تفسير سفر صموئيل الاول ٢٧ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح السابع والعشرون
داود يلتجيء إلى صقلغ

تكرار هجوم شاول الملك على داود حتى بعد إقامة عهود بينهما أفقد داود كل ثقة في شاول، فبدأ يفكر جديًا في الالتجاء إلى بلاد غريبة خاصة أنه صار ملتزمًا بمرأتيه أخينوعم اليرزاعيلية وأبيجايل امرأة نابال الكراملية [3] وربما صار له أولاد، كما ارتبط رجاله الستمائة بأسرهم فصارت إمكانية تركهم واختفائهم في المغاير والكهوف أصعب مما كانوا قبلاً. كان صعبًا على نفسية داود أن يفكر هكذا، الأمر الذي عبّر عنه في عتابه مع شاول: “وقد طردوني اليوم من الانضمام إلى نصيب الرب، قائلين: اذهب اعبد آلهة أخرى” (26: 19). لم يكن سهلاً عليه وقد عاش كل سنواته الماضية يغار على شعب الله أن يصير طريدًا، يُحرم حتى من الاشتراك في العبادة الجماعية لله.

الآن – ربما في ضعف بشري ودون استشارة الرب – اضطر إلى الالتجاء إلى أخيش ملك جت ليسمح له مع رجاله أن يعيشوا في قرية صقلغ، حتى ييأس شاول من التفتيش عنه [1].

هروب داود إلى جت     [1-4].

إن كان داود يحسب أحد أبطال الإيمان العظماء لكنه في هذا الأصحاح يظهر في لحظات ضعف إيمان جلبت عليه متاعب كثيرة. كثيرًا ما يقدم لنا الكتاب المقدس داود لنقتدي به في عظم إيمانه، أما هنا فيعلمنا أن لكل إنسان لحظات ضعف فيها يسقط لا ليستسلم في يأس وإنما ليقوم بالرغم مما ترتب على سقوطه من من متاعب داخلية وخارجية.

لقد فكر داود في أعماقه أن يفلت مع أسرته ورجاله إلى أرض الفلسطينيين فييأس شاول منه ولا يفتش عليه، فينجو، وأخذ قراره بالذهاب إلى أخيش جت [3]. لعل أخيش بن معوك المذكور هنا هو خليفة أخيش الوارد في (21: 10). في المرة السابقة شك الملك في أمره لأنه جاء بمفرده يتجسس ويخطط ضده، أما في هذه المرة فجاء مع أسرته وستمائة جندي محارب بأسرهم، لم يكون داود سيء النية إذ تصعب عليه الحركة مع الأسرة، لذا حسب قوة ينتفع بها كحليف له، خاصة أن مطاردة شاول لداود صارت علانية ومتكررة عرفتها الأمم المحيطة، مما طمأن قلب أخيش من جهة داود ورجاله.

نعود إلى داود فنقول إن من حقه ألا يثق في وعد شاول بأنه لا يسيء إليه (26: 21)، لكن لم يكن من اللائِق أن يخاف ويهرب في ضعف إيمان وقد عاين بنفسه واختبر معاملات الله له، هذا الذي وعده بالمُلك، خاصة أن يوناثان وأباه تأكدا أنه يرث المُلك وأخبراه بهذا. لقد كانت الظروف المحيطة ببطرس توحي بالاضطراب، وإذ ضعف في الإيمان بدأ يغرق، لذا “مدَّ يسوع يده وأمسك به وقال له: يا قليل الإيمان لماذا شككت؟” (مت 14: 31). لقد طلب الرسل منه: “زد إيماننا” (لو 17: 5).

ضعف الإيمان دفع داود إلى أخيش ملك جت، ليجتاز مرارة المعصرة (كلمة جت في رأي القديس أغسطينوس تعني المعصرة[196]) أما الإيمان فيرتفع بالإنسان الروحي لتعاين أعماقه الأمور غير المنظورة، ويسمو قلبه إلى ما فوق المنظورات (عب 11: 13-16).

v     الإيمان يكمل كل ما نقص في معرفتنا، ويهبنا كل ما هو غير منظور. هكذا يقول الرسول بولس: “بالإيمان تشدد (إبراهيم) كأنه يرى ما لا يُرى” (عب 11: 27).

القديس غريغوريوس أسقف نيصص[197]

نسى داود وصية جاد النبي: “لا تقم في الحصن، اذهب وادخل أرض يهوذا” (22: 5)، حتى لا يعتمد على ذراع بشري وحصون أرضية بل يدخل إلى الشعب يشاركهم تعبهم من شاول ومذلتهم. الآن يترك حدود يهوذا وينطلق إلى حصون بشرية في ضعف إيمان!

 

سكناه في صقلع           [5-7].

رحب أخيش بداود إذ تأكد أن شاول يطارد داود بلا هوادة، فقد اطمأن إلى أن الأخير لن يثق بعد في شاول ولن يتحالف معه. قبوله داود يكسر شوكة شاول الملك، كما ينتفع من إمكانيات داود ورجاله. أما داود فلم يستحسن أن يسكن في جت مع أخيش، ذلك لأن رجاله وعائلاتهم كثيرون تضيق بهم المدينة من جهة المسكن والطعام، ومن جهة أخرى لم يكن داود يقصد خدمة أخيش إذ هو مرتبط قلبيًا بشعبه ولذلك قال لأخيش: “إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فليعطوني مكانًا في إحدى قرى الحقل فأسكن هناك” [5]؛ بهذا يكون له شيء من الحرية خاصة في العبادة.

أحد الأسباب الأخرى لطلبه هذا هو خبرته مع بلاط شاول الملكي، فقد خشى أن تتكرر نفس المأساة متى نجح في طريقه فيحسده أخيش أو بعض رجاله. أيضًا ببعده عن جت لا يحتك هو ورجاله بالاحتفالات الشعبية الخاصة بالعبادة الوثنية، إذ كانت جت أحد المركز العظمى لعبادة آلهة الفلسطينيين.

في اتضاع وانسحاق قدم داود طلبه هذا قائلاً: “ولماذا يسكن عبدك في مدينة المملكة معك (يضايقك ويزحم مدينتك)؟.

استجاب الملك لطلبه وأعطاه صقلغ ليسكن فيها مع رجاله.

صقلغ“: مدينة في الجنوب الأقصى من يهوذا (يش 150: 31)، أعطيت لشمعون (يش 19: 5، أي 4: 30)؛ في أيام شاول كانت في أيدي الفلسطينيين… وفيما بعد صارت ليهوذا [6]، وسُكنت بعد السبي. يُرجح أنها تل الخويلفة، تبعد حوالي 10 أميال شرقي تل الشريعة و10 أميال شمال بئر سبع[198].

 

غزوه للجشوريين وغيرهم [8-12].

إقامة داود ورجاله بعائلاتهم بعيدًا عن جت أعطى الفرصة لداود أن يقودهم في شيء من الحرية ويقوم بتنظيمهم، لذا بدأ يمارس بعض حملات غزو ضد الوثنيين من جشوريين وجرزيين وعمالقة، وعرفوا بالحياة العنيفة واللصوصية بجانب الفساد والرجاسات. كانت فرصة لتطهير الأرض حتى لا يتسلل الفساد في أبشع صوره إلى الشعب المقدس ويفسدوا الخميرة النقية.

ربما كان الجشوريون والجرزيون فروعًا من العمالقة[199] الذين كانوا أشبه بجماعات من اللصوص لا عمل لهم إلا السلب والنهب مع ممارسة الرجسات، يشيرون إلى الخطايا ويرمزون إلى عدو الخير إبليس؛ كانوا يعيشون في جنوب فلسطين. كانت الوصية لشاول: “قد افتقدت ما عمل عماليق بإسرائيل حين وقف له في الطريق عند صعوده من مصر، فالآن اذهب واضرب عماليق وحرموا كل ما له ولا تعفُ عنهم بل اقتل رجلاً وامرأة، طفلاً رضيعًا، بقرًا وغنمًا، جملاً وحمارًا” (15: 3). رمز عماليق لعدو الخير الذي يقف في طريق صعودنا من هذا العالم إلى كنعان السماوية ليعوقنا عن التمتع بالحياة الأبدية، وكان تحريمه رمزًا لنزع كل أثر للخطية فينا، خطايا النفس (كل رجل) والجسد (كل امرأة)، كل فكر مهما كان مبتدئًا (كل طفل ورضيع) الخ…

لقد كسر شاول الوصية وجاء بأجاج ملك العمالقة حيًا كما ترك جياد الغنم والبقر (1 صم 15)، أما داود فحقق كلمات صموئيل لشاول: “وضرب داود الأرض ولم يستبقِ رجلاً ولا امرأة” [9]، وإذ لم تكن الوصية موجهة إليه لذلك أخذ الغنيمة ليعيش بجزء منها ويعطي ملك أخيش الجزء الآخر كنوع من الجزية مقابل سكناه في بلاده واستغلاله لصقلغ على حدود الفلسطينيين.

 كان من ثمرة التجاء داود إلى الغرباء عوض بقائه في أرض يهوذا ليس فقط التزامه بتقديم جزء من الغنيمة كجزية لأخيش ملك جت وإنما أيضًا التجاؤه إلى المواربة وإخفاء الحقيقة. عندما قال له أخيش: “إذًا لم تغزو اليوم” [11]، يقصد التساؤل: هل غزوتم اليوم؟ ومن غزوتم؟ لم يقل له الحقيقة بل قال: “بلى. على جنوبي يهوذا وجنوبي اليرحمئيليين وجنوبي القينيين”. لقد تظاهر أنه غزا جنوب يهوذا، هاجم اليرحمئيليين (من نسل يهوذا) والقينيين (الذين غزاهم كانوا جيران القينيين)، لذلك قال أخيش عن داود: “وقد صار مكروهًا لدي شعبه إسرائيل فيكون لي عبدًا إلى الأبد” [12].

اليرحمئيليون[200]: ينتسبون إلى “يرحمئيل” أي “الله يرحم” وهو ابن حصرون بن فارص ابن يهوذا (1 أي 2: 4 الخ)؛ مؤخرًا حُسبوا من نسل يهوذا (1 أي 2)، سكنوا جنوب اليهودية.

القينيون[201]: سبق الحديث عنهم في (15: 6)، يُظن أنهم كانوا حدادين لإسرائيل. كانوا من أحلاف إسرائيل ولا سيما يهوذا. لهم علاقة بالمديانيين وينتسب إليهم يثرون حمو موسى كاهن مديان، أحصوا مع سبط يهوذا في (1 أي 2: 55). ينتسب قسم منهم إلى حمة أبي بيت ركاب. وقد فضَّلوا سكني الخيام حتى في العصر الملكي المتأخر (إر 35: 6-10) محتفظين بوصية أبيهم.

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى