تفسير سفر زكريا ٢ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثاني
قياس أورشليم الجديدة

 إن كان في الرؤيا الأولى قد ظهر المخلص في الظل يعد طريق الخلاص للمؤمنين، وفى الرؤيا الثانية ظهر إنجيل المسيح كصناع أربعة لتحطيم قوات الشر الروحية، ففي الرؤيا الثالثة يكشف لنا عن خطته للخلاص من السبي الحقيقي بإقامة أورشليم الجديدة الحرة بمقاييس روحية تحمل سمات الساكن فيها “الإله المتجسد”.

  1. قياس أورشليم ومجدها           [1-5].
  2. هروبها من بابل                  [6-9].
  3. أورشليم والتجسد                 [10-13].
  4. قياس أورشليم ومجدها:

 يتقدم السيد المسيح نفسه كرجل بيده حبل قياس ليبنى بيته فينا بروحه القدوس حتى يكون مطابقًا لبيته السماوي الذي رآه القديس يوحنا المعمدان، أورشليم السماوية (رؤ 11: 1، 2؛ 15: 21 الخ).

يقول النبي “رفعت عيني ونظرت” مكررًا هذه العبارة في أكثر من موضع (1: 18 ؛ 2: 1 ؛ 5: 1 ؛ 6: 1). فإذ يعلن هذا السفر الفكر الإنجيلي الخاص بخلاص العالم لم يكن ممكنًا لزكريا النبي أن يدركه ما لم يرفع الله عينيه الداخلتين بروح النبوة ليرى ويدرك فكر الله من نحو الإنسان. أقول إنها دعوة موجهة إلينا جميعًا أن نرفع أعيننا بالروح القدس حتى لا تقف مداركنا عند حدود الحرف إنما ندخل إلى أسرار الله المخفية ونتطلع إلى أعماله الخلاصية، الأمور التي لا يمكن اختبارها بعينين منطمستين في تراب هذا العالم.

رأى “وإذا برجل بيده حبل قياس” [1]. لعل هذا الرجل هو كلمة الله الذي من أجلنا قد صار إنسانًا. إنه ذاك الذي سبق فرآه راكبًا على فرس أحمر واقفًا بين الآس الذي في ظل (1: 8)، قد جاء ليخطط مباني كنيسته المقدسة. يقول القديس ديديموس الضرير: [هو الرب المخلص الذي يشير إليه زكريا النبي بقوله: “هوذا الرجل الغصن الشرق إسمه، ومن مكانه ينبت ويبنى هيكل الرب” (6: 12 الترجمة السبعينية). إنه النور الحقيقي الذي يتحدث عنه يوحنا المعمدان: “هذا هو الذي قلت عنه أن الذي يأتى بعدي صار قدامي لأنه كان قدامي” (يو 1: 15). هو باني أورشليم، قد رسم الأساس ووضعه كمهندس معماري. إذ تهدمت أورشليم بواسطة الأعداء الذين حاصروها يقيس طولها وعرضها لكي يضع الأساسات التي تُقام عليها الأسوار في المواضع المناسبة بترتيب وتنسيق. ويكتب القديس بولس الرسول عن هذه المدينة التي كان ينتظرها كل الذين أرضوا الرب بإيمانهم “التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله ” (عب 10: 11). كما يقول حزقيال النبي أيضًا: “وإذا برجل منظره كمنظر النحاس وبيده خيط كتان وقصبة القياس وهو واقف بالباب”  (حز 40: 3)].

 في سفر الرؤيا نرى الهيكل المقدس والذبح يُقاسان شبه عصا، أما الدار الخارجية فتطرح خارجًا ولا تقاس (رؤ 11: 1، 2)، وكأن ربنا يسوع يود أن يطمئنا أن أولاد الله الحقيقيين الذين تقدسوا له محفوظون ومعروفون لديه أما الذين هم خارج الإيمان فهم خارج القياس لا يستحقون أن يكونوا موضوع معرفته… لهذا يوبخهم قائلاً: “لا أعرفكم من أين أنتم” (لو 13: 27).

أما قصبة القياس فذهبية (رؤ 21: 15) أي سماوية، لأن الأمور الروحية والسماوية لا تقاس إلاَّ بما هو روحي[12].

 ما هو حبل القياس أو قصبة القياس الروحية التي يمسك بها مهندسنا المعماري لإقامة أورشليم المقدسة إلاَّ الصليب المقدس الذي يتكون من عارضتين: طولية وعرضية؟! بهذا الصليب يحدد أبعاد مدينته المقدسة فينا، قائلاً: “لأقيس أورشليم لأرى كم عرضها وكم طولها” [2]. على عارضة خشبه الصليب العرضية بسط السيد المسيح يديه ليضم بالواحدة اليهود وبالأخرى الأمم ليكون الكل معًا واحد فيه. وكمايقول القديس إيريناؤس: [علق على الشجرة ذاك الذي يجمع الكل فيه[13]]. والبابا أثناسيوس: [كان لائقًا بالرب أن يبسط يديه… حتى يضم بالواحدة الشعب القديم وبالأخرى الأمم ويوحدهما معًا فيه[14]]. هذا هو عرض أورشليم الجديدة، إذ يليق بالمؤمن أن يحمل سمة مخلصه المصلوب فيبسط بالحب يديه ليضم في قلبه كل البشرية إخوة له. أما بالنسبة للخشبة الطولية فسمر عليها جسد الرب المرتفع فوق الأرض، محققًا وعده “وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ الجميع” (يو 12: 32)، عاملاً المصالحة بين الآب والإنسان فى جسده المصلوب. وكما يقول القديس هيبوليتس: [الصليب هو سلم يعقوب ؛ هذه الشجرة ذات الأربعاء السماوية ارتفعت من الأرض حتى السماء، أقامت ذاتها غرسًا أبديًا بين السماء والأرض، لكي ترفع المسكونة]. هذا هو طول أورشليم الجديدة حيث يليق بنا أن نُسمر معه على الخشبه لنقبل انفتاح السماء على الأرض وارتفاع الأرض إلى السماء. وكأن أبعاد أورشليمنا الجديدة هي فى عارضها اتساع قلبنا لكل إنسان، وطولها هو انفتاحه على السماء، بمعنى آخر هو ممارسة وصية الحب في المسيح يسوع ربنا، حب للبشرية كلها في الله السماوي.

 يكمل زكريا النبي حديثه بالقول: “وإذا بالملاك الذي كلمني قد خرج، وخرج ملاك آخر للقائه. فقال له: إجرِ وكلم هذا الغلام قائلاً كالأعراء تسكن أورشليم من كثرة الناس والبهائم فيها. وأنا يقول الرب أكون لها سور نارٍ من حولها وأكون مجدًا في وسطها” [4-5].

 يالها من رؤيا تبهج القلب إذ تكشف عن عمل الله معنا!

أولاً: إرساله الملائكة، فيخرج ملاك ووراءه ملاك، أما موضوع حديثهما فهو أورشليمنا، مسكن الله مع الناس. وفى سفر الرؤيا نرى الملائكة في تحرك مستمر معلنين شوقهم لليوم الأخير أو الحصاد (رؤ 14: 15-20)، مشتاقين أن يروا العروس وقد تكللت بالمجد مع عريسها.

 لعل الملاك الأول يشير إلى السمائيين وقد انتظروا تحقيق النبوات ليفرحوا بخلاص الإنسان ورجوعه إلى شركته معهم فى ليتورجياتهم وتسابيحهم الله، أما الملاك الثاني فيُشير إليهم وقد خرجوا فى العهد الجديد يفرحون بتحقيق ما سبق لهم انتظاره.

ثانيًا: غالبًا ما يقصد بالغلام هنا [4] زكريا النبي أو المؤمن بصفة عامة. فإن كان السيد المسيح قد شارك البشرية فصار جنينًا فطفلاً وصبيًا وشابًا ورجلاً لكنه لم يصر شيخًا حسب الجسد حتى تبقى عروسه دومًا في شباب متجدد روحيًا بلا شيخوخة العجز والضعف، فيترنم كل عضو فيها قائلاً: “وإن كان إنساننا الخارجي يفنى فالدخل يتجدد يومًا فيومًا” (2 كو 4: 16)، “وأما منتظرو الرب فيجددون قوة، يرفعون أجنحة كالنسور، يركضون ولا يتبعون، يمشون ولا يعيون” (إش 40: 31)، “يتجدد مثل النسر شبابك” (مز 103: 5).

 يقول القديس ديديموس الضرير: [الإنسان القديس في نظر ملائكة الله شاب، خاصة عندما يلبس الإنسان الجديد، فيمكن أن ينطبق عليه القول: “الولد أيضًا يعرف بأفعاله، هل عمله نقى ومستقيم؟!” (أم 20: 11)… ويقول يوحنا الرسول فر رسالته عن الذين يسهمون في الفضيلة: “كتبت إليكم أيهما الأحداث لأنكم أقوياء وكلمة الله ثابتة فيكم وقد غلبتم الشر” (1 يو 2: 14). فمن كان شابًا في الروح يتلق تعاليم الملاك الذي يخرج ليكشف له الإعلانات التي نراها في بقية النبوة”.

ثالثًا: يكشف لنا عن أبعاد الكنيسة الجديدة، قائلاً: “كالأعراء تُسكن أورشليم من كثرة الناس والبهائم فيها”. إنها تصير كالأعراء التي لا يحدها سور مادي بسبب إكتظاظها بالناس والبهائم، إذ هي مدينة الحب الذي بلا حدود. تحمل النفس في داخلها ملكوت الله المتسع بالحب للجميع بفرح داخلي مجيد. أما اكتظاظها بالناس والبهائم فتشير إلى تقديس النفس بطاقات غير محدودة وتقديس الجسد الذي كان حيوانيًا بإمكانيات جديدة بغير حدود. وكأن أورشليمنا الداخلية تتسع لكل إنسان، خلال تقديس النفس والجسد معًا بكل إمكانياتهما ومواهبهما.

رابعًا: إن كانت أورشليمنا الداخلية كالأعراء لا تحدها أسوار مادية، لكن لها سور فريد. “وأنا يقول الرب أكون لها سور نارٍ من حولها” [5]. هذا هو السور الناري أرسله لنا الابن الوحيد الجنس من عند الآب بعد صعوده، فحلّ على التلاميذ على شكل ألسنة نارية في يوم العنصرة ليحوط الكنيسة من كل جانب يحفظها من كل سهم شرير ويلهبها بحرارة الروح المستمر. لهذا يسبح المؤمن قائلاً: “بإلهي تسوّرت أسوارًا” (مز 18: 29)، “الرب حصن حياتي” (مز 27: 1) وكما يقول القديس جيروم: [لقد حاصرني الأعداء فأنت إذن حصني[15].] لقد صوب الأعداء سهامهم النارية نحو قلبي، لكن النار الإلهية تحوط بيَّ كسور لتلتهم نار الشر وتبيدها كما التهمت عصا موسى التي صارت حية حيات السحرة! هكذا عوض نار الشر القاتلة يلتهب بالنار الإلهية المقدسة.

 الله سور نار حولنا يلهب قلبنا بنار الحب فلا نصير كمن قيل عنهم “تبرد محبة الكثيرين” (مت 24: 12).

إذن بهذا السور الإلهي لا يطمع العدو فينا قائلاً: “إني أصعد على أرض أعراء، آتي الهادئين الساكنين فى أمن، كلهم ساكنون بغير سور وليس لهم عارضة ولا مصاريع، لسلب السلب ولغنم الغنيمة…” (حز 38: 11-12).

خامسًا: يقول الرب “وأكون مجدًا في وسطها” [5]. إن كان السيد المسيح هو اللؤلؤة الكثيرة الثمن التى نقتنيها فينا، فبنيرانه الإلهية المحيطة بنا لا يقدر أحد أن يتفرس في هذه اللؤلؤة المتلألئة داخلنا من أجل جمالها الفائق وإشعاعاتها التى لا يمكن التطلع إليها. يصير بهاؤه بهاءنا، ومجده لحسابنا، قائلاً لنا كما لعروسه: “وجملت جدًا جدًا فصلحت لمملكة، وخرج لكِ اسم في الأمم لجمالك لأنه كان كاملاً ببهائي الذي جعلته عليكِ يقول السيد الرب” (حز 16: 13-14).

  1. هروبها من بابل:

 إن كان الله قد قام بنفسه بقياس المدينة وأحاطها بروحه القدوس سور نار وتجلى في داخلها بمجده، هذا كله يدفعها بالأكثر إلى الجهاد هاربة من كل عثرة حتى لا تفقد عمل الله فيها. لهذا يناديها “يا يا إهربوا من أرض الشمال” [6].

 من الجانب التاريخي الحرفي، هي دعوة إلهية للذين تمسكوا بأرض السبي بسبب مصالحهم الخاصة، لذا يدعوهم بالهروب من بابل “أرض الشمال” إلى أرض الموعد؛ وهنا لا يذكر اسمًا أو لقبًا لهم، لأنهم بسبب تمسكهم بالحياة الذليلة صاروا غير مستحقين لمعرفة الله بل يُدعون “يا يا” كمن هم مجهولين! ولكن من الجانب الروحي فالدعوة قائمة ومستمرة عبر العصور لكل إنسان. أما تكراره حرف النداء “يا” فلأن الدعوة موجهه إلى اليهود كما إلى الأمم أن يتركوا أرض السبي الشيطاني حيث تهب ريح الشمال الباردة (حكمة يشوع 43: 20) تطفئ لهيب الحب في القلب، ويذهبوا لا إلى أرض أخرى بل إلى السماء الروح خلال نيران الروح القدس الذي يرفعها عن أرض الشمال وينطلق بها من مجد إلى مجد ليدخل بها إلى حضن الآب في المسيح يسوع ربنا! إنها دعوة مكررة تضم الغني كما الفقير، الرجل كما المرأة ليتركوا أرض الشر وترابه ووحله ويعودوا بالروح القدس إلى المقدسات الإلهية. هذه الدعوة كما يقول القديس ديديموس الضرير معناها: [“اهربوا من الشر”، “حد عن الشر واصنع الخير” (مز 34: 14) ، وأيضًا: “اغتسلوا تنقلوا اعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني، كفوا عن فعل الشر” (إش 1: 16)]. الأمر الذي يتحقق بامتناعنا عن كل أنواع الشر والتمسك بما هو ممدوح كوصية الرسول بولس:” امتحنوا كل شيء وتمسكوا بالحسن، امتنعوا عن كل شبه شر” (1 تس 5: 21- 22). فإن من يتطلع إلى الخير راغبًا فيه ومكملاً إياه يهرب من الشر”.

إن كان الله قد سمح بتفريقهم كرياح السماء الأربع بسبب شرهم، فإنه يدعوهم بترك مواضعهم والانطلاق إلى صهيون لتمتع بالنجاه (الخلاص)، قائلاً: “فإني قد فرقتكم كرياح السماء الأربع يقول الرب، تنجى يا صهيون الساكنة في بنت بابل” [6-7]. ويلاحظ في حديثه هنا الآتي:

أولاً: الله يُريدنا أن ننطلق من بابل التي تعني البلبلة والاضطراب لندخل صهيون حيث السلام الداخلي وحياة الفرح والتسبيح. ويقول القديس ديديموس: [مكان الخلاص، هو صهيون المقدسة فيها يمكن أن يخلص من كانوا يسكنوا فى بنت بابل سابقًا… وكما أن أسم “بابل” يعنى (بلبلة) فكل روحه مضطربة فهو بابلي، لذا يلزمنا أن نتخلص من هذا الحال إن كنا نرغب في الرجوع إلى صهيون، عندئذ ننشد التسابيح ونضرب على القيثارات تكريمًا لله، فهناك يليق بنا أن نرتل الله ونعزف له، كما هو مكتوب:” لك ينبغ التسبيح يا الله في صهيون، ولك يوفي النذر” (مز 65: 1)، وأيضًا: “رنموا للرب الساكن في صهيون، اخبروا بين الشعوب بأفعاله” (مز 9: 11). يستحيل علينا أن نسبح الله ونعزف له ونحن قاطنون في بنت بابل في الشمال، لهذا يصرخ الروح القدس بملء الصوت: يايا اهربوا من أرض الشمال يقول الرب، لتحتموا في صهيون يا سكان بنت بابل فإني أجمعكم من الأربع رياح، أي من أقاصي الأرض كلها].

إذن لنهرب من بلبلة الخطية ونلجأ إلى سلام صهيون حيث الحصن الإلهي فترتفع[16] النفس لتوجد في بر الله تنعم بسلام الحق. وكما يقول القديس جيروم: [مادمنا في حالة النعمة تكون نفسنا في سلام، لكن إذ نبدأ باللعب مع الخطية تصير نفسنا في اضطراب كقارب تلطمه الأمواج[17]].

ثانيًا: ما هي الرياح الأربع التي سمح الله بها لتفريقهم عن أورشليم إلاَّ الأرواح الشريرة التي يسمح الله أن يتركها لتأديب من يسلم نفسه بنفسه لها. لا نعجب من هذا فقد حكم الرسول بولس على الشاب الذي أخطأ مع امرأة أبيه “أن يُسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع” (1 كو 5: 5). فإن كانت محبة الله تحمينا من سلطان الشرير، لكن عنايته أحيانًا تسمح بتسليمنا لمرارة هذا العدو الذي سلمنا أنفسنا بأنفسنا له وقبلناه أبًا لنا عوض الله أبينا (يو 8: 44)، عندئذ ندرك في مرارة حاجتنا إلى أبوة الله الحقة.

وربما يقصد بالرياح هنا التعاليم الغريبة التي تهز النفس لتقصفها، هذه التي لم تستطع أن تؤثر على القديس يوحنا المعمدان، إذ يقول عنه السيد المسيح: “ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا، أقصبة تحركها الريح” (مت 11: 7). وكما يعلق القديس هيلارى أسقف بواتيية: [هل ذهبتم لتنظروا إنسانًا فارغًا من معرفة الله، يستجيب لنسمات كل روح دنس؟[18]]. وكما يعلق القديس أغسطينوس: [بالتأكيد لم يكن يوحنا قصبة تحركها الريح، لأنه لم يكن محمولاً بكل ريح تعليم[19]]. وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [(الرياح الأربعة) يمكن أن تكون التيارات المختلفة للتعاليم، هذه التي تجعل السالكين بغير لياقة في الفكر، فتكون لهم أفكار شريرة وأعمال باطلة، يتأرجحون هنا وهناك. يقول الرسول بولس: “كي لا نكون في ما بعد أطفالاً مضطربين ومحمولين بكل ريح تعليم بحيلة الناس بمكر إلى مكيدة الضلال” (أف 4: 14)].

وربما يقصد بالرياح الأربعة التجارب والضيقات التي تجرف النفوس المبينة على الرمل لا الصخر وتحطمها.

ولعل الرياح الأربعة أيضًا تشير إلى محبة العالم وشهوات الجسد التي تهتز النفس، إذ رأينا أن رقم (4) يشير إلى هذه الأمور في تفسيرنا للقرون الأربعة[20].

ثالثًا: لا يكفى الهروب من بابل بل يلزمنا الهروب إلى صهيون، بمعنى أنه لا يكفى الهروب من بلبلة الشر بل يليق بنا التحصن (صهيون) فى بر المسيح ربنا. ففي إيجابية العمل يقول القديس بولس: “بل قد أتيتم إلى جبل صهيون وإلى مدينة الله الحيّ أورشليم السماوية وإلى ربوات هم محفل ملائكة وكنيسة أبكار مكتوبين في السموات وإلى الله ديان الجميع وإلى أرواح أبرار مكملين وإلى وسيط العهد الجديد يسوع وإلى دم رش يتكلم أفضل من هابيل” (عب 12: 22-24). هكذا ينطلق بنا ربنا يسوع بدمه من الشر ليدخل بنا إلى صهيون فنحيا على مستوى سماوي.

أخيرًا، إذ يردنا الرب من سبينا الشيطاني ويدخل بنا إلى ملكوته الإلهي يعود فيعاقب إبليس الذي أذلنا، إذ يقول: “بعد المجد أرسلني إلى الأمم الذين سلبوكم، لأنه من يمسكم يمس حدقة عينه. لأني هأنذا أحرك يدي عليهم فيكونون سلبًا لعبيدهم، فتعلمون أن رب الجنود قد أرسلني” [8-9].

في دراستنا لبعض كتب الأنبياء لاحظنا أن الله الذي يستخدم الأمم للتأديب إذ تنتفخ الأمم على شعبه يعود فيعاقب هذه الأمم[21].

هنا يقول “بعد المجد”، ربما قصد بعد الصليب حيث رد الإنسان عن السبي فتمجد الله فيه، وفى نفس الوقت ردّ لإبليس شره بتحطيم سلطانه. العدو الذي أذل أولاد الله وسلبهم صار بالمسيح يسوع تحت المذلة بلا سلطان عليهم (كو 2: 14- 15).

ماذا تعنى “يمس حدقة عينه” إبليس الذي مدّ يده ألينا وأفقدنا بصيرتنا الروحية يرتد عمله عليه فيزداد عماه يومًا فيوم، وكأنه بشره المتزايد يمس حدقة عينه حتى يمتلئ كأس عماه! وما نقول عن إبليس نقوله عن الإنسان، فبصنعه الشر لأخيه إنما يمس حدقة عيني نفسه فيفقد البصيرة الروحية، وكأنه فيما هو يؤذى جسد أخيه أو ممتلكاته أو سمعته إذا به يصوب ضرباته على عيني نفسه الداخليتين.

لا يرتد الشر عن فقدان البصيرة الداخلية فحسب وإنما أيضًا يمس كل كيانه بقول الرب: “يكونون سلبًا لعبيدهم” ففيما يظن أنه يحطم أخواته إذا بعبيده يسلبونه هو. من هم هؤلاء العبيد إلاَّ أحاسيس الجسد وعواطفه التي تصير بلا ضابط بسبب شره فتفقده كل بركة فيه. هذا ما نلاحظه عمليًا حينما نثور على إخوتنا تثور فينا شهوات الجسد داخلنا ونفقد كل عفة وانضباط، لأنه بثورتنا على إخوتنا نفقد سيطرتنا على أعماقنا وتتخلى نعمة الله الواهبة العفة والطهارة!

  1. أورشليم والتجسد:

إن كانت هذه الرؤيا تملأ النفس بهجة حيث يظهر السيد المسيح كرجل بيده حبل قياس ليقيس فينا أورشليمه السماوية الجديدة فإن سر الفرح الحقيقي سكناه فيها، إذ يقول: “ترنمي وافرحي يا بنت صهيون لأني هأنذا آتي وأسكن فى وسطكِ يقول الرب” [10]. يقول الأب يوحنا من كرونستادت: [إن سمة الخطية الاضطراب والغم أما سمة بر المسيح فهي السلام الداخلي والفرح. هكذا علق اليهود قيثارتهم على الصفصاف في أرض السبي إذ ملأ الغم حياتهم قائلين: “كيف نسبح تسبحة الرب في أرض غريبة؟!” (مز 136). وبعودتهم إلى صهيون عاد إليهم الفرح وتحولت حياتهم إلى تسبيح. يقول القديس ديديموس الضرير: [كما أنه في زمن السبي كان النحيب والأنين عند العبرانيين لأن الرب قد ابتعد عن المسببين هكذا عند عودتهم إلى الأم الروحية المدعوة صهيون يهبهم أمرًا بالترنم والفرح (ترنمي وأفرحي)، لأن الرب أتى وسكن في وسطها، فقد أقيم الهيكل فعلاً وجعل الله مسكنه فيه… يتمتع المسبيون المخلصون بهذا الأمان، فيقولون: “عندما ردّ الرب سبي صهيون صرنا مثل الحالمين، حينئذ امتلأت أفواهنا ضحكًا وألسنتنا ترنمًا” (مز 126: 1-2)… كانوا يئنون عندما تفرقوا عن وطنهم في قيود السبي فمن الطبيعي يتهللون ويفرحون عندما يرجعون لأن الرب ينبوع الفرح والتهليل قد سكن في وسطهم]. ويرى القديس أغسطينوس أن التسبيح هنا لا يكون باللسان فقط وإنما بحياة الإنسان كلها[22].

ولا يقف الفرح عند الإنسان الراجع من السبي، وإنما يمتد إلى إخوته الذين يجتذبهم معه إلى ملكوت الفرح، إذ يقول النبي: “فيتصل أمم كثيرة بالرب في ذلك اليوم ويكونون ليّ شعبًا فأسكن في وسطك” [11]. هنا يتحدث عن رجوع الأمم إلى الإيمان وتمتعهم مع إخوتهم المؤمنين من اليهود بسكنى الله في وسطها. ولئلا يظن اليهود أنه بهذا أغلق باب الإيمان في وجههم أكدّ لهم: “والرب يرث يهوذا نصيبه في الأرض المقدسة ويختار أورشليم بعد“. فإن صاروا يهوذا الجديد بإنتسابهم للخارج من سبط يهوذا وإن صاروا أورشليم الجديدة يصيرون ميراث الرب وموضع اختياره الإلهي.

هذا العمل يبدو مستحيلاً في أعين الكل، كيف ينفتح الباب لكل الأمم وينعمون بسكنى الرب فى وسطهم، لهذا يقول: “اسكنوا يا كل البشر قدام الرب، لأنه قد استيقظ من مسكن قدسه” [14]. ليصمت كل لسان بشري بخوف ورعدة، فإن الله الذي أعلن رعايته للبشرية كلها عبر الأجيال يصنع عجبًا بفتح باب الإيمان للأمم حتى يبدو كمن استيقظ ليقيم البشرية من نومها!

فاصل

فاصل

تفسير زكريا 1 تفسير سفر زكريا
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير زكريا 3
تفسير العهد القديم

 

زر الذهاب إلى الأعلى