تفسير إنجيل يوحنا الأصحاح ٥ للأب متى المسكين

الإصحاح الخامس


وقفة قصيرة

‏المرحلة التي تميزت بالصدام السافر مع الفريسيين من الأصحاح الخامس حتى الثاني عشر:
‏على مدى الأصحاحات السالفة أكمل المسيح تقديم نفسه لكل فئات اليهود:
في أورشليم: للفريسيين والرؤساء.
‏في اليهودية: للشعب المتعصب.
‏في السامرة: للشعب المنبوذ.
‏وفي الجليل: للشعب الساذج فلاحين وصيادين.
‏وبذلك يكون قد استوفى عناصر الإيمان المناسب لهذه الفئات المتباينة كل على مستوى ثقافته وإدراكه.
‏ومن الأن يبدأ الصدام الذي بدأت بذاره مبكرة في اليهودية أو أورشليم, ويستمر إلى أن ينتهي بالآلام. وسوف نواجه في الأحاديث والمناقشات التي سنعبر عليها نماذج من الإيمان, ونماذج من الرفض، على التوازي؛ حيث بالكلمات الموجهة والأعمال ذات الأهداف، استعلن المسيح أفكار اليهود المناهضة والتي جاءت بلا تعقل ولا فهم. أما أشدها عنفاً على المستوى المأساوي غير المعقول, فكان في أورشليم. وكانت المناسبات المختارة هي الأعياد الرسمية للأمة. وقد تبلورت هذه الصدامات على ثلا ثة محاور لثلاث آيات خارقة صنعها المسيح.
‏الاولى: شفاء المريض المقعد منذ ثماني وثلا ثين سنة في بيت حسدا: الأصحاح الخامس .
الثانية: شفاء الأعمى المولود هكذا من بطن أمه: الأصحاح التاسع.
‏الثالثة: إقامة لعازر من الموت: الأصحاح الحادي عشر.
‏ولكن يتخلل هذه المجموعة المترابطة الأصحاح السادس الذي تتم حوادثه في الجليل، وهو يبدو لكثيرين من الشراح وكأنه في غير موضعه، وكان ينبغي, في نظرهم, أن يكون موضع الأصحاح الخامس. ولكن تبويب القديس يوحنا في الحقيقة يعتمد لا على التسلسل الجغرافي ولا التاريخي، ولكن على طبيعة التعاليم والحوادث من جهة استعلان الرب لذاته, واستعلان أفكار قلوب اليهود. لهذا فإن الأصحاح السادس نجده يتبع فعلاً مجموعة الصدامات واستعلان المسيح لشخصه كابن الله. كما يكشف الشعب بل والتلاميذ الذين كانوا على غير المستوى، سواء للتلمذة أو للأمانة، إذ تركوا المسيح ولم يعودوا يسيرون وراءه. لذلك استحسن القديس يوحنا أن يضمه إلى أعمال الرب التي أكملها في أورشليم بالرغم من أن حوادثه جرت في الجليل.
‏وهذه المجموعة من الصدامات التي تقع من الأصحاح الخامس حتى الأصحاح الثاني عشر تنقسم من جهة عنف الصدام إلى قسمين:
‏الأول: مجرد بادئة لربح الصدامات، وتستغرق الأصحاحين الخامس والسادس.
الثاني: الصدام في أوج عنفه، ويستغرق من الأصحاح السابع حتى نهاية الثاني عشر.

مكان البشارة
سادساً فى أورشليم

شفاء مريض بيت حسدا والمصادمة الأولى مع اليهود

‏الأصحاح الخامس يعتبر تكميلاً لإنجيل «قوة الكلمة» الذي ابتدأ في الأصحاح الرابع بمعجزة شفاء ابن خادم الملك (يو46:4-54)‏.
‏والأصحاح الخامس ينقسم إلى أربعة أقسام واضحة:
‏القسم الأول: سرد لتفاصيل الآية التي صنعها المسيح، أعداد من 1-18، وتتهي بمحاولة قتل المسيح.
‏القسم الثاني: شرح تفصيلي لمركز الابن من الله الآب وماهية الابن في ذاته، أعداد من 19-30
‏القسم الثالث: الشهادة للابن، أولاً من المعمدان، ثانياً من الآب، ثالثأ من الأعمال، رابعأ من الأسفار. 31-41‏.
‏القسم الرابع. أسباب عدم إيمان اليهود. 31-41
‏على أن ما ورد في القسمين الثاني والثالث, أي شرح ماهية الابن وعلاقته بالآب, ثم الشهادة للابن على كل المستويات كما وردت في هذا الأصحاح, فهو يعتبر الأساس الذي يبني عليه إنجيل يوحنا كل تعاليم المسيح.
‏والمسيح يخاطب في هذا الأصحاح أعلى مستوى لفئات الأمة، والإشارة ستجيء عنهم واضحة هكذا: «ها هو يتكلم جهاراً ولا يقولون له شيئاً. ألعل الرؤساء عرفوا يقيناً أن هذا هو المسيح حقاً». (يو26:7)

القسم الأول من الأصحاح الخامس

1-18

معجزة شفاء مريض بركة بيت حسدا

وحوار مع الفريسيين ينتهي بمحاولة قتل المسيح


1:5- وَبَعْدَ هَذَا كَانَ عِيدٌ لِلْيَهُودِ فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ.

«بعد هذا»: وتعني في اليونانية «بعد نفس هذه الأمور كحوادث»، وبها يقصد القديس يوحنا الإنتقال من مجموعة حوادث إلى مجموعة أخرى من الحوادث, وهذا الاصطلاح غير ( ) التي تفيد مجرد التسلسل الزمني, أي «بعد هذا الزمن».
«كان عيد لليهود»: تأتي «عيد» ‏بدون «الـ» أداة التعريف، أي ليس هو عيد الفصح، بل أحد الأعياد الأخرى، ويعتقد كل من القديس كيرلس والقديس ذهبي الفم أنه عيد الخمسين. فإذا أخذنا بهذا التقرير يكون المسيح قد زار السامرة في بكور الصيف (مايو) بعد الفصح الذي أمضاه في أورشليم، كما يفيد أنه مكث في الجليل فترة قصيرة. ويقول العالم شاكبرج أن الأخذ بهذا الرأي صائب، إذ يجعل التسلسل التاريخي في إنجيل يوحنا صحيحاً؛ حيث يأتي عيد المظال بعده في الأصحاح السابع، وعيد التجديد في الأصحاح العاشر، والفصح الأخير في الأصحاحين 11 و 12. وهذا يعكس ما يقوله كثير من الشراح الآخرين أن هذا العيد كان عيد المظال وذلك بسبب أن كلمة «عيد لليهود» جاءت بدون تعريف، وهذا ينطق فقط على عيد المظال بحسب تحقيقات العهد القديم. وصعود المسيح لاورشليم في عيد الخمسين ولو أنه أحد الواجبات اليهودية الملزمة للزيارة، لأن الأعياد الملزمة للحضور إلى أورشليم ثلاثة: الفصح والخمسين والمظال؛ إلا أن المسيح كان يتخذ من الأعياد عمومأ فرصاً لمحاجاة الرؤساء والفريسيين، وللاتصال بجماهير الحجاج الآتين من كل أركان البلاد.
‏وعيد الخمسين من الأعياد الهامة التي يحتفل بها اليهود لتذكار استلام موسى للناموس على جبل سيناء. ومن هنا يجيء في هذا الأصحاح تلميح المسيح بعد ذلك, في نقاش مع الفريسيين, بخصوص كتب موسى أي الناموس: «يوجد الذي يشكوكم وهو موسى الذي عليه رجاؤكم، لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني، لأنه هو كتب عني، فإذ كتم لستم تصدقون كتب ذاك (أي التوراة وهي محور تذكار هذا العيد) فكيف تصدقون كلامي» (يو45:5-47‏). هنا يجعل المسيح كلامه على مستوى التوراة.
‏على أن كثيراً من الشراح ومن الأباء أيضأ يصر على أنه كان عيد الفصح الثاني الذي حضره المسيح والذي بالحساب الدقيق يقع سنة 28 ميلادية. ودليلهم على ذلك ما ذكر في الأصحاح السادس أن عيد الفصح كان قريباً (يو6:4‏). على أن عيد الفصح الأول الذي حضره المسيح ذُكر في الأصحاح الثاني عدد 13 وقد وقع سنة 27 ‏ميلادية. أما الفصح الأخير الذي صُلب فيه الرب (يو 11و12 ) فوقع في سنة 29 ‏ميلادية. وبذلك يكون الرب قد حضر ثلاثة أعياد فصحية أثناء خدمته، صُلب في ثالثها، وبذلك تكون مدة خدمته حسب توقيعات إنجيل يوحنا وحسب التقليد القبطي ثلاث سنوات ونيف.
«فصعد يسوع إلى أورشليم»: هنا يلمح القديس يوحنا أن المسيح لم يشأ أن يأخذ تلاميذه بل صعد وحده، وكلمة «صعد», كما جاءت في الأصل اليوناني, تفيد الذهاب الرسمي للعيد كالمعتاد حسب الناموس. ويبدو أن الرب شاء أن يصعد وحده حتى لا يظهر أيضاً بصورة مثيرة، بل دخل المدينة متخفياً منعاً للاثارة التي بدأت تأخذ وضعها العنيف. ويظهر هذا من التسجيل الواضح للقديس يوحنا: «أما الذي شُفي فلم يكن يعلم من هو، لأن يسوع اعتزل إذ كان في الموضع جمع.» (يو13:5‏)


 2:5- وَفِي أُورُشَلِيمَ عِنْدَ بَابِ الضَّأْنِ بِرْكَةٌ يُقَالُ لَهَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ «بَيْتُ حِسْدَا» لَهَا خَمْسَةُ أَرْوِقَةٍ.

«باب الضأن»: ‏هذا الباب هو في سور مدينة أورشليم من ناحية الشرق وكان قريباً من الهيكل (أنظر نح 1:3). وفي سفر نحميا يذكر ان بناء هذا الباب كان من نصيب الكهنة. ويبدو أنه كان ذا صلة خاصة بالذبائح التي تدخل منه للهيكل.
«بركة بيت حسدا»: أبحاث كثيرة أجراها العلماء حول هذا الاسم: من «بيت زاتا» (بيت الزيتون)، إلى «بيت صيدا» محورة، إلى «أيت إزدا» (بيت الفيضان). كما وُجد اسها منقوشاً في درج من النحاس في حفريات وادي قمران مكتوباً هكذا (Bet Esdatayan)، ويعني «بيت إزد المجوز» (أي ذو العينين). بعنى أذن البركة لها حوضان يفيض فيهما الماء. ولكن أصح القراءات جميعاً ما جاء في النسخة الإسكندرانية اسم «بيت حسدا» وتعني «بيت الرحمة» بسبب الأشفية التى كانت تجرى فيها.
‏والعجيب أن النقاد سلطوا نقدهم على إنجيل يوحنا بخصوص هذه البركة بهذا الاسم معتقدين أن القديس يوحنا اخترع هذا الاسم لهذه البركة, إذ كانت قد اندثرت معالمها, ولكن في هذا القرن تم اكتشاف هذه البركة بجوار كنيسة القديسة حنة بواسطة رهبان الآباء البيض. ولما أكملوا حفرياتهم ظهرت البركة ولها بالفعل خمسة أروقة. والبركة مساحتها كبيرة، فهي بعرض 165-220 قدماً وطولها 315 قدماً، مقسومة من نصفها بحاجز جعلها بركتين: واحدة شمالية والأخرى جنوبية، ولها على جوانبها الأربعة صفوف أعمدة، وكذلك على الحاجز الذي يقسمها. وبذلك ظهرت الخمسة الأروقة، ولها منزل مدرج كسلالم.
‏وقول القديس يوحنا أن هذه البركة يقال لها «بالعبرانية» بيت حسدا، يقصد اللغة الآرامية الدارجة بين الشعب (العائد من السبي). كما يلاحظ أن هذا الاسم يفيد مبنى أكثر منه نبع ماء، لأن الخمسة أروقة جعلت منه مصحة يؤمها المئات. وقد قام ببنائها بعض الخيرين ويقال أن هيرودس الكبير هو الذي أقامها. وقد ظلت هذه المصحة قائمة حتى إلى ما قبل خراب أورشليم سنة 70 م.


 
3:5- فِي هَذِهِ كَانَ مُضْطَجِعاً جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنْ مَرْضَى وَعُمْيٍ وَعُرْجٍ وَعُسْمٍ يَتَوَقَّعُونَ تَحْرِيكَ الْمَاءِ.

«العثم»: وهم مرضى بأنواع الشلل. وقد ذكر نوع مرضهم في آخر قائمة المرض لأن مريض هذه القصة واحد منهم. وهو المرض الذي أعيا الطب والدواء على حد سواء حتى اليوم.
‏«تحريك الماء»: ‏عودة مرة أخرى إلى «الماء» الذي يرافقنا منذ عرس قانا الجليل عبر نيقوديموس والسامرية، وهنا أيضاً. و«تحريك الماء» هي جملة فيها محاولة لمحاكاة الماء الجاري أو الماء الحي الذي تمناه المريض ولم يبلغه قط. وفي هذا تعبير مستيكي (سري) يشير إلى المسيح «الماء الحي» الذي وافاه هذا المريض السعيد فشفاه.


4:5- لأَنَّ ملاَكاً كَانَ يَنْزِلُ أَحْيَاناً فِي الْبِرْكَةِ وَيُحَرِّكُ الْمَاءَ. فَمَنْ نَزَلَ أَوَّلاً بَعْدَ تَحْرِيكِ الْمَاءِ كَانَ يَبْرَأُ مِنْ أَيِّ مَرَضٍ اعْتَرَاهُ.

‏هذه الآية لم توجد في معظم المخطوطات الهامة ولكنها موجودة في بعض منها، وقد ذكرها بعض الآباء ومنهم ذهبي الفم معتبراً أن [البركة والماء هنا هما سبق تصوير للمعمودية، لكي يعطي اليهود صورة مسبقة لما ستأتي به المعمودية في المسيح. وتحريك الماء بواسطة الملاك هو تمهيد تصويري لما سيعمله الروح القدس رب الملائكة.] وشرح ذهبي الفم هنا يتبع إلى حد ما الخط السري المستيكي الذي ينهجه القديس يوحنا.
«بركة»: وهي نفس الكلمة الطقسية المستخدمة للتعبير عن جرن المعمودية. ولو أنها مشتقة من أصل ( ) أي يسبح أو يعوم. وقول القديس يوحنا أن «ملاكأ كان ينزل أحياناً في البركة ويحرك الماء»، يعطي تقريراً إنجيلياً عن تدخل سمائي إعجازي في العهد القديم لشفاء الأمراض الميئوس منها بوازع من الرحمة الإلهية، وذلك بحسب ترجمة اسمها «بيت حسدا». وهذا ليس غريباً لا على القديس يوحنا ولا على العهد القديم برمته. فالقديس يوحنا رأى في رؤياه هذا الملاك عينه واسمه «ملاك الماء»: «وسمعت ملاك المياه يقول عادل أنت أيها الكائن والذي كان والذي يكون لأنك حكمت هكذا.» (رؤ5:16‏)
‏أما قوة الحياة والشفاء التي جعلها الله في الماء فهي تراث إلهي يملأ العهد القديم، ونحن لا ننس الصخرة التي تفجرت ماء تحت عصا موسى في سفر الخروج، وكان الماء للحياة والشفاء، لأن «الصخرة كانت المسيح» (اكو4:10‏)، وإذا لم يذكر سفر الخروج حالات شفاء للماء إلا أن الماء كان له هذه الطبيعة والقوة، فلم نسمع بأن أحداً كان يمرض قط بطول الأربعين سنة: «ثيابك لم تبل عليك, ورجليك لم تتورم هذه الأربعين سنة.» (تث4:8‏).
‏كذلك لا نجهل الشفاء الذي أجراه أليشع النبي لنعمان السرياني بالإغتسال في مياه الاردن، الأمر الذي طهره من داء البرص الوبيل. والمسيح أيضاً ألمح إلى سر الله في ماء بركة سلوام بالذات, حينما أمر الأعمى الذي صنع له من ريقه مقلة من طين، أن يغتسل في بركة سلوام فأتى بصيراً. والشفاء والصحة في بركة سلوام وغيرها هو إرهاصة من إرهاصات عمل الروح القدس في سر المعمودية الذي استعلنه المسيح في مُقعد بيت حسدا. بل ولا تزال بعض سراديب روما تشير إلى المعمودية برسم هذا المُقعد ذي الثماني والثلاثين سنة الذابل الساق، وهو يسير بقوة حاملاً سريره على ظهره، تعبيرأ فنياً مبدعا عن «سر المعمودية»، باعتبار أن المعمودية تعيد مشلول الخطية صحيح الروح معافى حاملاً شهادة حياته المائتة السابقة على ظهره، على أساس أن المسيح هو الماء الحي الذى يعطي الحياة ويقيم من الموت عوض ماء بركة بيت حسدا الذي عز على مريضها, فامتنع عليه أن يُشفى. وهذه إشارة ضمنية رائعة إلى عجز العهد القديم بمائه, وعلى كل صورة, أن يُطهر أو يشفي أو يروي.
‏ومعروف أن ثلاث قراءات من الإنجيل كانت تُقرأ على المعمدين الجدد في الكنيسة الاولى: الحديث مع نيقوديموس، وقصة المقعد، وتفتيح عيني الأعمى.


5:5و6 وَكَانَ هُنَاكَ إِنْسَانٌ بِهِ مَرَضٌ مُنْذُ ثَمَانٍ وَثلاَثِينَ سَنَةً. هَذَا رَآهُ يَسُوعُ مُضْطَجِعاً وَعَلِمَ أَنَّ لَهُ زَمَاناً كَثِيراً فَقَالَ لَهُ: «أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟».


‏ثماني وثلاثين سنة في المرض. هنا استحالة أن يكون هو الشلل المعروف، سواء النصفي أو الكلي، لأن المعروف في الطب أن مريضه يكون محدود الحياة بمدة قليلة. فهو ربما كان نوعا من المرض الذي يُقعد المريض عن الحركة. ولكن لا يفوتنا أسلوب القديس يوحنا في اختيار الآيات ذات اللون الصارخ ليقدمها كنموذج لتفوق المسيح الإلهي، فالأعمى «منذ ولادته»، والميت له «أربعة أيام في القبر»، وهذا المريض له «ثماني وثلاثين سنة في مرضه، فالآية هنا مختارة من وسط مئات وربما ألوف كنموذج للقوة الفائقة.
«أتريد أن تبرأ؟»: اختار الرب هذا المُقعد ليجري فيه آية الشفاء المجاني دون أن يطلب, هنا أسلوب القديس يوحنا ‏السري، فهو يرمي إلى أبعد من المقعد ومن الآية في حد ذاتها. لأننا نعلم من أسفار العهد القديم أن شفاء الأعمى والأعرج, وهما آيتا الأصحاحين الخامس والتاسع, سيكون علامة مجيء المسيا وافتتاح عهد النعمة والخلاص. فإشعياء النبي يسبق ويصف المنظر بعينه: «هو يأتي ويخلصكم، حينئذ تتفتح عيون العمي وأذان الصم تتفتح, حينئذ يقفز الأعرج (المشلول) كالأيل (كالغزال) ويترنم لسان الأخرس, لأنه قد انفجرت في البرية مياه وأنهار في القفر.» (إش4:35-6)
«ويسمع في ذلك اليوم الصم أقوال السفر, وتنظر من القتام والظلمة عيون العمي، ويزداد البائسون فرحاً بالرب، ويهتف مساكين الناس بقدوس إسرائيل.» (إش18:29-19)
‏أما إرميا النبي فيصف المنظر باتفاق: «اسمعوا وقولوا: خلص يا رب شعبك بقية إسرائيل… بينهم الأعمى والأعرج… جمع عظيم يرجع إلى هنا.» (إر7:31-8‏)
‏وداود النبي يشترك في الرؤيا: «الرب يطلق الأسرى، الرب يفتح أعين العُمي، الرب يقوّم المنحنين ..» (مز7:146-8‏)
‏وهكذا يقف الأنبياء من وراء الأزمنة والدهور يتطلعون إلى يوم مريض بركة بيت حسدا، والأعمى المولود هكذا من بطن أمه، مع كل الآيات الأخرى التي صنعها يسوع، فيرد عليهم القديس يوحنا بلغته السرية: «هوذا اليوم قد أتى ومن له أذنان للسمع فليسمع!»
«أتريد أن تبرأ»؟ …. «ها أنت قد برئت فلا تُخطىء أيضاً لئلا يكون لك أشر.» (يو14:5)
‏كشف القديس بولس الرسول عن أخطر مشكلة أدبية وأخلاقية بل وروحية تواجه الإنسان في الحياة عندما يتعرض لعمل الإرادة في صراعها مع الخطية قائلآ: «لأني لست أعرف ما أنا أفعله إذ لست أفعل ما أريده, بل ما أبغضه فإياه أفعل… فالأن لست بعد أفعل ذلك أنا بل الخطية الساكنة فيّ… لأن الارادة حاضرة عندي وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد. لأني لست أفعل الصالح الذي أريده, بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل.» (رو14:7-25)
‏فهنا يستعرض لنا بولس الرسول الإنسان الطبيعي في عراكه الداخلي مع الخير والشر، بعد أن تعرف على ناموس الله من جهة الحق والباطل. فبولس اكتشف في داخله ناموسين: ناموس الخطية المسيطر على الجسد بأعضائه، وناموس الخير والصلاح المسيطر على ذهنه (عقله الروحي)؛ ووجد في الصراع القائم بينهما الإرادة مغلوبة, والخطية غالبة، وبالتالي فالذهن الروحي مكسور ومهان، والأعضاء متمردة تستمرى، الإثم رغمأ عن الإرادة الرافضة!! ولكن بولس الرسول اكتشف أيضاً في المسيح يسوع ناموساً ثالثا أعلى وأكثر قوة وسيطرة هو «ناموس روح الحياة»، أي قوة وفعل الروح القدس الموهوب للانسان مجاناً بالإيمان الذي يأخذه الإنسان حالما يؤمن بالمسيح ويصدق مواعيده، ويخضع لوصاياه, معترفاً بخطاياه واثقا من غفرانها المجاني بالدم بدون نقاش أو شرح أو تحفظ: «لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت». وفي الحال تيقن أن «لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح.» (راجع رو 7 و8)
‏ولكن الخطر الأكبر قائم بالنسبة للانسان الذي فقد «إرادة الخير والصلاح» فهو يفعل الخطية راضياً دون احتجاج من الضمير أو رفض من الإرادة، وبالتالي يكون الذهن الروحي قد انطمست فيه معالم ناموس الله من جهة الخير والشر، فلم يعد عقله منشغلاً بما يرضي الله أو بما يهينه.
‏هنا يأتي المعنى العميق وراء سؤال الرب لمريض الثماني والثلاثين سنة: «أتريد أن تبرأ», بمعنى: هل لا زالت لك إرادة الشفاء والحياة الأفضل؟ لقد علم الرب أن هذه الفترة الزمنية الطويلة في ذلة المرض والكساح قد حطمت نفس هذا الإنسان، والخطورة هنا تكمن في فقدان الإرادة نحو استعادة الحياة، حتى وإن كان قد بذل جهداً جسدياً عنيفاً ومستمراً ربما كل يوم مرة أو مرتين للنزول في البركة، والتي باءت كلها بالفشل. والرب هنا لا يسأل عن إرادة الغريزة نحو صحة الحياة التي يستوي فيها الإنسان والحيوان حتى وإلى آخر لحظة من عمره, وإنما يسأل عن إرادة استعادة الحياة التي بلا خطية, لأن برء الجسد متوقف على البرء من الخطية. وهذا القصد الإلهي في كلام الرب واضح من انتهار الرب له لما لاقاه بعد ذلك: «ها أنت قد برئت فلا تخطىء أيضاً (أي ثانية) لئلا يكون لك أشر.» (يو14:5)
‏بهذا المعنى يكون الرب قد وضع النقاط على الحروف لتظهر كل قصة هذا الإنسان قبل مرضه وفي مرضه، حتى تبقى إلى الأبد عبرة لكل إنسان!… فقد عاش هذا الإنسان في اقتراف الخطية مما كان سبباً في ضياع صحته حتى آلت إلى ما آلت إليه من الضمور والشلل! لقد انصاع وراء شهوة الخطية فاستعبدته وحطمته. والرب لما راه تحنن عليه من تلقاء ذاته إذ لمح فيه بقايا إرادة، فبادره بسؤاله: «أتريد أن تبرأ؟» ليستنفر فيه الرجاء الذي استبدت به محاولات الثماني والثلاثين سنة البائسة، ولكي يستنهض فيه الإرادة نحو الحياة الأفضل. ويلاحظ القارىء أن الرب لم يسأله عن إيمانه، فالإيمان يُبحث عنه بعد أن نستوثق من وجود الارادة. لأن الإيمان فعل إرادة. فالرب يستنفر الإرادة في الإنسان, إرادة الإيمان بالحياة, ليرسي فوقها قوة الحياة الأفضل.
‏فانظر أيها القارىء كيف أن الرب لا ييأس من خلاص الخطاة، هو يطلبهم ويستنهض إرادتهم. فكيف ييأس الخاطىء من رحمة رب الحياة؟ والقديس يوحنا يقدم مريض الثماني والثلاثين سنة نموذجاً لإرادة الحياة بالنسبة لخاطىء لم تنطفىء منه جذوة الحياة. ويقدم المسيح في منظر من قيل عنه: «قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفىء.» (مت20:12)
‏هذا مما جعل الأباء القدامى وكثيراً من العلماء المحدثين يرون في قصة هذا المريض إشارة إلى شعب إسرائيل الذي أقام في التيه «ثماني وثلاثين سنة»، ثم عاش تحت «الخمسة» أسفار التي للتوراة يترجى حياة وشفاء، فلم يجد: «… الأن قوموا واعبروا وادي زارد، فعبرنا وادي زارد. والأيام التي سرنا فيها من قادش برينع حتى عبرنا وادي زارد كانت ثماني وثلاثين سنة حتى فني كل الجيل… ويد الرب أيضاً كانت عليهم لإبادتهم من وسط المحلة حتى فنوا.» (تث13:2-15)
‏ولكن ليعذرني القارىء إذا قلت إن هذا إسراف في التأويل يُخرج الرواية عن أصالتها التلقائية كما رواها القديس يوحنا ويُضعف من معناها الروحي.

7:5- أَجَابَهُ الْمَرِيضُ: «يَا سَيِّدُ لَيْسَ لِي إِنْسَانٌ يُلْقِينِي فِي الْبِرْكَةِ مَتَى تَحَرَّكَ الْمَاءُ. بَلْ بَيْنَمَا أَنَا آتٍ يَنْزِلُ قُدَّامِي آخَرُ».

‏كان رداً من واقع الحال، وكأنى به يريد أن يقول: «أما الإرادة فهي حاضرة عندي يا سيد ولكن أن أجد قوة على التنفيذ فلست أجد!!» وهو رد صائب غاية الصواب استدرج حنان الرب، ولكن خيبة أمل المريض لم تكن في إرادته التي استخدمها مئات المرات، ولكن في بني الإنسان الذين لم يؤتوا الرحمة، فهلا ترحم أنت؟ «الأخ لن يفدي الإنسان فداء.» (مز7:49‏)
‏ولكن بالرغم من صحة الرد وصحة التعليل، إلا أن القضية تحولت في نظر المقعد من قضية حياة في الخطيئة ضد نفسه والله، إلى خطأ الناس وخطية الآخرين. وهذه طبيعة الخطية تخفي نفسها عن مصدرها الحقيقي لتظهر وكأن صاحبها منها براء!! وهكذا تبلغ النفس البشرية تزييفها للحق، الأمر الذي يطوح بها بعيداً عن الله وعن رحمته.
‏لقد وقع «أيوب» البار في هذا التزييف لما أتته بلواه، فنسبها إلى الله، وأخذ يعاتبه «يُكثر جروحي بلا سبب» (أي17:9)!! و«كغافل من الرحمة» و«قد نسي حسنات أيوب الكثيرة في غابر الأزمان» (أي 31)! وماذا كان رد القدير، الذي عيناه تخترقان استار الظلام وأمس مكشوف أمامه كاليوم؛ قال له قولته المشهورة: «تستذبني لكي تتبرر أنت؟» (أي8:40). ولكن وبالنهاية قبل الرب ذنب أيوب على نفسه وبرره وأبرأه!! أليس هو الفادي الذي حمل عارنا؟ وهل تغير الرب أبداً؟
«يا سيد ليس لى إنسان يلقيني في البركة»: لقد استدر عطف السيد. أليس هو القائل على فم إشعياء النبي: «فرأى أنه ليس إنسان, وتحير من أنه ليس شفيع» (إش16:59‏)، فحنت أحشاؤه، «فخلصت ذراعه لنفسه، وبره هو عضده، فلبس البر كدرع وخوذة الخلاص على رأسه» (إش17:59). ونظر إلى المُقعد وكأنه ينظر إلى الشعب بأكمله أو الإنسان ككل!! وقال قولته وكأن ظهره مسنود على الصليب: «قم احمل سريرك وامشي».



8:5و9 قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «قُمِ. احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ». فَحَالاً بَرِئَ الإِنْسَانُ وَحَمَلَ سَرِيرَهُ وَمَشَى. وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سَبْتٌ.

‏ألم يقل القديس يوحنا في بدء روايته: «فصعد يسوع إلى أورشليم»؟ إذن، فقد أتى الفادي إلى صهيون. هكذا رآه إشعياء من وراء الدهور: «ويأتي الفادي إلى صهيون وإلى التائبين عن المعصية في يعقوب يقول الرب..، قومي أستنيري لأنه قد جاء نورك، ومجد الرب أشرق عليك» (إش 20:59 و 1:60). فليست بركة بيت حسدا (بيت الرحمة) ذات الخمس أروقة لتترجى بعد، ولا المياه التي تحركها الملائكة، بل ينبوع الرحمة الدائمة والفائضة مجاناً بلا وسيط وبلا شروط! هي كلمة صدرت منه فأحيت العاجز، وشددت أوصال جسده المنحل، وحركت عضلاته الضامرة، دبت فيها قوة الله فأحيتها بأقوى مما كانت. وظهره الذي انحنى تحت عبء السنين الطوال قام واستقام، وحمل ثقل سريره كظهر شاب يستعرض قواه! لقد صار ماضيه الحزين كقصة وشهادة. وهذا حال كل من صدق وآمن بكلمة المسيح. لم يقل القديس يوحنا أن المُقعد آمن بالكلمة، ولا حتى عرف من هو الذي يكلمه!! لكنها «الكلمة» التي خرجت من فم المسيح «الكلمة».
‏فلينتبه القارىء إلى قوة «الكلمة» في حد ذاتها، إنها تنتهر الخطية فتلاشيها، وتنتهر المرض فتلغي سطوته. لقد قال المسيح: إن «الكلام الذي اكلمكم به هو روح وحياة» (يو63:6‏). فإن كانت كلمة المسيح هكذا بهذه القوة فكيف لا نُسكنها قلوبنا؟ وما الذي يقف دون أن تعمل عملها فينا؟ لقد أصابت المُقعد وهو منطرح على سريره، فلماذا لا تصيبنا ونحن منطرحون تحت صليبه؟ و«كلمة» المسيح تعمل عملها ولا تحتاج إلا لمن «يسمعها» ويكون محتاجاً إليها.
‏لقد استخدم المسيح هذا الإجراء الفريد من نوعه في شفاء المُقعد، الذي لم يكن يعي من هو الذي يكلمه، في إثبات صحة وصدق استعلانه لنفسه: «تأتي ساعة وهي الأن حين يسمع الأموات (بالخطية) صوت ابن الله والسامعون يحيون» (يو 25:5). فالمُقعد نموذج «لموتى الخطية» الذين يعيشون موتهم وهم يريدون الحياة، الذي حالما سمع صوت المسيح قام وحمل سريره ومشى.
‏فانظر أيها القارىء كيف يقدم القديس يوحنا عناصر قصة شفاء ‏المُقعد بكل دقة وترتيب وحكمة مذهلة لتكون هي نفسها عناصر الحوار اللاهوتي العميق الذي أجراه المسيح مع اليهود بعد ذلك كونه «يعطي الحياة لمن يشاء» (قارن يو21:5)، وأن كل من يسمع مجرد صوته يحيا ولو كان من سكان القبور(قارن يو28:5).
‏وبالنهاية هي ليست مجرد قصة شفاء أو معجزة باهرة من معجزات المسيح، بل هي قصة عمل الفداء مصورة بعمقها.
‏ولو يلاحظ القارىء، يجد أن القديس يوحنا على غير العادة لا يذكر أنها آية, كذلك نجد الرب فى هذه القصة صاحب مبادرة إذ أعطى الشفاء كأمر: «قم», «احمل», «امشي». فخضع له المريض كمن يخضع لفعل دخل كيانه وجدد حاله دون أن يكون له أية استجابة واعية مُسبقة, وأنه شفي في الحال دون إجراءات ثانوية كالغسل في البركة أو خلافه. كذلك فلم يشترط عليه الرب أي شرط، وهذه هي طبيعة الفداء بكل جلاء، مجانية مطلقة، من طرف واحد وهو الله في شخص يسوع المسيح.
‏نحن كلنا هذا المُقعد، إذا أردنا أن نفهم الفداء ونعيه, وإذا تكرمنا أن نقبله طواعية! فنحن تقبلنا هذا الفداء ونحن بعد خطاة مطروحي الجسد تحت ذُلة جبروت الخطية ولا حراك لنا؛ وفعل الفداء سرى فينا ولم يعد لنا, إن كنا نفهم, إلا أن نحمل سريرنا ونذهب نبشر بالذي صنع معنا هذا الفضل الفائق. ولا نعود نخطى، بل نحدث بفضل الذي دعانا إلى الحياة في نوره العجيب.



10:5و11 فَقَالَ الْيَهُودُ لالَّذِي شُفِيَ: «إِنَّهُ سَبْتٌ! لاَ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَحْمِلَ سَرِيرَكَ». أَجَابَهُمْ: «إِنَّ الَّذِي أَبْرَأَنِي هُوَ قَالَ لِي احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ».

وفي الحقيقة إن المسيح لم يصنح هذه الآية بالرغم من أنه «سبت»، بل لأنه «سبت». لأن هذا الا ختيار هو جزء من استعلان المسيح لنفسه باعتباره «رب السبت», حسبما قال مرة (مر 28:2, لو5:6‏)؛ ولكونه جاء ليعطى «سبتاً» جديداً، أي راحة «جديدة» عوض الراحة الجسدية القديمة (عب10:4).
‏أما إجابة المقعد فتنم عن تقدير لمن قال له قم … واحمل … وامشى، أكثر من تقديره لموضوع السبت، لقد ذُهل المُقعد؛ أبعد أن أفنى عمره في الكساح الذي هو فيه وجاء من شفاه يُطالب بذنب شفائه وحمل سريره وسيره على رجليه صحيحة؛ إن هذه المغالطة المناقضة للواقع ظهرت في قلب ذلك المريض صارخة مستغيثة! لمن أسمع، ولمن أطيع؟ للناموس الذي عجز عن أن يشفي عجزي؟ أو لذلك الإنسان الذي شفاني وقواني ودعاني للسير على قدماي؟ لقد قصد المسيح ذلك قصداً، أن يضع هذه الموازنة بصورتها العملية ليس في نظر المُقعد وحده, وهو صاحب الحق الآول في المقارنة والموازنة بين الناموس وذلك الإنسان, بل وفي نظر البشرية كلها!!
‏ولينتبه القارىء‏، فإن المسيح هنا لا يقدم ناموساً يُحفظ، ولا قانوناً يُحكم بمقتضاه، ولا نظاماً يُدرّس؛ بل قدم نفسه للمُقعد في «كلمة» قالها فكانت له الشفاء والحياة.


12:5- فَسَأَلُوهُ: «مَنْ هُوَ الإِنْسَانُ الَّذِي قَالَ لَكَ احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ؟».

‏لاحظ هنا أنهم لا يستفسرون عن الذي شفاه لأنهم يعرفونه تمام المعرفة؛ ولكنهم يسخرون من قول الرجل إذ يضعون «هذا الإنسان» في مقابل سبت «الله وناموسه».
‏ثم انظر كيفر يتجاهل هؤلاء الفريسيون عمل الآية المذهلة، التي لو كانت قد حدثت في أيامنا هذه لرجت العالم كله، ولا يرون في كل ما صار للمقعد إلا كونه يحمل سريره في يوم الراحة، وينظرون إلى ذلك بمنظار مرعب, إذ يرون في ذلك استحقاقه للموت!! رجماً!!
[إذا حدث أن حمل أي إنسان أي شيء من مكان عام إل بيته الخاص في السبت ويكون ذلك عمدا فإنه يكون مستحقاً للموت رجماً]
‏إنهم يبثحون عن الموت في كل ما هو حياة، وصح فيهم قول المسيح أنهم: «يصفون عن البعوضة ويبلعون الجمل.» (مت 24:23)


 
13:5- أَمَّا الَّذِي شُفِيَ فَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَنْ هُوَ لأَنَّ يَسُوعَ اعْتَزَلَ إِذْ كَانَ فِي الْمَوْضِعِ جَمْعٌ.

‏لم يكن من طبيعة المسيح أن يلفت أنظار الناس إليه، فهو ينتخب الذين يتكلم معهم، وينتخب الوقت المناسب، والمكان اللائق، والظرف الذي ينطق منه تعليمه.



14:5- بَعْدَ ذَلِكَ وَجَدَهُ يَسُوعُ فِي الْهَيْكَلِ وَقَالَ لَهُ: «هَا أَنْتَ قَدْ بَرِئْتَ فلاَ تُخْطِئْ أَيْضاً لِئَلَّا يَكُونَ لَكَ أَشَرُّ».

‏ليعلم القارىء أن قدرة المسيح على الشفاء وإعطاء صحة الحياة قائمة أصلاً ومتأسسة على سر الفداء وقدرته على مغفرة الخطية، الذي دفع ثمنه بسفك دمه على الصليب. والمسيح كان يعمل ويتكلم على أساس أنه مصلوب، لأن الصلب أمر قد تقرر ومنذ الأزل، فلم يعد المسيح خاضعاً لتصريف الفعل «يصلب» كماض وحاضر ومستقبل. فالمسيح مصلوب في الفكر التوراتي أو الطقس الموسوي منذ أن ذُبح خروف الفصح الآول: «وتكون جثتاها على شارع المدينة العظيمة التي تدعى روحيأ سدوم ومصر حيث صُلب ربنا أيضاً.» (رؤ8:11)
‏وبحسب فكر بولس الرسول، فالصليب هو قصد الله الذي قصده في المسيح منذ الدهور: «لي أنا أصغر جميع القديسين أُعطيت هذه النعمة, أن أبشر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يُستقصى، وأنير الجميع في ما هو شركة السر المكتوم منذ الدهور, في الله خالق الجميع بيسوع المسيح؛ لكي يُعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويات بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة, حسب ‏قصد الدهور الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا» (أف8:3-11)
‏وعند بطرس الرسول، هو معروف قبل تأسيس العالم: «بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح، معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم، ولكن قد أُظهر في الآزمنة الأخيرة من أجلكم.»( 1بط19:1-20)
‏فقدرة المسيح على الشفاء والإقامة من الموت نابعة من قوة ذبيحة نفسه القائمة والدائمة فيه, والتي قدمها على الصليب، في الوقت المعين، عن كل خطاة الأرض، من أول الزمان وإلى آخر كل زمان.
‏بهذه القوة والقدرة الذبائحية والفدائية التي فيه، أعطي مُقعد بيت حسدا الشفاء والحياة الجديدة، على أساس أن كل خطاياه وعاره السابق حمله المسيح عنه في جسده بانتظار يوم الصليب. لذلك لا نسمع أن المسيح قد دان هذا المقعد، ولكن فقط، ولكي يضمن له هذه الحياة التي أعطاها له كي تبقى له بلا دينونة، أمره بل آزره بنصيحة تكاد تكون دعاء: أن لا يخطىء أيضاً أي ثانية, وذلك حينما وجده في الهيكل، لئلا يسقط عنه العفو الذي أعطاه لخلاصه المجاني. كما أن المسيح لم يشأ أن يظل هذا المريض الذي نال نعمة الشفاء جاهلاً بمن شفاه, فأعلن نفسه له ليعطيه فرصة الإيمان بالمسيح وقتما اكتمل انتباه وعيه المسيحي.
‏ثم قول المسيح: «لا تخطىء أيضاً» فيه إيماءة إلى أن علة مرضه الذي طال واستطال هي الخطية, فالخطية هي علة الإنسان الاولى التي أوجبت عليه الموت. والمرض مهما كان، فهو جزء من الموت الذي ورثه الإنسان من رأس جنسنا آدم الأول, ولكن يقابله الآن الحياة التي ورثناها من المسيح الذي ولدنا ثانية بالروح لله، والذي صار رأس الجسد أي الكنيسة، والذي حول الموت إلى حياة بالإيمان به، وحول المرض من تأديب وعقاب إلى علة لتمجيد الله!!: «يا معلم من أخطأ, هذا (الأعمى) أم أبواه حتى وُلد أعمى؟ أجاب يسوع: لا هذا أخطأ ولا أبواه, لكن لتظهر أعمال الله فيه» (يو2:9-3)؛ «فلما سمع يسوع قال: هذا المرض ليس للموت بل لأجل مجد الله، ليتمجد ابن الله به.» (يو4:11)
‏وهكذا كل مرض مهما كان ومهما أصاب، فهو لمجد الله، إذا حولناه إلى شكر حقيقي واحتملناه بصبر، فيتمجد الله فينا بسبب هذا المرض عينه!! لذلك لم تفت على القديس يوحنا أن يُكمل قائلاً:
«بعد ذلك وجده يسوع في الهيكل»: واضح أن المُقعد اتجه مباشرة إلى الهيكل, ربما حاملاً سريره, وهذا هو الذي أثار حوله العاصفة، ولكن القصد واضح أنه أراد أن يقدم الشكر لله مما يلفت نظرنا أنه كان على شيء من التقوى، فالفتيلة المدخنة ما فتئت تدخن حتى اشتعلت!


15:5- فَمَضَى الإِنْسَانُ وَأَخْبَرَ الْيَهُودَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الَّذِي أَبْرَأَهُ.

واضح أن المُقعد وجد في المسيح من يستطيع أن يتحمل عنه تهمة حمل السرير, فأسرع في تبرئة نفسه، لا خيانة لمن شفاه, بل اعترافاً من واقع الحال. ثم أن المسيح لم يوصيه أن لا يقول لأحد، حتى يُحسب أنه أخل بالوصية, بل ذهب لُيري نفسه للكاهن اعترافاً بفضل الله ومن شفاه.
‏المصادمة الأولى مع اليهود: المسيح يعلن عن لاهوته وشخصيته الماسيانية في أعمق ما بلغه إنجيل القديس يوحنا، بطرحه أعظم قضية لاهوتية لتحتل الصدارة في الإيمان المسيحي، وذلك في خطوات متلاحقة وبتنظيم متدرج منسجم من الاستعلانات التي تكشف عن طبيعة الآب والابن والوحدة الفعلية القائمة بينهما.
‏والموقف الذي يقفه المسيح هنا أمام اليهود يتسم بالشجاعة البالغة القوة والاتزان، وهو يكشف عن إلوهيته أمام أعدائه المتربصين به، دون حذر، وهوي علم تمام العلم أنه بذلك يخطب الموت ويستدعيه، ولكنه فى آن واحد يرمي أساس الايمان المسيحي برمته! أما سامعوه فكانوا, ويتحتم أن يكونوا, إما واحد يصدق القول تصديق الإيمان فيقبل المسيح رباً وإلهاً، وإما واحد يصر بأسنانه إذ يراه مجدفاً ويستحق الموت بلا رحمة. ولم يقف المسيح من قبل مثل هذا الموقف الحرج الذي فيه يتقاسم سامعوه الحب الطاغي والكراهية المرة بلا توسط! وبالفعل كان هذا الدفاع اللاهوتي المنقطع النظير هو هو بعينه أدلة الاتهام التي قدمته إلى الصليب! كما صار هو بعينه دستور الحب والايمان عند ملايين الملايين من بني الإنسان!
‏خطوات الإستعلان:
1- «أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل.» (يو 17:5)
2- «كماأن الآب يقيم الأموات ويُحيي، كذلك الابن أيضاً يُحيي من يشاء.» (يو21:5)
3- «الآب لا يدين أحداً، بل قد أعطى كل الدينونة للابن.» (يو 22:5)
4- «لكي يكرم الجميع الابن، كما يكرمون الآب.» (يو 23:5)
5- «من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة، بل قد ‏انتقل من الموت إلى الحياة.» (يو24:5‏)
6- تأتي ساعة، وهي الآن، حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون.» (يو25:5)
7- «لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته.» (يو26:5)
8- «وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً, لأنه ابن الإنسان.» (يو27:5)
9- «تأتي ساعة فيها يسمح جميع الذين في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة.» (يو 28:5-29)
ويلاحظ أن هذه الحقائق الأساسية في لاهوت المسيح، المقدمة هنا كدستور عمل، هي التي انبثقت منها كل تعاليمه التي قدمها قبل أو بعد ذلك، سواء كونه خبز الحياة، أو الماء الحي، أو نور الحياة، أو الراعى الصالح، أو الكرمة الحقيقية، أو القيامة والحياة.


15:5- فَمَضَى الإِنْسَانُ وَأَخْبَرَ الْيَهُودَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الَّذِي أَبْرَأَهُ.

واضح أن المُقعد وجد في المسيح من يستطيع أن يتحمل عنه تهمة حمل السرير, فأسرع في تبرئة نفسه، لا خيانة لمن شفاه, بل اعترافاً من واقع الحال. ثم أن المسيح لم يوصيه أن لا يقول لأحد، حتى يُحسب أنه أخل بالوصية, بل ذهب لُيري نفسه للكاهن اعترافاً بفضل الله ومن شفاه.
‏المصادمة الأولى مع اليهود: المسيح يعلن عن لاهوته وشخصيته الماسيانية في أعمق ما بلغه إنجيل القديس يوحنا، بطرحه أعظم قضية لاهوتية لتحتل الصدارة في الإيمان المسيحي، وذلك في خطوات متلاحقة وبتنظيم متدرج منسجم من الاستعلانات التي تكشف عن طبيعة الآب والابن والوحدة الفعلية القائمة بينهما.
‏والموقف الذي يقفه المسيح هنا أمام اليهود يتسم بالشجاعة البالغة القوة والاتزان، وهو يكشف عن إلوهيته أمام أعدائه المتربصين به، دون حذر، وهوي علم تمام العلم أنه بذلك يخطب الموت ويستدعيه، ولكنه فى آن واحد يرمي أساس الايمان المسيحي برمته! أما سامعوه فكانوا, ويتحتم أن يكونوا, إما واحد يصدق القول تصديق الإيمان فيقبل المسيح رباً وإلهاً، وإما واحد يصر بأسنانه إذ يراه مجدفاً ويستحق الموت بلا رحمة. ولم يقف المسيح من قبل مثل هذا الموقف الحرج الذي فيه يتقاسم سامعوه الحب الطاغي والكراهية المرة بلا توسط! وبالفعل كان هذا الدفاع اللاهوتي المنقطع النظير هو هو بعينه أدلة الاتهام التي قدمته إلى الصليب! كما صار هو بعينه دستور الحب والايمان عند ملايين الملايين من بني الإنسان!
‏خطوات الإستعلان:
1- «أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل.» (يو 17:5)
2- «كماأن الآب يقيم الأموات ويُحيي، كذلك الابن أيضاً يُحيي من يشاء.» (يو21:5)
3- «الآب لا يدين أحداً، بل قد أعطى كل الدينونة للابن.» (يو 22:5)
4- «لكي يكرم الجميع الابن، كما يكرمون الآب.» (يو 23:5)
5- «من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني، فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة، بل قد ‏انتقل من الموت إلى الحياة.» (يو24:5‏)
6- تأتي ساعة، وهي الآن، حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون.» (يو25:5)
7- «لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته.» (يو26:5)
8- «وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً, لأنه ابن الإنسان.» (يو27:5)
9- «تأتي ساعة فيها يسمح جميع الذين في القبور صوته، فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة.» (يو 28:5-29)
ويلاحظ أن هذه الحقائق الأساسية في لاهوت المسيح، المقدمة هنا كدستور عمل، هي التي انبثقت منها كل تعاليمه التي قدمها قبل أو بعد ذلك، سواء كونه خبز الحياة، أو الماء الحي، أو نور الحياة، أو الراعى الصالح، أو الكرمة الحقيقية، أو القيامة والحياة.


16:5- وَلِهَذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْرُدُونَ يَسُوعَ وَيَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ لأَنَّهُ عَمِلَ هَذَا فِي سَبْتٍ.

«الشرير يراقب الصديق محاولاً أن يميته». (مز32:37‏)


‏«ولهذا»: أي «بسبب ما عمله يسوع في السبت»، ولكن تأتي كلمة «عمل» في اليونانية بمعنى «بسبب ما تعود أن يعمله», بصيغة التكرار والدوام من جهة كسر الناموس علناً وبإصرار وباستمرار، إذ كان يكاد لا يعمل آياته إلا في السبت.
‏وهذه في الحقيقة أول مرة يعلن فيها اليهود عن عداوتهم بالفعل، بنية القتل. وهذا يعود إلى المغالاة التي فاقت كل الحدود في حفظ السبت، حتى بلغت إلى الحد الذي تساءل فيه كبار الربيين عن مدى خضوع الله نفسه لهذه الوصية! ويخبرنا العالم دودد في شرحه لإنجيل يوحنا أنه قد جرى بالفعل حوار بين أشهر أربعة ربيين يهود وهم غمالائيل الثاني ويشوع بن حنانيا وإلعازر ابن عزاريا ورابي عقيبا, أثناء وجودهم معاً في روما سنة 95م، أي في زمن كتابة إنجيل يوحنا، وقد انتهى بهم الحوار إلى تقرير ان [الله يحفظ الوصية لأنه لا يعمل خارج حدود مسكنه أي السماء والأرض، ولا يسير مسافة أطول من قامته، لذلك فعمل الله هو في الحدود المسموحة!] أنظر وتعجب!!
‏من هنا كان رد المسيح عليهم، لأنه إذ كان يعلم مدى جنونهم في إخضاع الله للوصية قال لهم: «أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل»، فالله ليس تحت حكم الزمان والمكان والحركة فهذه كلها نواميس زائلة.



17:5- فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ».

‏بمعنى أن انه لم يتوقف عن عمله قط, فهو لا يزال يعمل وإلا تتوقف الحياة. فالله لم يخلق الخليقة بواسطة اللوغس الابن ثم تركها تعمل من تلقاء ذاتها كما يقول الذين لا يؤمنون بالله والخلق! وإلا تختل موازين الانضباط والتناسق والاستمرارية, فالله يحكم ويدين الخليقة بقوانين ‏دائمة لا تخضع لفكر الانسان.
‏والمسيح يضع نفسه مع الله الآب كمسئول عن الخليقة, وخاصة فيما يخصه من جهة قيامها ودوامها، وبالأكثر من جهة فدائها وخلاصها وتجديدها وتكميلها: «الله… كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء الذي به أيضاً عمل العالمين. الذى, وهو بهاء مجده ورسم جوهره، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته, بعدما صنع بنفسه تطهيرا لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي.» (عب1:1-3‏)
‏كذلك يقول بولس الرسول في سفر العبرانيين صراحة كيف أسس الابن الأرض والسموات, وكيف أنها تتغير وفي النهاية يتلاشى شكلها المادي المنظور، أما المسيح الابن فلن يتغير ولا يتبدل: «وأما عن الابن (فيقول كرسيك يا الله (الابن) إلى دهر الدهور قضيب الاستقاهة هو قضيب ملكك، أحببت البر وأبغضت الإثم، من أجل ذلك مسحك الله إلهك بزيت الآبتهاج أكثر من شركائك. وأنت يا رب في البدء أسست الأرض, والسموات هي عمل يديك, هي تبيد ولكن أنت تبقى، وكلها كثوب تبلى وكرداء تطويها فتتغير, ولكن أنت أنت وسنوك لن تفنى» (عب8:1-12)
‏ثم يعود القديس بولس في رسالة أفسس ليوضح مركز المسيح من جهة الخليقة كلها في السماء وعلى الأرض، كيف أن تدبير الله منذ الأزل جعلها تتمحور في المسيح, وتنجمع، وتتحد بواسطته في انسجام يفوق تصور الانسان: «إذ عرفنا بسر مشيئته، حسب مسرته التي قصدها في نفسه، لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شيء في المسيح ما في السموات وما على الأرض في ذاك (المسيح).» (أف9:1-10)
‏بهذا يتضح لنا قول المسيح: «أبى يعمل حتى الأن وأنا أعمل». فالخليقة كلها في السماء والأرض لا تزال فى دور الخلق والتجديد والترقي، وفق مشيئة الله وتدبيره مع المسيح الابن، لغاية ستظهر في النهاية حينما يُخضع الله كل شيء لسطان المسيح الابن: «لأنه يجب أن يملك، حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه. آخر عدو يبطل هو الموت.» (1كو25:15-16)
‏وربوبية المسيح فوق الخليقة وكل نواميسها واضحة من قول المسيح: «ثم قال لهم: السبت إنما جُعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت، إذا ابن الإنسان هو رب السبت أيضاً.» (مر27:2-28)
‏فالمسيح، بعمله الأشفية وصنع الرحمة في يوم السبت، كان يقوم في الحقيقة بعملية تكميلية للخلق مساوية في مضمونها الإلهي للخلق ذاته. فالذي يجعل الأعمى المولود هكذا يصبح له عينان والميت المدفون وله أربعة أيام يقوم, إنما يعمل عملاً من صميم جوهر الخلق والخالق، مما يثبت أن أعمال الخلق لم تنته في نظر الله في اليوم السابع!
‏أما سبت المسيح الحقيقي فكان بعد أن أكمل أعمال الفداء وخلاص الإنسان على الصليب «قد أُكمل» (يو30:19)؛ أما بحسب الجسد فقد استراح في القبر: «لأن يوم ذلك السبت كان عظيماً» (يو31:19‏), وأما بحسب الروح فبعد أن أكمل المسيح آلامه دخل إلى راحته العليا أي مجده: «أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده؟» (لو26:24‏)
‏ودخول المسيح إلى مجده هو بحد ذاته الراحة العظمى التي يحكي عنها سفر العبرانيين هكذا: «لأن الذي دخل راحته استراح هو أيضاً من أعماله, كما الله, من أعماله, فلنجتهد أن ندخل تلك الراحة.» (عب10:4-11)
‏وهنا يُلاحظ التوازي بين قول المسيح «أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل‏» و يين «استراح هو أيضاً من أعماله كما الله من أعماله». فالعمل على التوازي، والراحة على التوازي بين الآب والابن كل في مجاله، ومجال الاثنين هو تكميل مجال واحد!. لذلك يستطرد سفر العبرانيين ويقول إن راحتنا، أى سبتنا، هو «راحة» المسيح وسبته وقد أكملت مرة واحدة وإلى الايد، «إذاً بقيت راحة لشعب الله» (عب9:4‏), ويقصد هنا راحة جديدة غير راحة السبت، وهي الشركة في سبت المسيح أي موته لبلوغ القيامة التي هي غاية ونهاية كل الأعمال؛ والراحة التي تمت فيها ذبيحة المسيح وقبولها لدى الآب فتمت المصالحة بين الإنسان والله.
‏من هذا نفهم الآن لماذا كانت وصية السبت هامة وصارمة وخطيرة بهذا المقدار في الناموس القديم وكان ثمن التعدي هو الموت حتماً!! ليس لأنها كانت ذات مدلول أو نفع خلاصى بأي وجه من الوجوه، بل لأنها كانت تثير بالرمز إلى سبت العهد الجديد، سبت الله الآبدي، الذي كان ثمنه موت ابن الله أيضاً في القبر كنهاية لكل أعمال الناموس، الذي أُبطل بموت المسيح الفدائي. اسمع ما يقوله سفر العبرانيين كيف انتهى هذا الناموس بكل وصاياه من سبت وخلافه: «فلو كان بالكهنوت اللاوي كمال، إذ الشعب أخذ الناموس عليه (على أساس الكهنوت اللاوي), ماذا كانت الحاجة بعد إلى أن يقوم كاهن أخر(الرب يسوع) على رتبة ملكي صادق ولا يقال على رتبة هارون؟ لأنه إن تغير الكهنوت, فبالضرورة يصير تغيير للناموس أيضاً» (عب11:7-12)، «فإنه يصير إبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها، إذ الناموس لم يكمل شيئاً.» (عب18:7-19)
‏ثم يعود سفر العبرانيين ويتكلم بعد ذلك عن راحة الله في سبت الله الآبدي الذى أكمله المسيح بموته. والذى به فتح الباب لدخول الإنسان في هذه الراحة عينها أي الحياة الآبدية.
‏يبدأ بولس الرسول الحوار في رسالته للعبرانيين بوصف بني إسرائيل وهم في التيه وقد أغضبوا الله بقلة إيمانهم بقوله هكذا: «… حتى أقسمت في غضبي لن يدخلوا راحتي, انظروا أيها الإخوة أن لا يكون في أحدكم قلب شرير بعدم إيمان في الارتداد عن الله الحي… ولمن أقسم لن يدخلوا راحته إلا للذين لم يطيعوا؟ فنرى أنهم لم يقدروا أن يدخلوا لعدم الايمان. فلنخف أنه مع بقاء وعد بالدخول إلى راحته يرى أحد منكم أنه قد خاب منه… لأننا نحن المؤمنين ندخل الراحة… مع كون الأعمال قد أُكملت منذ تأسيس العالم. لأنه قال في موضع عن السابع هكذا: واستراح الله في اليوم السابع من جميع أعماله. وفي هذا (هنا) أيضاً (يقول) لن يدخلوا راحتي؟… إذاً بقيت راحة لشعب الله! لأن الذي (المسيح) دخل راحته (السبت الآبدي) استراح هو أيضأ من أعماله كما الله من أعماله. فلنجتهد أن ندخل تلك الراحة لئلا يسقط أحد في عبرة العصيان هذه عينها.» (عب11:3-19) , (1:4-11).
‏واضح إذاً أن سبتنا الآبدي الدي يقوم على إيماننا بالمسيح بموته وقيامته، قد أُلغى وإلى الآبد سبت الناموس الرمزى الذى كان شبهاً للسماويات وظلها.
‏ولكن يلاحظ أن المسيح في قوله: «أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل»، لا يجعل عمله منفصلاً عن عمل الله بل متآزراً معه، كما يُفهم تماماً أن المسيح ينفي نفياً باتاً أن يكون خاضعأ تحت «أعمال الله» وبالتال تحت فكرة استراحة الله، بل أعلى منها وقواماً عليها، وهذا هو الذي أثار حفيظة اليهود أيما إثارة.


 18:5- فَمِنْ أَجْلِ هَذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ لأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ السَّبْتَ فَقَطْ بَلْ قَالَ أَيْضاً إِنَّ اللَّهَ أَبُوهُ مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِاللَّهِ.

لقد فهم اليهود كل ما ضمنه المسيح في قوله المختصر جداً: «أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل‏» . فهو أولاً وقبل كل شيء قد ألغى سلطة الناموس وأبطل الاعتراف بوصية السبت علنا وبإصرار! معتمداً على ادعائه بالصلة المطلقة بالله!
‏«أن الله أبوه»: الكلمة الخطيرة في هذه الآية هي ( ), التي تفيد الملكية الشخصية أي أن الله أبوه الشخصي الذاتى وهنا يصبح المسيح ابن الله ومعادلاً له, ولقد وقعت على أسماع اليهود كالصاعقة، فهذا عين التجديف إن نظروه كإنسان. وهنا تكون مصيبتهم هم وتجديفهم هم وليس المسيح. وبالتالي اعتبروا أنه يدعي أن عمله (وهو إنسان) يساوي عمل الله، وبذلك يكون قد كسر وصية السبت بمعنى أنه حلها أي فك رباطها وناموسها، وبالتالي أبطل الخضوع لناموسها.
‏وفي الحقيقة هذه كانت بالفعل نظرة المسيح, ونحن لا ننسى قوله: «انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه» (يو19:2), «أما هو فكان يقول عن هيكل جسده» (يو21-2). أي أنه ليس السبت فقط بل والعبادة الهيكلية بكل مشتملاتها وطقوسها وناموسها وكهنوتها وأعيادها وسبوتها بالتالي، وقد جعل «هيكل جسده» بمفهوم ذبيحته أي موته وقيامته، بكل أعضائه الجدد أي الكنيسة، هي الهيكل الجديد.
‏ولو أحسئا الرؤية من جهة سر العداوة المرة التي تراكمت في قلوب هؤلاء اليهود غير المؤمنين به والمعاندين له نجدها في عدم فهمهم وعدم قبولهم من قريب أو بعيد كونه يقول عن نفسه إنه ابن الله الذاتي, ولقد ضجوا من هذا التعبير, وأخيراً صارحوه عن سبب محاولتهم قتله قائلين: «وأنت إنسان, تجعل نفسك إلهاً» (يو33:10). ولكن لو أحسنوا الرؤية لرأوه العكس: «وهو إله, جعل نفسه إنساناً»!!
ولقد صر هؤلاء اليهود عداوتهم في قلوبهم من نحو قوله أنه «ابن الله», حتى أفصحوا عنها بمرارة كعلة طلبهم لصلبه أمام بيلاطس: «فلما رآه رؤساء الكهنة والخدام صرخوا قائلين اصلبه اصلبه. قال لهم بيلاطس خذوه أنتم واصلبوه لأني لست أجد فيه علة. أجابه اليهود: لنا ناموس، وحسب ناموسنا يجب أن يموت، لأنه جعل نفسه ابن الله.‏» (يو6:19-7)
ثم يا لحذق هذا القديس يوحنا الرسول كيف يصور لنا عثرة اليهود بقوة وعنف وجلاء لتكون لنا هي نفسها أساسا للايمان الواثق الوثيق!! «الذي يؤمن به لا يدان والذي لا يؤمن قد دين، لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد.» (يو18:3‏)
‏والذي دخل في روع اليهود وطمس معالم رؤية الحق وسماعه، تصورهم أن المسيح وهو إنسان يجعل نفسه إلهاً، ثم بادعائه أن الله أبوه يجعل نفسه «إلهاً مقابل إله» وهو الله، وبذلك يكون في نظرهم إلهاً ثانياً. ومن هذه النقطة بالذات بدأ المسيح شرحه وتوضيحه لمعنى الابن بالنسبة للآب في الله الواحد!. وذلك في كل الحوار القادم (من آية 19 إلى 23).

 القسم الثانى من الأصحاح الخامس 
شرح تفصيلى لمركز الابن من الله الآب
(19:5-30)


‏يتميز الجزء الأول من الإجابة الشاملة التي أجاب بها الرب على اعتراضات اليهود أنها تتخصص في توضيح طبيعة الابن وامتيازته وتنقسم إل قسمين:
‏قسم يختص بالعلاقات مع الآب ويستمر من الآية 19 إلى الآية 23.
والقسم الآخر يختص بالعلاقات مع الناس من الآية 24 إلى الآية 29.
‏أما في العلاقات مع الآب، فيوضح أنه سواء كان في العمل أو في الكرامة، فالابن مطابق للآب تماماً، وذلك لكي ينظر الناس في عمل الابن عمل الآب، فأعمال الابن تستعلن عمل الآب غير المنظور عن قرب ورؤية . وحتى يكون بتكريمهم الابن المنظور لهم يكرمون الآب غير المنظور. ويوضح المسيح ذلك بأربعة أدلة على أساس أنه يستحيل على الابن أن يعمل من ذاته شيئاً بدون الآب، وكل دليل يقدمه يبدأ بحرف «لأن».
‏( أ ) «لأن» مهما عمل ذاك (الآب) فهذا يعمله الابن كذلك(19‏).
‏( ب ) «لأن» الآب يحب الابن ويريه جميع ما هو يعمله وسيريه أعمالاً أعظم من هذه (إقامة المقعد) لتتعجبوا أنتم (20).
‏( ج ) «لأنه» كما أن الآب يقيم الأموات ويُحيي، كذلك الابن أيضاً يُحيي من يشاء (21)
‏( د ) «لأن» الآب لا يدين أحداً، بل قد أعطى كل الديونة للابن
وبناء على ذلك:«لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب. من لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله» (22 و23)

19:5- فَقَالَ يَسُوعُ لَهُمُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَقْدِرُ الابن أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً إِلاَّ مَا يَنْظُرُ الآب يَعْمَلُ. لأَنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهَذَا يَعْمَلُهُ الابن كَذَلِكَ


‏يلاحظ هنا أن كلمة «الابن» تأتي بمفردها، وقد وردت ها في الآيات من 19-26 ثماني مرات، في حين أنها أتت في كل الإنجيل قبل ذلك وبعد ذلك عشر مرات فقط، هذا يجعلنا نفهم أن الإنجيل يركز جداً في هذه الآيات على القاعدة الإيمانية التي سيسهب بعد ذلك في شرحها.
‏وفي البداية ينبغي أن نلاحظ أن هذا الحوار جرى مع أشخاص قلائل مدربين في المعرفة، فريسيين محنكين. وهذا يظهر من الإختصار الذي نهجه المسيح في تقريره للحقائق وارتفاعه إلى مستواها المطلق، الأمر الذي يحتاج إلى فهم وعمق.
‏ثم نلاحظ ثانياً أن المسيح تحاشى أن يتكلم بضمير المتكلم «أنا»، كما لم يذكر الصفات التي اعتاد أن يلقب بها نفسه «كابن الإنسان»، أو حتى «ابن الله». ولكه يقتصر هنا على التوصيف المطلق «للابن» بالنسبة إلى «الآب» على مستوى المفهوم البشري للآب والابن، وذلك لكي لا يصدم تفكيرهم في البداية، بل يأخذهم أولاً على المستوى المطلق للأمور ثم يتدرج بهم للتطبيق، فيُظير شخصه بوضوح في الآية 24: «الذي يسمع كلامي» ثم في الآية 30 «أنا». فابتدأ هكذا: «الابن لا يقدر أن يعمل من نفسه شيئاً»! و‏هذه حقيقة مسلم بها؛ ثم الابن ينظر إلى ما يعمله الآب ويعمل مثله تماماً إذا كان الابن مطيعاً ومخلصاً ومحباً للآب! هذه حقيقة أيضاً مسلم بها تماماً. إذن فالمسيح يتكلم عن «ابوة» صادقة عاملة «وبنوة» صادقة عاملة. وهذا يتضمن بالضرورة أن إرادة الابن تكون مبثقة من إرادة الآب طالما أن العمل متطابق. ويقول ذهبي الفم أن [«لا يعمل من نفسه شيئاً», ليس قول من يلغي سلطانه بل إعلاناً عن التساوي المطلق غير المتغير عن الآب في القوة والمشيئة.]
«ما ينظر الآب يعمل»: ‏يلاحظ أن المسيح يستخدم هنا في هذه الآية فعل «ينظر» في صيغة المضارع وهو ‏باليونانية ( ) وهذا يفيد صلة الآب بالابن حال تجسده. كما سيجيء الفعل أيضاً في المضارع في الأية 30 أنه يُدين «كما أسمع أدين». أما حينما يستخدم المسيح الفعل الماضي فهو يشير إلى ما رآه وسمعه عند الآب قبل تجسده كقوله: «أنا أتكلم بما رأيت عند أبي» (يو38:8)، وكذلك: «وأنا ما سمعته منه فهذا أقوله للعالم» (يو26:8). وهذا تأكيد ضمني لإثبات سبق وجود المسيح قبل تجسده.
‏كذلك قول المسيح: «الأعمال التي أعطاني الآب لأكملها … الآب قد أرسلني» (يو36:5‏)، ففعل «أعطاني» وفعل «أرسلني» تفيد وجوده السابق على تجسده. كذلك أيضاً قوله: «لأني خرجت من قبل الله وأتيت. لأني لم آت من نفسي بل ذاك أرسلني.» (يو42:8)
‏والملاحظ أن فعل «أرسلني» الذي يفيد ما قبل التجسد يأتي معه فعل «ما سمعت»، أو «ما رأيت»، أو «ما أتكلم»، كما في الآيات يو11:3-13, 31:3-32, 26:8و38, 49:12, 15:15, 36:5, 16:7, 24:14.
‏ولكن من كل الإفادات التي أفاد بها المسيح من سبق وجوده مع الآب أو «عند الله» لم يستخدمها المسيح ليستعلن شخصه، أو يزيد من هيبته، ولكن استخدمها ليفيد صدق كلامه وصدق رؤيتة واهمية إرساليته للعالم. وهذا يتضح جداً في قوله: «الحق الحق أقول لك: إننا إنما نتكلم بما نعلم؛ ونشهد بما رأينا ولستم تقبلون شهادتنا. إن كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون فكيف تؤمنون إن قلت لكم السمويات. وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء, ابن الإنسان الذي هو في السماء.» (يو11:3-13)
‏فكلمة المسيح هي من واقع رؤيا وسماع الآب، هي شهادة مهداة للانسان للتصديق الفوري والايمان بلا فحص، هي الآب منظوراً ومُتكلماً ومُشاهداً في روح الابن. الذي يصدق كلمة المسيح تدخله الكلمة كروح للحياة، وهو يدخل الكلمة كمن يدخل الملكوت أو الحياة الآبدية. الذي يسمع صوت المسيح ويستودعه أمانة قلبه ويحيطه بالتجلة والكرامة والمجد يسمع صوت الآب, بل يقبل الآب، كابن عثر على أبيه. كلمة المسيح لا تحتاج إلى شرح ولكن تحتاج إلى إيمان فهي تشرح نفسها لمن تدخل قلبه, يكفي أن يقول عنها المسيح إنها «روح وحياة.» (يو63:6‏)
‏هنا المسيح يقصد بغاية الوضوح أن يقول لليهود أن الأعمال التي يعملها يستحيل اعتبارها منفصلة عن أعمال الآب, فهو لا يكسر السبت على مسئوليته دون الله؛ كذلك الإرادة، فإن وحدة العمل تحتم وحدة الإرادة. وهنا يبرز جوهر القضية وأساس العثرة عندهم, كون المسيح أصبح يُنظر عندهم إلهاً ثانياً. فهو هنا يبرهن أن كلا من العمل والإرادة ليس منفصلاً عن الله ولا يعمل عملاً بدون الله، فالابن يعمل عمل الآب, والآب يعمل بالابن, والعمل واحد!! فالوحدة الإلهية مصونة مائة بالمائة. ولقد تسحب هذا الحق الإلهي بنوع ما على الذين يؤمنون بالمسيح أيضاً, فالمسيحي الحقيقي الذي آمن بالمسيح، والمسيح حل بالإيمان في قلبه، يعمل حسب المسيح ويفكر حسب المسيح ويشاء حسب المسيح. إنها نعمة الابن حلت على الذين يحبون الله: «لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا» (في13:2‏)!! لذلك يستطيع أن يقول كما قال بولس الرسول: «أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فىّ.» (غل20:2‏)
‏وقد زاد المسيح هذا التأكيد بقوة لا تُجارى بقوله في الآية 30 القادمة: «أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً, كما أسمع (من الآب) أدين ودينونتي عادلة, لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني», «لا يقدر الابن أن يعمل… إلا ما ينظره» (يو19:5)
‏هنا التحديد قاطع مانع من جهة العمل وعدم القدرة على العمل، وهذا بحد ذاته ينبغي أن يسترعي انتباهنا جداً. فعدم قدرة الابن أن يعمل إلا ما ينظر الآب يعمله يظهر هنا أن التطابق كلي, ومن هنا يأتي جوهر الوحدة المطلق. والتأمين هنا ضد الثنائية بالغ الحذر. والقضية واضحة وسهلة، فالابن جاء ليستعلن عمل الآب وإرادة الآب ومحبة الآب، فالعمل الذي يعمله هو عمل الآب: «الآب الحال في هو يعمل الأعمال» (يو10:14)، وكذلك الإرادة: «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله.» (يو34:4‏)
‏ومرة أخرى يقول المسيح: «الابن لا يقدر أن يعمل»… هذا ليس تحديداً لسلطان الابن ولا لقدرة الابن ولا لطبيعة الابن ولا انتقاصاً من قدرة الابن عن قدرة الآب، ولكن هو حسم لقضية الثنائية التي شغلت بال الفريسيين والناس. فالمسيح يستطيح كل شيء إلا شيئاً واحداً لا يستطيعه، وهو أن يكون شيئاً غير الله إرادة وعملاً!! لأنه أصلاً جاء ليستعلن لنا الله الآب بطبيعة الله الذي فيه، فيستحيل أن يعمل عملاً خارجاً عن إرادة الله وعمله!! هذا يكون ضد رسالته وضد طبيعته وهذا محال عليه أن يأتيه.
‏ويلاحظ القارىء هنا كيف يربط المسيح ربطاً, لا ينقذ إليه الباطل قط, بين الابن المنظور والمتجسد على الأرض وبين الآب غير المنظور في السماء، فهذا جوهر الإعلان الإلهي. فعمل المسيح الأساسي كمستعلن لأبيه، مٌحكم غاية الإحكام حتى لا ينفذ إليه الفكر ناحية الفصل، وإلا يكون السقوط في الثنائية المحرمة والمحرومة.
‏«لأن “مهما” عمل ذاك (الآب) فهذا يعمله الابن كذلك» = «مهما عمل الآب يعمله ‏الابن كذلك»: ‏في «مهما» تكمن قوة الابن المطلقة, هنا التطابق لا يكتفي بالحدود المعقولة أو المنظورة بين الآب والابن، ولكن تتسع وتتسع لتبلغ اللانهائية: «مهما» غير المدركة للانسان. أي أن الوحدة القائمة بين الآب والابن مؤمنة ضد تفكير عقل الإنسان وقياساته، فوحدانية الله لله، فهى فائقة، وليس للانسان إلا أن يصدقها ويهتف بعظمة قوتها وجلال مجدها.
‏والمسيح في هذه الآية يرتفع فوق كبرياء الفريسيين بشموخ يفوق مستوى ما اعتادوا أن يسمعوه, أو يتعلموه، فقد وقف أمامهم يتكلم بصوت الله وهم يتأملون ويتصورون ما يقول؛ وأما شخصه الإلهي على حقيقتة, فهم قط ما رأوه ولا صموروه. تباً للعيون التي تنظر ولا تنظر والأذان التي تسمع ولا تسمع!
«الحق الحق أقول لكم»: ولا يفوتا مطلع كلام المسيح: «الحق الحق أقول لكم»، والتي يقولها ثلاث مرات في هذا الحوار الممتد، وهي بمثابة القسم الإلهي في العهد القديم: «بذاتي أقسمت يقول الرب» (تك16:22)، وهي تفيد دائماً الكشف عن حقيقة جديدة مقدسة مؤكدة تأكيداً، وهامة للغاية كانت مخفية من الإنسان ويعلنها المسيح كجزء من عمله الاستعلاني لله الآب، ويلزم أن تُسجل في قلب الإنسان لتكون موضع تصديق مطلق؛ وبذلك تكون ركناً ركنياً في الإيمان المسيحي. وهذه الآية التي جاءت بعدها هي العنصر الأول فيها.
20- لأَنَّ الآب يُحِبُّ الابن وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ وَسَيُرِيهِ أَعْمَالاً أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ لِتَتَعَجَّبُوا أَنْتُمْ.

‏هنا يأتي الفعل في المضارع المستمر، فالآب يحب الابن حباً دائماً لم ولن ينقطع، أي هو حب الاتحاد أو على الأصح الوحدة الكلية.
‏كما يلاحظ أن فعل «يريه» يأتي أيضاً على مستوى فعل المحبة أي في المضارع الدائم. والمعروف أن جوهر المحبة عطاء، وهنا عطاء المحبة هو العمل الذي يريه الآب للابن، ‏وعمل الحبة عند الآب والابن هو آية, هو معجزة, هو حياة أبدية، في صورة أقوال وأعمال!
المسيح يكشف أساس التطابق في العمل بين الابن والآب: وكلمة «المحبة» المستخدمة هنا لا تفيد التوقير والمشاعر المنعكسة من التعارف المعبر عنها في مواضع أخرى بالأغابي, فهذه تنبع من حكم الفكر والخبرة الشخصية، بعكس الـ «فيلين» فهي محبة الكيان والطبيعة. وهذه توضح العلاقة الذاتية بين شخص الآب والابن. وهكذا بالابن ومن خلال الابن تُستعلن محبة الله الآب التي للابن, التي صارت لناء في صورة الأعمال التي يعملها الابن، فهي كلها أعمال المحبة الخالصة. والابن حينما يعمل أعمال الآب فهو يرد على حب الآب: «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله» (يو34:4). فالأعمال التي يعملها المسيح هي بحد ذاتها استعلان دائم لمحبة الله. لذلك تأتي كل أعمال المسيح وهي تتضوع برائحة حب الآب، سواء مع هذا المقعد أو الأعمى المولود هكذا أو كل الآيات التي أجراها يوسع، فالحب الإلهي هو غايتها وعلتها معاً، لذلك صح قول المسيح في صلاته للآب: «أنا مجدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته.» (يو4:17‏)
‏هنا يستعلن المسيح سر المحبة في الله كعنصر قائم في الذات الإلهية بين الآب والابن, وسر حب الآب للابن, فقد أُعطي المسيح الامتياز الأعظم لاستعلان الآب أقصى ما يكون الاستعلان. فالتطابق في العمل والإرادة بين الآب والابن نابع من التحام الحب، وليس التعالي أو الامتياز. فالحب الإلهي القائم في الذات الإلهية هو سر وحدة العمل والفكر والإرادة. ولكن لأن الابن الآن قد تجسد آخذاً صورة الإنسان، أصبح من واقع الحال البشري أن يتكلم المسيح قائلاً إن الآب «يريه» كل ما هو يعمله، وأصبح أيضاً من واقع التقدم البشري الخاضع للزمان أن يتكلم المسيح ويقول «وسيريه» أعمالاً أعظم، لأن التدرج في الاستعلان خاصة من مستوى الماديات إلى الروحيات يناسب الإنسان. أما الأعمال التي هي أعظم من معجزة شفاء المقعد، مثل إعطاء الحياة بالخلاص أي الحياة الآبدية بالقيامة من الأموات, وبالتال الدينونة, فهي الأعظم. لأن الأمور الأقل هي للجسد والأعظم هي للروح: «فقال له سيده: نعماً أيها العبد الصالح والأمين. كنت أميناً في القليل فأقيمك على الكثير. ادخل إلى فرح سيدك. (مت21:25‏)
‏«لكي تتعجبوا أنتم»: مع أن المسيح لا يميل إلى إتيان العجائب ليتعجب الناس، لأن الإيمان الذي يسعى أن يعطيه المسيح يعطيه كعطية: «لأنكم بالنعمة مخلصون “بالإيمان” وذلك ليس منكم هو عطية الله» (أف8:2)، ويعطيه نتيجة الثقة واليقين الذي يستقر في قلب من يسمع الكلمة طائعاً ببساطة قلب وليس بتعجب الذهن؛ ولكنه هنا يتكلم إلى الفريسيين بنوع خاص، كنوع من غير المؤمنين المعاندين، لذلك يؤكد ويشدد على نوعيتهم الخاصة بقوله: «أنتم», إضافة إلى صيغة المخاطب. ولماذا؟ لأنهم لا يخضعون لمنطق الإيمان الروحي ولا يتقبلون عمل الابن في شفاء المقعد، فأصبح لابد أن يريهم أعمالاً أعظم لكي يخضع أذهانهم العاتية، حتى إذا ما أنكروها أيضاً يكونون كمن عُميت أبصارهم وانسدت أذانهم ودخلوا تحت الدينونة بإرادتهم. لأنهم إذا لم يقبلوا الابن وقد عمل أمامهم أعمال الآب يكونون قد رفضوا الآب: «هذه الأعمال بعينها التي أنا أعملها هي تشهد لى أن الآب قد أرسلني.» (يو36:5).


21:5- لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآب يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي كَذَلِكَ الابن أَيْضاً يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ.

لقد شفى أمامهم المقعد، وكان هذا واضحاً جداً أنه إنما يعطي نموذجاً مبسطاً لسلطانه الفائق على المرض الميئوس منه، الذي يعتبر الشفاء منه نوعاً من تجديد الحياة. فلأنهم لم يؤمنوا، لزم أن يكشف عن مدى قوة هذا السلطان الذي له بالإقامة من الموت واعطاء الحياة؛ العمل الذي هو من اختصاص الله وحده.
‏وبقوله: «كذلك الابن»، ينقل إلى أذهانهم صورة الآب الذي فيه، المساوية للآب في كل شيء, ليس على المستوى المحدود في آية أو معجزة ولكن على المستوى الكلي لكل الناس وفي كل الظروف والأحوال: «يُحيي من يشاء». فسلطان الابن على الأموات والأحياء سلطان مطلق، فهو الذي «يُحيي» والأموات عنده تحت سلطانه كالأحياء يأمرهم فيأتمرون ويدعوهم للحياة فيلبون. نعم، فليس أمام غير المؤمنين إلا أن يتعجبوا، وتعجبهم سيدينهم في اليوم الأخير: «لا تتعجبوا من هذا فإنه تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته فيخرج … الذين عملوا السيئات (أبغضوا النور ولم يؤمنوا بالنور) إلى قيامة الدينونة.» (يو28:5-29‏)
‏والمسيح يكلم هنا الفريسيين الحافظين لمواد دستور إيمانهم، وهو ينقل لهم صورة طبق الأصل من إحدى صلواتهم المسماة بالبراكوت وهي البركة الثانية من البركات الثماني عشرة: (شيمون عسر)
[أنت أيها الرب المقتدر إلى الأبد. أنت الذي تٌحي الموتى. وأنت القوي للخلاص، أنت الذي تسند الأحياء برحمتك، وأنت الذي بحنانك العظيم تقيم الموتى وتحييهم, أنت الذي تصنع الصلاح من نحو الراقدين في التراب. أنت صادق في وعدك بقيامة الأموات. مبارك أنت أيها الرب يا من تقيم الأموات.]

22:5- لأَنَّ الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلاِبْنِ.

الذي يعطي الحياة لا بد أن يحكم فيها وعليها، والذي يقيم الموتى له أن يحاسبهم، هذه حتمية الامتياز الذي أُعطي للابن. والمسيح يكلم الفريسيين العارفين بالناموس: «فالذي يخطىء يموت» (قارن حز20:18). إذن, فالذي يقيم من الموت هو الذي يغفر الخطايا، والذي يغفر يدين، لأن الذي يحيي يميت أيضاً!!
‏والآب إذ أعطى الدينونة للابن، فليس معنى ذلك أنه لا يدين بل أنه يدين بالابن. فكما خلق العالم به، كذلك به أيضأ يدين العالم. فالآب لا يدين أحداً بدون الابن، لأنه أعطاه أن يحيي من يشاء وهذا يستلزم أن يدين.
‏أما قول المسيح أنه قد أعطى «كل» الدينونة، فمعناه أنه قد تول الحكم هنا وهناك, على الأرض وفي السماء. أما هنا فعلى قياس ما أظهر النور واستعلن الآب: «لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي» (يو15:15‏)، «أنا هو نور العالم» (يو12:8) فالذي يتبع ويسمع وينفتح بالروح ويقبل الاستعلان، فقد جاز الدينونة، ويكون قد انتقل من الظلمة إلى النور، ومن الموت إلى الحياة، فيدخل في الحقيقة العظمى وينهمر عليه فرح الله الآب. والذي يحجب النور عن عينيه بيديه يدخل الظمة برجليه، والذي يسد الصوت إلى أذنيه، فقد دين وحرم نفسه من رؤية الله والحياة.
‏أما دينونة السماء فتكون: إما بأكاليل المجد: «قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيراً قد وُضع لى إكليل البر الذي يهبه لى في ذلك اليوم الرب الديان العادل, وليس لى فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً» (تي7:4-8). وإما: «أقول لكم لا أعرفكم من أين أنتم؟ تباعدوا عني يا جميع فاعلي الظلم هناك يكون البكاء وصرير الأسنان.» (لو27:13-28)


 
23:5- لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الابن كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ الابن لاَ يُكْرِمُ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَهُ.

المسيح هنا يعلن صراحة ولأول مرة عن لاهوته المساوي للآب بلا مواربة, مع أنه شخصيأ لا يطلب الكرامة لنفسه: «مجداً من الناس لست أقبل» (يو41:5). ولكنه يطلب مجد الآب: «من يتكلم من نفسه يطلب مجد نفسه وأما من يطلب مجد الذي أرسله فهو عادل وليس فيه ظلم» (يو18:7)، ولكن كيف يمجد الناس الآب وهم يرفضون بل ويهينون الابن «لكني أكرم أبي وأنتم تهينوني. أنا لست أطلب مجدي، يوجد من يطلب ويدين ‏(يو49:8-50‏). فالواقع الإلهي هو أن الآب أرسل ابنه لكي يستعلن حقيقة الله الآب والحياة الآبدية التي عنده! التي فيها وبها الخلاص، لذلك أصبح الابن حاملاً بالضرورة كرامة الآب ومجده: «أنا مجدتك على الأرض» (يو4:17‏). لذلك يتحتم لكي يمجد الناس الآب أن يمجدوا الابن, هذا من جهة شخص الابن في ذاته، وإضافة إلى ذلك فإن الابن يمثل شخص الآب الذي أرسله، فالذي لا يمجد الابن, المسيح, لا يكرم الآب الذي أرسله. والمسألة في عمق معناها ليست مسألة مرسل ومرسل، بل مسألة الوحدة القائمة بينهما!!
‏هذا يعني أن المسيح يطالب بمجد الآب سواء في شخصه كابن الآب أو بصفته كمرسل من الآب ويمثله بذاته! لذلك فعدم تكريم الابن هو كذلك بالنسبة للآب. والذي يزدري بالمسيح يزدري بالله الآب وعقابه أشر: «من خالف ناموس موسى فعلى شاهدين أو ثلا ثة شهود يموت بدون رأفة. فكم عقاباً أشد تظنون أنه يُحسب مستحقاً من داس ابن الله وحسب دم العهد الذي قُدس به دنساً وازدرى بروح النعمة … مخيف هو الوقوع في يدي الله الحي.» (عب28:10-31).
‏وتحقيقاً لبنوة المسيح للآب قام المسيح بشفاء الناس واعطاهم الحياة على أساس غفران الخطاياى الأمر الذي هو من صميم اختصاص الله الآب: «ولكن لكي تعلموا أن لأبن الإنسان سلطاناً على الأرض أن يغفر الخطايا, حينئذ قال للمفلوج قم احمل فراشك واذهب إل بيتك.» (مت6:9‏)
وتحقيقاً لكون المسيح مرسلاً من الآب, فقد باشر أعمال الآب: «طعامي أن أعمل مشيئة ‏الذي أرسلني وأتمم عمله» (يو34:4). ولكن إذ أعطى الله الابن سلطاناً لكي يشفي ويحيي ويقيم من الموت، تحتم أن يعطيه أيضاً سلطاناً لكي يدين، لأن غفران الخطايا هو الجزء الأعظم من سلطان القاضي أو الديان. وحينما تقول الآية التي نحن بصددها وفي مستهلها: «لكي» فهي تعني «وبناء على ذلك»، أي بناء على كل ما سلف، بمعنى بناء على أن الابن يعمل عمل الآب، وبناء على أن الآب يحب الابن ويريه كل ما يعمل, وبناء على أن الابن يقيم الأموات ويعطي حياة, وبناء على أن الآب أعطى كل الدينونة للابن؛ بناء على ذلك كله، تحتم أن يكرم الناس الابن كما يكرمون الآب، وإلا فالمهانة وعدم الإكرام تصبح موجهة للآب الذي أعطاه كل ‏هذا والذي أرسله أيضاً.
ولكن واضح تصميم الآب أنه لكي يكون للابن الكرامة والمجد المساويين للآب في كل شيء, أعطاه كل الدينونة لتخضع له كل خليقة ما في السموات وما على الأرض. هنا حق للمسيح أن يقول: «أنا والآب واحد» (يو30:10‏)، وأن يخاطب الآب: «كل ما هو لي فهو لك وما هو لك فهو لي وأنا ممجداً فيهم» (يو10:17)؛ وكذلك, وعن حق وعن يقين واستحقاق، أن يدعى المسيح ابن الله، وأن يدعو المسيح الله الآب «أبي».
‏ولكن يخطىء الناس وإلى يومنا هذا في أنهم يفهمون أن المجد قد صار كله للابن، لذلك لم تعد الغالبية من المؤمنين يقدمون المجد والكرامة إلا للمسيح ولا يُذكر مجد الآب إلا في الجمل الرسمية من الصلوات المحفوظة. لذلك وجب هنا أن ننبه أن المسيح جاء ليستعلن الآب, حتى تكون صلتنا بالآب أكثر وضوحاً وتغلغلاً في الفكر والقلب بالعبادة الشخصية. والحقيقة التي يتحتم أن يفهمها كل مؤمن أنه كلما ازدادت صلتنا بالمسيح ازداد حضور الآب في القلب بصورة عملية: فإذا ضعفت صورة الله الآب في الوعي, فهذا معناه أن الوعي المسيحي ناقص جداً والإيمان يحتاج إلى مراجعة شديدة. «في ذلك اليوم تطلبون باسمي، ولست أقول لكم أني أسأل الآب من أجلكم لأن الآب نفسه يحبكم لأنكم قد أحببتموني.» (يو26:16-27)
‏ومن صميم الإيمان الحي الموصل للحياة بالفعل أن يكون إيماننا بالآب هو الموصل لإيماننا بالمسيح, لأن المسيح هو عطية الله الآب لنا: «لو كت تعلمين عطية الله ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب» (يو10:4)، ثم أن المسيح سبق وأعلن أنه: «لا يقدر أحد أن يقبل إليّ إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلنى» (يو44:6‏)، وأن كافة التلاميذ المخلصين للمسيح هم عطية الله الآب للمسيح: « كانوا لك وأعطيتهم لى» (يو6:17‏). فحتى الشكر الذي نقدمه يتحتم أن نقدمه دواماً للآب في اسم المسيح (أف20:5, كو17:3)، علماً بأن جوهر الإيمان والعبادة ينص أن المجد والكرامة متساوية تماماً بين الآب والابن والروح القدس، لذلك تحتم أن تكون العلاقة الشخصية الحية والعملية مع الحب المتبادل للثالوث الأقدس متساوية.


 
 24:5- «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ.

‏مرة أخرى يستعلن المسيح الوحدة الترابطية بين الآب والابن إنما بصورة غير ملحوظة، إذ يعتبر أن الخلاص لا يتم للانسان إلا بالآب والابن. فالإيمان الذي يربط بينهما يؤدي إلى الحياة الأبدية ويعتق من الموت الحقيقي وليس موت الجسد.
‏ونعود سريعاً إلى قول المسيح: «الحق الحق أقول لكم» التي هي الإعلان الرسمي الإلهي على مستوى القسم، والذي يتصدر حقيقة جديدة كانت مخفية وقد صار إعلانها علنا لتكون ركناً أساسياً في الإيمان المسيحي.
‏وهنا يلزم أيها القارىء العزيز أن ننتبه غاية الإنتباه، إنما في خشروع وخضوع كلي لسلطان الكلمة، لأن وراءها أعظم عطية يمكن أن ينالها الإنسان على الأرض. وأقدم لك هذه الخطوات لكي تصل إلى سر هذه الآية:
1- مطلوب بساطة قلب وفكر يشبه فكر الأطفال لقراءة وفهم أقوال المسيح وهذا القول بالذات!
2- مطلوب تصديق قلبي وفكري بهدوء وتركيز في المعنى الذي تحويه الكلمات في أقوال المسيح.
3- مطلوب معرفة أن هذه الآية تحمل وصية ضمنية أي ما يشبه الأمر الإلهي، وكل وصية أو أمر إلهي يُقبل فوراً بدون أسئلة جانبية أو طلب زيادة وضوح أو شرح. فالأمر يحمل قوته في قبوله كما هو بدون فحص. وحالما يقبل الإنسان الأمر، يبدأ الأمر يفسر نفسه ويلقن الإنسان كيف يمكن تكميله والحصول على كل ضماناته. هذا ينطبق على كل وصايا المسيح. والأمر, أي الوصية, في هذه الآية: «إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني», يمكن وضعه كالآتي: «اسمع صوتي وآمن بالذي أرسلني».
4- كل وصية للمسيح تحمل معها «وعداً», بمعنى أن كل وصية تحمل معها عطية سخية تفوق العقل, لأن كل وعود المسيح هي فائقة جدأ على الطبيعة. لا يمكن أن يعطي المسيح أمراً أي وصية دون أن يصرح ضمناً بالوعد والعطية السخية التي تتبعها حتماً. وكل وعود المسيح مطلوب تصديقها بالقلب بشدة كما هي.
والوعد الذي في هذه الوصية هو: «له حياة أبدية»، وأنه «لا يأتي إلى دينونة»، أي ينعتق من الدينونة بمغفرة خطاياه، سواء في الحاضر في الضمير أو في المستقبل في الدينونة العامة، بل قد انتقل من الموت الحقيقي (غير الجسدي أي موت الخطية) إلى الحياة (الحقيقية). هذا يتم بالتصديق الإيماني.
‏والأن مطلوب أن تقرأ الأية مرة أخرى بكل هدوء وعلى مهل وتطبق الشروط السالفة. والنتيجة ستكون في حالة النجاح في التطبيق أن يحصل الإنسان على الإحساس بأن سر الآية قد انفتح على النفس, وأن الإنسان دخل في الكلمات والكلمات دخلت في الإنسان وصار الإنسان في مواجهة المسيح والآب والحياة الآبدية!
‏أما بعد ذلك فيلزم تكميل الإيمان بدراسة الكلمة ومعرفة دقائق الإيمان وممارسة العبادة كما تفرضها الكنيسة بتدقيق.
‏«من يسمع كلامي »: السمع هنا ليس سمع الأذن الموصل إلى العقل للفهم المنطقي فحسب، بل يتضمن دخول الكلام, وهو روح, من الأذن إلى القلب ليحركه, لأن الكلمة فيها حياة. إذا تحرك القلب تحت وطأة سماع الكلمة يكون سماعاً صادقأ حقيقيا قال عنه المسيح في سفر الرؤيا: «من له أذن فليسمع ما يقوله الروح» (رؤ7:2). هنا يطلب المسيح أذناً روحية تسمع بالروح! وفي إنجيل القديس متى يقول: «وان أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا (يوحنا المعمدان) المزمع أن يأتي. من له أذنان للسمع فليسمع» (مت14:11-15). هنا يطلب الأذن التي تقبل الحقيقة وما وراءها، لأنه إن كان المعمدان هو إيليا إذن فيسوع هو المسيا الآتي!! والمسيح يطلب الأذن التي تسمع الروح وتفهم القصد وتؤمن بالوعد!!
«يسمع كلمتى »: هنا جدير بنا أن نفرق بين «يسمع صوتي» التي ستأتي في الآية القادمة (25)، و«يسمع كلمتي» في الآية (24). والفرق بينهما كبير، فصوت المسيح قوة روحية حينما يتقبله القلب المشتاق، ترن فيه رنة الحياة وتهتز أوتاره بل جدرانه، كمن يستقبل رب الحياة. أما الكلمة فهي إنجيل الخلاص، والصوت كائن في الكلمة وفي كل آية. الكلمة تمنح حقيقة ومعنى روحياً ووعداً وتأكيداً، وهي قادرة أن تغير وتجدد وتلد من جديد، أما الصوت فهو صوت شخص ابن الله الذي يعلن عن وجوده وسر الحب والحياة والعطف والحنان، وكأن الإنسان بلغ الملكوت: «خرافي تسمع صوتي.» (يو27:10)
‏ثم يلزما هنا أن نصحح الترجمة العربية، فهي ليست «يسمع كلامي» بل «يسمع كلمتي» (اللوغس) ومعناها الكلي: «يقبلني باعتباري «الكلمة» المتجسد، الابن الوحيد المحبوب ناطقاً بصوت الآب واسمه».
‏ومعروف أن المسيح بمجرد أن قال كلمته، فقد انقسم العالم إلى من يسمع والى من لا يسمع, إلى مؤمن وإلى رافض، الذي يسمع يؤمن والذي يؤمن «لا يأتي الى دينونة». وهذا اصطلاح يهودي معناه البسيط أنه لا يُطلب حضوره أمام القاضي أو الديان، بمعنى المعافاة المطلقة أو البراءة بدون محاكمة.
«ويؤمن بالذي أرسلني»: المسيح هنا يعتمد على كل ما استعلنه عن الآب. فهو يطالب كل من يعرف الآب كما استعلنه المسيح، أن يؤمن به, بمعنى أن يؤمن بما نقل الابن عنه من قول أو وعد. فمثلاً نقل المسيح عن الآب هكذا: «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الآبدية» (يو16:3). المطلوب هنا تصديق كلام الآب تصديقاً ينفذ في العقل ويخترق القلب ويملأه، فيؤمن بصدق الآب وصدق وعده: أنه أحبنا بالفعل وأنه أرسل ابنه بالفعل فدية لكى من يؤمن، فلا يهلك بل ينال الحياة الأبدية.
‏وكوننا نؤمن أن الآب كان صادقاً وأرسل ابنه ليفدينا، هذا بحد ذاته هو الإيمان بالآب، ويجعل الآب له علاقة مباشرة بنا: «الآب نفسه يحبكم لأنكم أحببتموني وآمنتم أني من عند الله خرجت» (يو27:16)، «وهم قبلوا وعلموا يقيناً أني خرجت من عندك وآمنوا أنك أنت أرسلتني.» (يو8:17)
‏انظر أيها القارىء كيف أن الإيمان بوعد الآب وصدق كلمته هو النصف المكمل للايمان بالمسيح المؤدي للحياة الأبدية والانعتاق من الدينونة.
«له حياة أبدية»: المسيح لا يسوف، فالمعنى ينصب على الحاضر = له الآن وكل أوان، لأن الحياة الأبدية غير مرتبطة بالزمن. الحياة الأبدية مثل كل عطايا الله الروحية هي فائقة على الطبيعة، هي فوق الزمان، هي لنا إذا أخذناها الآن، فتبقى معنا إلى الأبد.
«انتقل من الموت إلى الحياة»: لينتبه القارىء ولا يرفع الأفعال هنا إلى المستقبل، فهي قد تمت!! «يكون قد انتقل» هنا المسيح يصور حالة مقضياً بها، حكماً نافد المفعول، وكأنه قد صار بمعنى أن المؤمن الذي انتهى في نفسه من قضية سماع كلمة المسيح واخترقت أذنه الروحية واستقرت في القلب وأصبحت حقيقة إيمانية، وصدق كلام الآب وأمن به، فإنه يشعر في قلبه شعور الإيمان اليقيني أنه قد غُفرت خطاياه, وأنه قد سقطت عنه كل الدينونة, وكف عنه صراخ الضمير المشتكي واللائم الدائم، ويحس أنه انتقل من حالة ظلمة قلبية محيطة إلى نور الله، وفرح يدوم مع شكر لا يهدأ «كل حين على كل شيء.» (أف20:5‏)
‏وانجيل يوحنا قدير في أن يستحضر الفعل الاخروي الذي كنا نتظره وكأنه سيحدث بعد الموت، يحضره في الآنية الزمنية: الآن وفي هذه الساعة: «تأتي ساعة “وهي الآن” حين يسمع الأموات (بالخطية) صوت ابن الله والسامعون يحيون» (يو25:5). ولكن مطلوب الأذن الروحية الآن!
المسيح في إنجيل يوحنا يُلهمنا استعلاناً جديداً عن الموت والحياة!! فالموت الجسدي القديم والرعبة المحيطة به قد انتهيا إلى الأبد وحل محلها الموت الأخطر: وهو موت الخطية الذي كان منسياً أو مخفياً. و«الحياة» القديمة التي كنا ننتظرها خطأ بعد الموت فلا نكاد نذكرها أو نفهمها أو نحسها، استعلنها المسيح في الحاضر إذ أسقط عنها الزمن الكاذب فظهرت بقوة أكثر من قوة الحياة بالجسد: «فإن الحياة أُظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب واُظهرت لنا… ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً.» (ا يو 2:1و4‏)
‏بهذا المعنى الاستعلاني الجديد الذي يقدمه المسيح في هذه الآية، نفهم كيف يؤكد المسيح أن من يسمع كلامه ويؤمن بالذي أرسله يكون قد انتقل من الموت إل الحياة، إنه اختبار الحاضر: «تأتي ساعة وهي الأن»!! والانتقال من الموت إلى الحياة, بمعنى سقوط الدينونة وشروق فجر الحياة الأبدية، من شأنه أن يجعل الإنسان يشعر بكيانه في المسيح والآب ولا يعود يعيش لنفسه!! فالذي آمن به الإنسان وصدقه يُحسه ويراه ويحبه ويعيشه!!!
ولكن كون الإنسان قبل الآب والابن في كيانه وعاش الحياة الأبدية بنوع ما الآن, لا يعني أنه لا يوجد موت للجسد أو أن هذه هي كل الحياة الأبدية. فالذي نختبره ونأخذه بالإيمان الآن نأخذه, كما يقول بولس الرسول, كعربون، والعربون دائمأ يكون نسبة ضئيلة إذا قارئاه بالحصيلة الكلية: «نحن الذين قد سبق رجاؤنا في المسيح، الذي فيه أيضاً أنتم إذ سمعتم كلمة الحق إنجيل خلاصكم, الذي فيه أيضاً إذ آمنتم خُتمتم بروح الموعد القدوس, الذي هو عربون ميراثنا, لفداء المُقتنى لمدح مجده.» (أف12:1-14)
‏وعلى العموم فالمسيح في هذه الآيات لا يقدم تعليماً بقدر ما يطرح عملاً؛ فهو يحفز السامع والقارىء ليأخذ قراره, إنه نفس موقفه تجاه اليهود، يطرحه على الإنسان على مدى الدهور. إنه لا يعلمهم بل يتحداهم، يطرح الحياة والموت أمامهم ، فإما يقبلون الحياة فيه، واما يقتلونه فيبقوا في الموت إلى الأبد.

 
25:5- اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللَّهِ وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ.

«تأتي ساعة، وهي الآن»: على القارىء أن ينتبه إلى الفارق الكبير بين قول الرب في هذه الآية «تأتي ساعة وهي الآن», وبين قوله في الآية القادمة «تأتي ساعة» بدون «الأن». فالاولى تشير إلى الواقع الحاضر وهو الواقع الروحي، فهي ساعة الخلاص والوقت المقبول الذي تكلم عنه إشعياء النبي: «هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: “فِي وَقْتِ الْقُبُولِ اسْتَجَبْتُكَ وَفِي يَوْمِ الْخَلاَصِ أَعَنْتُكَ. فَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْداً لِلشَّعْبِ لإِقَامَةِ الأَرْضِ لِتَمْلِيكِ أَمْلاَكِ الْبَرَارِيِّ» (إش 8:49‏), «لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ وَبِيَوْمِ انْتِقَامٍ لإِلَهِنَا. لأُعَزِّيَ كُلَّ النَّائِحِينَ.» (إش2:61) أما الثانية التي أتت بدون «الآن» فهي تشير إلى المستقبل في نهاية الزمان وهي ساعة الدينونة.
‏القيامة بالروح قادمة كما تنتظرها الأجيال والآن هي حاضرة. المسيح يؤكد ما يؤمن به الجميع أن استعلان القيامة القادمة في نهاية الزمان هي أمر حتمي بحسب رجاء اليهود، ولكن الجديد الذى لم يكن يتوقعه أحد هو استعلان المسيح لبدء عمل هذه القوة القادرة على الإقامة من الموت الآن، وهي بعينها قوة الحياة الآبدية! هذه ‏القوة التي تُحيي الموتى قائمة وكائنة في الكلمة التي ينطقها المسيح. والكلمة التي ينطقها المسيح هي استعلان الآب والحياة الأبدية التي كانت عنده، وها هو المسيح يستعلنها بالكلمة المنطوقة والأية المعمولة: «والسامعون يحيون»!
‏هنا ينقل المسيح كل التراث اليهودي عن المستقبل الذهبي البعيد والمجهول والذي فيه تسود إسرائيل على العالمين والذي عبرت عنه الأنبياء «بذلك اليوم»، وعن الأمال العريضة المدخرة فيه، ينقله فجأة إلى هذه الساعة الأن: «فقال لى ؤتنبأ عن هذه العظام وقل لها أيتها العظام اليابسة اسمعى كلمة الرب», «‏هكذا قال السيد الرب لهذه العظام، هأنذا أدخل فيك روحأ فتحيون … وتعلموا أني أنا الرب»، «ثم قال ل يا ابن آدم (ابن الانسان) هذه العظام هي كل بيت إسرائيل, ها هم يقولول يبست عظامنا, وهلك رجاؤنا, قد انقطعنا (بسبب الخطية وغياب الله)؛ لذلك تنبأ وقل لهم: هكذا قال السيد الرب هأنذا أفتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم يا شعبي… وأجعل روحي فيكم فتحيون… ويكون لجميعهم راع واحد.» (حزقيال 37)
‏واضح هنا أن الأنين ويبس العظام وانقطاع الرجاء على لسان النبي بالروح يعبر أقوى تعبير عن حالة إسرائيل الروحية أيام المسيح.
‏أما قول الله على لسان حزقيال: «أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب», فهي هي قول الرب بعينه: «تأتي ساعة حين يسمع الأموات صوت ابن الله».
‏وكلمة «الأموات» هنا يلزم أن نفهمها على أنها موتى الخطية أو عدم الإيمان بالمسيح، لأن «موتى الجسد سيذكرهم المسيح بالتحقيق مع صفة مضاعفة ليفرقهم عن موتى الخطية بقوله: «تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته فيخرج …»، والفرق في الذين يسمعون بين الآيتين، هو أن سامعي صوت المسيح في الآية التي نحن بصددها هم موتى الخطية ولا يذكر هنا «جميع», لأن فيهم من يسمع ويستجيب وفيهم من لا يسمع ولا يستجيب, حيث تأتي كلمة «السمع» في اللغة اليونانية بمعنى السمع والقبول؛ أما موتى الآية القادمة فيذكر فيها «الجميع» لأن جميع الموتى سوف يقومون للدينونة بلا تفريق.
‏لقد سبق وأعلن المسيح في الأصحاح الرابع عن مجيء هذه الساعة المنتظرة منذ الدهور، ساعة ما بعد الزمن، ساعة الأخرويات، أي أزمنة الحياة الأبدية التي ليست أزمنة الجسديات، حينما قال: ‏«تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق، لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين» (يو23:4). هنا يصف المسيح جوهر العبادة اللائقة بالله، لأن الله روح والساجدون يتحتم أن يسجدوا له بالروح. الآن نفهم سر هذه الآية التي مرت علينا، فمعناها ينحصر في أنه لا عبادة مقبولة أو منظورة أو مسموعة من الله إلأ عبادة القائمين من الأموات الذين انتقلوا من الموت إلى الحياة، أي الذين سمعوا صوت ابن الله، بمعنى قبوله ليجلس الابن على عرش القلب ويدبر ويسود، والذين آمنوا بالذي أرسله أي آمنوا بالآب كونه أرسل ابنه مبذولاً على الصليب حتى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية. فالإيمان بالآب مٌستعلن عمله وقوته في إرسالية الابن. والذين أقامهم المسيح من الموت «الآن»» هم الذين غُفرت خطاياهم، فسقطت عنهم الديونة وانتقلوا من الموت إلى الحياة، فدخلوا في بر المسيح ليتبرروا أمام الله كأبناء بلا لوم. والقديس بولس يتكلم عن موتى الخطية بوضوح: «وأنتم إذ كنتم أمواتا بالذنوب والخطايا…. ونحن أموات بالخطايا, أحيانا مع المسيح.» (أف1:2و5)
‏هؤلاء هم الساجدون بالروح الذين يطلبهم الله ودفع ثمن حياتهم الجديدة ببذل ابنه الوحيد. أما كيف يسجدون «بالروح» فهذا عرفته الكنيسة جيدا في يوم الخمين ومارسته بقوة، حتى إن صلاة التلاميذ كانت تزعزع المكان: «ولما صلوا تزعزع المكان الذي كانوا مجتمعين فيه وامتلأ الجميع من الروح القدس.» (أع31:4)
لقد تحقق قول الرب ولا يزال من جهة الساجدين بالروح ومن جهة الذين يسمعون بالروح! «فتأتي ساعة وهي الأن»، ولا زالت إلى «الآن» حاضرة في عمق الزمن وهي ليست من الزمن في شيء!
‏ثم عودة إلى «الحق الحق أقول لكم» التي استهل بها المسيح هذه الآية. فالحقيقة الإيمانية الجديدة التي يعلنها المسيح والمحسوبة أنها ركن ركين في الإيمان المسيحي، هي أن الإنسان الذي مات بالخطية وانطفأت جذوة روحه تحت سلطانها المهلك، مدعو للحياة من جديد. كلمة المسيح فيها حياته وهذه هي «القيامة الاولى» التي عبر عنها الروح في سفر الرؤيا: «مبارك ومقدس من له نصيب في القيامة الاولى، هؤلاء ليس للموت الثاني (الدينونة) سلطان عليهم.» (رؤ6:20‏)
«يسمع صوت ابن الله»: أنظر المقارنة بين «يسمع كلامي» و «يسمع صوتي» في شرح الآية السابقة.
«ابن الله»: هذه واحدة من ثلاث مرات في إنجيل يوحنا يذكر المسيح فيها أنه «ابن الله» بوضوح وعلانية، أما المرتان الأخريان فهما: «فالَّذِي قَدَّسَهُ الآبُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى الْعَالَمِ أَتَقُولُونَ لَهُ: إِنَّكَ تُجَدِّفُ لأَنِّي قُلْتُ إِنِّي ابْنُ اللَّهِ؟» (يو36:10)، «فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ: «هَذَا الْمَرَضُ لَيْسَ لِلْمَوْتِ بَلْ لأَجْلِ مَجْدِ اللَّهِ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ اللَّهِ بِهِ». (يو4:11). وهذه الصفة الجوهرية يتمسك بها القديس يوحنا سواء من فم المسيح أو من البراهين العملية والاستعلانية التي تيقن منها، وجعل من هذه الصفة ركيزة الإيمان الاولى لإنجيله: «لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله.» (يو31:21)


 26:5- لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ كَذَلِكَ أَعْطَى الابن أَيْضاً أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ.

الكلام هنا هو في صميم الطبيعة الإلهية. والمسيح يحدد موقعه من هذه الطبيعة بالنسبة للآب. ولكن لا يمكن الكلام عن الطبيعة الإلهية دون التعبير عن الذات الإلهية.
‏الطبيعة الإلهية يشترك فيها الآب والابن على السواء، فالطبيعة الإلهية للآب هي نفسها الطبيعة الإلهية للابن. «والحياة» هي من صميم خواص الطبيعة الإلهية.
‏ولكن الحياة في الله ليست ممنوحة ولكن هي خاصية الذات الإلهية، فكيان الله حي بذاته. «أنا الكائن بذاتي». والذات الإلهية واحدة، هي أب وابن كل منهما قائم في الذات الإلهية الواحدة. فالآب له بالضرورة الحتمية حياة في ذاته الإلهية، والابن بنفس الضرورة الحتمية له حياة في ذاته الإلهية.
‏الآية هنا لا تفيد على الإطلاق أن الآب «أعطى» حياة للابن في ذاته، هذا محال؟ ولكن الآب أعطى الابن «أن يكون» له حياة في ذاته كما الآب له حياة في ذاته، أي أن هذا هو حال كيان الابوة والبنوة!
‏فإذا كانت طبيعة الحياة الذاتية هي في الابن كما في الآب، فلماذا أضاف المسيح القول أن الآب أعطى الابن أن يكون له هذا؟ واضح أن السبب هو التمييز بين الآب والابن في الذات ‏الإلهية.
‏وإليك قول ذهبي الفم في هذا الموضوع: [أترى كيف أن المسيح يعلن التعادل الكامل بيهما إلا في نقطة واحدة وهي أنه: واحد هو الآب، وواحد هو الابن, لأن بقوله «قد أعطى» يوضح هذا التمايز، ولكنه يعلن أن كل شيء ما عدا هذا متساو تماما. وعليه فمن الواضح أن الابن يعمل كل شيء بسلطان وقوة مثل الآب تماماً. وأن الابن لا يأخذ قوة من أي مصدر كان لأنه له حياة كما الآب له حياة]



27:5- وَأَعْطَاهُ سُلْطَاناً أَنْ يَدِينَ أَيْضاً لأَنَّهُ ابْنُ الإِنْسَانِ.

‏في كل الامتيازات المذكورة في التسع خطوات التي أعلن المسيح فيها لاهوته، يقفز هذا الامتياز وحده ليختص ببشرية المسيح. فهنا امتياز الديونة أخذه المسيح باعتباره «ابن إنسان» حسب القراءة اليوناية الصحيحة بدون التعريف بـ «الـ», وذلك يعني أن المسيح يتبوأ مركز الدينونة العالى ليس بصفته ممثلاً للبشرية، والا لزم أن يكون «ابن الإنسان»، ولكن المذكور هنا هو «ابن إنسان»، فرفع «الـ» التعريف توضح أن اصطلاح «ابن الإنسان» لا يفيد شخص المسيح بل الجنس أي أنه يدين كإنسان! وهذا المعنى يحمل منتهى العدالة الإلهية إذ جعل الديان الذي يقضي لبنى الإنسان هو «ابن الإنسان» أي من جنس من يقضي لهم: هذا ما يقرره بولس الرسول في سفر العبرانيين بوضوح: «من ثم كان يبغي أن يشبه إخوته في كل شيء لكي يكون رحيماً ورئيس كهنة أميناً فيما لله حتى يٌكفر عن خطايا الشعب. لأنه فيما هو قد تألم مُجرباً يقدر أن يعين المجربين… لأن ليس لنا رئيس كهنة غير قادر أن يرثي لضعفاتنا بل مُجرب في كل شيء مثلنا بلا خطية. فلنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة عوناً في حينه (نجد نعمة للمعونة في وقت الحاجة)» (عب17:2-18, 15:4-16). لذلك أصبح من خصائص المسيح العجيبة التي تميزه كقاض للبشرية أنه يشفع في المذنبين! «وأما هذا فمن أجل أنه يبقى إلى الأبد له كهنوت لا يزول (بصفته مقدم أقدس وأعظم ذبيحة حية على عرش الله)، فمن ثم يقدر أن يخلص أيضاً إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله إذ هو حي في كل حين يشفع فيهم» (عب24:7-25), أي أن ديان الناس هو بعينه محامي البشرية الأول, وقد جمع بولس الرسول هاتين الصفتين معاً هكذا: «من هو الذي يدين؟ المسيح، الذي مات بل بالحري قام أيضاً الذي هو أيضاً عن يمين الله، الذي أيضاً يشفع فينا» (رو34:8- ترجمة مصححة من اليونانية).
‏إذن، خطير حقاً أن نفقد لأنفسنا وظيفة الشفاعة هذه برفضنا المسيح الشفيع فلا يبقى لنا منه إلا الدينونة!!
واستخدام المسيح للفظ «ابن إنسان» هنا ينبهنا مباشرة إلى نبوة دانيال: «كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إل القديم الايام (الآب) فقربوه قدامه فأُعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبد له كل الشعوب والأممم والألسنة، سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض» (دا 13:7-14). وبولس الرسول أدخل في اللاهوت صفة المسيح «الإنسان» بقوله: «فإنه إذ الموت بإنسان بإنسان أيضأ قيامة الأموات» (اكو21:15)؛ موضحاً بذلك الجنس البشري الذي يتجنس به المسيح ليكمل به عمل الفداء!
‏وهكذا يتضح لنا أن في قول المسيح: «وأعطاه أن يدين أيضاً لأنه ابن إنسان»، تلميحاً واضحأ لنبوة دانيال التي يحاول المسيح فيها أن ينبه ذهن اليهود إليها لينتبهوا إلى شخصه، ولكن شكراً لله، فالذي عثر فيه اليهود صار لنا دليل حياة ومرساة إيمان.


 28:5و29 لاَ تَتَعَجَّبُوا مِنْ هَذَا فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ. فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ والَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ.

‏لقد طرح المسيح أمامهم في الأية (25) درجة أولى من درجات السمع والحياة: «تأتي ساعة وهي الأن حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون». هنا سماع صوت المسيح، والإنسان لا يزال يعيش، ولو أنه ميت بالخطية في الحقيقة! وهنا السماع هو في درجته الاختيارية، كذلك الحياة التي ينالها من جراء غفران الخطية هي حياة جديدة في صميم الحياة القديمة، حياة حقيقية بالروح في صميم حياة الجسد الزائلة.
‏ففي هذه القوة التي للرب في إقامة موتى الخطية لقبول حياة أبدية، يقول الرب: »لا تتعجبوا، لأنه تأتي الساعة الأخيرة, ليست الآن, تأتي في وقتها المحدد، فيسمع جميع الموتى (موتى القبور). هنا قيامتان، لأنه في الحقيقة لو تمشينا مع لاهوت القديس يوحنا وفهمه للموت والحياة والقيامة، يكون موتى القبور هم إما الذين فاتتهم القيامة الاولى, التوبة والغفران والمعمودية, ولم يسمعوا لصوت المسيح ولا اقتنعوا بندائه للتوبة ولا رجعوا عن سيرة الخطية، بل استمروا في غيهم في طريق الموت الروحي وضاع عليهم زمن الخلاص، واحتوت أجسادهم القبور؛ هؤلاء يسمعون صوت المسيح, ليس المخلص بعد, بل الديان، وهو الصوت الذي يدعوهم لتقديم حساب الحياة ويطالبهم بثمن دمه الذي سفكه من أجلهم فازدروا به، ويطالبهم بثمر الإنجيل ‏الذي طرحه أمامهم بين أيديهم، فطرحوه تحت أرجلهم وداسوا على الكلمة وأهانوا الروح. هؤلاء لهم قيامة واحدة أو صحوة يصحونها على الضمير المعذب حيث يواجهون الدينونة بل ويقيمون فيها؛ أما القيامة الأخرى، فهي للذين أحبوا النور وكانت أعمالهم بالله معمولة، فهؤلاء لهم القيامة الثانية في ملكوت ابن الله حيث ميراث المجد. والمسيح يخاطب اليهود أن هنا لهم أن يتعجبوا كما يشاءون، لأن ما سبق وقاله بخصوص القيامة الروحية الاول لموتى الخطية، لهم أن يقبلوا به أولا يقبلوا, أما إقامته الجبرية لكل ذي جسد فهو أمر حتمي موف يخضعون له صاغرين.
‏ولو يلاحظ القارىء أن الرب سبق وطرح أمام نيقوديموس دعوته نفسها: «لا تتعجب أني قلت لك ينبغي أن تولدوا من فوق» (يو7:3). فلهذا قال له: «لا تتعجب أنه ينبغي أن تولد من جديد»، ولهؤلاء قال: لا تتعجبوا أنكم سوف تقومون لدينونة عتيدة. فسماع الأذن اليهودية المنغمسة في الماديات والدنيويات صعب عليها أن تقبل التجديد لتحيا للروح. وأصعب من ذلك أن تصدق أنها ستدان: والكلام لنا أيضاً…
‏«فعلوا الصالحا وعملوا السيئات»: هو التعبير العملي عن الإيمان وعدم الإيمان, قبول النور ورفض النور, محبة الحق وبغضة الحق، فالذي أمن بالمسيح قد صار له عمل صالح بالدرجة الاولى: «فقالوا له: ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله. أجاب يسوع وقال لهم: هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله» (يو28:6-29). لأن الذي آمن بالمسيح يعني على المستوى الإيماني الحقيقي أنه قد صار يعيش للمسيح والمسيح يحيا فيه، وصار الروح القدس يعمل معه أعمال الله الصالحة. ويستحيل لأحد أن يؤمن بالمسيح ولا يكون له عمل صالح.
‏أما الذي لا يؤمن، فلا يملك الصالح, الله, الذي يعمله, أو يعمل لحسابه, ولا يعرف ما هو الصلاح الذي يطلبه. والشجرة تٌعرف من ثمارها (مت19:7-20). ولو تلاحظ تجد أن المسيح في الآية 25 ‏والآية 28 ‏أوضح أنه صاحب دينونتين: الاولى, دينونة خلاص, للضمير ليحييه ويقيمه من موت الخطية, والدينونة الثانية للحكم على من قبل ومن رفض. فالذي قبل دينونة الضمير الاولى ينجو من الدينونة الدائمة اللائمة لأنه يكون قد قبل الحياة الأبدية ويعيشها. والذي رفض دينونة الضمير يكون قد ضاعت عليه فرصة التوبة وفرصة الحياة أيضاً، ولا تبقى له إلا دينونة الندم.
الإيمان والأعمال: كما تقدمه الكنيسة سواء بتعليم القديس يوحنا الرسول، أو بتعاليم الرسل الآخرين.
‏+ توجد دينونة «للايمان» قاطعة: «الذي يؤمن به لا يدان والذي لا يؤمن به قد دين لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد.» (يو18:3)
‏ويشرحها القديس يوحنا في رسالته هكذا: «إن كنا نقبل شهادة الناس فشهادة الله أعظم، لأن هذه هي شهادة الله التي قد شهد بها عن ابنه. من يؤمن بابن الله، فعنده الشهادة في نفسه. من لا يصدق الله، فقد جعله كاذباً لأنه لم يؤمن بالشهادة التي قد شهد بها الله عن ابنه. وهذه هى الشهادة (قوة الشهادة وصدقها) أن الله أعطانا حياة أبدية، وهذه الحياة هي في ابنه, من له ‏الابن، فله الحياة؛ ومن ليس له ابن الله، فليس له الحياة.»(ايو9:5-12)
‏وهذا يعني به القديس يوحنا أن الإيمان بالمسيح له شهادة حاضرة، وهي الحياة الأبدية التي تكون قد انسكبت في قلب من آمن بالمسيح، وصار يحيا في ملء نعمة الروح. فمن له هذه الحياة تكون له الشهادة في نفسه ومن الآخرين، أنه مؤمن حقاً بالمسيح، ويكون هذا بحد ذاته برهان رفع الدينونة عنه إلى الأبد. وذلك بعكس من ليس له إيمان ولا شهادة. فإن الدينونة تظل تلاحقه الأن بسبب عدم الإيمان, وفي النهاية بسبب سوء الأعمال!!
2- وتوجد دينونة «للأعمال» قاطعة: «ونحن نعلم أن دينونة الله هي حسب الحق على الذين يفعلون مثل هذه. أتظن هذا أيها الإنسان الذي تدين الذين يفعلون مثل هذه وأنت تفعلها أنك تنجو من دينونة الله. أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة. ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تدخر لنفسك غضبأ في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة, الذي سيجازي كل واحد حسب «أعماله». أما الذين بصبر في «العمل الصالح» يطلبون المجد والكرامة والبقاء، «فبالحياة الأبدية». وأما الذين هم من أهل التحزب ولا يطاوعون للحق بل يطاوعون للإثم, فسخط وغضب, شدة وضيق على كل نفس إنسان يفعل الشر… ومجد وكرامة وسلام لكل من يفعل الصلاح.» (رو2:2-10)
ويعود القديس بولس الرسول يؤكد حتمية وقوفنا أمام الديان: «لأنه لا بد أننا جيعاً نُظهر أمام كرسي المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيراً كان أم شراً.» (2كو10:5)
بطرس الرسول أيضاً يشترك في هذا التأكيد عينه: «الذين سوف يعطون حساباً للذي هو على استعداد أن يدين الأحياء والأموات.»(1بط5:4 ‏)
وبولس الرسول يحدد الدينونة بيوم معين يصفه للوثنيين ببساطة هكذا: «فالله الآن يأمر جيع الناس في كل مكان أن يتوبوا متغاضياً عن أزمنة الجهل. لأنه أقام يوماً هو فيه مزمع أن يدين المسكونة بالعدل برجل (إنسان) قد عينه مُقدماً للجميع إيماناً إذ أقامه من ا‏لأموات» (أع30:17-31)
ويحدد بولس الرسول هذا اليوم الذي للدينونة يوم ظهور المسيح هكذا: «أنا أناشدك إذأ أمام الله والرب يسوع المسيح العتيد أن يدين الأحياء والأموات عند ظهوره وملكوته…» (2تى1:4)
علماً بأن عقيدة الإيمان بدينونة الأعمال مع القيامة هي راسخة في إيمان الكنيسة منذ أيام الرسل: «قيامة الأموات والدينونة الأبدية.» ‏(عب2:6‏)
كما استقر الإيمان الأول في الكنيسة بأن المسيح كــ «رب» هو الذي سيضطلع بالدينونة وذلك من فم المسيح نفسه: «هذا أقامه الله في اليوم الثالث؟ وأعطى أن يصير ظاهراً ليس لجميع الشعب بل لشهود سبق الله فانتخبهم، لنا نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الأموات. وأوصانا أن نكرز للشعب ونشهد بأن هذا هو المعين من الله ديانا للأحياء والأموات.» (أع40:10-42)
‏والقديس يوحنا يقدم نفس التعاليم موضحاً دينونة الأحياء بأنها فرصة التوبة وإعطاء الحياة الأبدية المعتبرة القيامة الاولى في الآية (25:5‏), وموضحاً دينونة الأموات معبراً عنها «بالذين في القبور». إنها الدينونة التي بلا خلاص ولا توبة حيث الحكم الأخير، فهي قيامة يتميز فيها الذين قبلوا الحياة الأبدية بالإيمان عن الذين ضاعت عليهم فرصة الحياة برفضهم للايمان .
‏وقد مهد القديس يوحنا لسلطان المسيح على الأحياء والأموات في الآية (21‏) بقوله: «لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويُحيي، كذلك الابن أيضاً يُحيي من يشاء». هنا سلطان المسيح واضح في قوة القيامة من الأموات التي تلازمها الدينونة، وفي قوة إعطاء الحياة لمن يشاء التي تختص بدعوة أموات الخطية للقيامة الاولى لنوال الحياة الأبدية من الآن.
‏على أن القديس يوحنا يزيد رسالة المسيح الأساسية وضوحا بالنسبة للمختارين سواء في حياتهم الآن أو في قيامتهم من الموت هكذا: «وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني أن كل ما أعطاني لا أُتلف منه شيئاً بل أقيمه في اليوم الأخير. لأن هذه مشيئة الذي أرسلني أن كل من يرى الابن (رؤية إيمان بالروح) ويؤمن به تكون له حياة أبدية (من الآن) وأنا أقيمه في اليوم الأخير. (يو39:6-40‏)
‏ويزيد المسيح نفسه تأكيدا لقوة الحياة والقيامة التي ينالها من يؤمن به، وذلك بفاعلية سر التناول من جسده ودمه الذي يرسخ فيه قوة الحياة والقيامة من الأموات, وهو المسمى عند الآباء «ترياق عدم الموت», هكذا: «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير.» (يو54:6‏)
‏لهذا ربطت الكنيسة بحسم بين سر الإفخارستيا (المؤسس على الموت والقيامة) وسر غفران الخطايا، باعتبار أن غفران الخطايا هو التمهيد الحتمي للانعتاق من الدينونة وبالتالي لنوال الحياة الأبدية في القيامة.
‏وإذ كان القديس يوحنا لم يحدد «قيامة الأجساد» بالنص إلا أنه لمح لها بقوله: «الذين في القبور» حيث القبور تعني «غرفة حفظ الاجساد» في المنطق اللغوي للكلمة، وقد اختارها القديس يوحنا عن الكلمة الأخرى ( ) التي تعني «مكان سكنى الموتى»، وهو تعبير غير واقعي وغير روحي. ولكن الأجساد سواء في مفهوم القديس بولس أو القديس يوحنا ليست مادية وإن كانت عل صورتها: «هكذا أيضاً قيامة الأموات يزرع في فساد، ويُقام في عدم فساد؛ يُزرع في هوان، ويُقام في مجد؛ يُزرع في ضعف، ويُقام في قوة؛ يُزرع جسماً حيوانياً ويُقام جسما روحانياً. يوجد جسم حيواني، ويوجد جسم روحاني.» (اكو42:15-44)
‏ولكن واضح وبالنهاية أن القديس يوحنا صب كل اهتمامه في كل هذه الآيات على قدرة المسيح الحالية في إعطاء حياة أبدية لموتى الخطية؛ ولهؤلاء أسس عن قصد واهتمام بالغ سر الجسد والدم ليسند فعل إيمانهم بهذا العمل السري الفائق عن التعبير. لذلك، وفي ختام هذه الآيات، نود لو نلفت النظر لخطورة التأكد من رسوخ فعل الإيمان بالمسيح الذي يكون له شهادة في الإنسان حسب تعبير القديس يوحنا، وهذه الشهادة هي في الإحساس بالحياة الأبدية وفعلها الفائق لجعل الحياة تسمو فوق الطبيعة البشرية ولها برهانها الصادق: نصرة وفرح دائم مع شهادة.
‏ولا ينخدع الإنسان المسيحي بأن له إيماناً بالمسيح وهو لا يعيش هذه الحياة، لأنه سينخدع حتماً وبالتالي بأن له أعمالاً صالحة تظهر في عينه أنها صالحة وهي ليست كذلك في عين الله. ويكفي ليقظة الضمير أن نضع هذه الآية أمام كل قارىء ليلتفت إلى نفسه: «أنا عارف أعمالك, أن لك اسماً أنك حي وأنت ميت. كن ساهراً وشددد ما بقي الذي هو عتيد أن يموت لأني لم أجد أعمالك كاملة أمام الله. فاذكر كيف أخذت، وسمعت، واحفظ وتب فإني إن لم تسهر أقدم عليك كلص ولا تعلم أية ساعة أقدم عليك» (رؤ1:3-3). وهذا نموذج من دينونة المسيح للضمير في الحياة الحاضرة. وطوبى لمن يقع تحت هذا الصوت…



30:5- أَنَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئاً. كَمَا أَسْمَعُ أَدِينُ وَدَيْنُونَتِي عَادِلَةٌ لأَنِّي لاَ أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي.

«أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً»: ‏المسيح ينتقل هنا من التكلم بصيغة «الابن»» في الآيات السالفة إلى التكلم بصفته الأنا( ). نرجو الرجوع لشرح الآية (19‏) لأن فيها الإفادة كاملة عن عمق هذا المعنى ومغزاه اللاهوتي.
«كما أسمع أدين»: إذا لم نحسن فهم معنى هذا القول سينحرف بنا المعنى إلى مفهوم خاطىء سقط فيه كثيرون ممن تعرضوا لشرح هذه الآية, قدامى ومحدثين, إذ قالوا باعتماد الابن اعتماداً كاملأ على الآب. ولكن واقع التساوي المطلق بين الابن والآب لا يجيز قول الاعتماد, فالحقيقة أن الآب يدين والابن ينفذ الدينونة، والعلاقة بين الفعل غير المنظور لنا عند الآب, يُدين, والفعل المُنفذ المنظور لنا عند الابن كمنفذ للدينونة هما فعل واحد ليس بينها أعلى وأدنى أو واحد منهما أصلي والثاني مقلد, أو الأول أمر والثاني طاعة عمياء. ولكن الفارة الوحيد هو أن الأول غير منظور, عند الآب؛ والثاني أصبح منظوراً بالابن. ويلزمنا أن نزيد الأمر هنا وضوحاً، فكل فعل وفكر ومشيئة وتدبير عند الآب يقوم الابن أولاً باستعلانه للمنظور، ثانياً بتنفيذه عملياً في واقع الإنسان. وبين الفعل وتنفيذه والفكر واستعلانه والمشيئة وتكميلها والتدبير وإخراجه لحيز الوجود المنظور تساو كامل ومطلق في القوة والحكمة والمعرفة. لذلك لا يصح ولا يجوز أن نقول إن الابن يعتمد في عمله أو كلامه أو تعليمه على الآب، وإلا لزم أن نقول بالتال أن الآب يعتمد على الابن بنفس المقدار، لأنه إن كان الابن يعتمد على الآب في معرفته لكيفية العمل والقول, فالآب يعتمد على الابن في كيفية التنفيذ الدقيق الكامل. ولكن الأصح أن لا نقول بالإعتماد أحدها على الآخر, بل نقول بالإتفاق المطلق والتساوي المطلق بين عمل الآب وعمل الابن، فالمشيئة واحدة والعمل واحد والفكر واحد والكلمة واحدة عند الآب والابن، ولكنها غير منظورة لنا عند الآب ومنظورة لنا بالابن. فالابن يرى ما عند الآب وينفذ أمامنا ما يراه. والابن يسمع ما عند الآب ويقول لنا ما يسمعه. والابن يعرف مشيئة الآب ويكمل المشيئة كما هي. وهنا يتحتم أن نفهم أن «القدرة» على تنفيذ كل ما عند الآب تنفيذاً كاملآ تماما يستلزم نفس «القدرة» التي عند الآب، وإلا ما استطاع المسيح أن يُخرج إل حيز الوجود والعمل كل ما يريده الآب ويشاءه!! وهذه هي رسالة الابن, بحسب قدرته المساوية للآب, أن يعرفنا بالآب ويستعلن لنا كل ما عند الآب, لأنه لا توجد خليقة كائنة ما كانت, سواء رؤساء ملائكة أو ملائكة أو أنبياء، يستطيعون أن يعرفوا أو يروا الله كما هو, أو يدركوا مشيئته كما هي, أو يسمعوا صوته, أو يفهموا حكمته, سوى الابن الوحيد. لذلك يقول المسيح نفسه: «الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر.» (يو18:1)
«دينونتي عادلة»: قالوا إن العدالة هنا يستمدها المسيح من الله. ولكن لو صح هذا لفقدنا وظيفة المسيح في حد ذاتها. لأنه إن كان الله هو الذي سيدين بدون المسيح فمن سيخلص؟ المسيح هنا له دور فقال في الدينونة، ليس معنا بل مع الله أبيه أولاً. فقد تبوأ مركزاً جديداً أمام الله الدان من واقع تجسده وموته الكفاري، وهو دور الشفيع! وشفاعة المسيح ليست كلامية بل كدافع ديون! فقد استطاع المسيح بتقديم ذبيحة نفسه من أجل الخطاة أن يطالب باستحقاق براءة موكليه بمقتضى الدم المسفوك المتكلم والمُطالب بأقصى حدود الرحمة أمام قضاء الله على العصاة. والآب ارتضى بالمسيح مصالحاً, ‏وقد وكله رسمياً أن يصالح له العالم بدم صليبه. فبعد المداولة، يسمع المسيح من الآب الحكم وينطقه. ولكن ما أعدلها دينونة، تلك التي تعتمد في نطقها على شفاعة الدم المسفوك.
«لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني»: مشيئة المسيح هي، كلياً وجزئياً، أن يصنع مشيئة الآب: «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله» (يو34:4). وأما ما هي مشيئة الآب فهي هكذا: «هذه مشيئة الآب الذي أرسلني أن كل ما أعطاني لا يُفقد منه شيئاً، بل أقيمه في اليوم الأخير. لأن هذه هي مشيئة الذي أرسلني أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير» (يو39:6-40‏). فإن كانت مشيئة الآب هكذا تنسجم انسجاماً بديعا مح إرادة الابن الذي أخذ على عاتقه تنفيذها بكل قدرته وقوته، ثم إن كانت مشيئة الآب هكذا حفظ أولاده من الشرير وهذا كان هو هو عمل الابن الوحيد، فقد تطابقت مشيئة الآب على عمل الابن، والنتيجة هي ارتفاع عدالة الدينونة بعمل الابن.
‏ولكن هذه العدالة المعتمدة أساساً على شفاعة دم المسيح، هي بدورها شديدة الوطأة على الرافضين. صحيح أن اليهود الذين يخاطبهم المسيح هنا كان فكرهم خاليأ من موضوع الدم والشفاعة، ولكن لم يكن فكر المسيح يخلو منه ولا فكر كاتب الإنجيل. فدينونة المسيح العتيدة تستمد قوتها بل رحمتها من قضية الصليب وهكذا الموت التعسفي الذي جازه وحيثيات الحكم الذي اتحذه المسيح أساساً لتبرئة الخطاة: «من سيشتكي على مختاري الله؟ الله هو الذي يبرر، من هو الذي يدين؟ المسيح الذي مات بل بالحري قام أيضاً، الذي هو أيضاً عن يمين الله (تعادل القصاة) الذي أيضاً يشفع فينا.» (رو33:8-34‏)
القسم الثالث من الأصحاح الخامس
الشهادة للابن: من المعمدان, من الآب, من الأعمال, من الأسفار
(31:5-41)
المسيح يدعم مركزه الإلهي كديان بالشهادة أمام اليهود، ‏والقديس يوحنا ينتفع من وراء ذلك بتدعيم الإيمان بالمسيح لدى المؤمنين .

31:5- «إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقّاً.

‏يُلاحظ في إنجيل يوحنا أن الشهادة تأتي دائماً مدعمة بالدينونة. لقد كانت الآيات السالفة مرتكزة عل محور الدينونة. والآن ينتقل المسيح من استعلان عمله كديان إلى تدعيم هذا العمل الإلهي بالشهادة. وبادىء ذي بدء، فالمسيح كما سنرى لا يقبل الشهادة من إنسان (34:5) تماماً كما أنه لا يقبل مجداً من إنسان (41:5).
‏هذا له معنى لدى المسيح، سواء طرحه أمام اليهود أو طرحناه نحن على مستوى اللاهوت، لأن الذي يعتمد على شهادة الناس يحتاج إلى الناس ويعتمد عليهم، وهذا لا يستقيم عند المسيح ولا يستقيم لاهوتياً.
‏ولكن أيضاً إن كان المسيح يشهد لنفسه أمام اليهود، فهو يضع نفسه تحت معايير أحكامهم بالقبول أو الرفض، فيظهر كمن يبحث عن أو يطلب استحسانهم أو موافقتهم، وكأنه يطب مجداً من الناس لنفسه.
‏لذلك، فلكي يكون المسيح حرا من الناس, وهو بالحق كذلك, رفض أيضاً أن يشهد لنفسه أمامهم، مع أنه له الحق أن يشهد لنفسه (14:8‏) وقد أعطى المبرر لذلك في حينه.
‏وهكذا رفض المسيح أن يقبل شهادة من أحد, كما رفض أن يشهد لنفسه، ولم يحسب مجداً من الناس أمراً يهمه!
‏أما قول المسيح «إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقاً»، فهذا يعني به أنها ليست حقاً لدى اليهود وحسب معاييرهم, ناموسية كانت أو عرفية. لأننا نعلم بحسب الحق أن شهادة المسيح هي الحق بعينه.
‏ولكن المسيح هنا يقطع خط الرجعة على المتشككين والرافضين, فلا يعطيهم فرصة للمعارضة. ولا يسمح لهم أن يظنوا عنه أنه يطلب أن يتمجد في أعينهم! أي في عين بشر. وهنا يظهر بوضوح حذر المسيح من أن يجعل خط استعلانه الإلهي سواء للآب أو لنفسه أن يتداخل فيما هو بشري. فالحق الإلهي كالمجد الإلهي، ليس في عوز ما إلى ما هو بشري قط.
‏ولكي نتأكد من هذا الأسلوب الإلهي الذي يسير عليه المسيح، يمكن أن نسمعه وهو يؤكد ذلك من وجهة نظره الحرة هكذا: «فقال له الفريسيون أنت تشهد لنفسك، شهادتك ليست حقاً», بحسب العرف والناموس اليهودي الإنساني, فكان رد المسيح مُفحماً هكذا: «أجاب يسوع وقال لهم وان كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق، لأني أعلم من أين أتيت والى أين أذهب, وأما أنتم فلا تعلمون من أين آتي ولا إلى أين أذهب» (13:8-14). هنا المسيح يقول ما معناه: وإن كنت أرفض أن أشهد لنفسي بحسب معيار العالم الذي ينظر إلى من يشهد لنفسه على أنه يطلب مجد نفسه، إلا أني اشهد لنفسي ولكن ليس بحسب معيار العالم الذي لا يعرفني ولا يعرف المجد الذي أتيت منه ولا المجد الذي أنا ذاهب إليه، بل اشهد لنفسي بحسب معرفتي لذاتي من أين أنا وإلى أين أنا!!



32:5- الَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَقٌّ.

‏لقد أخطأ من قال إن المسيح يتكلم هنا عن شهادة يوحنا المعمدان. فشهادة المعمدان, كما سيذكرها المسيح بعد ذلك, وصفها المسيح بأنها كانت مؤقتة وجاءت وكأنها مجاملة أو لتسوية الوضع أمام الفريسيين الذين سألوه. في حين أن المسيح يتكلم هنا عن الشهادة التي تقيم حجته أنه الديان!! والتي عليها يبني المسيح أصالة وجوده ورسالته وتعاليمه! وسيجيء ذكرها بالتفصيل بعد ذلك سواء في الأية (37‏) أو في الأصحاح 18:8.
‏كذلك يلاحظ أن الفعل «يشهد» يجيء في زمن المضارع الدائم، وهذا لا يستقيم إطلاقا في حالة شهادة إنسان مثل المعمدان، ولكن يطابق الشهادة من الله.
«وأنا أعلم»: هنا يأتي الفعل «أعلم» الذي يفيد المعرفة الكاملة والمطلقة وهي تختلف عن المعرفة التي تأتي ‏بالبحث والاختبار ( ) والتي جاءت بعد ذلك في الآية (42). «ولكني قد عرفتكم أن ليست لكم محبة الله في أنفسكم».
‏ويلاحظ أن قول المسيح هنا يشير إشارة سرية بليغة إلى علاقة المسيح بالآب كونها شخصية وكاملة ومطلقة، وكونها إحدى الثوابت العميقة التي يحياها المسيح في داخله.
‏«إن شهادته التى يشهدها لى هى حق»‏: تأتي بنوع من التعيين والتخصيص، والتي تفيد الإستمرارية ذات الوضوح والبرهان الداخلي والتأكيد الشخصي لدى المسيح. ثم قوله «إنها حق» يفيد المعرفة الفائقة.«الأليثيا» وهو الحق الثابت الإلهي. و يلزم هنا أن نمتد أكثر لنسمعه يقول عن الآب بالسبة لليهود ‏أنهم «لا يعرفونه» سواء في الآيات 37:5-38 ‏أو 19:8.
‏هنا تتضح معرفة المسيح بالآب أنها فوق الناموس والأنبياء والإجتهاد بكل صنوفه، كما يتضح في نفس الوقت علة عدم قبول اليهود للمسيح وهي الحجاب الكثيف الذي يحجز اليهود عن التعرف على الابن بسبب تغربهم عن الله الآب, أي تمسكهم بالحرف، فعُميت أعينهم عن «الكلمة» بمفهومها وواقعها الحي. وهذا ما أشار إليه المسيح بعد ذلك بقوله: «وليست لكم كلمته ثابتة فيكم.» (38:5‏).

 

33:5 و34 أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهِدَ لِلْحَقِّ. وَأَنَا لاَ أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ وَلَكِنِّي أَقُولُ هَذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ.

يلاحظ القنارىء المقارنة بين «أنتم» و «أنا». «أنتم» كان يهمكم أن تسمعوا شهادة من إنسان، أما «أنا»» فلا أقبل شهادة من إنسان! ولكني أقول ذلك لكم, لكى أذكركم بما عملتموه وسمعتموه منه، لأنه قال لكم الحق وشهد له أمامكم، لعلكم تخلصون.
‏ويظهر حذق القديس يوحنا الباهر هنا في أنه ذكر شهادة المعمدان مباشرة في هذه الآية بعد أن ذكر شهادة الآب «آخر», (غير نفسه), في الآية السابقة. وهذا لكي يقطع خط الرجعة عل من يفكر أن المسيح بقوله: «أخر» كان يقصد المعمدان. ولكن للأسف لم ينتبه كثير جداً من ‏الشراح لهذه اللفتة.
والسبب الذي أغوى الشراح في الخلط بين الـ «أخر» وهو الآب وبين شهادة المعمدان، هو أن المسيح ألمح لشهادة الآب بلغة خاصة وسرية إلى حد ما. لأن كلمة «أخر» هي في الحقيقة تكملة لـ «أنا», أى أنها شهادة اثنين «أنا والأخر». والعجيب أذ يظن الشراح أن الأخر هو المعمدان, فهل المعمدان يمكن جمعه مع «أنا» المسيح لتكون شهادة واحدة حسب الحق؟
«أنتم أرسلتم… فشهد»: يلاحظ هنا في الوضع التاريخي للشهادة التي أعطاها القديس يوحنا, أنها جاءت في الماضي بكل ملابساتها؛ صحيح أنه شهد للحق، وهذا كان يلزم أن يؤول إلى إيمان اليهود بالمسيح ليخلصوا. ولكن شهادته انتهت, ونُسي المعمدان, وبقيت شهادته, وذلك بالنسبة للفريسيين الذين يبحثون عن الحق عبثاً. شهادة المعمدان بصفته المُرسل من الله للشهادة كانت بحسب الحق تماماً، وهذا يوضح أن اليهود عثروا ليس فيمن شهد له المعمدان بالحق، أي المسيح, ولكنهم أيضاً عثروا في الله الذي أرسل المعمدان ليشهد للحق، وبالضرورة عثروا في الحق ذاته, فصارت شهادة المعمدان ضدهم: «جميع الشعب إذ سمعوا والعشارون برروا الله، معتمدين بمعمودية يوحنا. وأما الفريسيون والناموسيين فرفضوا مشورة الله من جهة أنفسهم غير معتمدين منه.» (لو29:7-30)

 



35:5- كَانَ هُوَ السِّرَاجَ الْمُوقَدَ الْمُنِيرَ وَأَنْتُمْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَبْتَهِجُوا بِنُورِهِ سَاعَةً.

‏«كان» فعل ماض أي «ليس هو الآن»، ربما في السجن أو قد مات، ولكن على كل حال قد توقف عن الإشتعال والإنارة. «لم يكن هو النور» عل كل حال «بل جاء ليشهد للنور»، فالمصباح يوقد لكي ينير، ولكه لا ينير من ذاته. والمصباح يستهلك ذاته، فالنور الذي يعطيه وقتي رإلى زمن محدود.
«وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة»: هنا الكلام سري للغاية، فالمسيح يراجع اليهود لأنهم ظنوا المعمدان أنه المسيا، وهكذا برزت الإرادة البشرية الخاطئة محاولة أن تلزم الإرادة الإلهية أن يكون هو المسيا، وقد هللوا له، مفتعلين البهجة للخلاص الكاذب «ساعة» في حين أن بهجة الخلاص «أبدية». وهكذا تبدو الإشارة هنا سرية حزينة وخطيرة للغاية بخصوص سجن المعمدان وموته السريع جداً، أليس خطأهم الشنيع في التعرف على النور الحقيقي وجعلهم المعمدان نوراً عوض كونه شاهداً للنور هو الذي أسرع بإنهاء رسالة المعمدان؟ أرادوا، بعناد قلبهم وزيف رؤياهم، أن يبتهجوا بنوره ساعة ففقدوه إلى الأبد؟ لقد شهد المعمدان نفسه أن نور مصباحه يلزم أن ينقص ليزداد النور الحقيقي» ولكنهم أرادوا أن يشعلوه بزيادة فانطفأ بين أيديهم!! وعوض أن يؤمنوا بشهادته ليخلصوا، عثروا في نوره فانعمت بصائرهم عن الحق الذي شهد له.



36:5- وَأَمَّا أَنَا فَلِي شَهَادَةٌ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا لأَنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ لِأُكَمِّلَهَا هَذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَنِي.

الأعمال عند المسيح يضعها في أعلى وأقصى اهتماماته، فهي برهان إرساليته والأساس الذي يبني عليه رسالته:
+ «الأعمال التي أنا أعملها باسم أبي هي تشهد لي.» (يو25:1)
+ «أعمالأ كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي.» (يو32:10)
+ «إن كنت لست أعمل أعمال أبي, فلا تؤمنوا بي. ولكن إن كنت أعمل، فإن لم تؤمنوا بي، فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب في وأنا فيه.» (يو37:10-38‏)
+ «الآب الحال في هو يعمل الأعمال. صدقوني إني في الآب والآب في» وإلا فصدقوني لسبب الأعمال نفسها.» (يو10:14-11)
+ «لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالاً لم يعملها أحد غيري لم تكن لهم خطية، وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي.» (يو24:15‏)
+ «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله.» (يو34:4).
+ «العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته.» (يو4:17‏)
‏فالأعمال عند المسيح في الواقع تغطي حياته على الأرض كمُستعين لله الآب. وكلها تصب في اتجاهين متقابلين: الدينونة، وإعطاء الحياة؛ وهما محور رسالته بكل ما تشمله من تعليم وصُع آيات, أى بالقول والفعل، وهذه هي بعينها شهادته التي يشهد بها على الدوام. وهذه هي التي يقول عنها أن له شهادة أعظم من يوحنا.
‏فالعمل عند المسيح شهادة متواصلة، يشهد بها وتشهد له، فهي الحق والحق شهادة بحد ذاته! لذلك فكل كلمة وكل فعل في المسيح يحمل عنصراً إيمانياً لأنه يحمل الحق. فإذا توافق مع الفكر، اهتز له القلب في الحال وتجلى المسيح بالإيمان. من هنا كان اهتمام المسيح بتكميل الأعمال التي أعطاه الآب بالغ الحد، لأنها كما قلنا تشهد له أبلغ شهادة ليس في أذان الناس بقدر ما في قلوبهم. لذلك صح القول: «من قبل شهادته (أي آمن بالقول والعمل) فقد ختم أن الله صادق» (يو33:3)
وهذا عجيب جداً وجدير بنا أن نلتفت إليه, فإيماننا بالمسيح هو بعينه تصديق الله, بمعنى أنه يمجد الله أيضاً: «هذه هي شهادة الله التي قد شهد بها عن ابنه، من يؤمن بابن الله فعنده الشهادة في نفسه. من لا يصدق الله فقد جعله كاذباً لأنه لم يؤمن بالشهإدة التي قد شهد بها الله عن ابنه.» (ايو 9:5-10)
‏هنا أيضأ جدير بنا أن نلتفت إلى قوة الكلام، فالذي يؤمن بابن الله يصبح وله شهادة في قلبه مدموغة بصدق الله ولا يعود في حاجة أن يطلب مزيداً من شهادة أو مزيداً من تأكيد. فالإيمان بالمسيح يحمل تأكيده فيه لأنه هو شهادة صدق الله. وهل ممكن أن يكون فوق شهادة صدق الله شهادة تصديق أيضاً؟
‏والمسيح يؤكد لنا ذلك بقوة وفي سر، لكل من يفتح قلبه ليفهم: «أجابهم يسوع وقال تعليمي ليس لى بل للذي أرسلني. إن شاء أحد أن يعمل مشيئته (مشيئة الله) يعرف التعليم هل هو من الله أم أتكلم أنا من نفسي. من يتكلم (ويعمل) من نفسه يطلب مجد نفسه وأما من يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم.» (يو16:7-18)
«الأعمال التي أعطاني الآب لأُكملها»:
+ «الأعمال التي أعطاني ‏الآب.» (يو36:5‏) القديس يوحنا يختص بالتشديد عل «العطاء» في علاقة الآب بالابن.
+ «الآب يحب الابن وقد دفع كل شيء في يده. « (يو35:3)
+ «يسوع وهو عالم أن الآب قه دفع كل شيء إلى يديه وأنه من عند الله خرج وإلى الله يمضى..» (يو3:13)
+ «الآب لا يدين أحداً، بل قد أعطى كل الدينونة للابن» (يو22:5)
+ «وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً لأنه ابن الإنسان.» (يو 27:5)
+ «لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته.» (يو 26:5)
+ «وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني، أن كل ما أعطاني (المختارون) لا أتلف منه شيئاً بل أقيمه في اليوم الأخير.» (يو39:6‏)
+ «إذ أعطيته سلطاناً على كل جسد ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته. (يو2:17)
+ «العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته. (يو4:17‏)
+ «أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتني من العالم. كانوا لك، وأعطيتهم لى .» (يو6:17‏)
+ «كنت أحفظهم في اسمك الذين أعطيتني.» (يو12:17)
+ «أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا، لينظروا مجدي الذي أعطيتني لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم.» (يو24:17)
+ «الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية ماذا أقول وبماذا أتكلم.» (يو49:12‏)
‏لكي نفهم مستوى فعل العطاء بين الآب والابن يلزم أن نفهم أن العطاء من الآب إلى الابن هو بالأساس للاستعلان ثم للتكميل.
‏فعمل الآب يعطيه الآب للابن، ليخرجه إلى حيز الوجود. لذلك فعمل الابن هو استعلان بالفكر والفعل لنفس عمل الآب على مستوى التنفيذ. فكل شيء وكل عمل وكل مشيئة هي عند الآب غير منظورة, والآب يعطيها للابن ليظهرها، أو يعطي الابن أن يظهرها ويعلنها على مستوى الفعل والواقع المنظور.
‏لذلك، فالأعمال عند الآب والابن هي واحدة، غير منظورة عند الآب ومنظورة بالابن. من هذا نفهم أن «العطاء» في الله من الآب للابن لا يفيد الأخذ بالنسبة للابن بمفهومه السالبي، كما لا يفيد التكليف بنوع الأمر من الأعلى للأقل بل هو للتكميل فالابن يكمل عمل الآب.
‏واضح هنا الهدف من إعطاء الآب الأعمال للابن، حيث كلمة «يكملها» تفيد التكميل حتى النهاية أو حتى الكمال. إذن، فليس مجرد التكميل ولا مجرد النهاية، بل المعنى يتضمن بلوغ النهاية الحقيقية, فالعمل ليس للتكميل بل للكمال: أي يكملها كمالاً ولس تكميلاً. وهذا الأسلوب العجيب الذي اختص به القديس يوحنا يجعلنا نرى الأعمال التي يعملها الابن دائماً في مستوى «الكمال المسيحي»: «العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته (كمالاً) (يو 4:17)
+ «أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين (كمالاً) إلى واحد.» (يو 23:17)
+ «بعد هذا رأى يسوع أن كل شىء قد كمل (كمالاً)، فلكي يتم الكتاب قال أنا عطشان.» (يو28:19)
‏ويشترك القديس بولس في سفر العبرانيين في هذا الأسلوب من جهة الكمال المسيحي: «لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل، وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد، أن يكمل رئيس خلاصهم بالألام: (عب10:2). هنا يرتفع مفهوم الآلام إلى مستوى بلوغ الكمال.
+ «واذ كمل, صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبدي.» (عب 9:5)


 
37:5 و38 – وَالآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي هو يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ. وَلَيْسَتْ لَكُمْ كَلِمَتُهُ ثَابِتَةً فِيكُمْ لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ لَسْتُمْ أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِهِ.

المسيح ينتقل من شهادة الأعمال التي يعملها، وهي نفسها أعمال الآب، إلى شهادة الآب نفسه بصورة مباشرة: «لأني لست وحدي بل أنا والآب الذي أرسلني» (يو16:8). وهو يعود ويكرر ذلك في نفس الأصحاح بقوله: «الذي أرسلني هو معي ولم يتركني الآب وحدي لأني في كل حين أفعل ما يرضيه» (يو29:8). لذلك فمن المستحيل أن نتصور الابن وحده بدون الآب بأي حال من الأحوال.
‏لذلك حينما يشهد الابن لنفسه، تكون شهادة الآب مع شهادته حتماً: «أنا هو الشاهد لنفسي ويشهد لى الآب الذي أرسلني» (يو18:8). هكذا تأتي شهادة الآب في الأصحاح الثامن في صيغة الفعل المضارم الدائم.
‏أما شهادة الآب في الآية التي نحن بصددها فقد جاءت بالفعل الماضي (37:5‏)، وهي الشهادة الذي شهد بها الله على فم الأنبياء كما جاءت في الأسفار المقدسة، والتي انتهت بشهادة المعمدان، والتي على أساسها ذكر المسيح «كلمة الله», في الأسفار, موبخاً اليهود أنهم لم يثبتوا فيها: «وليست لكم كلمته ثابتة فيكم» (يو38:5)، كذلك عاد فذكر الأسفار بوضوح في الأصحاح العاشر قائلاً إنها تشهد له (35:10‏).
‏«لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته. وليست لكم كلمته ثابتة فيكم, لأن الذي أرسله هو لستم أنتم تؤمنون به»: المسيح يبدأ هنا يستعلن ذاته على أنه هو هو صوت الآب وهيئته, وكلمته أيضاً, ولكن ليس بالعيان بل بالإيمان؛ ليس برؤية العين وسماع الأذن التي انحبست في الماديات، وإما بالعين الروحية التي يمكن أن ترى الله في المسيح، والأذن الروحية المفتوحة على صوت الله في المسيح الذي هو الوعي المسيحي. فاليهود إذ رفضوا المسيح، رفضوا صوت الله, وانحجب عنهم الله واختفى من محيط حياتهم لما عجزوا أن يتحققوا من المسيح. أما كلمته, التي بثها في الأ سفار, فضاعت من ‏متناول إدراكهم .
المسيح يوضح هنا أن قبول «إرسالية المسيح» هو بعينه الانفتاح على صوت الله وكلمة الله وهيأته, وإرسالية المسيح مثبتة وواضحة في الأسفار المقدمة، والمسيح هو نفسه كلمة الله في الأسفار. فلو كانوا أخلصوا للأسفار المقدسة وثبتوا في كلمة الله، لكان من السهل عليهم أن يؤمنوا بالمسيح. والتأكيد هنا على الشهادة, شهادة الله للمسيح التي أكملها لهم في الأسفار المقدسة.


39:5- فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي.

‏هنا بلغ المسيح نهاية التوضيح. فاللوم عليهم شديد، لأنهم وهم متخصصون في البحث في الأسفار المقدسة وشرحها وتأويلها، كيف بعد هذه السنين كلها من البحث والتفتيش لم ينفتح ذهنهم على سر الحياة الأبدية الكائنة في الأسفار ليدركوا منها الأمور المختصة بالمسيح؟ فالشهادة التي تقدمها الأسفار للمسيح غزيرة وواضحة: «ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب‏» (لو27:24). فالأسفار المقدسة هي بحد ذاتها استعلان كامل للمسيح، وهي لم تترك شيئاً من حياته وأعماله وموته وقيامته والخلاص الذي أكمله بالفداء بذبيحة نفسه إلا وتعرضت له في أكثر من موضع. إن شهادة الأسفار للمسيح تكاد تكون صورة كاملة طبق الأصل من حياته وأعماله:
+ «لأنه أخذ من الله الآب كرامة ومجداً، إذ أقبل عليه صوت كهذا من المجد الأسنى: هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررت به. ونحن سمعنا هذا الصوت مُقبلاً من السماء إذ كنا معه في الجبل المقدس. وعندنا الكلمة النبوية وهي أُثبتت, التي تفعلون حسناً إن انتبهتم إليها كما إلى سراج منير في موضع مظلم, إلى أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصباح في قلوبكم. عالمين هذا أولاً أن كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة ‏إنسان, بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس.» (2بط17:1-21) ويعود القديس بطرس لموضوع البحث والتفتيش في الكتب وفي الزمان من المسيح هكذا:
+ «الخلاص الذي فتش وبحث عنه أنبياء الذين تنبأوا عن النعمة التي لأجلكم, باحثين أي وقت أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم, إذ سبق (بالنبوة) فشهد بالآلام التى للمسيح والأمجاد التى بعدها.» (ابط10:1-11)
«فتشوا»: في المعنى اليوناني تدل على الفحص الدقيق الشديد المثابر للأسفار، الذي يتجه ناحية التأويل والتفسير الروحي والسري للمدراش. وللتدليل على هذا المعنى نأتي بقول للعلامة الفريسي اليهودي هلليل: [قد اعتاد هلليل القول: مزيد من التوراة، مزيد ‏من النار!! من اقتنى كلمات التوراة، اقتنى لنفسه حياة الدهر الآتي]. ويتمادى العشق القلبي والفكري بكلمات التوراة عندهم حتى قالوا: [إن التعرف على الله في التوراة، حتى ولو لم يكن مصحوباً بتوبة، يجعلها تعطي غفراناً للخطايا]. طبعأ خطأ لأن التعرف على الله يأتي ومعه التوبة.
المسيح لا يقول لهم «فتشوا» لكي يبدأوا ويفتشوا؛ بل هو يراجع عليهم مهنتهم في المعرفة وجهادهم في الدراسة التي كلها باءت بالفشل. لقد ظنوا أن في الحرف, الناموس, حياة فاشتبكوا مع الموت, (كسر السبت), وما قاموا ولا استقاموا. ولم تأت مراجعة الرب لهم من فراغ، لقد واجههم بالعلة القاتلة التي قتلت فيهم حاسة الكلمة والحياة والروح: «ليست لكم محبة الله في أنفسكم» (42:5). وليس هذا فقط بل: «وتقبلون مجدا من بعضكم بعض، والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه.»(44:5‏)
‏والمسيح يضمن اتهامه حقيقة مخفية غاية في الأهية وهي: إن كونهم قد أخفقوا أن يسمعوا صوت المسيح يعني أنهم أخفقوا في أن يسمعوا صوت الله في الأسفار!! وهذا عودة مرة أخرى للآية (24): «الحق الحق أقول لكم: إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية». اليهود كانوا يبحثون عن الحياة الآبدية بواسطة تفتيشهم للأسفار. كانوا يجرون وراء صوت الله! وها هوذا صوت الله في فم المسيح؛ ولكنهم لأنهم لم يكونوا على مستوى صوت الله في الأسفار لم يجدوه، فعثروا فى صوت المسيح ولم يتبينوه!


 
40:5- ولاَ تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ.

المسيح هنا ينبههم، وكأنه يقول لهم إنتبهوا، شهادة الله لى في الأسفار لا تزال قائمة أمامكم، إنتبهوا، أنا هو صوت الله!! لا تفوتوا الفرصة على أنفسكم، تعالوا لأن عندي حياة لكم!! الحياة الأبدية التي تفتشون عليها في الأسفار هي معي، هي فيّ، هي أنا: «فإن الحياة أُظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا.» (ايو 2:1)
«ولا تريدون…لتكون لكم حياة»: ‏إنها أخطر جريمة يقترفها الإنسان ضد نفسه! حينها يشعر بالدعوة للعودة إلى الله!! ويكون باب الحياة قد فُتح أمامه، والصوت يدعوه مُلحا في الدعوة، مُشفقاً، مُشجعاً، متوسلاً!! فتقف الإرادة لتسد منفذ الحياة، متهللة بعلل كلها الضلال والموت بعينه!!



41:5- «مَجْداً مِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ.

‏تتمشى الشهادة مع المجد في إنجيل القديس يوحنا سلباً وإيجاباً. المسيح لا يقبل شهادة من الناس لذلك لا يقبل المجد أيضأ من الناس. لأن كلا الوصفين يتلزم الاعتماد على الإنسان والخضوع لمعايير البشر.
المسيح يطرح هذه الآية أمام اليهود تأميناً لهم حتى يأتوا إليه. فهو لا يطلب المجد لنفسه ولا يقبله من أحد, ولكن يطلبهم هم ليقبلوا إليه. المسيح يكرر بأسلوب آخر ما سبق أن قاله «وأنا لا أقبل شهادة من إنسان. ولكني أقول هذا لتخلصوا أنتم.» (يو 34:5)


القسم الرابع من الأصحاح الخامس 
أسباب عدم إيمان اليهود
(42:5 – 47)

 

42:5- وَلَكِنِّي قَدْ عَرَفْتُكُمْ أَنْ لَيْسَتْ لَكُمْ مَحَبَّةُ اللَّهِ فِي أَنْفُسِكُمْ.


تسلل الأفكار يأتي هكذا: المسيح لا يقبل المجد من الناس، لأن مجد المسيح الوحيد هو مع الآب وفيه. ولا أحد يستطيع أن يأتي إلى المسيح إن لم يجتذبه الآب أولاً, اليهود «لا يريدون» أن يأتوا إلى المسيح, لأن الآب لا يجتذبهم، والآب لا يجتذبهم لأنهم ليست لهم محبة الله في أنفسهم. لو كانوا أحبوا الله، لجاءوا إلى المسيح بإرادتهم. لذلك, فرفضهم للمسيح علامة على أنهم في عداوة مح الله. لقد أصابهم المسيح هنا في مقتل!!!
«عرفتكم»: ‏عن اختبار ويقين، المسيح هنا يستعلن مخبآت قلوبهم، المخفية ليس عن عين الله بل عن أعينهم هم!! فالفاقد لمحبة الله لا يعلم أين يسير، لأن الظمة قد أعمت عينيه!!
«في أنفسكم»: المحبة موجودة حتماً في أفواههم وفي محفوظاتهم ونصوص إيمانهم، فهي أول الوصايا. ولكن المسيح فحص أنفسهم فلم يجدها!! واذا غابت المحبة عن القلب, سكنت البغضة: «وأما الأن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي. كن لكي تتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم إنهم أبغضوني بلا سبب.» (يو24:15-25)


43:5- أَنَا قَدْ أَتَيْتُ بِاسْمِ أَبِي وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَنِي. إِنْ أَتَى آخَرُ بِاسْمِ نَفْسِهِ فَذَلِكَ تَقْبَلُونَهُ.

تغرب اليهود عن محبة الله أفقدهم القدرة على التعرف على المسيح لما جاء باسم الآب، مع أن «قوة الاسم» عاملة في المسيح، ولها برهانها القوي في تعاليم المسيح وأعماله. كيف تغاضى اليهود عن ذلك؟ هذا في الحقيقة محير لعقولنا للغاية! هذا بالإضافة إلى التحذير المخيف الذي أنذر به الله الذين لا يطيعون المسيا الآتي والمتكلم باسم الله: «ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به «باسمى» أنا أطالبه» (تث19:18‏). ولكن فقدان حب الله أفقدهم كل ما هو لله، فلم تبق لهم إلا ما هو لأنفسهم. لذلك، إن جاءهم من يتكلم باسم نفسه, رأوا فيه أنفسهم فيقبلونه.



44:5- كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ وَالْمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلَهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟.

«كيف تقدرون أن تؤمنوا»: ‏الإيمان في أبسط وأقوى صوره هو «تمجيد الله» بالقول والعمل؛ ثمر الإيمان الفاخر هو التسبيح بمجد الله على الدوام. إذا انشغل المؤمن بتمجيد الآخرين ضعفت قوة تسبيح الله من قلبه. والذي انشغل بتسبيح مجد الناس عجز لسانه عن النطق بمجد الله.
‏فإذا كان انشغال الإنسان بتمجيد الناس هكذا يحط من قدرته على عمل واجبات الإيمان نحو الله، فكم بالحري إذا انشغل إنسان بطلب المجد لنفسه؟
‏وإذا كان طلب الإنسان المجد لنفسه هكذا يحطه عن أداء واجبات الإيمان من نحو الله، فكم أيضاً يكون لو استهان ولم يطلب ولم يعط المجد الذي للاله الواحد؟ ثم أليست هذه هي العلة التي أنهت على مجد إسرائيل وبني إسرائيل وأتت بالخراب على الهيكل والمدينة والشعب والأمة؟ وأطاحت بالميراث والتراث؟ وعلى الناس أن يختاروا بين مجد الله ومجد أنفسهم!


 45:5- «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي أَشْكُوكُمْ إِلَى الآبِ. يُوجَدُ الَّذِي يَشْكُوكُمْ وَهُوَ مُوسَى الَّذِي عَلَيْهِ رَجَاؤُكُمْ.

المسيح يحيل قصية اليهود على محكمة الإختصاص: أي الناموس بقيادة موسى، لأن وظيفة الابن تبقى كمُصالح وشفيع لدى الآب فقط عن الذين يؤمنون به؛ أما من أخطأ في الناموس وتعدى ولم يعط الكرامة لمن له الكرامة، فبالناموس يُدان. وإن كنتم تلاميذ موسى, حسب ما تقولون, فموسى يطالب. والمسيح هنا يوقعهم في تناقض مشين، لأنهم بتصرفهم المعادي للمسيح وتمسكهم بناموس موسى فى آن واحد، يظهرون ويكشفون تناقضهم. فموسى كتب عن المسيح فكيف ‏يعاد‏ونه، إن كانوا يؤمنون بموسى وإله موسى حقاً.


 ‏46:5 و47لأَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي لأَنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي. فَإِنْ كُنْتُمْ لَسْتُمْ تُصَدِّقُونَ كُتُبَ ذَاكَ فَكَيْفَ تُصَدِّقُونَ كلاَمِي؟»

‏موقف خطير للغاية، فالفريسيون يتصرفون كقضاة لناموس موسى، ويطالبون بالتطبيق الحرفي للناموس, الذي بلغوا به إلى المطالبة بموت المسيح بسبب كسر وصية السبت. والميسح واقف على قمة الناموس بصفته النبي الذي سيقيمه الله بدل مومى رأساً برأس: «نبياً» «مثلي», وهذا الذي عليه ينعقد لواء المرحلة الأخرى للناموس، وهي مرحلة الإنتقال من الحرف للروح، بوصايا وتعاليم وذبيحة أعظم، وبكلام أخر يضعه الله في فمه, يبدو كلامه حينئذ وكأنه مخالف للناموس الأول؟ لذلك احتاط الله وسبق وحكم ضد من يتمرد على هذا النبي الأخر، فكل من يسمع ولم يطع, يقع في الحال تحت حكم الله وليس الناموس «أنا أطالبه»: «يقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون!… أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك, وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أُطالبه.» (تث15:18-19)
‏والأن يقدم المسيح دعواه ضد حفظة الناموس والقوامين على شرفه. وكأني به يقول لهم وأمام موسى: هوذا أنا الذي مثل موسى أتيت بحسب وعد الناموس، وهوذا باسم الله أتكلم وبوصية الله أوصي, فإن سمعتم لي كنتم تلاميذ موسى عن حق، وأبناء الله الحي؛ وإن لم تسمعوا فأنتم تحت الحكم، وموسى والناموس يشهدان ضدكم!

إنجيل يوحنا – 4 إنجيل يوحنا – 5 تفسير إنجيل يوحنا تفسير العهد الجديد إنجيل يوحنا – 6
القمص متى المسكين
تفاسير إنجيل يوحنا – 5 تفاسير إنجيل يوحنا تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى