تفسير سفر صموئيل الاول ٢٦ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح السادس والعشرون
داود يرفض قتل شاول

لم يكف شاول عن مطاردة داود، بالرغم من سقوطه تحت يده وقد عفا عنه ودخل في عهد (1 صم 24)، وداود لا يكف عن الصفح تاركًا قضيته في يد الله. لقد تمجد داود أكثر فأكثر إذ منع أبيشاي عن أن يمد يده ضد شاول، كما وبخَ أبنير رئيس الجيش لعدم سهره على حياة سيده، وطلب أن يعيد الرمح لشاول، وأخيرًا في اتضاع يقول لشاول: “ملك إسرائيل قد خرج ليفتش على برغوث واحد” [20].

داود يرفض قتل شاول   [1-12].

للمرة الثانية جاء الزيفيون إلى شاول للغدر بداود إذ كان مختفيًا في تل حخيلة مقابل القفر.

ظن بعض الدارسين أن الحادثة الواردة هنا هي تكرار لذات الحادثة السابقة الواردة في الأصحاح 24، لكن مع تشابه بعض الجوانب في الحادثتين فإنه يوجد اختلاف واضح بين تفاصيل الحادثتين  كما سبق أن رأينا في مقدمة السفر.

للمرة الثانية يغدر الزيفيون بداود، وقد قام شاول ونزل إلى البرية زيف ناسيًا ما قدمه له داود من لطف حين كان بين يديه في الكهف ولم يصنع به شرًا. نسى شاول كيف تصاغر في عيني نفسه أمام كرم داود واتضاعه وأدبه حتى صرخ وبكى طالبًا من داود أن يقطع معه عهدًا. الآن قد سحبه قلبه الشرير إلى الغدر كعادته، الأمر الذي لم يصدقه داود بسبب العهد الذي قطعاه معًا في ذات برية زيف. لم يهرب داود من البرية بل أرسل جواسيس للتأكيد إن كان شاول بالفعل قد جاء [4].

عندما تأكد داود أن شاول كسر العهد وجاء برجاله ليقتلوه، لم يخف بل في شجاعة نادرة أخذ معه أبيشاي بن صروية وأخيمالك الحثي. نظر داود إلى المكان الذي نزل فيه شاول، ورآه وهو على تل وإذ بشاول وحراسه نائمون عند المتراس وهو حاجز من الحجارة أو التراب أو الخشب يختفي وراءه الجنود عند الحرب للحماية من ضربات العدو.

كان شاول وجنده وراء المتراس لكن النعاس غلبهم؛ اتكلوا على القوة الزمنية لكنهم غُلبوا حتى من طبيعتهم فلم يقدر واحد منهم أن يسهر.

أبيشاي” هو ابن صروية أخت داود من الأم وليست من الأب، إذ يبدو أن امرأة يسى كانت أولاً امرأة ناحاش ملك عمون (2 صم 17: 25) ولدت له صروية وأبيجايل ثم أخذها يسى فولدت له داود وإخوته[190]. أما كلمة “أبيشاي” فتعني “الأب عطية” أو “أب أو مصدر العطية”[191].

قال أبيشاي لخاله داود: “قد حبس الله اليوم عدوك في يدك؛ فدعني الآن أضربه بالرمح إلى الأرض دفعه لا أثنى عليه” [8]. لقد حسب أبيشاي أن النعاس الذي حل بشاول ورجاله ليس مصادفة ولا عن حاجة جسدية طبيعية وإنما هو بسماح إلهي لكي يحبس الرب شاول في يده ليقتله. أما داود فأبى أن يمد يده على مسيح الرب الكاسر العهد المملوء حسدًا وبغضًا الطالب سفك دمه. لقد منع أبيشاي من أن يمد يده أيضًا عليه قائلاً له: “حيّ هو الرب، إن الرب سوف يضربه أو يأتي يومه فيموت أو ينزل إلى الحرب ويهلك.

حاشا لي من قبل الرب أن أمد يدي إلى مسيح الرب

والآن فخذ الرمح الذي عند رأسه وكوز الماء وهلم” [11].

نجح داود النبي في مقابلة عداوة شاول المتكررة باللطف، وقد مات شاول قتيلاً بيد غير يد داود، وتمتع داود بالنفس المتسعة بالحب ليكون مثالاً حيًا للحب. يقول القديس غريغوريوس: [يعلمنا الكتاب أن نوحًا كان بارًا، وإبراهيم مؤمنًا، وموسى وديعًا، ودانيال حكيمًا، ويوسف طاهرًا، وأيوب بلا لوم، وداود صاحب النفس الكبيرة[192]].

لقد نجح داود في ألا يغضب على شاول بل على الشيطان عدو الخير المثير للفتن. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [وقع شاول تحت قبضة داود، لكن داود لم يتحرك بالغضب. لم يرمه بالرمح إذ صار العدو بين يديه إنما انتقم من الشيطان[193]].

يقول القديس مار أفرام السرياني: [ليت الإنسان يظهر رحمة لمضطهدية كما فعل ابن يسى مع شاول[194]].

يرى القديس أمبروسيوس أن داود ضحى بأمانة إذ ترك عدوه الشرس حيًا ولم يمد يده عليه، ففي عينيه البر أفضل من الأمان الزمني. [على أي الأحوال لم يُعطِ لأمانه أولوية على بره؛ فعندما أُعطيت له فرصة أخرى لقتل الملك لم يستخدمها لتحقيق نوعٍ من الأمان عوض الخوف ولتحقيق التمتع بالمُلك عوض نفيه].

يتحدث القديس جيروم عن إصرار شاول على تعقب داود للخلاص منه وإصرار داود على الاحتمال بطول أناة، قائلاً: [“هل يغير الكوشي جلده أو النمر رقطه؟!” (إر 13: 23)… هذا ما يقوله داود (أيضًا في المزمور السابع) فكما أن الكوشي لا يقدر أن يغير جلده هكذا لم يستطع شاول أن يغير شخصيته. لقد سقط بين يديّ مرتين، وكان في استطاعتي أن أقتله. كان يمكنني أن أسفك دمه. لقد أردت أن أغلبه باللطف، لكن إرادته الشريرة بقيت غير منهزمة. كما لا يقدر الكوشي أن يغير جلده هكذا لا يستطيع شاول أن يغير خبثه. أخيرًا، ماذا يقول داود؟ “يارب إلهي إن كنت قد فعلت هذا (أخطأت)” (مز 7: 4)، أي إن كنت قد صنعت أي شر ضد شاول، إن وُجد ظلم في يدي، إن كافأت صديقي شرًا (مز 7: 4). لاحظ ماذا يقول؟ لقد كافأت الشر خيرًا بينما ردّ شاول الخير شرًا[195]].

انفتح قلب داود واتسع ليحتمل عداوة شاول بطول أناة فكان الرب يسنده، إذ قيل: “فأخذ داود الرمح وكوز الماء من عند رأس شاول وذهبا ولم يرَ ولا علم ولا انتبه أحد لأنهم جميعًا كانوا نيامًا لأن سبات الرب وقع عليهم” [12].

 

داود يوبخ أبنير     [13-16].

عبر داود إلى العبر ووقف على تل حخيلة في مكان مرتفع بالنسبة لموضع شاول، وكان بعيدًا عنه إذ لا يأتمنه. من هناك نادى داود أبنير رئيس الجيش والحارس لشاول؛ وبخه في أدب قائلاً: “أما تُجيب يا أبنير؟!” [24]. وكأنه يقول له: “أما يكفيك نومًا؟!”. كان الوقت فجرًا لذا انزعج أبنير ولم يعرف من هو هذا الذي يتجاسر ويوقظ الملك بصوته المرتفع، ويتكلم معه بهذه اللهجة. لذا سأله: “من أنت الذي يُنادي الملك؟” [24].

لم يكن ينتظر داود أن يكون أبنير نائمًا في وقت كهذا دون تدبير حراسة للملك. لهذا تحدث معه داود باستخفاف كمن هو ليس برجل ولا يستحق الحياة، هذا ما عناه داود بقوله:

“أما أنا رجل، ومن مثلك في إسرائيل؛

فلماذا لم تحرس سيدك الملك؟!

لأنه قد جاء واحد من الشعب لكي يهلك الملك سيدك.

ليس حسنًا هذا الأمر الذي علمت.

حيّ هو الرب إنكم أبناء موت أنتم، لأنكم لم تحافظوا على سيدكم على مسيح الرب.

فانظر الآن أين هو رمح الملك وكوز الماء الذي كان عند رأسه؟! [15-16].

لم يجد أبنير ما يجاوب به داود، غير أن شاول عرف صوت داود، إذ كان معتادًا عليه.

 

داود يعاتب شاول  [17-20].

تأثر شاول جدًا بتصرف داود ولكن كعادته يتأثر إلى حين، لذلك عندما قال له شاول: “ارجع يا ابني داود لأني لا أسيء إليك بعد من أجل أن نفسي كانت كريمة في عينيك اليوم” [21]، لم يقبل داود بل “ذهب داود في طريقه ورجع شاول إلى مكانه” [25].

تأثر شاول قائلاً: “أهذا صوتك يا ابني داود؟!” [7].

في أدب وبخه داود قائلاً:

“إنه صوتي يا سيدي الملك…

لماذا سيدي يسعى وراء عبده؟ لأني ماذا عملت؟ وأي شر بيدي؟

والآن فليسمع سيدي الملك كلام عبده.

فإن كان الرب قد أهاجك ضدي فِليَشْتَمَّ تقدمة،

وإن كانوا بنو الناس فليكونوا ملعونين أمام الرب لأنهم قد طردوني اليوم من الانضمام إلى نصيب الرب، قائلين: اذْهب أعبُد آلهة أخرى.

والآن لا يسقط دمي على الأرض أمام وجه الرب.

لأن ملك إسرائيل قد خرج ليفتش على برغوث واحد،

كما يُتَبعُ الحجل في الجبال” [17-20].

تكشف هذه الإجابة عن أعماق قلب داود النقي من جهات كثيرة منها:

أ. لم تُفقِد مقاومة شاول المستمرة اتضاعَ داود أمامه، إذ يدعوه “سيدي الملك”، بينما يدعو نفسه “برغوثًا واحدًا”… الغالب المنتصر يدعو نفسه “برغوثًا واحدًا” بينما يدعو المنهزم الساقط: “سيدي”! اتضاع داود هو سر قوته! كان النجاح يزيده اتضاعًا، والاتضاع يهبه نجاحًا مستمرًا!

شبّه خروج شاول وراء لقتله كصياد يبذل كل الجهد وسط الجبال ليصطاد  حجلاً (طائرًا صغيرًا).

ب. استطاع داود أن يقول بشجاعة: “أي شر بيدي؟”… هكذا ليتنا لا نسقط في شر حتى يمكننا أن نتكلم بروح الغلبة في شجاعة، إذ يحرم الشر الإنسان من الشجاعة.

ج. قدم داود لشاول احتمالين: الأول أن الله سمح بالهياج عليه كتأديب لداود عن خطايا ارتكبها، فهو مستعد أن يقدم تقدمة “ذبيحة خطية” معترفًا بضعفاته وخطاياه، والثاني أن أناسًا أثاروا ضده، هؤلاء يجلبون اللعنة على أنفسهم لأنهم يوشون به.

د. بقوله “قد طردوني اليوم من الانضمام إلى نصيب الرب، قائلين: “اذهب أعبد آلهة أخرى” كشف عن مرارة نفسه الداخلية بسبب حرمانه من الشركة مع شعبه في الصلاة والتسبيح وكل صنوف العبادة. الذين يوشون به لدي شاول يريدون أن يدفعوا به إلى حرمان من شركة الجماعة المقدسة، وكأنهم يطلبون منه أن يذهب إلى شعوب وثنية يمارسون عبادتهم للآلهة الغريبة.

هـ. آمن داود بعدل الله الذي يسمع للصرخات الخفية الداخلية، إذ يقول: “ولا يسقط دمي إلى الأرض أمام وجه الرب”. فإن قُتل يصرخ دمه قدام الرب كدم هابيل (تك 4: 10).

 

شاول ينهار أمام داود  [21-25].

انهار شاول أمام داود، إذ قال: “قد أخطأت؛ ارجع يا ابني داود لأني لا أسئ إليك بعد من أجل أن نفسي كانت كريمة في عينيك اليوم. هوذا قد حمقت وضللت كثيرًا جدًا” [21].

تصاغر شاول جدًا في عيني نفسه، فقد أعطى ابنته ميكال زوجة داود لآخر، وصار يتعقبه ليقتله بينما يرد داود هذا الشر بالخير، مما أخجل شاول جدًا، فصار يكرر تعبير: “يا ابني داود”، مدركًا أنه ينال بتصرفاته نعمة ونجاحًا. “مبارك أنت يا ابني داود فإنك تفعل وتقدر”.

ارجع داود لشاول رمح المُلك الذي يمثل الصولجان وتقبله شاول بروح الخنوع والمذلة.

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى