تفسير سفر الملوك الأول 17 للقمص تادرس يعقوب ملطي

إعالة إيليَّا التشبِّي

 

بدأت مملكة إسرائيل المنشقَّة على يدي يربعام الذي أقام مركزين للعبادة في دان وبيت إيل، وصنع عجلين من ذهب ليعبد الشعب الله خلالها. بذل كل الجهد لمنع شعبه من الذهاب إلى أورشليم والعبادة في الهيكل. وجاءت سلسلة الملوك الأشرار متوالية، ولم يوجد قط بينهم ملك صالح. وقد بلغت القمَّة عندما ملك آخاب وتزوَّج إيزابل الشرِّيرة ابنة ملك صور كاهن البعل. وضعت في قلبها إزالة كل أثر لعبادة الله الحيّ، وإقامة عبادة البعل بالقوَّة الجبريَّة.

في وسط هذا الجو الحالك الظلمة بعث الله بنبي عجيب ليشهد له ويعمل لخلاص إخوته وهو إيليَّا التشبِّي. بينما أعد عدوّ الخير آخاب وإيزابل لبث روح الفساد، أعدَّ الله إيليَّا النبي ليشهد له ويعمل لحساب ملكوته. لم يكن أحد جريئًا بين ملوك إسرائيل في ارتكاب الخطيَّة مثل آخاب، ولم يوجد نبي جريء وناري مثل إيليَّا. لقد بدأت سيرته في هذا الأصحاح مؤيَّدًا من الله بعجائب فائقة. جاءت سيرته مشرقة بروح البهاء والقوَّة. وهو الوحيد من بين الأنبياء نال كرامة الاشتراك مع أخنوخ بانتقاله حيًّا من العالم، كما نال مع موسى النبي كرامة اللقاء مع السيِّد المسيح في تجلِّيه على جبل تابور.

تنبَّأ الأنبياء وسجَّلوا نبوَّاتهم بالكتابة، أمَّا إيليَّا فتنبَّأ ولم يكتب بل عمل، وبقيت أعماله شهادة حيَّة للحق الإلهي.

 

1. نبوَّته عن الجفاف

 

[1].

2. إعالة الغربان له

 

[2 –7].

3. إعالة أرملة صرْفَة صيْدا له

 

[8 –16].

لماذا اختار صيْدا؟    

4. إقامة ابن الأرملة

 

[17 –24].

لماذا سمح الله لها بموت ابنها؟
لماذا تمدَّد على الولد؟
   
من وحي 1 ملوك 17    

1. نبوَّته عن الجفاف:

لماذا بدأ إيليَّا النبي عمله النبوي بنبوَّته عن الجفاف والقحط الذي يحلّ لإسرائيل؟

إذ انحدر الملك وشعبه في الفساد إلى المنتهى احتاجوا لا إلى تحذير شفوي بل عملٍ يهز وجودهم وحياتهم. فالنبوَّة عن القحط وتحقيقها غايتها مراجعتهم لأنفسهم ليُدركوا القحط الداخلي الذي حلّ بهم، بحرمانهم من مياه النعمة الإلهيَّة. أمَّا إعالة إيليَّا النبي بالغربان ففيه تأكيد لتسخير الله للطبيعة للعمل لحساب مؤمنيه، حتى وإن كان فيه كسر لنواميسها. فالغربان التي تخطف، خاصَّة في وقت القحط، تخدم وتعول النبي. أمَّا إعالته بواسطة أرملة صرْفَة صيْدا ففيه كشف عن اهتمام الله بمؤمنيه العملي حتى وإن كانوا من جنس آخر. وأخيرًا بإقامة ابن الأرملة يفتح أبواب الرجاء أمامهم فلن ييأسوا بسبب الموت الذي لحق نفوسهم بالخطيَّة والفساد. الله مشتاق أن يقيم كل نفس لتتمتَّع بالحياة.

على خلاف كثير من الأنبياء لم يذكر هنا اسم والد النبي أو والدته أو عشيرته أو السبط الذي ينتمي إليه. كأن الكتاب المقدَّس يريد تأكيد أن إيليَّا النبي كان عطيَّة الله المقدَّمة لشعبه لأجل توبتهم، يحمل قوَّة سماويَّة من قبل الرب غير معتمد على أيّ نسب بشري. لقد ظنَّه بعض اليهود ملاكًا نازلًا من السماء، لهذا يؤكِّد يعقوب الرسول أنَّه إنسان حتى الآلام مثلنا (يع 5: 17).

*     إنَّه يمنح الذين يصنعون إرادته ما لا يمكن أن يوهب إلاَّ لأصدقائه(138).

القديس إكليمنضس الروماني

“وقال إيليَّا التشبِّي من مستوطني جلعاد لآخاب:

حيٌّ هو الرب إله إسرائيل الذي وقفت أمامه،

أنه لا يكون طلّ ولا مطر في هذه السنين إلاَّ عند قولي” [1].

“إيليَّا” كلمة عبريَّة معناها “إلهي هو يهوه”. كأنَّه يشهد باسمه أنَّه لن يعبد آخر سوى الله إلهه الذي أرسله ليرد النفوس إليه، ويعمل به.

“التشبِّي” معناه “الغريب”، فبالقول “التشبِّي من مستوطني جلعاد” معناها “من المتغرِّبين المقيمين في جلعاد”. ظنَّ البعض أن “تشبِّي” هي نفتالي، وقد رفض كثير من الدارسين ذلك. ربَّما هي في جلعاد، وأن إيليَّا كان غريبًا استوطن هناك.

يرى يوسيفوس(139) أن إيليَّا كان مواطنًا من Thesbon وهي منطقة في جلعاد. بالغَ البعض فنادوا بأنَّه كان أمميًا سكن في جلعاد ليشهد لله الحيّ.

تبقى سيرة إيليَّا النبي تؤكِّد عبر الأجيال ألاَّ نبحث عن أسرة الإنسان وأسلافه، بل عن شخصه وحياته وأفكاره وتصرُّفاته.

أ. لم يتحدَّث إيليَّا إلى الملك في الأذن بل علانيَّة لأن الشرّ قد بلغ إلى كل الشعب، وصارت الحاجة إلى صرخة قويَّة لكي يرجع الكل إلى إلهه. لذا يقول: “حيٌّ هو الرب إله إسرائيل” الذي يقاومه الملك ورجاله، ونسيه الشعب وتجاهله.

ب. إنَّه ليس جماد بلا حياة كالبعل والعشتاروت بل “حيٌّ هو الرب”.

ج. إنَّه خادم لله الحيّ يقف دائمًا أمامه لكي يخدمه.

د. إن كان الملك يظنّ أن ما يتمتَّع به من خيرات وبركات هي عطايا من البعل وعشتروت إلهيّ الخصوبة، فإنَّه يليق به أن يدرك عجز الأوثان عن تقديم المطر (إر 14: 22).

ه. يؤكِّد إيليَّا النبي هنا إمكانيَّة الصلاة، فإنَّه يغلق أبواب السماء ثلاثة سنين ونصف، ولن تستطيع الآلهة الوثنيَّة أن تفتحها، بل يسمح الله بذلك: “عند قولي“.

و. لقد سبق فهدَّد الله بالجفاف كتأديب لمن يتجاهل الرب ويحيد عنه ويعصى وصيَّته (تث 11: 17؛ 28: 23؛ لا 26: 19). جاء في كثير من الكتابات اليهوديَّة القديمة كالتلمود أنَّه حدث حوار وتحدِّي بين الملك وإيليَّا. تحدَّى الملك إيليَّا بأن اللعنة التي أعلنها موسى عن الجفاف لن تتحقَّق، معتمدًا على آلهته. لذلك أكَّد إيليَّا إمكانيَّة تحقيقها.

2. إعالة الغربان له:

“وكان كلام الرب له قائلًا:

انطلق من هنا واتَّجه نحو المشرق

واختبئ عند نهر كريث الذي هو مقابل الأردن” [2-3].

يوجد تقليد قديم بأن كريت على جانب نهر الأردن هو نبع Phasaelis أو Fasael، يقوم عند انحدار الجبال نحو وادي الأردن فوق مدينة Phasaelis، يصبّ في الأردن ولعلَّه هو وادي Wady Kelt يبعد قليلًا عن وادي فاسيليس من جهة الجنوب. بينما يرى يوسيفوس أنَّه على الجانب الآخر من النهر. ويرى Thenius أنَّه وادي رجب Wady Rajib أو Ajlun. والبعض يرى أنَّه وادي الياس Wady Alias.

بأمر إلهي كان لا بُد لإيليَّا النبي أن يختفي حتى تنتهي فترة التأديب. لم يكن ذلك حماية لإيليَّا من آخاب وإيزابل فإن الله قادر أن يحفظه منهما، لكنَّه بالأكثر لكي يعطي فرصة لهما ولكل الشعب أن يفكِّروا في التوبة بكل جدِّيَّة. اختفى حتى لا يضغط الشعب عليه، بل يطلبوا رحمة الرب.

اتَّجه من السامرة حيث هناك تحدَّث إيليَّا النبي مع الملك وذهب نحو الشرق، نحو الأردن ليختبئ عند نهر كريت الذي هو مقابل الأردن. لم يُعرف بعد إن كان هذا المجرى عن الجانب الشرقي أم الغربي للأردن.

طلب الرب منه أن ينسحب من السامرة ومن وسط الشعب ليختفي ثلاث سنوات ونصف، حيث أمره بالظهور والالتقاء مع الملك. لم تكن هذه السنوات فترة خمول للنبي ليحيا بلا عمل، لكنَّها كانت فترة مع الله صلاة وتأمُّل، تهبانه قوَّة متزايدة تسنده في رسالته المقبلة.

في وسط الجفاف، في البريَّة القاحلة قدَّم له الله ماء من نبع أو مجرى كريث، وأرسل له طعامًا بواسطة الغربان الخاطفة. إنَّه لن ينسى كنيسته، ولا يتجاهل إنسانًا جائعًا. ففي الرؤيا (12: 6، 14) نرى الرب نفسه يعول الكنيسة (المرأة) التي تهرب إلى البريَّة. إنَّه لا يودّ أن يصرف نفسًا واحدة جائعة.

كان يعوله ليأكل خبزًا طازجًا ولحمًا مرَّتين كل يوم. كان أنبياء البعل والسواري يأكلون على مائدة إيزابل (1 مل 18: 19) فجاعوا بسبب الجفاف، أمَّا إيليَّا فكان يعوله الله الحيّ ليكرِّس كل شيء لإشباع مؤمنيه. كان الله يعوله في الصباح كما في المساء، ولم يكن إيليَّا النبي يقلق على الغد. أمَّا كيف كان الخبز واللحم يُعَدَّان، فإنَّنا نجيب مع يعقوب: “إن الرب إلهك قد يسَّر لي” (تك 27: 20).

لماذا اختار الله الغربان لتعوله؟

أ. قيل: “العين المستهزئة بأبيها والمحتقرة إطاعة أمَّها تقوِّرها غربان الوادي” (أم 20: 17). أمَّا من يكرم الله أباه ويطيع الكنيسة أمُّه فتعوله الغربان بطعام يومي طازج. في حبُّه يُخرج من الآكل أُكْلًا ومن الجافي حلاوة (قض 14:14).

ب. كانت هذه الطيور نجسة (لا 11: 13-15)، وفي نظر اليهود لا يمكن أن يأكلوا طعامًا مقدَّم منها. لكن إيليَّا يتعدَّى الحرف ليأكل منها بكونه طعامًا مُقدَّما من الله الحيّ نفسه.

ج. الغربان التي قدَّمت خبزًا لإيليَّا تعيش على الحشرات. إنَّها تمثِّل كثير من المتديِّنين الذين يقدِّمون كلمة الله، الخبز السماوي، أمَّا هم فيعيشون على الحشرات.

د. لا تقدر الغربان أن تحمل الكثير بل القليل جدًا من الخبز واللحم. وكان إيليَّا شاكرًا الله على هذه العطيَّة.

ه. تتجاهل الغربان أحيانًا صغارها، لكنَّها لا تقدر أن تنسى رجل الله. “فإن الأشبال وصغار الغربان جاعت، وأمَّا طالبوا الرب فلا يعوزهم شيء من الخير” (مز 34: 10).

و. تأكل الغربان خلال العناية الإلهيَّة (أي 38: 14؛ مز 47: 9)، وها هي العناية ذاتها تستخدمها لتعول النبي. تبقى هذه الغربان شاهدة لمن يتجاهل إخوته، فمن تمتَّع بالنعمة يليق به أن يقدِّمها لإخوته، فنقدِّم لهم طعامًا روحيًا وسط البريَّة.

ز. بأمر إلهي اعتزل إيليَّا عن شعب الله المنحرف لكي يتعامل مع الغربان التي تخدمه. هكذا بالخطيَّة يفقد الإنسان علاقته بالله ورجاله، بينما الحيوانات والطيور غير العاقلة تمجِّد الله وتخدم أولاده.

ح. الله خالق الطبيعة يستخدم حتى الحيَّات والجراد والأسماك وسُحب السماء لخدمته (2 أي 7: 13؛ مز 78: 23؛ إش 14: 12؛ يون 2: 10؛ عا 9: 3).

ط. تقديم الطعام بواسطة الغربان يحمل ثلاث معجزات: من أين جاءت الغربان بالطعام صباحًا ومساءً وبطريقة منتظمة؟ كيف غلبت الغربان طبيعتها وعِوض أن تخطف صارت تقدِّم طعامًا شهيًا لغيرها؟ وأخيرًا كيف كانت تتجاسر وتقدِّم الطعام لإنسان ولم تخفْ منه؟

يرى البعض أن الكلمة المترجمة غربان Orebim تشير إلى العرب الساكنين في عربة Orbo وهم تجَّار رُحَّل ينتسبون إلى قوافل قادمة من العربيَّة.  لكن يرفض كثير من الدارسين ذلك، لأنَّه لم يكن هذا الموقع طريقًا لهذه القوافل. ومن جانب آخر طلب منه الرب أن يختفي فلا يلتقي بأحد حتى لا يعرف الملك مكانه. أخيرًا فإن هذه الكلمة لم تستخدم قط في الكتاب المقدَّس لتعني التجَّار.

 تشير هذه الغربان إلى المؤمنين الذين يدركون أنَّهم بأنفسهم خطاة ودنسين، لكن نعمة الله الغنيَّة تحوِّل دنسهم إلى طهارة. نعمة الله تجدِّد طبيعتهم فعِوض الأنانيَّة وحب الذات يشتهون العطاء للغير. يعرفون أن يقدِّموا مائدة روحيَّة مستمرَّة للغير، ليست من صنع أيديهم، ولا بإمكانيَّاتهم البشريَّة، إنَّما هي عطيَّة إلهيَّة لهم. أخيرًا لا يخافوا ولا يخشوا تقديم كلمة الله الحيَّة كطعامٍ شهيٍ طازجٍ للنفوس.

يرى القديس أمبروسيوس(140) أن كلمة “كريث” معناها “فهم”، و”حوريب” معناها “قلب” أو “كقلب”.

“فتشرب من النهر وقد أمرْتْ الغربان أن تعولك هناك” [4].

*     لا يوجد موضع يقتات فيه إيليَّا إلاَّ “هناك” (1 مل 17: 4) في صرْفَة صيْدا، حيث أمره الله أن يذهب لتعوله…

 بالنسبة ليعقوب أمره الله أن يذهب هناك (بيت ايل) (تك 35: 1).

والسيِّد المسيح سأل تلاميذه أن يرجعوا إلى أورشليم ويقيموا هناك حتى يلبسوا قوَّة من الأعالي لينالوا موعد من الآب (لو 24: 49؛ عب 1: 4، 12؛ 2: 4).

نحن مدعوِّين إلى “هناك” حيث نسكن أو نثبت في المسيح وهو فينا (يو 15: 4-7؛ أف 1: 3)…

في وقت الجفاف حيث يمكن للباطل الجسداني أن يجف فيه، يدخل إلى معرفة الله بالأكثر. لقد ذهب إلى نهر كريث (1 مل 17: 3)، التي تعني “معرفة“، حيث يقدر أن يشرب من فيض معرفة الله.

لقد هرب من العالم بطريقة بها لم يطلب حتى الطعام لهذا الجسد، إلاَّ ما تقدِّمه له الطيور الخادمة (1 مل 17: 6)، مع أن طعامه غالبًا لم يكن من الأرض (1 مل 17: 5-7). بالحقيقة سار أربعين يومًا في قوَّة الطعام الذي تقبله (1 مل 17: 5).

للتأكيد لم يهرب مثل هذا النبي العظيم من امرأة، بل من هذا العالم. ولم يخف الموت، بل تقدَّم لمن يطلب نفسه وقال للرب: “خذ نفسي”. لقد عانى من متاعب هذه الحياة، لكنَّه هرب من إغراءات العالم، من عدوى السلوك الدنس والأعمال الشرِّيرة التي للجيل الخاطئ الشرِّير(141).

القديس أمبروسيوس

“فانطلق وعمل حسب كلام الرب،

وذهب فأقام عند نهر كريث الذي هو مقابل الأردن.

وكانت الغربان تأتي إليه بخبزٍ ولحم صباحًا،

وبخبز ولحم مساء وكان يشرب من النهر” [5-6].

*     لم يكن لدى إيليَّا رجل الله خبز للطعام… لكن يبدو أنَّه لم يفشل إذ لم يبحث عن الخبز… لقد طُوب بالأكثر إذ كان غنيًا بالله. من الأفضل أن يكون الإنسان غنيًا للآخرين عنه لنفسه…

إذًا لا يُعين الغِنى الحياة لكي تكون مطوَّبة، هذه الحقيقة يظهرها الرب بوضوح في الإنجيل قائلًا: “طوباكم أيها المساكين لأن لكم ملكوت الله. طوباكم أيها الجياع الآن لأنَّكم تشبعون. طوباكم أيها الباكون الآن لأنَّكم ستضحكون” (لو 6: 20-21). هكذا يقرِّر بوضوح قدر الإمكان أن الفقر والجوع والألم التي تعتبر كشرورٍ، إنَّها ليس فقط لا تعوق عن بلوغ الحياة المطوَّبة بل تُعين بالفعل على نوالها(142).

القديس أمبروسيوس

“وكان بعد مدَّة من الزمان أن النهر يبس،

لأنَّه لم يكن مطر في الأرض” [7].

يأتي زمان تجف فيه أنهار هذا العالم، فللطبيعة مع كل إمكانيَّاتها حدود تقف عندها. لقد جفَّ نهر إيليَّا إذ لم يكن مطر إلى زمان، أمَّا من يرتفع قلبه إلى السماء، مدينة الله فلا يجد مجاري مياه تجف في الصيف (أي 6: 15)، بل يجد نهرًا يفرِّح مدينة الله لن يجف قط (مز 46: 4)، وينبوع مياه حيَّة لن يتوقَّف قط!

الله الذي أمر إيليَّا أن ينطلق إلى نهر كريث يقدِّم له حلًا عندما يجف النهر. وكما يقول المرتِّل: “أدم رحمتك للذين يعرفونك” (مز 36: 10). أنهار العالم قد تجف أمَّا مراحم الله فلن تتوقَّف قط، ولا تفشل في أن تروي النفوس وتشبعها.

3. إعالة أرملة صرْفَة صيْدا له:

“وكان له كلام الرب قائلًا:

قم اذهب إلى صرفة التي لصيدون،

وأقم هناك،

هوذا قد أمرت هناك امرأة أرملة أن تعولك” [8-9].

أُرسل إيليَّا النبي إلى هذه الأرملة الأمميَّة ليس فقط علامة اهتمام الله بنبيه، وإنَّما اهتمامه بالأمميَّة أن تستقبل إيليَّا في بيتها ويبارك فيما لديها. يقول السيِّد المسيح “وبالحق أقول لكم إن أرامل كثيرة كن في إسرائيل في أيَّام إيليَّا حين أُغلقت السماء مدَّة ثلاث سنين وستَّة أشهر لما كان جوع عظيم في الأرض كلها، ولم يُرسل إيليَّا إلى واحدة منها، إلاَّ إلى امرأة أرملة في صرْفَة صيْدا” (لو 4: 25-26). كان إيليَّا أول نبي يُرسل لخدمة الأمم. أبغضه شعبه فالتجأ إلى الأمم، كما شهد بذلك الرسل (أع 18: 6). لقد حمل بذلك شهادة عن السيِّد المسيح الذي جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله. جاء إلى خراف إسرائيل الضالة وإذ رفضته فتح الباب للأمم كي تقبل عمله الخلاصي ومحبَّته الفائقة.

صرفة: قرية صغيرة تقع على شاطئ البحر الأبيض بين صور وصيْدا.

*     “قد أمرت هناك امرأة أرملة أن تعولك” [9].

كيف أمر الله إلاَّ بإعلان ما هو صالح بنعمته في النفس؟ هكذا يتحدَّث الله في كل إنسان يتمِّم عملًا صالحًا، ولهذا لا يتمجَّد أحد بذاته بل في الرب. ألم توجد أرملة يهوديَّة واحدة تستحق أن تقدِّم طعامًا للطوباوي إيليَّا، فأُرسل إلى أرملة أمميَّة تعوله؟ ترمز تلك الأرملة التي أُرسل إليها النبي إلى الكنيسة، وذلك كما ترمز الغربان التي خدمت إيليَّا إلى الأمم. هكذا جاء إيليَّا إلى الأرملة لأن المسيح يأتي إلى الكنيسة(143).

القديس أغسطينوس

 

لماذا اختار صيْدا؟

لجأ إلى البلد التي تخرَّجت منها إيزابل ابنة ملك صيْدا، والتي دفعت بالشعب قهرًا نحو عبادة البعل. الموضع الذي تخرَّج منه الفساد وُجد فيه أرملة مؤمنة لتتمتَّع ببركة الله الحيّ. لقد نجَّست إيزابل أرض إسرائيل بعبادة البعل ورجاساته، بينما تمتَّعت أرض صيْدا بأرملة تنال ما لم تتمتَّع به أرامل إسرائيل، صارت رمزًا لكنيسة العهد الجديد القادمة من الأمم. ولا نعجب إن كان السيِّد المسيح قد خدم في ساحل صيْدا (مت 21: 15).

لم يرسل الله إيليَّا النبي إلى أحد تجَّار صيْدا الأغنياء أو أحد عظمائها ولا إلى ملكها لكي يعوله، بل إلى أرملة فقيرة، يأكل من يديها ويجد له مسكنًا يقيم فيه. إنَّها رمز لكنيسة العهد الجديد التي تفتح قلبها للسيِّد المسيح، رب الأنبياء، اختارها أرملة مات رجلها الأول “عبادة الأوثان”. كانت جاهلة وفقيرة وبلا كرامة لكي يسكب عليها حكمته وغناه ومجده. وكما يقول الرسول بولس في رسالته الأولي إلى أهل كورنثوس: “اختار الله جهَّال العالم ليخزي الحكماء، واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء” (1 كو 1: 27).

“فقام وذهب إلى صرفة وجاء إلى باب المدينة،

وإذا بامرأة أرملة هناك تقش عيدانًا فناداها وقال:

هاتي لي قليل ماء في إناء فأشرب” [10].

تقدَّم إيليَّا النبي إلى الأرملة وهي تجمع العيدان لتعدّ طعامًا لها ولابنها، هكذا يلتقي الرب بالنفوس الجادة الجائعة إلى الحق، تودّ أن تأكل وتشبع، فيهيِّئ لها السيِّد المسيح نفسه طعامًا أبديًا.

“وفيما هي ذاهبة لتأتي به ناداها وقال:

هاتي لي كسرة خبز في يدك.

فقالت: حيٌّ هو الرب إلهك أنَّه ليست عندي كعكة،

ولكن ملء كف من الدقيق في الكوار وقليل من الزيت في الكوز،

وهانذا أقُشّ عودين لآتي واعمله لي ولابني لنأكله ثم نموت” [11-12].

واضح أن المجاعة لم تشمل أرض إسرائيل وحدها بل امتدَّت لتلحق بأرض صور وصيْدا. الفساد الذي حل بإسرائيل امتدَّ أثره على الدول المجاورة. هكذا عندما دخل إبراهيم في عهد مع الله جعله الرب “بركة”، به وبنسله تتبارك كل الأمم (خر 15)، وعندما هرب يونان من وجه الرب فقد كثير من البحَّارة ممتلكاتهم، إذ القوها في البحر. الإنسان الروحي يشعّ فرحًا على من حوله، والشرِّير يسحب كثيرين معه نحو الفساد.

لم تقل الأرملة “ليحيا إلهي” بل “إلهك” هذه لمسة إيمان بإله إيليَّا الحيّ. فهل كانت هذه الأرملة متشكِّكة في البعل والعشتاروت وتؤمن بالله الحيّ؟!

*     لقد خرجت لتأتي بماءٍ وتجمع قشّ خشب. لنتأمَّل ماذا يعني الماء والخشب؛ فإنَّنا نعلم أن كليهما مفرح وضروري للكنيسة، إذ ُكتب: “كالشجرة المغروسة على مجاري المياه” (مز 1: 3). يظهر في الخشبة سرّ الصليب وفي الماء سرّ المعموديَّة. لذلك خرجت لتجمع عوديّ خشب وقد أجابت إيليَّا الطوباوي عندما سألها عن طعام، قائلة: “حيٌّ هو الرب، ليس عندي إلاَّ ملء كف من الدقيق وقليل من الزيت في كوز، هأنذا أقُشّ عودين لأصنع طعامًا لي ولابني لنأكله ثم نموت”.

ترمز هذه الأرملة إلى الكنيسة كما قلت قبلًا، ويشير ابن الأرملة إلى الاخوة.

إنَّها لم تقل ثلاثة عيدان أو أربعة، كما لم تقل عودًا واحدًا، بل أرادت أن تجمع عودين. كانت تجمع عودين لأنَّها استقبلت المسيح في رمزه إيليَّا، أرادت أن تجمع قطعتيّ خشب لأنَّها أرادت أن تعرف سرّ الصليب. حقًا إن صليب ربنا ومخلِّصنا قد أُعدَّ بقطعتيّ خشب. هكذا كانت الأرملة تجمع عودين، لأن الكنيسة تؤمن به، ذاك المعلَّق على عوديّ الخشب. لقد قالت: “هأنذا أقُشّ عودين لأصنع طعامًا لي ولابني لنأكله ثم نموت”. أنَّه حق أيُّها الإخوة المحبوبون، لا يستحق أحد أن يؤمن بالمسيح مصلوبًا ما لم يمت عن الماضي ويحيا للمستقبل(144).

القديس أغسطينوس

“فقال لها إيليَّا: لا تخافي، ادخلي واعملي كقولك،

ولكن اعملي لي منها كعكة صغيرة أولًا،

 واخرجي بها إليَّ، ثم اعملي لكِ ولابنك أخيرًا.

لأنَّه هكذا قال الرب إله إسرائيل:

إن كوار الدقيق لا يفرغ،

وكوز الزيت لا ينقص إلى اليوم الذي فيه يعطي الرب مطرًا على وجه الأرض.

فذهبت وفعلت حسب قول إيليَّا،

وأكلت هي وهو وبيتها أيَّامًا” [13-15].

استجابت دون حوار معه [10]. لم تشتكِ الأرملة من قسوة الحياة، وما حلَّ بالبلاد من مجاعات، فقد سلَّمت حياتها بروح الرضا بين يديّ الله.

اتَّسمت أيضًا بالكرم وحب العطاء، فقد أدركت من ثياب إيليَّا أنَّه نبي إسرائيلي، وليس من عبدة البعل. كان غريب الجنس بالنسبة لها، ومع هذا لم تتردَّد في أن تذهب لتُحضر له ماء ليشرب.

كوار الدقيق لم يفرغ،

وكوز الزيت لم ينقص

حسب قول الرب الذي تكلَّم به عن يد إيليَّا” [16].

*     جعل الجفاف براميل الأغنياء تفرغ، بينما صار كوز زيت المرأة الصغير يفيض بوفرة…

لأنَّه لم يوجد أحد أعطى أكثر منها، هذه التي أطعمت النبي بقوت أولادها. وإذ لم يعطِ أحد أكثر لم يوجد من هو أعظم منها استحقاقا(145).

القديس أمبروسيوس

*     لم تتردَّد في الطاعة، ولا فضَّلت الأم أبناءها على إيليَّا في جوعها وفقرها. نعم لقد فعلت ما هو في نظر الله موضع سروره فقدَّمت بسرعة وحرِّيَّة وارتياح ما سُئل منها. لم يطلب منها نصيب ممَّا لديها أو ما يفيض منها، بل كل القليل الذي عندها فيأكل الغير أمام أولادها الجائعين.

*     لم تنزع الأم من أولادها ما قدَّمته لإيليَّا، بل بالأحرى وهبت أولادها ما قدَّمته بلطف وتقوى.

*     لم تكن بعد قد عرفت المسيح، ولا سمعت وصاياه، ولا خلُصت بصليبه وآلامه لتقدِّم الطعام والشراب من أجل دمه. من هذا يظهر كم يخطئ في الكنيسة من يفضِّل نفسه وأولاده عن المسيح، ويحفظ ثروته ولا يقدِّم بسخاء للمحتاجين؟!(146)

الشهيد كبريانوس

*     أرملة صرفة التي كانت تتوقَّع موت أولادها في نفس الليلة جوعًا، عادت تطعم النبي. الذي جاء لكي يأكل عاد ليقوتها (وأولادها) بطريقة معجزيَّة، إذ ملأ الأواني الفارغة(147).

*     لنتذكَّر أرملة صرفة التي اهتمت بالأكثر أن تُشبع جوع إيليَّا عن أن تحفظ حياتها وحياة ابنها. مع أنَّها اعتقدت بأنَّها هي وابنها يموتان حتمًا في نفس الليلة ما لم يجدا طعامًا. صمَّمت أن يعيش ضيفها. لقد فضَّلت أن تضحِّي بحياتها عن أن تتجاهل واجب العطاء.

وجدت في الطعام الذي في ملئ يدها بذرة منها تحصد محصولًا يقدِّمه لها الرب. لقد بذرت طعامها وماذا؟ لقد نالت كوز زيت صدر منها.

في أرض يهوذا كانت حبَّة (القمح) نادرة لأن حبوب القمح ماتت هناك. وأمَّا في بيت الأرملة الوثنيَّة ففاض الزيت في مجارٍ(148).

القديس جيروم

*     يوجد البعض يريدوا أن يضعوا حدودًا للحب! إن أردت أن تحب المسيح فابسط يدك بالحب على كل العالم، لأن أعضاء المسيح منتشرة في العالم كلُّه(149).

القديس أغسطينوس

يقدِّم لنا القديس أمبروسيوس تفسيرًا رمزيًا لهذه القصَّة فيقول، بأنَّها تحمل سرًّا، هو سرّ المسيح والكنيسة.

*     ليس بدون هدف فُضِّلت واحدة من بين أرامل كثيرات. فمن هي مثل هذه أُرسل إليها نبي عظيم، هكذا صعد إلى السماء لكي يقودها، خاصة في الفترة التي فيها أُغلقت السماء لمدَّة ثلاث سنوات وستَّة أشهر، حيث كانت مجاعة عظيمة في كل البلاد؟

ما هي هذه السنوات الثلاث؟ أليست ربَّما هي تلك التي جاء فيها الرب إلى الأرض ولم يجد ثمرًا على شجرة التين؟ لهذا كتب: “هوذا ثلاث سنين آتي أطلب ثمرًا في هذه التينة ولم أجد” (لو 13: 7).

إنَّها بالتأكيد الأرملة التي قيل عنها: “ترنَّمي أيُّتها العاقر التي لم تلد، أشيدي بالترنُّم أيَّتها التي لم تتمخَّض، لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل” (إش 54: 1). إنَّها الأرملة التي قيل عنها حسنًا: “لأنَّك لا تستحين، فإنَّك تنسين عارك، وترمُّلك لا تذكرينه بعد، لأنِّي أنا هو الرب صانعك” (إش 54: 4). ربَّما هي أرملة فقدت رجلها حقًا في آلام جسده (صلبه)، لكن في يوم الدينونة تقبله من جديد، ابن الإنسان الذي بدا كأنَّه قد فُقد، يقول “لحيظة تركتك” (إش 54: 7)، لكي إذ صارت متروكة تصير أكثر مجدًا بحفظها إيمانها(150)

القديس أمبروسيوس

*     إنَّها الأرملة التي لأجلها حين صارت مجاعة للكلمة الإلهي على الأرض أقيم الأنبياء لحفظها في ذلك الوقت…

لذلك فإن شخص (إيليَّا) يبدو لنا ليس بقليل الأهميَّة، هذا الذي بكلمته بلَّل الأرض الجافة بندى السماء، وفتح السموات المغلقة بقوَّة غير بشريَّة بالتأكيد. فمن هو القادر أن يفتح السماء إلاَّ المسيح، الذي لأجله يقدِّم طعام يومي من الخطاة يتزايد لأجل الكنيسة؟ فإنَّه ليس في قدرة إنسان أن يقول: “إن كوار الدقيق لا يفرغ وكوز الزيت لا ينقص إلى اليوم الذي فيه يعطي الرب مطرًا على وجه الأرض”. فإنَّه وإن كان الأنبياء قد اعتادوا أن ينطقوا هكذا، لكن الصوت بالحق هو صوت الرب. لهذا يقول النبي أولًا: “لأنَّه هكذا قال الرب”. إنَّه الرب هو الذي يهب أسرارًا سماويَّة مستمرَّة، ويعد بنعمة الفرح الروحي التي لا تنقطع، لكي يهب حماية للحياة وختمًا للإيمان، وعطايا الفضائل.

لكن ماذا يعنى “إلى اليوم الذي فيه يعطي الرب مطرًا على وجه الأرض”؟ إلاَّ أنَّه هو أيضًا “ينزل مثل المطر على الجزاز ومثل النقاط على الأرض” (مز 72: 6). في هذه العبارة يكشف سرّ التاريخ القديم حيث تقبَّل جدعون المحارب في المعركة السريَّة متقبِّلًا عربون نصرته المقبلة، ومدركًا السرّ الروحي في رؤيا ذهنه. وهو أن المطر هو ندى الكلمة الإلهي الذي نزل أولًا على الجزَّة عندما كانت الأرض كلَّها تعاني من الجفاف الدائم. وأيضًا بعلامة ثانية حقَّه حيث تَبلَّل كل سطح الأرض بالمطر بينما كان جفاف على الجزَّة (قض 6: 37 إلخ.).

فإن ندى المنطوق الإلهي قد ظهر أولًا في اليهوديَّة مقدِّمًا رطوبة، بينما كانت كل الأرض بلا ندى الإيمان. ولكن عندما رفض قطيع يوسف مجد الله… انسكب المطر السماوي على كل الأرض. صار اليهود في جفاف يحترقون بعدم إيمانهم. عندما أمطرت السحب بمياه الرسل الصحيَّة اجتمعت الكنيسة المقدَّسة من كل أنحاء العالم. هذا هو المطر الذي سال من الأرض الرطبة، الآن ينزل من الجبل لينتشر في العالم كلُّه كمياهٍ مفيدةٍ من الكتب المقدَّسة السماويَّة.

القديس أمبروسيوس

اتَّسمت أيضًا بالثقة في مواعيد الله والطاعة له، فعندما قدَّم لها إيليَّا وعدًا إلهيًا في ظروف غاية في القسوة صدقت كلمات الرب على فمه.

أما من جهة إيليَّا فقد تدرَّب أن يكون مكتفيًا في كل شيء. عندما هدَّد الملك بالجفاف لم يفكِّر قط في نفسه كيف يعيش. آمن بالله القادر أن يعوله وسط القحط. بشكر نال خبزًا ولحمًا مرَّتين كل يوم، والآن صار أكله كعكًا فقط دون لحم أو خضراوات. هكذا من يلتقي بالله ويمارس الحياة الإيمانيَّة لا يشعر بالعوز إلى شيء، بل يردِّد مع الرسول: “تدرَّبت أن أكون مكتفيًا في كل شيء”.

4. إقامة ابن الأرملة:

“وبعد هذه الأمور مرض ابن المرأة صاحبة البيت،

واشتدَّ مرضه جدًا حتى لم تبقَ فيه نسمة” [17].

إذ كانت أرملة صرْفَة صيْدا تمثِّل كنيسة العهد الجديد القادمة من الأمم، فإن ابنها الذي مات يمثِّل كل نفس بشريَّة في العالم، عملها هو تقديم هذه النفوس الميِّتة للسيِّد المسيح واهب القيامة. لقد اختبرت الحياة الجديدة المقامة، فلا تطيق أن ترى إنسانًا ميِّتًا، لا نفس فيه.

“لم تبقَ فيه نسمة“، أي توقَّف عن التنفس ومات. علمت الأرملة أن السماء قد أغلقت عن الأرض التي تدنَّست بالخطيَّة، لذلك نسبت ما حلَّ بابنها إلى خطيَّتها.

يبدو أنَّه كان ابنها الوحيد، موضوع تعزيتها كأرملة، لا رجاء لها في إنجاب ابن آخر. لقد أكل هذا الابن من الطعام السرِّي، خلال البركة التي حلَّت على كوز الزيت وكُوار الدقيق، لكن هذا لم يمنع تعرضه للمرض وأيضًا للموت. إنَّه في حاجة إلى التمتع بالطعام الأبدي. وكما يقول السيِّد المسيح: “آباؤكم أكلوا المنّ في البريَّة وماتوا، هذا هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت. أنا هو الخبز الحيّ الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد” (يو 6: 49-51).

 

لماذا سمح الله لها بموت ابنها؟

لقد تمتَّعت هذه الأرملة بأول معجزة وردت في الكتاب المقدَّس عن مباركة الطعام بفيضٍ. تمتَّعت أيضًا بأن تعول العظيم في الأنبياء إيليَّا، الأمر الذي يشتهيه المؤمنون حتى هذه اللحظة. بل وتترقَّب كل الكنيسة مجيئه ليسندها في حربها مع ضدّ المسيح. عالت هذا النبي، وعالها النبي أيضًا دون مقابل. تجد طعامها هي وابنها على الدوام مجانًا. لهذا سمح الله لها بالتجربة كشوكة مُرَّة في الجسد تنزع عنها حرب الكبرياء. كانت في حاجة إلى ضيقة تثبِّت حياتها في الرب فلا تتزعزع.

“فقالت لإيليَّا: ما لي ولك يا رجل الله؟

هل جئتَ إليَّ لتذكير إثمي وإماتة ابني؟” [18]

يبدو أنَّه مات فجأة، حتى إنَّها لم تستطع أن تبلغ إيليَّا عن مرضه وهو في العُلِّيَّة بل تحدَّثت معه بعد أن مات ابنها في حضنها.

إذ تعلَّمت أن السماء تغلَق بالنسبة للأرض المخطئة، خشيت أن تكون قد أخطأت في حق الله وفي حق نبيِّه. خافت لئلاَّ يكون هلاك ابنها بسبب خطيَّة ارتكبتها.

بنفس الروح سأل التلاميذ السيِّد المسيح عن المولود أعمى: “يا معلِّم من أخطأ هذا أم أبواه حتى وُلد أعمى؟” وجاءت الإجابة: “لكي تظهر أعمال الله فيه” (يو 9: 3). هنا أيضًا نقدِّم نفس الإجابة لهذه الأرملة الأمميَّة التقيَّة، فتُدرك ما قاله فيما بعد الرسول بولس: “أم الله لليهود فقط، أليس للأمم أيضًا؟ بل للأمم أيضًا” (رو 3: 29).

يبدو إنَّها ظنَّت في مجيء إيليَّا النبي إلى بيتها وسكناه قد جذب أنظار الله إليها، فوجد فيها إثمًا تستحق عليه التأديب.

*     لكنَّنا ندرك أن الموت ليس ثمرة عقوبة، فقد خضع حتى القدِّيسون له، بل ومات رب القدِّيسين يسوع المسيح الذي هو حياة المؤمنين وقيامة الأموات(151).

الدسقوليَّة

في وسط مرارتها تدعو هذه الأمميَّة إيليَّا “رجل الله”.

“قال لها: أعطيني ابنك،

وأخذه من حضنها،

وصعد به إلى العلِّيَّة التي كان مقيمًا بها،

واضطجعه على سريره” [19].

في حنوّ أخذ الابن من حضنها وصعد به إلى العلِّيَّة حيث كان مقيمًا واضطجعه على سريره.

“وصرخ إلى الرب وقال:

أيُّها الرب إلهي أيضًا إلى الأرملة التي أنا نازل عندها قد أسأت بإماتتك ابنها” [20].

بكلمات العتاب التي تحدَّث بها إيليَّا النبي مع الله قصد الآتي:

أ. تأكيد أن الحياة والموت هما بسماح من الله.

ب. أنَّه يحمل نوعًا من الأبوَّة الحانية نحو الولد الميِّت.

ج. أن ما حدث لم يكن ثمرة خطيَّة ارتكبتها الأم الأرملة أو ابنها.

“فتمدَّد على الولد ثلاث مرات،

وصرخ إلى الرب وقال:

يا رب إلهي، لترجع نفس هذا الولد إلى جوفه” [21].

 

لماذا تمدَّد على الولد؟

لن نتمتَّع بالحياة الجديدة المقامة ما لم نتلامس مع القائم من الأموات. لا بُد من تلامس روحي عملي. لهذا حتى في شفاء المرضى كان السيِّد المسيح يمدّ يديه ويلمسهم فيبرأون (مت 9: 25؛ لو 14: 7).

كان إيليَّا النبي فريدًا بين الأنبياء، فمن جهة قدَّم أول معجزة لمباركة الطعام يكفي ربَّما لمدَّة حوالي سنتين. ومن جانب آخر آمن بالله القادر أن يقيم من الأموات. لم يجسر داود النبي أن يطلب من الرب أن يقيم ابنه الذي من بثْشَبع، أمَّا إيليَّا النبي فهو أول نبي طلب بجرأة ودالة لدى الله أن ترجع نفس الولد إلى جسده.

هذا ومن جانب آخر أراد الله تأكيد حقيقة إيمانيَّة هامة، وهي تقديسه كل ما في الإنسان وما لديه مادام سالكًا معه. فاستخدم الله عصا موسى النبي في صنع المعجزات، وعظام إليشع في إقامة ميِّت، وظِلّ بطرس الرسول، ومناديل الرسول بولس، وهنا يستخدم جسم إيليَّا النبي. يتمدَّد بجسمه عليه ويطلب من الله فيرد الميِّت إلى الحياة.

*     مات ابن الأرملة، لأن ابن الكنيسة، أي الأمم، قد ماتوا بسبب خطاياهم ومعاصيهم الكثيرة.

بصلوات إيليَّا استردَّ ابن الأرملة الحياة؛ وبمجيء المسيح ابن الكنيسة، أي الشعب المسيحي، خرجوا من سجن الموت.

انحنى إيليَّا في الصلاة، واستردَّ ابن الأرملة الحياة. هكذا غطس المسيح في آلامه، واسترد الشعب المسيحي الحياة.

لماذا انحنى إيليَّا ثلاث مرات ليقيم الغلام؟

اعتقد قد أدركتم ذلك بفهم محبَّتكم قبلما انطق به.

بالحقيقة انحنى ثلاث مرات مظهرًا سرّ الثالوث. الثالوث كلُّه ردَّ لابن الأرملة أو للأمم الحياة. علاوة على هذا، فإن هذا يتحقَّق في سرّ العماد، حيث يغطس الإنسان القديم في الماء ثلاث مرات لكي يتأهَّل الإنسان الجديد للقيام(152).

القديس أغسطينوس

“فسمع الرب لصوت إيليَّا،

فرجعت نفس الولد إلى جوفه فعاش.

فأخذ إيليَّا الولد ونزل به من العُلِّيَّة إلى البيت،

ودفعه لأمِّه وقال إيليَّا: انظري ابنك حيّ” [22-23].

يبدو أن الأرملة لم تكن قادرة أن تصدِّق أن ابنها الذي مات قام، لم تصدِّق عينيها، لهذا يقول لها إيليَّا النبي: “انظري، ابنك (وليس ابن آخر) حيّ”.

“فقالت المرأة لإيليَّا:

هذا الوقت علمت أنَّك رجل الله،

وأن كلام الرب في فمك حق” [24].

كشف هذا الأصحاح عن شخصيَّة إيليَّا النبي كسابق للسيِّد المسيح “القيامة”، واهب الحياة الجديدة المقامة.

تعاملت الأرملة مع إيليَّا كرجل الله منذ اللحظات الأولى لملاقاته بها، وقدَّمته عن ابنها وعن نفسها فوهبها الرب بركة سُكنى النبي في علِّيتها، وبارك لها في دقيقها وزيتها. الآن إذ أقام ابنها تأكَّدت أنَّه رجل الله، وأن ما ينطق به من كلمات الرب هو حق. لقد أعلنت إيمانها بالحق الإلهي.

تمتَّعت الأرملة خلال هذه التجربة ببركات كثيرة:

*     فحصت قلبها وأعماقها وامتحنت طريقها.

*     اكتشفت قوَّة الله واهب القيامة.

*     شهدت لله أنَّه الحق.

من وحي 1 ملوك 17

من يُنقذ نفسي من المجاعة؟

من يُشبع أعماقي سواك؟

 

*     وثق آخاب في البعل إله الخيرات والخصوبة.

وحرَّم نفسه منكَ يا خالق السماء والأرض.

إليك اصرخ: حلَّت المجاعة بأعماقي،

وساد القحط قلبي.

توقَّف مطر الروح عن ارتواء نفسي.

*     لترسلني مع إيليَّا النبي إلى كريث.

تبعث إليّ بالغربان.

لتحسبني من القلَّة القليلة.

لتعولني أنت يا مشبع النفوس.

*     في جوّ الملوك الأشرار أرسلت إيليَّا الناري.

أقمته ليعمل من أجل القلَّة المقدَّسة لحسابك.

لم تقبل الملكة الشرِّيرة إيزابل أقل من رأسه.

أما أنت فأشبعت نفسه.

حتى جسده كنتَ تهتم بإطعامه.

الغربان الخاطفة أعدَّت له لحمًا وخبزًا.

الملك يبحث عنه فلا يجده،

والغربان تتقدَّم إليه بالطعام صباحًا ومساءً.

*     جاع الكل، فأشبعت أرملة صرْفَة صيْدا.

شبِعت هي وابنها، لأنَّها قدَّمت لنبيَّك أولًا ما لديها.

نالت بركة لم تنلها أرامل إسرائيل الكثيرات.

أقمتَ ابنها من الموت لكي تفرح بعمل يديك.

*     أنت هو خبز الحياة.

العالم ينساني، وأمَّا أنت فتهتم بكل كياني.

نفسي وعقلي وجسدي وكل طاقاتي بين يديك.

أنت هو مُشبع كل حياتي.

إيليَّا النبي

 “إيليَّا” تعني “يهوه إلهي”، يناسب الاسم رسالته، فقد اتَّسم بالشجاعة مع الغيرة من أجل الله إلهه. عاش في إسرائيل (المملكة الشماليَّة) في النصف الأول من القرن التاسع ق.م. ظهر بطريقة سرِّيَّة، لا نعرف شيئًا عن أسرته. دُعي بالتشبِّي ربَّما لأنَّه ولد في تشبه في حدود نفتالي (طو 1: 22) أو في منطقة الجليل، أو من أسرة تحمل هذا الاسم، لكنَّه نشأ في جلعاد (1 مل 17: 1).

 

يمكن تقسيم حياة إيليَّا إلى خمس مراحل:

  1. ظهوره أمام آخاب المرتدّوتأديبه له بسنوات الجفاف. لقاؤه مع أرملة صِرْفِة صيْدا – على ساحل البحر الأبيض المتوسِّط – قتل أنبياء البعل (1 مل 17-18).
  2. اضطراره إلى الهروب إلى جبل حوريب من وجه إيزابل. ظهور الله له    – في نفس المغارة التي فيها رأى موسى مجد الله – اختيار إليشع تلميذًا له (1 مل 19).
  3. تنبُّؤه عن خراب بيت آخاب بسبب قتل نابوت (1 مل 21).
  4. انتهاره أخزيا بن آخاب.احتراق قائديّ الخمسين بنارٍ من السماء (2 مل 1).
  5. صعود إيليَّا إلى السماء(2 مل 2).

 

ظروفه:

ظهر إيليَّا في أيَّام آخاب ملك إسرائيل الذي عملً الشر في عينيّ الرب أكثر من جميع الذين قبله (1 مل 16: 30)، والذي تزوَّج إيزابل الكنعانيَّة ابنة أثبعل ملك الصيدونيِّين وكاهن البعل. كان آخاب ضعيف الشخصيَّة، جرى وراء امرأته التي اضطهدت الكهنة وأنبياء الله، فقتلت منهم وهرب البعض إلى الكهوف. استطاعت الملكة بشرَّها، يعاونها كهنة البعل، أن تجتذب الشعب إلى عبادة البعل بكل رجاساتها. هذا وقد اتَّسمت بالعنف؛ حين اشتهى رجلها كرم نابوت اليزرعيلي خطَّطت لقتل نابوت وورثته!

 

نظرة الكتاب المقدَّس إليه:

في (ملا 4: 5-6) وعد الرب أن يرسل إيليَّا النبي قبل يوم الرب العظيم. وقد تحقَّق ذلك عند مجيئه الأول، إذ ورد في (لو 1: 17) أن يوحنا المعمدان جاء بروح إيليَّا وقوَّته. في هذا المعنى قال السيِّد المسيح إن إيليَّا جاء في شخص يوحنا (مت 11: 14؛ 17: 10-12؛ مر 9: 12). وقد سُئل يوحنا المعمدان إن كان هو إيليَّا (يو 1: 21، 25). ظنّ بعض اليهود خطأ أن يسوع نفسه هو إيليَّا (مت 16: 14؛ مر 6: 15؛ 8: 28؛ لو 9: 8، 19).

سيأتي إيليَّا النبي مع أخنوخ في أيَّام ضد المسيح ويسندا الكنيسة ويستشهدا.

 

نظرة اليهود إليه

جاء في التقليد اليهودي(153) أن إيليَّا لم يمت، وإنَّما لا يزال يجول في الأرض، وإنه سيظهر ليقدم المسيا، ويساعد في الخلاص النهائي للبشريَّة.

في ختان الطفل اليهودي يُوضع كرسي يسمَّى “كرسي إيليَّا” يخصَّص له بكونه “ملاك العهد” كما جاء في (ملا 13: 1)، على رجاء أنَّه يحمي الطفل، وهو كرسي غني في النحت والزينة بالتطريز. وفي أثناء تقديم تحيَّة للطفل المختتن تُقرأ دعوة لإيليَّا للحضور.

يعلِّل البعض وجود كرسي إيليَّا أثناء ختان الطفل إلى أن إيزابل الشرِّيرة منعت ختان الأطفال في المملكة الشماليَّة أو أفسدت طقسه، وإذ كان إيليَّا مملوء غيرة التجأ إلى كهف وصلَّى إلى الله (1 مل 19: 10)، واشتكى إليه أن إسرائيل نسيّ عهد الرب، فأمر الله ألاَّ يتم ختان طفلٍ إلاَّ في حضرة إيليَّا. لهذا صار يوضع كرسي إيليَّا أثناء طقسه ويُقال بصوتٍ عالٍ: “هذا هو كرسي إيليَّا”. وقبل الطقس يوضع الطفل على الكرسي، كمن يبقى في حضن النبي وتحت حمايته. يبقى الكرسي ثلاثة أيَّام في موضعه، لحفظ المختتن في هذه الأيَّام التي يتعرَّض فيها للخطر.

وفي وليمة الفصح يُسكب كأس خمر إضافي لإيليَّا، وبعض العائلات تسحب كرسيًا فارغًا إلى المائدة لإيليَّا. وأثناء الطقس يُترك الباب مفتوحًا لعلَّه يدخل.

 

جاء في إحدى تسابيح عشيَّة الفصح:

“إيليَّا النبي،

إيليَّا التشبِّيثي،

إيليَّا الجلعادي.

ليأتِ إلينا سريعًا،

ومعه المسيا”.

وجاء في الحجادةHaggadah  أن إيليَّا كان كاهنًا(154)، وقد أخذ بهذا كثير من آباء الكنيسة مثل القديس أفراهات(155) والقديس أبيفانيوس أسقف سيراميس(156) والعلامة أوريجينوس(157).

رأى بعض المفسِّرين اليهود أن إيليَّا كان ملاكًا في شكلٍ بشريٍ، لذا ليس له والدان ولا أنجب نسلًا(158).

في الطقس الألماني البولندي لليهود تُقدم تسبحة فحواها القصَّة التالية: ظهر إيليَّا النبي كخادم لرجل تقي فقير جدًا، هذا الذي لم يحتفظ به كثيرًا. فقد طلب الملك بنَّاءً ماهرًا، فتقدَّم إيليَّا للعمل ونال الفقير مبلغًا كبيرًا من المال، وقام إيليَّا ببناء قصر الملك فجأة ثم اختفى(159).

 إيليَّا كسابق لمجيء الرب يصنع سبع معجزات أمام الشعب، منها(160):

  1. يقدِّم لهم موسى والجيل الذي عبر البرِّيَّة.
  2. يسبِّب قيام قورح وجماعته من الأرض.
  3. يُظهر لهم أدوات المذبح المقدَّسة المفقودة: تابوت العهد، قسط المنّ، إناء الزيت المقدَّس.
  4. يُظهر القضيب الذي تسلَّمه من الله.
  1. يحطِّم الجبال كالقشّ.

 

شخصيَّته:

يُشبَّه إيليَّا ببريق نور يضيء فجأة على تاريخ مظلم ليُعلن الحق الإلهي. إنَّه شاهد حق وسط الباطل! أشبه بشرارة نارٍ متَّقدة ألقاها الله فجأة لتُلهب النفوس الباردة، وتقف أمام آخاب الشرِّير، وامرأته إيزابل المتعجرفة، والشعب المندفع نحو الوثنيَّة.

أحداث حياته غالبًا ما تحمل عنصر المفاجأة ممَّا دفع بعض معلِّمي اليهود إلى الظنّ أن إيليَّا كان ملاكًا يظهر فجأة في شكل بشري ثم يختفي، ودُعي في الحجادة Haggadah  “طائر السماء”(161)، فهو كالطائر يطير في العالم لتحقيق رسائل سماويَّة(162).

*     ظهر في التاريخ فجأة، ولا نعرف أسرته.

*     صعد في المركبة الناريَّة فجأة.

*     وظهر مع السيِّد المسيح فجأة في تجلِّيه.

*     كانت تحرُّكاته جميعها تحمل ذات العنصر، مثل:

*     لقاؤه مع آخاب الملك لإيقاف المطر بعد 2/1 3 سنة (1 مل 17: 1؛ 18: 1).

*     لقاؤه مع أرملة صِرْفِة صيْدا (1 مل 17: 10).

*     لقاؤه مع ملاك يُطعمه (1 مل 19: 5).

*     لقاؤه مع الله خلال الصوت المنخفض الخفيف (1 مل 19: 12).

*     لقاؤه مع إليشع، واختياره تلميذًا له (1 مل 19: 19).

*     لقاؤه مع آخاب بعد أن أبقى حياة بنهدد (1 مل 20: 39).

*     لقاؤه مع آخاب بعد قتله نابوت اليزرعيلي (1 مل 21: 18).

*     لقاؤه مع رُسل أخزيا بن آخاب الذين كانوا ذاهبين إلى بعل زبوب إله عقرون يسألون إن كان يبرأ ملكهم من المرض. وكان قول الرب على لسان إيليَّا: “السرير الذي صعَدت عليه لا تنزل عنه بل موتًا تموت” (2 مل 1: 4).

يعتقد بعض اليهود أنَّه كثيرًا ما يترآى إيليَّا النبي للناس عن طريق الأحلام وفي اليقظة، يتعرَّف عليه الأبرار، وتشعر به حتى الحيوانات العجموات، وتعبِّر الكلاب عن فرحها به بنباح مفرح(163).

وُجدت قصص يهوديَّة كثيرة يظهر منها إيليَّا كملاك حارس يسند الأتقياء بكل وسيلة وينقذهم من المصاعب، يصنع سلامًا وأيضًا يعلِّم (علّم لعازر بن سيمون لمدَّة 13 سنة)(164).

كان إيليَّا رجل صلاة. كان إنسانَّا مثلنا (يع 5: 17)، لكنَّه كبارٍ صلاته تُقتدر كثيرًا في فعلها.

كان إيليَّا رجل الله المرفوض من وطنه، ترحِّب به أرملة في صِرْفِة صيْدا (لو 4: 25).

 

رسالته:

  1. مقاومة الارتداد ورفض العبادة الوثنيَّة.

*     إلهه صاحب سلطان على السماء (المطر – إرسال نار).

على الطيور (الغربان لا تخطف طعامًا بل تعول النبي).

على الحياة (إعلان سفك دم إيزابل، وموت أخزيا).

على الخليقة الجامدة (مباركة كوز الزيت وكيل الدقيق).

*     فشل الآلهة الوثنيَّة، آلهة الخصوبة في العمل:

لم تمنع الجفاف الذي حلَّ بكلمة إيليَّا.

لم تحمِ كهنة البعل.

لم تستطع أن تُرسل نارًا لتلتهم الذبيحة.

  1. مقاومة الظلم والعنف (معاقبة إيزابل التي قتلت وورثت).

 

سماته(165):

  1. بلغ قمَّة النصرة على جبل الكرمل، حيث شهدت السماء للحق، وقُتل كهنة البعل. وبلغ قمة اليأس في بئر سبع، حيث اشتهى الموت.
  2. أُعطى سلطانًا على السماء:

*     يغلقها فلا تمطر ثلاث سنوات ونصف.

*     وأن تنزل نارًا من السماء لتلتهم قائديّ خمسين وجنودهما (2 مل 1).

*     وأن تنزل نارًا من السماء تلتهم الذبيحة أمام أنبياء البعل.

*     أعطى سلطانًا على المياه، حيث شقَّ الأردن بردائه (2 مل 2: 8).

*     وأن يقيم ابن أرملة صِرْفِة صيْدا (1 مل 17).

  1. يرى البعض أنَّه كان نبي الرعد في أيَّامه، يقف أمام ملكٍ شرِّير وشعبٍ وثني. نبي الدينونة (يرمز للعهد القديم)، بينما كان تلميذه إليشع نبي النعمة والحب والحنوّ. وكأنَّه بالرعد هيَّأ إيليَّا الطريق للنعمة.
  2. يعرف كيف يلتقي مع الله وخليقته:

*     يلتقي مع الله خلال الصوت المنخفض الخفيف (1 مل 19)… لقاء الحب الهادئ.

*     يلتقي مع ملاك سماوي يسنده إذ يقدِّم له طعامًا وشرابًا.

*     يلتقي مع الغربان يوميًا، وتقدَّم له لحمًا وخبزًا.

*     يلتقي مع الملك الشرِّير ليشهد للحق بلا خوفٍ!

*     ‍‍‍يلتقي مع أرملة تعوله وتأْويه‍‍‍‍‍‍!

  1. إيمانه بالله لا يعرف الحدود، يسأل من القدير في يقين مع إدراك عجيب لسلطان الله العامل خلال رجاله. لا تستطيع المخاطر ولا الأحداث أو الأشخاص أن تهزّ إيمانه وثقته بالله.
  2. 6. غيرته من جهة الله والعبادة والقداسة هي الدافع الحقيقي وراء كل تصرُّفاته، وهي عصب حياته كلها. بحق كان يكرِّر: “غرتُ غيرة رب الجنود”.
  3. شجاعته فريدة لن تخور ليقف وحده وهو أعزل أمام الملك الشرِّير بكل إمكانيَّاته.
  4. طاعته بسيطة يتمِّم الوصيَّة والإرادة الإلهيَّة دون تساؤلات، يتعامل معه كطفلٍ مع أبيه.
  5. رقيق جدًا في مشاعره، مملوء حنوًا يتعاطف مع الأرملة التي فقدت وحيدها ويئنّ مع أنات شعبه.
  6. مقدَّس للرب،يكره الخطيَّة ويقاومها، مهما كلَّفه الأمر.

بطبيعته يسند الآخرين وينقذهم، يظهر فجأة ليعمل ويصنع معجزات ثم يختفي. رجل عمل لحساب الرب وشعبه! ‍

 

إيليَّا رجل البرِّيَّة

عاش إيليَّا في البريَّة، ناسكًا في ملبسه كما في طعامه، كان لباسه ثوبًا من الشعر (مسوحًا) ومنطقة من جلد (2 مل 1: 8). لا يجد العالم له موضعًا في قلبه! تعلَّم في البرِّيَّة الحرب الروحيَّة، فتخرَّج فيها جنديًا صالحًا في المعركة الإلهيَّة ضدّ الوثنيَّة والظلم. وتعلَّم فيها حياة الصوم (صام أربعين يومًا وأربعين ليلة) حيث سافر إلى جبل حوريب (جبل سيناء).

*     أنظر إلى إيليَّا التشبِّي كمثالٍ، إذ نجد فيه مثلًا رائعًا للزهد. فإنَّه إذ جلس تحت الشوك وأحضر له الملاك طعامًا كان كعكة من الشعير وكوز ماء. هكذا أرسل الله ما هو أفضل له. لهذا يليق بنا في رحلتنا إلى الحق أن نكون خفيفين. يقول الرب: “لا تحملوا مزودًا ولا كيسًا ولا أحذية” (لو 4: 10)، بمعنى لا تمتلكوا غنى يُخزَّن في مزود. لا تملأوا مخازنكم كما في كيسٍ، بل التقوا بالمحتاجين. لا تربكوا أنفسكم بالخيل والخدم الذين يسبِّبون ثقلًا عندما يسافر الأغنياء، هؤلاء الذين بطريقة رمزيَّة يدعوهم أحذية.

يليق بنا أن نزيل كثرة الأواني والكؤوس الفضيَّة والذهبيَّة وجمهرة الخدم، متقبِّلين من المعلِّم الاعتماد على النفس والبساطة، كمساعدين لنا عادلين وجادِّين. لنسر إلى الكلمة كما يليق(166)

القديس إكليمنضس الإسكندري

*     ليس هكذا نفوس الذين صاروا عبيدًا للثروة، فإن هؤلاء هم تحت ربوات المعلِّمين والمسخِّرين لهم، فلا يتجاسرون أن يرفعوا أعينهم وينطقوا بجسارة لحساب الفضيلة. لأن حب الغنى والمجد وغير ذلك يرعبهم ويجعلهم مداهنين في مذلَّة. ليس شيء ينزع الحريَّة مثل الارتباك بالأمور العالميَّة والقلق… فمثل هذا ليس له سيِّد واحد ولا اثنان أو ثلاثة بل ربوات السادة(167).

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     عاش بتولًا، كرَّس كل طاقاته للشهادة لله.

*     أيَّة غباوة أن نضم إيليَّا وإليشع إلى قائمة المتزوِّجين، هذا واضح دون أن أنطق بكلمة من عندي. فإنَّه حيث جاء يوحنا المعمدان بروح إيليَّا وقوَّته، وكان يوحنا بتولًا، واضح أنَّه جاء ليس فقط بروح إيليَّا بل وأيضًا بعفَّته الجسديَّة(168).

جيروم

إيليَّا رمز للسيِّد المسيح

*     يرمز إيليَّا الطوباوي إلى ربَّنا ومخلِّصنا. كما اُضطهد إيليَّا بواسطة اليهود هكذا ربَّنا، إيليَّا الحقيقي الذي دانه اليهود واحتقروه.

ترك إيليَّا شعبه، وهجر المسيح المجمع.

رحل إيليَّا إلى البريَّة، وجاء المسيح إلى العالم.

أُطعم إيليَّا في الصحراء بواسطة الغربان، بينما انتعش المسيح في صحراء هذا العالم بإيمان الأمم.

حقًا اهتمَّت تلك الغربان بالطوباوي إيليَّا كأمر الرب رمزًا للأمم. لهذا قيل عن كنيسة الأمم: “أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم” (نش 1: 4). لماذا الكنيسة سوداء وجميلة؟ لماذا سوداء؟ بالطبيعة: “بالآثام حبل بي وفي الخطيَّة ولدتني أمِّي” (مز 50: 7). لماذا جميلة؟ بالنعمة. “اِغسلني بزوْفاك فأطهُر، تغسلني فأبيض أكثر من الثلج” (مز 50: 9). يقول الرسول: “أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسجنني في ناموس الخطيَّة” (راجع رو 7: 23). لماذا جميلة؟! من ينقذني من جسد هذا الموت؟ نعمة الله بيسوع المسيح ربَّنا” (راجع رو 16: 24). حقًا إن كنيسة الأمم تشبه غرابًا حين احتقرت الرب الحيّ وقبلما تتسلَّم النعمة خدمت الأوثان كأجساد ميِّتة(169).

*     كما قام ربَّنا وصعد إلى السموات بعد ممارسته قوَّة عظيمة واحتمل آلامه، هكذا أُخذ إيليَّا إلى السماء في مركبة ناريَّة بعد معجزات كثيرة صنعها الله خلاله(170).

*     إيليَّا صلَّى أن يسقط مطر على الأرض، وصلَّى المسيح أن تحلّ النعمة الإلهيَّة على قلوب البشر. عندما أمر إيليَّا غلامه: “اِذهب واُنظر سبع مرَّات” (راجع 1 مل 22: 43) عنى نعمة الروح القدس السباعيَّة التي أعطيت للكنيسة.

عندما أعلن أنَّه رأى سحابة صغيرة صاعدة من البحر، كان ذلك إشارة إلى جسد المسيح الذي وُلد في بحر هذا العالم. لئلاَّ يشك أحد قال إن السحابة لها قدَم إنسان، بالتأكيد ذاك الإنسان القائل: “من يقول الناس إنِّي أنا ابن الإنسان؟!” (مت 16: 13).

بعد ثلاث سنوات وستَّة أشهر نزل المطر من السماء عند صلاة إيليَّا، وذلك لأن مجيء ربَّنا ومخلِّصنا أَرْوَى مطر كلمة الله كل العالم خلال الثلاث سنوات وستَّة أشهر التي عُيِّنت لكرازته. كما أنَّه عند مجيء إيليَّا ُقتل كل كهنة الأوثان وهلكوا، هكذا عند مجيء إيليَّا الحقيقي، ربَّنا يسوع المسيح، هلكت كل الممارسات الشرِّيرة للوثنيِّين(171).

 القديس أغسطينوس

موسى وإيليَّا:

كثيرًا ما ترتبط شخصيَّتا موسى وإيليَّا معًا، خاصة بظهورهما دون سواهما من رجال العهد القديم عند تجلِّي السيِّد المسيح، وتمتُّعهما دون سواهما من الأنبياء بالصوم لمدَّة أربعين يومًا.

موسى النبي

إيليَّا

+ التقى مع الله في حوريب (خر 3: 1-6).

+ أعلن الله ذاته خلال النار (خر 3: 21).

+ أطعمه المنّ من السماء (خر 16).

+ أكَّد أن الرب هو الله (تث 6: 4).

+ خلفه يشوع “يهوه مخلِّص”.

+ جاء موته سرًّا (تث 34).

+ عند الأردن سلّم القيادة ليشوع.

 + ظهر مع السيِّد المسيح في التجلِّي (مت 17: 3).

+ تحقَّق معه نفس الأمر (1مل 9: 8-11).

+ نزول نار الرب على الذبيحة (18: 38).

+ أرسل له غربان تطعمه (17: 8-16).

+ فعل نفس الأمر (18: 37-39).

+ خلفه إليشع “الله خلاص”.

+ صعد بطريقة سرَّيَّة (2 مل 11:2-12).

+ عند الأردن سلّم القيادة لإليشع (2 مل 2: 13-14).

+ تمتَّع بنفس الأمر (مت 17: 3).

فاصل

فاصل

تفسير ملوك الأول 16 تفسير ملوك الأول 
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير ملوك الأول 18
تفسير العهد القديم

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى