تفسير رسالة فيلبي أصحاح ١ للقمص أنطونيوس فكري

تفسير رسالة فيلبي – الأصحاح الأول

آيات 2،1:

  “ بولس وتيموثاوس عبدا يسوع المسيح إلى جميع القديسين في المسيح يسوع الذين في فيلبي مع أساقفة وشمامسة. نعمة لكم و سلام من الله ابينا و الرب يسوع المسيح “.

بولس: بعد إيمان بولس اختار اسمه اليونانى (أما شاول فهو اسمه العبرى). وبولس يعنى الصغير، وربما يكون هذا لتواضعه أنه اختار اسم الصغير (أف8:3)، أو إعلاناً عن حياته الجديدة فى المسيح يسوع فلقد إستخدم إسماً جديداً، وربما لأنه صار رسولاً للأمم فقد استخدم الإسم اليونانى. والرسول هنا لم يصّرح بلقبه الرسمى كرسول للمسيح كما فعل فى معظم رسائله، فأهل فيليبى أصدقاء له لا يَشُكَّون فيه ولا فى رسوليته وهكذا فعل فى رسالته لأهل تسالونيكى. وتيموثاوس: هو مساعد بولس فى كرازته لأهل فيليبى، وتيموثاوس معروف عندهم، ولكن كاتب الرسالة هو بولس فقط، فهو يستخدم ضمير المفرد المتكلم بعد ذلك، أما تيموثاوس فهو يرسل سلامه فقط. ومن تواضع بولس أن يذكر اسم إبنه معهُ على قدم المساواة. عبدا: فالمسيح اشتراهما بدمه، والمسيح حين يشترى أحداً فإنه يحرره ويطلقه حراً، بل يعتبره ابناً، ولذلك اختار حتى أقرباء المسيح بالجسد (يعقوب ويهوذا) لقب عبد للمسيح (يع1:1) + (يه1)، ولم يقولا إخوة يسوع بالجسد فهم يعلمون أن العبودية للمسيح تحرر، أمّا العبودية للشيطان ففيها مذلة وهوان. العبودية لله تحرر والدليل أن الله يترك الملايين تنكره وتهين إسمه. بينما العبودية لأي شهوة تذل.

جميع القديسين فى المسيح: قديس أى أفرز نفسه عن كل ما للعالم وصار للرب يسوع عبداً مستعداً دائماً لطاعة أوامر سيده، خصص تفكيره وكل طاقاته له. ونحن إذ نشعر بمحبة المسيح نستعبد أنفسنا له، لمحبته. فى المسيح: تعبير خاص ببولس الرسول يشير للاتحاد بالمسيح والثبات فيه (بالإيمان والمعمودية…). ونلاحظ أنه لا قداسة إلا في المسيح يسوع.

 

أساقفة: كان لقب أسقف يطلق على القسوس (وقيل عن الرسل قسوس (1بط 1:5) وهذه مترجمة شيوخ). ولقب قسوس يُطلق على الأساقفة (أع17:20، 28). شمامسة: مع القسوس يساعدون الأسقف.

 

نعمة وسلام: نعمة: “خاريسوهى التحية اليونانية بمعنى: أرجو أن تحصل على نعمة غنية تناسب حاجتك، فالنعمة هى عطية حسنة مجانية. وسلام: هى التحية عند اليهود. والمعنى أن يحل السلام على السامع كعطية إلهية.

والنعمة فى المسيحية هى إشارة لكل البركات التى حَلَّتْ علينا بسبب تجسد المسيح وفدائه. وأعظم البركات التى حصلنا عليها هو الروح القدس، ومن ثماره السلام. وبولس تعوّد على استعمال هذه التحية ليشير أن المسيح للجميع (يهوداً ويونانيين أى أمم). وفى المسيح وحده ننال النعمة من الآب كهبة مجانية لخلاصنا والتى بها نقتنى السلام كدليل للعمل الخلاصى فينا أى المصالحة.

من الله أبينا والرب يسوع: الآب والإبن فى مساواة جوهرية يمنحان النعمة والسلام. والآب هو العامل الأول لخلاصنا بمحبته، والابن الكلمة عامل فى خلاصنا بتجسده. والله هو أبينا (يو 12:1) ونصلي له قائلين أبانا.

فاصل

الآيات 3-8

آية 3: “أشكر إلهي عند كل ذكري إياكم”.

إلهى: الرسول يبدأ كل رسائله بتقديم الشكر لله (وهذا منهج الكنيسة التى تبدأ كل صلواتها بصلاة الشكر). وهنا يشكر الله على ثبات إيمان ومحبة أهل فيليبى لله، وهذه المحبة قد ظهرت فى عطاياهم وشعورهم بإحتياجات الآخرين، وهو يشكر الله على نجاح خدمته فى فيليبى وهذه هى ثمارها. وقوله إلهى هو شعور حلو، فبولس يشعر بعلاقة خاصة مع الله. هو يحسب أن الله إلهه هو، كما قالالذى أحبنى وأسلم ذاته لأجلى” (غل 20:2). وهذا كقول عروس النشيدأنا لحبيبى وحبيبى لى“. ومن أعطى نفسه لله يشعر وكأن الله أيضاً صار لهُ. ولاحظ قول بطرس (أع 6:3) ” ولكن الذى لى فإياه أعطيك بإسم يسوع المسيح الناصرى قم وامشى“.

 

آيات 4-6: “دائما في كل أدعيتي مقدمًا الطلبة لأجل جميعكم بفرح. لسبب مشاركتكم في الإنجيل من أول يوم إلى الآنواثقًا بهذا عينه أن الذي ابتدأ فيكم عملاً صالحًا يكمل إلى يوم يسوع المسيح”.

في كل أدعيتي: بولس يصلي كل حين فهو الذي قال صلوا بلا انقطاع وهذا يعطى للنفس سلاماً وفرحاً. فإشراك الله في مشاكلي أفضل من تفكيري منفرداً في حلها. فتفكيري منفرداً يصيبني باليأس. أما تفكيري بروح الصلاة وإشراك الله مثلاً أقول: يارب حل مشكلتي، أنا واثق أنك في محبتك لن تتركنى، اللهم التفت إلى معونتي. وبهذا فقط نمتلئ من الرجاء وسلام الله الذي يفوق كل عقل وتنسكب التعزيات الإلهية خلال الصلاة أي صلتك بالله.

بفرح: هى رسالة الفرح، وهو فرِح وراضٍ عن حالتهم الإيمانية. هو فرح بالرغم من آلامه وسجنه، فالفرح الروحى لا يستطيع أحد أن ينزعه.

مشاركتكم فى الإنجيل: أى مساهمتهم فى احتياجات الكرازة بالإنجيل سواء بالمال أو بالشهادة للإنجيل فى حياتهم أو بكرازتهم بلا خوف. هى شركة متبادلة فى عمل واحد لهدف واحد وهو تقدم الإنجيل. فكلمة شريك هنا باليونانية هى العصا التى تربط رقبتى ثورين يجران نورج. فأهل فيليبى ارتبطوا بالإنجيل وارتبطوا ببولس الذي بشرهم بالإنجيل وشاركوه قيوده إذ أرسلوا إليه من يخدمه، وشاركوه فى المحاماة عن الإنجيل، وشاركوه فى نفقات المعيشة.

من أول يوم إلى الآن: من يوم اهتدوا للمسيحية حتى وقت كتابة هذه الرسالة، أى حوالى عشر سنوات. ابتدأ فيكم عملاً صالحًا: بالإيمان والمعمودية أصبحوا خليقة جديدة، والله سيكمل معهم هذا العمل بإحتمالهم للألام ليشتركوا مع المسيح فى صليبه ويتكملوا فيليقوا بحياة القيامة. والله ليس عنده تغيير أو ظل دوران، فإذا إبتدأ عملاً فهو سيكمله، والله إذاً سيكمل معهم طريق القداسة والأعمال الصالحة. ويوم خلق الله آدم فهو عمل عملاً صالحاً، فهو قد خلق آدم ليحيا فى مجد، ولما فقد آدم المجد تجسد المسيح ليكمل العمل الذى بدأه.

وأن إلهنا إله جبار لن يترك أولاده بسهولة في يد إبليس، ولكن إن تركه أولاده بحريتهم مثل ديماس (2 تي1:4)، و تركوه بالرغم من محاولات الله إرجاعهم، حينئذ يهلكون وهذا يتضح من (في19،18:3).

يوم يسوع المسيح: يوم المجىء الثانى للمسيح الذى سيأتى فيه للدينونة. ولاحظ أنه يقوليسوع المسيحإذا أراد الإشارة إلى أنه ابن الإنسان الذى تجسد ومات وقام وسيأتى فى مجده. ويقولالمسيح يسوع” (1:1)، إذا أراد الإشارة له كالأقنوم الثانى. أدعيتى: بالصلاة نستمد من الله نعمته الفعّالة، ولاحظ أن خادم بلا صلاة يدعو فيها الله، لن يحقق شيئًا فى خدمته.

تأمل : ابتدأ.. يكمل: الله لا يبدأ عملاً بدون قصد، بل هو إن بدأ العمل لابد وسيكمله. والله دعانا، لذلك فهو سيكمل معنا. لو نظرنا لقوة العدو نيأس، ولكن إن نظرنا لعمل الرب نتشجع ونتعزى ونسير فوق المياه الهائجة (مت22:14-33). فبطرس حين نظر للمسيح سار فوق الماء الهائج، ولما نظر للريح الشديدة غرق.

 

آيات 8،7: “ كما يحق لي أن افتكر هذا من جهة جميعكم لأني حافظكم في قلبي في وثقي وفي المحاماة عن الانجيل وتثبيته أنتم الذين جميعكم شركائي في النعمة. فإن الله شاهد لي كيف اشتاق إلى جميعكم في أحشاء يسوع المسيح”.

كما يحق لى أن أفتكر: يحق لى أن أفرح بكم، وأثق أن الله سيكمل معكم، هذا تعبير عن محبته لهم وثقته فيهم، وثقته فى عمل الله معهم. حافظكم فى قلبى هو يحملهم فى قلبه، أى يذكرهم ويفكر فيهم ويصلى لأجلهم، ويفرح بأخبارهم المطمئنة، وينشغل وينزعج إذا سمع عن هراطقة يزعجونهم، ولم تشغله آلامه وقيوده واهتمامه بالكرازة فى بيت قيصر عن أن يذكرهم ويصلى لأجلهم ويهتم بهم، هو أحب أهل فيليبى كنفسه. وفى المحاماة عن الإنجيل وتثبيته: الله يحفظ إنجيله، وبولس يحامى عنه (وهكذا نحن) بأن يعلن الإيمان الصحيح ويرد على كل الهراطقة ليثبّت التعاليم والإيمان الصحيح : وتثبيته. وكل هذا لم يشغله عنهم. 

شركائى فى النعمة: المسيح مات وقام لأجلنا جميعاً، ونحن شركاء فى كل ما تم الحصول عليه، وشركاء فى حلول الروح القدس علينا جميعاً. حقاً ليس لأهل فيليبى نفس مواهب بولس، لكن الكل شريك فى نعمة الخلاص بفداء المسيح وفى حلول الروح القدس عليه. لكن لكل واحد مواهبه بحسب العمل المطلوب منه.

فى أحشاء يسوع: الأحشاء هى القلب والكبد. وقد عرفها القدماء أنها مركز العواطف والإحساس، وقوله أحشاء يسوع، أى أنه يحمل لهم محبة المسيح واشتياقه لخلاصهم، ولأن المسيح يحيا فى بولس صارت أعضاء وعواطف وفكر بولس هي أعضاء وعواطف وفكر يستعملهم المسيح فصارت أعضاء بولس آلات بر (رو6: 13)، وصارت محبة بولس لهم هى نفسها محبة المسيح لهم، ألم يقل الرسول إن لهفكر المسيح” (1كو16:2). وهكذا هنا نرى أن الرسول له نفس اشتياقات المسيح ومحبته نحو أهل فيليبى، و قوله في أحشاء يسوع أي أنها ليست عواطف بشرية.

وهذه المحبة التي يضعها المسيح في قلوبنا بالروح القدس (رو5:5) + (غلا 5: 22) هى غير العواطف الطبيعية البشرية. فالعواطف البشرية لها عيوب:

1.     يمكن أن نحب إنسان أكثر من إنسان آخر.

2.     هذه المحبة البشرية قد تتحول إلى كراهية وكم من القضايا في المحاكم بين أخوة وأقارب.

3.     بل يمكن أن تكون العواطف البشرية سبباً في التصادم مع الله لو سمح الله بأى تجربة لمن نحبه.

4.     أما المحبة التي يضعها الله في القلب فهي محبة لله أولاً وهذه المحبة تكون أكثر من محبتنا لأي إنسان ومحبة لكل إنسان حتى أعدائنا وهذه المحبة تسبب فرحاً يملأ القلب.

فاصل

الآيات 9-14

آيات 9-11: ” وهذا أصليه أن تزداد محبتكم أيضًا أكثر فأكثر في المعرفة وفي كل فهم. حتى تميزوا الأمور المتخالفة لكي تكونوا مخلصين وبلا عثرة إلى يوم المسيح. مملوئين من ثمر البر الذي بيسوع المسيح لمجد الله وحمده”.

حينما اختبر بولس هذه المحبة التي يعطيها الله طلب أن يملأ الله شعب فيلبى من هذه المحبة.

أن تزداد محبتكم.. فى المعرفة: بولس الذي اختبر المحبة التي يضعها المسيح في قلبه يصلي لكل أهل فيلبي أن يمتلئوا من هذه المحبة. محبة بولس لهم ترجمها إلى صلوات من أجل أن تزداد محبتهم وتنمو، فيكون لهم خلاص لنفوسهم. فالمحبة هى تمام الناموس وتمام الإنجيل، وهى لله أولاً ولكل إنسان حتى الأعداء، هى علامة حلول روح الله القدوس فينا (غل 22:5) + (رو5:5) وبدون محبة لا خلاص إذ اننا سنكون فاقدين لصورة الله. وهناك ارتباط جوهرى بين المحبة والمعرفة. فكلما زادت المحبة زادت المعرفة (أف16:3ـ19). وهذه مثل رجل غنى له قصر عظيم، فأنت لن تدرك عظمة هذا القصر، ولا أفكار وخطط هذا الرجل العظيم ما لم تدخل إلى قصره، وهذا لن يحدث إلاّ لو دخلت فى علاقة محبة مع هذا الرجل، حينئذ يدعوك إلى قصره فتعرف عنه أشياء عجيبة، هكذا إذا دخلنا فى علاقة حب مع الله سيعطينا أن نعرف أمجاده بل أعماقه (1كو 9:2-12). وأيضاً كلما زادت معرفتنا بالله تزداد محبتنا له. وهذا يأتى بمعرفة كلمة الله فى الإنجيل، وبالصلاة يكشف لنا الروح القدس عن من هو المسيح (يو14:16). وكلما اكتشفنا من هو المسيح نزداد حباً له.. وهكذا كلما ازداد الحب إزدادت المعرفة، وهكذا إذ دخل إبراهيم فى حالة حب مع الله قال الله: كيف أخفى عن عبدى إبراهيم ما أنا فاعله. وكلما ازدادت المعرفة ازداد الحب. لماذا؟ الإجابة: لحلاوة شخص الله فكلما نكتشف شخص الله وحلاوته نحبه بالأكثر وهذه حلقة لا تنتهى بل هذه هى الحياة الأبدية (يو 17: 3). إذاً كلما إزداد الحب إزدادت المعرفة وكلما إزدادت المعرفة إزداد الفرح، وكلما إزدادت المعرفة وإزداد الحب إزداد الإيمان والثقة فى الله. فإذ عرفنا قوته وقدراته، وأنه لمحبته يوجه كل هذه القدرات لنا نزداد إيماناً به. وهذه هى أول طريقة لزيادة الإيمان. والطريقة الثانية أشار إليها القديس بولس الرسول فى (كو 7:2). “موطدين فى الإيمان.. متفاضلين فيه بالشكرفمن يحيا شاكراً الله فى ضيقاته يرى يد الله ويعرفه فيزداد إيمانه.

وفى كل فهم: المعرفة هى المعرفة المجردة. والفهم هو فى تطبيق ما عرفناه فيصبح الإنجيل إنجيل معاش. فالفداء معرفة ولكن الفهم كيف أعيش هذا الكلام كيف أنفذ وصايا من أحبنى وأقبل صليبه وبهذا تزداد معرفة المسيح وبالتالى يزداد الحب له، وتبعاً لذلك يزداد الإيمان به، فلا نهتز ولا ننهار أمام  التجارب مهما كانت شديدة وعاتية، وهذا معنى مثل البيت المبنى على الصخر الذى لا ينهار من العواصف والرياح والأنهار (مت 24:7-27). والمقصود أن من ينفذ التعاليم ولا تظل تعاليم المسيح مجرد تعاليم نظرية (معرفة) بالنسبة له بل تتحول إلى حياة، سيعرف المسيح وتزداد المحبة وبالتالى الإيمان، فلا يشك وقت التجربة.         

حتى تميزوا الأمور المتخالفة: من يمتلىء معرفة ومحبة سيميز الأمور المتخالفة وفى ترجمة أخرىلكى تستحسنوا ما هو أفضلفالمسيحية ليست ديانة الحرام والحلال بل اختيار الأحسن من الحسن. هى إنسان قد تذوق، ومن تذوق سيكون له القدرة على التمييز ليس بين ما هو باطل وما هو خير، بل ما هو الأحسن فى الأمور المعروضة علينا. عموماً زيادة المحبة تعطى إستنارة فيكون للإنسان تمييز الأمور المختلفة. وهذا يحدث لمن له النظرة البسيطةفإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيراً” (مت22:6). والعين البسيطة هى التى تبحث فقط عن مجد الله، تطلب فقط أن تعرف الله وتعرف كل شىء عنه، فتعرفه، فتحبه، فتعطيه المجد. فيحل المسيح نور العالم في هذا الإنسان فيصبح نيراً.

مُخِلصِينْ: معناها فى اليونانية مُخْتَبَرين فى نور الشمس الكامل وَوُجِدْتُمْ أنقياء بلا عثرة إلى يوم المسيح: أى حتى يأتى المسيح للدينونة. بلا عثرة: لا تعثروا أحداً ثمر البر الذى بيسوع المسيح: بر القديسين لا يحصلوا عليه بالناموس ولا بالطبيعة ولكن بالثبات فى المسيح والاتحاد به، لنصير كغصن فى كرمة، والغصن لا يأتى بثمر إن لم يثبت فى الكرمة (يو4:15). والثبات فى المسيح يأتى بالإيمان والمعمودية وحياة التوبة والجهاد وذلك للامتلاء بالروح القدس الذى يثبتنا فى المسيح فنثمر (2كو21:1). ونلاحظ أن البر هو المسيح، ولا بر  سوى بحياة المسيح فينا (غل20:2) + (فى21:1) + (رو10:5). ولماذا لا يحيا المسيح فينا؟ ببساطة لأننا لم نقبل الصلب مع المسيح. “مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ“.

لمجد الله وحمده: الحياة فى المسيح لها ثمرها الذى سيظهر فى حياتنا وهذا سيؤدى إلى مجد الله حين يرى الناس أعمالنا الصالحة فيمجدوا أبانا الذى فى السموات (مت 16:5).

 

آيات 12-14: “ ثم أريد أن تعلموا أيها الاخوة أن أموري قد آلت أكثر إلى تقدم الإنجيل. حتى أن وثقي صارت ظاهرة في المسيح في كل دار الولاية وفي باقي الأماكن أجمع. وأكثر الاخوة وهم واثقون في الرب بوثقي يجترئون أكثر على التكلم بالكلمة بلا خوف”.

تقدم الإنجيل: هى كلمة يونانية تعنى مجموعة متقدمة للجيش تقوم بتقطيع خشب الأشجار فى الغابات لتسهيل مرور الجيش، فبولس بخدمته يمهد الطريق لإنتشار كلمة الله. أمورى: أحوالى فى فترة سجنى، وهى حوالى سنتين، وما قبلها من غرق السفينة والمشاكل التى صادفها فى رحلته، والآن يده مربوطة بيد حارس. آلت: كان الظن أن السجن سيكون عائقاً عن الكرازة ولكن حدث العكس. فالله  قادر أن يُخرج من الجافى حلاوة. ولاحظ أن الخدمة هى خدمة الله، وبولس وبطرس وغيرهم أدوات فى يد الله. بل أن الاستشهاد كان سبباً فى نمو الكنيسة الأولى  وثقى صارت ظاهرة: ظهرت براءتى من أى جريمة منسوبة إلىَّ، وعلموا أن وثقه سببها محبته للمسيح الذى كان يبشر به وليس لذنب جناه، صاروا لا يرونه سجيناً عادياً، ولم يخطئوا فهم قيوده أى مجرماً يستحق القيود. دار الولاية: الكلمة تعنى ثكنة العسكر، أو جنود الحرس الإمبراطورى أو البلاط الإمبراطورى، ومكانهم فى مبنى ملحق بالقصر. وهنا يطمئن الرسول أهل فيليبى أن السلاسل لم تمنع الكرازة، بل هو نشر الكرازة عن طريق الجنود المربوطين معه بالسلاسل، إذ شرح لهم سبب سلاسله وهو محبته للمسيح، وبشرهم بالمسيح، أو هم سمعوا كلام بولس مع من يزورونه من أصدقائه فعرفوا المسيح، بل نشروا هذه الدعوة ليس فى دار الولاية فقط بل فى خارجها = فى باقى الأماكن أجمع. بل أن أكثر الإخوة إذ رأوا شجاعة بولس تشجعوا وازدادت ثقتهم فى الرب وكرزوا بلا خوف، واحتملوا الآلام فى سبيل هذا. والمسيحية انتشرت فى رومية عموماً عن طريق مؤمنين عرفوا المسيح ثم جالوا يكرزون بالكلمة. الرسول هنا يرد على تساؤل وشَك قد يصيب أهل فيليبى أو غيرهم، وهو كيف أن هذا الرسول العظيم يسمح الله بسجنه مع أن تعاليمه صحيحة؟والرد أن الله قادر أن يحوّل كل الأمور لتعمل معاً للخير. فلا ننظر إلى المشاكل على أنها معوقات، بل إذا سمح بها الرب فهى ستعود بالخير. فالرسول بولس أخطأ فى ذهابه إلى أورشليم بعد إنذارات الروح القدس له أنه سَيُقَيَّدْ. ولكنه من فرط غيرته ومحبته أصر على الذهاب فسُجِنَ. غير أنه لم يضيع وقته فى الندم على ما فات بل امتد بنظره إلى قدام وبدأ يكرز وهو فى السجن ولم يندم على الأربع سنين التى ضاعت فى الأسر (سنتين فى فلسطين وسنتين فى حبس دار الولاية فى رومية). ولكن الله يحوّل الأمور للخير. فما كان ممكناً لبولس أن يصل إلى قصر قيصر سوى بهذه الوسيلة أى سجنه.

واثقون فى الرب بوثقى: لقد رأوا أن وثقى لم تكن عائقاً يمنعنى من الفرح أو الكرازة فتشجعوا فبالأولى يكرزون وهم أحراربلا قيود. علينا ألا نخاف إذا هبت رياح معاكسة، ولا أن نحكم بحسب الظاهر أن العمل سيتوقف، ومجد الله لن يظهر.

فاصل

الآيات 15-20

آيات 15-17: “اما قوم فعن حسد وخصام يكرزون بالمسيح واما قوم فعن مسرةفهؤلاء عن تحزب ينادون بالمسيح لا عن اخلاص ظانين انهم يضيفون الى وثقي ضيقا. واولئك عن محبة عالمين اني موضوع لحماية الانجيل“.

عن حسد وخصام = كان هؤلاء من المتهودين (يهود آمنوا بالمسيح لكنهم يرون أن الأممى عليه أن يلتزم بالناموس أولاً قبل أن يصبح مسيحياً).

وهؤلاء المتهودين غاظهم إهمال بولس للطقوس الناموسية، ولم يهدأ بولس فى الهجوم عليهم وعلى معتقداتهم، وظل يعمل على تصحيح تعاليمهم. والآن فبولس مسجون، وكان أن قام هؤلاء عن غيرة ومنافسة تحركهم دوافع غير نقية، ويُظهرون غيرة شديدة فى كرازتهم لعلهم يبلغون صيتاً حسناً وسمعة طيبة أفضل من بولس. هؤلاء يعملون لمنفعتهم الخاصة وتمجيد ذواتهم لا لأجل مجد المسيح. وهم يظنوا أن نجاحهم فى الكرازة سيضعف مكانة بولس ويضيف إلى ضيقاته ضيقاً فى سجنه وفي  توقفه عن الكرازة التى يعانى منها فعلاً.لذلك فهم لا أجر لهم.

تحزب = جاءت فى اليونانية أنهم يعملون لمنفعتهم الخاصة، وتشير للتنافس.

عن مسرة = هؤلاء كانوا يكرزون برضا وسرور لمجد المسيح وحتى يجعلوا بولس مسروراً. عن محبة = لله ولبولس. عالمين إنى موضوع لحماية الإنجيل = موضوع أى مُعيّن لهذه الخدمة، هم علموا أن الله عيننى لهذا، أى أن أدافع كجندى وأحامى عن الإنجيل من اليهود والمتهودين والوثنيين والشيطان، وذلك بأن أعلن الحق أمام هجوم الهراطقة على الإيمان الصحيح.

 

آيات 18-20: “فماذا غير انه على كل وجه سواء كان بعلة ام بحق ينادى بالمسيح و بهذا انا افرح بل سافرح ايضا. لاني اعلم ان هذا يؤول لي الى خلاص بطلبتكم و مؤازرة روح يسوع المسيح. حسب انتظاري و رجائي اني لا اخزى في شيء بل بكل مجاهرة كما في كل حين كذلك الان يتعظم المسيح في جسدي سواء كان بحياة ام بموت“.

سواء كان بعلة أم بحق = سواء كانت دوافعهم للكرازة عن تحزب ورغبة فى تمجيد ذواتهم، أم بإخلاص ورغبة فى مجد المسيح.

بهذا أنا أفرح = هم ظنوا أننى سأتضايق من كرازتهم وشهرتهم، إلا أنهم مخطئين، فأنا أفرح بأن الكرازة تنتشر. بل هو يفرح لوجوده فى السجن الذى حرك كثيرين للكرازة مهما كانت دوافعهم. بولس فرح بانتشار اسم المسيح وهو واثق أن الله استخدم القليل الذى لدى هؤلاء ليبدأ معهم، ثم إذا كان الله قد بدأ فهو سيكمل وسيصحح لهم معلوماتهم ويكمل إيمانهم، لذلك لا يجب أن ننزعج لوجود طوائف كثيرة بل نسعى أن نكمل نقائصهم.

يؤول لخلاص = الخلاص له عمل هنا على الأرض وحياة أبدية فى السماء.

1.     من يسمع هؤلاء المغرضين لن يعرف دوافعهم، ومن يؤمن بكرازتهم يخلص.

2.     كل ألم فى حياة بولس لأجل المسيح سيؤول ذلك إلى رصيد له فى السماء (لو13:21). 

3.     كلما ازدادت ضيقات بولس من هؤلاء المضايقين يرتمى بالأكثر فى أحضان المسيح فتزداد تعزياته.

4.     عمل بولس هو انتشار الإنجيل، والله أبقى حياته إلى هذه اللحظة لهذا السبب، فكلما انتشر الإنجيل فهو يفرح لأن هدف وجوده قد تحقق. لو تحقق هدف وجوده يخلص فى الحياة الأبدية.

بهذا أفرح = بولس يفرح:

1.     بسجنه.

2.     بكرازة من يكرز بمحبة.

3.     بكرازة من يكرز عن تحزب ويتسبب فى زيادة آلامه. وهذا الفرح وهذا الخلاص يكون لى بطلبتكم= صلواتكم عنى + مؤازرة روح يسوع. والروح القدس من ثماره الفرح. وهو يحل علينا باستحقاقات عمل يسوع المسيح. ونلاحظ أن الخلاص لكل واحد يكون بـ: 

أ‌.        الإيمان بالكرازة.

ب‌.    صلوات الشخص نفسه.

ت‌.    عمل الروح القدس فيه.

          حسب انتظارى = كلمة انتظار تعنى الانتظار باشتياق كبير لدرجة محاولة الوقوف على أطراف الأصابع ورفع الرأس، مثلما قال الرب يسوع (لو18:21). فبولس يسهر ويجاهد ويطلب شيئاً واحداً ولا يطلب سواه، وهو انتظار مشفوع بالرجاء فى ذلك الشىء. وما هو هذا الشىء الذى ينتظره بلا يأس بل بكل رجاء؟ أن يتعظم المسيح فى جسده وأن يظل يكرز بالمسيح، فهو ليس مثل المتحزبين يطلب مجد نفسه بل مجد المسيح. يتعظم المسيح = المسيح لن يُزيد من عظمته أحد، لكن المعنى أن تظهر عظمة المسيح فى جسد بولس، كيف ؟ 

بحياة أم بموت = هو يشتهى أن يتمجد اسم المسيح به سواء بحياته أو حتى باستشهاده. ومازال بولس بعد موته وحتى الآن يُكرز برسائله لمدة 2000سنة، وفى كل مكان. هو اشتهى أن يظل يكرز كل حياته باسم المسيح وأن يشهد له باستشهاده، فالشهادة بالإستشهاد تظهر مجد المسيح، الذى يموت الشهيد ولا ينكر اسمه. والله أعطى لبولس أن يشهد له فى حياته وبعد استشهاده والاستشهاد كرازة، فحينما يرى غير المؤمن، أن المؤمنين تكون حياتهم رخيصة عندهم من أجل المسيح الذى آمنوا به وأحبوه سيتساءلون عمن هو المسيح هذا وربما آمنوا به. راجع (نش 8:5 + 9:5 + 10:5-16 + 1:6).

بطلبتكم = لاحظ هنا طلبة بولس عنهم وطلباتهم عنه، وهذه هى الشفاعة. وماذا يمنع أن تكون الشفاعة بين الكنيسة المجاهدة والكنيسة المنتصرة؟!

فاصل

الآيات 21-30

آية 21: “لان لي الحياة هي المسيح و الموت هو ربح“.

لى الحياة هى المسيح = هذه مثلالمسيح يحيا فىّ” (غل20:2). ومن يحيا فيه المسيح يستخدم المسيح أعضاءه كالآت بر وهذه لا تحصل إلا بصلب الذاتمع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فىّ، فكلما جاهد الإنسان فى إماتة ذاته وعاش لمن مات لأجله، ولم يعش متمتعاً بملذات العالم، يمتلىء بالأكثر من حياة المسيح ويتحقق له المزيد من الشركة مع الرب. وهذا معنى قول السيدمن وَجَدَ حياته يضيعها. ومن أضاع حياته من أجلى يجدها” (مت39:20). ولكن كثيرون بالنسبة لهم الحياة هى فى الملذات الحسية والشهوات والمالومثل هؤلاء يرتعبون من الموت الذى يعتبرونه كمال الحزن، إذ أنه يفصلهم عن الملذات التى يفهمونها، ولا يرون فى الموت سوى مظهره الخارجى مثل النتانة والقبور.

والموت هو ربح = الموت هو كمال إماتة الذات. وبالتالى فالمزيد من الشركة مع المسيح يتحقق بموت الجسد. ولذلك صرخ بولس قائلاًويحى أنا الإنسان الشقى من ينقذنى من جسد هذا الموت” (رو 24:7). ولذلك فهو يعتبر الموت هنا ربحاً. لأن فى الأبدية تتحقق الراحة والفرح والمجد وشركة القديسين وكمال الشركة مع المسيح. ولكن يستحيل أن يشتهى الموت بفرح إلاّ من تذوق العربون، عربون الفرح والشركة مع المسيح هنا على الأرض.

ولاحظ أن الرسول يعلن وجهة نظره فى الموت، فهو من المحتمل أن يتعرض للموت بعد سجنه هذا ومحاكمته. وهذه الآية أوردها الرسول بعد الآية السابقة ليشرح أنه يريد أن يتمجد الله فيه سواء بحياته أم مماته، والمسيح يتمجد فىَّ لو كان هو حياتى، أحيا به وأشهد له فى حياتى حتى آخر لحظة، والموت هو ربح فهو راحة وفرح. وإذا كان موتى باستشهاد على اسم المسيح فهو أيضاً فيه تمجيد لاسم المسيح، فماذا أختار لو خيرونىالحياة أم الموت؟!

 

آية 22: “و لكن ان كانت الحياة في الجسد هي لي ثمر عملي فماذا اختار لست ادري“.

هى لى ثمر عملى = تعبير يونانى معناه أن الأمر يستحق الاعتبار.

لاحظ أنه فى آية 20 كان كل ما يطلبه الرسول أن يتعظم المسيح فى جسده فهو يريد أن يقول إنه إن كانت الحياة المُعلنة فىَّ الآن بينما أعيش فى الجسد كعربون للحياة بالمسيح فى الأبدية، هى لى ثمر جهادى وبذل ذاتى.. أى هى خدمة لأولاد الله حتى يعرفوا الله، ويتمجد الله فيهم. وحياتى هى أعمال صالحة أمجد بها الله، وثمر متكاثر لحساب المسيح. فماذا أختار، الحياة التى يتمجد بها الله من هذا الثمر المتكاثر أم الموت والإستشهاد الذى يمجد الله؟ إن جهاد الرسول وأتعابه وصبره وكرازته باسم المسيح وانتشار ملكوت المسيح بواسطته هو ثمرة حياته (أو حياة المسيح فيه). إذاً كلما عاش كلما كان له ثمار، وكانت حياته وعمله يمجدان اسم المسيح. والموت هو ربح أكبر له فبه يستريح من أتعابه ويبدأ طريق الفرح والراحة والمجدإذاً أيهما يختار؟! الحياة هى له تمتع بالمسيح وخدمة المسيح الذى يحبه، والموت هو الوصول للمسيح وأمجاده.

 

آيات 23-26: “فاني محصور من الاثنين لي اشتهاء ان انطلق و اكون مع المسيح ذاك افضل جدا. و لكن ان ابقى في الجسد الزم من اجلكم. فاذ انا واثق بهذا اعلم اني امكث و ابقى مع جميعكم لاجل تقدمكم و فرحكم في الايمان. لكي يزداد افتخاركم في المسيح يسوع في بواسطة حضوري ايضا عندكم“.

محصور بين الاثنين = هو رأى أن كلا الطريقين صالح وله مميزاته، وهو لا يستطيع أن يختار أيهما. هل يختار حياته على الأرض التى بها يربح نفوساً للمسيح أو حياته فى الفردوس حيث الراحة.. وقوله محصور بين الاثنين إشارة لأن كلا الخيارين يتنازعان داخله. فكلا الطريقين صالح ومبارك أمامه. ولكنه فضل فى النهاية ما يراه الله صالحاً. وطالما هو حى، إذاً فالله يريد منه الثمر المتكاثر فى حياته. فبولس يعلم أن اللهخلقنا لأعمال صالحة سبق فأعدها لكى نسلك فيها، وحينما ننهى الأعمال التى يريدنا الله أن ننهيها ينقلنا إلى الراحة كما قال لدانيال (دا 13:12).

ألزم لأجلكم = الله الذى خلقنى يعلم وحده متى أنهى الأعمال التى خلقنى من أجلها. وبولس هنا يقول لأهل فيليبى.. طالما أنا حى، إذاً فالله يرى أن بقائى لازم لأجلكم، لأثمر فيكم، فهذا هو العمل الذى خلقنى الله لأجله. بولس هنا يسلم أمره بالكامل لله ليختار له الله الصالح.

فى سفر أعمال الرسل (12: 2،1) نجد هيرودس يقتل يعقوب بالسيف. ثم فى (أع 3:12-17) نجد هيرودس يريد قتل بطرس ولكن ملاكاً ينقذهفلماذا لم يرسل الله ملاكاً لينقذ يعقوب؟‍ السبب ببساطة أن لسان حال يعقوب كان يقوللى اشتهاء أن انطلق، وكان يعقوب قد انهى أعماله التى خلقه الله ليعملها، فسمح الله لهيرودس أن يقتله، سيف هيرودس كان الأداة التى ينتقل بها يعقوب إلى فرح سيده، إلى حيث الراحة. وكان لسان حال بطرس فى السجن يقوللى اشتهاء أن انطلق،، ولكن بطرس كان أمامه أعمال أخرى، إذاً لن يكون لهيرودس سلطان عليه لأنه لم يُعط هذا السلطان من فوق (يو11:19). إذاً فملاك يذهب لينقذ بطرس من يد هيرودس، ليكمل بطرس الأعمال التى خلقه الله لأجلها.

وبهذا المفهوم يقول بولس هنا إن الرب يرى أنه مازال أمامى أعمالاً لأعملها. أنطلق = يقصد الموت أى الخروج من هذا الجسد. والكلمة اليونانية تعنىفك الخيمةأوحل ربط السفينةإستعداً للإقلاع أو إطلاق السجين بعد فترة سجنه. والجسد فى نظر بولس خيمة والموت هو حل هذه الخيمة (2كو1:5). والموت هو إقلاع إلى الوطن السمائى. وهو انطلاق من سجن هذا الجسد الذى يحرمنى من رؤية الله والقديسين وأمجاد السماء.

لأكون مع المسيح = إذاً وجوده فى الجسد كأنه غربة عن الله، فالمسيح فى كل مكان لكن بسبب الخطية الساكنة فى أجسادنا (رو17:7،18) فالجسد أصبح معوق عن رؤية المسيح. وبالموت تنتهى حالة الغربة ونرى المسيح إذ لا خطية حينئذ.

 تقدمكم وفرحكم فى الإيمان = إذاً وجوده فى الجسد نافع فى تقدمهم وفرحهم. وكلما زاد إيمانهم ونما يزداد فرحهم. خصوصاً حين يُطلق سراح بولس فسيختفى حزنهم = بواسطة حضورى عندكم. ولكن قوله أيضاً يعنى أن افتخارهم وفرحهم ببولس مستمر حتى لو لم يُطلق سراحه، فكرازته وعمله ورسائله لهم مستمرة حتى وهو فى السجن. هم خافوا من حبسه لئلا تتعطل الكرازة، ولكنهم رأوا الآن أن الكرازة لم تتعطل، فعليهم أن يفتخروا ويبتهجوا فى المسيح يسوع. فىَّ = هم يفتخرون حقاً ببولس لكن كل افتخار هو فى المسيح يسوع الذى ننال منه كل الهبات الروحية، وهو الذى يعمل فى بولس فكرز لهم، وكرز فى السجن، وعمل فى الملوك فأطلقوه، ويعمل فى أهل فيليبى ليفرحوا. وفى آيات 26،25 نشعر أن بولس شعر بأنهم سوف يطلقون سراحه ولن يموت.

 

آية 27: “فقط عيشوا كما يحق لانجيل المسيح حتى اذا جئت و رايتكم او كنت غائبا اسمع اموركم انكم تثبتون في روح واحد مجاهدين معا بنفس واحدة لايمان الانجيل“.

والآن ماذا أطلب منكم.. أن تعيشوا كما يحق لإنجيل المسيح = أى بما يتفق مع وصايا الإنجيل. ونحن يجب أن نعيش بحسب الإنجيل داخلياً وخارجياً أى ننفذ وصايا الإنجيل قلبياً فى الخفاء، وأيضاً أمام الناس. إنجيل = لم يكن هناك أناجيل، ولكن المقصود التعاليم التى علمها لهم بولس الرسول. فبولس يريدهم أن يكونوا إنجيلاً معاشاً مقروءً من جميع الناس (2كو2:3).

عيشوا = هى مشتقة من كلمة وطن أو مدينة. لذلك يمكن ترجمة الآيةلتكن وطنيتكم المسيحية كما يليق بالإنجيل، هو معنى يشير لتأدية المرء واجبه كمواطن. وكما قلنا فى المقدمة أن شعب فيليبى يفتخر بكون فيليبى كولونية أى أن شعبها له مميزات شعب روما نفسها. وهنا بولس يرفع أنظارهم أنهم مواطنين سمائيين لهم امتيازات سماوية وعليهم واجبات أن يحيوا كما يحق لإنجيل المسيح. يريد الرسول أن يقول أنه لا يشرفكم أن تكونوا مواطنين رومان فهؤلاء وثنيون، ولكن الذى يشرفكم أنكم مواطنون سماويون.    

ونرى بولس هنا يهتم بوحدتهم = روح واحد.. بنفس واحدة. وتثبتون على هذا، لا يكونوا كإبليس الذى لم يثبت (يو44:8). وهذا يؤول لإعلاء الإيمان بالإنجيل ونشر الإيمان به. وهذا عمل الروح القدس، أن يوحّدنا فى محبة بفكر واحد وقلب واحد، أماّ عدو الخير فعمله زرع الخصومات والشقاق. وما يهدم هذه الوحدة والشركة الواجب إظهارها للجميع، الكبرياء والتحزب والأنانية. والمطلوب التشبه بالمسيح الذى أخلى ذاته، وبالكنيسة الأولى التى كانت قلباً واحداً ونفساً واحدة (أع32:4).

فقط = ما قلته لكم عن الموت والحياة له وقته الذى سوف يختاره ويحدده المسيح، ولكن ما أطلبه منكم الآن، وما يجب أن تفعلوه طالما أنتم أحياء عيشوا كما يحق لإنجيل.. مجاهدين = ضد إبليس والخطية (أف12:6). وللحفاظ علىالإيمان المسلم مرة للقديسين” (يه3). وللثبات فى الكنيسة الواحدة بدون شقاقات.

 

آية 28 : “غير مخوفين بشيء من المقاومين الامر الذي هو لهم بينة للهلاك و اما لكم فللخلاص و ذلك من الله“.

لا تخافوا ممن يضطهدكم ويقاوم رسالتكم = غير مخوفين = والكلمة تُستخدم أصلاً للخيول الجافلة التى تعود مضطربة إذا وجدت ما يخيفها. ولماذا لا نخاف؟ النعمة الإلهية قادرة أن تحفظ أولاد الله، ويد الله القوية تحفظهم، وتدين من يضطهدهم وتهلكه. “من يمسكم يمس حدقة عينه” (زك8:2). أولم تنهزم الإمبراطورية الرومانية أمام المسيحية. وهناك سؤال إذا كان الله يحفظ أولاده، فلماذا مات واستشهد الكثيرين بيد أعداء المسيح؟ الإجابة بسيطة وراجع شرح آيات 23-26 من هذا الإصحاح، ونضيف عليها ما قاله السيد المسيح لبيلاطسلم يكن لك علىّ سلطان البتة إن لم تكن قد أعطيت من فوق” (يو 11:19). والمعنى فمن استشهد، كان ذلك بسماح من الله، لأنه قد أنهى أعماله، وذهب للراحة فى انتظار المجد. وعادة يشعر المضطهدين لشعب الله بقوة تعمل مع شعب الله (خر 12:1). ولكن من الذى يشعر بقوة الله التى تسانده فى هذا الوقت أى وقت الإضطهاد؟ هو من قرر بإيمان أن يثبت. ولاحظ أن من اضطهد الكنيسة أولاً كانوا اليهود وجاء بعدهم الوثنيون.

الأمر الذى هو لهم بينّة للهلاك = النعمة الإلهية قادرة أن تحفظكم ثابتين إن قررتم أن تثبتوا. وسوف تختبرون قوة الله التى ستساندكم وتحفظكم ثابتين وإن ثبتم فسيكون هذا دليل وإعلان قوى عن أن الله حفظكم، ويد الله القوية التى تحفظكم هى نفسها ستدين من يضطهدكم وتهلكه، وهى نفسها التى ستكمل معكم حتى الخلاص النهائى = وأماّ لكم فللخلاص. وثباتكم أمامهم سيخيفهم، فثباتكم هذا بسبب عمل قوة الله فيكم. وهذه القوة هى التى ترعبهم (خر 12:1) = تكون لهم بينة للهلاك. وهذا الثبات هو ما أسماه الرسول مجاهدين فى آية 27. فالجهاد هو قرارنا بالثبات بالرغم من الآلام. والقوة التى يعطيها الله التى تثبتنا هى النعمة التى تحفظنا ثابتين.

 

آيات 30،29: “”لانه قد وهب لكم لاجل المسيح لا ان تؤمنوا به فقط بل ايضا ان تتالموا لاجله. اذ لكم الجهاد عينه الذي رايتموه في و الان تسمعون في“.

لأنه = عائدة على ما قبلها. والمعنى أنه لابد وأن نواجه آلام ونحن فى هذه الحياة (2تى12:3). ولكن المسيحية غيّرت النظرة إلى الألم فهو لم يعد عقاباً، إنما شركة حب مع المسيح المتألم، ثم هى شركة مجد معه. وهى اختبار عزاء حقيقى من الله للمتألمين. فربما يندر أن نختبر يد الله فى أيام صحتنا وفرحنا، لكن يمكننا إذا عشنا حياة الشكر وسط الألم أن نعاين الله ونختبر تعزيات وأفراح لا يختبرها الإنسان العادى غير المتألم، لذلك يقول الرسول وُهب لكم.. أن تتألموا = حينما تزداد المحبة يتمنى المحب أن يتألم بدلاً من حبيبه (كشعور أم ترى إبنها متألماً). ولقد أعطى لنا أن نشعر بهذه المشاعر، أن نتألم لأجل المسيح = بالنيابة عنه. نرى المسيح وهو على الصليب، أو وهو مازال متألماً للآن من أجل الخطاة والمستهترين ورافضى الإيمان والذين مازالوا مستعبدين للشيطان.. ونقول فى حب، نريد أن نحمل عنك يا حبيب بعضاً مما تحمله من ألم. والله وهب لنا هذا.. أن نشترك مع ابنه فى آلامه كشركة حب مع ابنه. والله فى محبته يعطى لشركاء الألم أن يكونوا شركاء مجد (رو17:8). وذلك فى السماء، أماّ هنا على الأرض فيعطيهم تعزيات عجيبة كما أعطى للثلاثة الفتية. صار احتمال الألم بفرح وشكر خير وسيلة لإعلان محبتنا للرب. وصارت التعزيات التى يعطيها الله وسط الألم هى عربون المجد العتيد أن يسُتعلن فينا. وبولس اختبر هذا الألم وهذه التعزيات، فهو قد سُجن عندهم فى فيليبى ورأوه فى وسط آلامه فَرِحاً متعزياً، ورأوه مجاهداً ضد الشيطان وتابعيه غير مخوف منهم = إذ لكم الجهاد عينه الذى رأيتموه فىّ. والآن تسمعوه فىّ = فهو الآن مسجون فى روما. فبولس هنا يقدم نفسه نموذجاً لما قاله عن الآلام التى يقابلها أولاد الله. عموماً فالعالم يكره المسيح ومن يتبع المسيح، وهذا ليس جديداً، أو يدعو للإندهاش. وأهل فيليبى غالباً تحملوا نوعاً من الاضطهاد والرسول يشجعهم على الاحتمال.

فاصل

فاصل

مقدمة تفسير رسالة فيلبي تفسير العهد الجديد
تفسير كولوسي 2
 القمص أنطونيوس فكري
تفاسير رسالة فيلبي تفاسير العهد الجديد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى