تفسير إنجيل يوحنا الاصحاح ٣ للأب متى المسكين

الإصحاح الثالث

مكان البشارة
لا زلنا في الجليل


‏3- مع نيقوديموس ليلاً
(3: 1-21)

هذا هو الحديث الأول للمسيح من أحد عشر حديثأ سجلها القديس يوحنا في إنجيله، جاءت معظمها موجهة إلى الرؤساء.
‏من الأصحاح الثاني خرجنا بحصيلة كبيرة, فمن تطهير الهيكل انتهينا إلى أن المسيح عرض عليهم مضمون رسالته: التطهير أو الهدم (سر الموت والقيامة)، فرفضوا التطهير وقبلوا بالقتل.
‏وهنا ندخل إلى الأصحاح الثالث لنتواجه مع واحد من أكبر معلمي إسرائيل، والمسيح يشرح له على مستوى الفعل والعمل نفس السر, سر التجديد بالهدم والبناء, الذي أعلن عنه في الهيكل, بالنسبة للأمة كلها. ولكن, هنا, في مضمون تجديد الفرد هدم العتيق وميلاد الجديد للدخول في هيكل الله, ملكوت الله
‏وعلى وجه الملاحظه، نرى أن من هنا يبدأ إنجيل يوحنا مسيرته بالتوازي مع الأناجيل الأخرى التي تبدأ بالمناداة بملكوت السموات، ولكن عل مستوى التوبة: «من ذلك الزمن أبتدأ يسوع يكرز ويقول توبوا لأنه قد اقرب ملكوت السموات» (مت17:4). ولكن هناك «ملكوت السموات» وهنا «ملكوت الله» ‏وسيان.
‏والتوبة كما جاءت في الأناجيل الثلاثة الاولى التي تُدعى باليونانية «ميطانيا»، التي تفسيرها «تغيير» أو «تجديد الذهن» بمعنى «توبوا», هي في إنجيل يوحنا موت وقيامة في مضمون سر «الميلاد الثاني»، وهى «المعمودية بالماء والروح القدس»، حيث في الماء يكون الدفن أو سر الموت، وبالروح تكون القيامة لحياة جديدة. والمعمودية هى درجة متقدمة على التوبة: «توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس» (أع38:2‏). التوبة رنينها في النفس سهل، مجرد تغيير فكر وأسلوب وحياة، صحيح هي تحتاج إلى حزم وحسم وتصميم ومثابرة, ولكن المعمودية خطرة, تتطلب الموت عن حياة قديمة كشرط أساسي لقبول حياة جديدة مُعانة بالروح القدس. هي حقاً وبالحقيقة هدم وبناء, والهدم صعب للغاية!!!
هنا يصطدم نيقوديموس بحقيقة المسيحية، فيجفل ويصمت، ويظل يتحايل على نفسه ثلاث سنوات حتى غلبها وقبل بالهدم ، فكان الموت وكانت القيامة له وعلى يديه!
‏نيقوديموس يمثل في إنجيل يوحنا شخصية فريدة وممتارة، فهو قمة النخبة المختارة من إسرائيل التوراة والناموس والتلمود والمشناة, وكل علوم الفريسيين بفروعها، الذي جاء إلى المسيح يحمل معه رجاء الأمة اليهودية, وقلق ذوي الحاسية منها الذين يترجون إصلاحاً على مستوى الإمتداد دون أي مساس بالقديم. كان يرى في المسيح «رابي» أي معلم يهودي محترف الناموس والتوراة. صحيح أنه كان من ضمن الكثيرين الذين آمنوا باسم المسيح الذين ذكرهم القديس يوحنا: «ولما كان في أورشليم في عيد الفصح أمن كثيرون باسمه إذ رأوا الآيات التي صنع» (يو24:2). وهذا واضح من قول نيقوديموس في افتتاح حديثه مع المسيح «يا معلم (رابي)، نعلم أنك قد أتيت من الله معلماً لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إن لم يكن الله معه.» (يو2:3)
‏ولكنه جاء بعقلية ومؤهلات فريسى لا يؤمن بالتجديد، ولكن يؤمن بالقداسة التي يحصل عليها الإنسان بالممارسة قليلاً قليلاً، يكون الإنسان فيها صاحب الجهد والمبادرة، وأما الله فيرى ويجازي بالمكافأة.
ويقول المؤرخ اليهودي يوسيفوس: [إن المنهج الفريسي يعلم أن الإنسان في مقدوره أن يعمل البر أو لا يعمله، وإن إرادة الإنسان مسئولة عن صنع الحق أو الباطل, وهم يغلفون أنفسهم بقداسة كلها من صنع أنفسهم.]
من هذا نحن نستطيع أن نستشف ماذا كان يرجو نيقوديموس أن يسمعه من «رابي» يسوع المسيح!! فبحسب منهجه الفريسي كان ينتظر أن يتعلم من المسيح ممارسات فائقة على ما تعلمه، يستطيع أن ينمي بها مواهبه ويزداد في بره الشخصى وقداسته, وبذلك يكون مستحقاً أن يكون مواطناً لملكوت السموات التي سمع عنها من فم الرب. وقولنا هذا ليس جزافاً، فالمعروف لدى الفريسيين المدققين أن المسيا حينما يأتي سيكون معلمأ للبر: «هوذا قد جعلته شارعاً للشعوب, رئيساً وموصياً للشعوب» (إش4:55‏)، بل سؤال الذي ركض وراء يسوع جاثياً يوضح أيضأ ذلك: «أيها المعلم الصالح ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية.» (مر17:10)
‏كل هذه الأنظار والمشاعر كانت تجري في مخيلة نيقوديموس وهو يسترق الخطى ليلاً نحو البيت الذي كان يخلو إليه المسيح بعد عناء النهار الطويل، وهو غالباً البيت الذي تملكه عائلة القديس يوحنا. وقد استقبله المسيح بالترحاب وفتح له قلبه, ولكن المسيح عرف فكر نيقوديموس, كما يقول القديس يوحنا عن قصد وقبل أن يدخل في قصة نيقوديموس مباشرة: «لأنه علم ما كان في الإنسان.» (يو25:2)

أ- الحديث المباشر مع نيقوديموس. (1:3-12‏)
‏وتستمر فيه المقابلة بين القديم والجديد على النحو التالي:
القديم: ملكوت الله بالعلم والممارسات, والمفاتيح مع الفريسيين: «أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا».
‏الجديد: ملكوت الله بالميلاد الثاني من فوق من الماء والروح.
‏الاستعلان: «ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء».

1:3- كَانَ إِنْسَانٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ اسْمُهُ نِيقُودِيمُوسُ رَئِيسٌ لِلْيَهُودِ.

‏هذا الاسم لم يذكره أحد من الإنجيليين
كان رئيساً لليهود: هذا يعني أنه عضو في المجلس الأعلى للأمة، أي السنهدريم. وكذلك جاء في الآية 10 «أنه معلم إسرائيل»، وهي تقابل «دكتور في القانون» أي في الناموس اليهودي. وباللغة الكنسية عندنا هي «أرخن»، ولكن الأرخن عندنا هو للشعب وليس لرجال الدين، وهي مأخوذة أصلاً من النظام الشعبي اليهودي «رؤساء الشعب» (أع8:4).


2:3- هَذَا جَاءَ إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً وَقَالَ لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللَّهِ مُعَلِّماً لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هَذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ مَعَهُ».

«جاء ليلاً»:

لقد تركت في ذهن القديس يوحنا هذه الزيارة «في ظلام الليل» أثراً لا يُمحى، فقد ذكرها له ثلاث مرات في كل مرة يذكر اسمه, وكأنها أصبحت صفة أو لقباً؛ هذا في الحقيقة يكشف عن شعور القديس يوحنا بمدى الحذر أو الخوف الذي اتصف به نيقوديموس. ففي وسط مجمع السنهدريم تقدم نيقوديموس مدافعاً، ولكن بحذر شديد: «قال لهم نيقوديموس, الذي جاء إليه ليلاً, وهو واحد منهم» (يو50:7‏)، وأيضاً بعد إنزال جسد الرب من على الصليب جاء نيقوديموس بحذر أيضاً، ولكن بالتقابل كان التلاميذ قد تركوا المسيح وهربوا!! «وجاء أيضاً نيقوديموس الذي أتى أولاً إلى يسوع ليلاً وهو حامل مزيج مُر وعود نحو مائة مناً» (يو39:19). مع أنه جاء إليه ليلاً أول مرة، جاء وهو مؤمن باسم المسيح أي «المسيا»، ولكن دون علاقة شخصية أو إيمان شخصي فهو إيمان بالاسم, وفي المرة الثانية التي دافع فيها عن المسيح داخل السنهدريم دافع بحذر دون إظهار أي تعاطف مع المسيح، وعند أول مواجهة من الزملاء التزم الصمت؛ أما في المرة الأخيرة، وقد صار تلميذاً بالفعل للرب، إلا أنه أيضاً جاء مع يوسف الذي من الرامة: «ولكن خفية لسبب الخوف من اليهود.» (يو38:19‏)
‏هذا الحذر والخوف يوضح بكل جلاء أن الإيمان بالمسيح لم يبلغ بعد إلى الايمان «الحي» بابن الله كمخلص حقيقي, حيث يجد الإنسان في المسيح دواء لجبانة الضمير، الدواء الذي يحوله من جبان رعديد كبطرس إلى شجاع صندي كبطرس أيضا: «أنا لست أعرف هذا الرجل». هذا الكلام قاله بطرس عن المسيح!!! أمام جارية!!!، «حينئذ امتلأ بطرس من الروح القدس وقال لهم: يا رؤساء الشعب وشيوخ إسرائيل إن كنا نفحص اليوم عن إحسان إلى إنسان سقيم بماذا شُفي هذا، ليكن معلوماً عند جميعكم وجميع شعب إسرائيل أنه باسم يسوع المسيح الناصري الذي صلبتموه أنتم الذي أقامه الله من الأصوات…» (أع8:4-10). وهذا الكلام قاله أيضاً بطرس بعد أن قبل الإيمان الحي بابن الله!!!
‏ولكن أسلوب القديس يوحنا يتعجب له, فهو يقول ويردد القول أنه جاء ليلاً ولا يمكن أن يفرط ويقول كلمة واحدة على جبن الرجل أو إيمانه, ولكن الذي يعرف أسلوب القديس يوحنا يعرف أنه قال هذا عن الرجل وقال أكثر!! فقوله أنه جاء ليلاً وتكراره لذكر الليل كفيل بحسب أسلوبه أن نفهم منه أنه إيمان الظلام، بمعنى أنه لم يعثر بعد على «أقنوم النور»، وأنه لا يزال بعيدأ عن الحب وما يحويه الحب من الإخلاص والثقة والأمانة وعدم الخوف، هذا هو تفسير «الليل» عند القديس يوحنا: «فذاك (يهوذا) لما أخذ اللقمة خرج للوقت وكان ليلاً.» (يو30:13‏)
«يا معلم ‏نعلم أنك أتيت من الله معلما»: هذا الاعتراف بالمسيح، كونه معلماً, من شخص مثل نيقوديموس هو تقييم كبير لإنسان لم يؤمن بالمسيح بعد كابن الله. وكلمة «رابي» تعني أكثر من معلم باللغة العربية لأنها من جذر كلمة يهودية تعني كبير أو عظيم، وهي عل ثلاث درجات: «راب», و«رابي» و«رابو»، و«رابون» هي أعلاها, هذا اللقب مستحدث مذ أيام مدرسة شماي وهاليل. ونيقوديموس يعطيه هذا اللقب بالرغم من أنه ليس من خريجي مدارسهم: «فتعجب اليهود قائلين كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلم» (يو15:7‏)، إلا أنه رأى بحسب قياسات علمه أنه كان مستنيراً بالمعرفة الإلهية، وأنه جاء من الله. وهذا تعبير عبري قديم يقيم به الأشخاص الموهوبون. وهو بأسلوب مؤدب خفي يُشرك زملاءه علماء الناموس الذين استمعوا إلى المسيح في رأيه هذا بقوله: «نعلم» بالجمع. وبتعبير من هو مأخوذ بتعاليم المسيح، يصرح بحرارة أن تعليمه من الله مباشرة: «أتيت من الله معلماً»، وهو نفر التعبير الذي يكرره المسيح عن تعليمه: «تعليمي ليس لى بل للذي أرسلنى» (يو16:7). وهذا يتضمن بالفعل أنه مُرسل. ولكن خطأ نيقوديموس أنه يقصر ملامح التفوق الإلهي عند المسيح في حدود «معلم» فقط ( ) ‏التي تأتي في اللاتينية magister حتى ولو كان موهوباً.
«لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إن لم يكن الله معه»: وهنا يكمن الخطأ الثاني لنيقوديموس، أنه اعتبر عمل الآيات أنه هو الدليل أن المسيح هو رجل الله. ومعروف أن الرابيين الأتقياء كانوا يجترحون المعجزات ليثبتوا تقواهم وليبرهنوا على صحة تعاليمهم. وهكذا ربط نيقوديموس آيات المسيح بحالة التقوى التي حصل عليها المسيح، على مستوى الرابيين الأتقياء.
‏«إن لم يكن الله معه»: ‏هذا اصطلاح عبري كتابي مذكور بكثرة في العهد القديم: «فظهر له الرب في تلك الليلة وقال له: أنا إله إبراهيم أبيك، لا تخف لأني معك» (تك24:26). وهذا الكلام لإسحق ابن إبراهيم. وكذلك: «فظهر له ملاك الرب وقال له: الرب معك يا جبار البأس» (قض12:6‏), وهذا الكلام لجدعون. وواضح من الإصطلاح أن الذي يكون الله معه، لا يزيد عن كونه مُعانا من الله لإتيان أمر يطلبه الله. إلى هنا توقف إيمان نيقوديموس بالنسبة للمسيح والأيات التي رأها والتعليم الذي سمعه منه. ومنه ترى أنه كان يعيش في جو عالم الفريسيين والربيين، وأنه لم يخرج بإيمانه خارج الدراسات التى تلقاها.


3:3 – فَقَالَ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللَّهِ»

يلاحظ القارىء اللبيب أن المسيح هنا لا يجاوب على كلام نيقوديموس بل أجاب على أفكاره, وهنا أيضاً يلزم أن نلفت نظر القارىء أن يتمعن لماذا قبل أن يدخل القديس يوحنا في سرد قصة نيقوديموس، قال عن المسيح وهو يقصد ما يقول «لأنه علم ما كان في الإنسان».
‏وهكذا وباختصار بالغ يقول القديس يوحنا «أجاب يسوع» فهو يجيب على استسفار نيقوديموس كاشفاً أمام القارىء كيف أن المسيح علم ما كان يجول في فكر هذا الفريسي، وكيفر بحذق المعلم الإلهي يقود السائل المتخفي وراء الألفاظ المنمقة إلى الحقيقة التي يسعى إليها. فنيقوديموس لم يرتقي بتفكيره ولا إلى لحظة لكي يدرك من هو المسيح الذي يتكلم معه على حقيقته، ولكن كان يدور ويلف عسى أن ينال منه معرفة تنفعه وليس إيماناً يعيشه. وكان كل همه أن يزداد معرفة على المعرفة التي عنده والتي يعتز بها أيما اعتزاز! واذ بالرب يرد على أفكاره موضحاً أنه ليس عنده، ولا هو على استعداد، أن يقول أو يعمل شيئاً على ذي قديم، ولكن عمله أن يخلق جديداً، يخلق بدءاً جديداً!! فملكوت الله التي يتمناها نيقوديموس لا يمكن أن يراها، بمعنى أن يعرفها معرفة الرؤيا، إلا إذا وُلد جديداً.
«الحق الحق»‏: هذه البادئة في الكلام عند المسيح تفيد التوكيد أول ما تفيد, ثم تهيىء ذهن السامح والقارىء ليستعد لقبول معرفة جديدة وصعبة نوعاً ما أو أمراً قد أُشكل على الدنيا معرفته سابقاً، وهو بصدد حل هذا الإشكال حلاً نهائياً وجذرياً. فهي بادئة تفيد في الغالب فكراُ جديداً يحمل تعليماً إلهياً يمتد بفكر الإنسان خطوة إلى الأمام والى أعلى، وسيكررها المسيح مرتين في هذا الأصحاح.
«يولد من فوق»: «من فوق» تُترجم أيضاً «من جديد, ثانية» وقد اختلفت المخطوطات القديمة في ترجمتها. فالترجمة اللاتينية ( ) أي يولد ثانية، والترجة القبطية والترجمة السريانية، أخذت بالولادة «الثانية – من جديد» وقد تمشى مع هذه الترجمة كل من الشهيد يوستين، واكلمدنس السكندري، وترتوليان، وكذلك أغسطين وجيروم ومعظ الكتاب المحدثين.
وبعض الشراح ارتأوا أن يتركوا ذلك لحرية المترجم طالما هي تحتمل أكثر من ترجمة أصيلة مثل العالم «باريت»‏. ولكن إذا عدنا لإنجيل القديس يوحنا نفسه وفحصنا اتجاهه الذي يرجحه في المواضع التي ذُكرت فيها هذه الكلمة ‏(31:3, 11:19و23) وتعاليمه عن الولادة من الله (13:1, 1يو29:2, 9:3, 7:4, 1:5)، نتحقق أن المعنى المرجع هو «الميلاد من فوق» معتبراً أنها حادث يبدأ وينشأ من السماء ويتم للانسان بقوى إلهية تفوق فهم وفحص وضبط الإنسان. ولكن لا ننسى أن فهمها عل أساس الميلاد الثاني هو من صميم الكتاب المقدس أيضاً في هذه المواضع (ابط3:1و23, تىطس 5:3‏).
‏ولكن الملاحظ أن نيقوديموس فهمها أنها ولادة ثانية, من جديد، هذا تبادر إلى ذهنه فورا كيف يدخل بطن أمه من جديد!!
«لا يقدر أن يرى ملكوت الله»: ما يقصده المسيح أنه بهذه الولادة من فوق، أي الفائقة عل قدرات الإنسان، يدخل الإنسان في اتصال بالوجود الجديد الفوقاني, أي ملكوت الله, وذلك بكل يقين عن طريق قدرات جديدة ومواهب جديدة. وبدون هذا الدخول في محيط الوجود الجديد, الولادة من فوق, لا يستطيع أن يرى، أي يتعرف عل هذا الملكوت!
‏وواضح الكلام أننا في آدم خرجنا من حضرة الله مطرودين وحُرمنا من رؤيته، فبإمكانياتنا الجسدية التي ورثناها من أدم وقع علينا الحكم الذي وقع على آدم وهو الخروج من دائرة الله وعدم رؤيته. لذلك فلكي نعود ونرى الله، مجرد رؤية، يلزم أن نولد ولادة أخرى ليست من آدم وهي حتمأ وبالضروره من فوق, من الله, حتى بهذه الإمكانيات الجديدة نعود ‏ونرى الله.
«لا يقدر»: أي لا يضب قوة عل الاتصال بملكوت الله سواء كان بالرؤية أو حتى التمتع بالتأمل، والسبب هو العجز الروحي الناتج عن الفساد الأخلاقي الذي جعل الجسد لا يقوى على اللحاق بمطالب الروح ومستواها؛ لأن رؤية الإنسان الطبيعي, الجسدي, محصورة في حدود الطبيعة, الجسديات, فإذا أراد الإنساذ أذ يرى ما فوق الطبيعة, الروحيات, فلابد له من المثيل, الميلاد الروحي, أي ما فوق الطبيعة, «ملكوت الله داخلكم», لتواجه المثيل مع المثيل. هذا هو عمل الله الفائق في روح الإنسان ليمنحه ما هو منه خاصة ليراه أو يحيا معه.
‏والذي يلزم أن ننتبه إليه هنا هو القول القاطع المانع الذي وضعه الرب بالنسبة لمحاولة التطلع إلى ملكوته «لا يقدر»، بمعنى أنه محال على الإنسان أن يرى الله هنا أو هناك دون أن ينال من الله هنا المؤهلات الإلهية التي تجعله يراه كما هو: «ايها الأحباء الآن نحن أولاد الله (الميلاد من فوق) ولم يظهر بعد ماذا سنكون، ولكن نعلم أنه إذا اُظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو» (1يو2:3)
‏«ملكوت الله»: يذكرها الفديس يوحنا في إنجيله مرتين فقط وهما اللتان جاءتا متتابعتين في هذه الأية والآية (5)، وقد استعاض عن هذا الإصطلاح بإصطلاح آخر وهو الحياة الآبدية عل مدى إنجيله ورسائله. وقد جاء كثيراً اسم «ملكوت الله» في الأناجيل الأخرى، وأيضا باسم «ملكوت السموات».
والاسم أصلاً عبراني مستخدم في العهد القديم. وهو يعبر في الأدب العبري عن «امتلاك الله»، أو «تدبير وادارة الله»، والله هو الملك الآزلى والأبدي: «الرب قد ملك فلتبتهج الأرض… العدل والحق قاعدة كرسيه» (مز1:97-2)، «الرب قد ملك، ترتعد الشعوب» (مز1:99) وكان من المفروض أن تكون مملكة الله على الأرض منظورة وواضحة، ولكن لأن «الشعوب, الأمم» لا تعبده، لذلك اقتصر على إسرائيل. فإسرائيل, كانت, هي مملكة الله المنظورة على الأرض «الرب عظيم في صهيرن». ولكن لا يزال الله ينتظر خضوع الشعوب وذلك «في يوم الرب».
‏ولكن نشأ في الفكر العبري إحاس طاغ بأن «ملكوت الله» له معنى روحي أعمق من مظاهر العبادة والمعاملات الطبيعية، وأنه «ملكوت غير منظور» في عمق هذه الحياة التي نحياها؛ ثم ظهر في أيام المسيح إحساسى أخر بأن «ملكوت الله» له معنى «أخروي» أي ينكشق إلا في غيبة النظام الحاضر للعالم.
‏أما في العهد الجديد وبالمعنى المسيحي، فقد انبرى ملكوت الله ليأخذ الصدارة في كل تعاليم المسيح ووصاياه وأمثاله كغاية عظمى للانسان في كل حياته وجهاده ومسعاه. لقد كان أول من نادى به بهذا المعنى هو المعمدان (مت2:3‏)، وكرز به المسيح أول ما كرز(مت17:4).
‏وقد صفى المسيح ونقى معنى الملكوت على المستويين الديني والأخلاقي, وحدد الصفات التي يتطلبها الله لداخلي ملكوته ومنها الأتي:
+ التخلي عن كل ضروريات الحياة إذا تعارضت مع الملكوت حتى الأسرة (لو29:18)
+ الإستغناء عن أعز ما للجسد إذا تعارض مع الملكوت، حتى العين واليد والرجل (مر47:9)
+ السهر والمثابرة وربط القلب والفكر بهذه الغاية العظمى (مت1:25-13).
+ الحرمان المؤكد لذوي البر الذاتي الذين يزكون أنفسهم (مت11:8).
+ استحالة دخول الأغنياء المتكلين على أموالهم (مر23:10).
+ الملكوت من نصيب المتواضعين والذين لهم روح الطفولة (مت3:5, مر15:10, يو3:3-5)
‏وفي كل مثل من الأمثلة التي قدمها المسيح عن ملكوت الله كان يتصحح ويتحدد ويتجلى ويتضح معناه أكثر فأكثر.

وقفة قصيرة


وفي التعليم المسيحي، وبمقتض الفهم اللاهوتي لملكوت الله, يمكن وضعه تحت ثلاثة بنود متكاملة.
‏الملكوت في المستقبل, الملكوت في الحاضر، الكنيسة باعتبارها الملكوت.
‏الملكوت في المستقبل: لقد أفصح المسيح في تعاليمه عن هذا البعد للملكوت، وهو البعد المستقبلي، بمعنى انتظار استعلان ملكوت الله بصورة لم نرها من قبل، ولم يتعرض لها هو سابقاً في حديه عن الملكوت. وهو الذي أمر تلاميذه, وبالتالى نحن أيضاً, أذ نطلبه كل يوم «ليأت ملكوتك» (مت10:6). وقد ألمح لهذا البعد الملكوتي في المستقبل بمثل العشر العذارى والعريس الذي يأتي فجأة! أو الزرع الذي ينمو، أو الزران في وسط الزرع الصالح الذي ينتظر الحصاد ليفصل الزوان من الحنطة.
وقد ترسخ هذا البعد الملكوتي في ذهن الكنيسة منذ البدء وهي تنتظر استعلانه بفارغ الصبر، وربطته ربطاً لاهوتياً محكماً لمجيئه الثاني وجعلت هذا الترقب جزءاً من قانون إيمانها مع الدينونة والحياة الأبدية, وميعادها حددته بقيامة الأجساد.
‏ولا يزال الفكر الارثوذكسي على إصراره وإلحاحه بانتظار مجيء ملكوت الله واستعلانه مهما تأخر.
الملكوت في الحاضر: في تعليم المسيح، يشير الرب إلى «حقيقة» أي جوهر هذا الملكوت كحالة فائقة ذات اتصال بالله, أنها قائمة في الحاضر الزمني ولكنها حقيقة مخفية ككنز في حقل وجده إنسان فباع كل شيء واشتراه.
‏فالرب حينما بدأ يكرز، جعل الملكوت في متاول اليد: «قد اقترب» (مت2:3, 17:4). وحينما كان يشفي، كان بحسب تعبيره أن هذا الشفاء تم بأصبع الله، وهذا معناه أنه قد «أقبل عليكم ملكوت الله» (مت28:12). وحينما حاول البعض أن يأخذوا صورة عن مجىء ملكوت الله قال لهم: «ملكوت الله داخلكم» (لو12:17). والذي أضعف تأكيدات المسيح التي تملأ الأناجيل بأن ملكوت الله هو قوة الله في الحاضر الزمني، انشغال الكنيسة الاولى بانتظار مجيء الملكوت قريباً جداً وبأنه على وشك الظهور يوماً بعد يوم.
‏ولكن بقيت توكيدات المسيح بملكوت الحاضر الزمني كأساس راسخ لإعادة فكر الكنيسة وربطه بالحاضر، يقول الوحي أنه «جعلنا ملوكاً وكهنة لله أبيه» (رؤ6:1و9, 10:5)، وقول الوحي: «نقلنا إلى ملكوت ابن محبته» (كو13:1‏)، والتي منها يظهر أن ملكوت الله هو حقيقة واقعة امتلكتها الكيسة: «ليس أكلاً وشرباً بل هو بر وسلام وفرح في الروح القدس.» (رو17:14)
‏ولكن هذه النظرة في التعليم الارثوذكسي لا تلغي ولا تُغنى عن انتظار الملكوت الآتي بقوة ومجد، حيث يتلاشى الشر الذي يقاوم ظهوره.
‏فالملكوت في الحاضر هو ملكوت الخلاص الذي ظهر وأعلن وقد تم وأكمل, وعلينا أن نستنفذ قوته وبركاته. والملكوت الآتي هو ملكوت الحياة والميراث في المجد العتيد.
ألكنيسة بأعتبارها ملكوت ألله: كان القديس أغسطينوس أول من اعتبر المختارين في الكنيسة الآن المعينين للحياة الآبدية أنهم يمثلون ملكوت الله أو ملكوت المسيح, في مقابل الأشرار الذين تحويهم الكنيسة أيضأ باعتبارهم «مملكة الشيطان». ومرة أخرى وضع المختارين كأنهم «مدينة الله» في مواجهة الأشرار «مدينة الأرض». ولكي نحصل على صورة صحيحة للكنيسة كملكوت الله، يلزم أن نعود إلى العهد القديم حينما كان الله يملك على شعب إسرائيل، فكانت إسرائيل بهيكلها الذي كان يحل فيه الله بصورة منظورة هي ملكوت الله المنظور على الأرض, ولكن كان لاسرائيل ولهيكلها صورة أخرى غير منظورة، صورة روحية حيث كان الله يحيا بالفعل بالروح في قلوب ابائها وأنبيائها وقديسيها, بل كان يملك حقاً على قلوب أتقيائها الذين تركوا لنا سيرتهم المرتفعة في القداسة وطاعة الله المذهلة والحب الالهي المتدفق في قلوبهم. وهذه الأسفار الشعرية, كسفر الأمثال والجامعة والمزامير وغيرها تحكي عن ملكوت الله الخفي غير المنظور الذي كانت تحياه إسرائيل تحت حكم الله وتدبيره.
‏كل هذا انتهى شكلاً وموضوعاً برفض إسرائيل أن يملك عليها الله: «ليس لنا ملك إلا قيصر». بل وامتدت أيديهم إلى فاديهم وملكهم فقتلوه «خذه خذه أصلبه… أأصلب ملككم» (يو15:19‏). أما الذين قبلوه منهم وترجوا أن يملك عليهم ويفديهم فصنع منهم شعبه الجديد, الكنيسة التي خُلقت بتجسد الكلمة وتدشنت بدم صليبه وامتلأت بملء الله يوم الخمسين. وسرعان ما انضم إليها كل الذين كُتبت أسمائمم في سفر الحياة المعينين للحياة الآبدية منذ البدء, فصار فيها من الأباء والأنبياء والشهداء والقديسين ما يفوق الأولين, وعوض لوحي العهد ذوي الأربعة الأوجه, صارت الأربعة الأناجيل المكتوبة حقاً وفعلأ بأصبع الله, وبقية الأسفار الحية التي تشهد كيف قام الملكوت وامتد وكيف جلس الله على عرش القلوب وحكم.
‏وإن كانت الكنيسة لا يعطي شكلها الأرضي المنظور صورة جيدة لملكوت الله بسبب معاثر الإنسان، إلا أن الله العامل فيها بالأسرار غير المنظورة أقام من الكنيسة سماء جديدة. فهو يلد فيها لنفسه كل يوم ألوفاً من خلائقه الروحانية بشكل خالقها وعلى صورته, بالحق, في القداسة والبر, يُلبسهم بيديه ثياب الروحانيين ويطعمهم من جسده ويسقيهم من دمه ويتعهدهم برحمته حتى يصلح كل واحد منهم أن يكون عضوا في جسده، شريكاً في آلامه هنا، وهناك شريك مجده في ملكه الآبدي. وهكذا فإن ملكوت الله يستعلن الآن في الكنيسة بالآلام, وهناك بالمجد.


4:3- قَالَ لَهُ نِيقُودِيمُوسُ: «كَيْفَ يُمْكِنُ الإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟».

الحقيقة هنا أن نيقوديموس لا يدعي الجهالة ولا يتوقع بالسخرية على عقيدة الميلاد الثاني، بل هو بكل صدق وأمانة يصور مدى الصعوبة البالغة، التي تبلغ مدى الإستحالة، كون الإنسان ينجح في أن يحصل على بداية حياة جديدة بميلاد جديد. وهذا التصوير, غير المبالغ فيه, أن الميلاد الثاني يساوي دخول شيخ في بطن أمه ثانية ويولد، هو محاولة منه ليدفع المسيح «كمعلم بالحق» أن يشرح له كيف يكون هكذا أو ما هي الوسيلة التي بها يمكن للانسان أن يولد ثانية؟ وهذا رة عليه المسيح ردا مباشراً عل فكره هكذا.
‏وليلاحظ القارىء أنه كما أن المسيح ابتدره بقوله: «إن لم يولد الإنساذ ثانية (أو من فوق)»، هكذا كان رد نيقوديموس صحيحاً ومناسباً: «كيف يولد»؟ وأضاف من عنده تصوره عن استحالة الأمر.
‏وليتمهل القارىء على هذا الفريسي العاتي، ليدرك أعماق إجابته. وعليك أن تتصور معه إنساناً ذا ماض طويل وعريض في التكيف بالعالم والناس والتعود على عادات وأفكار وسلوك مدى ستين سنة مثلاً، كيف يتخطاها، كيف ينساها، كيف يجعلها كأنها لم تكن ليبدأ من جديد وكأنه ما عاش هذه السنين، كيف؟
‏ثم صبراً جميلاً، وفرضاً أنه أمكن أن يمحو هذا محواً وكأنه لم يكن؛ ولكن كيف تبقى له «نفسه» هي هي التي سيبدأ بها، لأن النفس معجونة بصور الحياة منذ أن يعرف الإنسان نفسه، بل انطباع الأيام وحوادث الدهر تختزنها النفس أكثر مما يختزنها الجسد ألف مرة!!! لاحظ أن نيقوديموس يتكلم من عمق أعماق نفسه ومن طول حياته وخبراته التي ما جاء إلى المسيح إلا لكي يعدل فيها ويصحح، ولكن أن يلغيها كلها فهذا أمر جد خطير وغير وارد.
‏ثم لا تسخر من رد نيقوديموس كونه يصور ونفسه وهو يدخل بطن أمه، فهذا هو الجزء الأقل في المشكلة، لأن الجزء الأكبر هو «النفس»، نفسها، كيف يعطيها بدءاً جديداً. فإذا استحال على الشيخ دخول بطن أمه ليولد من جديد، فالإستحالة الأكبر أن يدخل داخل نفسه ليلغي ما صنعته السنين وما خطه الدهر فيها. وبهذا يكون نيقوديموس قد صور, دون أن يدري, القيمة الفائقة للميلاد من فوق مع ما يحويه من غفران ومصالحة.

 


5:3- أَجَابَ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ:
إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ.

‏سؤال نيقوديموس هو كيف يولد؟ هل من بطن أمه؟ هنا إجابة المسيح جاءت مباشرة على السؤال, فالميلاد ليس جسدياً بل هو ميلاد روحاني للنفس، ووسائله ليست لحمية لا من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله: من الماء والروح. هو ميلاد غير منظور, سماوي.
‏والمسيح يستخدم حرف «من» الذي ترجمه القديس يوحنا في إنجيله باليونانية ( ) أو ( ), ويفيد «من داخل»، أي يدخل الإنسان الماء ويغشاه الروح ويقوم أو يخرج مولوداً جديداً. هنا الروح هو العنصر السماوي الأساسي المختص بـ «فوق»، المعتبر كينبوع أو مصدر الحياة العليا، وهنا تتركز النقلة الكبرى الجديدة للانسان. والأن لماذا الماء؟ فالروح معروف أنه عامل الخلق والتجديد، فما هو دور الماء؟ وحتماً الماء هنا ليس هو ماء المعمدان، بل ماء المسيح الذي مضمونه السري والسرائري هو روح هو سماوي؛ لأننا نعلم تماماً في مفهوم الماء حتى في أوائل معرفة الإنسان والخلق أنه يوجد نوعان من المياه: مياه فوق الجلّد (السماء) ومياه تحت الجلد وهو البحار والأنهار: «وقال الله ليكن جلد (أي سماء) في وسط المياه، وليكن فاصلاً بين مياه ومياه، فعمل الله الجلد وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد، وكان كذلك. ودعا الله الجلد سماء.» (تك6:1-8)
‏فالمياه التي حولها المسيح في عرس قانا، حولها من مياه تخدم الأغراض الوقتية إلى خمر يخدم الأغراض الروحانية, أي نقل مفهوم مياه تطهر الجسد إلى مياه تختص بالروح. كذلك في مياه بئر يعقوب نرى المياه التي تخدم الأغراض الجسدية التي أعطاها الانجيل صورة الأغراض الحيوانية الخالصة إذ أضاف على الذين شربوا منها بعد يعقوب وبنيه الماشية أيضاً، إمعاناً في أنها مياه أرضية محضة ليس فيها ما يختص بالبركة ولا بالروح. ولكن هنا يرفع المسيح من مستوى المياه إلى ما فوق الجلد أي ليست مياه أرضية, وهذا يتم بحلول الروح القدس عليها وتقديسها. فتصير مصدراً لانبعاث حياة جديدة ليست أرضية بل روحانية.
‏معروف أن المعمودية ثلاث خطوات أو مراحل: الاول اعتراف بالخطايا، الخطوة الثانية قبول الغفران, الثالثة تغطيس في الماء. هنا تكمل المعمودية كختم توبة. فالتغطيس في الماء هو بمثابة قبول أو الدخول في الموت عن الحياة السالفة، حيث الماء هنا هو بعنصره الأصلي الأرضي أولاً للموت ثم بعنصره الروحي التقديسي السماوي للتقديس، ثم الخروج من الماء استعدادا لحياة جديدة. هنا تكون قد انتهت معمودية الماء ليبدأ عمل الروح القدس وهو إعطاء حياة جديدة للنفس كنسمة حياة من فم الله, تؤهلها للدخول في الحياة الآبدية, أي ملكوت الله, والترائي أمامه. هذا بالإضافة إلى أن بصلاة التقديس على الماء يتقدس الماء ويقدس الجسد حسب قول القديس كيرلس الكبير: [لأنه بما أن الإنسان مكون من جسد ونفس عاقلة، فإنه يحتاج إلى عمليتي شفاء ليصير له ميلاد جديد، لأنه بالروح يتقدس روح الإنسان وبالماء الذي تقدس يتقدس الجسد. لأن الماء بعمل الروح يتحول معدنه إلى مؤثر إلهي غير منطوق به ويقدس كل من يحل فوقهم.]
‏إذن, الميلاد من الماء والروح هو عملية موت عن حياة جسدية سالفة, وتقديس، ثم قبول حياة جديدة مخلوقة بالروح القدس، لتؤهل النفس للحياة مع الله في ملكوته. وليس أبدأ أن معمودية الماء هي عملية تختص بالخارج أو أنها عملية خارجية ظاهرية، بل هي الأساس العميق الذي عليه يعمل الروح القدس في الخلق، لأنه يستحيل أن الفاسد يلبس عدم فساد. فلابد أن تجري أولاً عملية الموت الارادي وبمؤازرة النعمة أيضاً, وذلك في المعمودية , عن حياة جسدية سالفة, بالنية الكاملة والضمير الطاهر؛ وهكذا يمكن التقديس حتى يتمكن الروح القدس بعدها أن يخلق في النفس حياة جديدة بالروح.
‏وبالنسبة لنيقوديموس، فالميلاد من الماء والروح, أمر ليس غريباً ولا جديدا على مسامح نيقوديموس, فكل الذين اعتمدوا على يد يوحنا المعمدان سمعوا من المعمدان أن المسيح سيعمدهم بالروح القدس, وأن معموديته إنما هي التمهيد الالهي, حسب إرسالية الله له, لكي يهيى، العمل لمعمودية المسيح بالروح القدس. فقول المسيح أن تولدوا من الماء والروح هو رنين مسموع في كل أنحاء اليهودية.
‏ولكن للأسف فإن الفريسيين رفضوا معمودية يوحنا: «وأما الفريسيون والناموسيون فرفضوا مشورة الله من جهة أنفسهم غير معتمدين منه» (لو30:7). وهكذا قطعوا على أنفسهم فرصة عمل الروح القدس بالتالي.
‏ومعروف أنه بعد قيامة المسيح صارت معمودية الماء والروح تتمان معاً في جرن المعمودية: «لا بأعمال في بر عملناها نحن, بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني, وتجديد الروح القدس.»» (تيطس 5:3‏)
‏وهكذا أصبح الميلاد الثاني من الماء والروح بالسر هو نفسه الميلاد من الله بالوعد.
‏وأخيراً يلزمنا أن نعي تماماً أن المسيح حينما قال هنا بالولادة من الماء والروح إنما يقولها بصورة نبوية إلى حد ما، فمعمودية الروح القدس لم تكن قد بدأت بعد. حتى أن المسيح لم يذكر كلمة «المعمودية» لأن تركيزه كان على الخلقة الجديدة بالروح كنتيجة.
‏«يدخل ملكوت الله»: هنا انتقل المسيح من حالة الرؤية الفكرية أو التعرف على ماهية هذا الملكوت, إلى الدخول فيه، وهو اصطلاح قريب جداً لذهن نيقوديموس، لأن الدخول إلى أرض الموعد: كنعان الأرضية، كصورة مصغرة توضيحية, كانت ماثلة أمام نيقوديموس؛ فكما هو مواطن في أرض الميعاد؛ مطلوب منه أن يكون مواطناً في ملكوت الله. وكما كان للدخول إلى أرض الموعد شروط جسدية (الختانة)؛ هكذا للدخول إلى ملكوت الله شروط روحية (المعمودية).


6:3- اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ.

في البداية نود لو يلاحظ القارىء أننا لا زلنا مح فكر إنجيل القديس يوحنا الهادف إلى توضيح استعلان رسالة المسيح، وبالتالي استعلان المسيح من وراء استعلان رسالته. فالقارىء يذكر الأية الاولى: تحويل الماء إلى خمر، وهذا التحويل يشمل تحويل العبادة من الغسلات والتطهيرات بالماء إلى شرب الروح وكأس الخلاص، وفي تطهير الهيكل وضح لنا عملية تحويل الهيكل, مركز العبادة, من صناعة يد إنسان في 46 سنة إلى هيكل جسد المسيح بالقياهة من الأموات، حيث صار جسد المسيح هو الكنيسة مركزا لعبادة بالروح والحق؛ والآن في حديث نيقوديموس دخلنا في مفهوم تحويل الإنسان نفسه من حياة قديمة حسب الجد إلى حياة جديدة حب الروح, بالميلاد الثاني من فوق.
‏والمسيح هنا في هذه الأية يقطع خط الرجعة على نيقوديموس حتى لا يفكر إطلاقأ في الخلط بين خلقة الجسد الأدمية القديمة وخلقة الروح الجديدة. فلا يوجد تطور من الجد إلى الروح، ولا امتداد، ولا تطعيم، ولا تخطي الحدود بالمعرفة, أو بالتقوى, أو بأي عمل يستطيع الإنسان أن يأتيه بقوته أو إرادته أو حتى بمواهبه! فالمولود من الجسد يبقى جسدياً, حسب أصله, والمولود من الروح لم يعد إنساناً جسدياً بعد, بل روحاً أو روحياً, حسب أصله أيضاً.
فالجسد هنا هو العنصر البشري، والروح هو العنصر الإلهي الفائق. ولا يقصد المسيح هنا بالجسدي والروحي: «جسد هو، هو روح» الإتجاه المعتاد بالتعبير عن الجسد «بالمادي»، ولكن الإتجاه في الحقيقة أعمق وأجل، فهو يقصد الإنتهاء إلى «لا شيء» بالنسبة لنهاية الميلاد من الجسد، وبلوغ «الوجود الحقيقي» بالميلاد من الروح، الوجود مع الله للبقاء والخلود، فالمولود من الجسد غريب ونزيل عل الأرض، وزائل، سواء أدرك ذلك في نفسه، أو تلاهى وتعامى عن حقيقة غربته وزواله.
‏أما المولود من الروح فقد دخل المعجزة الإلهية ليدرك وجوده الحقيقي، ويتيقن أنه صار غير مهدد بالزوال, ويحس أنه استوطن السماء بالفعل، ويمارس كل يوم وجوده برجاء حي يتجدد باستمرار.
‏وكل من تأمل في وجوده وحياته وأعماله يدرك حقيقة نفسه إن كان يعيش على لا شيء أو يعيش على رجاء الوجود مع الله، وحينئذ يقيم الميلاد من الروح ويسعى نحوه بكل عزمه وتصميمه.
‏وكما أن الولادة من الجسد تعطي الإنسان صفات جسدية خاصة منها الميل لإشباع رغبات الجسد، هكذا الميلاد من الروح يعطي النفس صفات روحية أهمها الإلتصاق بالله خالقها وإمكانية النزوع إليه من كل الفكر والنفس والقدرة!
‏وبالتالي كما أن الولادة من الجسد تهيء الإنسان للحياة بالجسد في هذا العالم، هكذا الميلاد من الروح, من فوق, يهيىء الإنسان للحياة, فوق, في ملكوت الله: «إن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوة» (كو1:3). ولأن الإنسان أصلاً هو مخلوق من جسد, ونفس عاقلة روحية, أصبحت حاجة الإنسان المولود من الجسد يقابلها بالضرورة حاجة الميلاد من الروح، كما أن تعلق الإنسان بالحياة على الأرض يقابله تعلق الإنسان بالحياة فوق بالروح.
‏إنه نزوع طبيعي في الانسان, بحسب حركة الروح الذي فيه, التي نفخها الله في أنفه, أن يتطلع إلى الخلود والامتداد في الحياة إلى ما هو أعظم وأعلى وأرقى دائماً, وحنين الإنسان إلى الله والسماء والقداسة لم ينطفىء منه قط مهما تكدست الخطية فوق رأسه. الإنسان مخلوق أصلاً على صورة الله والصورة تنزع إلى التقرب من أصلها, كما أن الله يحن دائماً إلى صورته ويودها بقربه. ولو دققنا الرؤية أو تعمقنا الإنسان, ولو أنصفنا في تقييمه، لوجدناه روحاً لا جسداً, الإنسان الذي يحيا بجسده يحيا غريباً عن نفسه النزاعة نحو الروح والله! الإنسان يشقى بجسده بسبب وجود روحه الرقيبة عليه التي تستصغر دائماً من أعماله وأفكاره وميوله حينما تتطلع إلى خالقها.
‏الإنسان لا يستمتع وجوده الحقيقي الذي يشتاق إليه ويتمناه، أو حتى الذي يجهله، ولكن الروح لا تجهل ما لها. فالإنسان يتأوة ولا يعلم ماذا يريد، فقط هو غير راض عما هو فيه، الأفضل دائمأ دائماً غائب عنه, مهما أجهد ذاته للحاق به, وكل ما يحصل عليه يبقى ليس هو الذي له. فالميلاد الروحاني الجديد للانسان هو معجزته التي يعيش على رجائها، مهما كانت مخفية عنه وغائبة عن وعيه, إنه حالما يحصل عليها، يصير هو الإنسان الذي يريده، هو نفسه تماماً، وليس أقل ولا أنملة, ميلاد الإنسان روحيأ من فوق هو بداية الوجود الحقيقي له الذي هو له حقاً، حيث تستقر نفسه على مركزها الثابت الأصيل الذي ليس على أرض الزعازع والأوهام بل فوق. الإنسان المولود من فوق يتشبث بالأبدية فلا يعود الزمن يقلقه ولا توافه الأعمال.
‏ثم ألا ترى، عزيزي القارىء، أن الإنسان ليس حراً أن يختار بين أن يعيش بالجسد أو بالروح؟ لأنه إن لم يعش بالروح, فهو لا يعيش أصلاً وأبداً. أنظر إلى نيقوديموس الذي جاء يطلب الأفضل وهو معلم إسرائيل الأعلى، فاكتشق أنه حقاً وفعلاً لا يعيش!!
‏يقولون إن الإنسان حر، يختار مصيره بنفسه، هذا غش وخداع، فمصير الإنسان هو الذي يقنع الإنسان أن يتخلى عن حريته!! ومصير الإنسان تحدده ماهيته، يحدده كيانه، يحدده أصله الذي انحدر منه والذي فقده على الطريق، فصار بدونه كلا شيء، فإذ هو أصر على حريته صار إلى لا شيء. إن نداء الأم التي تاه ابنها عنها يسمعه الولد وهو على بعد فراسخ وأميال، والإنسان يسمع في أعماقه نداء الله مهما بعد عن الله وطال بعاده.
‏المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح، الجسد لن يوصلنا إلى الله! إن الجسد لا يطيق الله: «محبة الجسد عداوة لله»!! فلكي يقبل الإنسان معجزة الميلاد الثاني من فوق يلزمه حتماً أن يُخضع الجسد لمعجزة الموت: أن يكف الجسد عن أن يحيا لنفسه, ويكف عن أن يقود مسيرة الحياة: «وكان يقتاد بالروح.» (1:4).


7:3- لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ.

هذه الآية مرتبة على سابقتها، أي إذا كان المولود من الجسد يبقى جسداً والمولود من الروح يصير روحاً, إذن، لا تتعجب إذا قلت لك ينبغي أن تولدود من فوق! هذا إذا كنت تريد أن تصير رجلاً روحياً وتتأهل للحياة في ملكوت الله. أو بمعنى أكثر وضوحاً إذا كنت قد جئث إلي لتتعلم كيف تحيا كما ينبغي لإنسان يريد أن يدخل ملكوت الله, فلن تنفعك الأعمال الجسدية كلها, مهما كانت، فهي من الجسد وتؤول إلى الجسد، ولكن يلزم أن تصير إنساناً روحياً تحيا بالروح وليس بالجسد: «فلا تتعجب إذا قلت لك ينبغي أن تولدود من فوق».


 8:3- اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا لَكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ.
هَكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ».

‏في اللغة العربية يصير كلام المسيح هنا, الذي يبرهن به على عدم قدرة الإنسان على ملاحقة عمل الروح القدس ومعرفة كيفية عمله, يصير فهمه صعباً نوعاً ما، لأنه في اللغة اليونانية التي كُتب بها الإنجيل واللغة العبرية وهي اللغة الأصلية التي تكلم بها المسيح, يأتي اسم «الروح» مطابقاً لاسم «الريح» حرفياً، بل حتى كلمة «يهب» الريح تأتي من أصل كلمة الريح.
‏ولكن القصد العام من كلام المسيح يمكن تشبيهه بشجرة هادئة وفجأة تجد أغصانها تتحرك وأوراقها تصفق وتسمع صوت الريح يتخللها بوضوح فتعرف أن الشجرة استهدفت لعمل الريح، ولكن لا تعرف من أين أتى الريح ولا إلى أين سيذهب، هكذا كل من وُلد من الروح، تظهرعليه علامات عمل الروح القدس بغاية الوضوح والقوة, في كلامه، في تصرفه, في فهمه، في حبه, في صبره، في اتضاعه، في شجاعته، في حكمته، في رؤيته للأمور الروحية وأمور العالم الحاضر. وباختصار تجده إنساناً آخر غير الذي كنت تعرفه، فتعرف بكل يقين أنه اُستهدف لعمل الروح القدس بالميلاد من فوث.
‏ولكن ليس قصد المسيح أن يوضح أن الميلاد الثاني من فوق يمكن شرحه تماماً، فهذا يبقى سراً لا يمكن أن يعرفه إلا الذي أخذه, ولكن شرح المسيح هو توضيحي يعتمد على المقارنة التي تبقى في حدود الجسديات. فالرياح لا تخرج عن كونها قوة طبيعية مادية: «كما أنك لا تعلم طريق الريح… كذلك لا تعلم أعمال الله الذي يصنع الجميع.» (جا5:11)


 

9:3- فَسَأَلَهُ نِيقُودِيمُوسُ: «كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا؟»


فَقَالَ: «اذْهَبْ وَقُلْ لِهَذَا الشَّعْبِ: اسْمَعُوا سَمْعاً وَلاَ تَفْهَمُوا وَأَبْصِرُوا إِبْصَاراً وَلاَ تَعْرِفُوا. غَلِّظْ قَلْبَ هَذَا الشَّعْبِ وَثَقِّلْ أُذُنَيْهِ وَاطْمُسْ عَيْنَيْهِ لِئَلاَّ يُبْصِرَ بِعَيْنَيْهِ وَيَسْمَعَ بِأُذُنَيْهِ وَيَفْهَمْ بِقَلْبِهِ وَيَرْجِعَ فَيُشْفَى». (إش9:6-10)

أَنَّ الْقَسَاوَةَ قَدْ حَصَلَتْ جُزْئِيّالاِسْرَائِيلَ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ مِلْؤُ الأُمَمِ. وَهَكَذَا سَيَخْلُصُ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ. (رو25:11-26)

السؤال يطلب توضيحاً، لأن الكلمة «كيف يكون هذا» هي باليونانية: «كيفر هذا يصير أو يتم»، فالسؤال هو عن عملية الولادة الثانية كيف تكون. وفي الحقيقة إنه أمر غير محتمل من هذا المعلم أن يسأل هذا السؤال, لأن المسيح أوضح له أن هذا العمل فائق وهو من اختصاص حركة الروح القدس أي حسب قوانين عمل الله تجاه الإنسان؛ أي بمنتهى الوضوح والصراحة أدخل المسيح عملية الميلاد الثاني من فوق ومن الماء والروح في دائرة اختصاصه هو, أي في محيط معرفته وعلمه فيما يخص عمل الله.


 10:3- أَجَابَ يَسُوعُ: «أَنْتَ مُعَلِّمُ إِسْرَائِيلَ وَلَسْتَ تَعْلَمُ هَذَا!.

مراجعة بل مساءلة أليمة، يوجهها المسيح بل الله لمعلم التوراة والقّيم على إنارة شعب الله، لا يوجهها لنيقوديموس بل لكل معلمي إسرائيل وفريسييه وكتبته في شخص نيقوديموس. ألم يتكلم الله على فم كل أنبيائه ومختاريه عن عمل الروح في الإنسان وتغييره كلية حتى إنه يصير شخصاً آخر؟
«فأخذ صمؤئيل قنينة الدهن وصب على راسه وقبله وقال… يحل عليك روح الله فتتنبأ معهم وتتحول إلى رجل آخر… وكان عندما أدار كتفه لكي يذهب من عند صمؤيل أن الله أعطاه قلباً آ!! وأتت جميع هذه الآيات في ذلك اليوم، ولما جاءوا إلى هناك إلى جبعة، إذا بزمرة من الأنبياء لقيته. فحل عليه روح الله فتنبأ في وسطهم.» (اصم1:10-10)
‏وهل يكون عمل الروح للتجديد وتغيير الإنسان أكثر من هذا؟
«فأخذ صموئيل قرن الدهن ومسحه وسط إخوته وحل روح الرب عل داود من ذلك اليوم فصاعداً» (1صم13:16)
‏وهل هذا ليس على مستوى ميلاد ثان للانسان ليحيا بالروح كل أيامه؟
+ ومن جهة الخلق الجديد في الإنسان ألم نسمع من داود النبي نفسه, عندما أخطأ إل الله, كيف صرخ: «قلباً نقياً اخلق فيّ يا الله وروحاً مستقيماً جدد في داخلي» (مز10:51), أليس هذا خلقاً جديداً وبعد التجديد أيضاً! لأنه رأى أن صومه وصلاته وعبادته وتسابيحه لن تغنيه من التجديد والخلق الجديد؟
+ ثم ألم يتكلم حزقيال النبي معلماً وشارحاً عن ما سيتم بالحرف الواحد في أيام المسيا الذي وقف نيقوديموس أمامه ولم يتذكر كلمة واحدة مما قال: «وأعطيهم قلباً واحداً، وأجعل في داخلكم روحاً جديداً, وأنزع قلب الحجر من لحمهم وأعطيهم قلب لحم» (حز11:11)
‏أليس هذا ميلادا جماعياً كولادة شعب بمواهب روحية واحدة؟
+ ثم ألم يحزر حزقيال النبي أيضأ الذين يتوانون من مثل هذا التجديد الذي سيمنحه الله في وقته: «اطرحوا عنكم كل معاصيكم التي عصيتم بها (التوبة) واعملوا لأنفسكم قلبا جديدا وروحأ جديدة فلماذا تموتون يا بيت إسرائل» (حز31:18). فبدل أن يركض معلم التوراة والناموس وفي مقدمتهم نيقوديموس لينالوا القلب الجديد والروح الجديد، جاء يسأل بلسانهم «كيف يكون هذا؟»
+ ثم ها هوذا أيضأ حزقيال يجمح عمل الماء مع عمل الروح باعتبار ذلك سر قوة التجديد الذي سيرسله الله لهم على يدي المسيا: «وأرش عليكم ماءً طاهراً فتطهرون من كل نجاساتكم ومن كل أصنامكم أطهركم، وأعطيكم قلبا جديداً, وأجعل روحااً ‏في داخلكم» (حز25:36-26)
‏+ ثم هوذا حزقيال أيضاً ينال من الله أمراً صريحاً بأن «يتنبأ للروح أن يهب», وهو بالحرف الواحد نفس الإصطلاح الذي استعمله الرب يسوع: «الريح تهب حيث تشاء…»، حتى صار معلم إسرائيل بلا عذر ان يجهل كيف يكون هذا: «فقال لي تنبتأ للروح يا ابن آدم وقل للروح هكذا قال السيد الرب: هلم يا روح من الرياح الأربع, وهب على هؤلاء القتلى ليحيوا. فتنبأت كما أمرني, فدخل فيهم الروح, فحيوا وقاموا على أقدامهم, جيش عظيم جداً جداً. ثم قال لي: يا ابن أدم هذه العظام هي كل بيت إسرائيل. ها هم يقولون يبست عظامنا وهلك رجاؤنا. قد انقطعنا. لذلك تنبأ وقل لهم: هكذا قال السيد الرب: هأنذا أفتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم يا شعبي… وأجعل روحي فيكم فتحيون.» (حز9:37-14).
+ ثم من جهة العهد الجديد الذي وعد به الله، وكيف سيتولى الله بنفسه تعليم الشعب بأن يلقن قلوبهم علم معرفته فلا يحتاجون إلى معلم بعد بل يكون الله هو«المعلم» : «ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدا جديدا, ليس كالعهد (الأول)… أجعل شريعتي في داخلهم واكتبها عل قلوبهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لى شعباً. ولا يعلمون بعد كل واحد صاحبه وكل واحد أخاه قائلين اعرفوا الرب، لأنهم كلهم سيعرفوني من صغيرهم إلى كبيرهم, يقول الرب, لأني أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد» (إر31:31-34). أليس هذا هو عهد التجديد وميلاد الإنسان الجديد وعلم الله الجديد؟
+ ثم كيف أن الله يلد أولاداً ويلد مدينة ويلد شعباً ويمخض بهم بالروح ويلدهم؟ كان إشعياء في ذلك واضحاً غاية الوضوح: «بل افرحوا وابتهجوا إلى الأبد فيما أنا خالق، لأني هأنذا خالق أورشليم بهجة وشعبها فرحاً. فأبتهج بأورشليم وأفحر بشعبي… من سع مثل هذا. من رأى مثل هذه: هل تمخض بلاد في يوم واحد، أو تولد أمة دفعة واحدة؟ فقد مخضت صهيون، بل ولدت بنيها. هل أنا أمخض ولا أولد يقول الرب.» (إش18:65-19, 8:66-9)
+ وعن عمل الروح القدس جهاراً وانسكابه بلا كيل، يقول يؤئيل النبي: «ويكون بعد ذلك أني أسكب روحي على كل بشر, فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلاماً ويرى شبابكم رؤى؛ وعلى العبيد أيضاُ وعلى الإماء أسكب روحي في تلك الآيام.» (يؤئيل 28:2-29‏)
‏فماذا إذا؟ أليس هذا دليلاً على أن معلمي الشعب تركوا تعاليم الله الحية المبهجة وتعزياته التي بلا عدد, نسوها وأهملوها, ففقدوا حاسة الرؤية العقلية والروحية لما انشغلوا بالقوانين الحرفية والوصايا الجسدية. فلما جاء العصر الموعود وتحققت كل وعود الله وظهر المسيا الذي يطلبونه وانسكب الروح, لم يعرفوه. وأمام تحقيق أجمل مواعيد الله وهي خلق الإنسان خلقاً روحيا جديداً بقلب جديد وروح جديد, وقف نيقوديموس يسأل كيف يكون هذا؟؟ بدل أن يقول ها أنذا!!


 11:3- اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّنَا إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ بِمَا نَعْلَمُ وَنَشْهَدُ بِمَا رَأَيْنَا وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَ شَهَادَتَنَا.

‏هنا الآية امتداد للسؤال الإستنكاري الذي طرحه الرب على نيقوديموس موبخاً: «أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا؟»
‏هنا يقول الرب: أما أنا فأعلم، ويعلم معي ويشهد عليك كل الذين تنبأوا عن هذه الآيام، وعن عمل الله الذي وعد به والذي هو غريب في عينيك. والمسيح لما يتكلم يتكلم عن مصدر المعرفة والرؤية، ولما يشهد يشهد ومعه الآب الذي أرسله. وان جاءت الكلمات في هذه الأية بالجمع فهي بسبب تعذر القول بالشهادة بالمفرد، فالشهادة الشرعية لا بد أن تكون لأكثر من واحد، لذلك جمع الشهادة والعلم معاً:«نعلم ونشهد».
‏وقد جاءت هذه الآية نفسها مرة أخرى، وفي هذا الآصحاح أيضاً، عن المسيح ولكن بمنطوق الشخص الثالث الغائب: «ما رآه وسمع به يشهد، وشهادته ليس أحد يقبلها.» (يو32:3). أما قولنا أن الآب يشهد معه، فهذا يؤكده أيضاً بعد ذلك قول الأية: «ومن قبل شهادته، فقد ختم أن الله صادق.» (يو33:3)
‏ولكن تمشياً مع فكر نيقوديموس الأرضى والمحدود، فمن الممكن أن يكون الرب قد تماشى معه على مستوى رؤيته. فالرب يتكلم وبجواره تلاميذه الذين كانوا سابقاً أيضأ تلاميذ المعمدان، هؤلاء رأوا وعلموا يقيناً ما هو الميلاد من الماء وما هو عمل الروح القدس في الماء ومح الماء. فالمسيح يتكلم ومعه من يعلم ومن رأى ويشهد. وإن كان هذا الفكر لا يلزمنا نحن الذين نعلم من هو الذي يعرف بالحق، ومن هو الذي رأى بالحق!!


 12:3- إِنْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمُ الأرضيَّاتِ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ إِنْ قُلْتُ لَكُمُ السَّمَاوِيَّاتِ؟.

«أنا الرب إلهك الذي أسس السموات وخلق الأرض, الذي يداي صورت كل جند السموات ولكني لم أظهرها لك حتى لا تذهب وراءها.» (هو4:13- حسب الترجمة السبعينية)
‏الأرضيات هنا، بحسب لغة القديس يوحنا وحسبما تكون الكلمات صادرة من فم المسيح وتشبيهاته، فهي تعني الأمور الروحية كالميلاد الثاني إنما مشروحة على المستوى الجسدي بأمثال أرضية «كالريح التي تهب»، أو الجسد «كالخبز المكسور»، أو الدم «كالخمر الممزوج في الكأس»؛ فإذا لم يستطع اليهود أن يؤمنوا بالروحيات بالرغم من تجسيدها على مستوى فهم الأرضيات فكيف يؤمنون بها لو استعلنها لهم على مستوى جوهرها السمائي والإلهي؟
‏واضح جداً أن عجز معلم إسرائيل هذا المرموق الذي جاء ليمثل أعلى طبقة متعلمة في إسرائيل, أقول إن عجزه في ملاحقة شرح الرب للميلاد الثاني للانسان من الماء والروح بالرغم من أن الرب أعطاه مثلاً موازياً من الأمور الأرضية، هذا العجز جعل الرب يقتصد جداً في التعمق في شرح الأمور الروحية التي تتبع حتماً الميلاد الجديد والتي تختص بصورة الإنسان ومؤهلاته وكفاءته في رؤية الله والدخول إلى الملكوت، بل وجعله يكف عن الإسترسال في أمور السماء نفسها، وهذا أمر يحز في نفوسنا. هذا التعجيز عينه واجهه بولس الرسول عند الإسترسال في أسرار الروح للكورنثيين: «وأنا أيها الإخوة لم أستطع أن أكلمكم كروحيين بل كجسديي ، كأطفال في المسيح سقيتكم لبناً لا طعاماً لأنكم لم تكونوا بعد تستطيعون بل الأن أيضاً لا تستطيعون» (اكو1:3-2). ويرد على هذا الكلام سفر العبرانيين: «لأن كل من يتناول اللبن هو عديم الخبرة في كلام البر لأنه طفل وأما الطعام القوي فللبالغين, الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس (الروحية) مدربة على التمييز بين الخير والشر» (عب13:5-14). وطبعأ فإن ما يقصده الرب من قوله «الأرضيات» هو النصيب الذي يتلقاه أولاد الله من الروح هنا على الأرض، مشروحاً بأمثلة أرضية مثل الميلاد من الماء والروح, وهو يختص بالسلوك والحياة هنا. السماويات هي النصيب المعد لأولاد الله في السماء، وهو الجزء الأعظم والأكمل للخلاص الذي بُديء به هنا. لأن الميلاد الثاني وإن كان يحدث الأن في هذا الزمان وعلى الأرض, ولكنه أصلاً وبالنهاية فهو لحساب الملكوت والحياة مع الله.
‏وكلام الرب لا يفيد أنه لن يتكلم أو يعلم عن السماويات عامة، بل الكلام موجه للفريسيين الذين عجزوا عن اللحاق ببداية المسيرة الروحانية بالميلاد (من الماء والروح). فكيف سيقبلون مثلاً الأكل من الجسد والدم الإلهيين، أو «أنا والآب واحد»، أو الفداء بدم ابن الله، أو القيامة من الأموات، أو الصعود والجلوس عن يمين الآب؟


 


ب- الحديث الغير مباشر مع نيقوديموس (13:3-21‏)

وتستمر فيه المقابلة بين القديم والجديد على النحو التالي:
‏القديم: الحية النحاسية المرفوعة على خشبة، والمريض الناظر إليها يشفى من عضة الحية.
الجديد: «هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الآبدية».
‏الاستعلان: موت ابن الله على الصليب.
‏القديم: ظلمة الأعمال الشريرة, بغضة النور, الدينونة.
الجديد: الإقبال إلى النور بأفعال الحق المعمولة بالله .
‏الاستعلان: «النور جاء إلى العالم».


13:3- وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ.

يقول بعض من الشراح إن الكلام مع نيقوديموس قد انتهى عند الآية السابقة (12‏)، ولكن معظم الشراح قالوا بانتهاء الحديث مع نيقويموس عند الأية (15‏). وربما يكون بعض الآباء قد أخذوا بهذا الفكر, ولكن لا يوجد قط ما يبرر هذا وذاك. فكلام المسيح واضح ومسترسل، بل ومتحمس لكي يعطي نيقوديموس أقصى ما يمكن من عناصر التجديد والحياة الآبدية التي جاء من أجلها.
‏ويلزم هنا أن ننبه ذهن القارىء لبداية حديث نيقوديموس بقوله: «يا معلم نعلم أنك أتيت من الله مُعلماً..». هنا في الواح يقسم نيقوديموس نظرته للمسيح إلى جزئين: الاول: شخص المسيح, والجزء الثاني: رسالته .
‏وعلى هذا القياس، كان رد المسيح المسترسل الطويل. فبدء كل زي بدء هو أن المسيح لم يجىء معلما يعلم بعلم أفضل, بل جاء ليعطي حياة أفضل, من فوق حيث أتى, فهو لا يعلم علم الملكوت بل يلد من روحه، من السماء، أبناء جدد للملكوت. أما من جهة شخصه أنه أتى من الله معلما فقد رد المسيح أنه نزل من السماء, بعمل سيشرحه حالاً, (الإرتقاع على الصليب والبذل والحياة الآبدية)، وسيصعد إلى السماء, ليبقى هناك. لأنه هو من هناك! وهكذا يستمر المسيح.
‏كذلك ينبغي أيضاً أن ننتبه، لأن الميلاد الذي جاء المسيح ليعطيه «من فوق», هذا الذي صعب على نيقوديموس فهمه وتفسيره، سيبدأ المسيح ليوضح له سهولة الميلاد من فوق كونه هو«من فوق» وكون ارتفاعه (على الصليب) سيعطي الحياة الأبدية التي هي عنصر الحياة في الميلاد من فوق. لهذا ينبغي الإلتفات إلى الترابط بين عناصر الحديث، لأنها غاية في العمق.
‏تبتدىء الآية هنا بحرف «و» وهي تصل الكلام بالسابق مع إعطاء فكر جديد يفوق في قوته. ما ذُكر سابقاً. فالمعنى في جملته يكون هكذا: ولو أنه يوجد من لا يصدق أمور السماء، ولكن الذي يتكلم هنا عن أموو السماء هو من نزل من السماء، ابن الإنسان (بالتجسد) وهو اصلاً في السماء! إلا أنه لن يمكث على الأرض كثيراً فهو سيصعد إلى السماء كما كان. والكلام يحوي معاني أخرى داخل مضمون هذا النزول والصعود وهي أسرار السماء، ويلزم أن ننفتح لقبولها كما أنه يلزم أن نفتح أعين قلوبنا لإدراك من هو هذا: «ابن الإنسان» الذي نزل من السماء لنتعرف عليه شخصياً لأنه سيوضح نفسه بأعماله.
‏«ليس أحد صعد إلى السماء»: «دصعد» هنا الفعل في المضارع التام الذي يفيد الحدوث المكتمل والمستمر إلى الآن. ولذلك أضاف «ابن الإنسان الذى في السماء (الآن)»، ويلزم هنا أن نذكر ما سبق أن قاله القديس يوحنا: «الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر».
‏والمعنى أنه ليس إنسان قط استطاع أن يرتفع إلى مناطق الحق العليا ليتحقق منها، ولا أحد أيضأ أُعطيت له أسرار السموات إلا «ابن الإنسان» الذي يحمل في كيانه البشرية كلها ويمثلها تمثيلاً. فهو وحده عنده معرفة الحق المطلق بجملتها، ليس كمن يستقبلها أويتعلمها، بل هي تنبع فيه كمن يمتلكها. وهو لما صعد إلى السماء، لا يكون كمن يرتفع، أو يُرفع، فهو يحمل مجد الصعود في ذاته, لأنه هو على الأرض ليس كمن يقيم أو يستوطن بل كزائر نزل من السماء لمهمة ورسالة, بالتجسد، فالسماء هي وطنه. لذلك فأمور السماء كلها هي معرفته الخاصة، وليس كأنه يتعرف عليها كشيء ليس له، فهي صورة من حياته جاء ليورثها لنا. وهنا فعل «الصعود» تم مرة واحدة مكتملة الفعل.
«نزل من السماء»: ‏«نزل» وهو فعل في زمن الماضي البسيط. ويلزم أن ننتبه أن قوله «نزل من السماء» هو التعبير الذي يتجسم لنا في قوله: «والكلمة صار جسداً» حيث جاء الفعل «صار» وهو أيضأ في زمن الماضى البسيط, كتعبير عن صحة حدوث التجسد في صميم الزمن. غير أن زمن الماضى البسيط لا ينفي استمرارية النزول، ولذلك جاء نفس الفعل في أية أخرى في زمن المضارع المستمر الذي يفيد دوام النزول، لأن التجسد أو النزول فعل حدث ولا يزال حادثاً وقائماً إلى الأبد.
«لأن خبز الله هو النازل من السماء، الواهب حياة للعالم» (يو33:6), يلاحظ ها أن النزول في حالة الدوام, وموطن صاحب هذا الجسد هو السماء أصلاً: «ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء بل أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء».
‏وكأنما الرسالة الأصلية للمسيح التي نزل إليها من السماء هي ليعطينا جسده, على الدوام, خبزاً حقيقياً لنحيا به, على الدوام. أما الذين يعرضون عن هذا الخبز الحقيقي المحيي ويرفضونه، فحجتهم هي هذه: «أليس هذا هو يسوع بن يوسف الذي نحن عارفون بأبيه وأمه فكيق يقول هذا إني نزلت من السماء» (يو42:6)، «كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكله؟» (يو52:6‏). هذه هي عثرة «إتضاع المسيح»!! «وطوبى لمن لا يعثر فيّ.» (يو42:6‏)
‏وليلاحظ القارىء أن «النزول من السماء» هو اصطلاح خاص بالله في العهد القديم: «… ويكونوا مستعدين لليوم الثالث، لأنه في اليوم الثالث ينزل الرب أمام عيون جميع الشعب على جبل سيناء» (خر11:19)، «فأنزل أنا وأتكلم معك هناك وآخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم فيحملون معك ثقل الشعب.» (عد17:11)
‏وتعتبر الآية التي نحن بصددها: «… إلا الذي نزل من السماء, ابن الإنسان, الذي هو في السماء» شرحاً مبسطاً غاية التبسيط للتجسد على أساس آيات العهد القديم التي ذكر فيها «نزول الله» ولكن استبدل فيها «ابن الإنسان» بدل كلمة «الله»» بسبب «ظهور الله في الجسد» (اتي16:3). فإذا علمنا أن الذي «نزل من السماء» هو ابن الله حنئذ تتضح الآية: «لأني نزلت مز الساء، ليس لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني.» (يو38:6)
‏والأن إذا انتبهنا إلى مفهوم «النزول من السماء» بصورته العامة، نرى أن نزول ابن الإنسان في هذه الآية التي نحن بصددها (13‏) لا يختص فقط باستعلان أسرار السماء بل توصيل رسالة الخلاص والحياة الأبدية، أو باللغة التي تناسب نيقوديموس إعطاء الدخول إلى ملكوت الله.
‏كما يلاحظ أن هذه الأية (13‏) لو دققنا في مشتملاتها من حيث رسالة النزول ورسالة الصعود, نجد أنها تجمع كل أعمال المسيح: التجسد, أعمال الفداء والخلاص حتى الصعود. لذلك لا نستغرب أن الآية التي تأتي بعدها مباشرة (14) تتكلم عن أول فعل من أفعال الخلاص وهو الصليب, ولكن في صورة «ارتفاع». تعبيرا عن المجد الذي سيليه حتماً وذلك باستخدام رمز الحية.


 14:3- 15«وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ[1].
 لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ.

‏هنا بداية عمل ابن الانسان، شرحها المسيح على مستوى فكر نيقوديموس معلم إسرائيل:
‏ويمكن شرح الموضوع هكذا: قصة سقوط الإنسان بدأت بالحية التي استطاعت أن تسرب الخطية القاتلة للانسان. وقد أفلح الناموس (التوراة) على يد موسى (عد7:21) أن يصور بالرمز الخلاص المزمع أن يتم للانسان المسموم بشوكة الموت, أي الخطية التي هي من صنع الحية. فانتهز موسى فرصة انتشار الحيات المحرقة أي التي تتلمظ بلونها الضارب إلى الحمرة كالنار المحرقة, التي ترمز إلى جهنم, التي بدأت تفتك بالشعب غليظ الرقبة جزاء تمرده على الله مرة ثانية كأبيهم أدم. فأقام مومى بمشورة الله الذي يصور أشباه السمويات وظلها، تمثال حية نحاسية حمراء وأقامها على عود من الخشب عالياً في وسط الشعب؛ وأمر أن كل من تلدغه حية, عليه فقط أن ينظر الى الحية بإيمان فيشفى.
‏فالحية، كرمز، هي حاملة الموت؛ ولكن تمثال الحية النحاسية، هو حية ميتة, سمها مقتول. هكذا اختار الله أن تكون الحية النحاسية هي رمز المسيح الذي أخذ خطية الانسان ككل في جسده ومات بها، فقتل الخطية بالجسد. لهذا يقال أن المسيح أمات الموت!! ودان الخطية بالجسد, أي حكم عليها حكماً مؤبداُ بالعدم حينما مات بها ثم قام. وبقيامته أعطانا الصليب الذي صُلب عليه كصك ينص حكم إعدام الخطية, وموت الموت حتى نُشهره أمام الضمير، وفي يوم الدينونة العتيد. فالآن، الذي ينظر إلى الصليب والجسد عليه ميتا، مؤمناً بما صنع المسيح بالخطية، فهو يحيا «الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده ‏على الخشبة لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبر» (1بط24:2)
‏فلكي نفهم كل سر رفع الحية النحاسية في البرية, يلزم أولاً فهم الحقيقة التي قام عليها هذا الرمز قديماً. أي أن موت المسيح على الصليب وما تم بسببه من الخلاص والحياة من موت محقق, هو الذي يشرح معنى رفع الحية النحاسية في البرية. أي أنه يلزم قراءة الأية من الآخر كالآتي: «ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان, كما رفع موسى الحية في البرية»، لأنه بدون سر الحياة التي تمت بموت المسيح على الصليب, يبقى مثل الحية النحاسية المرفوعة في البرية لغزاً يستحيل حلة.
«هكذا »ينبغى» «أن يرفع» ابن الإنسان».
‏كلمة «ينبغي» ضعيفة في تعبيرها عن المقصود في الأصل اليوناني, فكان الواجب أن تكون الترجمة «يتحتم». ولماذا يتحتم؟
‏في الحقيقة إن استخدام كلمة «ابن الإنسان» هنا هي تعبير مكشوف من التجسد، فيلزم للقارىء أذ ينتبه دائماً حينما يقابل كلمة «ابن الإنساذن» أن يترجمها في ذهنه إلى ما تم في التجسد، وخاصة اتحاد اللاهوت بالناسوت في شخص المسيح. فلأن ابن الله «تجسد», أي صار «ابناً للانسان»، فهنا سر الضرورة الحتمية أن يتألم أي يرتفع على الصليب؛ لأنه لم يتجسد إلا لكي يتألم بالجسد ويموت ليتم الخلاص للانسان: «لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة»! (يو27:12) ولكن لأن الجسد متحد باللاهوت، فبمقتضى لاهرت ابن الإنسان أصبح من المحتم وبالضرورة أن يقوم ابن الإنسان ويرتفع، أي يصعد إلى السماء حيث كان!
‏ولكن لأن أسلوب القديس يوحنا في التسجيل عميق غاية العمق ومتسع غاية الإتساع، وكل ذلك في اختصار بالغ الشح، استخدم هنا بلسان المسيح «الإرتفاع» لكي يشمل الإرتفاع على الصليب في ألم، ثم بالتال الإرتفاع أي الصعود إلى السماء في مجد.
‏والآن إذا عدنا لقراءة الآية مرة أخرى من الأول: «وكما رفع موسى الحية في البرية…» يظهر المعنى القوي المقصود وهو أنه كما حدث الشفاء للذين عضتتهم الحية في البرية عندما رفع موسى الحية النحاسية، «هكذا يتحتم أن يُرفع ابن الإنسان» ليحدث الشفاء من الخطية والموت الذي من صنع الحية القديمة.
‏لاحظ أن في «الرفع» سواء كان للحية النحاسية أو المسيح يكمن سر الخلاص.
«لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الابدية»:
‏لا زلنا ننظر، بالتوازي، شعب إسرائيل في البرية وهو منطرح على الأرض جثثاً هالكة من سم الحية، ولكن كل من أطاع وامن ونظر إلى تمثال الحية النحاسية عاش.
‏المنظر هنا يعود ويصور المسيح مرفوعاً, في لغز, لأن ميعاد الصليب لم يحن بعد, والكلام لنيقوديموس. فكل من يرفع قلبه بالإيمان إليه ينجو من الهلاك الأكثر من هلاك سم الحية المحرقة، الذي يورد الجسد إلى العطب، لأن هلاك عدم الإيمان بالمسيح يغلق على الإنسان في حضن الحية القديمة (إبليس) التي تمتص منه رحيق الحياة أولاً بأول، ولا ينتظر بعد الموت إلا الموت، حيث نشيد الهاوية: «إذا رجوت الهاوية بيتاً لي وفي الظلام مهدت فراشي، وقلت للقبر أنت أبي وللدود أنت أمي وأختي, فأين إذاً آمالي، آمالي من يعاينها؟ تهبط إلى مغاليق الهاوية إذ ترتاح معاً في التراب.» (أي13:17-16)
«تكون له الحياة الأبدية»:
‏الذي كان ينظر إلى الحية النحاسية كان يقوم ويحيا، تماماً وهكذا من بالإيمان ينظر إل المسيح تدب فيه عناصر الخلود, وتنسحب منه قوى الموت والفساد فلا يسود عليه الموت بعد، لأنه بعد الموت تكون له الحياة الأبدية!!
‏ويلذ لنا أن نتأمل في أسلوب الأية البديع في قوله «تكون “له” الحياة الأبدية»، وليس مجرد «يحيا إلى الأبد» وكأن الحياة الأبدية لم تعد منة أو حسنة من حسنات الله, بل تصبح الحياة الأبدية له وكأنه يمتلكها, فتحل كل بركاتها عليه. وبأسلوب القديس بولس الرسول لا يمتلكها فقط بل «يرثها»!!



16:3- لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ
بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ.

‏نلاحظ أن في الآيتين المتلاحقتين تتكرر نفس الكلمات «لا يهلك كل من يؤمن به», هذا هو التشديد الذي أتت من أجله الآية الثانية، فالتركيز فيهما هو على الإيمان. الكلام موجه لنيقوديموس, ليس العمل بالناموس هو الذي يؤدي إلى الحياة الأبدية ولا التعليم ولا الآيات بل «الأيمان». والمسيح إذ أعطى مثل ورمز الحية النحاسية، يعطي أبسط صورة للايمان بكلمة وعد الله على يد موسى أن من ينظر إلى الحية النحاسية المرفوعة يُشفى؛ ثم يطبق على ابن الإنسان، ليرتفع بالإيمان من مجرد كلمة وعد إلى استعلان أول وأبسط صورة للفداء: «ابن الإنسان» مرفوعاً عن الأرض بمعنى الموت, ثم يكمل الاستعلان إلى أقصاه أن ابن الإنسان المرفوع عن الأرض هو في حقيقته ابن الله المبذول للموت.
‏كان منظر الحية النحاسية معلقة على عود مرتفع في وسط إسرائيل منظراً عجيباً وغريباً، ليس على الشعب الموجوع من الحية فقط بل وعلى جميع علماء اليهود والربيين. فهذه الحادثة أو المعجزة لم يستطع الفكر اليهودي أن يلاحقها.
‏فكم بالحري مثيلتها أن «يرتفع ابن الإنسان» ليكون منظراً للناس (ميتا على خشبة), حتى كل من ينظر ويؤمن، ينجو من الهلاك الأبدي ويأخذ نصيباً في الحياة الأبدية. صحيح أنه منظر معروض للايمان، والإيمان لا يعتمد على المنظور. ولكن ما هو جوهر هذا المظهر؟
‏ها يتحتم «الإرتفاع» فوق هذا الرمز القديم، ونتجه إلى السماء لكي نكتشف السر والجوهر عند الله:

«لأنه هكذا أحب الله العالم» _ سر محبة الله للعالم:
«لأنه», «لأن»» يأتي بعدها جملة مسببة تفيد رداً على كل ما سبق وأُشكل فهمه. المسيح هنا يعطي العلة والسبب في قوله «ينبغي أن يرتفع ابن الانسان»، «كما رُفعت الحية على العصاة في البرية»، بل ويعطي العلة والسبب في ورود نفس هذه الحادثة قديماً باعتبارها عملاً نبوياً بالتمثيل، فك المسيح رموزه في مفهوم الصليب. ويمتد الجواب أيضاً ليعطي العلة والسبب بل والعنى في قول المعمدان: «هذا هو حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو29:1) أما العلة والسبب فهي أن «الله أحب العالم»!!!
‏موسى رفع الحية النحاسية في البرية، لا لكي يُشفى، بالنظر إليها، الشعب الموجوع من عضة الحية فقط، بل لتكون تصويراً نبويا بالغ الدقة والتمثيل للعالم كيف يُشفى بالنظر إلى المسيح المصلوب الذي امتص سم الحية, فأفرغ الحية من سمها وأبطل مفعول السم بجسده القائم من الموت حياً.
المسيح هنا يربط ربطاً غاية في الإختزال والقوة بين حب الله للشعب الذي اقتناه لنفسه وحبه للعالم أجمع بكل أممه بقوله: «كما رفع موسى الحية» هكذا «ينبغي أو يتحتم أن يُرفع ابن الإنسان». والمقارنة بين الحبين، حب الله لإسرائيل وحب الله للعالم، تبدو شاسعة البون جدا. فأي نسبة هذه بين التفريط في قطعة نحاس مطروقة على شبه حية ميتة، وبين التفريط والبذل للموت لابن الإنسان الذي هو في الحقيقة الابن الوحيد لله على الصليب!! أو بين شفاء من عضة حية لمتابعة حياة على الأرض، وبين شفاء من موت الخطية لقبول حياة أبدية!!
‏فلو عرفنا أن ««حب الله» يخص طبيعته الأزلية، لأدركنا أن الأمور التي جرى عملها في القديم من جهة رفع الحية النحاسية ثم فك رموزها برفع ابن الإنسان على الصليب التي بدأ المسيح هنا يطرحها في وعي الإنسان، قد سبق وتم تجهيرها في المشورة العليا الأزلية!
‏مركز العالم عند الله: لقد كانت التوراة كلها بكل أسفارها شحيحة غاية الشح من جهة ذكر أو حتى تلميح عن محبة الله للعالم. فالأمم في الأسفار منبوذون, بل ولم يفرق أي قول نبوي بين الأمم والأصنام؛ فوضعهم كان موضعا واحداً دائماً، وامتد هذا التقييم عند اليهود حتى رأوا الأمم «كلاباً» أو في مصافهم. في حين نسمع أن الله سبق «فوعد» إبراهيم أبا الجنس اليهودي عامة أن في نسله (بذرته) تتبارك كل الأمم! من هذا نفهم أن الأمم كانوا ذوي ذكر وحب مكتوم عند الله، وإنما من وراء اليهود الشعب المختار.
‏ثم إذ نخطو خطوة أخرى, نرى من ثنايا هذا الوعد أن الشعب اليهودي إنما اختير ليكون خميرة جيدة يلقي فيها الله ببذرة الإيمان والتقوى والعبادة والإخلاص لله ، مع محبة خاصة حتى تتخمر الخميرة بفضائل معرفة يهوه وحبه, ثم يعود ويوزعها على كل الأرض لتخمر العجين كله. أو بصورة أوضح أن الله اختار وأحب شعب إسرائيل في إبراهيم من أجل بركة العالم كله!
‏فلما بدأت تفسد الخميرة, إلا الجزء اليسير منها, فتح الله الباب للأمم لترث ميراث الله في قطعة الخميرة النموذجية التي نجحت وصلحت. وحنئذ صار من العدل وقف كل الصلات الممتازة والعطايا السخية والعناية الفائقة المحصورة في شعب إسرائيل؛ ليتسر نقلها إل الأمم بصورة أعم وأشمل، وعلى مستوى العلن والروح لا الجسد. هذا أوضحه الإنجيل من فم الرب عند قوله «وتكون أورشليم مدوسة من الأمم حتى تكتمل أزمنة الأمم» (لو24:21). ثم أوضحها بولس الرسول بالروح: «فإني لست أريد أيها الإخوة أن تجهلوا هذا السر لئلا تكونوا عند أنفسكم حكماء، أن القساوة قد حصلت جزئياً لإسرائيل إلى أن يدخل ملؤ الأمم, وهكذا سيخلص جميع إسرائيل… من جهة الإنجيل هم أعداء من أجلكم وأما من جهة الإختيار فهم أحباء من أجل الآباء، لأن هبات الله ودعوته هي بلا ندامة.» (رو25:11-29)
‏كل هذا يوضح أن الله كان يحب العالم، ولكنه لم يستطيع أن يمارس حبه في عالم كان يعبد المخلوق دون الخالق. ولكن لما نضجت الشعب وبدأت تقرع باب الله انفتحت أحشاء ‏رحمة الله وانكشف سره المخفي الذي كان محجوزاً عن أعين الشعب المدلل.
‏إبراهيم وابنه الوحيد المحبوب المقدم ذبيحة؛ وسر بركة الأمم: وإذا عدنإ إلى قصة إبراهيم وكيف قددم أبنه «الوحيد اسحق الذي يحبه» بنية تقدمته ذبيحة طاعة لصوت الله، نرى الصورة الأصلية لحب الله نحو العالم المدخر في قلب الله منذ الدهور الذي «كان كائناً قبل أن يكون إبراهيم».
‏فقبل أن يطلب الله من إبراهيم أن يقدم ابنه ذبيحة، وعده على أساس تقواه أن يكون أباً لأمم كثيرة: «أما أنا فهوذا عهدي معك وتكون أباً لجمهور من الأمم, وأثمرك كثيراً جداً وأجعلك أمماً, وملوك منك يخرجون» (تك4:17-6‏). وبعد أن أطاع إبراهيم ودخل التجربة ونجح وقدم ابنه فعلاً وفي يده السكين، أن ناداه الله: «وقال بذاتي أقسمت يقول الرب أني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك، أباركك مباركة واكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطىء البحر ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض, من أجل أنك سمعت لقولى.» (تك16:22-18)
‏واضح إذن أن الله أحب العالم في إبراهيم قبل أن يكون شعب إسرائيل. ولكن لماذا طلب الله من إبراهيم أن يقدم ابنه وحيده الذي يحبه إسحق ذبيحة؟؟
‏لقد كان في هذه القصة أول وأعظم نموذج أو آية نبوية أو رمز فيه إفصاح عن نية الله في خلاص العالم بتقديم ابنه وحيده الذي يحبه على الصليب. ففي هذه القصة تذكرة دائمة، لليهود خاصة، لكي يدركوا نيته من نحو العالم, قبل أن يوجد اليهود، حتى إذا جاء دور التنفيذ يكونون عل بينة، وقدمها أيضاً للعالم عامة ولكل الأمم مسجلة في الأسفار بغاية الوضوح، لكي يطلعوا على نية الله منذ القديم من جهة نصيبهم المعد المذخر لهم في مخازن مراحم الله، حتى إذا جاء الميعاد لا يقولون لماذا كنت قد نسيتنا هذا الدهر كله!
‏ولكن لمن قدم إبراهيم ذبيحته، ومن أجل من كان هذا كله؟
‏واضح أن الله وضع هذا النموذج العالى السرية لينفذه إبراهيم في ابنه وحيده إسحق أبي الشعب الإسرائيلي كله من أجل الأمم!!! لأن أجر إبراهيم عن هذه الطاعة العظمى لم يأخذه إبراهيم لنفعه، فهو لم ير الأمم ولا درى ببركاتها، بل أخنذه العالم بسببه أو عوضا عنه!! وقد نفذه إبراهيم بالنية أعظم وأكمل تنفيذ، فأكمل التاريخ صورة هذا التدبير الإلهي بأن صار شعب إسرائيل ضحية لتدخل الأمم مجال حب الله عوضاً عنهم. ولكن بقى الفعل أو التنفيذ الفعلي، هذه الدهور السالفة كلها، ليلقى أخيراً على ابن الله الوحيد لكشف سمو هذا الحب:

«حتى بذل ابنه الوحيد»:
يلاحظ في الأية السابقة أن الذي «رُفع» هو ابن الإنسان, وهنا في هذه الآية الذي «بذل» في مضمون الإرسال هو «الابن» وهكذا يتدرج المسيح من «ررفع الحية» إلى «رفع ابن الإنسان» إلى إرسالية «الابن الوحيد»، تدرجاً من أسفل إلى أعلى.
‏هنا أول استعلان عن «أبوة الله» في إنجيل القديس يوحنا بعد المقدمة. ويلاحظ القارىء أن التركيز هنا على «الله كأب» بالرغم من أن البذل واضح على الابن كما حدث في إبراهيم وابنه إسحق!! فعملية الخلاص تبدأ من الله وليس المسيح، والجهد الشعوري وأثار «البذل» بل والتضحية الإلهية واقعة على الآب أكثر مما هي واقعة على الابن: «الذي لم يشفق عل ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضاً معه كل شيء!» (رو32:8). وإن كان الآب لم يشفق على ابنه، فهو في الحقيقة وعين الأمر لم يشفق على نفسه؟ فالابن قائم في الآب قياماً كلياً لا يمكن أن يحدث له شي ء بدون شركة الآب. إن طاعة إسحق لأبيه لما حمل «الحطب على ظهره» (الصليب) وتمدده على المذبح الذي بناه إبراهيم أعطيا لإبراهيم أبيه الكرامة المضاعفة في عين الله، مع أن الضحية كانت في إسحق، إلا أن قوة الذبيحة وطاعتها تركزت بصفة أسامية لحساب إبراهيم الأب!! بل إن قوة الذبيحة التي قدمها «إبراهيم» بالنية كأب هي التي عادت بالبركة على كل شعوب الأرض! هكذا فكل الذي صنعه المسيح وصُنع في المسيح هو لحساب الآب.
‏من هنا نفهم لماذا ألح المسيح في إنجيل القديس يوحنا أن يعطي كل الكرامة وكل المجد مع كل المشيئة وكحل العمل, وكل القول, للآب بل وحتى الكأس: «الكأس التي أعطانيها الآب ألا أشربها» (يو11:18)، وكأنها كأس الأب!
‏لذلك من اللائق جداً أن ننتبه إلى أن الخلاص كله الذي أكمله المسيح في هذا البذل الذي تحمله الابن هو بالأساس «عملية حب قائمة في قلب الله ومنتهية إليه»، ولكي نقيم هذا الحب الابوي لله من نحو العالم يكفي أن نقيس مقدار البذل ونوعه, فهو ليس مسألة فكر أو مجرد مشيئة أو تنازل من جهة الله في تحمل أي تضحية من جهة الكرامة, بل إن البذل عملية مست طبيعة الله وجرحت مشاعر الابوة الإلهية في عمق ذات الله كأب يبذل ابنه للعبودية والمذلة والموت!! إذ تغرب ابن الله الوحيد, القائم في حضن الآب، على الأرض في الجسد الذي قبل فيه المهانة والاحتقار والظلم والأضطهاد والبغضة الملاحقة للقتل حتى الذبح على الصليب, والآب تحمل عمق الفعل ونتائجه. وهذا واضح من قول المسيح: «العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته» (يو4:17‏). هذا هو قياس درجة حب الله من نحو العالم. وليس بين درجة حب الله من نحو العالم ودرجة البذل التي عاناها الله في ابنه أي مبالغة بل هي موازية في الحجم والقدر، فالبذل مساو لدرجة الحب تماماً.
‏فالحب تساوى مع البذل, والبذل جاء متساوياً مع الحب. وهذا الارتفاع الصارخ والباهظ في الثمن المدفوع جاء مساوياً للنتيجة المطلوبة وهي خلاص العالم وفداء وتبني الإنسان!!
‏وهنا يتبلور السر الخطير وينطق نطقاً أن الفداء بالابن الوحيد، أنشأ, ولابد أن يُنشىء, بنوة فريدة للانسان!
‏فالله كان لا يمكن أن يفرط في ابنه ولا يشفق عليه، إلا إذا كان الثممن والهدف مساويين تماماً للبذل! فبنوة الإنسان لله التي آلت للانسان بموت الابن الوحيد كريمة وكريمة جداً في عين الله الآب.
‏وبالنهاية نجد أن محبة الله للعالم تعادلت مع بذل الابن الوحيد على الصليب تمام التعادل، وبذل الابن الوحيد على الصليب تعادل تماماً مع منح الانسان درجة البنوة لله حباً وصلحاً وسلاماً ومسرة.
‏إذن، كم بالحري ينبغي أن تكون هذه الهبة، هبة التبني, كريمة وعزيزة وفائقة القدر عندنا؟
«لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية»: هنا يضع المسيح قوة «حب» الله الآب الذي أنشأ قوة «بذل» عالية القدر والقيمة أشترك فيها الآب والابن معاً, لتساوي في فعلها «رفع الهلاك» عن الإنسان.
‏أما بالنسبة لقياس حالة الهلاك التي يرزح تحتها كل إنسان في العالم فذلك يمكن قياسه؛ فمن جهة الإنسان نجد الخطية قد ملكت على الإنسان غرائزه وسلوكه، فأفقدته الحركة نحو الحق والبر والتعفف، وورثته العجز في الرؤية، فغاب الله القدوس وارتضى الإنسان بالموت كنهاية لشقائه على الأرض.
‏أما من طرف الله فقد وقفت الخطية من الإنسان موقفاً معادياً من الله، فصارت كحجاب عازل ليس فقط يحرم الإنسان من الاتصال المباشر بالله، بل ومنعت الله من أن يسكب حبه على الإنسان الذي خلقه على صورته ليعيش معه ويتمتع بالحياة الأبدية خلوا من حزن أو كأبة أو تنهد في نوره العجيب.
‏فكان لابد أن تُرفع الخطية من الوسط بكل أثارها المخربة والمهلكة من جهة الإنسان وفي نظر الله معا، لكي يسكب الله حبه من جديد.
‏أما من جهة الانسان. فتحتم أن يولد من جديد، يولد ثانية من الله كما جبله الله يوم جبله في المرة الاولى, إنما هذه المرة ليس بمجرد نفخة بل باتحاده بروح الله, خلقة جديدة بكل مواهبها السماوية.
‏أما من جهة الله. فبأن تنفتح أحضان مراحم الله الأبدية بلا مانع ليصنع بابنه خلاصاً أبدياً وليسكب محبته، كل محبته الأبوية في قلب الإنسان ومعها الحياة الأبدية بعمل روح الله القدوس.
‏وبالنهاية نرى في هذا الفصل عوامل الأساس الراسخ الذي أرساه الله لتكميل خلاص العالم:
العامل الأول فيها، وهو الأمر الذي قضى به الله قضاءً، وانتهى ولن يتراجع عنه، ولا يمكن التراجع عنه، هو أنه أعلن عن حبه عملياً: «هكذا أحب الله العالم» بتقديم حياة ابنه على الصليب من أجل كل إنسان.
‏العامل الثاني: إرسال روحه القدوس «الريح تهب حيث تشاء» كوعد ثابت من جهة الله لا يفارق الإنسان، بل يسقيه الروح والمحبة والحياة، والامتداد بوعي الإنسان لفحص أعماق الله والإغتذاء من نعمته. وقد أكمل الله وعده هذا بعد أن أكمل الابن الوحيد أساسيات الخلاص والفداء.
‏والعامل الثالث لتكميل هذا الخلاص ولإطلاق هذه المحبة لتعمل عملها بلا مانع في طبيعة الإنسان لتخلقها من جديد، لزم إيمان الإنسان «كل من يؤمن به…» . ولكن الإيمان المطلوب ليس بالفكر ولا بالجهد والقياس، ولكن «الإيمان بحب الله وتصديق وعده» الذي هو مستعد هلى مستوى القسم الذي أقسم به لإبراهيم، بأن يستقبل الخاطىء يوم يعود إليه ربما هكذا: «بذاتي أقسمت يقول الرب, «بذل ابنه», لأنك أمنت بابني الذي بذلته عل الصليب من أجلك فإني أباركك بركة… وأجعلك فيه ابناً لى لأجل أنك صدقت حبي» في هذا يقول حزقيال النبي: «حي أنا يقول السيد الرب, إني لا اسر بموت الشرير, بل بأن يرجع الشرير عن طريقه ويحيا» (حز11:33). وهكذا ليس على الله عمل أكثر من المحبة التي تحققت بموت ابنه عن كل خطاة الأرض، كما ليس على الإنسان عمل أقل من الإيمان بهذا الحب وهذا البذل ليقبل الحياة ويحيا.

المفردات اللغوية للآية:
«أحب»: ‏أقوى صياغة باللغة اليونانية للتعبير عن المحبة، وقد جاءت المحبة هنا مُشددة بأكثر من معناها حيث أضاف إليها «هكذا‏» أو «بهذا القدر أحب الله» . وللعلم، فإن القديس يوحنا استخدم «أحب» «أغابي» في إنجيله 36 ‏مرة، وهذا يكشف عن ضررتها الملحة في التعبير عن لاهوت القديس يوحنا أو بالحري علاقة الله بالناس. وهذا واضح غاية الوضوح في أنه جعل «المحبة» توازي في فعلها التجسد والموت معاً. «هكذا أحب… حتى بذل…» ولكن هذا الحب بهذا القدر والتكثيف والفعل الممتد, سواء في التجسد بكل أصالته وجماله, أو في الموت بكل هيبته وجلاله، لا يدرك قوته حقاُ أو يستعلن عمقه وطوله وعرضه وارتفاعه إلا في الذي يؤمن بالابن، فينال هذا العطاء بكل سخائه و يعيش هذه الحقيقة الالهية، وحينئذ يتحقق فعلاً أن الله محبة.
‏«بذل»: في الحقيقة الترجمة العربية هنا غنية، فقد جاءت بالمعنى ووفت حق امتداده ليشمل «الارسال» إلى العالم بالتجسد، كما يشمل تقدمته مبذولآ على الصليب.
‏ومما يحقق لنا هذا المعنى المتسع للكلمة، كيف استخدمها بولس الرسول لتوفي نفس المعنى هكذا: «الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضأ معه كل شيء» (رو32:8)
«ابنه الوحيد»: ‏«ابنه الوحيد» جاءت هنا لتزيد من معنى فداحة البذل وقوة الحب معاً. ولا تخلو هذه ‏الكلمة «أبنه الوحيد» من تلميح غاية في الرقة والحساسية إلى المساوي الأقل والضعيف, ومع الفارق, عند إبراهيم بالنسبة لإسحق!
«كي لا يهلك»: هذه الكلمة تعتبر من خصائص اللغة عند القديس يوحنا، وهي إما تأتي غير متعدية (بمعنى يهلك) أو متعدية على مفعول به (بمعنى يُهلك)، وقد تكون في هذه الحالة المفعول به هو نفس الفاعل بمعنى أن الإنسان (يهلك ذاته)، وحيما تأتي غير متمدية قد يكون المعنى الضياع أو الفقدان «اجمعوا الكسر الفاضلة لكي لا يضيع شيء» (يو12:6)، أو قد يكون المعنى «الهلاك» كما جاءت هنا: «لكي لا يهلك» (يو16:3‏)، أو قد يكون المعنى «الزوال والإبادة»: «اعملوا لا للطعام البائد, بل للطعام الباقي للحياة الأبدية» (يو27:6)
‏وواضح أن الهلاك أو الفناء أو الإبادة هي نصيب الشيء أو الشخص الذي ينفصل عن الله ويبقى متمركزا في نفسه.
«‏الحياة الأبدية»: في غير إنجيل القديس يوحنا تعني حياة الدهر الآتي بحسب مفهومها اليهودي الرباني التقليدي، ولكن عند القديس يوحنا تميل أكثر إلى معنى الحياة التي بلا نهاية أو الحياة مع الله «كعطية حاضرة» الآن من الله، وهي تقابل ملكوت الله في الأناجيل الأخرى. وملكوت الله أيضاً عند القديس يوحنا، ولو أنها عطية الدهر الآتي, ‏ولكن المسيح بدأها الأن وصارت حقيقة مُعاشة في المسيح.



17:3- لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ.

قَدْ شَمَّرَ الرَّبُّ عَنْ ذِرَاعِ قُدْسِهِ أَمَامَ عُيُونِ كُلِّ الأُمَمِ
فَتَرَى كُلُّ أَطْرَافِ الأَرْضِ خَلاَصَ إِلَهِنَا. (أش52:10)

يلاحظ القارىء ازدواج الفكر السلبي ثم الإيجابي. ففي السالفة «… جاء لكي لا يُهلك، بل يكون له الحياة». وهنا «لا ليدين بل ليخلص». هذا أسلوب القديس يوحنا وهو نوع من التحديد القاطع للمعنى، كما سيجيء في الآيات القادمة أيضأ الإيجابي ثم السلبي: «الذي يؤمن لا يدان والذي لا يؤمن فقد دين».
‏كما سيجيء أيضاً في الآية بعد القادمة: «أحب الظمة أكثر من النور، كل من يعمل السيئات يبغض النور وكل من يفعل الحق يقبل إلى النور».
‏كانت كل تحقيقات الربيين عن نبوات مجيء المسيا تفيد أنه سيعلي من شأن الأمة ويدين الشعوب ويسحق الأمم ويبيدها، وكان روح هذا التعليم بالذات أحد العثرات والمعوقات التي وقفت حائلاً دون قبول المسيح, وكان نيقوديموس أحد الأئمة الذين تشبعوا بهذه الروح العدائية نحو أمم العالم ويقابلها روح التعالى والافتخارر بالعنصرية اليهودية والإعتداد الشنيع بالفريسية وإتقان التعليم بالحرف. هنا يصحح المسيح ويوضح أن هدف المسيا الأساسي هو الخلاص لكل أمم العالم وليس الدينونة. وإن تحتمت الدينونة، فلا تكون هدفاً لمجيء المسيا قط, وانما جزاء للذين انعمت بصائرهم وانسدت آذانهم وصاروا من سواقط الخلاص, وهذا وذاك لليهودي قبل الأممي!!
‏ولا ينبغي أن يغيب عن البال أن الحكم بالدينونة والموت والهلاك هو القانون الذي يرزح أصلاً تحته كل بني آدم, لأن الكل وُلد بالخطية والكل أخطأ وزاغ. والمسيا جاء ليرفع الخطية, وبالتال قانون الموت واللعنة، فالذي يرفضه يحكم على نفسه بالبقاء تحت الخطية واللعنة!!! بل ويُكمل, برفض المسيح, مكيال خطاياه.
‏والذي يفحص فكر إنجيل يوحنا يشعر كأنه يدافع عن شيء و يرفع الملامة عن الله ! نعم, فقد حدثت الكارثة وسقطت أورشليم واندكت حتى التراب وتخرب الهيكل وحُرق عن أخره. هذه هي الخلفية التي يكتب القديس يوحنا على ضوئها إنجيله. فهو يستميت ليبرىء الله من كل ما حدث, الذي بدا وكأنه نقمة مروعة حلت بالمعاندين, فالعلامات بحسب النبوات كانت واضحة في سلوك كل الطبقات المتعلمة مع كل أعماء المجمع مع غالبية الشعب, إن لم نقل كله في رفض صوت الكلمة، إلا أفراداً يعدون بالعشرات وحسب.
‏القديس يوحنا يكتب إنجيله الآن ونحن في نهاية القرن الأول، وأورشليم سقطت بهيكلها سنة 70م، أي مضى الآن ثلاثون سنة تقريباً, وقد تشتت الشعب وخربت البلاد وانتهى اليهود إلى الصفر، لذلك يقول إن الله لم يرسل ابنه إلى العالم ليدين العالم، أي لم يكن خراب أورشليم وتهدم الهيكل وحرقه على مستوى الدينونة. لأن رسالة الابن الوحيد هي تنفيذ وصية الحب الأبوى من نحو العالم للخلاص حتى لا يهلك أحد، كل من يؤمن. أما ما حدث لأورشليم والهيكل وللأمة اليهودية، فهو النصيب الذي حدده المسئولون مع الشعب لأنفسهم؛ لقد حكموا بأنفسهم على أنفسهم بانتهاء زمان الحب لما رفضوا الابن الحبيب، وحكموا على الهيكل بالهدم لما هدموا هيكل ابن الإنسان بالرغم من تحذيره لهم. لقد سعوا في الظمة ضد النور, فأدركتهم الظلمة وانتهى لهم زمن النور. أما الذين كانت أعمالهم صالحة، فهؤلاء أحبوا النور وتقبلوا رسالة الحب: «بهذا أُظهرت محبة الله فينا أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به.» (1يو9:4)
‏وواضح أن إنجيل القديس يوحنا يضح الحب في رأس قائمة هذه الآيات، حتى يرفع من الدينونة رائحة البغضة الإلهية؛ فالذين خلصوا بنداء المحبة ظهر فيهم فعل المحبة، والذين رفضوا نداء المحبة دخلوا تحت الحرمان منها بإرادتهم. فالدينونة أصبحت حرماناً من محبة الله وليست غضبأ منسكباً عليهم.
‏والقصد كله الذي يريد أن يخلص إليه الإنجيل هو أن المحبة أصل الدينونة والمتسببة فيها، لأنه لولا المحبة ما كان خلاص ولولا الخلاص ما كانت دينونة. وهذا هو سلاح المحبة الرهيب ذو الحدين.


18:3- الَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ والَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللَّهِ الْوَحِيدِ.

يلاحظ اختلاف الفعلين «لا يٌدان» و «قد دين». فالذى يؤمن يكون قد خرج من دائرة الدينونة أصلاً وبالكلية لأنه صار «فى المسيح». أما الذي لم يؤمن فقد خرج من دائرة المسيح والخلاص وصار في الوجه المعادي. لأن عدم الإيمان باسم ابن الله هو عدم الإيمان بالله وبالخلاص الذي تم باسمه. ويلاحظ أن كلمة «الوحيد» جاءت هنا للتذكير بالمحبة, فهو الابن الوحيد لأنه المحبوب، فهنا يكون عدم الإيمان قد بلغ إلى مجافاة محبة الله، بل وتعدى عدم الإيمان بالمحبة إلى عدم التصديق, وكأنه يجعل الله كاذباً. فمجيء ابن الله برسالة حب الآب الذي أنهى على حالة الركود التي كان يعيشها العالم, قد قسمه في الحال إلى مؤمن مستقبل لرسالة المحبة, وغير مؤمن رافض لرسالة المحبة؛ وبالتالي إلى مخلّص وغير قابل للخلاص، وغريب عن روح الله أي قائم في الموت بعيداً عن الله!
‏والدينونة على هذا هي من عمل رفض الإيمان وليست من عمل الله. ولكن الأصل والأساس هو الإيمان الذي جاء به المسيح للحياة: « الحق الحق أقول لكم كل من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة.» (يو24:5)
‏ولكن إنجيل القديس يوحنا لا يقطع خط الرجعة على من يرفض الإيمان، بل طالما هو رافض للايمان فهو واقع تحت الدينونة لأنه هو نفسه الذي يصنع لنفسه الدينونة برفضه؟ ولكن إذا رجع وقبل الإيمان، يكون قد خرج من الطوق الحديدي الذي وضعه بنفسه في رقبته: «لأنكم إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم» (يو24:8‏)، «ما دام لكم النور آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور.» (يو36:12‏)
‏فالمسيح باق كما هو، وصوته قائم يدعو للخلاص, وكلمة الإيمان في فمك إن نطقتها ربحت نفسك والحياة. فالمناداة بالدينونة في إنجيل القديس يوحنا نشأت بسبب الكرازة بالخلاص وليست لتهديد أو وعيد للذين لا يؤمنون، والإنجيل أصلاً موضوع لغير المؤمنين ليكونوا مؤمنين. ولكن نبراته التحذير هي التي تطغى على الكارز خوفاً على حياة الإنسان. لذلك فالمطالبة بسرعة القطع إما مح النور أو الظلمة، هو اختيار بين الحياة أو الموت, ليس للتخويف بل للترغيب، لأن صوت الله منذ القديم يقول: «قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك.» (تث19:30)


 19:3- وَهَذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ
لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً.

‏هنا يربط القديس يوحنا «الدينونة بالنور». ولكي تظهر الدينونة بمعناها الأسهل نقول إنها القضاء. فالقضاء لا يمكن أن ينعقد لواؤه إلا بوجود أداة التمييز يين الخطأ والصواب للحكم بالعقاب أو البراءة. ونحن هنا بصدد الروحيات، فالقضاء أداته الوحيدة هي النور الإلهي الذي يفرق بين أعمال الظمة وأعمال النور.
‏فيقول القديس يوحنا أنه بمجيء النور إل العالم وجب القضاء وتحتم, لأن العالم به الشر أصلاً وبه الخير أيضا؛ فكل من ينحاز إلى النور فهذا يوضح أنه أحب النور. والذي يرفض النور معناه أنه أحب الظلمة أكثر من النور. والنور هنا في هذه الحالة هو أداة التفريق والتمييز، وفي نفس الوقت هو القاضي. من هنا جاء الإلتباس أن الذي يبغض النور ويقع عليه العقاب يبدو كأن هناك عداوة أو نقمة بين القاضي وهو المسيح وبين الرافض للنور. ولكن لشرح هذا الإلتباس نقول إن القاضي يحكم بمقتض قانون ولا يحكم حكماً كأنه من عنده، ولكن الحكم أو الدينونة منشأها النور كأداة أو قانون, وليس القاضي نفسه، فالقاضي يحكم بما يحكم به النور أو قانون النور، وقانون النور مطلق أزلى وليس وضعياً أو مجرد اجتهاد أو تفكير شخصي.
‏بدخول النور، وهو المسيح، ومعه الحق الإلهي إلى العالم انقسم العالم إل محبي النور ومحبي الظلمة وبدأ في الحال روح القضاء يأخذ عمله.
‏والذي يجعل القضاء يطالب بحقه من الآن هو التقرير النهائي الذي اتحذه الذين رفضوا النور، لآنهم «أحبوا»، وهذا فعل في اللغة اليونانية يفيد القرار القاطع المنتهى منه في محبة الظلمة، والخطورة الكبيرة هنا هي أن هذا الحب الذي ينتمي إلى نوع من العشق أو الارتباط هو ليس فقط حباً لأعمال الظلمة من سرقة وزنى وفجور وكذب وعداوة, بل إن هذه الأعمال تمتد لتتعاقد مع أقنوم الظلمة, رئيس هذا العالم, وهو القوة المشخصة المحرضة على أعمال الشرور. من هنا جاء القضاء كعمل لا مناص منه لكبح جماح القوة الشريرة والحد من تجبرها. فالنور وراءه شخص ابن الله والظلمة وراءها إبليس, لذلك فمبغضي النور ليسوا محايدين بل منحازين للظلمة ضد النور، فنشاطهم سلبي بالنسبة للنور, لهذا يتدخل القضاء للفرز والعزل والمحاصرة.
‏ومعروف بالقطع أن الشيطان كرئيس لهذا العالم المحرض على كل الشرور قد دين: «لأن رئيس هذا العالم قد دين» (يو11:16). أي إن دينونة الشيطان وخروج حكم القضاء عليه تم يوم صلبوت المسيح، لذلك فإن الذين يرفضون النور هم بنوع ما ينحازون إلى رئيس هذا العالم، وبالتالى يقعون تحت الدينونة والرفض: «الآن دينونة هذا العالم، الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجاً» (يو31:12)
«لأن أعمالهم كانت شريرة»: دور الأعمال هنا محدود، فالأعمال الشريرة لا تمنع الإنسان أن يطلب الخلاص منها ويرتمي تحت أرجل المخلص لينجو. فالأشرار الذين تمرغوا في كل أصناف الشرور خرج منهم قديسون، نتشفع بهم. ولكن المفهوم من الأعمال الشريرة هنا أنها عطلت كثيرين عن الخلاص. لأن تمادي الإنسان في أعمال الشر وانغماسه فيها يولد عادات وارتباطات ومجاملات تنازع الإنسان في إرادته وتنكر عليه حريته في التخلص منها أو حتى الاقتراب من مصادر النور، ثم تؤثر تأثرا مستمراً على الأخرين.

 



20:3- لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّآتِ يُبْغِضُ النُّورَ وَلاَ يَأْتِي إِلَى النُّورِ لِئَلَّا تُوَبَّخَ أَعْمَالُهُ.

‏«يَعْمَلُ السَّيِّآتِ»: هنا كلمة «سيئآت» تختلف عن الكلمة مثيلتها التي جاءت في الأية السابقة «أعمال
شريرة», التي تفيد الضلوع في الخطية. أما السيلآت فهي التي تعني «أعمال بطالة» (Bad‏) أي أعمال خسيسة وحقيرة. وهي بدء الدخول في أعمال الظلمة الغير مثمرة، التي قد يستهين بها الإنسان لأنها ليست خطايا ثقيلة ولكن خطورتها هي في أنها تجعله يهرب من النور ويبغض الدعوة إليه، خشية أن توبخ أعماله من أحبائه وأصدقائه الذين يخلصون إليه: «إني كل من أحبه أوبخه وأؤدبه. فكن غيوراً وتب» (رؤ19:3). «لأن الأمور الحادثة منهم سراً ذكرها أيضأ قبيح، ولكن الكل إذا توبخ يظهر بالنور, لأن كل ما أُظهر(اُعترف به) فهو نور، لذلك يقول: «استيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضيء لك المسيح» (أف12:5-14). هنا الكلام كله موجه نحو أصحاب العادات السيئة التي تتصل بالحياة الداخلية للانسان والتي يحاول أن يخفيها.
‏لاحظ أن المتكلم هنا هو المسيح كاشف أستار القلوب، وهو يحدث اليهود والرؤساء والمعلمين ومدعي الفضيلة الذين انغمسوا في السيئات، وكانت النتيجة أنهم احتجوا جزيعين من كلام المسيح، متأففين من تسليط النور عليهم، وبالنهاية صاروا هاربين ورافضين.
فمن يرفض المسيح، تقف وراءه إما السير السيئة والإنغماس في الخطية أوكبرياء الأخلاق والذات.
إذن، فرفض المسيح والهروب من النور ليس مسألة اختيار فقط, بل أن العوامل النفسية المبنية على السلوك الإرادي السييء, هي صاحبة الكلمة فيه وعليه.


 21:3- وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ الْحَقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى النُّورِ لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ أَنَّهَا بِاللَّهِ مَعْمُولَةٌ».

«فعل الحق.»:

‏هو في المقابل لـ «يعمل السيئات». هناك فعل السيئات بالجمع؛ وهنا عمل «الحق» بالمفرد الذي يحوي في صدقه ونبله كل ما صيته حسن ونافع.
‏ولكن الذي يسترعي انتباهنا هو الإصطلاح الجديد «عمل الحق» فهل الحق يُعمل؟ هنا الحق أصلاً هو فكر ورؤية روحية وانكشاف بصيرة، ولكن هذا يحتاج إلى تحقيق وعمل، فإذا نُفذت الفكرة السامية أو الإلهام الروحي المادة الموحى به, فهو يصير عمل الحق.
‏والأن تقف هذه الأية في مقابل الأية السالفة لتوضح أن في وسط ظلام ليل الشرور والسيئات، يعيش أيضاً الحق والنور، وإزاء الهاربين من النور بسبب ما ثقلوا به أجسادهم وأرواحهم من أعمال الظلمة، يوجد أيضاً المهللون للنور والهاتفون للحق الذين تثقلت أرواحهم بمحبة المسيح والحق، يسرعون ليقدموا برهان حبهم بأعمالهم، وليكشفوا أفكارهم ونيتاتهم في النور لتزداد نوراً، ويمجدون الله الذي أنقذهم من سلطان الظلمة.
والمنظر لا يزال هو بعينه، فالمسيح يخاطب الذين عثروا فيه وهربوا والذين سعوا إليه فرحين مستبشرين سواء بسواء، موضحاً أن أعمالهم في الخفاء كانت هي المسئولة عن جزعهم منه أو قبولهم له.
«بالله معمولة»: إن مجرد عرض أعمال البر خطر، وكشف خفايا السلوك بالتقوى أخطر؟ لأن ذلك يؤول بالضرورة إلى الوقوع في خطية البر الذاتي والاعتداد بالنفس والتفاخر. ولكن يوجد عرض للأعمال الخيرة وسرد للسيرة التقية مضمون النفع ومؤمن عليه ضد الانزلاق في البر الذاتي وهو تمجيد الله كونه هو هو صاحب العمل وصاحب السيرة، حيث يقتنع السامع أن «الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة.» (في13:2)
«اذهب إل بيتك وإلى أهلك وأخبرهم كم صنع الرب بك ورحمك.» (مر19:4)
‏هنا لا يفوتنا قول المسيح أنه «لا يقدر أحد أن يقبل إلي (الحق), إن لم يجتذبه الآب (أولاً)» (يو44:6‏). فالمجيء إلى النور يتحمل النور شيئاً من المسئولية فيه، فالنور محبوب جداً عند أصحاب العيون الصحيحة ومكروه للغاية عند ذوي العيون المريضة، فلا ينجذب إلى النور إلا من كان أهلاً له. هنا «عمل الحق» من جهة «وبالله معمول» من جهة أخرى تفيد الانجذاب المتبادل. فسر النعمة يسري في أولاد النعمة. والحكمة تنادي أولادها وتتبرر من بنيها، والحق يطلب محبيه, والله هو دائمأ صاحب المبادرة ولكنه دائمأ يتنازل عن دوره الأول: «قد ذكرت لك غيرة صباك, محبة خطبتك, ذهابك ورائي في البرية.» ( إر2:2).

[انتهى الحديث مع نيقوديموس والتعقيب على كلامه]


مكان البشارة:
لا زلنا في اليهودية

4- المعمدان يكمل شهادته كآخر صوت للعهد القديم يُسمع في الإنجيل :

هذا هو الجزء الرابع من «إنجيل التجديده» وتستمر فيه المقابلة بين القديم والجديد على النحو التالى:
القديم: «الذي من الأرض هو أرضي ومن الأرض يتكلم».
‏الجديد: «الذي يأتي من فوة هو فوق الجميع… ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص».
‏الاستعلان: المسيح العريس الحقيقي: «من له العروس فهو العريس».


22:3- وَبَعْدَ هَذَا جَاءَ يَسُوعُ وَتلاَمِيذُهُ إِلَى أَرْضِ الْيَهُودِيَّةِ وَمَكَثَ مَعَهُمْ هُنَاكَ وَكَانَ يُعَمِّدُ.


«وبعد هذا»: وصلة يضعها القديس يوحنا دائماً في سرد روايته لينقل القارىء من حديث لحديث، ومع نقلة
‏الحديث نقلة في المكان والزمان، لا يفصح عنها من قصد، لأنها لا تدخل, في اعتباره, في صلب الرواية.
‏نعلم أن المسيح كان في أورشليم حيث تم الحديث الأخير مع نيقوديموس الذي انقطع وغاب فجأة, حسب عادة القديس يوحنا حينها يرى أن أهم جزء في الحديث قد استوعب، وحيث يسترسل بعد ذلك في التعقيب، إن بواسطة المسيح مباشرة أو عن لسانه. وهنا نأتي إلى أرض اليهودية شرق جبال أورشليم على ضفاف نهر الاردن، حيث مكث المسيح مدة, لا يُفصح عنها, مع تلاميذه.
«وكان يُعمد»: هذه الجملة القصيرة غريبة علينا نوعاً ما, فالمسيح معروف عنه انه لم يُعمد. «مع أن يسوع نفسه لم يكن يعمد بل تلاميذه» (يو2:4‏). ولكن يبدو أن المسيح كان يكرز بالتوبة حسب ما جاء في إنجيل القديس مرقس (15:1).
‏وقد علق على ذلك كل من القديس ذهبي الفم والقديس أغسطينوس بأنها لا تُحسب معمود‏ية سرائرية بحسب الفكر المسيحي. ولكن الواضح من هذه الآية وما بعدها هو أن القديس يوحنا يمهد بها لحديث المعمدان الأخير لتكميل شهادته للمسيح.


 23:3- وَكَانَ يُوحَنَّا أَيْضاً يُعَمِّدُ فِي عَيْنِ نُونٍ بِقُرْبِ سَالِيمَ لأَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ
وَكَانُوا يَأْتُونَ وَيَعْتَمِدُونَ.

‏لا يزال المعمدان يمارس وظيفته في الإعداد بالتوبة لملكوت الله كسابق يعد الطريق للآتي بعده. ولكن يبدو`أن هذه المرة لم يتلاق مع المسيح بل ظل في مكانه. ولكن لماذا ترك مكانه المختار الأول «عبر الاردن»؟ يرد على هذا السؤال العالم «أولمستد» بأن المعمدان ترك أرض عبر الاردن التي تتبع هيرودس أنتيباس وجاء إلى منطقة أخرى فيها المياه كثيرة, بسبب العداوة التي نشأت بين المعمدان وهيرودس بمد أن وبخه (علنا) على سيرته بالنسبة لزوجة أخيه.
«عين نون»: تبارى الشراح في التعليق على هذا الاسم، فمنهم من أنكر وجوده بالمرة لأنه لم يعثر عليه جغرافياً، ومنهم من شدد عليه جداً باعتباره المركز الأساسي لخدمة المعمدان وأقامته مع تلاميذه، والذي صار فيما بعد موطن جماعة المنتمين للقديس يوحنا المعمدان. ويشرح ذلك العالم «بولتمان» مضيفاً إلى ذلك أن عين نون تفيد معنى رمزياً وهو «النبع القريب من الخلاص»: لأنه بقرب «ساليم» وساليم تُفسر بـ «الخلاص».
وعلى كل حال فإن هذه المنطقة تقع غرب نهر الاردن في البراري الواقعة على ضفافه. وهذه المنطقة على الحدود بين اليهودية والسامرة بقرب مدينة «بيت شان» شرة نابلس الحالية .
‏وكان لا يزال الشعب يتدفق على المعمدان للتوبة وسماع كلماته، ولكن يبدو أن في هذا التعبير نوعأ من المقارنة بين العدد الكبير الذين كانوا يأتون إل المسيح, وبين الذين كانوا يأتون للمعمدان؛ وقد ظهر تناقص عدد الذين كانوا يأتون إل المعمدان في تعبيرين هامين جاءوا بعد ذلك:
‏الأول: تقرير لتلاميذ المعمدان في الآية (26) القادمة: «فجاءوا إلى المعمدان وقالوا له: يا معلم هوذا الذي كان معك في عبر الأردن الذي أنت قد شهدت له هو يعمد، والجميع يأتون إليه».
‏والتعبير الثاني جاء على فم المعمدان نفسه كتحصيل حاصل وبحكم الواقع: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص.» (يو 30:3)
‏ولكن على أي حال كان هم القديس يوحنا هو تسجيل الشهادة الأخيرة والأعظم من فم المعمدان فيما يخص المسيح، هذه الشهادة التي رفعت المعمدان في تاريخ المسيحية إلى المستوى اللائق كنبي وأعظم من نبي!!!


24:3- لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوحَنَّا قَدْ أُلْقِيَ بَعْدُ فِي السِّجْنِ.

‏تعتبر هذه الآية ذات وزن تاريخي عال للغاية، لآن القديس يوحنا يضعها وهو يعرف ما وراءها من التقليد المستقل في الآناجيل الأخرى. إذ أن هذه الحقيقة، أي «وضع يوحنا في السجن وموته بعد ذلك»، تعتبر نقطة البدء لخدمة المسيح في الجليل كما سجلها القديس مرقس وأخذ عنه بقية الإنجيليين: «وبعدما أُسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول قد كمل الزمان.» (مر14:1-15)
‏ولكن هنا القديس يوحنا يكشف عن تقليد رسولى أقدم حيث يوضح أنه حتى وقبل أن يوضع المعمدان في السجن كان المسيح يخدم؛ وليس في الجليل بل في أورشليم بالدرجة الاول وفي اليهودية، وهي الفترة التي أغفلها التقليد عند الإنجيليين الثلاثة. من هنا تظهر أهمية إنجيل يوحنا من جهة سرد وقائع حياة المسيح على مستوى التاريخ الدقيق والحوادث، وما يتبعها من تعاليم.
‏وذكر القديس يوحنا لهذه الواقعة بالذات: «لم يكن يوحنا قد ألقي بعد في السجن»، دون أن يكون لها سبب واضح, يكشف بوضوح أن القديس يوحنا يعرف التقليد الذي كتب منه القديى مرقس، ويلمح إلى أنه يورد هنا إضافة هامة عليه أغفلتها الآناجيل الأخرى. كذلك يلزمنا أن ننتبه جداً إلى هدف القديس يوحنا الأساسى من سرده خدمة المسيح في أورشليم واليهودية قبل الجليل؛ لأن الآناجيل الأخرى اهتمت بأعمال المسيح ومعجزاته بالدرجة الاولى والتى تركزت بصورة ما في الجليل، أما القديس يوحنا فقد اهتم إلى أقصى حد باستعلان شخصية المسيح المسيانية من تعليمه أكثر من معجزاته. وقد رأينا إحدى صور هذا التعاليم الباهرة في حديثه مع نيقوديموس في أورشليم التي تختص بأساس الخلاص والتجديد والملكوت.

 

25:3- 26 وَحَدَثَتْ مُبَاحَثَةٌ مِنْ تلاَمِيذِ يُوحَنَّا مَعَ يَهُودٍ مِنْ جِهَةِ التَّطْهِيرِ. فَجَاءُوا إِلَى يُوحَنَّا وَقَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ هُوَذَا الَّذِي كَانَ مَعَكَ فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ الَّذِي أَنْتَ قَدْ شَهِدْتَ لَهُ هُوَ يُعَمِّدُ وَالْجَمِيعُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ».

‏«وحينئذ»:

جاءت في أول الأية فى الأصل اليوناني. وقد فات على المترجم العربي هذا الظرف الزماني «حينئذ» وأسقطه من الترجمة مع أنه يحمل ثقل كل المعنى في الأيات القادمة كلها بلا مبالغة. فالقديس يوحنا، وهو مختزل لغوي بالدرجة الاولى، أراد أن ينبه القارىء بأقل كلام ممكن أن تواجد المسيح في مقابل المعمدان وها يمارسان نفس العمل وهو «العماد»، أنشأ منافسة اضطرارية بين تلاميذ المعمدان والمعمدين من اليهود؛ لأنه حتماً حدث اختلاف في وجهة نظر التعميد، فمعمودية يوحنا ذات لون إعدادي فقط لمعمودية المسيح بالروح القدس، وحتى ولو أن المسيح لم يُعمد بالروح القدس ولكن يُفهم تماماً من حديثه السابق مع نيقوديموس أن المعمودية في نظر المسيح هي حلقة جديدة وميلاد ثان من فوق وليست غسيلاً وتطهيراً. هذا المعنى كله أضمره القديس يوحنا في الظرف الزماني «حينئذ» المستخدم ليس على المستوى الزماني ولكن بمعنى: «وعلى هذا نشأ الآتي», وهومدخل يرتب الكلام على ما قبله.
«حدثت مباحثة من تلاميذ يوحنا مع يهود من جهة التطهير»: نحن لا ننسى كيف ركز القديس يوحنا على مسألة التطهير أولاً في عرس قانا الجليل، كيف حول المسيح ماء التطهير إلى خمر جيد (حقيقي)، مشيراً إلى التحول المزمع والذي يتحتم أن يكون لكل طقوس ووصايا التطهيرات بكافة أنواعها؛ علماً بأن الستة الأجران تغطي تطهيرات الأسبوع بكامله! وبعدها مباشرة: «اهدموا هذا الهيكل»، بعد أن أخرج منه كل ذبائحه الكبيرة والصغيرة، مشيراً إلى انتهاء عصر الذبائح وكل نظام العبادة القائم عليها. ثم انتقل إلى نيقوديموس معلم الناموس والممثل لكل دقائق الإيمان اليهودي الذي انتهى الحديث معه على أساس حتمية الميلاد الثاني من فوق كأساس للايمان والعبادة وكشرط أول لدخول ملكوت الله؛ كاشفاً له سر معمودية العهد الجديد. وبهذا يكون المسيح قد أكمل الصورة لعملية إحلال الجديد عوض القديم.
‏ولكن يبقى آخر مرحلة من الإنتفاضة اليهودية لإعادة الحياة إلى القديم التي أخذت طريقها خلسة من خلال الإنسان المرسل من الله, يوحنا, لإعداد الطريق للآتي, إذ تضخم عمل المعمدان من خلال حماس تلاميذه على أنه هو الطريق الموعود، فأخذوا يصورون للآتين لمعمودية يوحنا أن هذا هو التطهير الذي سيُحيي إسرائيل.
‏وترامت إلى أسماع المسيح ما يقال وما يُشاع, فجاء بقرب المعمدان يباشر تعليمه من جهة المعمودية من فوق، وكأنه تكميل لدرس المسيح لنيقوديموس، وفي الحال هرع الناس «الجميع» إلى المسيح يسمعون ويعتمدون؛ مع أنه لم يكن يعمد بل تلاميذه، وتأثر الناس واستنارت أذهانهم من جهة حتمية الميلاد الجديد من فوق، وبالتالي عدم نفع التطهير بالماء، فضج تلاميذ المعمدان وذهبوا في حماس وتحد يستثيرون معلمهم.


26:3- فَجَاءُوا إِلَى يُوحَنَّا وَقَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ هُوَذَا الَّذِي كَانَ مَعَكَ فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ الَّذِي أَنْتَ قَدْ شَهِدْتَ لَهُ هُوَ يُعَمِّدُ وَالْجَمِيعُ يَأْتُونَ إِلَيْهِ».

‏واضح للغاية أن تلاميذ المعمدان لم يتأثروا قط بنداء المعمدان من جهة الأقوى الآتي بعده الذي لا يستحق أن يحمل حذاءه، ولا تأثروا من شهادة المعمدان بحسب رؤية وسماع الروح القدس وهو يشهد للمسيح الذي اعتمد من يدي معلمهم، كما لم يتأثروا قط من شخص المسيح ذاته. وكتلاميذ لمعلم مرموق، أخذوا يحاصرون معلمهم حتى يدافع عن نفسه.
‏فابتداوا يشيرون إلى المسيح «هوذا الذي كان معك»، معبرين بذلك عن اعتقادهم بالتساوي بين المعلمين. ثم بدأوا يذكرونه بالإحسان الذي صنعه في المسيح، إذ شهد له كما يشهد القاضي العادل بالحق, وهذا أيضاً يعبر عن اعتقادهم بأفضلية المعمدان وكأنه يشهد لأحد تلاميذه. ولكنهم أبقوا على نقطة الإنزعاج التي ملأت نفوسهم إلى آخر الحديث أو الشكوى، إذ قالوا أخيراً: «هو يعمد والجميع يأتون إليه», معبرين بذلك عن أمرين: الأول أن المسيح بدأ يظهر في أعينهم كمنافس أو متعد على وظيفة معلمهم «هويعمد»؛ والأمر الثاني وهو الأخطر: أن «الجميح يأتون إليه», بمعنى أن وظيفة معلمهم صارت مهددة. وواضح في ذلك التهويل الحاقد والغاضب والمثير.
‏وإذا قارنا هذا التقرير بما قيل عنه في نفس المرضوع بعد ذلك، يظهر التهويل وتلفيق ما يُنسب للمسيح: «وما رآه وسمعه به يشهد وشهادته ليس أحد يقبلها» (يو32:3)؛ وكانوا يعتقدون أن هذا وحده كفيل أن يحرك ساكن معلمهم. وفي الحقيقة وبحسب أسلوب إنجيل يوحنا، فقد أخذ هؤلاء التلاميذ, المتعصبون لمعلمهم, موقف الفريسيين الحاقدين لما واجهوا نفس الموقف: «فقال الفريسيون بعضهم لبعض أنظروا إنكم لا تنفعون شيئاً هوذا العالم قد ذهب وراءه» (يو19:12). كان هذا التقرير المسموم كفيلاً بأن يزعج المعمدان ويهيج غضبه لو لم يكن مرسلاً من الله وروح الله هو الذي يقود نفسه ويوجهها مع لمسات رقيقة من روح الإتضاع .
وكان يمكن أن نفسر هذا التقرير بصورة عكسية تماماً لما يحتمله بأن يكون بشارة سارة ومفرحة للمعمدان من تلاميذه, عن الذي شهد له, أنه هوذا قد صار ناجحا والجميع يأتون إليه! وهذا أيضاً ما يتمش مع كرازة المعمدان بالنسبة للمسيا الآتي, لولا أننا نعرف تماما أن هؤلاء التلاميذ كونوا شيعة تشيعت لمعلمهم وقاومت المسيحية بعنف وبقيت إلى عدة قرون، وكانت في أوج نشاطها أيام كتابة القديس يوحنا لإنجيله (عُرفت هذه الشيعة باسم شيعة المانديين أو الناصريين).


27:3- فَقَالَ يُوحَنَّا: «لاَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئاً إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ السَّمَاءِ.

في إجابة المعمدان نلمح ثلاثة مبادىء هامة يرد بها على غيرة التلاميذ الغاضبة:
‏أولاً: يضح المعمدان المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه الاستعلان النبوي بصفة عامة (الآية27 ‏).
ثانياً: يطبق المبدأ الإلهامي على عمله الذي كُلف به، سواء فيما شهد به سابقاً (الآية28) أو ما يشهد به لاحقاً (الآية29).
‏ثالثاً: استنباط النتيجة الحتمية للتطبيق الأمين (الآية30‏).
‏وهو يبدأ الحديث لا رداً على تلاميذه، ولكن كتوعية عامة ترفع من مستوى تفكيرهم كمعلومة عامة وأساسية, مفادها أن أي معلم صادق لا يأخذ إلا ما منحته السماء له. وهذا يقدح بهدوء وبساطة أساس العلاقة التي تربطه بالمسيح كسابق يعد له الطريق. فسواء هو أو المسيح، فلا يأتي بشيء إلا كما استلمه من مخازن النعم (السماء). هذا الرد يضع حدا لتفكير التلاميذ وينهي على روح المنافسة التي عصفت بهم. كما أن هذا الرد بعينه يوضح أن ما اشتكى منه تلاميذه قد وقع منه موقع الإستحسان بل وصار له كإكليل فرح.
‏ويلاحظ أن المعمدان وضع المسيح موضع نفسه على المستوى من جهة الأخذ والعطاء، فيقول:
«أنا لا أدعي لنفسي سلطة لم آخذها، أما هو الذي تتكلمون عنه فلا يمارس سلطة ويكون لها اعتبارها إذا لم يكن قد تلقاها من الله.
‏هنا المعمدان ينفي أن يكون لإرادة الإنساذ عمل يُحاسب عليه إذ كان هو قد أعطى في حدود ما أخذ.


28:3- أَنْتُمْ أَنْفُسُكُمْ تَشْهَدُونَ لِي أَنِّي قُلْتُ: لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ بَلْ إِنِّي مُرْسَلٌ أَمَامَهُ.

‏هنا المعمدان يطبق المبدأ الذي قاله على شهادته الاولى التي شهد بها عل نفسه بالنسبة للعمل الذي يقوم به وبالنسبة للشخص المنوط به هذا العمل الكبير: «فلو تذكرتم ما قلته سابقاً تدركون كم أنتم مخطئون فيما تظنون وفيما تقولون، ألم أقل لست أنا المسيح؟ فحينما أعلنت عن رسالتي قلت إنها وقتية ومحدودة، ولم أدعى لنفسي المكانة الأعلى ولا بكلمة واحدة حتى تأحذوها حجة لما تفكرون، أنتم شهود لى وعلى أنفسكم.


«لست أنا المسيح»:

هنا يعلن المعمدان عن هوية من تكلم عنه التلاميذ بلفظة «هوذا» و«هو» و«شهدت له»، و«يأتون إليه». وتكلم عنه المعمدا «كإنسان» و«رجل صار قدامي».
‏الأن يعلن المعمدان عن اسمه وهويته: «المسيح» بكل يقين وتعيين. نعم, ولكن يعلن لاسرائيل, أُرسلت أمامه, لا كأني سابق بل كمن يعد ويفسح الطريق لمن هو أعلى.


29:3- مَنْ لَهُ الْعَرُوسُ فَهُوَ الْعَرِيسُ وَأَمَّا صَدِيقُ الْعَرِيسِ الَّذِي يَقِفُ وَيَسْمَعُهُ فَيَفْرَحُ فَرَحاً مِنْ أَجْلِ صَوْتِ الْعَرِيسِ. إِذاً فَرَحِي هَذَا قَدْ كَمَلَ.

‏بينما تكلم المعمدان عن نفسه بوضوح وعلانية, إلا أنه لما جاء للمسيح سواء من جهة شخصه أو عمله نجده بدأ يستخدم الأسلوب السري. ولكن كلماته جاءت محكمة ترد رداً صحيحاً محبوكا، على مستوى فكر التوراة والأنبياء. فأسفار العهد القديم, وخاصة الأنبياء, لا تكف من البداية وحتى النهاية عن وصف يهوه بالنسبة لإسرائيل كعريس وعروس:
+ ‏هوشع 19:2-21: «وأخطبك لنفسي بالعدل وأخطبك لنفسي بالعدل والحق والإحسان والمراحم, أخطبك لنفسي بالأمانة فتعرفين الرب. ويكون في ذلك اليوم أني أستجيب، يقول الرب، أستجيبت السموات وهي تستجيب الأرض».
+ ‏حزقيال 8:16 «فمررت بك ورأيتك وإذا زمنك زمن الحب، فبسطت ذيلي عليك، وسترت عورتك، وحلفت لك, ودخلت معك في عهد، يقول السيد الرب، فصرت لى».
‏فالأن لا يصف المعمدان المسيح «العريس» مباشرة، بل جعلها للسامع بديهية وعلى السامع أن يقرر. فمن ذا الذي له العروس؟ ثم من هي العروس بالتحديد؟
القديس يوحنا الإنجيلي قدير في تقديم الصور الرمزية في حبك قصصى نادر المثال، كل صورة تخدم موقعها بأصالة وواقعية, ولكن الصررة تهدف إلى عمل أعلى بكثير من واقعها القصصي. المعمدان هنا صورة للنبي المخلص المجتهد العظيم حقاً، بشهادة المسيح، ولكن لا يخرج عن كونه مولود النساء، خدم موقعه كصوت صارخ في برية العالم فأسمع العالمين, ومهد للآتي بعده بتقواه ونسكه وصدقه وشجاعته؛ ثم بكرازته بحرارة التوبة وغسل الجسد. ولكن القديس يوحنا الإنجيلي يلتقط له صورة أعلى كممثل لأنبياء العهد القديم جيعاً، جاء بروح إيليا ليتكلم ويشهد باسم الأنبياء جميعاً عن حق وجدارة.
‏ثم يروي القديس يوحنا أن المعمدان، بصفته العليا هذه، أُنيط به غير إعداد الطريق، أو من ضمن ضروريات إعداد الطريق، إعداد العروس التي اتسخت جداً، ليس كإعداد إيليا في القديم بالتوبيخ والعنف والإنذار وقفل السماء وحجز المطر عن إنسان إسرائيل وحيوانه، بل بغسل الجسد والضمير بالماء والنصيحة والإعتراف والتوبة واعداد الآباء والأبناء حتى ترد قلوبهم بعضهم لبعض، لكي تتلقى الأرض بركة الأتي باسم الرب. وها هو الآن قد أكمل المهمة على أقصى صورة سمحت له بها العروس المتبلدة من كثرة السنين وكثرة الإثم, وقد جاء بها ممسكاً بيدها ومن وراء الحدود الفاصلة بين القديم والجديد يسلمها للعريس الذي تطوع ليغسلها بدمه.
‏تقول الآية, أو يقول المعمدان، إنه كصديق العريس لا يرى العريس بل يسمعه فقط، وكفاه هذا، فدور «النبوة» لا يزيد عن كونه صديق العريس, كما وأن الحدود والسدود التي تفصل ليل النبوة عن صبح المسيا, العريس، جد قاسية وعاتية وليست لها عيون تنظر بها بل أذان تتحسس بها الأصوات الأتية من بعيد وفي الظلام: «هذا جاء لا يأكل ولا يشرب»، وهذا «جاء يأكل ويشرب»، هذا «يصوم تلاميذه»، وهذا «تلاميذه لا يصومون»، لأنهم يعيدون لعرسه القادم, «هذا من الأرض يتكلم وهذا من السماءء». فالفواصل جد كبيرة، فكرية وزمنية وشخصية ‏وروحية، فيكفي للنبي الحاذق أن يتعرف على صوت المسيا، وكفى النبوة كرامة أن تصادق العريس. أما وبعد أن يسمع النبي صوت من تنبأ عنه, الأمر الذي لم يحدث قط في تاريخ النبوة والأنبياء, فهذا حدث جلل أعطي للمعمدان دون جميع الأنبياء؛ لأن بأذن المعمدان تسمع جميع أنبياء الله في كل الدهور السالفة صوت العريس الذي طالما وصفوه بغير رؤيا وتسمعوه في ظلام الأحلام بغير صوت. فقد عمدة المعمدان حين قال: «فرحي الآن قد كمل»، فهو فرح جميع الأنبياء والآباء الذين نظروا المواعيد من بعيد وحيوها وماتوا على رجاء هذا اليوم. فالعمدان إنما يتكلم بروح إيليا وفم كل الأنبياء. وهل للنبي فرح يرجوه أكثر من أن يحقق الله له نبوته وفي حياته؟ كان المعمدان صوتاً صارخاً، ردد صوت المسيح صداه فسمعتهما الأجال والأجيال.


30:3- يَنْبَغِي أَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ.

‏تأتي «ينبغي» بصورة ضعيقة، فهي في أصلها اليوناني يتحتم، لأن هذا يتعلق بالقانون الإلهي. نعم فقد انتهى دور الأنبياء والنبوة بظهور الذي تركزت فيه كل النبوات. فإذا خرجت الشمس لزم إطفاء المصابيح. أو هو غروب نجم على أحسن الأحوال لشروق شمس على أقلها!! وهذا القول هو النبوة الأخيرة ليوحنا المعمدان عن بزوغ فجر العصر الماسياني الذي طالما حلم به الأباه والأنبياء. فالمعمدان وإن كان يتكلم عن نفسه كصورة أدت مهمتها بأمانة، إلا أن القديس يوحنا الإنجيلي يرتفع بهذه الصورة ليرى فيها آخر صوت يسمعه الإنجيل، ليس للأنبياء وحسب بل وللعهد القديم قاطبة.
‏فقد انقضى عهد الظلمة وأشرق نور الحياة. وإن ظهر المعمدان بهذه الكلمات على مستوى الإتضاع حقاً، فإنما هو إتضاع من حكم الواقع, أوكما يقولمون، تحصيل الحاصل.
‏وبشهادة المعمدان هذه أمام تلاميذه، يكون قد صادق المسيح في تعليمه ضمناً عن المعمودية الأفضل التي من فوق، التي شرحها لنيقوديموس بإسهاب وعكرت مزاج التلاميذ النساك، والناسك يصبح دائمأ متضايقاً في نفسه إذا غاب عنه عمل الروح. بل ويكون المعمدان قد صادق نفسه عندما قال سابقاً: «أنا أعمدكم بماء ولكن في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه هو الذي يأتي بعدي… فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس» (يو26:1و27و33‏). وإن ذهاب « الجميع», كما يقول تلاميذه, للمسيح ليعتمدوا، هو الصحيح، وهو بعينه ما يقوله أن «من له العروس فهو العريس». فليس «الجميع» فقط ينبغي أن يعتمدوا له بل والعالم كله، «لأنه هكذا أحب اللة العالم» عوض إسرائيل!


31:3- الَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ والَّذِي مِنَ الأَرْضِ هُوَ أَرْضِيٌّ وَمِنَ الأَرْضِ يَتَكَلَّمُ. الَّذِي يَأْتِي مِنَ السَّمَاءِ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ.

يشترك كافة الشراح في الرأي ما عدا العالم «هوسكنز» والعالم «هنجستنبرج» بأن حديث المعمدان وشهادته تنتهيان عند الآية (30‏), بعد ذلك ينقسم العلماء إلى من يقول أن الباقي على لسان المسيح، والى من يقول أنه بقلم يوحنا الرسول، ولكن الأباه الآوائل ذهبي الفم واغسطينوس وغيرهما لا يرون هذا الرأي الأخير بل يعتبرون أن شهادة المعمدان مستمرة حتى نهاية الأصحاح, وسنأخذ برأيهم؟ لأن الكلام لا يخلو من لمسات حية هي من روح المعمدان، باعتبار أن المعمدان انكشفت له السماء وعرف صوت الروح القدس وسمع شهادة الأب من نحو الابن.
‏غير أن شرح الكلام لو كان على لسان المسيح شيء، وشرحه من قلم يوحنا الرسول شيء» وشرحه بفكر المعمدان شيء آخر تماماً, وسيكون أضعفهم بلا نزاع, لأن المسألة مسألة استعلان، ولم يعط للمعمدان أن يستعلن المسيح إلا كونه الآتي، لأن المعمدان محكوم بفكر العهد القديم.

«الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع»:

يلاحظ أن الفعل في المضارع المستمر فهو مجيء أو إرسال دائم ومستمر. و«من فوق» هي نفس الوصف الذي أعطاه المسيح للميلاد من فوق, وقد فسرها المعمدان ثانياً بقوله: «الذي يأتي من السماء». الإشارة هنا إلى المسيح الذي يتكلم عنه المعمدان؛ وهو يتكلم عن خبرة، لأنه أخذ تعليمات واضحة وصريحة من الله الذي يرى الروح القدس نازلاً ومستقراً عليه يكون هو الذي يعمد بالروح القدس. وبالفعل رأى وشهد أنه ابن الله, فليس أكبر من ذلك دليلاً ليقول المعمدان أن المسيح من فوق من السماء، هذا يوضح أن المعمدان يعلم تماماً من أين أتى المسيح.
‏فإذا كان المسيح هو من فوق، من السماء، فهو بحكم علو مكانته وطبيعته يكون الأعلى, أي فوق الجميع بلا نزاع, كرامة ومجداً وعلمأ وتأثيراً. وفي الحال يلتفت المعمدان إلى نفسه، وبالتالي إلى كل معلم من هذه الأرض، حاصراً كل معرفته، كإنسان من الأرض وعلى مستوى الأرض، في أن فعلها وأثرها محدودان، وهذا يوضح بالتالي أن المعمدان مقتنع أن رسالته محدودة بمحدوديته. وهذا صدق, خاصة فيما تعنيه معمودية الماء فقط, وذلك على مستوى «المولود من الجسد جسد هو, والمولود من الروح هو روح».


 
32:3- وَمَا رَآهُ وَسَمِعَهُ بِهِ يَشْهَدُ وَشَهَادَتُهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْبَلُهَا.

‏كانت شهادة المعمدان عن نفسه أنه ليس هو المسيح، وعن المسيح أنه الذي سيعمد بالروح القدس، بمفهوم التغيير الجذري لحياة الناس لتكون لحساب الله والحياة الآبدية، وأنه هو الحمل الذي يرفع خطية العالم، باعتبار رسالته الفدائية للخلاص لمغفرة الخطايا. وأنه هو العريس الحقيقي للشعب أو للأمة الذي انتظرته كل الأجيال السالفة. ولكن هنا تمتد شهادة المعمدان إلى آفاق أخرى لأول مرة يطرقها, وهي إجتهادية، إذ أنه يتكلم عن شهادة المسيح لنفسه ولرسالته, وهي بالنسبة للمعمدان حقيقة بديهية، فلأن المسيح من فوق من السماء فهو جاء ليشهد بما يعرفه سمعاً ورؤية, وهو قطعاً أعلى مما يعرفه كل من على الأرض, لذلك إذ أن هذه الشهادة تفوق المعرفة الطبيعية للناس, إذ هي تختص بالمعارف السماوية, لذلك «ليس أحد يقبلها»؛ ولو أن ذلك ليس بالأمر المقطوع به لأن بعض الناس قبلها. والمعمدان اعتبر نفسه أحد الذين قبلوها، وهو الآن يشهد بذلك.
المعمدان هنا لا يتكلم عن الجموع التي التفت حول المسيح، فهذه الظاهرة تخفي حقيقة هو يعلمها وقد فهمها قبل غيره: أن جوهر رسالة المسيح قائم على أساس أنه «ابن الله»، وأنه مقدم على تجديد كل شيء بالروح القدس، وخاصة بتقديم نفسه عوض الذبائح بصفته حمل الله الذي وحده يرفع خطية العالم؛ فعلى أساس هذه الحقائق سيٌقاوم ولا أحد يريد أن يستجيب لرسالته التي أخذها من فوق. وأوضح دليل على ذلك، الهزة التي اهتزها هو من الأعماق وكادت تعصف به، والتي أعلن عنها الإنجيل أنه في يوم محنته أرسل اثنين من تلاميذه يسأل المسيح نفسه: «أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟» والتي كان ردها باختصار: «طوبى لمن لا يعثر في» (مت1:11-6). والمعمدان يعود إلى أعماق نفسه المضيئة بروح الحق والنبوة، فيرى أن المسيح بحد ذاته هو الحامل لشهادة الله وبما رأى وسمع عند الله كما قال هو عن نفسه: «أنا أتكلم بما رأيت عند أبي… وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله (يو38:8-40‏), هو أنه أقصى ما يستطيع أن يعبر به الإنسان عن قبوله للحق وضمان تعهده بالشهادة بذلك.
‏وإن كان المعمدان لم يكمل فيما يخص نصيب الذين لا يقبلون شهادة الله هذه، فالقديس يوحنا نفسه يقدمها في رسالته: «لأن هذه هي شهادة الله التي قد شهد به االله عن ابنه. من يؤمن بابن الله، فعنده الشهادة في نفسه. من لا يصدق الله، فقد جعله كاذباً لأنه لم يؤمن بالشهادة التي قد شهد بها الله عن ابنه.» (ايو9:5-10)


 33:3- وَمَنْ قَبِلَ شَهَادَتَهُ فَقَدْ خَتَمَ أَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ.

‏المرة الأخرى التي نسمع فيها عن «الختم» فيما يخص الله هي الآية: «اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبدية (جسد المسيح) الذي يعطكم ابن الإنسان لأن هذا الله الآب قد ختمه» (يو27:6). فإذا كان الله قد ختم المسيح أو جسد المسيح، فهذا يعني أنه حامل للخلود وعدم الموت إزاء الطعام البائد الذي ختمه العالم والإنسان. فهنا في آية المعمدان يكون الذي قبل المسيح كمن قبل صدق ختم الله وختم هو أيضاً على صدق الله. ومعروف أن المعمدين بالروح القدس والماء يأخذوذ مثل هذا الختم السري الإلهي من الروح القدس: «الذي فيه أيضاً أنتم، إذ سمعتم كلمة الحق إنجيل خلاصكم، الذي في أيضاً إذ آمنتم، خُتمتم بروح الموعد القدوس الذي هو عربون ميراثنا» (أف13:1-14). ويقول العالم الكبير لايتفوت إن هناك قولاً نبيلاً عند الربين اليهود يقول: ( إن ختم الله هو الحق )، بمعنى إن كل ما هو من الله مختوم بختم الحق
‏وبذلك، فإن كل من يقبل المسيح يكون كمن قبل كل الحق من الله. ففيه تكمل كل مواعيد الله الصادقة الحقيقية غير الكاذبة: «الذي أرسلني هو حق وأنا ما سمعته منه فهذا أقوله للعالم.» (يو26:8)
34- لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ يَتَكَلَّمُ بِكلاَمِ اللَّهِ. لأَنَّهُ لَيْسَ بِكَيْلٍ يُعْطِي اللَّهُ الرُّوحَ.

‏إن برهان صدق الله مختوم به على كل ما يقول المسيح ويعمل، والله أرسله محملاً برسالة روحية تفيض بآيات وكلام الحياة: «يارب إلى من نذهب. كلام الحياة الآبدية عندك» (يو68:6‏). ويكفي لأي إنسان أن يعرف أن كل ما قاله المسيح ونطق به هو هو «كلام الله» نصاً وروحاً. ولكن ليس كأجزاء، إنما كرسالة كلية كاملة هي رسالة الله.
‏لكل الأنبياء كان الله يعطي الروح بمقياس ومكيال مجزءاً ومقسطاً تقسيطاً على قدر ما يتحمل روح النبي وعلى قدر ما يتحتل السامع واحتمالات الظرف. أما للمسيح فبلا كيل ولا قسط يعطي الله الروح، بل إلى كل ملء الروح والله. لأن قياس ملء المسيح هو قياس الله. ومقباس ملء الآب والابن هو الحب.


 35:3- اَلآبُ يُحِبُّ الاِبْنَ وَقَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ.

‏المعمدان ليس غريباً عن حقيقة الآب والابن. لقد كان أول من أعلن عن هذا السر في العهد الجديد قاطبة، وأول من شهد له: «وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله» (يو34:1‏)؛ بل وأول من وثق وثيقة منظورة من الآب للابن وقت العماد حينما حل الروح القدس على هيئة حمامة استقرت فوق المسيح. فعلم للحال وللتو أن هذا هو الذي سيعمد بالروح القدس، وأنه قد استؤمن عل كل ما للآب.
«كل شيء»: دُفع له الحياة الأبدية بكل أسرارها والدينونة في المقابل، دُفع له سلطانه الخاص مع اسمه الخاص، دُفع له كل النعمة وكل الحق, أعطاه كل ما له وبلا حدود.


36:3- الَّذِي يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ والَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالاِبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً
بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ»

المعمدان أٌعطي له بصورة فريدة أن يطلع على الصورة النبوية للمسيح كما كانت في ذهن موسى في التوراة, وفي نفس الوقت يرى ويسمع شهادة الله عن ابنه؛ ثم يتقابل مع المسيح وجهاً لوجه فيتحقق من كل ما سمع ورأى. ففي توراة موسى كانت صورة المسيح، باعتباره النبي الآتي تحمل معها تهديداً واضحاً بالقطع من الحياة لكل من لا يسمع لصوت هذا النبي الآتي: «فإن موسى قال للآباء إن نبياً مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم له تسمعون في كل ما يكلمكم به, ويكون أن النفس التي لا تسمع لذلك النبي تباد من الشعب» (أع22:3-23). وقد تحقق المعمدان أول من تحقق من شخصية ذلك النبي المُقام أنه «ابن الله», وأنه موضوع مسرة الله, فتيقن أن الإيمان به هو حياة وأن رفضه هو عودة الانسان تحت قانون غضب الله على الذين لا يطيعون. لأن بحسب منطق المعمدان يكون أن الذين يؤمنون به يجعلون الله صادقاً, والذين لا يؤمنون يجعلون الله كاذباً. لأنهم لا يؤمنون بشهادة الله عن ابنه. فهنا تنشأ الخصومة بين الإنسان والله، فعدم الإيمان بالابن هو بنوع ما تعدى على صدق الله بما يحتمل العداوة ضد الحق. ها يدخل الإنسان نفسه كمقاو لتدبير الله ومعطل لعمله: «شاول شاول لماذا تضطهدني… صعب عليك أن ترفس مناخس.» (أع4:9-5)


تعقيب على شهادة المعمدان

‏نحن مدينون إلى علاقة القديس يوحنا الرسول الصميمة بالمعمدان، فهو كان من تلاميذه المتقدمين قبل أن ينضم إلى تلمذة المسيح، فبسبب هذه العلاقة التي تربطه بالمعمدان وتلاميذه، وهم زملاء القديس يوحنا القدامى، استطاع أن يتعرف على أدق وأكثر الحركات سراً التي جرت بين تلاميذ المعمدان واليهود من ناحية، وبين هؤلاء التلاميذ والمعمدان من جهة أخرى؛ لأن كل أقوال المعمدان التي تسجلت في إنجيل يوحنا في هذا الأصحاح هي من التعاليم هى من التعاليم السرية الخاصة التي باح بها المعمدان لتلاميذه ليضعهم في الموضع الصحيح بالنسبة لرسالة المسيح وشخصه. ولكن للأسف لم يكن هؤلاء التلاميذ المعمدانيون على مستوى نور معلمهم ورسالته؛ إذ قد استهوتهم رسالة النسك الدقيقة والصارمة التي اختطها لهم معلمهم: «لماذا يصوم تلاميذ يوحنا والفريسيين وأما تلاميذك فلا يصومون» (مر18:3). وتمادوا فيها بعد موته وكونوا لأنفسهم شيعة رفعت من المعمدان ونسكه وتعاليمه ونصبت نفسها عدواً لرسالة المسيح.

فاصل

  1. (لقد راجعنا الآباء في ما قالوه عن الحية النحاسية غير اننا لم نعثر على كبد الحقيقة. فالقديس يوستين في حواره مع تريفو عندما سأله تريفو اليهودي عن هذا الرمز كان جوابه: [أنا لا أستطيع أن أعطي جواباً في هذا لأني طالما سألت معلميني فلم يعطوني جوابأ شافياً]. ويقول ‏القديس أمبروسيوس: [إن حيتي هي حية صالحة لأنه لا يخرج سم من فمها بل الدواء الشافي] في شرحه للمزمور143
    ‏يقول أوريجانوس: [إن الحية النحاسية هي الشبه للمخلص، وكنه لم يكن هو الحية لكنه كان يمثلها].
    ‏القديس غريغوريوس النيسي يشرح ذلك مطولاً فيقول: [إن الناموس يوضح لنا أن المنظور على الصليب كان على شبه الحية, ولكن لم يكن حية كما يقول بولس الرسول: «في شبه جسد الخطية» (رو3:8) لأن الحية الحقيقية هي الخطية, والذي يلجأ للخطية يأخذ طبيعة الحية. فالإنسان أُخلي من الخطية بواسطة الذي أخذ شكل الخطية وصار على شكلها وهو الذي تغير بشبه الحية]. وقد حذا حذوه ذهبي الفم وثيئوفيلس الأنطاكي
    ‏ويقول القديس إبيفانيوس أسقف قبرص نفس الفكرة تقريبأ وأضاف: [إن الحية كانت تمثل المسيح. فاليهود حينما عاملوا المسيح كأنه حية، فق أصابهم سم الحية أي الشيطان. وحنئذ جاء الشفاء للذين عضتهم الحية حينما رُفعت الحية)
    القديس أغسطينوس يقول: [إن رفع الحية هو موت المسيح].)

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى