيح ولأول مرة عن الماء الحي الذي يعطيه، وأن كل من يشرب منه لا يعطش أبداً، وعن العبادة بالروح والحق وأن الله روح وهو يطلب الساجدين له بالروح والحق، وعن هيكل العبادة الذي حير الناس بألوانه وأشكاله، بأن وضع أول أساس لاورشليم السماوية على الأرض حيث لا هيكل أورشليم ولا هيكل جرزيم: «وأراني المدينة العظيمة أورشليم المقدسة نازلة من السماء من عند الله… ولم أر فيها هيكلاً لأن الرب الله القادر على كل شيء هو والخروف هيكلها.» (رؤ10:21و22‏)

 

الشرح

1:4و2و3 فَلَمَّا عَلِمَ الرَّبُّ أَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ سَمِعُوا أَنَّ يَسُوعَ يُصَيِّرُ وَيُعَمِّدُ تلاَمِيذَ أَكْثَرَ مِنْ يُوحَنَّا. مَعَ أَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ يُعَمِّدُ بَلْ تلاَمِيذُهُ. تَرَكَ الْيَهُودِيَّةَ وَمَضَى أَيْضاً إِلَى الْجَلِيلِ

«فلما»:
إذا جاءت في بداية الكلام، فهي دائماً تحمل نوع الإرتباط وتحمَّل الأية على ما قبلها. فهنا «فلما» تعني: «وحينئذ عندما» علم الرب. وهنا التحميل يجيء مرتكزاً على ما حدث من تلاميذ المعمدان والإثارة التي أحدثوها, خاصة عندا اشاعوا أن «االجميع» يأتون إلى المسيح وأن المسيح يعمد تلاميذ أكثر من يوحنا؛ هذا الخبر ترامى لأسماع الفريسيين وغالباً فإنهم أعدوا العدة للمصادرة. هذا علمه المسيح قبل وقته، فأخذ الاحتياط تجتباً للمصادمة, قبل ميعاد الساعة, مع الفريسيين المحسوبين أنهم أعداء الإيمان.

‏ويوضح القديس يوحنا أن الإشاعة حملت مضموناً كاذبأ أن المسيح يعمد, فصححها القديس يوحنا قائلاً: «مع أن يسوع نفسه لم يكن يعمد بل تلاميذه». وهذا توضيح لا بد منه، لأن المعمودية لم تكن قد أخذت وضعها المسيحي كسر يختص بملكوت السموات، بمعنى أنها لم تكن مدعمة بالروح القدس بعد, فقد كانت مجرد إعداد لمعمودية قادمة. هذا بالإضافة إلى أن سر المعمودية في المسيحية يشمل أساساً مضمون موت المسيح وقيامته، وهذا لم يكن قد تم بعد.
‏«ترك اليهودية»: وقرر المسيح أن ينسحب, وجاءت في العربية «ترك» ينسحب من عمله في اليهودية ويمضي أيضاً إلى الجليل. و«ينسحب» هي الترجمة الدقيقة لما يعنيه الفعل اليوناني ( ) ‏في هذا الموضع. ولكنها لم ترد في الترجمات العربية للعهد الجديد وهي تفيد: «ترك الأمر على ما هو عليه ليبلغ نهايته من نفسه».
«ومضى أيضاً إلى الجليل»: «أيضاً» هنا منسوبة إل القول السابق في 43:1 «وفي الغد أراد يسوع أن يخرج إلى الجليل». وكانت هذه هي المرة الاولى، أما هنا فهي المرة الثاية. والسر في أن القديس يوحنا يضع هنا «أيضاً» هو سر خطير للغاية، لأنه يود أن يؤكد التفريق بين زياتين تمتا للجليل: الاولى بعد خدمته في اليهودية أول مرة؛ والثانية وهي هذه، بعد خدمته في اليهودية لثاني مرة، الأمر الذي أغفله الإنجيليون الثلا ثة وجعلوا خدمته في الجليل قائمة بذاتها دون الإشارة إلى خدمته في اليهودية.

4:4  وكان لابد له أن يجتاز فى السامره

«وكان لابد له» تفيد نوعاً من الام ستعجال أو, وهو الأصح, نوعاً من الإلتزام, لذلك نرى المسيح يتخذ طريقه من داخل السامرة مع أنه طريق شاق وحار (صيفاً)، بالإضافة إلى أنه محظور نوعاً ما بسبب كراهية اليهود من الإختلاط والسير في أرض السامرة واحتمال تعدي أهل السامرة على المارين أحياناً. أما الطريق الأخر الأسهل فكان من غرب الاردن ينطلق شمالاً حتى إلى الناصرة. وان كان يبدو للباحث العادي أن هذا الاختيار هو وليد الحاجة إلى الإسرع في مغادرة اليهودية، ولكن الحقيقة التي كان يعلمها المسيح هي أنه كان ملتزماً بمهمة، فقد كان عطشاناً إلى ماء السامرة كعطشه على الصليب من أجل الخطاة. وكان طريق اليهودية إلى الجليل عبر السامرة يستغرق ثلا ثة أيام, بحسب يوسيفوس المؤرخ اليهودي.

5:4- فأتى إلى مدينة من السامرة يقال لها سوخار, بقرب الضيعة التي وهبها يعقوب ليوسف ابنه

‏«سوخار»: الآن تُسمى «عسكر». وقد بحثت عن هذا الاسم فُوجد في أخبار أيام السامرة في المخطوطات، ومكتوب اسها «إسكار» ‏في مدونات القرن الثاني عشر, وهي تقع تحت سفح جبل عيبال, وهو جبل اللعنات, وفي مقابله تماماً جبل جرزيم, جبل البركات، وبين السفحين تقح مدينة شكيم التي كانت عاصمة مملكة إسرائيل بالقرب من مدينة الناصرة التي تحول اسمها أيام هيرودس الملك إلى سبسطية نسبة إلى اغسطس قيصر (حيث اغسطس باللاتيني يقابلها سبستوس باليونانية)، ولكنها في أيام المسيح لم تكن قد أخذت صورتها واسمها بالكامل.
‏+ «وإذا جاء بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لكي تمتلكها فاجعل البركة على جبل جرزيم واللعنة على جبل عيبال.» (تث29:11)
+ «وأوصى موسى الشعب في ذلك اليوم قائلاً: هؤلاء يقفون على جبل جرزيم لكي يباركوا الشعب حين تعبرون الاردن: شمعون ولاوي ويهوذا ويساكر ويوسف وبيامين . وهؤلاء يقفون ملى جبل عيبال للعنة. رأوبين وجاد وأشير وزبولون ودان ونفتالى.» (تث11:27-13)
«الضيعة التي وهبها يعقوب ليوسف ابنه»: في بركة يعقوب إسرائيل الأخيرة وهوعلى سريره في مصر (تك20:48-22)، وهو رافع يديه على أفرايم ومنسى, وهب يوسف هذا المكان أي هذه الضيعة المذكورة في تك17:33-20. وكانت كلمات يعقوب هكذا: «وباركهما في ذلك اليرم قائلاً: بك يُبارك إسرائيل قائلاً يجعلك الله كأفرايم ومنسى، مقدما أفرايم على منسى. وقال إسرائيل ليوسف: ها أنا أموت ولكن الله سيكون معكم ويردكم إلى أرض آبائكم. وأنا قد وهبت لك سهماً واحداً فوق إخوتك أخذته من يد الأموريين بسيفي وقرسي.»(تك20:48-22)
‏وهناك في سفر يشوع يتضح صحة هذه الدعوى: «وعظاو يوسف التي أصعدها بنو إسرئيل من مصر دفنوها في شكيم في منطقة الحقل التي اشتراها يعقوب من بني حور أبي شكيم بمائة قسيطة فصارت لبني يوسف ملكا» (يش32:24). ولا يزال قبر يوسف هناك بجوار هذا البئر حتي اليوم.
‏فإذا علمنا أن سبطي أفرايم ومنسى كان نصيبهما من أرض كنعان منطقة السامرة الأن بعينها, تكون دعوى السامريين بانتسابهم ليعقوب صحيحة، وأنهم وارثون بركة يعقوب في أفرايم ومنسى صحيحة أيضاً. ولكن واقعهم الروحي والإلهي كان متدهوراً للغاية. كذلك يتضح من كلام السامرية للمسيح بعد ذلك: «ألعلك أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا البئر وشرب منها هو و بنوه ومواشيه», تأكيداً لميراث الأرض والبركة.

 


6:4- وَكَانَتْ هُنَاكَ بِئْرُ يَعْقُوبَ. فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ السَّفَرِ جَلَسَ هَكَذَا عَلَى الْبِئْرِ وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ.

«ليْسَ مِثْل اللهِ يَا يَشُورُونُ. يَرْكَبُ السَّمَاءَ فِي مَعُونَتِكَ وَالغَمَامَ فِي عَظَمَتِهِ. الإِلهُ القَدِيمُ مَلجَأٌ وَالأَذْرُعُ الأَبَدِيَّةُ مِنْ تَحْتُ. فَطَرَدَ مِنْ قُدَّامِكَ العَدُوَّ وَقَال: أَهْلِكْ. فَيَسْكُنَ إِسْرَائِيلُ آمِناً وَحْدَهُ. تَكُونُ عَيْنُ يَعْقُوبَ إِلى أَرْضِ حِنْطَةٍ وَخَمْرٍ وَسَمَاؤُهُ تَقْطُرُ نَدىً (تث26:33-28)
«بئر يعقوب»:‏ هذه البئر موجودة حتى الأن تحت عناية الجهات الرسمية المختصة بالآثار. وكان عمقها في الأصل نحو 106 قدم، ومياهها ترشح إليها من الأرض حولها فهي شحيحة نوعاً ما. وقد نزل في هذا البئر الرحالة اللفتنانت أندرسون في مايو سنة 1866 فوجد عمقها 75 قدم, ونصف قطرها 7 قدم, ولكنها كانت مطموسة وليس بها ماء، وكانت مغشاة بحجارة غشيمة ولكن متماسكة.
‏والذي حير العلماء هو لماذا هذه البئر شحيحة المياه مع أن حواليها ينابيع غزيرة في شكيم وكل الدائرة؟ وكان الرد هو أن يعقوب وهو متغرب هناك وقد اشترى قطعة الأرض هذه, أراد أولاً أن يكون له مصادر مياه خاصة به هو وبنوه ومواشيه. هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى كان حفر بئر في الأرض يعتبر أنئذ وضع يد ملكية يثبت ملكيته للأرض الواقع فيها البئر: «ثم أتى يعقوب سالماً إلى مدينة شكيم التي في أرض كنعان حين جاء من فدان أرام (بين النهرين)، ونزل أمام المدينة. وابتاع قطعة الحقل التي نصب فيها خيمته من يد بني حور أبي شكيم بمئة قسيطة. وأقام هناك مذبحاً ودعاه إيل (إيل مفرد إلوهيم) إله إسرائيل.» (تك18:33-20‏)
«تعب يسوع من السفر»: تعب يسوع من عناء السفر، أليس هو ابن الإنسان؟ أليس من أجل هذا تجثم رحلة النزول من حضن الآب ليشارك الإنسان شقاءه وأتعابه وأسفاره؟ ولكنه جيد أن يتعب يسوع مُجربا مثلنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها، لكي يستطيع أن يعين المجربين والتعابى. ولكن لعله تعب من رحلة السفر الطويلة مع الشعب الذي أعطاه القفا دون الوجه: «مددت يدي طول النهار إلى شعب معاند ومقاوم.» (رو21:10‏)
«جلس هكذا على ألبئر وكان نحو السأعة السأدسة»: «هكذا» تفيد أنه جلس بدون ترتيب المكان الذي يجلس عليه من شدة التعب, أو بمعنى متعباً هكذا, وطبعأ كان جلوسه على الحجارة المرصوصة حول البئر. والبئر كان يبعد عن سوخار حوالي كيلومتر ونصف. وكان الوقت منتصف الظهيرة فأضاف الجو بحرارته على تعب الطريق جفاف الريق!!
‏وهل هي من مصادفات الحديث والرواية؟ أم أن هناك علاقة بين هذه القصة ومأساة الصليب، ففي الاثنين نقرأ عن التعب والعطش ونحو الساعة السادسة من النهار. بل والأدهش أن نقرأ في الروايتين أن التلاميذ تركوه وحده!!
‏«البئر»: يورد القديس يوحنا في هذه الرواية لفظين متباعدين يعبران عن البئر:
الأول ( ) وهو يعني ينبوع ماء, وفي أصوله اللغوية سواء باليوناني أو العبري أو العربي، يكون بمعنى «عين» بالعربي. وبالعبري ( ) وهو الينوع الطبيعي الذي لم تنقره يد إنسان وماؤه جار أي حي. وهذا اللفظ العبيري يذكره القديس يوحنا إذا كان ملازماً للرب سواء جلس عليه أو أعطى هو منه ماءً حياً. «يصير فيه ينبوع ( ) ماء ينبع إلى حياة أبدية» (يو14:4)
الثانى: وهو البئر المحفور باليد أو كخزان، ويكون غالباً عميقاً ومياهه شحيحة وراكدة. واللفظة بالعربية مثل العبرية «بئر» ( ‏). والعجيب أن هذا اللفظ التعبيري يذكره القديس يوحنا عندما يكون ملازماً للسامرية: «يا سيد لا دلو والبئر ( ) عميقة» (11:4)، وأيضاً عندما قالت: «ألعلك أعظم من أبيا يعقوب الذي أعطانا البئر ( ) وشرب منها هو وبنوه ومواشيه»(12:4).
‏وهكذا يكشف لنا القديس يوحنا عن منهجه الروحي، ويبثه بالحديث بثاً كمن يطوع الألفاظ لفكره اللاهوتي، وكأنه يريد أن يردد الآية: «شعبي عمل شرين. تركوني أنا ينبوع ( ) الماء الحي لينقروا لأنفسهم أباراً (خزانات) مشققة لا تضبط ماءً.» (إر 13:2)
‏أليس في هذا التصوير البديع باللعب بالألفاظ ما يكشف عن رؤية كاتب الإنجيل أن بئر يعقوب هو هو المسيح ينبوع الحياة: «أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية، أنا أعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجاناً… من يسمع فليقل تعال، ومن يعطش فليأت، ومن يُرد فليأخذ ماء حياة مجاناً» (رؤ6:21؛ 17:22)
‏أما «الساعة السادسة»: فليست الساعات عند القديس يوحنا بلا حساب. أليست هي عينها ساعة الخلاص التي قال فيها «أنا عطشان»؟ إنه دائمأ على ميعاد مع الخطاة في منتصف النهار قبل أن يأتي ليدين في نصف الليل.
6:4- وَكَانَتْ هُنَاكَ بِئْرُ يَعْقُوبَ. فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ السَّفَرِ جَلَسَ هَكَذَا عَلَى الْبِئْرِ وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ.

«ليْسَ مِثْل اللهِ يَا يَشُورُونُ. يَرْكَبُ السَّمَاءَ فِي مَعُونَتِكَ وَالغَمَامَ فِي عَظَمَتِهِ. الإِلهُ القَدِيمُ مَلجَأٌ وَالأَذْرُعُ الأَبَدِيَّةُ مِنْ تَحْتُ. فَطَرَدَ مِنْ قُدَّامِكَ العَدُوَّ وَقَال: أَهْلِكْ. فَيَسْكُنَ إِسْرَائِيلُ آمِناً وَحْدَهُ. تَكُونُ عَيْنُ يَعْقُوبَ إِلى أَرْضِ حِنْطَةٍ وَخَمْرٍ وَسَمَاؤُهُ تَقْطُرُ نَدىً (تث26:33-28)
«بئر يعقوب»:‏ هذه البئر موجودة حتى الأن تحت عناية الجهات الرسمية المختصة بالآثار. وكان عمقها في الأصل نحو 106 قدم، ومياهها ترشح إليها من الأرض حولها فهي شحيحة نوعاً ما. وقد نزل في هذا البئر الرحالة اللفتنانت أندرسون في مايو سنة 1866 فوجد عمقها 75 قدم, ونصف قطرها 7 قدم, ولكنها كانت مطموسة وليس بها ماء، وكانت مغشاة بحجارة غشيمة ولكن متماسكة.
‏والذي حير العلماء هو لماذا هذه البئر شحيحة المياه مع أن حواليها ينابيع غزيرة في شكيم وكل الدائرة؟ وكان الرد هو أن يعقوب وهو متغرب هناك وقد اشترى قطعة الأرض هذه, أراد أولاً أن يكون له مصادر مياه خاصة به هو وبنوه ومواشيه. هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى كان حفر بئر في الأرض يعتبر أنئذ وضع يد ملكية يثبت ملكيته للأرض الواقع فيها البئر: «ثم أتى يعقوب سالماً إلى مدينة شكيم التي في أرض كنعان حين جاء من فدان أرام (بين النهرين)، ونزل أمام المدينة. وابتاع قطعة الحقل التي نصب فيها خيمته من يد بني حور أبي شكيم بمئة قسيطة. وأقام هناك مذبحاً ودعاه إيل (إيل مفرد إلوهيم) إله إسرائيل.» (تك18:33-20‏)
«تعب يسوع من السفر»: تعب يسوع من عناء السفر، أليس هو ابن الإنسان؟ أليس من أجل هذا تجثم رحلة النزول من حضن الآب ليشارك الإنسان شقاءه وأتعابه وأسفاره؟ ولكنه جيد أن يتعب يسوع مُجربا مثلنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها، لكي يستطيع أن يعين المجربين والتعابى. ولكن لعله تعب من رحلة السفر الطويلة مع الشعب الذي أعطاه القفا دون الوجه: «مددت يدي طول النهار إلى شعب معاند ومقاوم.» (رو21:10‏)
«جلس هكذا على ألبئر وكان نحو السأعة السأدسة»: «هكذا» تفيد أنه جلس بدون ترتيب المكان الذي يجلس عليه من شدة التعب, أو بمعنى متعباً هكذا, وطبعأ كان جلوسه على الحجارة المرصوصة حول البئر. والبئر كان يبعد عن سوخار حوالي كيلومتر ونصف. وكان الوقت منتصف الظهيرة فأضاف الجو بحرارته على تعب الطريق جفاف الريق!!
‏وهل هي من مصادفات الحديث والرواية؟ أم أن هناك علاقة بين هذه القصة ومأساة الصليب، ففي الاثنين نقرأ عن التعب والعطش ونحو الساعة السادسة من النهار. بل والأدهش أن نقرأ في الروايتين أن التلاميذ تركوه وحده!!
‏«البئر»: يورد القديس يوحنا في هذه الرواية لفظين متباعدين يعبران عن البئر:
الأول ( ) وهو يعني ينبوع ماء, وفي أصوله اللغوية سواء باليوناني أو العبري أو العربي، يكون بمعنى «عين» بالعربي. وبالعبري ( ) وهو الينوع الطبيعي الذي لم تنقره يد إنسان وماؤه جار أي حي. وهذا اللفظ العبيري يذكره القديس يوحنا إذا كان ملازماً للرب سواء جلس عليه أو أعطى هو منه ماءً حياً. «يصير فيه ينبوع ( ) ماء ينبع إلى حياة أبدية» (يو14:4)
الثانى: وهو البئر المحفور باليد أو كخزان، ويكون غالباً عميقاً ومياهه شحيحة وراكدة. واللفظة بالعربية مثل العبرية «بئر» ( ‏). والعجيب أن هذا اللفظ التعبيري يذكره القديس يوحنا عندما يكون ملازماً للسامرية: «يا سيد لا دلو والبئر ( ) عميقة» (11:4)، وأيضاً عندما قالت: «ألعلك أعظم من أبيا يعقوب الذي أعطانا البئر ( ) وشرب منها هو وبنوه ومواشيه»(12:4).
‏وهكذا يكشف لنا القديس يوحنا عن منهجه الروحي، ويبثه بالحديث بثاً كمن يطوع الألفاظ لفكره اللاهوتي، وكأنه يريد أن يردد الآية: «شعبي عمل شرين. تركوني أنا ينبوع ( ) الماء الحي لينقروا لأنفسهم أباراً (خزانات) مشققة لا تضبط ماءً.» (إر 13:2)
‏أليس في هذا التصوير البديع باللعب بالألفاظ ما يكشف عن رؤية كاتب الإنجيل أن بئر يعقوب هو هو المسيح ينبوع الحياة: «أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية، أنا أعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجاناً… من يسمع فليقل تعال، ومن يعطش فليأت، ومن يُرد فليأخذ ماء حياة مجاناً» (رؤ6:21؛ 17:22)
‏أما «الساعة السادسة»: فليست الساعات عند القديس يوحنا بلا حساب. أليست هي عينها ساعة الخلاص التي قال فيها «أنا عطشان»؟ إنه دائمأ على ميعاد مع الخطاة في منتصف النهار قبل أن يأتي ليدين في نصف الليل.


 


أ – حديث الرب مع السامرية. (يو7:4-26‏)

‏وتظهر فيه المقابلة بين القديم والجديد على النحو التالي:
القديم: بئر بركات وذكريات الآباه الجسدية, ذات الماء المُعطش.
الجديد: المسيح ينبوع الحياة الآبدية, والذي يشرب منه لا يعطش أبداً.
‏القديم: السجود في جبل أورشليم لليهود، وجبل جرزيم للسامريين الذين يسجدون لما لا يعلمون.
الجديد: «تأتي ساعة وهي الأن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون بالروح والحق “للآب”».
‏القديم: « أنا أعلم أن مسيا يأتي… ذاك يخبرنا بكل شيء».
الجديد والاستعلان: «أنا هو»!


7:4و8 فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ السَّامِرَةِ لِتَسْتَقِيَ مَاءً فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَعْطِينِي لأَشْرَبَ»، لأَنَّ تلاَمِيذَهُ كَانُوا قَدْ مَضَوْا إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَبْتَاعُوا طَعَاماً.

واضح أنه لو كان المسيح مع تلاميذه لما طلب ماء من امرأة. ولكن يتساءل الشراح لماذا تأتي امرأة لتستقي من بئر عميقة وحواليها عيون ماء كثيرة في المنطقة؟ كما يتساءلون لماذا تأتي وقت الظهيرة وهو ليس ميعاد استقاء؟ فالرد على ذلك بسيط ولكنه مُحرج. فالمرأة ذات سمعة سيئة، فهي اختارت وقتاً لا يكون فيه أحد من نسوة المدينة يستقي، كما أنها اختارت البئر الأقرب إلى قريتها. فالبئر تبعد عن سوخار حوالى نصف ميل. ولكن القديس يوحنا لم يلتفت إلى هذه التفرعات التي تلهي القارىء عن لُب الحوار ونتائجه، وهذا هو أسلوب القديس يوحنا أن لا يتدخل في معرض القصة إلا إذا التزم اللفظ بالتوضيح .
‏ولكن ماذا يوحي إلينا هذا المنظر؟ امرأة تستقي من بئر في منتصف النهار، والامرأة كجنس ينظر إليه بخفة عند الحكماء في أعين أنفسهم: «وكانوا يتعجبون من أنه يتكلم مع امرأة» (يو27:4)، ثم عند اليهود بازدراء وامتهان. فليست صنعة المرأة السقي من الآبار إن كانت امرأة ذات بيت وخدم. ولكن هنا نرى الرب يكسر حاجز الجنس القائم بين الرجل والمرأة, وحاجز العداوة القائم بين الإنسان والإنسان، لأننا سنسمع حالاً أن اليهود لا يعاملون السامريين. ولكن أيضاً يكسر حاجز الطبقات ما بين ذي حيثية وغير زي حيثية. فالمنظر أمامنا خصب يوحي بأن الجالس على البئر يمثل السمو غير الموجود في البشر. فإن قال: «أعطيني لأشرب»، فهو سؤال للأخذ, يخفي النية في العطاء. وهذا شأن الله دائماً: «يا ابني أعطني قلبك ولتلاحظ عيناك طرقي.» (أم26:23)
السامرية فرغ ماؤها في منتصف النهار، مثل عرس قانا الذي فرغ خمره. فإن كان اليهود قد ‏أعوزهم سر الفرح، فالسامريون أعوزهم سر الحياة.
ليس مصادفة أن تأتي امرأة سامرية لتستقي والمسيح جالس على بئر يعقوب. ليس هذا من صنع القدر بل من صنع من يصنع «أمراً مقضياً به على الأرض» (رو28:9). فقد ساق الروح هذه المرأة التي هي خير من يمثل البشرية المُهانة التي خارج السياجات، لتصنع هذه المقابلة التي تم تدبيرها منذ الأزل. امرأة مُهانة من شعب ذليل, ليس غريباً عليها أن تتقابل مع من لبس الغربة وأخذ شكل العبد المهان: «قليل أن تكون لي عبداً لإقامة أسباط يعقوب ورد محفوظي إسرائيل. فقد جعلتك نوراً للأمم لتكون خلاصى إلى أقص الأرض. هكذا قال الرب فادي إسرائيل قدوسه للمهان النفس, لمكروه الأمة, لعبد المتسلطين» (إش6:49-7). لقد سُجلت هذه المقابلة ليس في سفر إشعياء أول ما سُجلت، بل في سجل الآزل، لحساب من لبس ابن الله من أجلهم شكل العبد المهان!!
‏«أعطيني لأشرب»: القول ينضح بالمفارقة الصارخة. ينبوع ماء الحياة يطلب أن يشرب من ماء بئر مُعطش ومن يد امرأة جف منها ماء الحياء؟ ولكن دائماً أبداً تقف مفارقات الله مع الإنسان لحساب الإنسان. وهو دائمأ يحتاج إلينا ليعطينا. ولكن قول الرب محسوب حسابه, وليحسب معي القارىء كلمات الرب للمرأة السامرية وهذه هي أولها: فسوف نجدها سبع كلمات بكل ميزان العد والتصنيف وليس زيادة ولا نقصان. فكلمات الرب دائماً محسوبة ومُققنة: انظر العشر وصايا، وانظر السبع تطويبات، والسبع توسلات في الصلاة الربانية, والسبع أمثال في إنجيل متى، والسبع كلمات الأخيرة له على الصليب؛ نجد أن أقوال الرب تأتي مُحكمة الوزن والعد.
«لأن تلاميذه كانوا قد مضوا إلى المدينة ليبتاعوا طعاماً»: ‏من ملابسات القصة يبدو بترجيح شديد أن الرب أرسل تلاميذه ليبقى وحده. ولكن من المحتمل جداً أن القديس يوحنا بقي وحده معه. وكانت هذه مشيئة الرب وألح عليها, لأنه ليس من المعقول بأي حال من الأحوال أن التلاميذ جميعهم يذهبون ليبتاعوا طعاماً ويتركون الرب وحده على طريق السامرة. هذا أمر غير محتمل ولا مقبول من مسلسل القصة. فهم في أرض غريبة وأيضاً معادية. إذن, فكان هذا بناء على إلحاح المعلم حتى يخلو بخروفه الضال الذي طالما فتش عنه. أما القديس يوحنا فربما هو الذي ألح على البقاء معه واستجاب له الرب لأنه لا يغير شيئاً من الإحساس بوحدة المعلم. فكان هذا لحساب تسجيل هذه القصة المملوءة تعليماً وتجديداً. أما سكوت القديس يوحنا عن هذا التوضيح فهو أسلوبه المفضل في روايته.


9:4- فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ السَّامِرِيَّةُ: «كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا امْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟» لأَنَّ الْيَهُودَ لاَ يُعَامِلُونَ السَّامِرِيِّينَ.


أمر غير مرتقب, وغريب عليها كل الغرابة, أن يتكلم رجل مع امرأة ويهودي مع سامرية، ويطلب يشرب ماء من إناء سامري منجس! وفوة هذا ما بال العداوة المحتدمة التي بيننا؟
ولكن ليس هذا كله الذي كان في حُسبان هذه المرأة, ولكن الأخطر من الكل الذي قفز إلى مقدمة تفكيرها أنها أحست بقداسة الجالس على البئر ورأت الخطر محدقاً بها، فاستنفرت فيها الخطيتة قواها لتصد الهجوم قبل أن يقع, وتسد على النور مساره الذي كان قد اخترق قلبها عنوة… قابلت رقة الرب بجفاء مصطنع وصوبت الكلمات في وقاحة متعمدة وكأنها تراجع تعدي رجل على حياء امرأة, أو ترد عنها خدشاً لعفتها المزعومة: «كيف تطلب مني لتشرب وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية!» ولكن هيهات! فالعين الإلهية لا ترتخ, والقداسة لا تهادن، وسهم النور يستحيل أن تصده جحافل الظلمة. فالنور يضىء باقتدار, والظلمة مهما تحصنت وشاكست فهي لا تقوى على صده. فالخاطىء يبادر النور بلطمة، ولكنه يكون كمن يلاطم الهواء يسقط بعدها صريعاً له. وعاد الرب يلح في دعواه والرب لا يُغلب أبداً ، وكأنه المحتاج يلوح بالعطاء، ويتمادى في شرح صدق دعواه، يتودد لها لكي يبدد الإحراج عنها وهو يخفي شباكه وراء كلماته… هو يطرح اللطف ‏وهى تبرز الحراب : «اليهود لا يعاملون السامريين». ثم بدأت الحواجز تنهار…


10:4- أَجَابَ يَسُوعُ: «لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللَّهِ وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيّاً».

 

‏عطية الله
إش 6:9 «أُوعطيناً أبنناً»
يو 16:3 «هكذا أحب الله العالم حتى “أعطى” أبنه الوحيد»


ماءً حياً
يو 4:1 «فيه كانت الحياة»
‏رؤ 17:7 «لأن الخروف الذي في وسط العرش يرعاهم ويقتادهم إلى ينابيع ماء حية».
‏رؤ 1:22 «‏وأراني نهراً صافياً من ماء حياة لامعاً كبلور خارجاً من عرش الله والخروف».
‏إش 3:12 «فتُسقؤن مياهاً بفرح من ينابيع الخلاص».
إش 3:44 «أسكب (أعطي) ماء على العطشان. ‏أسكب روحي على نسلك».
يؤ 28:2 «أسكب روحي على كل بشر»

المسيح يبدأ قوله بكلمة: «لو كنت تعلمين»؛ هو لا يتمنى لها أن تنكشف بصيرتها وتُستعلن الشخص الجالس أمامها، بل بالفعل يفتح أمامها الباب وينبه ذهنها أن تُحسن الرؤيا، ويوحي إليها أن تطلب منه عطية، وهذا هو مفتاح الصلة الحقيقية التي بها تنشأ العلاقة القوية بين الله والإنسان.
‏وفعلاً نجح المسيح في هذا الإيحاء العجيب، وفعلاً طلبت، وان جاء الطلب غير صحيح فقد عدله لها حتى بلغت المستوى! كذلك فإن المسيح ينبهها أنها محتاجة أن تعلم «من هو» ولا تعثر في ‏منظره هكذا، المتعب والمجهد والعطثان! وكأنه يقول لها: «التفتي جيداً لأني افتقرت وأنا غني كما أنا، ولكني افتقرت لأغنيكم, فلا تتعثري في منظر بشريتي هكذا، بل ارفعي بصرك لتري حقيقتي.» وهذا قد تم بالحرف الواحد وفي أقل ما يمكن من الزمن!
‏في الحقيقة المسيح هنا بقوله «لو كنت تعلمين «عطية الله» إنما يقدم نفسه للبشرية الخاطئة كما قصد أبوه الصالح تماماً: «هكذا أحب الله العالم حتى «أعطى» ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة». ثم يعود ويربط هذه العطية، وهي نفسه، بالماء ثم بالحياة، ولكن في صورة الماء الحي أي الجاري، ومن هنا التبس على السامرية الأمر. وهذا أسلوب القديس يوحنا في استخدام اللفظ الذي يرمي إلى معنيين: الأول عادي ومادي، والثاني روحي وإلهي!!
‏والماء الحي الذي في عرف العهد القديم هو مجرد ماء جار كن نهر أو خلافه، هو في العهد الجديد «الماء المُحيي» كعطية الله للانسان على مستوى ماء الشرب الذي يُحيي الجسد بالأساس وبدونه يموت الإنسان. فالماء الحي عند المسيح هو «الحياة الأبدية نفسها». ولكن منظوره ومفهومه على أساس الحياة الجسدية التي يستمدها الجسد من الماء. أما الماء الطبيعي، إذا نال قوة روحية بالصلاة, فإنه يعتبر ماء للتقديس، وهو قادر أن يعطي الحياة الأبدية بالمعمودية بسبب قوة الحياة التي حلت فيه بالصلاة.
‏كذلك وحينما نسمع في المزمور قول داود النبي: «عطشت إليك نفسي» (مز1:63) فهو صراخ في طلب الحياة كصراخ العطشان إلى الماء طلباً للحياة. وهنا يكون الله هو بمثابة الماء الحي أو ماء الحياة أو الماء المُحيي!! ولكنه هنا يُسمى بالماء الحقيقي لنفرقه عن الماء الزائل.
‏ولو رجعنا بنظرة خاطفة إلى الوراء ، لرأينا الماء عنصراً أساسياً في التغيير للتحول من القديم إلى الجديد في تعاليم المسيح الماضية . ففي عرس قانا وجدنا الماء يتحول خمراً, ومع نيقوديموس الإنسان يتحول إل خليقة جديدة «بالماء والروح»، ومع معمودية المعمدان يلزم الماء الروح القدس وإلا بطل مفعوله. وهنا يقدم المسيح نفسه «كينبوع ماء حي» يفيض على من يعطش إليه ويطلب. وكان الماء في كل هذه المواقف هو الماء الحي الذي يعني بالنهاية «الأ ليثيا» أو الله نفسه.
‏ويلزمنا جداً أن نرتفع بالحوار في شكله الفردي، لا كأن المسيح سيعطي السامرية وحدها، ولكن علينا أن ننظره من أفق أوسع يشمل كل من كان على مستوى السامرية: «إنسان صنع عشماء عظيماً ودعا كثيرين وأرسل عبده في ساعة العشاء ليقول للمدعوين تعالوا لأن كل شيء قد أُعد, فابتدأ الجميع برأي واحد يستعفون … حينئذ غضب رب البيت وقال لعبده اخرج عاجلاً إلى شوارع المدينة وازقتتها وأدخل إلى هنا المساكين والجدّع والعرج والعمي… اخرج إلى الطرق والسياجات وألزمهم بالدخول حتى يمتلىء بيتي.» (لو16:14-23)
‏لو أدركنا أن حقيقة ينبوع الماء الحي تخص الله القدير في العهد القديم كما هو واضح من الآية عن يسووع الماء الحي بكل وضوح: « أيها الرب رجاء إسرائيل كل الذين يتركونك ييخزون. الحائدوذ عني في التراب يُكتبون لأنهم تركوا الرب ينبوع المياه الحية, اشفني يا رب فأُشفى … لأنك أنت تسبيحتي» (إر 13:17-14)، لأدركنا في الحال أن المسيح هنا في هذه الآية إنما يستعلن نفسه من خلال الماء الحي بكل يقين.
‏وإن أردت أيها القارىء أن تعرف صحة هذه العقيدة اللاهوتية أن المسيح هو الرب القدير ينبوع المياه الحية الذي يشفي كل جراح البشرية ويخلص الذين في الحضيض، فانتظر إلى نهاية هذه القصة لترى كيف نضح الرب عليها بالماء الحي فشُفيت وكيف سكب عليها من روحه فخلمت وقامت واستقامت، وتأهلت البشرية العاهرة أن تأخذ رتبة البنين وتصير تلميذاً ومعلماً!!


11:4- قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ لاَ دَلْوَ لَكَ وَالْبِئْرُ عَمِيقَةٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَكَ الْمَاءُ الْحَيُّ؟.

‏أخيراً رضيت العاصية أن تدخل الحوار!… فالعرض سخي غاية السخاء ولكه غير معقول البتة؛ وهكذا دائمأ عطية الله. وأنى للخاطىء أن يدرك حقيقة العطاء الإلهي وهو مرتبك بعطايا العالم، والفرق بين العطائين لا يقاس ولا يُحد؟ هكذا أصرت النفس المنطوية على عجزها التي لم تذق بعد عطاء الله، ولسان حالها يقول: وهل تمطر الماء ذهباً؟ «أتحيا هذه العظام؟» (حز3:37‏)، «هكذا قال السيد الرب لهذه العظام ها أنذا أُدخل فيكم روحأ فتحيون» (حز5:37)
‏«يا سيد لا دلو لك والبئر عميقة»: هكذا تغيرت صورة المسيح عند السامرية من: «أنت يهودي» إلى «يا سيد». وهكذا ينجح المسيح دائمأ في أن يغير، لا صورته بل صورة من يسمع إليه فيراه أكثر على حقيقته. ولكن الخاطىء يضع العراقيل دائماً في وجه من يحاول خلاصه!!
‏«يا سيد لا دلو لك والبئر عميقة؟» لقد استقرت الخطيئة في القاع وهيهات أن تصل إليها, ولكن خيطاً رفيعاً من الأمل يستقر خلف «يا ميد». أليس في هذه الكلمة ما يعني أنه صار صاحب السيادة على نفسها؟ صحيح أنها تتمسك بنظرة المستحيل، ولكن لعل «السيد» عنده شيء؟
«فمن أين لك الماء الحي»: لقد عجزت أن ترى في الأفق حلاً، فإذا كان ليس له دلو ليستقي من بئر فكيف يعطي هذا ماء جارياً وكأنه من ينبوع؟ هكذا تضع النفس لها قيوداً وتقفل على نفسها بالقدر لترضى بعجزها وتقطع الطريق على المحاولة، ولكن عند الرب حلول تفوق القدر والمقدرات، وتتعدى كل الإمكانيات والتصورات: «والقادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر بحسب القوة التي تعمل فينا.» (أف20:3‏)


 12:4- أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ الَّذِي أَعْطَانَا الْبِئْرَ وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ؟

‏عودة سريعة إلى الخلف ليتحصن الخاطىء في ماضيه ليراه حسناً وأفضل على كل حال من القفز نحو المجهول، هكذا تشبث نيقوديموس بشيخوخته ورأى فيها استحالة الدخول في ضيق البطن ليولد من جديد؛ بل هكذا رأى رؤساء الكهنة والفريسيون أن الهيكل بوضعه أفضل من تعديل يودي بحياة الأمة؛ بل وهكذا رأى تلاميذ المعمدان أن معمودية الماء أفضل من التغيير نحو معمودية الروح.
‏إن أصعب ما يلاقيه الخاطىء هو كيف يقفز نحو المجهول، ولكن هذا هو مطلب الإيمان الأول.
‏هكذا تعود السامرية تتشبث ببركات الآباء وبطوطم البئر الذي ورثوه عن يعقوب, وكأنه يغني عن كل جديد! فمياهه الشحيحة الراكدة هي أفضل من الماء الحي.
‏يلاحظ هنا أن الإنجيل يورد كلمة «وشرب منها هو وبنوه ومواشيه»، وهذا للامعان في تحديد وظيفة الماء, باعتباره ماءً جسدياً أو حيوانياً محضاً في مقابل ما سيكشف عنه بخصوص «الماء الحي» الذي هو الماء المختص بالحياة الجديدة السماوية، التي طالما تغنى بها الربيون اليهود أنها هي هي التوراة. فالتوراة (الناموس) في تأملاتهم هي الماء الحقيقي التي تجلي العين وتنير البصيرة, والتي صحح معناها المسيح بأنها هي الحياة الآبدية التي تنبع في روح الانسان بالروح القدس: «لأن الناموس (التوراة) بموسى أُعطي. أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا» (يو17:1). فمياه الربيين لم تحرج عن كونها مياه الحرف لتطهير الجسد، أما مياه الرب يسوع فهي مياه الروح للحياة الابدية.
«إن كنت لا أرى معه دلواً ولا حبلاً، أو «إن لم أضع إصبعي في أثر المسامير»! (يو25:20). ولكنها تبحث في المستحيلات على كل حال، لأن في تقليد اليهود في التلمود وعند السامريين، أن يعقوب وهو عاطش مع بنيه ومواشيه وقف وصلى على البئر ونادى باسم الرب، ففاض منه ماءَ حياُ أي جار، وظل هكذا نابعاً والمياه تجري منه عشرين سنة، ولكن منذ ذلك الزمان لم نسمع أن هذا البئر فاض ماؤه, فالسامريون يدعون أنهم من نسل أولاد يوسف ابن يعقوب، أفرايم ومنسى الذين امتلكوا السامرة.
«فهل أنت أعظم من أبينا يعقوب؟»: وهنا يلذ للقديس يوحنا أذ يبرز هذا التساؤل كتساؤل اليهود: «ألعلك أعظم من أبينا إبراهيم… من تجعل نفسك؟« (يو53:8). وذلك لينبه ذهن القارىء أن: نعم »«قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن» (يو58:8‏). أما هنا فيرد المسيح بطريقة أخرى و لوأنه لا يمانع أن يدخل هذا السياق فهو: «ههنا أعظم من الهيكل» (مت6:12‏)، و «ابن الإنسان هو رب السبت»» (مت7:12)، و«قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن» (يو58:8)، و «هوذا أعظم من سليمان ههنا» (مت42:12‏)، و «هوذا أعظم من يونا ههنا» (مت41:12). ولكنه هنا بهدوء سيأخذ يدها وعينها حتى ترى فيه من هو أعظم من أبيها يعقوب!!

 



13:4و14 أَجَابَ يَسُوعُ: «كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً. وَلَكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ».

إش 10:49 «‏لن يجوعون ولن يعطشون، ولا يضربهم حر ولا شمس, لأن الذى يرحمهم يُهديهم, وإلى ينابيع المياه يوردهم»
رؤ 16:7 «لن يجوعوا بعد ولن يعطشوا بعد, ولا تقع عليهم الشمس ولا شيء من الحر. لأن الخروف في وسط العرش يرعاهم ويقتادهم إلى ينابيع ماء حية».
رؤ 6:21 «أنا أعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجاناً».
‏إش 1:55 «‏أيها العطاش جيعاً هلموا إلى المياه».
‏يو35:6 «فقال لهم يسوع أنا هو خبز الحياة من يقبل إلي فلا يجوع, ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً».

‏يلزمنا هنا في البداية أن نوضح الفرق بين «هذا الماء» ماء يعقوب؛ و «الماء الذي اعطيه أنا»؛ والفرق بين «يعطش أيضاُ»؛ و «لن يعطش إلى الابد». فالمسيح هنا يستخدم الماء موضوع الحوار استخداماً من واقع حال الإنسان فيما يخص جسده, وفيما يخص روحه؛ فيما يخص حياته على الأرض, وفيما يخص حياته الأبدية. فالجسد يعطش ويعطش ويعود إلى الماء كل مرة، فهو لا يرتوي أبداً أبداً؛ ولكن الروح تعطش، فإذا ارتوت فلن تعطش أبداً لأنها ترتوي من ماء الحياة الآبدية, أو الماء الحي أو الماء الحقيقي, الذي هو الحياة الأبدية نفهسا: «وهذه هي الحياة الأبدية، أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته.» (يو3:17)
المسيح يضع إصبعه على نفسه ويشير إلى ذاته، «والماء الذي أعطيه» هو عطية الاستعلان التي إذا سكبها على قلب الإنسان ووعيه فإنه يتعرف على حقيقة المسيح، فيدخل مجال الحق الإلهي وينتمي بروحه إل السماويات؛ ومن كل ما هو سام يشبع ويرتع ويمتلىء ويرتوي، فلا تعود الأشياء التي في الدنيا موضع عطش أو تلفف أو متعة روح.
المسيح يضرب على الوتر الحساس ليرن صوته في أعماق النفس المتعبة التي نهبتها الشهوات والملذات والجري وراء سراب الغرور والمتعة, التي كلما شربت منها النفس ازدادت عطشاً إليها دون أن يدري الإنسان أنها تمتص رحيق حياته ونضارته وإرادته وكرامته, وأخيراً تتركه صريعاً للندم واليأس وخيبة الأمل. هذه هي «يعطش أيضاً».
‏«لن يعطش إلى الأبد»: إنها قولة صدق ذات رنين حي تردده ألوف ألوف وربوات ربوات الأرواح القديسة في السماء ‏بآمين.
‏إنها مقولة تتجلى في حياة من يقبل ويشرب كل يوم، ولكها سوف تبلغ أوج تجليها في المجد الأعلى, ومنتهى تحقيتها في ملكوت ابن الله: «لا يجوعون ولا يعطشون ولا يضربهم حر ولا شمس، لأن الذي يرحمهم يهديهم, والى ينايع الميا، يوردهم» (إش10:49). هذا يراء إشعيا، من وراء الدهور، ينطقه بروح الله، فترد عليه أرواح الأبرار التي تكملت في المجد: «لأن الخروف الذي في وسط العرش يرعاهم.» (رؤ16:7‏)
‏هو هو المسيح المتكلم: «ينبوع الحياة الأبدية», هنا «بالاستعلان» وهناك بالرؤيا والمشاهدة والعيان.
‏كل من أدمن على شرب المياه المعطشة هنا، يتمنى في يوم من الأيام لولم يولد حينما يبلغ به العمر أرذله؛ أما الذي ذاق الحياة في المسيح يسوع فهو كل يوم يولد جديداً.
‏كل من ضيع العمر في ملذات هذا الدهر وضيقت عليه الدنيا بعد ذلك، يتمنى لو يموت؛ أما الذي استعلن المسيح واستنشق الحياة الأبدية فيه، فهو يحيا كل يوم حياة جديدة ولن يموت أبداً.
«بل الماء الذي أُعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع الى حياة أبدية».
‏إش2:12-3 «‏هوذا الله خلاصى فأطمئن ولا أرتعب، لأن ياه يهوه قوتي وترنيمتي وقد صار لي خلاصاً. فتستقون مياهاً بفرح من ينابيع الخلاص».
‏نش 12:4 «‏اختي العروس جنة مغلقة, عين مقفلة, ينبوع مختوم»
«الماء الذي أعطيه» هو نعمة الاستعلان بالروح القدس، وبالاستعلان يتجلى المسيح في قلب الإنسان, فيشعر بالخلامى كقوة تجرف حياته كلها كنهر جارف لا يستطيع أن يحجزه، فينطق لسانه بالفرح والتهليل ويظل ينبع بفيضان. و يعيش باطمئنان في بهجة الخلاص, يشرب منها و يعب عباً كل يوم, ويفيض على كل من يتعرف عليه, ويظل يفيض إلى أن يلتحم بالحياة الأبدية، وحينئذ ينجلي الخلاص في أكمل مفاعيله ومباهجه إلى أبد الدهور.
‏وهذا يعني أن الماء الذي يعطيه المسيح الأن يتحول فيه إلى خلاص في الحاضر يمتد إلى أبد الأبدين.
‏وبقدر ما يحتاج الخلاص هنا إلى مزيد من الشرب, أي الاستعلان, بقدر ما في النهاية يصير في الإنسان قوة تزداد من تلقاء ذاتها حيث يصبح المسيح في القلب هو نفسه ينبوع الخلاص الذي لا يجف.
‏فـ «المياه الحية»، وقد أسماها المسيح «عطية الله»، حينما تستقر في نفس الإنسان تصبح قوة حية فاعلة بذاتها تسكن هيكل الإنسان الروحي وتعمل فيه، تحييه وتهذبه وتجدده. مثلها مثل عطية «الحياة» التي ينالها الإنسان من «أكل الجسد» الذي هو العطية الكبرى: «من يأكل جسدي وشرب دمي فله حياة أبدية.» (يو54:6)
ومثلها مثل «كلمة الله». ««كتبت إليكم أيها الأحداث لأنكم أقوياء وكلمة الله ثابتة فيكم.» (ايو 14:2)
‏ومثلها مثل «الحق». «من أجل الحق الذي يثبت فينا وسيكون معنا إلى الأبد.» (2يو2)
ومثلها مثل «روح الحق»: «روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم.» (يو17:14)
‏ومثلها مثل «مسحة النعمة»: «وأما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم ولا حاجة بكم أن يعلمكم أحد، بل كما تعلمكم هذه المسحة عينها عن كل شيء، وهي حق وليست كذباً كما علمكم تثبتون فيه.» (1يو 27:2)
‏ومثلها مثل «بذرة الله»: »كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية (طوعاً)، لأن زرعه (زرع الله) يثبت فيه، ولا يستطيع أن يخطىء لأنه مولود من الله»» (1يو9:3).
‏هكذا «المياه الحية», روح الاستعلان ومعرفة الله, فإنها تسكن وتنبع فيه بلا توقف كالمياه الجارية وبلا نهاية، وتفيض قوة وراء قوة بلا نقصان بل بزيادة، حتى كما يقول بولس الرسول: «ملء الله».
‏وهكذا فإن نفس الإنسان التي تم فيها تجلي المسيح بالاستعلان، أي شربت من ينبوع الخلاص, تصير هي بذاتها ينبوع خلاص, كما يخاطبها سليمان النبي في نشيد الأنشاد: «أختي العروس جنة مغلقة، عين مقفلة، ينبوع مختوم» (نش 12:4)، بمعنى أن مواردها في الداخل وليس لها حاجة من الخارج: «ينبوع جنات، بئر مياه حية، وسيول من لبنان» (نش15:4‏). وسفر الرؤيا يكشف لنا عن مصدر الإندفاق ومنبع الفيضان الحر الدائم في داخل النفس هكذا: «وأراني نهراً صافياً من ماء حياة لامعاً كبلور خارجاً من عرش الله والخروف.» (رؤ 1:22)
وقانون الارتواء من روح الله هو الامتلاء للزمان الحاضر والفيض الدائم، ثم الحياة الأبدية التي نلناها هنا نصعد بها إلى فوق حيث مصدرها: «وإن مضيت وأعددت كم مكاناً، آتي أيضاً واخذكم إلى، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً.» (يو3:14‏)


15:4- قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ أَعْطِنِي هَذَا الْمَاءَ لِكَيْ لاَ أَعْطَشَ وَلاَ آتِيَ إِلَى هُنَا لأَسْتَقِيَ».

لقد نجح هذا السيد البديع، فهوذا استجابت السامرية إلى قول الرب: «… لطلبت أنت منه فأعطاك ماءً حياً». هذه أول علامات العودة، عودة النفس إلى خالقها تلغلغ بطلبات كطفل يطلب على قدر تفكيره!!
‏كانت المرأة صادقة صدق الطفولة وهي تطبق كلام الرب: «من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش»، فقالت هى: «أعطني هذا الماء لكي لا أعطش». وأكملت من عندها: «حتى لا أتي إلى هنا وأستقي».
‏لقد استهوتها فكرة الماء الذي كل من يشرب منه لا يعطش، وأضافت بالضرورة ولا يتعب ويجيء ليستقي، لقد هدها مشوار كل يوم حاملة جرتها فارغة وملآنة؛ وكل ذراعاها من فرد الحبل وثنيه ورفع الجرة بثقلها، الحبل بذراع والجرة بذراع، حتى ضاقت ذرعاً! ولكن لو كان هذا هو كل هم الإنسان، وحتى مثله مائة أف مرة لما غُلب الله من تحننه وبذل ابنه على الصليب من أجل الإنسان.
‏ولكن في قولها: «حتى لا آتي إلى هنا وأستقي»، فيه معنى الاغتاء ليس لما هو لذاتها فحسب، بل للذين تخدمهم أيضاً، وإلا على من سيعيش من تخدمهم؟ وهنا يلتقط الرب الخيط من فمها ويطلب أن يرى من تخدمهم.


 16:4- قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «اذْهَبِي وَادْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى هَهُنَا».

‏نعم يجب أن يأتي من تخدمه، وهو بالتقدير المبدئي زوجها، لأن العطية بحسب نظرها هي، تعني زوجها أيضاً. ولكن الرب الذي قرأ فكرها وضع هذا الطلب محكاً لصدق قبولها العرض بأخذ العطية، وبالأكثر اختباراً لمدى صحة إيمانها بالكلام ومستوى يقظة ضميرها. الرب هنا يركز على السامرية نفسها وليس على زوجها أو أهلها، لأنه بتوبتها وايمانها هي, سيُقبل الجميع ، فهو هنا مستمر في إعدادها هي للعطية، ولأنه يستطيع أن يغفر الخطية فهو يستطيع أن يراها ويحاصرها بالضرورة. والآن وقد صارت خطيتها هي العقبة الوحيدة في وجه نوال العطية، لذا كان يتحتم كشفها والإعتراف بها تمهيداً لرفعها لتصبح على مستوى العطية. وحينئذ كما قال المسيح نفسه حينما تشرب هي من الماء الحي فإنه سينبع منها ويفيض على الزوج وعلى المدينة كلها. المسيح هنا يعرف الجواب مسبقاً: «ليس لى زوج», عار المرأة الأعظم، لذلك يضع المسيح إصبعه على الجر‏ح، ومشرطه على الورم، ولكن برقة فائقة كمن يستخدم المخدر حتى لا يشعر المريض بالألم. لقد تدرج معها وهو يسندها حتى تقوى على نطق ما لا يُنطق. وهكذا بلغ بها إلى نقطة اليقظة العظمى للضمير.


 
17:4و18 أَجَابَتِ الْمَرْأَةُ: «لَيْسَ لِي زَوْجٌ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «حَسَناً قُلْتِ لَيْسَ لِي زَوْجٌ. لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ والَّذِي لَكِ الآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ. هَذَا قُلْتِ بِالصِّدْقِ».

‏إجابة مقتضبة يلفها الحزن في مسحة من الألم كما من سهم يخترق القلب. هي رجفة الضمير الذي يجاهد كي يغلب انهياره، ويتلمس القوة من العين المسلطة عليه!
‏كان رد المسيح الفوري هو قبول الإعتراف أحسن قبول: «حسناً قلت». ومكذا جاء السند الذي كانت تحتاجه لتغلب انهيارها. وهكذا يسند المسيح «المعين بكلمة» (إش4:50‏)، «أسندني فأخلص» (مز117:119). ليس العمل الذي وراء اعترافها هو الحسن، بل الحسن جداً أن تعترف به، فقول الحق عندما يشهد به الإنسان عل خطاياه يُحسب حقاً.
‏وعندئذ رفع المسيح النقاب عن شخصيته قليلاً وأخذ يسرد لها قصة حياتها كما في مرآة.
‏لأنه كان لها خمسة أزواج والذي لها الأن ليس زوجاً، ونحن لا نريد أن نخوض في ما لم يخض فيه المسيح، ولكن شيئاً واحداً كان واضحاً من كلام المسيح أن وراء حياتها مأساة من الخيانات واستباحة الحرام اعترفت به السامرية ليس للمسيح فقط، فهو يعرف كل شيء ولا يحتاج إلى تفصيلات، ولكنها اعترفت هي بنفسها لأهل مدينتها أيضاً؛ وإن أعظم الإعتراف ما جاء علنا: «وقالت للناس… إنساناً قال لى كل ما فعلت!!» (يو29:4)
‏حينما يستيقظ الضمير لا يعود يبالي بما يُقال عنه، بل يكون كل همه أن يقول هو عن نفسه، لا يعود ماضيه مخفياً وراءه، بل يصير مكشوفاً أماكه: «وخطيتي أمامي دائماً» (مز3:51). والجر‏ح الذي كان يخفيه يرفع عنه العصابة و يستعرضه لمن هو قادر أن يشفيه.
‏والمسيح في كشفه هنا لبقية سر مأساة السامرية إنما يكشف لها عن قدرته على محوها، وكأنه يكمل عنها اعتراف ما لم تقدر على الاعتراف به, ليستعيد لها صحة نفسها لتستضى عيناها وتراه على حقيقته.

19:4- قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ.

لقد أحسنت الرؤيا. فكلمة «أرى»« هنا لا تفيد الانطباع السريع بل قمة استعلان متدرج يبلغه المتصوفون حينما يحدقون بعقلهم في الله طويلاً، وتسمى هذه الدرجة عند المتصوفين بالتورية, أي الرؤيا العقلية.
‏من الصعب علينا جداً أن نحس بما أحسته هذه المرأة عندما واجهها المسيح بكشف حياتها الخفية. إنه مزيج من الرهبة والرعبة مع قناعة بهيبة الجالس أمامها، وكأن حياتها كلها صارت مكشوفة أمام عينيه. ولكن عقلها ارتفع سريعاً لترى فيه إنساناً ذا اتصال بالله يستمد منه قوته وسلطانه.
‏حينما أفرغت المرأة خطيئتها استضاءت عيناها، وتأهلت لترى المسيح الرؤية الاولى على صحة، وانما في غير اكتمالها: «فتطلع وقال أبصر الناس كأشجار يمشون. ثم وضع يديه أيضاً على عينيه وجعله يتطلع، فعاد صحيحاً، وأبصر كل إنسان جلياً» (مر24:5-25). هذه أول مفاعيل عطية الماء الحي التي استقرت في أعماقها؛ وهذه أول حركة للايمان يتحرك به قلبها.
‏لقد تدرجت في رؤيتها للمسيح من «أنت يهودي» إلى «يا سيد» إلى «أرى أنلك نبي», وهكذا تنجلي العين حينها يغتسل الجسد والنفس، والإعترأف بالخطية يرفع ثقلها عن القلب والضمير كما يرفع عقابها عن النفس. وهذه هي «عطية الله» التي وعدها المسيح بهاء وهكذا علمت المرأة بالحق من الذي يقول لها أعطيني لأشرب. وهكذا أيضاً اكتشفت المرأة غنى المسيح من خلف فقره المصطنع، وعطش من له ينبوع الماء الحي.
‏ولم تكن رؤيتها أنه نبي لتقرير حق الواقع وحسب، بل لأنها ربطت بين امتيازه الإلهي كصاحب صلة بالله وبين حالها الفاضح فرأت فيه المنقذ. ولكن إلى من من الألهة سيذهب بها هذا النبي؟ إله إسرائيل وأورشليم وجبل صهيون، آم إله السامريين وجبل جرزيم؟ إنها تود أن تعرف إلى من تقدم توبتها وذبيحة خطيتها.

 



20:4- آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هَذَا الْجَبَلِ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ».

‏من يصدق أن هذه النفس العفنة تنقلب بهذه السرعة إلى تائبة تبحث عن مكان للصلاة وتدقق في صحة المكان لتضمن توبة مقبولة؟ أمر لا يشغل بال إلا كبار اللاهوتيين.
‏لأن صحة أورشليم لتكون المكان الوحيد والفريد للعبادة والصلاة هي أعوص المشاكل أمام دارس الناموس، وقد استطاع اليهود أن يزحزحوا هذا النير عن على أعناق الشعب بأن قالوا بصحة المجامع المحلية لكل بلد.
‏أما هذا الإشكال اللاهوتي بالنبة للسامريين فقد ظل كما هو، أعوص مما هو لليهودي ألف مرة، لأن أورشليم وهيكلها محظوران على السامري؛ فكيف الفكاك من القيود التي وضعها الإنسان في عنق نفسه؟؟
‏عل كل حال هذا هو نبي مؤتمن، وهو من اليهود ولكن في غير غضب، وقد أصبح قريباً منا عاطفاً علينا، فهو وحده القادر أن يحل معضلتا، هل نتبع آباءنا القديسين البطاركة الأوائل الذين سجدوا في هذا الجبل أم أن أورشليم وحدها مكان العبادة؟ عل كل حال كان هذا السؤال يحمل في طياته شكاً في صلاحية جرزيم!!
‏فالمعروف أن يعقوب أبا الأسباط قد عبد الله في هذا المكان: «ثم أتى يعقوب سالماً إلى مدينة شكيم التي في أرض كنعان حين جاء من فدان أرام، ونزل أمام المدينة وابتاع قطعة الحقل التي نصب فيها خيمته من يد بني حور أبي شكيم بمائة قسيطة، واقام هناك مذبحاً, ودعاه إيل إله إسرائيل.» (تك18:33-20)
‏فى هذا الجبل: جرزيم.
‏المقصود هو جبل جرزيم الذي تقع البئر تحت سفحه مباشرة, وتقول التقاليد أن إبراهيم أبا الآباء أصلح مذبحاً هناك بنية تقديم إسحق ابنه حسب أمر الرب. وعلى هذا الجبل أيضأ تقابل أيضاً مع ملكي صادق الذي باركه هناك. كما أن جرزيم هو الجبل الذي أمر موسى أن يقف عليه ستة من أهم الأسباط لتقول البركات على من يعمل بالناموس (تث12:27‏). وفي توراة السامريين مكتوب أن المذبح الذي أقيم للعبادة الاولى كان على جرزيم وليس على عيبال (تث4:27-8). والسامرية الأن تضع التقليد السامري المؤكد في مواجهة التعليم اليهودي غير المستند على وثائق!
‏ويعثقد أن الذي بنى المذبح على جبل جرزيم هو أخو رئيس كهنة أورشليم» حينما طرده أخوه من أورشليم بسبب زواجه من بنت سنبلط حاكم السامرة، وهو فارسي الأصل. فحينما طرده أخوه ذهب وبنى هذا الهيكل على جبل جرزيم وقام هو كرئيس كهنة بإقامة العبادة حسب الأصول اليهودية بمنتهى الدقة (نح28؛13‏). كذلك فإن يوسيفوس المؤرخ اليهودي يقول في تاريخه إن السامريين طلبوا من الإسكندر الأكبر الإذن ببناء الهيكل، فسمح لهم. ويضيف يوسيفوس على تاريخ نحميا بأن أعطى اسم «منسى» على أنه كان رئيس كهنة هيكل جرزيم وكان نسيباً لسنبلط حاكم السامرة الفارسى. و يبدو من هذا التقرير ان تصريح الإسكندر الأكبر لم يكن للبناء بل ربما لإعادة بنائه» لأن الفرق بين زمن نحميا وزمن الإسكندر مائة سنة.
‏وقد هدم يوحنا هركانوس أحد المكابيين هذا الهيكل سنة 128 ق. م ولكن ظل السامريوذ يعبدون في نفس المكان ويقيمون الفصح والصلاة في مواعيدها. ويتجهون نحوه بالصلاة كقبلة إذا كانوا بعيدين عنه!

 



21:4- قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «يَا امْرَأَةُ صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ لاَ فِي هَذَا الْجَبَلِ وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ.

«تأتي ساعة»: ‏هذه هي البشارة بالعهد الجديد، وهذه الساعة قريبة «تأتي«، وهى ساعة المسيح بلا شك، لأن بصلب المسيح أُلغيت الذبائح وأُلغيت المذابح وأُلغيت الهياكل، إذ قد صار هو الذبيحة الأوحد للخلاص على المذبح الناطق السماوي في هيكل الله الغير مصنوع بالآيادي حينما تكون العبادة والسجود لأب الجميع.
«تسجدون للآب»: نقلة حاذقة وخطيرة من «أبآونا» بالصورة المحصورة التعصبية إل «الآب» الواحد الكلي للجميع. فعوض الانتماء التعصبي للبشر هوذا الانتماء لله الآب الحر المنفتح عل كل بني البشر.
وعوض العبادتين المتنافرتين المتعاديتين, هذه عبادة الواحد الأحد، وعوض الهيكلين المتصارعين فيما بينهما هوذا الهيكل الواحد, بيت الآب السماوي الذي يجمع الأولاد جيعاً دون نزيل أو غريب. وكأنما بجلوس المسيح على بئر يعقوب وفي أرض السامرة يعلن نفسه أنه يعقوب الجديد، إسرائيل البشرية كلها، الينبوع الحقيقي لماء الحياة الذي يجمع القريبين والبعيدين في ذاته ويضمهم إلى هيكل جسده, الأن بالحب والاستعلان، وبعد قليل بالدم على الصليب. «وتأتي ساعة» هي بعينها ساعة الفجر الآن التي تشير إلى ساعة الصليب السادسة, حين تٌحل مشكلة السامرة والسامريين, وحين ترتفع العبادة فوة مستوى الأماكن والبلاد والجبال لتصير بالروح، والروح ليس له وطن على الأرض بل موطنه السماء.
‏ولا ننسى أن في أول كلمة «صدقيني يا امرأة» ما يكفيها من اليقين والعزاء، عوض امتهان اليهود لهم والتعالى عليهم، يكفيها أن يكون «الأب» هو قبلة السجود، وهو قابل الساجدين له.

 



22:4- أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ, لأَنَّ الْخلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ.

‏«‏تسجدون لما لستم تعلمون»: المسيح هنا يستدرك ما قد يُفهم من تساوي أورشليم بجرزيم بانتهاء عصرهما معأ بحلول الساعة. فإن كانت العبادة في هيكل أورشليم ستُبطل، وكذلك بالتالي وبالأؤلى في جبل جرزيم، فليس هذا معناه أن عبادة اليهود خاطئة، ولكنها في سبيلها إلى الارتفاع فوق ذاتها لتبلغ الكمال في الله، أما عبادة جرزيم فهي وإن كانت عبادة مُقدمة في صورتها إلى الله ولكن الله نفسه غير معروف لدى السامريين. ومعلوم أن السامريين لا يؤمنون بالأنبياء جيعاً؛ في حين أن الأنبياء عند اليهود هم الذين تكلم الله بواسطتهم معلناً عن ذاته، وبالتالي كان اليهود ذوي معرفة صحيحة بالله, وبالتالي أيضاً أصبح السامريون محرومين من معرفة الله الصحيحة. فالناموس وحده بدون إلهام وتعليم سماوي ونبوة لا يخلص لأنه حرف والحرف وحده, أي القانون, يقتل إذا كان بدون من يرحم ويشفق.
‏هنا المسيح لا يدافع عن اليهود ولا اليهودية، ولكنه يدافع عن الحق المُعلن لليهود فقط دون أقطار العالم أجمع, ويدافع عن مصدر الخلاص الأتي، بل الحاضر، أمام السامرية, المتكلم باسم الحق والخلاص, وهو نفسه المخلص الأتي الذي أتى! كما أن المسيح هنا لا يهاجم السامريين ولا ‏عبادتهم ولا معبودهم, بل يشفق على عبادتهم التي تذهب سدى بسبب غياب الحقيقة منها وفقدان «استعلان الله» ‏على حقيقته بفقدان وسطاء الاستعلان والإلهام وهم الأنبياء. لأن تسلسل الأنبياء انتهى بمجيء من تنبأوا عنه وهو المخلص؛ فصح تنبؤهم وصحت نبواتهم . لذلك قال المسيح بكل يقين: «إن الخلاص هو من اليهوده»؛ لأن الخلاص ابتدأ بالاستعلان عنه ووصفه الأنبياء وكأنه حاضر، ورآه الآباء القديسون ونظروه من بعيد وحيوه وماتوا على رجاء . وهوذا ساعة الخلاص قد دقت دقاتها على صوت المعمدان وأصبحت حاضرة بحضور صاحبها.

 



23:4- وَلَكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هَؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ.

‏«ولكن»: هنا يبدأ الكلام بـ «لكن»، وهي تعود على ما فات، أي على اختلاف العبادة باختلاف الحق فيها، وكأن المسيح يريد أن يقول: لنترك «الآن» الخلافات، لأن «الأن» أتت الساعة التى أصبح مفهوم السجود الحقيقي فيها يقوم على أساسين جديدين:
‏الأساس الأول: الساجدون أنفسهم إذ يتحتم أن يكونوا حقيقيين. و«الحقيقي» في إنجيل يوحنا وعند المسيح هو «الأليثيا»، و«الأليثيا» هي الله أو الانتماء الصادق لله، ويعني أن الساجدين يتحتم أذ يكونوا لله عائشين، ليكونوا لله ساجدين، بمعنى أن يكونوا قد أفرزوا أنفسهم من العالم وتقدسوا لله، أي تخصصوا بالمعمودية وما تفرضه المعمودية في حياتهم وأفكارهم وأعمالهم فيما يخص الحق: «المولود من الروح هو روح».
‏الأساس الثاني. أن يكون سجودهم لله الآب. آب الجميع، وليس آباً لشعب دون شعب، أو أمة دون أمة، أو جنس دون جنس، ويكون سجودهم للآب «بالروح والحق».
‏وهنا المسيح يرمي عصفورين بحجر واحدو, فالعبادة بالروح يهاجم بها عبادة إسرائيل التي هي عبادة بالحرف، وهذه العبادة لم تعد مقبولة عند الله لأنها لم عند بذي أثر ولا فائدة. والعبادة بالحق يهاجم بها عبادة السامريين فهي عبادة مزيفة أخذت الشكل دون الجوهر والاسم دون الحقيقة. وهي منذ البدء بلا فائدة: «أنتم تسجدون لما لستم تعلمون».
ولكن كيف تكون عبادة الإنسان «الآن» بالروح والحق؟: «الآن» يقصد بها المسيح حضوره الشخصي الذي جعل الساعة حاضرة دائمة بحضوره, فالآبدية فيه معلنة في عمق الحاضر الزمني. فـ «الآن»» بوجود المسيح, الابن النازل من حضن الآب, هي الآبدية المستعلنة والحاضرة في الزمن، وهي كل المستقبل الروحي للانسان.
+ والمسيح جعل, بالتجسد، الإتصال بين البشرية والله أمراً حادثا حدوثا حقيقيا والى الأزل ومفتوحاً على الجميع. وبهذا انفتح أمام الإنسان مجال الإتصال الروحي بالله سواء بالصلاة أو السجود, بمعنى أن السجود بالروح صار متوفراً للانسان في المسيح.
+ كذلك فالمسيح, الابن الوحيد, هو الاستعلان الكامل لله بالنسبة للانسان كل من يؤمن. إذن، أصبح الإنسان يعبد من يعرفه معرفة حقيقية, وهذا هو السجود بالحق بكل معنى: «‏وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك و يسوع المسيح الذي أرسلته.» (يو3:17)
‏ولكن يُلاحظ أن المسيح لم يتمجد بعد، ولم يحل الروح القدس بعد. لذلك، فالعبادة بالروح والحق التي قال عنها المسيح آنئذ هي عبادة المسقبل, بينما العبادة في الهيكل لا تزال قائمة, ولكن لأنه قد تم التجسد والمسيح حاضر «الأن», ‏إذن فالساعة موجودة ولكن لم يتم استعلانها الكلي بعد.
«السجود» لله هو عملية اتصال. يستحيل الإتصال بالله بواسطة العنصر الجسدي في الإنسان المنتمى للحياة الأرضية.
«الله روح»، وقد وضع في الإنسان عنصراً روحيأ يقيم كيانه، وهو متفوق على الجسد، ووُضع هذا العنصر, أي «الروح» ليكون أداة اتصال بالله: «وإله السلام نفسه يقدسكم بالتمام ولتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملاً بلا لوم عند مجىء ربنا يسوع المسيح»(1تس23:5). وروح الإنسان في وضعه الصحيح خاضع لروح الله: «الروح هو الذي يحيي، أما الجسد فلا يفيد شيئاً»(يو63:6). إذن، فمجال العبادة قد أصبح في المسيح هو المجال الأسمى الذي يتلاقى فيه الله والإنسان، أي أن زمان العبادة تحت توصيات وتعليمات جسدية قد انتهى: «أشكر إلهي يسوع المسيح… فإن الله الذي أعبده بروحي في إنجيل ابنه شاهد لى كيف بلا انقطاع أذكركم.» (رو8:1-9)
«لآن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له» (بالروح والحق).
‏«‏لأن» بادئة تجعل الأتي من الكلام يؤكد ويضمن ويسهل ما فات من الكلام. فالعبادة بالروح والحق، وإن بدت بالنسبة للانسان مطلباً أعلى من إمكانياته, إلا أن هذا أمر متيسر. لأن الله ‏يسعى من جهته طالباً وجاذباً مثل هؤلاء الذين يسعون للسجود له بهذه الشروط، فلأن الله روح فهو يطلب الساجدين بالروح, ولأنه هو الحق فهو يطلب الساجدين بالحق. فالله من جهته عامل مشجع وجاذب ومسهل لكل الساعين للعبادة والسجود بالروح والحق؛ لأن هذه هي مسرة طبيعته.



24:4- اَللَّهُ رُوحٌ. والَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا.

المسيح يرتفع بمفهوم الله ليرتفع بمفهوم الإتصال به. فـ «الله روح» بمعنى أنه لا يدخل في كيانه أي شيء من قياسات العالم المنظور لا الزمان ولا المكان ولا المحدودية، وأهم تركيز هنا هو على المكان, لا أورشليم ولا جرزيم. وقد سبق وقلنا إن الله وضع في الإنسان عنصراً روحياً وهو الروح ليقيم كيانه كمخلوق روحي، ليتسنى له الاتصال بالله والوجود في حضرته دون النظر إلى الزمان أو المكان أو الشكل أو اللغة. لذلك فالعبادة والسجود لله لكي تكون منظورة من الله ولكي يراها ويسمعها ويستجيب لها، يلزم أن تكون من طبيعته بالروح والحق غير ملتزمة لا بزمان ولا بمكان لا بيهود ولا بسامريين. وهنا كلمة «ينبغي» تعني «يلزم إلزاماً» و«يتحتم تحتيماً»، أي لا يمكن أن تقبل عبادة وسجود إلا إذا ارتفعت لمستوى الروح والحق، بمعنى أن لا ترتبط قط لا بأمكنة ولا بأزمنة ولا بأجناس ما.
‏وبنظرة سريعة إلى الخلف، نستطيع أن نحصل على محور التجديد في إنجيل يوحنا في الأمثلة السابقة. فالخمر الجيدة, في قانا، والهيكل الجديد, في أورشليم، والماء والروح والميلاد من فوق عند نيقوديموس, والتعميد بالروح القدس على ضوء المعمدان، والماء الحي والعبادة بالروح والحق للسامرية؛ هذه كلها عناصر الانتقال من الحياة حسب الجسد الى الحياة بحسب الروح, أي عناصر التجديد والخلقة الجديدة التي يرسخ المسيح مفاهيمها بالتدريج. كما أن هذه العناصر جيعها، الخمر والهيكل والميلاد الفوقاني والتعميد بالروح والسجود بالروح والحق، هي المقابل الروحي الحق والمطلق الذي لا تحده حدود بشرية أيا كانت تجاه اليهودية وكل العبادات الأخرى للانسان. هذه ‏هي صورة العهد الجديد للانسان عاد‏ة، التي صارت في محيط «تأتي ساعة وهي الآن» .
‏والعجيب حقاً أن هنا هذه العناصر أو الرموز الحية: الخمر الجديد، الهيكل الجديد، الإنسان الجديد، العبادة بالروح والحق, تتركز في شخص المسيح نفسه: «أنا هو الذي يكلمك»!
‏علينا الأن أن نجسد هذه المعاني المطلقة «بالروح» و«الحق» حتى نفهم كيف يكون السجود بالروح والحق على مستوى حياتنا اليومية وعبادتنا. فالسجود بحد ذاته هو«بالجسد شكلاً» فإذا بقي السجود بشكله الجسدي والعددي فقط فهو لا يُحسب أنه سجود بالروح. ولكن إذا انطلق الإنسان من داخل السجود الجسدي بروحه بإحساس الوجود في حضرة الله، يُحسب سجوداً بالروح. والسجود بالروح له مواصفات روحية تثبت حقيقته. فإن روح الإنسان في حضرة الله تكون خاشعة غاية الخشوع، منضبطة، غيرمشتتة, مطروحة أمام الله، مكشوفة بكل عيوبها وأخطائها, كما تكون الروح في حالة استقبال أكثر من كونها متكلمة وذات مطالب, شديدة التركيز والحساسية للاستماع لتعليمات الله وتوبيخ الروح، أو تقبل التشجيعات الخفية أو الرد على أمثلة روحية للبنيان.
‏كذلك السجود بالروح لا يمنع أن يلتزم بالمواعيد والعدد وأصول السجود. ولكن إذا اكتفى الانسان بالإتقان الشكلي فلن ينتفع شيئاً, وذلك يظهر بوضوح حينما ينهي الإنسان سجوده وعبادته ويخرج كما دخل وذهنه مشغول بأموره الخاصة أو العامة. فعلامة السجود بالروح هي أن يخرج الانسان من حضرة الله مفعماً بمشاعر الرضى والراحة والفرح مهما كانت أموره محزنة. فالحزن والضيقة والألم والشكوى كل هذه يتحتم أن ننفضها عنا قبل الدخول في حضرة الله للسجود. حالة خروجنا من السجود يكشف هل كنا حقاً في حضرة الله, وهل حصل إتصال فعلي أم لا. السجود بالروح في حضرة الله ليس هو واجباً، بل ضرورة روحية كالأكل والشرب والدواء والعلاج تماما بالنسبة للجسد. إذا لم نمارس السجود بالروح ، فالروح تجف ويتعطل عملها، فتنقفل رؤية الإنسان ولا يحس بوجود الله، وقليلاً قليلاً ينكمش الإيمان ويفقد الإنسان حرارة الروح وتبدأ المثل العليا تهتز أمامه، ويزحف الشك على إيمانه، ويفقد الإحساس بصدق الإنجيل والله، ويشك في الحياة الآبدية، لأن أداة الإتصال بالله قد أصبحت عاطلة، أي الروح المرفوعة في الإنسان لهذا الأمر.
‏يلزم أن يفهم الإنسان أن الله وضع فيه الروح كأداة إتصال بالله, فإذا لم ‏تُستخدم تُنزع مواهبها من الإنسان، وروح الإنسان الأمينة والنشطة والملتصقة بالله على الدوام تصير مكان سكنى الروح القدس ومرافقته, فإذا أهمل الإنسان السجود بالروح، لا يعود يحظى بزيارة الروح القدس والنعمة. والخطية تترصده, فتتعتم الرؤيا: «روحك القدوس (يا رب) لا تنزعه مني» (مز11:51). فإن كان الله قد وضع الروح في الإنسان رغبة منه أن يتصل بواسطتها مع الإنسان, إذن أصبح السجود بالروح جزءاً لا يتجزأ من كيان الإنسان بالنسبة لحياته مع الله. لأنه كما أعطي الإنسان الشهية للأكل، كذلك أعطي الروح للعبادة والسجود والصلاة. فإذا كان الإنسان يعرض نفسه للموت إذا لم يأكل, هكذا فهو معرض للموت إذا لم يسجد بالروح. غير أن الموت الروحي لا يشعر به الجسد, والنفس المستهترة لا تعيره اهتماماً. ولكن في نهاية عمر الإنسان يستيقظ ضميره فيرى عظم الخسارة بل المصيبة التي اكتسبها لنفسه بإهمال الإتصال بالله الذي سيذهب ليتراءى أمامه. لذلك فالمرجو أن يختبر الإنسان نفسه بعد كل سجود هل كان بالروح أم لا, وهل اتصل بالله فعلاً أم لا.



25:4- قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ».


‏هنا عنصران في صميم الواقع في هذا الحوار، يسيران جنباً إلى جنب. الأول أن السامرية بدأت تحس بقرب المسيح منها وبدأ الإشاع الروحي الشخصي يطغى على الحديث، وهذا أمر في غاية الأهمية، لأن الإنسان إذا ابتدأ ينفتح على الله قليلاً, فإن الله ينفتح عليه كثيراً. وهكذا تدخل السامرية، دون أن تدري، في المجال الروحي للمسيح, وهذا هو الذي جعلها تلقائياً تمتد بفكرها نحو النبي الموعود الذي سجلته توراتهم في سفر التثنية الذي وعد به موسى.
‏أما العنصر الثاني فهو تسلسل الحديث، فقد انتهت السامرية إلى القول بأن اليهودي الواقف أمامها، وهو السيد، هو نبي. ولكن في تصريحه الأخير عن العبادة بالروح والحق التي ستكون لا في أورشليم ولا في جرزيم جعلها تنطلق في تفكيرها من نحوه, إنه يتكلم بأبعد من إمكانيات نبي، فالنبي الواقف أمامها لوكان يهودياً فهو حتماً سيزكي أورشليم فوق جرزيم، ولكنه لا يفعل ما يتحتم على النبي اليهودي أن يعمله، فمن يكون؟ وقفت السامرية أمام المسيح حائرة. أيمكن أن يكون هذا هو المسيا الذي طالما سمعوا عنه وانتظروه؟ لم تستطع أن تقطع بالأمر، لأن الرؤيا غير كافية أمامها. وهذا أمر في غاية الأهمية أيضاً، لأن أي شك من نحو الله يجعل صورته تهتز فوراً. لهذا اتحذت على الفور مبادرة من شأنها أن تكشف الحقيقة وتقطع بالأمر، فألقت بسؤالها أمامه، وهو ليس سؤالاً بل تساؤل، والرد عليه كفيل إما بأن يقطع الشك باليقين إن قال نعم، وإلآ فعليها أن تنطوي مرة أخرى على نفسها بانتظار المسيا, هذا الذي يستطيع وحد, أن يعرفها بالحقيقة وبكل شيء. والله دائمأ يرحب جداً أن يدخل أي اختبار. وقصة جدعون أحد قضاة بني إسرائيل يتضح فيها هذا المبدأ . ففي أول مقابلة مع ملاك الله الذي أمره أن يخرج ويحارب الأعداء، قدم جدعون أول اختبار لصحة شخصيته وصحة كلامه وهو أن يبقى في مكانه في بيدر الحقل حتى يعود إليه بجدي يذبحه له ذبيحة تكريم، فوافق. وثاني اختبار قدمه لصحة وعد الرب أن يكون الرب معهم في الحرب أن قدم اختباره الثاني بصورة جزة صوف وضعها في الظل بالليل، وفي أول يوم اشترط على الرب أن يملأ الطل, أي الندى, الجزة ولا يمس الأرض حولها، فوافق الرب وصنع ما طلبه جدعون. وفي ثاني يوم غير الإختبار أن ينزل الطل حول الجزة ولا يمس الجزة نفسها، وكان أن فعل الرب ما طلب. فتأكد جدعون وحارب وغلب. وكان الرب عند حسن ظن جدعون!
«أنا أعلم أن مسيا, الذي يقال له المسيح, يأتي . فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء»: يقول «شناكنبرج» في بحثه عن عقيدة السامريين فيما يختص بالمسيا هكذا:
[انتظار العهد الماسياني عند السامريين, كما تقول به هذه المرأة, يأتي مطابقاً لما نقرأه من المصادر المحفوظة عن السامريين. فالمسيا كان اسمه عندهم «تا . إب»، ومعناها قريب من اللغة العربية أي «الأيب» بمعنى الأتي أو الراجع وذلك بحسب التوراة (تث18:18). فهو محسوب عندهم أنه النبي الذي سيظهر في آخر الأيام خليفة لموسى النبي. ولأهمية هذا النص من التوراة عند السامريين فقد جعلهم على رجاء مستمر. ومما جعله أمراً هاماً جداً عندهم أن في توراتهم تسجل هذا الوعد بعد العشر وصايا. وهذا المعنى «تا . إب» في مفهومهم هو قائد سياسي, فهو سيعيد مملكة إسرائيل (السامرة) مثل مسيا اليهود على مستوى مملكة داو . غير أنه بسبب اتصاله بموسى ، فقد تحتم أن يكون من سبط لاوي. إذن، فكونه هو كاهناً فهو سيعيد لهم العبادة الحقة, أما دوره كنبي مستعلن للحقائق وكمعلم فهو أمر منتطر ومترقب بحسب مفهوم النبوة (تث18:18).
‏وفي كتابهم المسمى (ممار مركا), وهو من القرن الثالث الميلادي, في الفصل الرابع والمقطع 12 يقول: إنه سيعلن الحق! ويوسيفوس المؤرخ اليهودي المعامر للقديس يوحنا يسجل ويؤكد في تاريخه أن السامريين لهم رجاء بمجيء المسيا. ويحقق العلماء في صحة مجيء كلمة «مسيا» بدون «أل» التعريف في قول السامرية… ليكون مطابقاً لأسم المسيا عندهم وهو بدون «ال» التعريف. وعندما قالت السامرية: «الذي يقال له المسيح» فهي تترجم اسمه عندهم باسمه عند اليهود.]

 



26:4- قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ».

توقع المرأة لهذه الحقيقة، هو الذي دفع المسيح لإعلانها. لم يكن المسيح قادراً، بعد، أن يحجز عنها هذه الحقيقة حينما بلغتها وتوقفت عند حدودها عاجزة تطلب وتمد يدها لكي يدخلها إلى النور أو يدخل النور إليها. لقد أدركت تماماً أن وراء هذا الإنسان شيئاً أعظم من نبي ولكنها تعثرت في أمرين: الأول أنه يهودي، والثاني هذا الجسد المُتعب العطشان. إن عثرة التجسد تقفر الحاجز الأخير للايمان الذي إذا تخطاه الإنسان بلغ إلى رؤية الله. والله وضع هذا الحجاب الحاجز بينه وبين الإنسان لاختبار هذا الإيمان، فهو الحاجز، وهو نفسه الطريق الموصل إلى السماء إلى قدس الأقداس: «طريقاً كرسه لنا حديثاً حياً بالحجاب أي جسده.» (عب20:10)
‏يلاحظ في الترجمة العربية أنها أخفت «أنا هو» دون معرفة. فهنا يقع هذا الإصطلاح كاسم شخص «يهوه» كما تنطقه جميع أسفار العهد القديم. فالمسيح يبرز شخصيتته ليس كالمسيا الذي تنتظره هي أو اليهود عموماً, كمن يرد الملك أو يعلم التوراة عن صحة أو يبني هياكل ويصحح عبادات، بل هو «يهوه» الذي يصنع كل شيء جديداً. نطقه المسيح وهو مغطى بالسرية التي لا يفكها إلا من يبحث عنه!!
‏هذه هي المرة الاولى والوحيدة التي يعلن فيها المسيح عن شخصيته المسيانية قبل المحاكمة، يقابلها في إنجيل مرقس فقط موقفث مماثل: «لأن من سقاكم كأس ماء باسي لأنكم للمسيح فالحق أقول لكم إنه لا يضيع أجره.» (مر41:9)
‏وعلى القارىء أن يلاحظ أسلوب المسيح في إنجيل يوحنا في الإعلان عن نفسه، فمع نيقوديموس ابتدأ من «الريح التي تهب حيث تشاء» مع صورة سرية للماء لقيام أولاد الله مولودين جدداً من فوق؛ ومع السامرية ابتدأ من الماء الذي «من يشربه لا يعطش أبدأ» الصورة السرية للمياه التي ولد منها النفوس الجدد أيضاً.
‏أما نيقوديموس فتعثر, شأنه شأن معلم الحرف في العهد القديم: «لأن الأجنة دنت إلى المولد ولا قوة على الولادة» (إش3:37‏)؛ وأما السامرية فطلبت بشغف وشربت بنهم، ورأت المسيا, وتتلمذت وصارت طليعة الأمم.
‏لقد سقط عن السامرية ثوبها المنجس بقذر الخطية، حينها انفتحت عينها ملياً ورأت المسيح أمامها مستعلناً. فقد ولت منها في الحال شياطين الظلمة، ولفها نور المسيح. إذ لما يسقط عن النفس ثوبها المنجس, تتولى الملائكة إلباسها ثياب النور, وهي الثياب المزخرفة عند زكريا النبي: «وكان يهوشع لابساً ثياباً قذرة وواقفاً قدام الملاك فأجاب وكلم الواقفين قدامه قائلاً: انزعوا عنه الثياب القذرة. وقال انظر قد أذهبت عنك إثمك والبستك ثياباً مزخرفة … وملاك الرب واقف» (زك3:3-5‏). نعم لقد لبست الأمم فرحتها يوم لبست السامرية ثيابها المزخرفة.

 



ب- حديث الرب مع التلاميذ. (27:4-38‏)

‏وتستمر فيه المقابلة بين القديم والجديد على النحو التالي:
القديم: «يا معلم كل».
‏الجديد: «لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم. طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله».
‏القديم: الأنبياء الذين زرعوا بالدموع.
الجديد: التلاميذ يحصدون ما لم يتعبوا فيه.


27:4- وَعِنْدَ ذَلِكَ جَاءَ تلاَمِيذُهُ وَكَانُوا يَتَعَجَّبُونَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَعَ امْرَأَةٍ. وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: مَاذَا تَطْلُبُ أَوْ لِمَاذَا تَتَكَلَّمُ مَعَهَا.

+ إحدى بركات الخدمة اليومية في المجامع: (أشكرك أنت الرب الذي لم تخلقني امرأة).
+ إنذار الحكماء اليهود: (الرجل لا يتكلم مع امرأة في مكان عام حتى ولو كانت زوجته).
+ قول للربانيين اليهود: ‏(إنه خير لكلمات التوراة أن تُحرق من أن تُلقى على مسامع امرأة.)
+ سأل جليلي امرأة يهودية في الطريق أين الطريق إلى لدة؟ ‏أجابت أيها الجليلي الأحمق ألم تسمع أنه ليس للرجل أن يتكلم مع امرأة في الطريق وأنت تسأل الطريق إلى لدة؟. (رابي يوسا)
+ أي رجل يعطي ابنته أي معرفة عن التوراة يكون هذا بمثابة أنه يعلمها الدعارة ؟؟؟ (رابى إلعزرا).
+ بولس الرسول: (ليس ذكر وأنثى لأنكم جيعاً واحداً في المسيح) (غل28:3).

‏عند هذا الحد من الحوار الذي انتهى باستعلان المسيح لذاته، وصل التلاميذ، ومن بعيد رأوا المعلم والسامرية فتعجبوا متحشمين أن يتكلموا، لأن من عادة حكماء اليهود والرابيين والمعلمين عموماً أن لا يتحادثوا مع امرأة في الطريق مهما كان الأمر.
‏ولكن هذا التعجب بحد ذاته يكشف أن التلاميذ كانوا لا يزالون بعيدين جداً عن فكر المسيح والمسيحية. وهذا يوضح مدى التغير الهائل الذي حدث للمجتمع اليهودي بالنسبة للمرأة بالذات, لما أمن بالمسيح واعتمد لوصاياه وقبل استعلان الحق الإلهي، الذي أضاء ذهن الإنسان وحياته.
‏ويقول العالم «ليون موريس» في كتابه لشرح إنجيل يوحنا في هذا الموضع إنه حتى إلى الأن حينها يُلقى السؤال في المجتمع اليهودي عن وضع المرأة يُقال لهم: (إذا كنا الآن نحس أن المرأة قد حازت على أفضل التغيير في وضعها، فهذا في المجتمع المسيحي وليس بحسب الرؤية اليهودية القديمة.
«ولكن لم يقل أحد ماذا تطلب أو لماذا تتكلم معها»: ‏هذان السؤالان اللذان لم يخرجا إلى حيز الوجود, يوضحان العلاقة القائمة بين المعلم والتلاميذ كيف كانت تقوم على أساس الإحترام الشديد والوقار والخشية. وهذا فعلاً أحد الأداب اليهودية التي ورثتها المسيحية وظهرت في الحياة الرهبانية القائمة دائماً على المعلم والتلميذ، ولكن للأسف لم تدم، فعصرنا الذي نعيشه الأن انقلبت فيه المُثل والأوضاع, وضاع الميراث والتراث بل ضاع منهج الحياة والحياء.


 28:4- فَتَرَكَتِ الْمَرْأَةُ جَرَّتَهَا وَمَضَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَتْ لِلنَّاسِ:.

استجابة المرأة هذه المرة ليس بالقول بل بالعمل. لم تقل: ماذا ستعمل وإلى أين تذهب، ولكنها تركت جرتها تأكيداً أنها لا بد حاضرة وأنها ستأتي أمراً هاماً!
‏عادت المرأة إلى أهل مدينتها في غير ثوبها المنجس بالقذر الذي به عرفوها ، ولكن بثوبها الجديد الزركشى بالنور صُنع يد النعمة وتطريز ملائكة، وافتهم وبشرى الخلاص على فمها.
‏إنه أمر لا يستطيع العقل أن يلاحقه، كيف أن هذه السنين كلها التي عاشتها هذه النفس في وحل الخطية تغتسل في ساعة وأقل؟ لك يا عزيزي القارىء أن تحكم في نور هذه «التوبة العاجلة جداً» مدى تفاهة الخطية بطولها وعرضها وعمقها وخطوطها التي ترسخت في الشعور واللاشعور وقيدت الغرائز واستعبدت الأعضاء وكل الجسد!!
‏كيف انحلت وبادت هذه كلها في مواجهة النور وفعل النعمة!! انظر إل جبروت الوقوف في حضرة الرب وماذا يصنع الحوار الصريح مع القادر على كل شيء! انظر الآن وتمعن في معنى التجديد، ومعنى الميلاد من فوق، ومعنى التحول من القديم إلى الجديد، ليس غادات وغرائز وحب, بل قيم وتقاليد وقيود من حديد! تفكر الأن كيف يُخلق الإنسان من جديد من فوق، كيف يغتسل بل يتقدس بل يلبس النور كثوب.
‏وما أخفق معلم الناموس في فهمه، مارسته السامرية في أعلى صوره. ألا ترى معي هنا لماذا بكل صدق وحق أخذ الله الملكوت من اليهود وسلمه للأمم؟ وكيف كانت السامرية باكورة ثماره؟
‏ذهبت السامرية إلى البئر بالجرة على رأسها والدموع على خديها تبكي حظها ولا من يعزي، فالشماتة خلفها!! وعادت إل المدينة والفرحة تملأ قلبها، إكليل القداسة فوة رأسها وإنجيل البشارة على قدميها: «ومفديو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون (العليا) بترنم وفرح أبدي على رؤوسهم. ابتهاج وفرح يدركانهم، ويهرب الحزن والتنهد.» (إش10:35).


 
29:4- «هَلُمُّوا انْظُرُوا إِنْسَاناً قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ؟».

لم تدع زوجها بل دعت الناس، كل الناس! ‏تركت جرتها، نسيت صنعتها, لم تعد تذكر بيتها ولا ماضيها، أهملت الجسد!
المسيح وحده ملأ فكرها، ملأ قلبها. دخلت مياهه أعماقها ففاضت أنهار ماء حي. لا بد أن يصير للناس كل ما صار لي. .
‏هلموا هلموا: «أيها العطاش جيعاً هلموا إلى المياه والذي ليس له فضة تعالوا… اسمعوا فتحيا أنفسكم.» (إش1:55-3).
«إنساناً قال لى كل ما فعلت»: ‏إن البالغة التي تتكلم بها هي صادقة: «كل ما فعلت» مع أن المسيح راجعها في أمر الخمسة والموجود معها الأن! ولكن المسيح فتح وعيها فاسترجعت كل ما فعلت وكأنها قالته، كأنها اعترفت به واحدة فواحدة. هكذا يستيقظ وعي الإنسان عندها يتوب. وبعدها تُمحى ذكرياته وتتلاشى سيئاته وتُترك له زلاته ولا يعود يذكر هو ولا يذكر له الناس ولا الله شيئاً واحداً مما فعل…
‏ولكن واحسرتاه على الذي كتم خطاياه وختم على خزيه وعار صباه, فهذه كلها تعود وتستيقظ معه في حضرة الديان, بعضها يجري أمامه، وبعضها يجري خلفه، وكأنه واقف وسط أعدائه.
«ألعل هذا هو المسيح»: ‏إنها تعلم تمام العلم اليقين أنه مسيا بلا نزاع، هو قال لها: «أنا هو». لقد دخلت الكلمة أعماقها، لقد صار المسيح مصوراً في قلبها وضميرها، لقد غطى كل صورة عداه، ومسح كل وجه سواه. لقد صار المسيح عريس حياتها الذي استعاد بتوليتها وأنعش أمل الحياة والوجود والخلود في أعماق أعماقها… ولكنها لم ترد أن تسبق حكم المدينة عليه لئلا يناقضوها فيما قالت وفيما اعتقدت. تركت لهم الحكم, ولكن دفعتهم للمجيء لينالوا ويحكموا بأنفسهم ما حكمت ويعتقدوا ما اعتقدت، وقد كان!!!

 
30:4- فَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَتَوْا إِلَيْهِ.

الكل يجري ويتراكض… إشعياء يراهم وينذهل من رؤياهم: «ها أمة لا تعرفها تدعوها، وأمة لم تعرفك تركض إليك… لأنه قد مجدك!» (إش5:55)
لقد سمعوا نداءها واستجابوا لحرارة دعوتها وصدق مشاعرها. لقد وثقوا مم صدق قولها، فأين هذه من صاحبة السيرة الاولى التي كان يحتقرها كل ناظر ولا يأبه بقولها أحد! التي كانت تمشى تتلصص الطرق التي فرغت من عابريها وتختار الأوقات التي لا يسير فيها أحد لتسير وحدها منطوية على خزيها!

 31:4و32و33 وَفِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ سَأَلَهُ تلاَمِيذُهُ: «يَا مُعَلِّمُ كُلْ». فَقَالَ لَهُمْ: «أَنَا لِي طَعَامٌ لِآكُلَ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ أَنْتُمْ». فَقَالَ التّلاَمِيذُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «أَلَعَلَّ أَحَداً أَتَاهُ بِشَيْءٍ لِيَأْكُلَ؟»

‏كان المعلم عطشاناً لماء السامرية ولكن ليس جوعاناً لطعام التلاميذ.
‏كان عطشه للماء يخفي وراءه عطشا لخلاص السامرية والسامريين, والجوع إلى طعام المشيئة الآبوية أخفى هنا جوع الجسد, ليس عن تعال فهو ابن الإنسان، ولكن عن أفضلية.
‏والتلاميذ هنا عادوا فأخذوا دور السامرية، هو قال لها عن الماء الحي الذي من يشربه لا يعطش أبداً، وهي ظنته ماء لراحة الجسد؛ وهو هنا يقول عن طعام يأكله بالحب الإلهي لتكميل مسرة الآب وهم ظنوه طعامأ أكله خلسة من يد عابر سبيل!



34:4- قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ.

المسيح تجتاحه الرغبة الإلهية لخلاص الناس بعنف يغطي كل أعواز الجسد! هنا يستعلن سر الحركة الإلهية في نفس وجسد المسيح كيف تحل محل كل رغبات وشهوات وحاجة الجسد والنفس معاً!
‏إن الأصوام العالية القدر والقدرة التي مارسها الرب سواء في الأربعين على الجبل وحده أو غيرها هي لرفع الجسد والنفس البشرية لتتصادق مع الرغبات الإلهية المقدسة التي للاهوته!! هنا حالة مصغرة من هذه الحالات التي كانت تعلن عن وجودها إزاء المهمات الكبرى! هنا مطالب اللاهوت تغطي على مطالب الجسد، وتدعو الجسد للتآلف معها ليشبع من المشيئة المقدسة ويقنع بمجد الرسالة! هنا الجسد يتجيب بكل حرارته وقوته فتلتهمه نار الجذوة الإلهية فلا يبقى فيه إلا إرادة موحدة لتكميل الرسالة حتى كمالها. وكأن المسيح يريد أن يقول لهم جئت لأعطي نفسي طعاماً لحياة الناس فوق أن أكل طعام الناس لأحيا. حياتي ليست من طعام الجسد بل من حياة الآب: «كما أرسلني الآب الحي وأنا حي بالآب, فمن يأكلني فهو يحيا بي.» (يو57:6‏)
لا ننسى أبداً أن جسد المسيح تعين أصلاً وأساساً ليكون ذبيحة وليس لمجاراة أعوازه!! والذبيحة بدأت يوم أن خرج إلى العالم ينادي بالخلاص، الخلاص المعقود لواؤه على ذبيحة الجسد!! الذبيحة لم تبدأ وتنتهي عند الصليب، بل تراءى المسيح في إنجيله مذبوحأ بالنية من اليهود كل يوم!! أما هو فلم يشفق على الجسد، بل بسرور كان يقدمه للآب كل يوم في الأتعاب والإضطهادات والجوع والعطش ذبيحة مسرة!! «لذلك عند دخوله إلى العالم يقول ذبيحة وقرباناً لم ترد ولكن هيأت لي جسداً. بمحرقات وذبائح للخطية لم تٌسر. ثم قلت هأنذا أجيء, في درج الكتاب مكتوب عني، لأفعل مشيئتك يا الله .» (عب5:10-7)
‏إن العمل الحاسم الحازم الذي أخذه الرب في نفسه وعلى نفسه أنه قدس المشيئة كلية لعمل الفداء!! «لأجلهم أقدس أنا ذاتي» (يو19:17‏)! لقد أفرغ المسيح كل عافية الجسد حتى آخر قطرة إلى أن قالها وهومرتاح «قد أُكمل» (يو30:19). ليس أنه كان يسعى متسرعا أن يشرب الكأس، بل بتمهل فائق الوصف والقدرة، وبتغييرات جذرية في تنوع الخدمة وتغيير الإتجاه في السير وتغيير الأماكن للخدمة وللتوقف عن العمل، ثم الإستئناف. كان يتحاشى الصدام المبكر مح القاتلين، حتى إلى درجة استخدام القدرة الفائقة في إخفاء وجوده, حتى يكمل كل العمل الذي كان يستلمه من الآب يومأ بيوم… لقد قالها أيضأ وهو مرتاح: «أنا مجدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته» (يو4:17‏)!!! ولكن أي تكميل؟ تكميل الآلام بالآلام: «لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل, وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد, إلى أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام.» (عب10:2)
‏نعم، وقد صار هذا التكميل المتقن لحساب كل البشرية ويزيد: «وإذ كمل صار لجميح الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي.» (عب9:5)
‏فإذا كان تصميم المسيح الحاسم شديداً لهذا الحد في تكميل مشيئة الآب الذي أرسله وتتميم عمله، لذلك كان همه الطاغي أن ينقذ الخطة المرسومة بكل اعتناء، حتى صارت إرادة المسيح ومشيئته مبتلعة تماماً في مشيئة الآب من نحو العمل الموضوع أمامه. لذلك لا نتعجب أن يسقط في الطريق كل اهتمامات الجسد ومشيئات الناس والأهل: «فأجاب وقال (للقائل له): من هي أمي ومن هم إخوتي. ثم مد يده نحو تلاميذه وقال ها أمي وإخوتي. لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي.» (مت48:12-50‏)



35:4- أَمَا تَقُولُونَ إِنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَأْتِي الْحَصَادُ؟ هَا أَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ارْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ وَانْظُرُوا الْحُقُولَ إِنَّهَا قَدِ ابْيَضَّتْ لِلْحَصَادِ.

‏كان تقاطر أهل السامرة في جموع متلاحة لابسين ثيابهم التقليدية البيضاء كأنهم حقل قمح نضج للحصاد، فللحال اتحذه المسيح «كمثل» لعمل الملكوت المتسع بالنسبة للآزمنة القادمة بعد «العمل وتكميل الخلاص بالألأم»، الذي هو بحسب تشبيه المسيح سقوط حبة الحنطة في الأرض لتموت ثم تخرج من جديد حقلاً من القمح للحصاد.
‏في هذه القصة, قصة السامرية, تستطيع الأذن الحساسة أن تتبين أنها موقعة على أنغام الصلبوت.
+ درجة درجة تبتدىء النغمة رافعة بمنظر المسيح «متعب من السفر»؛ وكأنه سفر خدمة المجهد الطويل الذي انتهى بالضرب والجلد ودفر إكليل الشوك .
+ وهنا تبتدىء النغمة تعلو قليلاً حينما تقول القمة حرفياً أنها «كانت نحو الساعة ‏السادسة»!! بلغة ساعة الصليب تماماً.أ
+ ثم تزداد النغمة صراخاً حينما يقول المسيح: «أعطيني لأشر»؛ «أنا عطشان» بلغة الصليب تماماً.
+ ثم النغمة تزداد لتصير صراخاً مدوياً حينما يقول المسيح «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله»؛ يقابلها على نفس السلم «قد اكمل».
+ ثم تهبط النغمة حزينة ممزوجة برجاء حي حينما يقول المسيح: «الماء الذي أنا أعطيه»؛ لترد عليها أنغام الصليب «وخرج منه دم وماء».
+ ثم عود على ذي بدء: «لأن تلاميذه كانوا قد مضواء» (وتركوه وحده)… لتتقابل في انسجام مع نغمة «تأتي ساعة وقد أتت الأن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركونني وحدي» (يو32:16)
+ ثم عودة أكثر إلى خلف لنسمع: «انظروا الحقول ( القمح) قد ابيضت للحصاد…»؛ واسمع نغمة «إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير.» (يو24:12)
+ ثم اسمع نغمة القوة عندما انتهى الرب مع السامرية إلى ما انتهى إليه, حينما قالت عن الميا فقال لها: «أنا هو الذي اأكلمك»؛ وعلى جانب الصليب وبنفس القوة, وحينما تساءل بيلاطس: «أفأنت إذاً ملك», أجاب يسوع: «أنت تقول إني ملك لهذا قد وُلدت أنا».
+ ثم اسمع كودة الختام العالية جداً والسريعة جداً بصوت أهل السامرة يعلنون بلا تحفظ: «هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم»؛ واسمع النغمة المقابلة بنفس الرتم من قائد حرس المائة: «حقاً كان هذا الإنسان ابن الله».
‏ليس من اللازم أن هذا التوافق كان في ذهن القديس يوحنا، ولكن الروح لا يخطأ حينما يؤلف بين أقوال وأقوال قارناً الروحيات بالروحيات.
‏ولكن نستشف من هذه المقابلة أن قصة السامرية هي لقطة من منظر الصلبوت، معها في الحال جانب من بدء الخدمة وافتتاح الإرساليات. فالمسيح يتكلم عن الحصاد. والحصاد في إنجيل المسيح له موعدان محددان لا ثالث لهما: الحصاد الآول حصاد المؤمنين بالكرازة، وهذا بدأ بعد القيامة ولن ينتهي إلا يوم القيامة، حيث الحصاد الثاني للدينونة!!
‏ الأول: «الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون، فاطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده.» (مت37:9-38‏)
‏أما الثاني: «وخرج ملاك آخر من الهيكل يصرخ بصوت عظيم إلى الجالس على السحابة: أرسل منجلك واحصد، لأنه قد جاءت الساعة للحصاد، إذ قد يبس حصيد الأرض! فألقى الجالى على السحابة منجله على الأرض فحصدت الأرض.» (رؤ15:14-16)
‏وأصل قصة الأربعة أشهر والحصاد والحقول المبيضة التي حيرت جميع الشراح هي حسب ظننا كالآتي:
‏كان التلاميذ يتكلمون مع بعضهم وأمامهم حقول القمح مخضرة على سفوح جبل جرزيم, أخصب بقاع إسرائيل، والزرع له في الأرض شهران وكانوا يتناجون أن بعد أربعة أشهر يكون الحصاد. لأن القمح يستمر في الأرض ستة شهور كاملة حتى يحصد: من منتصف أكتوبر إلى منتصف أبريل. علماً بأن منتصف أبريل أي وقت الحصاد المبكر هو هو زمن الصليب بالضبط. لذلك هنا كلمة «أربعة أشهر» من فم المسيح و«ثم يأتي الحصاد» إشارة واضحة جداً لتكميل عملا رسميأ على الصليب: «قد أكمل»!!
‏وهنا الربط واضح بين قول المسيح: «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله» وبين الأربعة أشهر والحصاد في حديث المسيح الذي جاء بعده مباشرة!! هنا ليس تداعى الألفاظ ولا هو تداعي الأفكار، بل الحبك في إنجيل يوحنا.
‏بقية المعنى يتمشى معنا هكذا: أنتم تقولون أن بعد أربعة أشهر يكون الحصاد، وأنا أقول لكم ها هو الحصاد أمامكم والحقول أمامكم ابيضت للحصاد، فالسامريون كانوا يتقاطرون بثيابهم البيضاء مسرعين نحو المسيح بقيادة من أمنت وكانت أول الكارزين: «ارفعي عينيك حواليك وانظري. كلهم قد اجتمعوا أتوا إليك. حي أنا يقول الرب أنك تلبسين كلهم كحلي، وتتمنطقين بهم كعروس.» (إش18:49)
‏هذا في الحقيقة منظر مبكر جداً جداً عن ميعاده، لأننا لسنا في زمان الحصاد لنفوس المؤمنين بالمسيح الذين يتقاطرون إليه بهذه اللهفة!! ولكن هذا ما حدث بسبب شدة التأثير الذي حدث للسامرية بسبب استعلان المسيح لنفسه استعلاناً كاملاً بقوة لاهوته: «أنا هو»، الذي لم يحدث ‏قط وكأنه استعلان ما بعد القيامة. فكانت كرازة المسيح للسامرية على مستوى استعلان كامل لمسيح القيامة والخلاص والحياة الأبدية. وكان تأثير السامرية على السامريين من نفس النوع, لأن ‏أمامهم امرأة خاطئة تحولت إلى قديسة، فكان هذا كفيلاً بصدق استعلان المسيح فيها!! فكان هذا الحقل البشري القادم لقبول الإيمان نموذجاً مبدعاً وكاملاً للحصاد القادم!!



36:4و37 وَالْحَاصِدُ يَأْخُذُ أُجْرَةً وَيَجْمَعُ ثَمَراً لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ لِكَيْ يَفْرَحَ الزَّارِعُ وَالْحَاصِدُ مَعاً. لأَنَّهُ فِي هَذَا يَصْدُقُ الْقَوْلُ: إِنَّ وَاحِداً يَزْرَعُ وَآخَرَ يَحْصُدُ.

‏لاحظ أن الحاصد هنا لم يتعب، إنه يتلقى نفوساً آمنت جاهزة للحياة الأبدية. ولكن عجيب هو الرب، فقد جعل للحاصد أجرة لأنه يجمع مع المسيح وللميسح حصيداً لن يتبدد. وفي الحقيقة إن الكلام هنا عميق وسري للغاية، يلزمنا أن نستبق الكلام لنقرأ في الأصحاح السادس عن «عمل الله»: «هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله» (يو29:6). وبعد، يظهر من الكلام بغاية الوضوح أن «عمل الله» هو بمثابة الأكل من المن الحقيقي الخبز الذي أرسله الله!!! «أنا هو خبز الحياة» _ «من يأكلني يحيا بي»!
‏ثم لو رجعنا قليلاً في نفس الموضوع نجد المسيح يقول: «اعملوا لا للطعام البائد (الخبز اليومي) بل للطعام الباقي (الخبز الحي) للحياة الآبدية الذي يعطيكم ابن الإنسان, لأن هذا الله الآب قد ختمه» (يو27:6‏). «ختمه» هنا تعود ليس على الطعام، لأن هذا الفعل جاء واقعاً على شخص مذكر في اللغة, وهو المسيح, وليس على الطعام (المؤنث في اللغة اليونانية). فالطعام الباقي للحياة الآبدية الذي الأب ختمه هو المسيح، والعمل نفسه لحساب المسيح! «اعملوا للطعام». فهنا «الحاصد ثمر الحياة الأبدية» هو «عامل للطعام الباقي للحياة الأبدية»!! بمعنى أن الخادم أو المرسل طعامه هو الآخر أن يعمل للحياة الأبدية، يأكل المسيح ويطعم الناس من أطايبه!! هذه هي أجرة المرسل والكارز والخادم للكلمة أياً كان!!
«لكي يفرح الزارع والحاصد معاً. لأنه في هذا يصدق القول أن واحد يزرع وآخر يحصد»:
‏واضح أن المسيح يقصد هنا كل الذين تعبوا في كلمة الله منذ أن جاءت كلمة الله وكان لها من يحملها ويتكلم بها ويزرعها في قلوب الناس على كل الأجيال السالفة. لأننا نسمع عن مثل هؤلاء الذين خلصوا نفوساً منذ القديم سمعاً مبهراً: «والفاهون يضيئون كضياء الجلد والذين ردوا كثيرين إلى البر كالكواكب إلى أبد الدهور» (دا3:12‏). هؤلاء هم الذين زرعوا الكلمة في قلوب سامعيهم ومضوا. ليس أنهم أشخاص الماضي الذي يُنسى، ولا هم تعبوا وانتهى تعبهم إلى نسيان، حاشا لرب الحصاد ديان الأرض كلها أن لا يصنع عدلاً؛ فهؤلاء يعيدون الآن عيد الأبدية في عرس فرح الخروف، هاتفين بالمجد إلى أبد الآبدين مع ربوات هم محفل ملائكة! هناك يتلاقى الزارع والحاصد معأ وعلى «رؤوسهم فرح أبدي».


38:4- أَنَا أَرْسَلْتُكُمْ لِتَحْصُدُوا مَا لَمْ تَتْعَبُوا فِيهِ. آخَرُونَ تَعِبُوا وَأَنْتُمْ قَدْ دَخَلْتُمْ عَلَى تَعَبِهِمْ».

‏لكي يستقيم الشرح يلزم أن نفهم ما هو تعب الزارع وما هو تعب الحاصد. كذلك ما هو فرح هذا وما هو فرح ذاك. أما تعب الزارع فليس من الجهد المبذول والتعب المضني وسفك الدم، لأن هذا اشترك فيه الأنبياء تماماً على مستوى الرسل: «وآخرون عُذبوا ولم يقبلوا النجاة لكي ينالوا قيامة أفضل. وأخرون تجربوا في ُهزء وجلد، ثم في قيود أيضأ وحبس. رُجموا نُشروا جُربوا ماتوا قتلاً بالسيف، طافوا في جلود غنم وجلود معزى, معتازين مكروبين مُذلين، وهم لم يكن العالم مستحقاً لهم. تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوة الأرض. فهؤلاء كلهم، مشهودا لهم بالإيمان، لم ينالوا الموعد إذ سبق الله فنظر لنا شيئاُ أفضل لكي لا يُكملوا بدوننا» (عب35:11-40). أما عينة ألام وتعب وعذاب وقتل واستشهاد الحاصدين فهو بكل تأكيد مماثل بالحرف الواحد!
‏إذن، ففرق التعب الوحيد أن هؤلاء الآباء والأنبياء القديسين القدامى جاهدوا دون رؤية «من بعيد نظروها»!! (عب13:11‏). لم يذوقوا الخلاص, ولا عرفوا الحب الفادي, ولا سمعوا صوت العريس، ولا فرحوا بالرب في ملء استعلان مجده، ولا تشددوا هكذا بالروح القدس المعزي؛ فكان تعبهم مريرا ومرارتهم بلا حلاوة. أما الرسل ومن هم بعدهم من المرسليين والكارزين فلا يُحسب تعبهم الجسدي قط بجوار الفرح والعزاء والقوة والمجد الذي كانوا يعيشونه. إن أعظم من تعب وتألم فيهم كان بولس الرسول، وكان أبهج شيء عنده أن يكمل نقائص شدائد المسيح في جسده. اسمعه في آخر قول له: «جاهدت الجهاد الحسن… وأخيراً قد وُضح لي إكليل البر» (2تي7:4-8‏). لذلك كان المسيح نفسه يغبطهم: «والتفت إلى تلاميذه على انفراد وقال: طوبى للعيون التي تنظر ما تنظرونه لأني أقول لكم إن أنبياء كثيرين وملوكاً أرادوا أن ينظروا ما أنتم تنظرون ولم ينظروا وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا» (لو23:10-24). واضح، إذن, أن تعب التلاميذ والمرسلين عمومأ عادله بهجة الخلاص وفرح الروح وزمالة المجد مع المسيح، فما عاد يُحسب تعباً بل فرحاً: «الآن أفرح في آلامي لأجلكم» (كو24:1)، «ودعوا الرسل وجلدوهم وأوصوهم أن لا يتكلموا باسم يسوع ثم أطلقوهم. وأما هم فذهبوا فرحين من أمام المجمع لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه» (أع40:5-41). إذن، صح قول المسيح أن آخرين تعبوا وأنتم قد دخلتم على تعبهم.



38:4- أَنَا أَرْسَلْتُكُمْ لِتَحْصُدُوا مَا لَمْ تَتْعَبُوا فِيهِ. آخَرُونَ تَعِبُوا وَأَنْتُمْ قَدْ دَخَلْتُمْ عَلَى تَعَبِهِمْ».

‏لكي يستقيم الشرح يلزم أن نفهم ما هو تعب الزارع وما هو تعب الحاصد. كذلك ما هو فرح هذا وما هو فرح ذاك. أما تعب الزارع فليس من الجهد المبذول والتعب المضني وسفك الدم، لأن هذا اشترك فيه الأنبياء تماماً على مستوى الرسل: «وآخرون عُذبوا ولم يقبلوا النجاة لكي ينالوا قيامة أفضل. وأخرون تجربوا في ُهزء وجلد، ثم في قيود أيضأ وحبس. رُجموا نُشروا جُربوا ماتوا قتلاً بالسيف، طافوا في جلود غنم وجلود معزى, معتازين مكروبين مُذلين، وهم لم يكن العالم مستحقاً لهم. تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوة الأرض. فهؤلاء كلهم، مشهودا لهم بالإيمان، لم ينالوا الموعد إذ سبق الله فنظر لنا شيئاُ أفضل لكي لا يُكملوا بدوننا» (عب35:11-40). أما عينة ألام وتعب وعذاب وقتل واستشهاد الحاصدين فهو بكل تأكيد مماثل بالحرف الواحد!
‏إذن، ففرق التعب الوحيد أن هؤلاء الآباء والأنبياء القديسين القدامى جاهدوا دون رؤية «من بعيد نظروها»!! (عب13:11‏). لم يذوقوا الخلاص, ولا عرفوا الحب الفادي, ولا سمعوا صوت العريس، ولا فرحوا بالرب في ملء استعلان مجده، ولا تشددوا هكذا بالروح القدس المعزي؛ فكان تعبهم مريرا ومرارتهم بلا حلاوة. أما الرسل ومن هم بعدهم من المرسليين والكارزين فلا يُحسب تعبهم الجسدي قط بجوار الفرح والعزاء والقوة والمجد الذي كانوا يعيشونه. إن أعظم من تعب وتألم فيهم كان بولس الرسول، وكان أبهج شيء عنده أن يكمل نقائص شدائد المسيح في جسده. اسمعه في آخر قول له: «جاهدت الجهاد الحسن… وأخيراً قد وُضح لي إكليل البر» (2تي7:4-8‏). لذلك كان المسيح نفسه يغبطهم: «والتفت إلى تلاميذه على انفراد وقال: طوبى للعيون التي تنظر ما تنظرونه لأني أقول لكم إن أنبياء كثيرين وملوكاً أرادوا أن ينظروا ما أنتم تنظرون ولم ينظروا وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا» (لو23:10-24). واضح، إذن, أن تعب التلاميذ والمرسلين عمومأ عادله بهجة الخلاص وفرح الروح وزمالة المجد مع المسيح، فما عاد يُحسب تعباً بل فرحاً: «الآن أفرح في آلامي لأجلكم» (كو24:1)، «ودعوا الرسل وجلدوهم وأوصوهم أن لا يتكلموا باسم يسوع ثم أطلقوهم. وأما هم فذهبوا فرحين من أمام المجمع لأنهم حسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه» (أع40:5-41). إذن، صح قول المسيح أن آخرين تعبوا وأنتم قد دخلتم على تعبهم.



ج_ إيمان السامريين: (39:4-42‏)


الاستعلان: «هذا هو مخلص العالم»

39:4 41 فَآمَنَ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ كَثِيرُونَ مِنَ السَّامِرِيِّينَ بِسَبَبِ كلاَمِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَشْهَدُ أَنَّهُ: «قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ». فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ السَّامِرِيُّونَ سَأَلُوهُ أَنْ يَمْكُثَ عِنْدَهُمْ فَمَكَثَ هُنَاكَ يَوْمَيْنِ. فَآمَنَ بِهِ أَكْثَرُ جِدّاً بِسَبَبِ كلاَمِهِ.

‏أمامنا نوعان من الإيمان: إيمان عن طريق الشهادة: «فآمن كثيرون بسبب كلام المرأة‏» وايمان مباشر عن طريق الاستعلان بالكلمة: «فآمن به أكثر جداً بسبب كلامه». والذي يسترعي انتباهنا هنا هذا الإستعداد المتوفر جداً عند السامريين سواء للايمان عن طريق مجرد الشهادة, أو بالأكثر عن طريق الكلمة المباشرة.
‏والذي يسترعي الانتباه في إيمان هذا الشعب السامري ، أنهم لم يطلبوا آيات أو عجائت, بل كان إيمانهم مبنياً على القناعة الروحية وصدق الا ستعلان من خلال الكلمة.
‏إن القديس يوحنا اهتم بأن يضع هذا المثل الإيماني عن السامريين في مقابل المثيل له عند اليهود، ليوضح كيف أن استعلان المسيح يمتد أكثر وبسرعة واستجابة تلقائية عند غير اليهود. وهكذا انفتح باب الأمم للإيمان على مصراعيه, مبتدئأ من السامرة, ونحن .
‏ولكن يلاحظ أن المسيح مكث هناك يومين. الرقم هنا مثير للدهشة فهو ليس ثلاثة أيام كالعادة. المعنى الدفين هنا أن إيمان السامرة جاء قبل الميعاد، جاء ناقص النضج، ينقصه الإيمان بالقيامة.


42:4- وَقَالُوا لِلْمَرْأَةِ: «إِنَّنَا لَسْنَا بَعْدُ بِسَبَبِ كلاَمِكِ نُؤْمِنُ لأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هَذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ الْمَسِيحُ مُخَلِّصُ الْعَالَمِ».

‏لقد أحب الرب السامريين, أعداء اليهود, لكونهم منبوذين وخارج السياجات. لقد أكمل الله فيهم مثله المشهور عن الرجل الغني الذي صنع عشاءً عظيماً وأرسل عبده يدعو المدعوين: «وأرسل “عبده” في ساعة العشاء ليقول للمدعوين (اليهود، أبناء الملكوت): تعالوا… فابتدأ الجميع برأي واحد يستعفون… حينئذ غضب رب البيت وقال لعبده: أخرج عاجلاً إلى شوارع المدينة وأزقتها وأدخل إلى هنا المساكين والجدع والعرج والعمي (مساكين اليهود الذين صنع معهم آياته). فقال العبد: يا سيد قد صار كما أمرت، ويوجد أيضاً مكان. فقال السيد: أخرج الى الطرق والسياجات وألزمهم بالدخول حتى يمتلىء بيتي.» (لو16:14-23)
‏في الحقيقة كان مسلك المسيح مع السامرية نوعاً من الإلزام المقبول. لقد عرض عليها الخلاص وأقنعها بضرورته فقبلته تحت اقتناع طاغ شبه التزام!! وهذا من حق الأمم، لأن الخلاص غريب عنهم. أما اليهود: «فالخلاص من اليهود»، يعرفونه وهم مدعوون له!! فلما رفضوه, قال الغني: «لأني أقول لكم إنه ليس واحد من أولئك الرجال المدعوين يذوق عشائي.» (لو24:14‏)
‏وليلاحظ القارىء مسلك المسيح الذي جعلهم يهتفون به مخلصاً للعالم!! فآولاً لم ينحاز لمكان العبادة عند اليهود في أورشليم ضد عبادة السامريين في جرزيم، إلا أنه تمسك «بالحق والروح في العبادة». إذن, فهو يصح أن يكون حكماً عادلاً لكل دين!! ثم إنه لم يفرق بين جنس وجنس! إذن فهو يصح أن يكون كبيرا على كل الأجناس!! ثم إنه ذهب إلى عقردارهم المنجس عند اليهودى وأكل من أكلهم الممنوع، وشرب من شربهم المحرم. إذن فهو يصح أن يكون حبيبا لكل الناس والمنبوذين بالدرجة الاولى. ثم إنه خلص أخطى خطاة مدينتهم ثم كلمهم بكلمة الخلاص عينها فأمنوا بها وخلصوا! فكيف لا يكون هذا المسيا مخلص العالم؟
‏اللقب الذي أعطاه السامريون للمسيح هو أعلى استعلان لاهوتي للمسيح في الإنجيل! وقد جاء عن شدة تأثرهم به باقتناع، وشدة عوزهم إليه بلهفة، ثم إحساهم بالعزلة الثقيلة عن اليهود التي يحسها العالم كله والتي رفعها عنهم، فلماذا لا يرفعها عن العالم كله؟ وتم قول هوشع النبي: «سأدعو الذي ليس شعبي شعبي والتي ليست محبوبة محبوبة» ويكون في الموضع الذي قيل لهم فيه لستم شعبي أنه هناك يدعون أبناء الله الحي.» (وردت في رومية 25:9-26)
‏أما السامرية فظلت أغنية الكارزين . ويذكر لنا التقليد أن الكنيسة الاول قننتها كقديسة تحت اسم القديسة «قوتينا» والاسم باليوناني ( ), أي المضيئة. وتعيد لها الكنيسة الغربية في 20 مارس.


الجزء الثاني: إنجيل قوه الكلمة|
(46:4 – 47:5)

«إنجيل قوة الكلمة» يشمل معجزتين أجراهما المسيح بمجرد النطق بالكلمة ثم عقب على المعجزة الثاية بتوضيح قوة الكلمة.
+ المعجزة الاولى: شفاء ابن خادم الملك, وتمت في الجليل (46:4-54) «فآمن الرجل بالكلمة».
+ والمعجزة الثانية: شفاء مريض بركة بيت حسدا وقد تمت في أورشليم. وبها يبدأ الأصحاح الخامس، وقد تمت أيضاً بمجرد كلمة من المسيح: «قم احمل سريرك وامشي».
‏وقد عقب عليها الرب في بقية الأصحاح الخامس بتوضيح قوة الكلمة المحيية: «من يسمع كلامي… قد انتقل من الموت إلى الحياة» … «يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون». ثم كشف سبب عدم إيمان اليهود، لأن «ليست لكم كلمته ثابتة فيكم».

شفاء ابن خادم الملك

الترحيب بالمسيح في الجليل، وصنع آيه واحدة في قانا الجليل ذات طابع جديد:


43:4 و44 وَبَعْدَ الْيَوْمَيْنِ خَرَجَ مِنْ هُنَاكَ وَمَضَى إِلَى الْجَلِيلِ. لأَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ شَهِدَ أَنْ: «لَيْسَ لِنَبِيٍّ كَرَامَةٌ فِي وَطَنِهِ»

«فيا رب الجنود القاضي العدل فاحص الكلى والقلب, دعني أرى انتقامك منهم لأني لك كشفت دعواي. لذلك هكذا قال الرب عن أهل عناثوث الذين يطلبون نفسك قائلين لا تتنبأ باسم الرب فلا تموت بيدنا!! لذلك هكذا قال رب الجنود: هأنذا أعاقبهم، يموت الشبان بالسيق ويموت بنوهم وبناتهم بالجوع.» (إر20:11-22)
‏لقد حفر المسيح الزارع السماوي في أرض السامرة وألقى بذار الكلمة، ولما اطمأن إلى حفظ الوديعة بعد يومين غادر أرض السامرة وانطلق إلى الجليل. وكما يقول القديس كيرلس الكبير:[عبر في منتصف الطريق إلى الناصرة فأعطاها ظهره. وانطلق إلى الجليل الأعلى, لأنها لم تقبله في السابق, وقال عليها مثله المشهور: «ليس لنبي كرامة في وطنه»؛ ليس لأنه يسعى إلى كرامة الكرازة ولكن لأن عمل الخدمة لا يثمر في أرض يمتنع عليها شرب الماء، والآية يصعب إتيانها في قلب بلا أمانة].
‏وهنا يلمح المسيح إلى العلاقة بين تكريم الله ورضاه: «أكرم الذين يكرموني والذين يحتقروني يصغرون» (أم30:2‏). ولم يصنع آيات في كفرناحوم لأنهم لم يكونوا يؤمنون به.

 



45:4- فَلَمَّا جَاءَ إِلَى الْجَلِيلِ قَبِلَهُ الْجَلِيلِيُّونَ إِذْ كَانُوا قَدْ عَايَنُوا كُلَّ مَا فَعَلَ فِي أُورُشَلِيمَ فِي الْعِيدِ لأَنَّهُمْ هُمْ أَيْضاً جَاءُوا إِلَى الْعِيدِ.

‏حتى هذا القبول من الجليليين يضعه القديس يوحنا موضع الهزال والتفاهة، إنما بلغته المملوءة سراً، عندما أضاف إلى ترحابهم السبب فيه: ليس من أجل شخص المسيح ولكن لأنهم عاينوا آياته. فرق شاسع بين تقرير القديس يوحنا عن إيمان السامريين الذي ترسخ في قلوبهم دون آية واحدة: «نعن قد سمعنا ونعلم أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم», وبين إيمان الجليليين الذي هو بلا إيمان، القائم على رؤية الآيات وحسب. وصح في السامريين قول إشعياء النبي: «أصغيت إلى الذين لم يسألوا. وٌجدت من الذين لم يطلبوني. قلت هأنذا هأنذا لأمة لم تٌسم باسمي» ‏(إش1:65). أما عن اليهود فيقول: «بسطت يدي طول النهار إلى شعب متمرد» (إش2:65, رو21:10). و يلزم أن ينتبه القارىء، فمستقبلاً سوف يرفض الجليليون المسيح أيضاً في الأصحاح السادس والعدد 66‏.


 46:4- فَجَاءَ يَسُوعُ أَيْضاً إِلَى قَانَا الْجَلِيلِ حَيْثُ صَنَعَ الْمَاءَ خَمْراً. وَكَانَ خَادِمٌ لِلْمَلِكِ ابْنُهُ مَرِيضٌ فِي كَفْرِنَاحُومَ.

‏كلمة «أيضاً» تعني ثانية، فالمسيح يسعى ثانياً إلى من يقبله أولاً~ لقد تأثر به أهل قانا وأحبوه عندما صنع عندهم معجزته الاولى في تحويل الماء خمراً جيدا، فأحبهم هو أيضأ وها هوذا يعود إليهم وعلى استعداد لعمل المزيد.
«خادم للملك ابنه مريض»: أما الملك فبحسب تحقيق العلماء هو هيرودس أنتيباس رئيس ربع على الجليل، وكان معروفاً في الشعب باسم «الملك». وكثير من العلماء يقولون إن هذا الخادم هو « خوزي» (المذكور في إنجيل لوقا 3:8‏) أو ربما «مناين» (المذكور في سفر الأعمال 1:13). وخوزي هو زوج يونا المرأة التي كانت تتبع المسيح مع النساء اللاتي كن تخدمنه من أموالهن الخاصة.


47:4- هَذَا إِذْ سَمِعَ أَنَّ يَسُوعَ قَدْ جَاءَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجَلِيلِ انْطَلَقَ إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَنْزِلَ وَيَشْفِيَ ابْنَهُ لأَنَّهُ كَانَ مُشْرِفاً عَلَى الْمَوْتِ.

‏«وسأله أن “ينزل”»: يلاحظ أن كفرناحوم واقعة على شاطىء البحيرة (بحر الجليل). أما «قانا» فهى على هضبة أعلى كثيراً عن مستوى البحر. والذي يهمنا هنا هو دقة الوصف الذي يعطيه القديس يوحنا لطبيعة المكان وطبيعة الحركة، مما يوضح بلا مواربة أنه مواطن عاش في هذه المناطق ودرسها وانطبعت في ذاكرته, كما أنه يسجل كلمات هذا الضابط الملكي حرفياً كما فاه بها, وكأنها مسجلة عنده. على أن المسافة بين كفرناحوم وقانا الجليل تبلغ بحسب تحقيق يوسيفوس المؤرخ اليهودي حوالي 16 ميلاً، قطعها هذا الضابط الملكي راكباً على الأرجح.


48:4- فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لاَ تُؤْمِنُونَ إِنْ لَمْ تَرَوْا آيَاتٍ وَعَجَائِبَ!»

المسيح هنا يستحث الإيمان بدون آية، الإيمان بالكلمة. فالإيمان بالكلمة يستقر في القلب حيث تنمو الكلمة ويثمر، أما إيمان الآية فيستقر في العقل حيث القياس والمقابلة والشك والنسيان.
‏والعجيب حقاً أن في نفس هذه القصة بل وفي صميم هذه الآية آمن الضابط الملكي «بالكلمة», فكانت «الحياة» هي الجائزة الممنوحة له في الحال. لذلك نلاحظ أنه في توبيخ المسيح، دائماُ دائماً يكمن الباب المستور والعطية المخفية والحل المفرح والعزاء المقيم لو التفت الإنسان وقبل التوبيخ طالباً النور: «أؤمن يا سيد فأعن عدم إيماني.» (مر24:9)
«آيات وعجائب»: العجيبة هي الآية على المستوى المذهل للعقل، الذي يثير إما التعجب الشديد أو الإعجاب الأشد. ويلاحظ أن مجيء هذين اللفظين معاً يقتصر على موضعهما هنا في إنجيل يوحنا. أما بالنسبة لأسفار العهد الجديد وأسفار العهد القديم فورودهما معاً موجود وبصورة مكثفة. والمقصود هنا هو الإعتماد على الرؤية العينية أو المظهر الباهر الشكلي للآية والمعجزة. ولكن يوجد إيمان صحيح قائم على الآية ولكن ليس القائم عل الرؤية العينية، بل على المعنى والإحساس الباطني بالوعي والفطنة المسيحية، كآية تحويل الماء خمراً في عرس قانا الجليل التي على أثرها آمن به تلاميذه.


49:4- قَالَ لَهُ خَادِمُ الْمَلِكِ: «يَا سَيِّدُ انْزِلْ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ابْنِي».

لقد فرغ صبر الأب، والجزع على ابنه جعله ينسى آداب الحديث مع من جاء يطلب منه الحياة!! فلم يكن قد أدرك بعد, مثل مرثا, أن سلطانه يتجاوز القبر والموت، وأن كلمته من على بعد تحيي وتقيم من الموت.
القديس يوحنا يلقينا مرة واحدة في قلب القصة الملتهب! أب ملهوف على ابنه المريض وقد بلغ حافة الموت. والابن عزيز أعز من النفس لدى الأب الحنون. وها الأمل قد انقطع من جهة كل علاج ممكن، وقد أطل الموت بظله الكئيب والمفزع مصممأ على قطع شريان الحياة لمن تحبه نفس الأب.
‏لاحظ أن القديس يوحنا لم يهتم بمن هو هذا الخادم، أممي هو أو يهودي، لم يعط جواباً، كما لم يهتم باسم الابن وعمره، يكفي أن ليس في الوجود أثمن الابن. ولكن الذي يثير انتباه القديس يوحنا، ويود أيضاً أن يثير انتباهنا إليه هو الزمن وسلطانه بأيامه وساعاته ودقائقه على قلب ضعيف الايمان: إنه الفزع .
‏والقديس يوحنا يترجم لنا أثر تباطؤ المسيح في الاستجابة كما يودها الضابط الملكي الذي لم يتعود قط إلا أن يأمر فيطاع، وكيف أنشأ هذا التباطؤ في نفس هذا الضابط قلقاً مريعا إزاء تصوره الموت وهو يزحف نحو فريسته.
‏ثم يترجم لنا القلق الذي انتاب هذا الضابط إلى إلحاح، فهو يتجنب الدخول في بحث كيفية الإيمان دون أن تحدث المعجزة، وهو جاء يطلب المعجزة وليس الإيمان!! ولم يكن المسيح في تصوره إلا صانع معجزات، هذه مهنته!! وهذه نظرة أهل زماننا إلى القديسين أيضاً، فهم أصحاب كرامات وحسب, يُطلب منهم عمل المعجزات وإلا فكيف يُدعون قديسين؟ لا «ينظرون إلى سيرتهم» كما قال الكتاب (عب7:13)، ولكن ينتظرون معوناتهم وحسب!
‏شيء واحد يلح على ذهن الضابط الملكي كيف يقنع صانع المعجزات هذا بالنزول فورا لانقاذ حياة ابنه!


50:4- قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «اذْهَبْ. اِبْنُكَ حَيٌّ». فَآمَنَ الرَّجُلُ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي قَالَهَا لَهُ يَسُوعُ وَذَهَبَ.

‏أمام الرب كانت ثلاثة عوامل تحثه أن يقول كلمته:
الأول: ثقة الرجل وتعبه في السفر 25 كيلومتراً حتى التقى به، فهو لم يرد أن يخيب ظنه.
الثاني: الابن المريض، وها قضية الفصل بين الموت والحياة ألقيت بين يديه, فكيف لا يفصل لحساب الحياة وهو ربها!!
ثالثاً: الإلحاح الذي يطوبه الرب جداً: صلوا صلوا ولا تملوا، الذي ضرب عليه مثل الأرملة المظلومة أمام قاضي الظلم وكيف أن إلحاحها غلب ظلم القاضي. فكيف لا يُغلب وهو قاضي العدل!!
«اذهب ابنك حي »: قولة لا يقولها إلا الله. ولقد عظمها الضابط الملكي ايما تعظيم، وكأنه تلقاها من قائده الأعلى, وكأني به يضرب الكعبين ويرفع يده بالتحية وكأنه أمام ملك. لقد أخذ الكلمة كما هي وكأنها تأشيرة واجبة التنفيذ في الحال. انحنى الضابط أمام الرب كجندي ملتزم بالطاعة وانسحب من أمامه ومعه الكنز الذي استؤمن على استيعابه وما بقي أمامه إلا التحقيق. كانت الخطورة مُحدقة به على طول الطريق، لأنه كان قد «آمن بالكلمة» دون صاحبها. إلى ذلك الحين لم يكن المسيح عنده موجوداً بشخصه, بل اكتفى بالكلمة منه، يحققها دون أن يتحقق بعد من شخصه، شأنه شأن من يكرم الإنجيل وينحني أمامه ويقبله ويضعه على رأسه ويستودعه خزانة من ذهب, ثم ويقبل كل يد تخدمه، أما صاحب الإنجيل والكلمة فغائب عنه، لا يعلم عنه سوى اسمه.


51:4و52 وَفِيمَا هُوَ نَازِلٌ اسْتَقْبَلَهُ عَبِيدُهُ وَأَخْبَرُوهُ قَائِلِينَ: «إِنَّ ابْنَكَ حَيٌّ». فَاسْتَخْبَرَهُمْ عَنِ السَّاعَةِ الَّتِي فِيهَا أَخَذَ يَتَعَافَى فَقَالُوا لَهُ: «أَمْسٍ فِي السَّاعَةِ السَّابِعَةِ تَرَكَتْهُ الْحُمَّى».

كان هذا السؤال هو الاختبار الفاعل في قلب هذا الضابط الملكي الذي أضمر كيف سيقيم المسيح به، فإذ كان الولد قد شُفي في الساعة التي فيها نطق المسيح كلمته، يكن هو المخلص حقاً، وبه يؤمن حتماً، والا فلا إيمان البتة! ولكن بيني وبينك أيها القارىء العزيز أبهذا يُقيم الخالد الأبدي؟ انعادل القدير بمنافعنا الخاصة؟ أنساوي رب الحياة بشفاء جسد؟ ولكن لا مانع لدى المسيح: «فالذي يقبل إلي لا أخرجه خارجاً» (يو37:6)، «فتيلة مدخة لا يطفىء» (مت20:12)! أليس هو الراعي الصالح الذي يسعى وراء الخروف الضال، والذي له خراف أخر ينبغي أن يأتي بها من خلق السياجات؟ ألم يأت بالسامرية حالاً، وقد ضم شعباً في يوم واحد؟!



53:4- فَفَهِمَ الأَبُ أَنَّهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ الَّتِي قَالَ لَهُ فِيهَا يَسُوعُ إِنَّ ابْنَكَ حَيٌّ. فَآمَنَ هُوَ وَبَيْتُهُ كُلُّهُ.

«فآمن هو وبيته كله»: لقد أفرخت «الكلمة» الحية التي خبأها في قلبه وهو مسرع نحو بيته. لقد انفتح الكنز وخرجت منه الحياة ومعها الإيمان المؤدي إلى الحياة الأفضل! هنا، ولأول مرة، نسمع مبكراً عن إيمان عائلي برمته. وأهل البيت بالنسبة للضابط الملكي يضم أفراداً وحاشية وخدماً كثيرين، صورة طبق الأصل من السامرية التي قادت مدينة إلى الإيمان بالمسيح. لذلك فإن وضح قصة شفاء ابن الضابط الملكي بعد قصة السامرية يدخل في مخطط إنجيل القديس يوحنا تحت عنوان: «السامرة في مقابل اليهودية»، و«الأمم في مقابل الجليل». والتفسير للاثنين هو القبول إزاء الرفض.
‏هنا تلح علينا المقارنة المبدعة التي يشير إليها القديس يوحنا دون أن يعلن عنها. فالانطباع مبدع حقاً: وهي قصة إيليا النبي مع أرملة صرفة صيدا الاممية التي ألمح إليها الرب في إنجيل لوقا (25:4). كيف أقام ابنها من الموت حياً: «فسمع الرب صوت إيليا فرجعت نفس الولد إلى جوفه فعاش. فأخذ إيليا الولد ونزل من العلية إلى البيت ودفعه لأمه وقال إيليا: انظري ابنك حي فقالت المرأة لإيليا: “هذا الوقت علمت أنك رجل الله وأن كلام الرب في فمك حق”.» (1مل 22:17-24)
وليلاحظ القارىء أن الكلمات التي قالها إيليا والتي قالتها المرأة تتجاوب حرفياً مع ما تم بين المسيح والضابط الملكي . ولكن تمتاز قصة الضابط الملكي بأن المسيح أقام الولد حيا بكلمة وعلى بعد 16 ميلاً. وحينما يدقق القارىء في قصة خادم الملك القصيرة هذه، يندهش كيف تزاحمت فيها التعابير اللاهوتية والكلمات ذات الوزن العالى عند إنجيل يوحنا: «الأب» _ «الابن» _ « الموت» _ «الحياة» _ «الكلمة» _ «الإيمان» . وكيف اقترنت «الحياة بالموت» فصرع الموت، و«الإيمان بالكلمة» فانتهى إلى «الإيمان بالمسيح». ثم انظر كيف يبرز القديس يوحنا التكرار في كلام المسيح «ابنك حي, فآمن», «ابنك حي», «ابنك حي, فآمن», لينتهي بنا إلى هذا المعيار المسيحي الأعظم: الإيمان سر الحياة.
‏كذلك يهمنا أن نوضح كيف يتخذ القديس يوحنا من هذه الآية القائمة على هذا المعيار، وهو أن الإيمان عنصر الحياة الذي يقيم من الموت، يتخذها أساسأ لتعليمه. فبعد أن قدم الفعل العملي الصامت بالآية، يبتدىء في الأصحاح القادم مباشرة يبني عليه تعليمه, وذلك في الحوار العنيف الذي دار مع اليهود حول قدرة المسيح وسلطانه على إعطاء الحياة بالمساواة مع الله: كما أن الأب يقيم الأموات ويحيي، كذلك الابن أيضاً يُحي من يشاء» (يو21:5‏). كذلك يتخذ المسيح من إيمان الضابط الملكي «بالكلمة» الذي أوصله بالفعل إلى الحياة بالنسبة لابنه أساساً لتعليمه: «من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية.» (يو24:5)
‏نفهم من هذا أن معجزات الشفاء في إنجيل يوحنا, إنما يعرضها بحساب معين يقوم على أساس التعليم المبني عليها. فهدف المعجزة عند إنجيل يوحنا هو استعلان المسيح وليس فقط عمل رحمة.


 
54:4- هَذِهِ أَيْضاً آيَةٌ ثَانِيَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ لَمَّا جَاءَ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ إِلَى الْجَلِيلِ

هي محاولة من القديس يوحنا لتنبيه أذهاننا إلى الترابط الشديد بين الآيتين اللتين صنعهما الرب في قانا الجليل. ففي بداية القصة يشير إل الآية الاولى: «فجاء يسوع أيضاً إلى قانا الجليل حيث صنع الماء خمراً». وهنا يكرر الإشارة: «هذء آية ثانية». والهدف المشترك بين الآيتين هو« إظهار مجده» كما في الاولى أمام تلاميذه؛ هكذا في الثانية أمام حشد من بيت الضابط الذي يعتقد أنه أممي «فآمن هو وبيته كله». هنا الاستعلان يأخذ صورة متقدمة في الثانية عن الاولى . وهكذا يسير إنجيل يوحنا في هذا النمط من الاستعلان المتدرج.
‏والملاحظ أيضاً أن الآيتين تشتركان في سمات أساسية بالنسبة لإنجيل يوحنا وهي لحظات الحرج البالغ. في الآية الاولى فروغ الخمر في وسط حفل العرس. في الآية الثانية: ابنه «كان مشرفاً على الموت»، «قبل أن يموت ابني». ثم رد الفعل السخي جداً : ستة أجران ملآنة خمراً (134جالون = 600 لتر تقريبا ) في الآية الاولى، وفي الثانية: « اذهب ابنك حي».

 

إنجيل يوحنا – 3 إنجيل يوحنا – 4 تفسير إنجيل يوحنا تفسير العهد الجديد إنجيل يوحنا – 5
القمص متى المسكين
تفاسير إنجيل يوحنا – 4 تفاسير إنجيل يوحنا تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى