تفسير سفر صموئيل الأول ٢٠ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح العشرون
يوناثان ينقذ داود
تصرفات شاول تكشف عن إهتزاز نفسيته جدًا، فقد أدرك أن كرسيه بدأ يتزعزع وابنه الوارث الشرعي يسند داود – مغتصب الملك – وابنته ميكال تخلصه، والأنبياء يقفون بجواره… والآن يلتقي داود بيوناثان الذي يمثل كبير حجاب قصر شاول يعاتبه على تصرفات أبيه. بأمانة كاملة كشف يوناثان عما في قلب أبيه وطلب من داود الهروب بعد أن تعانقا باكين متعاهدين أمام الرب.
داود يعاتب يوناثان [1-11].
أدرك داود أن شاول يصر على قتله فقد بعث ثلاث إرساليات، وأخيرًا جاء بنفسه إلى الرامة لا لهدف آخر غير الخلاص منه، لكن الرب أنقذه. هرب داود من نايوت في الرامة وجاء إلى صديقه الحميم يوناثان للتشاور معه في أمر أبيه. وقد جاءت أحداث هذا الأصحاح تكشف لنا عن شخصية يوناثان الفريدة في الإخلاص والحب. لقد أدرك أن داود يستلم عرش أبيه لا محالة [14-17]، فأظهر قبوله إرادة الله بفرح دون أي امتعاض من جهة داود بل صار يحبه كنفسه [17]. كان يسنده للخلاص من يد أبيه، باذلاً كل الجهاد لحساب صديقه الذي يرث أبيه. تكشف الأحداث بالأكثر عن شخصية شاول المتهورة إذ دفعه الحقد على داود أن يحاول قتل يوناثان لأنه يسنده.
جاء داود إلى يوناثان ليجد فيه الصدر الرحب فيعاتبه على تصرفات أبيه ويطلب مشورته ومساندته. حقًا لقد أراد الجالس على العرش أن يقتل داود لكن الله فتح قلب أقرب مَن لشاول – يوناثان – ليحب داود ويخطط له من خلال البلاط الملكي… هكذا كلما حاول الشر أن يغلق الأبواب ويحكمها يُفتح لنا بابًا من حيث لا ندري.
في صراحة قال داود: “ماذا عملتُ؟ وما هو إثمي؟ وما هي خطيتي أمام أبيكِ حتى يطلب نفسي؟!” [1]. هكذا استطاع داود أن يتكلم بصراحة مبررًا نفسه، طالبًا من يوناثان أن يقتله بنفسه إن كان قد وجد فيه ظلمًا أو خيانة، إذ يفضل أن يموت بيد صديقه يوناثان عن عدل عن أن يموت بيد شاول أو أحد عبيده عن ظلم [8-10].
اتسم داود بالأمانة مع الكل ومع هذا تعرض لمتاعب كثيرة ومطاردات عبّر عنها في المزمور السابع: “خلصني من كل الذين يطردونني ونجني؛ لئلا يفترس كأسد نفسي هاشمًا إياها ولا منقذ”.
يارب إلهي إن كنت قد فعلت هذا، إذ وُجد ظلم في يدي، إن كافأت مسالمي شرًا وسلبت مضايقي بلا سبب، فليطارد عدو نفسي وليدركها وليدس إلى الأرض حياتي وليحط إلى التراب مجدي. سلاه” (مز 7: 1-5).
يتكلم داود النبي بصيغة الجمع “خلصني من كل…” ثم يكمل بصيغة المفرد “لئلا يفترس كأسد…”، ذلك لأنه وإن كثر المضايقون والمطاردون له، لكن واحدًا هو الذي يحركهم هو إبليس كما يقول القديس باسيليوس[151].
يرى بعض الآباء في كلمات داود النبي مع يوناثان وأيضًا ما ورد في المزمور السابع حيث يبرر داود نفسه قائلاً: “ماذا عملت؟ وما هو إثمي؟”، “إن وُجد ظلم في يدي” يرمز للسيد المسيح الذي وحده بلا خطية وقد ثار العدو – إبليس – كأسد ليفترسه على الصليب، لكن تحطم العدو وقام المسيح ليقيم مؤمنيه معه.
v “يارب إلهي إن كنت قد أخطأت في هذا (فعلت هذا)” (مز 7: 3). “لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيّ شيء” (يو 14: 30).
“إن وُجد ظلم في يدّي”: “الذي لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه مكر” (1 بط 2: 22).
“إن كافأت مسالمي شرًا”: قالوا “اصلب اصلب رجل كهذا” (راجع يو 19: 6).
“فليطارد عدو نفسي وليدركها”: “آخر عدو يبطل هو الموت” (1 كو 15: 26).
“ليدس إلى الأرض حياتي”: لا يمكن للحياة أن تُدرس إلى الأرض؟ “وليحطّ إلى التراب مجدي”… يتوسل المرتل من أجل أعدائه لكي يتمجد الله في أرضهم، عندما يكفون عن العداوة فيتمجد الله فيهم.
القديس جيروم[152]
على أي الأحوال إذ تسلك النفس في طريق الكمال خلال تمتعها بالحياة الجديدة في المسيح الكامل وحده تتعرض للحروب من كل جانب، يثيرها عدو الخير ضدها، لكنها تنال الغلبة والنصرة. وكما يقول القديس أغسطينوس: [تنهزم كل حرب وكل عداوة بالنسبة لمن صار كاملاً، فلا يكون له عدو سوى إبليس الحاسد… يقول الرسول: “إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو” (1 بط 5: 8). لذلك بعدما تحدث المرتل بصيغة الجمع “خلصني من كل الذين يضطهدوني” يتكلم بصيغة المفرد: “لئلا يفترس كأسد نفسي”. لم يقل “لئلا يفترسوا”، إذ عرف أي عدو وخصم عنيف ضد النفس الكاملة[153]].
تحدث داود بصراحة معلنًا شدة تخوفه من شاول، إذ يقول: “ولكني حي هو الرب وحية هي نفسك إنه كخطوة بيني وبين الموت”، أي أن الموت قد صار قريبًا جدًا منه يحل في أية ساعة. وكانت إجابة يوناثان: “مهما تقل نفسك أفعله لك” [4]، بمعنى أنه سيقدم له كل ما يريده داود، ما يشير به عليه يفعله. هكذا يفعل الحب، لأن “المحبة لا تطلب ما لنفسها بل ما هو الآخرين”.
قدم داود مشورة ليوناثان للكشف عما في قلب أبيه، قدمها بروح الوداعة والاتضاع في غير استغلال لحب يوناثان له، إذ يقول له “إرسِلني” [5]، فإنه في غياب شاول يأتمر داود بأمر يوناثان ويخضع له. وقبل مفارقته سجد له ثلاث مرات [41] علامة الاحترام اللائق به كابن ملك وعلامة الشكر والامتنان.
أما المشورة فباختصار أنه يتغيب لمدة ثلاثة أيام عن حضور الوليمة مع الملك في أول الشهر بحجة أن أخاه اليآب سأله أن يحضر إلى بيت لحم يشترك في الذبيحة السنوية التي لعشيرته، وأن يوناثان أعطاه إذنًا بالذهاب، ليرى ماذا تكون إجابة شاول؛ فإن استحسن الأمر يكون ذلك إشارة إلى ارتياح قلب الملك من نحوه، أما إذا اغتاظ فيكون قد أعد له الشر.
يوناثان يتمم خطة داود [12-23].
كانت العادة أن يقسم الإنسان في صيغة صلاة أحيانًا؛ هكذا فعل يوناثان إذ قال: “يارب إله إسرائيل متى اختبرتُ أبي مثل الآن غدًا أو بعد غد فإن كان خير لداود ولم أُرسِل حينئذ فأُخْبِرَه فهكذا يفعل الرب ليوناثان وهكذا يزيد…” [12-15].
هكذا أقسم في صيغة صلاة ليعطي للقسم قدسيته، مؤكدًا أنه إن كان أبوه ينطق بخير سيبعث إليه رسولاً يطمئنه ليعود إلى عمله في البلاط، أما إذ نطق بشر فإنه يقوم بنفسه بإخباره ولا يأتمن رسولاً على ذلك حتى لا تتعرض حياة داود لخطر، طالبًا له أن يكون الرب في رفقته أثناء هروبه حتى يتسلم الحكم، وعندئذ يطلب من داود أن يصنع به وبنسله معروفًا، لأنه كانت عادة الملوك حين يتسلمون الحكم يقتلون الملك السابق وكل نسله حتى يطمئن أنه لا توجد فرصة لثورة ضده تحت قيادة شخص من نسل ملوكي (1 مل 15: 29؛ 16: 11)، بالفعل حفظ داود العهد ونفذ الوصية (2 صم 21: 7).
يوناثان يكتشف قلب أبيه [24-34].
اكتشف يوناثان ما في قلب أبيه في اليوم الثاني من الوليمة؛ ففي اليوم الأول ظن الملك أن داود لم يحضر لأمر عارض، لأنه غير طاهر. أما في اليوم الثاني إذ سأل عنه قال له يوناثان بأنه ذهب إلى بيت لحم كطلب أخيه ليشترك مع بيت أبيه في الذبيحة السنوية، عندئذ حمي غضب شاول على يوناثان وقال له:
“يا ابن المتعوِّجة المتمردة، أما علمتُ أنك قد اخترت ابن يسى لخزيك وخزي عورة أمك.
لأنه مادام ابن يسَّى حيًا على الأرض لا تثبت أنت ولا مملكتك.
والآن أُرْسِل وأتِ به إليّ لأنه ابن الموت هو” [30-31].
ولما حاول يوناثان الدفاع عنه صوب شاول الرمح نحوه ليطعنه، عندئذ علم يوناثان أن أباه قد عزم على قتل داود.
لقد سب شاول ابنه بأبشع شتيمة قائلاً: “يا ابن المتعوجة المتمردة، وهو لا يعني إهانة امرأته بل إهانة يوناثان نفسه”.
v ماذا عنى بهذا؟
أنت ابن الزانيات اللواتي هن مجنونات على الرجال، يجرين وراء العابرين.
إنك بائس خلع القلب مخنث، ليس فيك شيء من الرجولة، تعيش في خزي من نفسك ومن أمك التي عرّتك.
ماذا إذن؟ هل حزن عند سماعه هذه الأمور، وأخفى وجهه، وترك محبوبه؟ لا، بل على العكس، حَسِبَ محبته زينة.
لقد كان الواحد – يوناثان – ملكًا ابن ملك، والآخر كان طريدًا شريدًا أقصد به داود؛ ومع ذلك لم يخجل الأول من صداقته.
القديس يوحنا الذهبي الفم[154]
لم يجد شاول ما يرد به على يوناثان في دفاعه عن داود إنما عوض الرد صوب الرمح لقتله. هذا هو روح الشر الذي يضطهد الحق ومن ينطق به مستخدمًا العنف والسلطة الزمنية. فعندما عجز اليهود عن الكلام مع السيد المسيح “الحق” ذاته، رفعوا حجارة ليقتلوه (يو 8: 59)، وأيضًا إذ لم يقدروا على مقاومة الحكم والروح الذي كان يتكلم به إسطفانوس رجموه (أع 6: 9-15).
لقد عكر الغضب عيني شاول فلم يجد ما يجاوب به ابنه إلا تصويب الرمح لقتله مع السب والشتيمة بأقذر الألفاظ.
v إن وجدتم في منازلكم عقارب وأفاعي، ألا تجتهدون في طردها حتى تعيشوا في أمان منها في منازلكم؟! ومع ذلك فها أنتم غضبى، وهوذا الغضب يتأصل في قلوبكم، وينمي فيها حقدًا وخشبًا كثيرًا وعقارب وأفاعي، ومع هذا فلا تنقون قلوبكم التي هي مسكن الله!!
القديس أغسطينوس[155]
v الغضب هو حركة جنون، من يقتنيه لنفسه يحيره ويجعل النفس مثل الوحوش.
القديس أوغريس[156]
v إذا أكمل الإنسان جميع الحسنات وفي قلبه حقد على أخيه فهو غريب عن الله.
القديس باخوميوس[157]
يوناثان ينقذ داود [42-35].
انطلق يوناثان إلى الحقل ومعه سلاحه وأيضًا غلام صغير حتى لا يشك أحد في أمره بل يحسبونه ذاهبًا للتمرن على رمي السهام كعادته. طلب من الغلام أن يلتقط السهام التي يرميها [36]. بينما كان الغلام راكضًا رمى السهم حتى جاوزه، وناداه: “أليس السهم دونك فصاعدًا… اعجل. أسرع. لا تقف”. كان ذلك إشارة إلى داود المختبئ في الحقل بأن الخطر يلاحقه وأن يسرع بالهروب. أعطي يوناثان السلاح للغلام ليدخل به إلى المدينة، وقام داود من جنوب حجر الافتراق وسقط على وجهه إلى الأرض وسجد ثلاث مرات علامة تقديره وشكره ليوناثان الذي يهتم بحياته. كان الوداع حارًا، إذ بكى كل منهما صاحبه ليفترقا بلا تلاقٍ على هذه الأرض. زاد داود في بكائه، فقال له يوناثان: “اذهب بسلام لأننا كلينا قد حلفنا باسم الرب قائلين: الرب يكون بيني وبينك، وبين نسلي ونسلك إلى الأبد”، ثم افترقا حسب الجسد أما قلباهما فازدادا التحامًا وحبًا.
ما أعذب الحب وما أثمنه فإنه ليس ما يحطمه ولا حتى الموت! هو رصيدنا الأبدي، إذ يقول الرسول بولس: “المحبة لا تسقط أبدًا؛ وأما النبوات فستبطل والألسنة فستنتهي والعلم فسيبطل” (1 كو 13: 8).